المقدمــــة
الحمد لله حمداً نرجو أن نبلغ به رضاه ، ونسعى فيه للفوز بمحبته، والقرب من شآبيب رحمته .
الحمد لله أن جعل الحياة الدنيا دار الصراط المستقيم ومقدماته ورشحاته، وفي التنزيل [وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ]( )، تتجلى أماراته في الآيات الكونية ومعجزات النبوة والنعم العظيمة التي تأتي للناس من فوقهم من السماء ، ومن بين أيديهم ومن حولهم بالبر والبحر , ومن تحت أرجلهم بكنوز وذخائر الأرض ، وكأنهم لا يستطيعون العيش إلا باجتماعها مع أنها فضل ونافلة من الله تعالى ليشكروه سبحانه بالإيمان والتقوى , ونبذ الحروب والإقتتال الذي هو مبغوض بذاته ، وليس من ملك أو قائد إتخذ قرار الحرب والهجوم ولاقى دفاعاً ومقدمة إلا ندم فيما بعد على هذا القرار ، أما مشركوا قريش فقد محقوا وزال سلطانهم ، ولحقهم الخزي والعار لقتالهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإصرارهم على الهجوم على المدينة ، ولا دافع لقضاء الله ، ولا راد لأمره لا إله إلا هو [وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ]( ) .
لتكون الحياة الدنيا دار ثناء على المؤمنين , وفضح وخزي للذين كفروا .
اللهم صل على محمد الطاهر الزكي، المعصوم، المبارك، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
الحمد لله عدد الحجر والمدر والرمل والحصى , الحمد لله الذي سخر لنا النعم ، وآمن روعنا وصرف عنا ضروباً من البلاء لا يعلمها إلا هو ، ومنها سيف الحروب النووية المدمرة التي جعل الله عز وجل العقل والحكمة برزخاً دون نشوبها ، مع قربها ووجود أسلحتها وقنابلها الكثيرة والكبيرة ، وكأنها مرآة إنسانية مصغرة ليوم ينفخ في الصور .
الحمد لله مسخر الرياح فالق الأصباح ، مجري الفلك منزل الغيث ، مخرج النبات، الذي جعل أرزاق العباد بيده لتكون أضعافاً مضاعفة لما يحتاجون إليه ويغادر كل جيل الدنيا وهو مطمئن إلى وجود أرزاق الذين من بعده إلا أن يقوم ذات الإنسان بالجحود بالنعم ، والإضرار بالذات والغير .
ولقد أنعم الله عز وجل على قريش بما لم تنله قبيلة أو أهل بلدة أو قرية آنذاك من جهات :
الأولى : عمارة وجوار البيت الحرام .
الثانية : مجئ وفود القبائل لأداء مناسك الحج في موسم معين ، قال تعالى في خطاب لإبراهيم عليه السلام [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ).
الثالثة : توافد رجال القبائل على مكة على مدار السنة لأداء العمرة ويصاحبه غرض التجارة والشراء والبيع .
الرابعة : حسن الصلات مع ملوك الروم وفارس .
الخامسة : مزاولة التجارة مع الأمصار .
فقد يكون تجار البلد مختصين بالبيع والشراء في المنتج المحلي خاصة في تلك الأزمنة حيث النهب والسلب في طريق القوافل ، وربما تعرض التاجر إلى الإفلاس دفعة واحدة بغرق أو تلف البضاعة , أو بسبب قطاع الطرق الذين كانوا على نحو الجماعات ، ويتصفون بالبطش ويعلمون طرق ومسالك المنطقة التي هم فيها ، بينما كانت قوافل قريش تسير بأمن وسلامة وتقطع الصحراء , وتمر بين القبائل بأمان لأنهم من ذرية ابراهيم ومجاوروا البيت الحرام .
السادسة : الأمن والسلامة من غزو القبائل لمكة ، وتلك آية من عند الله عز وجل، ومن مصاديق قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )، فوضع البيت لعموم الناس شاهد على الإمتناع والنفرة من الهجوم عليه .
ومن مصاديق البركة فيه الأمن من الغزو وهجوم القبائل للنهب ، قال تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ] ( ).
ولم يرد لفظ [يُتَخَطَّفُ] في القرآن إلا في الآية أعلاه وكأنها تتضمن البشارة بانقطاع هذا التخطف بسيادة أحكام الإسلام ، وسنن النبوة ، فلم تمر بضعة سنين على نزول هذه الآية حتى انقطع هذا التخطف في أرجاء الجزيرة ، فصار الناس يسيرون بأمن وأمان بضلال وفئ القرآن ، وهو من الإعجاز في معاني ودلالات اللفظ المنفرد في القرآن لبيان قانون الإنفراد اللفظي في القرآن .
السابعة : رفعة وعلو النسب، وتلقي الإكرام من عموم العرب , وهذه الرفعة من مقدمات وتأهيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرسالة ودعوة الناس للتصديق بنبوته .
وهل تنحصر هذه الدعوة بأيام النبوة ، الجواب لا، إنما هي متجددة إلى يوم القيامة، وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : إن اللّه عزّ وجلّ اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل،
واصطفى من بني كنانة قريشاً،
واصطفى من قريش بني هاشم،
واصطفاني من بني هاشم.
وسمّوا قريشاً من التقرش،
وهو التكسّب والتقلّب والجمع والطلب،
وكانوا قوماً على المال والإفضال حراصاً.
وسأل معاوية عبد اللّه بن عباس : لِمَ سمّيت قريش قريشاً؟
فقال : لدابّة في البحر يقال لها : القرش،
تأكل ولا تؤكل،
وتعلو ولا تعلا. قال : وهل يعرف العرب ذلك في أشعارهم؟
قال : نعم :
وقريش هي التي تسكن البحر بها
سميت قريش قريشا
سلطت بالعلو في لجّةِ الب
حر على ساير البحور جيوشا
تأكل الغثّ والسمين ولا تترك فيه
لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش
يأكلون البلاد أكلا كميشا
ولهم آخر الزمان نبيٌّ
يُكثر القتل فيهمُ والخموشا
يملأ الأرض خيله ورجالا
يحسرون المطيّ حسراً كشيشا)( ).
الثامنة : سلامة ونجاة قريش والبيت الحرام من حملة وجيش أبرهة لهدم البيت الحرام، وتوثيق البلاء الذي نزل به وبجنوده وهلاكهم بطيور تحمل في مناقيرها حجارة قاتلة ، قال تعالى[وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ* تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ]( )، أي كانت الطيور تأتي جماعات جماعات وتلقي عليهم حجارة صغيرة من آجر يكون فيها هلاكهم ، و( قال ابن عباس: أدركت عند أم هانئ نحو قبضة من هذه الحجارة).
التاسعة : نزول سورة كاملة بخصوص قريش، وتسميتها باسم (سورة قريش) لبيان فضل الله عز وجل عليهم، وليكون هذا البيان دعوة لهم للإسلام، والمبادرة إلى الإيمان والإمتناع عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولكنهم أظهروا الخلاف والشقاق، وقادوا الجيوش العظيمة لغزو المدينة، وتجاهروا بطلب قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الحمد لله الذي أبى إلا نصر ألوية الإيمان في الأرض، وإنقراض أيام وسلطان الذين يتصدون لمنعها وحجب إنبساط أداء شعائر الهدى في الأرض، ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم إكتفاء الظالمين بالإمتناع عن معالم الإيمان ولم يكتفوا بالجحود، انما جهزوا الجيوش للإغارة على المدينة.
فلما أدرك رؤساء قريش قانون عدم هجوم وغزو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليهم ولا على غيرهم، وأنه قام بعقد موادعة ومصالحة مع اليهود في المدينة ومع القبائل المحيطة بها والذي يدل بالدلالة التضمنية على عدم إرادته محاربتهم قام هؤلاء الرؤساء بتجهيز الجيوش لقتاله، وإبتدأ هذا التجهيز بحجة تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لقافلة أبي سفيان التي جاءت من الشام إلى مكة وفيها ألف بعير محملة بالبضائع.
ولم يقع هذا التعرض وقد مرت قبلها قافلة لقريش فيها مائة رجل من قريش برئاسة أمية بن خلف الجمحي ومعهم ألفان وخمسمائة بعير في شهر ربيع الأول قبل معركة بدر بنحو ستة أشهر ، وخرج النبي أوان مرور تلك القافلة، وبلغ بواط وكان معه مائتان من أصحابه , ولم يتعرض للقافلة وقيل إن هذه القافلة هي سبب لخروجه (وحمل اللواء وكان أبيض سعد بن معاذ)( ).
الحمد لله الذي أنعم علينا بهذا الجزء وهو السبعون بعد المائة من تفسيرنا للقرآن في قراءة في خمس آيات من الآيات الخاصة بمعركة بدر لبيان إشراقات من قانون صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وتحملهم الأذى من كفار قريش ونحوهم , وإمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الغزو والإغارة على القرى والمدن حتى مع تنامي وإزدياد قوة المسلمين، ودعوة أفراد وجماعات من ذات المدن والقرى لدخول المسلمين لها فاتحين فحتى السنة الثامنة للهجرة كان المسلمون يهاجرون إلى المدينة بدينهم، والنجاة بحياتهم ليفوزوا بحظوظ النشأتين، قال تعالى[وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
وهذه القراءة ليست تفسيراً لهذه الآيات، انما تتعلق بالحجج والبراهين التي تخص قانون (عدم غزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقرية أو بلدة أو قوم ).
وكما في أجزاء هذا السفر المبارك السابقة ، فقد تضمن هذا الجزء عدداً من القوانين القرآنية ، وما يتجلى فيه من ذخائر الإرادة التكوينية لتكون ضياء ومصداقاً للتقوى , فلا غرابة أن يتلو كل مسلم ومسلمة كل يوم سبع عشرة مرة قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، وتتصف هذه التلاوة بوجوه:
الأول : التلاوة على نحو الوجوب العيني، والقضية الشخصية , فلا تصح النيابة بهذه التلاوة وقراءة سورة الفاتحة إلا من قبل المكلف نفسه ويلتقي في التكليف كل المسلمين والمسلمات بعرض واحد , فمع وجوب طاعة الولد لوالديه فإن لا يصح أن ينوب عنهما أو عن أحدهما في هذه القراءة.
الثاني : إنبساط التلاوة والدعاء على ساعات النهار والليل إذ يستقبل المسلمون الفجر من كل يوم بصلاة الصبح ، قال تعالى [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ) .
ومن الإعجاز في المقام تسمية صلاة الصبح قرآناً لتأكيد موضوعية التلاوة وقراءة القرآن في الصلاة .
ومن الإعجاز أنه ليس من يوم يخلو من الصلوات الخمسة بالنسبة لكل مسلم ، إلا ما كان فيه عذر شرعي كأيام الحيض بالنسبة للمرأة .
الثالث : أداء قراءة القرآن بصيغة العبادة والخشوع لله عز وجل .
الرابع : أداء شطر من المسلمين الصلاة جماعة ، وتولي الإمام قراءة القرآن عن المأمومين مع الإصغاء له .
ففي كل فريضة من الصلاة تكون هناك صلاة جماعة وصلاة منفرد ، كما أنه في كل دقيقة هناك صلاة , بلحاظ التباين في الوقت بين الأمصار والأمكنة .
ومن الإعجاز عدم حصر الصلاة بأحدهما مع رجحان الأجر والثواب بصلاة الجماعة .
وكل فرض من الفرائض اليومية للصلاة إصلاح للنفوس ودعوة للمسلمين والناس لنبذ العنف والغزو والإرهاب ، لذا حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤدي هذه الصلوات الخمسة جماعة ويؤم المسلمين فيها، ويبين لهم موضوعيتها في الحياة العامة والخاصة.
(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : حبب إليَّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة)( ).
فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن قرة عينه وغبطته وسعادته عند أداء الصلاة والوقوف بين يدي الله عز وجل بخشوع وخضوع , وتلاوة القرآن في الصلاة .
ولم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتال والغزو والهجوم فيما حبّب الله عز وجل له.
وهل في الحديث أعلاه زجر عن الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، لما فيه من الإخبار عن عبوديته لله عز وجل وحبّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمرتبة العبودية هذه وتشرفه بها ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ) وقد بعثه الله عز وجل لتبليغ الناس بوجوب الإقرار بعبوديتهم إلى الله بالقول والفعل.
ومن مصاديق هذا الفعل أداء الصلاة والصيام والحج والزكاة ولكن المشركين أظهروا الإستخفاف به وبدعوته وآذوه وأهل بيته وأصحابه في مكة ، فأمره الله عز وجل باعتزالهم والهجرة عن مكة ، فجهزوا الجيوش لقتاله ولمنعه من الدعوة إلى الله ، وهذا هو أصل وسبب القتال بين المسلمين والمشركين في معركة بدر وأحد والخندق ومعارك الإسلام الأولى .
فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال دفاع في كل منها ، وتلك نعمة على المسلمين يجب أن يحمدوا الله عليها ، وهي شاهد على عدم إختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهجوم والقتال والغزو.
الحمد لله الذي رزق الإنسان العقل وجعله آلة للتمييز ولم يحصره بالمؤمنين ، إنما زاد فيه من فضله لدى عموم الناس فمن يفكر ويتدبر يهتدي ويجد خيراً كثيراً ، ويفوز بنعم عظيمة ، ويتجنب الإضرار بالناس وبنفسه ، ويدرك قبح التعدي والظلم وسفك الدماء.
فمن معاني العقل أنه يعقل الإنسان عن فعل السيئات وارتكاب المعاصي.
وليكون العقل الإنساني مقدمة التنزيل والعمل بأحكامه ، وقد فاز بهذه النعمة المؤمنون من أيام أبينا آدم وإلى يومنا هذا وحتى يوم القيامة الذين اتخذوا ويتخذون الدنيا مزرعة للآخرة ، ودار عمل وسعي في الصالحات ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ) .
والأصل أن العقل زاجر عن الغزو والقتل العشوائي ، وهو وجوارح الإنسان مدعوة للإمتناع عن محاربة النبوة وآيات التنزيل والأحكام التي جاءت بها , وهو موضوع هذا الجزء من التفسير .
ولكن الذين كفروا إختاروا اتباع الهوى والإنصياع إلى إغواء الشيطان ، وهو عدو لهم ، فبعث الله عز وجل الأنبياء [مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ) لتتوارث أمة من الناس سنن الإيمان ، وأراد الله عز وجل أن تكون الغلبة لهذه الأمة فأنزل القرآن معجزة عقلية تدعو الناس في كل زمان ومكان إلى الهدى والإيمان ، وتمنع من الفتنة والإقتتال ، وكانت سنن وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة لآيات القرآن من جهات :
الأولى : العصمة من الغزو والنهب .
الثانية : الصبر وتحمل الأذى الشديد .
(عَنِ ابن مَسْعُودٍ، ، قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَسَمًا، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هِذِهِ لَقِسْمَةً مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْمَرَّ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ:”رَحْمَةُ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ) ( ).
والأذى الذي جاء لموسى عليه السلام على قسمين :
الأولى : تلقي الأذى من فرعون والملأ من حاشيته , كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ]( ).
الثانية : إيذاء موسى من قبل قومه ، إذ قالوا : أنه أبرص وآدر( )، وتحريض المومس لتقول أن موسى زنى بها ، وعندما مات أخوه النبي هارون في التيه قبله ، قالوا : حسده موسى فقتله ، وكانوا أميل إليه من موسى، لما يتصف به هارون من اللبن والشفقة.
وكان الله عز وجل أوحى إلى موسى عليه السلام أني متوفي هارون ، وأمره الله أن يأتي ومعه هارون إلى جبل مخصوص ، فسارا إلى الجبل وصادفهما في الطريق شجر بديع لم يريا مثله , ووسطه بيت فيه سرير مفروش وتنبعث منه رائحة طيبة ، فأعجبت هارون كثيراً ، ورغب في النوم عليه بعض الوقت .
وكان هارون أكبر من موسى بسنة إذ ولد في السنة التي ليس فيها ذبح لمواليد بني إسرائيل , إلا أنه نبي , إذ نال مرتبة النبوة بدعاء موسى ، بينما موسى عليه السلام نبي رسول من الرسل الخمسة أولي العزم.
قال موسى لهارون : نم على السرير ما دمت راغباً بالنوم عليه .
قال : أني أخاف رب هذا البيت إن جاء ووجدني نائماً على فراشه فتعال ونم معي ، فاذا جاء غضب علينا جميعاً .
فنام موسى معه ، فقبض الله عز وجل روح هارون ، قال سبحانه [اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] ( ).
(أخذ هارون الموت فلما وجد حتفه قال : يا موسى خذ عيني فلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء،
فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون،
قالوا : إنّ موسى قتل هارون وحسده حبّ بني إسرائيل له،
فقال موسى : ويحكم فإنّ أخي أُمر ولن أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا اللّه فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه.) ( ).
ومعنى هارون ساكن الجبل , وقيل أنه مدفون عند جبل أحد ، وأنه قدم مع موسى عليه السلام وجماعة من بني اسرائيل لحج بيت الله الحرام ، فمات هناك ، نقله السهيلي عن الزبير بن بكار ، وهو ضعيف , والخبر منقطع ( ).
وقد وردت أخبار أخرى بموضع قبر هارون منها أنه في جبل طور سيناء ، وقيل في السياق ببلاد الشوبك ، وفي هذا الزمان له ضريح في جنوب الأردن غرب مدينة البتراء .
أما موسى عليه السلام فقد مات بعد هارون بثلاث سنين وعمره مائة وعشرون سنة ، ودفن عند جبل ينبع في الأردن حالياً , قرب مدينة مأدبا جنوب عمّان بعد أن أمره الله عز وجل بالذهاب إلى هذا الجبل .
وعن النبي محمد قال : (فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر) ( ).
ومن مصاديق رفع الذلة عن المسلمين بالنصر في معركة بدر بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
وتعاهد أجيال المسلمين التدبر في هذه المعركة من جهات :
الأولى : مقدمات معركة بدر .
الثانية : وقائع معركة بدر .
الثالثة : نتائج وآثار معركة بدر .
وجاء الجزء السابق وهذا الجزء قراءة في عدة آيات نزلت بخصوص معركة بدر ، ولبيان مصاديق للقانون الذي يتزين به الغلاف وهو (لم يغز النبي أحداً).
فلابد من استقراء الشواهد التي تدل على صدق هذا القانون، وانتفاء ضده.
لقد كانت معركة بدر دعوة للمسلمين لإجتناب الغزو، لأنها شاهد على بطش الله عز وجل بالمشركين الظالمين الذين أصروا على القتال.
ولما أراد الله عز وجل أن يجعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) تفضل وأخبر الملائكة فاحتجوا بأمرين:
الأول : فساد طائفة من الناس.
الثاني : سفك الدماء والقتل.
لبيان أن الملائكة منزهون عن الفساد وعن القتل وسفك الدماء.
فتفضل الله عز وجل وأجابهم بالإحتجاج المتجدد في كل زمان[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل في المقام :
الأول : بعثة الأنبياء.
الثاني : نزول الكتب السماوية .
الثالث : اختتام النبوة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : تنزه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الغزو وعن إشاعة القتل.
الخامس : جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمنع الإقتتال وسفك الدماء، وكل آية تنزل من السماء هي منع للقتال بما فيها الآيات التي تأمر المسلمين بالقتال لأنه دفاع وزجر للكافرين عن القتال , واستئصال له , كما في قوله تعالى[وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
السادس : محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للفساد والإفساد في الأرض، ومن أشد ضروب الفساد الشرك بالله، وقد جمع كفار قريش الى جنبه محاربة النبوة والتنزيل، وأهل الإيمان، إذ رموا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالجنون، وقالوا [مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ]( ).
وعذّبوا طائفة من المسلمين الأوائل، ومنهم من مات تحت التعذيب مثل سمية وياسر والدي الصحابي عمار بن ياسر، ثم ساروا كجيش من ألف رجل إلى معركة بدر.
وتزوجت سمية الأزرق من قبل وهو حداد وأختلف في نسبه، قال البلاذري: كان الأزرق حداداً رومياً)( ).
وأختلف في أيهما هو السابق زواج الأزرق من سمية , أم زواج ياسر منها، والمختار هو الأول لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان يمر عليهم وهم يعذبون من قبل المشركين: صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة)( ) أي غادرت الدنيا وهي من آل ياسر .
ومن علم الله عز وجل تفضله بصيرورة الذين كفروا عاجزين عن التكرار المتعدد للهجوم والغزو، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
ومن الإعجاز تعلق الآية أعلاه بموضوع معركة بدر، وأن المسلمين رغبوا بالتعرض لقافلة أبي سفيان القادمة من الشام والتعرض لها أعم من الإستيلاء عليها، ولكن الله عز وجل أراد ذلّ وهوان الذين كفروا في معركة بدر ولو لم تقع معركة بدر فهل تقع معركة غيرها أم يكف الذين كفروا عن القتال، ويمتنعون عن الهجوم والغزو.
الجواب هو الأول إذ كان الذين كفروا مصرين على القتال والحرب فاراد الله عز وجل اسئتصال شأفتهم، ونزول الهزيمة بهم، وخزيهم، ولا تنحصر أسباب هذا الخزي بذات معركة بدر، إنما تشمل وجوهاً:
الأول : نزول كل آية من القرآن، وتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين لها فضح للذين كفروا .
الثاني : كل فرد يدخل الإسلام ذكراً أو انثى إذلال للكفار قريش، وشاهد على ضلالتهم .
ومن الآيات أن أدنى تدبر في عبادتهم للأوثان يبين سفاهة عقولهم، وإقامتهم على ميراث لا أصل له، وفي التنزيل[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ]( ).
وتدل الآية أعلاه على تنامي الإيمان، ودعوة المسلمين الذين كفروا الى الإيمان، وإقامة الحجة عليهم، مع بيان الآية لسوء اعتذارهم بأنهم وجدوا آبائهم على عبادة الأوثان، ويتناسون أنها باطل، وخلاف الحنيفية، وأن الله عز وجل تفضل عليهم بنعمة عظمى في زمانهم وهي بعثة خاتم الأنبياء يدعو الناس إلى كلمة التوحيد.
وتبين الآية أعلاه الدعوة القولية اللطيفة للمشركين بالإيمان، وهي خالية من التوبيخ والتبكيت، كما أنها مجردة عن الفعل والإكراه، ولكن المشركين هم الذين زحفوا بالجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت آيات بدر لتبين مصاديق من خطاب الله عز وجل للملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وفيه بعث للمسلمين للشكر لله عز وجل على كل آية نزلت من القرآن وتبين كل واحدة منها أن الله عز وجل هو أهل الطول والمن.
الحمد لله الذي يسبح لله ما في السموات والأرض تسليماً بربوبيته المطلقة وشكراً له على نعمة الإيجاد والخلق واستدامته.
سبحان من جعل عرشه في السماء، ويتغشى سلطانه الأكوان كلها، سبحان الذي علا فقهر، الذي لا منجا منه إلا إليه , وله الحمد في كل آن من الليل والنهار، حمداً يبعث الطمأنينة في النفوس، ويزيل الهم والكرب، ويكون ذخيرة ليوم الحساب , ومن مقدمات مصاديق قوله تعالى[وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
حرر في 22/4/2018
5 شعبان 1439هــ
أول صلاة جمعة في الإسلام ودلالتها في نبذ القتال
من إعجاز القرآن نزوله بتعيين صلاة الجمعة ، وذكرها على نحو الخصوص ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] ( )، لدعوة المسلمين إلى شعيرة عبادية تتكرر مرة واحدة كل أسبوع، تدعو بذاتها الى السلام ومناجاة الله عز وجل بالأمن والإيمان، والثواب الأخروي.
(عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أتدري ما يوم الجمعة؟ قال : الله ورسوله أعلم . قالها ثلاث مرات ، ثم قال في الثالثة: هو اليوم الذي جمع فيه أبوكم آدم أفلا أحدثكم عن يوم الجمعة لا يتطهر رجل فيحسن طهوره ، ويلبس أحسن ثيابه ، ويصيب من طيب أهله ، إن كان لهم طيب ، وإلا فالماء ثم يأتي المسجد فيجلس وينصت حتى يقضي الإِمام صلاته إلا كانت كفارة ما بين الجمعة ما اجتنيت الكبائر ، وذلك الدهر كله.
وأخرج مسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة( ).
ولم تأت سورة في القرآن باسم أحد الأيام إلا سورة الجمعة ، كما ذكر القران يوم السبت , وفيه تثبيت لأيام الأسبوع كلها ، وبالأخص يوم الجمعة ، ونزل قوله تعالى [وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا] ( ) إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته في صلاة الجمعة ، فقدمت عير للتجارة ، وضرب الطبل اشعاراً بقدومها ليخرج الناس للشراء ، واتفق في زمان غلاء في المدينة ، فخرج أكثر من في المسجد صوب صوت الطبل ، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا اثنا عشر شخصاً ، فنزلت الآية باللوم لمن ترك الصلاة ، ودعوة عامة المسلمين لعدم ترك صلاة الجمعة وإن كان لطلب الرزق .
(وأخرج أحمد والحاكم عن أبي قتادة مرفوعاً : من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة طبع الله على قلبه) ( ).
ولم يرد مثل هذا التأكيد والتشديد بخصوص القتال ، وحتى الدفاع ، مما يدل على أولوية العبادة ، والتقيد بسنن التقوى في السنة النبوية .
والتأكيد على صلاة الجمعة شاهد على موضوعية الصلاة ، ولزوم التقيد بأدائها في أوقاتها ، قال تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]( ) وفي نزول الأمر من الله عز وجل بالمحافظة على الصلاة بشارة الفتح وانقطاع المعارك والحروب بفضل من الله عز وجل ، ولزوم توجه المسلمين لأداء الفرائض والعبادات .
ولوجوب صلاة الجمعة شروط خاصة بها إلى جانب شروط أداء الصلاة مطلقاً وصلاة الظهر خاصة ، مذكورة في المطولات الفقهية ( )، ويأتي في بابه إن شاء الله .
ويحتمل أوان أداء أول صلاة جمعة وجوهاً :
الأول : أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لصلاة الجمعة ، وهو في مكة قبل الهجرة .
الثاني : أداء المسلمين صلاة الجمعة في المدينة قبل قدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، (وعن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن أباه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة.
فقلت له يا أبتاه أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلما سمعت الآذان للجمعة ما هو؟ قال : إنه أول من جمع بنا في نقيع يقال له نقيع الخضمات من حرة بني بياضة . قلت : كم كنتم يومئذٍ؟ قال : أربعون رجلاً ) ( ).
الثالث : أداء النبي محمد صلى عليه وآله وسلم لصلاة الجمعة عند هجرته إلى المدينة ، فحينما وصلها أقام بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأنشأ لهم مسجدهم ، وخرج صباح يوم الجمعة متوجهاً إلى وسط المدينة (فَأَدْرَكَتْهُ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمٍ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مِائَةٌ) ( ).
وخطب فيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال في الخطبة كما في المرسل (الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان: ودنو من الساعة، وقرب من الاجل.
من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا.
وأوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله.
فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة ولا أفضل من ذلك ذكرى، وإنه تقوى لمن عمل به على وجل ومخافة، وعون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة.
ومن يصلح الذى بينه وبين الله من أمر السر والعلانية لا ينوى بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد.
والذى صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك فإنه يقول تعالى[مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ]( ).
واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية فإنه[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا]( )، ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما ” وإن تقوى الله توقى مقته، وتوقى عقوبته، وتوقى سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضى الرب، وترفع الدرجة.
خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه
وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفه ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العلى العظيم) ( ) .
وتنمي صلاة الجمعة وتعاهدها ملكة التقوى عند المسلمين , وفيها حث لهم على إجتناب الغزو والهجوم ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل في صلاة الجمعة دعوة للناس لدخول الإسلام .
الثانية : أيهما أكثر أثراً في الدعوة إلى الإيمان صلاة الجمعة مقرونة بالمعجزات أم السيف.
أما الأولى فالجواب نعم ، إذ أن صلاة الجمعة نداء أسبوعي متكرر يدعو الناس إلى الهداية والإيمان ، ويبين لهم السنخية العبادية للإسلام ، وما فيه من معاني الرحمة وأسباب الرزق الكريم في الدنيا والآخرة ، لذا أختتمت سورة الجمعة بقوله تعالى [وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] ( ) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان أن تعاهد صلاة الجمعة سبب للرزق الكريم ، وهذا الرزق أعظم وأكبر من الغنائم والأنفال .
وأما المسألة الثانية فان المعجزة وصلاة الجمعة سبيل لجذب الناس لمنازل الهدى والإيمان ، وهي وسائل أكثر نفعاً من السيف ومن القتال .
وهل أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين صلاة الجمعة معجزة له صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، فهي معجزة عبادية تتجدد كل أسبوع وتكون سبباً لتثبيت الإيمان ، ومناسبة للعفو والمغفرة من عند الله ، وإنشغال بطاعة الله بما ليس فيه قتال ، وما يترشح عنه من الضرر الخاص والعام .
قانون المؤاخاة سلام
لقد تفضل الله عز وجل على البشرية بالأنبياء والمرسلين يتعاقبون على الأرض بحكمة ولطف منه تعالى ، إلى أن ختمهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم , وصار القرآن آخر الكتب السماوية النازلة ، وتفضل الله عز وجل وحفظه ووعد بحفظه من التحريف والزيادة والنقصان ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) وليس من حدّ أو تقييد لكيفيات وصيغ حفظ القرآن ، وفي كل يوم يطل على الناس تتجلى معالم مستحدثة من أسباب حفظ آياته ، ويكون تقدير الآية : وإنا له لحافظون كل يوم إلى يوم القيامة ).
وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من أصحابه إلى المدينة كانت الحال متباينة بين هؤلاء الصحابة وبين الأنصار من جهة الحال المعاشية ، فالأنصار مستقرون في بيوتهم وزراعاتهم ، ولهم موارد رزقهم بينما ترك المهاجرون وراء ظهورهم بيوتهم وأموالهم ، إذ هربوا بدينهم وهو أعظم كنز.
وهل في الهجرة حفظ للقرآن ، ومصداق للآية أعلاه ، الجواب نعم ، وتلك آية إعجازية بأن كل فعل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو مصداق لحفظ القرآن .
ومنه تفضل الله عز وجل بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بعد نحو خمسة أشهر من قدوم النبي إلى المدينة ، ودعا الصحابة إلى المؤاخاة ، وفيه دعوة للصحابة للمودة والتآزر والتعاضد ، وإزالة للفوارق بينهم .
(قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَآخَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، فَقَالَ – فِيمَا بَلَغَنَا ، وَنَعُوذُ بِاَللّهِ أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُقَلْ – : تَآخَوْا فِي اللّهِ أَخَوَيْنِ أَخَوَيْنِ ثُمّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ هَذَا أَخِي فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ سَيّدَ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامَ الْمُتّقِينَ وَرَسُولَ رَبّ الْعَالَمِينَ الّذِي لَيْسَ لَهُ خَطِيرٌ وَلَا نَظِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخَوَيْنِ وَكَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، أَسَدُ اللّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَعَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَخَوَيْنِ وَإِلَيْهِ أَوْصَى حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ حَيْنَ حَضَرَهُ الْقِتَالُ إنْ حَدَثَ بِهِ حَادِثُ الْمَوْتِ) ( ).
مما يدل على أن المؤاخاة لا تعني أن كل مهاجر يؤاخي أنصارياً وإن كان هو الأغلب ، فقد يؤاخي المهاجر مهاجراً والأنصاري أنصارياً ، ولم تتم هذه المؤاخاة إلا بالوحي من عند الله ، فلابد من التدبر في الوقائع الشخصية فيها ، وآثارها على الصحابة وأسرهم ، وأسباب جذب الناس إلى منازل الإيمان.
وقيل هذه المؤاخاة هي الثانية ، أما الأولى فقد حصلت في مكة إذ آخى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين مسلميها أنفسهم للتعاضد بينهم ، وقهر الفوارق الإجتماعية والمالية والقبلية بينهم ، وجمعت المؤاخاة بين الغني والفقير، والحر والعبد، بشرط المساواة والعدل .
فآخى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين عمه حمزة ومولاه زيد بن حارثة ( )، وآخى بين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة .
وكانت الأوس والخزرج في حال عداء متقطع تنشب بينهم أحياناً معارك وحروب ، فجاءت المؤاخاة للقضاء على الفتن بينهم وإلى يوم القيامة ، وهو من الإعجاز في السنة النبوية ، فان قلت قد حدثت مرة بينهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كدورة .
والجواب لقد تداركهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحضوره بشخصه الكريم ، والتحذير منها .
لقد صار الناس ينظرون إلى الأوس والخزرج وكيف صاروا بالإسلام أخوة يقفون متصافين خمس مرات في اليوم بين يدي الله عز وجل وبامامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وتتغشاهم البهجة والغبطة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ) وهو الأمر الذي أغاظ المنافقين والمنافقات ، ومرّ أحدهم وهو شاس بن قيس على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأوس والخزرج يتحدثون ، فحسدهم وغاظه ما رأى من توادهم في الله وبهاء جماعتهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا] ( ) فقام بدس شاب بينهم وذكّرهم بالإقتتال بينهم يوم بعاث والأشعار التي أنشدوها .وإظهار ثارات بينهم .
وسميت المعركة بعاث نسبة إلى الموضع والمحل الذي وقعت فيه قبل الإسلام , واسمه بعاث , و(بعاث بضم الباء الموحدة، وبالعين المهملة، وقال صاحب كتاب العين وحده : وهو بالغين المعجمة) ( ).
وهي آخر معركة بين الأوس والخزرج حدثت قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخمس سنوات ، وأراد كل من الأوس والخزرج حينئذ الإنتقام من الآخر .
وحالف فيه الخزرج أشجع وجهينة .
وحالف الأوس مزينة وقبائل اليهود من بني قريظة والنضير ، وكان النصر في بداية القتال يوم بغاث للخزرج ثم أنتصرت الأوس ولكنها فقدت الكثير من وجوهها ورجالها يومئذ مع أنهم أبناء عمومة واحدة ، ولم يخرجوا بأي نتيجة إلا الخسارة ، أما الذين استشهدوا في معركة بدر وأحد ومعارك الإسلام الدفاعية الأخرى ، فقد أكرمهم الله عز وجل وجعلهم أحياء عنده من حين مغادرتهم الدنيا ، وأثنى عليهم القرآن ، ويتوارث المسلمون ذكرهم بالأسماء ، ولهم فيه أجر وثواب .
وقد أنهكت الحروب كلاً من الأوس والخزرج ، فأدرك العقلاء منهم لزوم نبذ الحروب وأرادوا تنصيب رجل عليهم يقبله الفريقان ، ووقع اختيارهم على عبد الله بن أبي سلول وصاروا يجهزون لتنصيبه ملكاً، وفي ذات الوقت تمت بيعة العقبة الأولى والثانية .
وهل كان من أسباب هذه البيعة عدم رضا أصحابها على تولي عبد الله بن أبي وهو من الخزرج ملكاً عليهم.
الجواب لا دليل عليه , إنما هو الهدى والإيمان وإنجذاب قلوبهم الى معجزات النبوة، خاصة وأن الذين حضروا البيعة من مجموع الأوس والخزرج وليس من قبيلة واحدة ، لقد أغاظ المنافقين إجتماع الأوس والخزرج مع المهاجرين ، وأدركوا أنه موضوع وسبب للقوة والمنعة وواقية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وممن قال الشعر يومئذ (قيس بن الخطيم، وعمرة التي شبب بها ابن الخطيم هي أخت عبد الله بن رواحة، وهي أم النعمان بن بشير الأنصاري)( ).
ولما سمع الأوس والخزرج الأشعار التي قيلت في يوم بُعاث أخذت الحمية بعضهم ، فتواثب رجلان ، وقام كل واحد منهما على ركبتيه، وهما:
الأول : أوس بين قيظي من الأوس .
الثاني : جبار بن صخر من الخزرج .
ثم قال أحدهما : (إن شئتم رددتها الآن جذعة , وغضب الفريقان جميعا وقالوا قد فعلنا موعدكم الظاهرة – والظاهرة الحرة – السلاح السلاح) ( ).
فبلغ هذا الأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام بنفسه وحضر إليهم ومعه نفر من المهاجرين والأنصار .
(يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اللّهَ اللّهَ أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ أَنْ هَدَاكُمْ اللّهُ لِلْإِسْلَامِ وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيّةِ وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ وَأَلّفَ بِهِ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) ( ).
ومن الإعجاز في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخاطبهم باسم الأوس والخزرج وهو موضوع الخصومة ، ولم يخاطبهم باسم أهل يثرب ، او الأنصار .
إنما خاطبهم بسور الموجبة الكلية (يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ) بلحاظ أن الإسلام يجّب ما قبله ويقضي على مفاهيم الجاهلية والوثنية .
وقيل أنهم اندفعوا في أزقة المدينة يتناجون بالحرب بينهم ، ويحتاج هذا القول إلى دليل ، إنما يدل وقوف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليهم على بقاء أكثرهم في ذات الموضع .
وحينما رآى الأوس والخزرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حضر وسمعوا موعظته وتحذيره أدركوا أن ما قاموا به من أسباب الفتنة ، ومن نزغ الشيطان ، فصاروا يبكون ، وعانق بعضهم بعضاً ، مما يدل على أن الأخوة بين المهاجرين والأنصار أعم من واقعة المؤاخاة والتي جرت بين نحو تسعين منهم ، وهل انقطع قانون الأخوة ورشحاته ومنافعه بنزول قوله تعالى [وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ] ( ) .
الجواب لا، إنما تعلقت الآية أعلاه بخصوص الميراث ، وهناك صفحات مشرقة للمؤاخاة التي عقدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار .
منها أنه آخى بين سلمان المحمدي وبين أبي الدرداء ، فجاء سلمان يزور أبا الدرداء ، فرآى أم الدرداء متبتلة( ) .
قال لها سلمان : ما شأنك ؟
قالت : أن أخاك ليس له حاجة في الدنيا .
فلما جاء أبي الدرداء وجد سلمان استبشر ورحب به وقرب إليه طعاماً.
فقال له سلمان : كل معي .
قال : أني صائم، أي صوم تطوع.
قال سلمان : أقسمت عليك إلا ما طعمت وما أنا بآكل حتى تأكل ، فأكل معه أبو الدرداء ،وبات سلمان عند أبي الدرداء ، فلما جاء الليل ومضى شطر منه قام أبو الدرداء ليصلي فحبسه سلمان , وقال له (إن لربك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، أعط كل ذي حق حقه، صم وأفطر، وقم ونم، وأت أهلك. فلما كان عند الصبح قال: قم الآن، فقاما فصليا ثم خرجا إلى الصلاة) ( )، في المسجد النبوي ، فلما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصلى المسلمون بامامته قام إليه أبو الدرداء وأخبره بما فعل معه سلمان .
فأمضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قاله سلمان ، وقال له ذات الكلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
لقد كانت الأخوة بين الصحابة سبيلاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونوع طريق للتآزر في أداء الواجبات والوظائف العبادية والخطاب الإلهي المتعلق بأفعال المكلفين من حيث الإقتضاء والتخيير .
اللواء والراية
الراية واللواء والعلم والبيرق من المترادفات ، والإختلاف بلحاظ المعنى و الجمع : الرايات والأولوية والويات ، والأعلام ، والبيارق .
وهي محل متحرك لمجمع الجنود ، ومن أمارات الحرب والقتال وان صارت في هذا الزمان أعم , وعنواناً ورمزاً للأمة والوطن واستقلال الشأن ، وقيل لا يمسك اللواء إلا صاحب الجيش .
ويقال : (خَفَقَتِ الرايةُ تَخْفُقُ وتخْفِقُ خَفْقاً وخَفَقاناً) ( ) أي تحركت في الهواء ، وسمي اللواء لأنه يلوى لكبره ، ولا ينشر إلا عند طرو سبب وحاجة لنشره .
وقالت ليلى الأخيلية بخصوص الزعيم ورئيس القوم
(حتى إذا رفع اللواء رأيته … تحت اللواء على الخميس زعيما)( ).
(والعَلَم: عَلَم الجيش) ( ) وما يعقد على الرمح .
و(البَنْدَ: العلَم الكبير، فارسيٌّ معرّب. قال الشاعر:
وأَسْيافُنا تحت البُنودِ الصَواعِقُ) ( ).
وتتعدد معاني العلم منها الجبل الطويل ، والعلامة والمنارة وسيد القوم.
والبيرق الراية أو العلم , والبيرقدار فارسي (مركب أي حامل اللواء ، وقيل اللواء دون الراية و( الرَّايَة، ولا يُمْسِكُها إلاَّ صاحبُ الجَيْش) ( ) ولا دليل على عموم هذا المعنى ، إنما هو منهج عند بعض الجيوش والقبائل.
وأيهما أفضل أن يقوم القائد بحمل اللواء أم يحمله غيره فوق رأسه ، الجواب هو الثاني ، وهو الذي كان منهاج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد يحمل رؤساء الفرق الفرعية راياتهم وقيل (صاحبُ الجيش قُطْبُ رَحَى الحَرْب) ( ) ولكنه ليس قاعدة كلية إذ كان المسلمون يدافعون بقصد القربة إلى الله .
وليس من تأريخ محدد لرفع الإنسان الراية واللواء والظاهر أن أصله اجتماع الجنود تحته ، وصيرورته وسيلة للإرشاد والإهتداء لموضع التجمع للحيلولة دون تفرقهم وتشتتهم وضياعهم ، أو فتك العدو بهم عند القتال ، وكل طائفة وفرقة تتخذ علماً خاصاً من جهة اللون والعلامات يستدل بها أفرادها ، ويعلمون أن زعيمهم ورئيسهم تحت العلم فيلجأون إليه ليصبح رمزاً لهم يدافعون ويذبون عنه ، ويمنعون الإساءة إليه ، وكأنها اشارة ودعوة إليهم ، وقد تجر مثل هذه الإشارة إلى الإقتتال .
ثم صار اللواء عنوان ثبات الأمير والقائد في موضعه ، وفيه دعوة للثبات ومواصلة القتال .
وكانوا سابقاً يرفعون عصا طويلة ومنهم من يضع ذنب ذئب أو ذنب حصان أو صورة حيوان كالغزال والذئب أو قطعة قماش مميزة تحمل رموزاً وإارات خاصة ، وصورة الشمس والقمر .
وجعل البابليون صورة الأسد في أعلامهم لدلالته على القوة والشجاعة واستعمل الآشوريون العلم ورفعوا صورة آشور وهو معبود عندهم في الحرب ، وكان رمزهم وشعارهم (الحمامة ) ولكل مدينة من مدنهم علم خاص ، وكان النسر مرسوما على العلم الروماني .
واستعمل الصينيون والهنود القدماء الراية من القماش ، وكذا الرومان القدامى .
واعتنى الفراعنة بالعلَم وجعلوا لفرق الجيش البرية والبحرية أعلاماً خاصة , واستخدم الصيادون والجنود والبحارة أعلاماً خاصة ، ومن منافع اللواء والراية والعلم منع الإختلاط والإرباك بين فرق الجيش الواحد ، ودخول أفراد من العدو بينهم ، إذ ينصرف كل جندي إلى حيث العلم الذي يعود لفرقته أو قبيلته .
ويبعث اللواء الحماس والحمية في صفوف الجنود ، وما دام اللواء مرفوعاً فهو شاهد على وجود صاحب الجيش وقدرة الجيش على القتال وسلامته من الهزيمة والفرار .
وقيل اللواء للأمير الذي يرأس الجيش كله، أما الراية فهي لأمراء الأجناد والسرايا، أي بين اللواء والراية عموم وخصوص مطلق، فاللواء أكبر وأهم.
وأول لواء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أبيض من مرط مرحّل أي مما يوضع على الجمل عند ركوبه .
وعقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم رايات بألوان أخرى، منها الأحمر والأصفر والأسود للأنصار، ولا يخلو بعضها من ضعف في الإسناد.
وكان اللواء يوم فتح مكة أبيض مثلما كان في معركة بدر، وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير إحرام( ).
وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل عام الفتح ولواؤه أبيض( ).
وقد حذّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عقد لواء بالظلم والجور والقتل العشوائي.
وعن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: ثلاث من فعلهن فقد أجرم من عقد لواء في غير حق أو عق والديه أو مشى مع ظالم فقد أجرم يقول الله عز و جلإِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ.
وعن إياس بن سلمة، حدثني أبي، قال: غزونا مع رسول الله حنيناً، فلما واجهنا العدو، تقدمت فأعلوا ثنية فأستقبل رجلاً من العدو فأرميه بسهم، وتوارى عني، فما دريت ما صنع. ثم نظرت إلى القوم، فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا هم والمسلمون، فولى المسلمون، فأرجع منهزماً، وعلي بردتان مؤتزراً بإحداهما، مرتدياً بالأخرى. ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزماً وهو على بغلته الشهباء، فقال: لقد رأى ابن الأكوع فزعاً .
فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب. ثم استقبل به وجوههم، فقال: ” شاهت الوجوه ” . فما خل الله منهم إنساناً إلا ملأ عينه تراباً من تلك القبضة. فولوا مدبرين. وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين( ).
فيظهر من الحديث أن تسمية الغزوة والغزو نوع تسامح في اللفظ، وإلا فان المشركين من هوازن وثقيف هم الذين هجموا بغتة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وهم في طريق العودة من مكة إلى المدينة شاكرين الله عز وجل على فتح مكة .
السور المكية والمدنية
ليس من حصر أو توقف لأبواب علوم القرآن، ومنها ما هو توليدي ينشطر الى عدة علوم، ومنها ما يكون مستحدثاً في بعض الأزمنة، وكل منهما يجريان ما جدّ الجديدان الليل والنهار، وكلما تعمق العلماء في تثوير آياته استنبطوا مسائل جديدة، وأسسوا لعلوم مترشحة من المضامين القدسية لآياته، وهو من مصاديق الإعجاز العقلي للقرآن.
ومن هذه العلوم تقسيم سور القرآن إلى قسمين:
الأول : المكي، وهو ما أنزل من السور قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : المدني، وهي السور التي نزلت بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدخل فيها ما نزل في مكة بعد فتحها، وما نزل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في السرايا وان كان خارج المدينة وقريباً من مكة .
ومنها ما نزل في خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى تبوك، وتسمى غزوة تبوك مع أنه لم يجر فيها أي قتال وتعددت معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الطريق إلى تبوك وعند العودة منها، وهي أكثر السرايا التي خرج فيها من جهات:
الأولى : كثرة المعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه إلى تبوك منها.
الثانية : كثرة جيش المسلمين إذ أن عدده ثلاثون ألفاً وهو أكبر جيش خرج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ وهو مائة ضعف لعدد جيش المسلمين في معركة بدر، وهل هو من مصاديق قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( )، أم أن هذا الخروج ليس فيه قتال فليس فيه نصر، الجواب هو الأول.
الثالثة : بعد المسافة وطول الطريق.
الرابعة : شدة العطش وقلة الماء، والنقص في الزاد والحر الشديد.
الخامسة : إيذاء المنافقين وتعمدهم التخلف عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك .
وعن ابن عباس قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال لجد بن قيس : ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فقال : إني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن أفتتن فائذن لي ولا تفتني ، فأنزل الله { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني} الآية)( ).
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ملك الروم أعدّ جيشاً من أربعين ألف فارس وبأسلحة فتاكة للهجوم على المسلمين، ووصلوا الى البلقاء، خاصة بعد واقعة مؤته وخروج ثلاثة آلاف مسلم في الدفاع، واستشهاد عدد منهم بينهم جعفر الطيار.
فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شهر شعبان من السنة التاسعة للهجرة بثلاثين الف من أصحابه وفي أيام قيظ وقلة زاد وجدب ونقص في الزراعات، وسمّي الجيش(جيش العسرة) وتخلف المنافقون .
وتبوك أبعد موضع وصل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سراياه وتبعد تبوك عن المدينة (725كم) وتقع بينهما مدينة خيبر وتبعد عن المدينة (200 كم) ومدينة تيماء، وتبعد عنها(450كم) مع وجود عدد من القرى والحصون.
ومن الآيات التي نزلت بخصوص خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وذكرت الآية النفير، ولم تذكر الهجوم والغزو، ومن الإعجاز فيها أنها قيدت النفير بأنه(في سبيل الله) لبيان خلوه من الظلم والتعدي والنهب.
لبيان قانون وهو أن النفير في الإسلام لا يعني القتال أو الدفاع على نحو قطعي، فقد يكون لدفع خطر العدو، ولمنع الناس من القتال، كما في خروج النبي ومعه ثلاثون ألفاً الى تبوك، ومنها في ذم المنافقين [لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ]( ).
ومن منافع ودلالات هذا العلم وجوه:
الأول : تعيين أوان نزول الآية أو السورة على نحو التقريب.
الثاني : بيان علة نزول الآية بزمان مخصوص.
الثالث : موضوعية أسباب النزول، وتثبيت الوقائع والأحداث.
الرابع : الكشف عن مراحل سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف أنها فرع الوحي والتنزيل.
الخامس : بيان إخلاص أهل البيت والصحابة في جهادهم في سبيل الله سبحانه، وكيف أنهم مع قلتهم تعاهدوا آيات القرآن وأسباب وأوان وموضع نزولها، وهو من الشواهد على تسليمهم وتصديقهم بأن القرآن نزل من عند الله عز وجل.
السادس : إعانة المسلمين في حفظ آيات القرآن والتدبر في مضامينها القدسية.
السابع : تعيين الناسخ والمنسوخ في القرآن، إذ لابد من معرفة أوان نزول الآية الناسخة وأنه متأخر زماناً على نزول الآية المنسوخة، فالآية المدنية ناسخة للآية المكية، وليس المدار في المقام على التقسيم العام للسور الى مكي ومدني بل تلحظ في الناسخ والمنسوخ مسائل :
الأولى : أسباب النزول.
الثانية : الموضوع.
الثالثة : صيغة التخفيف والتيسير في الناسخ، قال تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
الرابعة : عمل المسلمين بالناسخ دون المنسوخ، ومن خصائص الناسخ نزوله بعد زمان المنسوخ.
الثامن : بيان الضوابط التي يميز فيها بين المكي والمدني، منها موضوع الآية، وصيغة الخطاب إذ تتضمن السور المكية لغة التخويف والوعيد في الدنيا والآخرة للذين كفروا كما في قوله تعالى[أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ]( ).
ويكثر في السور المكية خطاب[يَاأَيُّهَا النَّاسُ] والذي ورد عشرين مرة في القرآن.
بينما يكثر في السور المدنية نداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الذي ورد في القرآن تسعاً وثمانين مرة.
التاسع : تدل السور المكية بالدلالة التضمنية على حث المسلمين على الصبر والتحمل، بينما جاءت السور المدنية ببيان أحكام الإسلام، وأداء الفرائض والحدود كالقتل عمداً ، والسرقة.
وتتضمن أحكام النكاح والطلاق والمواريث والفرائض، والإحتجاج على أهل الكتاب، وكل فرد منها يدعو الى السلم المجتمعي، والى نبذ العنف والإرهاب، كما في قوله تعالى[قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا]( ).
وذكرت السور المكية الوقائع الدفاعية التي خاضها المسلمون قبل معركة بدر، وأحد وخروج المسلمين الى حمراء الأسد، والأحزاب، وصلح الحديبية وفتح مكة.
ولم يذكر اسم معركة أحد بالاسم ولا الحديبية ولكن مضامين الآيات تدل عليه.
ولما برزت مسألة النفاق في المدينة بعد تجلي منعة وقوة المسلمين، نزلت الآيات في ذم المنافقين والمنافقات، قال تعالى[الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا]( ).
العاشر : عناية أهل البيت والصحابة بتعيين أوان نزول الآية أو السورة القرآنية.
وعن الإمام علي عليه السلام قال: سلوني عن كتاب الله، فوالله ما نزلت آية في كتاب الله في ليل ولا نهار ولا مسير ولا مقام إلا وقد أقرأني إياها رسول الله صلى الله عليه وآله وعلمني تأويلها( ) ولم يذكر الإمام علي عليه السلام الغزو وخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليه، إنما ذكر المسير وهو أعم.
وعن الإمام علي عليه السلام قال: ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت وأين أنزلت إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا سؤولاً( ).
وعن عبد الله بن مسعود : والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، ولو أعلم أحدا أعلم منى تبلغه الإبل لركبت إليه( ).
وكان يدور الكلام والتذاكر بين أهل البيت والصحابة بخصوص أوان وأسباب نزول آية قرآنية، وجاء زمان التابعين ليكثروا من سؤالهم، ويشدوا الرحال إليهم , لتستقرأ منه علوم خاصة بأوان نزول الآية أو السورة القرآنية.
وهناك تقسيمات أخرى للمكي والمدني منها :
الأول : لحاظ المخاطَب، فاذا كان الخطاب لأهل مكة، فالآية مكية، كما لو كان ذماً وتوبيخاً على الكفر، فالآية مكية ومنه خطاب العموم يا أيها الناس، كما في قوله[يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
وأما اذا كان الخطاب للمهاجرين والأنصار والثناء عليهم، وتعليم الأحكام فالآية مدنية، ومنه نداء الإيمان المتكرر، كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الثاني : موضوعية مكان النزول , وليس زمانه ، فما نزل في مكة هو مكي وان نزل بعد الهجرة، ومنه الآيات التي نزلت في فتح مكة مثل سورة الفتح، ويدخل في مكة مواضع مناسك الحج مثل منى وعرفة والجحفة.
ويدخل في المدينة المواضع القريبة منها مثل أحد، وحمراء الأسد، وبدر، وعلى هذا لا ينحصر التقسيم بالمكي والمدني، فمن الآيات ما نزلت في أسفار وسرايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها ما نزل في بيت المقدس، وحديث الإسراء، وفي تبوك، ومنها آيات سورة الأنفال.
ولابد من إحصاء تفصيلي آخر، وهو على شعبتين :
الأولى : عدد الآيات المكية، مع ذكرها ولو بالسورة والرقم من السورة.
الثانية : عدد الآيات المدنية، مع ذكر السورة ورقم الآية.
وذكرت ضوابط السور المكية في الجملة وهي:
الأولى : كل سورة فيها سجدة.
الثانية : كل سورة فيها لفظ (كلا) ولم يرد لفظ (كلا) إلا في النصف الأخير من القرآن.
الثالثة : كل سورة فيها نداء (يا أيها الناس)، ولم يرد فيها لفظ(يا أيها الذين آمنوا) في السور المكية إلا سورة الحج فقد ورد في آخرها[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا]( )، وقيل الآية أعلاه مكية أيضاً.
الرابعة : كل سورة فيها قصص الأنبياء، والأمم السالفة فهي مكية، باستثناء سورة البقرة.
الخامسة : كل سورة فيها ذكر آدم، وذكر ابليس فهي مكية سوى سورة البقرة.
وهذه الضوابط ليست قواعد كلية تامة ودقيقة , وللسماع موضوعية في المقام.
وذكرت ضوابط للسور والآيات والمدنية وهي:
الأولى : كل سورة فيها فريضة أو حدّ فهي مدنية.
الثانية : كل سورة فيها ذم للمنافقين وسوء فعلهم فهي مدنية، عدا سورة العنكبوت فهي مكية.
الثالثة : كل سورة فيها مجادلة أهل الكتاب فهي مدنية.
الرابعة : بيان السور المدنية لأحكام العبادات والمعاملات والحدود، وأنظمة الأسرة، وحال الحرب والسلم.
الخامسة : تأكيد السور المدنية على العفو والصفح.
السادسة : توجه الخطاب الى أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وذكر احتجاجهم، والإحتجاج عليهم.
فتقسم آيات وسور القرآن تقسيماً استقرائياً إلى السور المكية وهي التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل هجرته إلى المدينة ، وتتصف بشدة الخطاب ولغة الإنذار، لأن أكثر الناس كانوا على الجاهلية والوثنية , وهذه السور هي :
الأولى : سورة العلق , وعدد آياتها(19) وأولها[اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ].
الثانية : سورة القلم، وعدد آياتها(52) وأولها [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ]. الثالثة : سورة المزمِّل، وعدد آياتها(20) وأولها [يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ]. الرابعة : سورة المدَّثِّر، وعدد آياتها(56) وأولها [يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ]. الخامسة : سورة المسد، وعدد آياتها(5) وأولها [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]. السادسة : سورة التكوير، وعدد آياتها (29) وأولها [إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ]. السابعة : سورة الأعلى، وعدد آياتها(19) وأولها[سَبِّحْ اسم رَبِّكَ الأَعْلَى]. الثامنة : سورة الليل، وعدد آياتها(21) وأولها [وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى]. التاسعة : سورة الفاتحة، وعدد آياتها(7) وأولها [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]. العاشرة : سورة الفجر، وعدد آياتها(30) وأولها [وَالْفَجْرِ]. الحادية عشرة: سورة الضحى، وعدد آياتها(11) وأولها [وَالضُّحى]. الثانية عشرة: سورة العصر، وعدد آياتها(3) وأولها [وَالْعَصْرِ]. الثالثة عشرة : سورة العاديات، وعدد آياتها(11) وأولها[وَالْعادِياتِ ضَبْحاً]. الرابعة عشرة : سورة الكوثر، وعدد آياتها(3) وأولها[إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ]. الخامسة عشرة : سورة التكاثر، وعدد آياتها (8) وأولها[أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ]. السادسة عشرة : سورة الماعون، وعدد آياتها (7) وأولها[أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ]. السابعة عشرة : سورة الكافرون، وعدد آياتها (6) وأولها [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ] . الثامنة عشرة : سورة الفيل، وعدد آياتها (5) وأولها[أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ]. التاسعة عشرة :سورة النجم، وعدد آياتها (62) وأولها [وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى]. العشرون : سورة عبس، وعدد آياتها (42) وأولها[عَبَسَ وَتَوَلَّى]. الحادية والعشرون : سورة القَدر، وعدد آياتها (5) وأولها [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ]. الثانية والعشرون : سورة الشمس، وعدد آياتها (15) وأولها [وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا]. الثالثة والعشرون : سورة البروج، وعدد آياتها (22) وأولها[وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ] . الرابعة والعشرون : سورة التين، وعدد آياتها (8) وأولها [وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ]. الخامسة والعشرون : سورة قريش، وعدد آياتها (4) وأولها[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ]. السادسة والعشرون : سورة القارعة، وعدد آياتها (11) وأولها[الْقَارِعَةُ]. السابعة والعشرون : سورة القيامة، وعدد آياتها (40) وأولها[لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ]. الثامنة والعشرون : سورة الهمزة، وعدد آياتها (9) وأولها [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ]. التاسعة والعشرون: سورة المُرْسِلاَتِ، وعدد آياتها (50) وأولها[وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفًا] . الثلاثون : سورة ق، وعدد آياتها (45) وأولها [ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ]. الحادية والثلاثون : سورة البلد، وعدد آياتها (20) وأولها[لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ] . الثانية والثلاثون : سورة الطارق، وعدد آياتها (17) وأولها [وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ] . الثالثة والثلاثون : سورة القمر، وعدد آياتها (55) وأولها [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ] . الرابعة والثلاثون : سورة ص، وعدد آياتها (88) وأولها[ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ]. الخامسة والثلاثون : سورة الأَعراف، وعدد آياتها (206) وأولها[المص]. السادسة والثلاثون : سورة الجن، وعدد آياتها (28) وأولها[قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا]. السابعة والثلاثون : سورة يس، وعدد آياتها (83) وأولها [يس]. الثامنة والثلاثون: سورة الفرقان، وعدد آياتها (77) وأولها[تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]. التاسعة والثلاثون: سورة فاطر , وهي سورة الملائكة، وعدد آياتها (45) وأولها[الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]. الأربعون : سورة مريم، وعدد آياتها (98) وأولها[كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا].
الحادية والأربعون : سورة طه، وعدد آياتها (135) وأولها [طه* مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى].
الثانية والأربعون : سورة الواقعة، وعدد آياتها (96) وأولها[إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ] .
الثالثة والأربعون : سورة الشعراءُ، وعدد آياتها (227) وأولها[طسم* تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ].
الرابعة والأربعون : سورة النمل، وعدد آياتها (93) وأولها [طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ] وهي السورة الوحيدة التي ترد البسملة في أولها، وفي وسطها بقوله تعالى بخصوص بلقيس ملكة اليمن [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ).
الخامسة والأربعون : سورة القَصَص، وعدد آياتها (88) وأولها[طسم* تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ] .
السادسة والأربعون : سورة الإسراء , وتسمى سورة بني إِسرائيل ، وعدد آياتها (111) وأولها[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ].
السابعة والأربعون : سورة يونس، وعدد آياتها (109) وأولها[الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ].
الثامنة والأربعون: سورة هود، وعدد آياتها (123) وأولها[الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ].
التاسعة والأربعون : سورة يوسف، وعدد آياتها (111) وأولها[الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ] .
الخمسون : سورة الحِجْر، وعدد آياتها (99) وأولها[الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ].
الحادية والخمسون : سورة الأَنعام، وعدد آياتها (165) وأولها[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ] .
الثانية والخمسون: سورة الصَّافَّات، وعدد آياتها (182) وأولها[وَالصَّافَّاتِ صَفًّا].
الثالثة والخمسون: سورة لقمان، وعدد آياتها (34) وأولها[الم* تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ].
الرابعة والخمسون : سورة سبأ، وعدد آياتها (54) وأولها [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ].
الخامسة والخمسون : سورة الزمر وعدد آياتها (75) وأولها[تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ].
السادسة والخمسون : سورة غافر وتسمى سورة المؤمن , لورود قصة مؤمن آل فرعون فيها , وعدد آياتها (85) وأولها[حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ] .
السابعة والخمسون : (سورة حَم السجدة) وتسمى سورة المضاجع وتأتي بعد سورة لقمان وعدد آياتها (30) وأولها[الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ].
الثامنة والخمسون: سورة الشورى، وعدد آياتها (53) وأولها[حم* عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ].
التاسعة والخمسون: سورة الزخرف، وعدد آياتها (89) وأولها[حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ] .
الستون: سورة الدُّخَان، وعدد آياتها (59) وأولها [حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ].
الحادية والستون: سورة الجاثية، وعدد آياتها (37) وأولها[حم* تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ].
الثانية والستون : سورة الأَحقاف، وعدد آياتها (35) وأولها[حم* تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] .
الثالثة والستون: سورة الذاريات، وعدد آياتها (60) وأولها [وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا].
الرابعة والستون : سورة الغاشية، وعدد آياتها (26) وأولها[هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ].
الخامسة والستون : سورة الكهف، وعدد آياتها (110) وأولها[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا].
السادسة والستون : سورة النَّحل، وعدد آياتها (128) وأولها[أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ].
السابعة والستون: سورة نوح، وعدد آياتها (28) وأولها[إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ].
الثامنة والستون: سورة إِبراهيم، وعدد آياتها (52) وأولها[الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ].
التاسعة والستون: سورة الأَنبياءِ، وعدد آياتها (112) وأولها[اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ].
السبعون : سورة الْمُؤْمِنُون، وعدد آياتها (118) وأولها [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ].
الحادية والسبعون : سورة الطور، وعدد آياتها (49) وأولها[وَالطُّورِ].
الثانية والسبعون : سورة الملك، وعدد آياتها (30) وأولها[تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ].
الثالثة والسبعون : سورة الحاقَّة، وعدد آياتها (52) وأولها[الْحَاقَّةُ* مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ].
الرابعة والسبعون : سورة المعارج، وعدد آياتها (44) وأولها[سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ].
الخامسة والسبعون : سورة النبأ، وعدد آياتها (40) وأولها[عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ].
السادسة والسبعون : سورة النازعات، وعدد آياتها (46) وأولها[وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا].
السابعة والسبعون : سورة الأنفطار، وعدد آياتها (19) وأولها[إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ].
الثامنة والسبعون: سورة الإنشقاق، وعدد آياتها (25) وأولها[إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ].
التاسعة والسبعون: سورة الرُّوم، وعدد آياتها (60) وأولها[الم* غُلِبَتْ الرُّومُ] .
الثمانون : سورة العنكبوت، وعدد آياتها (69) وأولها[الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ].
الحادية والثمانون : سورة المطفِّفين وتسمى سورة التطفيف، وهي من السور التي اختلف هل هي مكية أو مدنية، وعدد آياتها (36) وأولها[وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ].
الثانية والثمانون : سورة الرعد: وهي من السور التي اختلف في موضع وأوان نزولها وهل هي مكية أو مدنية والمختار أنها ملكية، نعم بعض آياتها نزلت في المدينة مثل، وعدد آياتها (43) وأولها [وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ]( )، وقيل السورة مدنية .
الثالثة والثمانون : سورة البينة، وعدد آياتها (8)والتي تبدأ بقوله تعالى[حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ]( )، والمشهور نزولها في مكة، والقائل بأنها مدنية لصيغة التقرير فيها، ولذكرها الزكاة، وأهل الكتاب،.
الرابعة والثمانون : سورة الزلزلة : وكونها مكية، قال به ابن عباس وابن مسعود ونسب إلى ابن عباس أيضاً أنها مدنية، وعدد آياتها (8) وأولها[إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا* وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا].
الخامسة والثمانون : سورة الرحمن، وعدد آياتها (78) وأولها[الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ].وأختلف في محل نزولها، وكونها مكية قاله جابر، ووردت روايتان عن ابن عباس في محل نزول هذه السورة، إحداهما أنها نزلت في مكة، والأخرى في المدينة ذكرهما السيوطي في صفحة واحدة( )، وعنه انها مكية إلا آية منها نزلت في المدينة وهو قوله تعالى[يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ]( )،
وقد ورد الخبر بأن عبد الله بن مسعود قرأ هذه السورة وأجهر بها في مكة قبل الهجرة وفي منتديات قريش .
وبالاسناد عن عروة بن الزبير قال : انَ أَوّلَ مَنْ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِمَكّةَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ اجْتَمَعَ يَوْمًا أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – فَقَالُوا : وَاَللّهِ مَا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ هَذَا الْقُرْآنَ يُجْهَرُ لَهَا بِهِ قَطّ ، فَمَنْ رَجُلٌ يُسْمِعُهُمُوهُ.
فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : أَنَا ، قَالُوا : إنّا نَخْشَاهُمْ عَلَيْك ، إنّمَا نُرِيدُ رَجُلًا لَهُ عَشِيرَةٌ يَمْنَعُونَهُ مِنْ الْقَوْمِ إنْ أَرَادُوهُ قَالَ دَعُونِي فَإِنّ اللّهَ سَيَمْنَعُنِي . قَالَ فَغَدَا ابن مَسْعُودٍ حَتّى أَتَى الْمَقَامَ فِي الضّحَى ، وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا حَتّى قَامَ عِنْدَ الْمَقَامِ ثُمّ قَرَأَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ رَافِعًا بِهَا صَوْتَهُ[الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ] ( ).
قَالَ ثُمّ اسْتَقْبَلَهَا يَقْرَؤُهَا . قَالَ فَتَأَمّلُوهُ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ . مَاذَا قَالَ ابن أُمّ عَبْدٍ ؟ قَالَ ثُمّ قَالُوا : لِيَتْلُوَ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ فَقَامُوا إلَيْهِ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ فِي وَجْهِهِ وَجَعَلَ يَقْرَأُ حَتّى بَلَغَ مِنْهَا مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَبْلُغَ.
ثُمّ انْصَرَفَ إلَى أَصْحَابِهِ وَقَدْ أَثّرُوا فِي وَجْهِهِ.
فَقَالُوا لَهُ هَذَا الّذِي خَشِينَا عَلَيْك.
فَقَالَ مَا كَانَ أَعْدَاءُ اللّهِ أَهْوَنَ عَلَيّ مِنْهُمْ الْآنَ وَلَئِنْ شِئْتُمْ لَأُغَادِيَنهُمْ بِمِثْلِهَا غَدًا ، قَالُوا : لَا ، حَسْبُك ، قَدْ أَسْمَعْتهمْ مَا يَكْرَهُونَ( ).
وذكر أن أبا جهل لطمه وشق أذنه، وجعل الدم يسيل منه، فانصرف وعينه تدمع، فلما رأه النبي صلى الله عليه وآله وسلم رقّ له، وأطرق متألماً لما لحق أصحابه .
وفيه شاهد على حسن الصبر الذي يتصف به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , وفي التنزيل[اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
فنزل جبرئيل ضاحكاً مستبشراً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باجبرئيل تضحك وابن مسعود يبكي فقال جبرئيل: ستعلم.
فكانت واقعة بدر في السنة الثانية للهجرة حيث قتل أبو جهل الذي أصر على القتال يومئذ، وإشترك عبد الله بن مسعود في قتله.
السادسة والثمانون : سورة الإخلاص، وعدد آياتها (4) وأولها [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]. وهي جامعة مانعة، وفيها حرب على الشرك ومفاهيمه، وزجر عن عبادة الأوثان، وتبكيت للذين كفروا وبعث للحسرة والخوف في نفوسهم، ليكون كل من هذه الحسرة والخوف واقية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين قبل وبعد الهجرة .
وتسمى هذه السورة نسبة الرب لأنها تصف الله عز وجل , فيكون المراد من النسبة هو الوصف ، وقيل نزل بهذه السورة سبعون ألف ملك , وكلما مروا على أهل سماء سألوهم عما معهم ، فقالوا نسبة الرب , كما قيل أن المشركين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : انسب لنا ربك فانزل الله هذه السورة.
السابعة والثمانون : سورة الشرح، وعدد آياتها(8) وأول آية منها[أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ] وتسمى سورة الإنشراح , وسورة ألم نشرح.
الثامنة والثمانون : سورة الحج، وعدد آياتها(78) آية وأولها[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ] وكما أن سورة يوسف إختصت بقصة نبي من الأنبياء فإن سورة الحج هي الوحيدة التي سميت باسم ركن من أركان الإسلام وموضوع آياتها أعم إذ تتحدث عن الحشر ويوم القيامة ومنها آيات نزلت في المدينة، وآيات نزلت في النهار وأخرى في الليل، وآيات نزلت في الحضر وأخرى في السفر.
التاسعة والثمانون : سورة فصلت: وعدد آياتها(45) آية، وأولها[حم * تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] وقد تسمى سورة السجدة ولكن هذه التسمية لسورة السجدة التي بعد سورة لقمان في ترتيب القرآن وتقدم ذكرها في هذا الجدول بتسلسل(57).
والسور المدنية هي السور التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ولهذا سميت بالسور المدنية وان كان موضع نزولها في مكة أو في بعض الطريق والخروج في السرايا.
وتمتاز السور المدنية بأسلوبها اللين وبيان الأحكام لأنّ المخاطَبين أقروا بوحدانية الله وأرادوا معرفة العبادات التي تقربهم من رحمة الله. وهذه السور خمس وعشرون سورة هي :
الأولى : سورة آل عمران، وعدد آياتها (200) وأولها [الم * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ].
الثانية : سورة محمد ، وعدد آياتها (38) وأولها [الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ].
الثالثة : سورة البقرة، وقيل هي أول سورة نزلت في المدينة , وقبل وقوع معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، وعدد آياتها (286) وأولها[الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ].
الرابعة : سورة الطلاق ، وعدد آياتها (12) وأولها [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا].
الخامسة: سورة التحريم، وعدد آياتها (12) وأولها [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ].
السادسة : سورة النصر، وعدد آياتها (3) وأولها [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ].
السابعة : سورة المنافقون ، وعدد آياتها (11) وأولها[إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ].
الثامنة : سورة الجمعة وعدد آياتها (11) وأولها[يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ].
التاسعة : سورة الممتحنة، وعدد آياتها (13) وأولها[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ].
العاشرة : سورة النور، وعدد آياتها (64) وأولها[سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ].
الحادية عشرة : سورة التوبة، وعدد آياتها (129) وأولها[بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] وتسمى سورة براءة وهي السورة الوحيدة في القرآن التي لا تبدأ بالبسملة لأنها نزلت إنذاراً ووعيداً للذين كفروا، ولأن البسملة نوع أمان كما تسمى بالمقشقشة والفاضحة لأنها فضحت المنافقين.
الثانية عشرة : سورة الأنفال، وعدد آياتها (75) وأولها[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ].
الثالثة عشرة : سورة المائدة، وعدد آياتها (120) وأولها[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ].
الرابعة عشرة : سورة الحشر، وعدد آياتها (24) وأولها[سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ].
الخامسة عشرة : سورة المجادلة، وعدد آياتها (22) وأولها[قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] ومن خصائص هذه السورة إنفرادها بورود لفظ الجلالة [الله] في كل آية منها , وقد تكرر اسم الجلالة في أول آية منها أعلاه أربع مرات.
السادسة عشرة : سورة الحديد، وعدد آياتها (29) وأولها[سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ].
السابعة عشرة : سورة الحجرات، وعدد آياتها (18) وأولها[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ].
الثامنة عشرة : سورة الفتح، وعدد آياتها (29) وأولها[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا].
التاسعة عشرة : سورة الأحزاب، وعدد آياتها (73) وأولها[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا].
العشرون : سورة النساء، وقيل أنها مكية لقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]( )، وأن الآية أعلاه نزلت يوم فتح مكة، وأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدفع مفتاح الكعبة لعمه العباس فنزلت فأمره الله أن يدفعه إلى عثمان بن طلحة، والحديث ضعيف سنداً، ويدل موضوع هذا النزول على أنها مدنية لأنه بعد الهجرة، وعدد آياتها (176) وأولها[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا].
الحادية والعشرون : سورة الصف ، وعدد آياتها (14) وأولها[سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ].
وقد ورد عن ابن عباس قال: قالوا: والله لو نعلم ما أحب الأعمال إلى الله فنزلت [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ]( )، إلى قوله[بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ]( )، فدلهم على أحب الأعمال إليه( ).
والآية أعلاه هي الآية الثانية من السورة والمراد ذات السورة، إذ تبدأ بقوله تعالى[سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( )،
الثانية والعشرون : سورة التغابن : وعدد آياتها (18) وأولها[يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] .
وقيل أنها مكية مدنية، والتغابن اسم من أسماء يوم القيامة، وعن ابن عباس أنها نزلت بمكة إلا آيات في آخرها نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي إذ كان ذا أولاد وأموال مع تعدد الزوجات، فكان إذا همّ بالخروج في سرايا الدفاع بكوا إليه، وسألوه الإقامة وترك الخروج.
وقالوا : إلى من تكلنا وتدعنا فيرقّ ويقيم( )، فأمر الله بعدم طاعتهم في المعصية، ونهى عن معاقبتهم على خلافهم بقوله تعالى في ذات هذه السورة[وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ]( )،.
الثالثة والعشرون : سورة الفلق: وعدد آياتها (5) وأولها[قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ].
وروى كريب عن ابن عباس أنها مكية، وروى أبو صالح عنه أنها مدنية، وقيل رواية كريب من جهة الوثاقة أرجح من رواية أبي صالح .
والذي يقول بأنها مكية ينفي مسألة سحر لبيد بن الأعصم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه معصوم، والقول بأنها مدنية لا يعني الملازمة بمسألة السحر هذه .
الرابعة والعشرون : سورة الناس : وعدد آياتها (6) وأولها[قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ].
الخامسة والعشرون : وعدد آياتها(31) آية، وتسمى سورة الدهر وكثير من آياتها نزلت بحق أهل البيت.
وقال كريب : وجدنا في كتاب ابن عباس أن من سورة القدر إلى آخر القرآن مكية إلا إذا زلزلت الأرض وإذا جاء نصر الله وقل هو الله أحد( ).
أي أنه لم يسمعه من ابن عباس سماعاً، ولكنه وجده في كتابه مع أن ابن عباس كان كثير الحديث عن القرآن، ويبادر إلى الإجابة والتوسعة في مسائله.
وفي الوقت الذي ذكرنا هنا سور القرآن كلها وقسمتها بين المكي والمدني، فمن العلماء من كان يذكر وقوع الإختلاف في عدة سور منها، هل هي مكية أو مدنية , فذكره للتوثيق والبيان وهي :
الأولى : سورة الفلق .
الثانية : الناس .
الثالثة : الرعد .
الرابعة : المطففين .
الخامسة : القدر.
السادسة : البينة .
السابعة : الزلزلة .
الثامنة : الرحمن .
التاسعة : الصف .
العاشرة : التغابن.
ترتيب السورة اسم السورة ترتيب النزول عدد آياتها عدد كلماتها عدد حروفها مكان النزول
001 الفاتحة 5 7 29 139 مكيّة
002 البقرة 87 286 6144 25613 مدنيّة
003 آل عمران 89 200 3503 14605 مدنيّة
004 النساء 92 176 3712 15937 مدنيّة
005 المآئدة 112 120 2837 11892 مدنيّة
006 الأنعام 55 165 3055 12418 مكيّة
007 الأعراف 39 206 3344 14071 مكيّة
008 الأنفال 88 75 1243 5299 مدنيّة
009 التوبة 113 129 2506 10873 مدنيّة
010 يونس 51 109 1841 7425 مكيّة
011 هود 52 123 1947 7633 مكيّة
012 يوسف 53 111 1795 7125 مكيّة
013 الرعد 96 43 854 3450 مكيّة
014 إبراهيم 72 52 831 3461 مكيّة
015 الحجر 54 99 658 2797 مكيّة
016 النحل 70 128 1845 7642 مكيّة
017 الإسراء 50 111 1559 6480 مكيّة
018 الكهف 69 110 1583 6425 مكيّة
019 مريم 44 98 972 3835 مكيّة
020 طـه 45 135 1354 5288 مكيّة
021 الأنبياء 73 112 1174 4925 مكيّة
022 الحج 103 78 1279 5196 مكيّة
023 المؤمنون 74 118 1051 4354 مكيّة
024 النور 102 64 1317 5596 مدنيّة
025 الفرقان 42 77 896 3786 مكيّة
026 الشعراء 47 227 1322 5517 مكيّة
027 النمل 48 93 1165 4679 مكيّة
028 القصص 49 88 1441 5791 مكيّة
029 العنكبوت 85 69 982 4200 مكيّة
030 الروم 84 60 818 3388 مكيّة
031 لقمان 57 34 550 2121 مكيّة
032 السجدة 75 30 374 1523 مكيّة
033 الأحزاب 90 73 1303 5618 مدنيّة
034 سبأ 58 54 884 3510 مكيّة
035 فاطر 43 45 780 3159 مكيّة
036 يس 41 83 733 2988 مكيّة
037 الصافات 56 182 865 3790 مكيّة
038 ص 38 88 735 2991 مكيّة
039 الزمر 59 75 1177 4741 مكيّة
040 غافر 60 85 1228 4984 مكيّة
041 فصلت 61 54 796 3282 مكيّة
042 الشورى 62 53 860 3431 مكيّة
043 الزخرف 63 89 837 3508 مكيّة
044 الدخان 64 59 346 1439 مكيّة
045 الجاثية 65 37 488 2014 مكيّة
046 الأحقاف 66 35 646 2602 مكيّة
047 محمد 95 38 542 2360 مدنيّة
048 الفتح 111 29 560 2456 مدنيّة
049 الحجرات 106 18 353 1493 مدنيّة
050 ق 34 45 373 1473 مكيّة
051 الذاريات 67 60 360 1510 مكيّة
052 الطور 76 49 312 1293 مكيّة
053 النجم 23 62 359 1405 مكيّة
054 القمر 37 55 342 1438 مكيّة
055 الرحمن 97 78 352 1585 مدنيّة
056 الواقعة 46 96 379 1692 مكيّة
057 الحديد 94 29 575 2475 مدنيّة
058 المجادلة 105 22 475 1991 مدنيّة
059 الحشر 101 24 447 1913 مدنيّة
060 الممتحنة 91 13 352 1519 مدنيّة
061 الصف 109 14 226 936 مدنيّة
062 الجمعة 110 11 177 749 مدنيّة
063 المنافقون 104 11 180 780 مدنيّة
064 التغابن 108 18 242 1066 مدنيّة
065 الطلاق 99 12 279 1170 مدنيّة
066 التحريم 107 12 254 1067 مدنيّة
067 الملك 77 30 337 1316 مكيّة
068 القلم 2 52 301 1258 مكيّة
069 الحاقة 78 52 261 1107 مكيّة
070 المعارج 79 44 217 947 مكيّة
071 نوح 71 28 227 947 مكيّة
072 الجن 40 28 286 1089 مكيّة
073 المزمل 3 20 200 840 مكيّة
074 المدثر 4 56 256 1015 مكيّة
075 القيامة 31 40 164 664 مكيّة
076 الإنسان 98 31 243 1065 مدنيّة
077 المرسلات 33 50 181 815 مكيّة
078 النبأ 80 40 174 766 مكيّة
079 النازعات 81 46 179 762 مكيّة
080 عبس 24 42 133 538 مكيّة
081 التكوير 7 29 104 425 مكيّة
082 الإنفطار 82 19 81 326 مكيّة
083 المطففين 86 36 169 740 مكيّة
084 الإنشقاق 83 25 108 436 مكيّة
085 البروج 27 22 109 459 مكيّة
086 الطارق 36 17 61 249 مكيّة
087 الأعلى 8 19 72 293 مكيّة
088 الغاشية 68 26 92 378 مكيّة
089 الفجر 10 30 139 573 مكيّة
090 البلد 35 20 82 335 مكيّة
091 الشمس 26 15 54 249 مكيّة
092 الليل 9 21 71 312 مكيّة
093 الضحى 11 11 40 164 مكيّة
094 الشرح 12 8 27 102 مكيّة
095 التين 28 8 34 156 مكيّة
096 العلق 1 19 72 281 مكيّة
097 القدر 25 5 30 112 مكيّة
098 البيِّنة 100 8 94 394 مكيّة
099 الزلزلة 93 8 36 156 مكيّة
100 العاديات 14 11 40 164 مكيّة
101 القارعة 30 11 36 158 مكيّة
102 التكاثر 16 8 28 122 مكيّة
103 العصر 13 3 14 70 مكيّة
104 الهمزة 32 9 33 133 مكيّة
105 الفيل 19 5 23 96 مكيّة
106 قريش 29 4 17 73 مكيّة
107 الماعون 17 7 25 112 مكيّة
108 الكوثر 15 3 10 42 مكيّة
109 الكافرون 18 6 27 95 مكيّة
110 النصر 114 3 19 79 مكيّة
111 المسد 6 5 29 81 مكيّة
112 الإخلاص 22 4 15 47 مكيّة
113 الفلق 20 5 23 71 مدنيّة
114 الناس 21 6 20 80 مدنيّة
أصالة البراءة
تنقسم أصالة البراءة إلى قسمين :
الأول : البراءة العقلية , وهي التي يرد في معناها قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
الثاني : البراءة الشرعية وهي المستقرأة من الأدلة الشرعية من آيات القرآن والنصوص والأخبار , والإجماع على حجية أصالة البراءة في الشبهات الموضوعية والحكمية.
ويقال أحياناً أن هذه الفتوى مترشحة عن الأصل المؤمن عن الوجوب التعيني ، والمراد أصالة البراءة من الوجوب التعييني، والمراد من التعيني إنطباق اللفظ على معنى مخصوص بسبب كثرة الإستعمال بما يوجب الألفة من استعماله في معناه .
أما التعينيي فهو الجعل الخاص للفظ لإرادة معنى مخصوص ، والفرق بينهما من جهة الكاشف عن أصل الوضع وتكيف اللفظ.
والشبهة لغة الإلتباس ومورد الشك ، أما في الإصطلاح فهي ما التبس أمره فلا يعلم هل هو صحيح أم فاسد، حلال أم حرام.
والشبهة على جهات :
الأولى : الشبهة الموضوعية : وهو الشك في دخول فرد من أفراد العام في الخاص المذكور مع وضوحه كما في اناء تشك هل فيه خل أو خمر، أو أنه كان خمراً أو شككنا هل انقلب إلى خمر ، أو شككت في لحم هل هو من مأكول اللحم أو لا .
وقد ترى المرأة حمرة ولا تعلم هل هو دم حيض أو استحاضة أو جرح فهو من الشبهة الموضوعية , أما مسألة التذكية فهي من الشبهة الحكمية.
الثانية : الشبهة الحكمية ، هي الجهل بالحكم لموضوع مخصوص مثلاً هل هو حلال أم حرام، طاهر أم نجس .
وأسبابها وجوه :
الأول : فقدان الدليل الخاص .
الثاني : الإجمال في الدليل .
الثالث : التعارض بين دليلين .
الثالثة : الشبهة في المفهوم ، وهي ما لم يتضح أصل ونوع المقصود من اللفظ والمفهوم مثل لفظ (الصعيد) هل هو التراب الخالص أو مطلق الأرض , أو تشك في دخول فرد وشئ مخصوص في مفهوم عام.
وهل ينطبق عليه أو لا مثل الشك في متنجس , هل هو من الظروف فيغسل ثلاث مرات على قول , أم ليس منها فيغسل مرة واحدة .
.والتحقيق فيها باللجوء إلى كل من، وعلى نحو الترتيب :
الأول : الدليل الشرعي .
الثاني : اللغة .
الثالث : القدر المتيقن .
الرابع :أصالة البراءة .
وتكون الشبهة في المفهوم على وجوه :
أولاً : الشك في الموضوع .
ثانياً : الشك في الإستعمال .
ثالثاً : الشك في المراد .
ولبيان واثبات الموضوع علامات منها :
الأول : التبادر وهو انتقال الذهن إلى المعنى مخصوص حال سماع اللفظ من دون قرينة أو وسط.
الثاني : صحة الحمل .
الثالث : عدم صحة السلب .
الرابع : الإستعمال وكثرته في ذات الموضوع.
الخامس : الإطراد، بأن تلازم ذات الصفة الموضوع في كل الأحوال.
السادس : أصالة الإباحة .
السابع : أصالة البراءة .
الثامن : أصالة الظهور .
التاسع : أصالة العموم .
العاشر : أصالة الحقيقة، وتجلي ذات الحقيقة والمعنى من غير لبس، أو ترديد بين أفراد متعددة.
الحادي عشر : أصالة الإطلاق.
الثاني عشر : أصالة عدم الإشتراك .
الثالث عشر : أصالة عدم القرينة.
الرابعة : الشبهة المصداقية ، وهي أخص من الشبهة المفهومية إذ يعلم معنى اللفظ والمراد منه ، ولكن يشك في المصداق الخارجي ، وهل ينطبق عليه معنى اللفظ أو لا، كما لو قيل: أكرم العلماء ) وشككنا هل زيد عالم يجب إكرامه أو ليس بعالم فلا يجب إكرامه .
ونعلم أن صيام شهر رمضان واجب ، ولكن صار الشك في يوم مخصوص هو يوم الشك من أول الشهر , هل هو من شهر رمضان كي يجب صيامه أو لا.
والشبهة لغة الإلتباس والمشتبهات من الأمور ، والمشكلات والشبه في الإصطلاح : ما التبس أمره فلا يعلم هل هو حلال أم حرام ، صحيح أم فاسد، طاهر أو بخس .
وبين الشبهة الموضوعية والشبة المصداقية عموم وخصوص مطلق فكل شبهة مصداقية هي شبهة موضوعية ، وليس العكس.
وقيل من معاني الشبهة أطراف الأعلمية بتعيين جماعة من المجتهدين وتعلم أن أحدهم هو الأعلم من غير تحديد له .
كما تقسم الشبهة بلحاظ العدد والكم في مورد الإبتلاء والتكليف إلى قسمين :
الأول : الشبهة المحصورة ، وهي التي يكون عدد أفرادها قليلاً.
الثاني : الشبهة البدوية ، وهي التي لا تكون مقترنة بالعلم الإجمالي ، كما اذا احتمل المكلف تركه إحدى صلاتي الظهرين , ولم يتيقن ذلك أو احتمل نجاسة أحد إنائين .
أما إذا كان هناك علم إجمالي بتنجس إناء من بين أواني عديدة ، فاذا كانت هذه الأواني كثيرة يصعب أو يتعذر معه احتمال انطباق النجس على أحدها , فالشبهة غير محصورة , وأما إذا كانت هذه الأفراد والأواني قليلة فالشبهة محصورة .
عام الوفود
وهو العام التاسع الهجري والموافق لسنة 631 ميلادي ، سمي بهذا الاسم لكثرة الوفود التي قدمت المدينة المنورة من أنحاء الجزيرة بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ، وقبل وبعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة ، وزاد عدد الوفود على سبعين وفداً ، مع التفاوت في عدد أعضاء الوفد ، والذين يمثلونهم وينوبون عنهم , وهو من مصاديق قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً]( ).
لقد تطلع العرب إلى نتيجة المعارك والحرب بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكفار قريش ، وهم يعلمون أن مفاهيم الكفر وعبادة الأوثان لا يمكن أن تستمر بسلطانها في البيت الحرام .
ولما دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة فاتحاً وعفى عن كفار قريش وقال (اذهبوا فانتم الطلقاء) ( ) توافد رجال القبائل إليه ، ومنهم رؤساء وسادات تلك القبائل وأهل الحل والعقد فيها ، وكانت الغاية والمقاصد من هذه الوفادة متعددة منها :
الأول : الإطلاع عن كثب على أخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومعرفة معجزات النبوة والرجوع إلى قومهم لإخبارهم ، ويروى رأيهم .
الثاني : دخول الإسلام ، وتعلم أحكام الشريعة وآداب الصلاة ، وأكثر الوفود من هذا الوجه .
الثالث : يأتي الوفد مبعوثاً من قومه لإستقراء أمر النبوة ، مع تفويضه دخول الإسلام ، ودخولهم معه بالتبعية والتسليم في الإسلام .
الرابع : السؤال من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإيفاد بعض الصحابة إلى القبائل لتعليمهم أحكام وشرائع الإسلام ، وإمامتهم في الصلاة .
الخامس : الحضور إلى المدينة لرد الأسرى والسبايا والأنعام ، كما في وفد هوازن بعد معركة حنين ، ولم يكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعضاء الوفود على دخول الإسلام .
السادس : إرادة طلب الأمان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم , والموادعة مع المسلمين وسراياهم , وتقديم نوع إعتذار عن معاونة كفار قريش والتبرء منهم , ومن إيذائهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع : الحضور للجدال والمفاخرة .
الثامن : إعلان الطاعة ودفع الزكاة ، وإرادة إتقان أركان الصلاة .
التاسع : سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لرد السرايا عن قومهم.
العاشر : التأكد من صدق الرسل والوفود التي بعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تلك القبائل .
الحادي عشر : التبصرة في المعارف , والإحاطة الإجمالية بفرائض الإسلام .
الثاني عشر : رؤية صدق إيمان المهاجرين والأنصار ، وطاعتهم لله والرسول ، وحسن الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ).
الثالث عشر : سؤال الإعانة والعون من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن أول تلك الوفود وفد عبد قيس ، وكانوا يسكنون شرق الجزيرة العربية ، وبينما يحدث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه , قال لهم : سيطلع عليكم من ها هنا ركب هم خير أهل المشرق ، فجاء ثلاثة عشر رجلاً وأخبرهم عمر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكرهم بخير وأثنى عليهم ، فما ان وصلوا المسجد حتى رموا أنفسهم عن ركبانهم وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسرعين بثياب السفر فقبّلوا يده .
وتخلف الأشج في الركب ثم جاء (حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقبلها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ” إن فيك خلتين يحبهما الله ورسوله “.
قال: جبل جبلت عليه أم تخلقا مني ؟ قال: بل جبل.
فقال: الحمد لله الذى جبلني على ما يحب الله ورسوله) ( ).
وفي خبر آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر الخصلتين الحلم والأناة ، إذ كان الأشج رجلاً دميماً , وقال : انما يحتاج من الرجل إلى أصغريه لسانه وقلبه .
وذكر أن مسجد عبد قيس هو أول مسجد أقيمت فيه الجمعة بعد مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال تعالى({الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ}( ) أي طاعته[وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ]( )، أي في طاعة الشيطان {فَقَاتِلُوا} أيها المؤمنين {أَوْلِيَآءَ الشَّيْطَانِ}( ) ، أي حزبه وجنده {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ} ومكره وصنيعه ومكر من اتّبعه {كَانَ ضَعِيفًا}( )، كما خذلهم يوم بدر. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ}( ).
قال الكلبي : نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهري ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وقدامة بن مظعون الجهني ، وسعد بن أبي وقاص الزهري ، وكانوا يلقون من المشركين أذى كثيراً وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة فيشكون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ويقولون : يا رسول الله أئذن لنا في قتال هؤلاء فإنّهم آذونا.
فيقول لهم : كفّوا أيديكم (عنهم) فإني لم أُومَر بقتالهم) ( ).
والكلبي هو أبو النضر محمد بن السائب بن بشر الكلبي ت 146 هجرية ، وهو إخباري نسابة له تفسير كبير بلحاظ زمانه ، وهو قصّاص مشهور في الكوفة ، كثير التحديث , ويروي عن أبي صالح موسى عن هانئ عن ابن عباس .
وكان يخلط بين الصحيح والضعيف ، وينسب حديثه أحياناً لابن عباس، وليس بتام .
وعن (يزيد بن هارون يقول كان الكلبي يعقد لحيته ثم يكون بعد العقد مثل لحيتي ) ( ).
وقد أخرج الترمذي وبعض الأعلام عن الكلبي ، ومنهم من قال أن الكلبي متروك ، وأنه ليس بثقة ، وأنه كذاب ، والمختار أنه ضعيف ، وينسب إلى ابن عباس ولم يثبت عنه إلا أنه لا يعني أن ما ورد في تفسيره كله متروك أو كذب , ففيه ما هو صحيح في نسبته , وعدم معارضته مع الكتاب والسنة .
فيؤخذ منه ما يوافق القرآن والسنة النبوية وما يعضد بأخبار أخرى ، وعلى القول بأن الصحابة في مكة كانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتال رجال قريش الذين كانوا يؤذونهم ، فكان حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالصبر ، وإظهاره أسمى مراتب الصبر والتحمل مع الإجتهاد في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة برزخاً دون طلب القتال ، ولو أذن لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال أو سكت عن الصحابة ، ولم يجبهم لقاموا بقتال المشركين , ولكن من منهاج النبوة الصبر وعدم إبتداء المسلمين القتال .
لقد أكرم الله عز وجل البيت الحرام , ومنه تجلي وبيان معاني الأمن والأمان فيه ,ويدل قوله تعالى [لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ]( )، على المنافع العظيمة لقريش بإقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة , وأن هجرته سبب لنزول البلاء بهم .
والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو أكثر الناس الذين يتعاهدون الأمن والأمان في البيت الحرام ، ويحرصون عليه ، ومن الإعجاز في المقام أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يوصي أهل بيته وأصحابه بالصبر وتحمل الأذى , لأخلاق النبوة , وإكراماً للبيت الحرام، وإقامة للحجة على الذين كفروا من قريش ، وعندما اشتد ايذاؤهم للمؤمنين ، طلب من طائفة من أصحابه اختيار الهجرة إلى الحبشة .
وعن ابن إسحاق : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهى أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه.
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم)( ).
لقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفرج لإرادة السعة والمندوحة للمسلمين بالهجرة ، وهو أعم من أن يختص بذات المهاجرين إلى الحبشة إنما يشمل عامة المسلمين ، إذ صارت هذه الهجرة نواة هجرة عامة الصحابة ، وصار الصحابة الذين يغادرون مهاجرين إلى يثرب المدينة في غبطة بلحاظ بلحاظ أمور:
الأول : قرب المدينة من مكة .
الثاني : غالب أهل المدينة من العرب .
الثالث : وجود أخوة مسلمين لهم فيها .
الرابع : قدوم الرسول إليها من بعدهم .
الآية الثامنة
قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] ( ) تدل الآية أعلاه على تنزيه الأنبياء مجتمعين ومتفرقين عن الخيانة في ميدان القتال ، وفيه شاهد على فضل الله عز وجل عليهم بنزول القرآن ، وبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن هذا التنزيه باق ومتجدد إلى يوم القيامة .
وهل يدل على عصمة الأنبياء أم لابد من الجمود على النص والقدر المتيقن ، وهو التنزه عن السرقة والأخذ من الغنائم في ميدان المعركة ، الجواب هو الأول لعصمة الأنبياء عن الخيانة الشخصية والعامة ، وللتنافي بينهما وبين الإمامة ، وفيه تأكيد بأن العصمة ملكة مصاحبة للأنبياء حتى في ميدان القتال ومجئ الأموال الكثيرة والغنائم والذهب، والفضة وصيرورتها بين يدي النبي وفي بيته، وتحت تصرفه.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تسميته وهو في مكة وقبل البعثة النبوية بالصادق الأمين إذ يقر ويفتخر أهل مكة ومنهم المشركون بتنزهه عن الكذب والخيانة ، ليكون من باب الأولوية القطعية التسليم بعد البعثة بصدقه وأمانته في الوحي والتنزيل ، وفي الغنائم والأمور العامة وعصمته من المعاصي والسيئات ، وترفعه عما لا يليق من القول والفعل ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
وفيه شاهد على أن الله عز وجل يصلح الرسل للإمامة العامة في أمور الدين والدنيا ، وتفضل الله عز وجل باحاطة الناس علماً بالخصائص الحميدة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل وبعد البعثة النبوية وعندما كان في مكة وبعد هجرته إلى المدينة .
ليكون الأنبياء عامة والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة أسوة للمسلمين في الإمتناع عن الأخذ من الغنائم بغير حق ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
ومما يتصف به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوفاء بالعهود والمواثيق، والعفو عن الناس، والإمتناع عن الغدر ، وكان أصحابه يسألونه عقوبة من يؤذيه ولكنه يدعوهم إلى الصبر ثم أدركوا أنه لا يخاف عنده حتى الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم ، فصار العفو سنخية وصبغة دائمة عنده، قال الله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ] ( ).
ومن معاني ومنافع تقيد المسلمين بعدم الغلول بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصعد على المنبر ويحذر المسلمين من الغلول ويعظم أمره ويبين شدة عقابه في الآخرة.
كما كان يوصي الأمراء وعامة أصحابه باجتناب الغلول لقبحه الذاتي ، ولما فيه من الضرر على أفراد الجيش وعامة الناس لما فيه من أمور :
الأول : الإقدام على النهب والسلب للطمع الشخصي.
الثاني : قد يكون الغلول سبباً لإخفاء الغنيمة عندما يأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعادتها إلى أهلها.
الثالث : الفتنة بين أمراء جيش المسلمين.
الرابع : دخول عين محرمة إلى بيت من بيوت المسلمين.
الخامس : صيرورة بعض أفراد الجيش منشغلين بالكسب الشخصي، وجمع المال.
السادس : التباهي بالغلول على فرض وقوعه إغراء للآخرين بالقيام به.
وعن معاذ بن جبل قال ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن، فلما سرت أرسل في أثري فرددت.
فقال: ” أتدري لم بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئاً بغير علم فإنه غلول ( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) ( )، لقد أذعرت فامض إلى عملك) ( ).
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمكارم الأخلاق وتنمية ملكة العدالة وأسباب صلاح المجتمعات ، ونبذ النفرة والكدورة بين المؤمنين ، ومن خصائص كل آية في القرآن صيرورة الإنسان رقيباً على نفسه وجوارحه وأقواله وأفعاله ، وهذه الرقابة نوع طريق لاستحضار أهوال يوم القيامة .
ومن إعجاز آية (من يغلل) التذكير بحضور العين المغلولة مع صاحبها لتكون سبباً لفضحه وخزيه بين الأشهاد ، وهل يكون هذا الغلول برزخاً وحاجباً دون شفاعة النبي محمد صلى الله عليه آله وسلم له، الجواب لا .
(عن السائب بن يزيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
فضلت على الأنبياء بخمس بعثت إلى الناس كافة وادخرت شفاعتي لأمتي ونصرت بالرعب شهرا أمامي وشهرا خلفي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي) ( ) وفي الحديث مسائل :
الأولى : إختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء بحلية الغنائم.
وهل فيه شاهد على أن النبي محمداً لم يغز أحداً إنما كان يدافع عن التوحيد ، الجواب نعم ، لأن التفضيل جاء بقيد وصفة النبوة ، وتأتي الغنائم بسبب إبتداء الذين كفروا القتال ثم هزيمتهم وفرارهم أو وقوعهم أسرى ، كما في معركة بدر ومعركة حنين .
الثانية : إنتفاع المسلمين مما أحلّ الله عز وجل لرسوله الكريم .
الثالثة : لزوم شكر المسلمين لله عز وجل على الغنائم باجتناب الغلول مع حلية الغنائم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه كان يخرج بأصحابه حول المدينة ، ويمر على قرى المشركين فلا يغزوهم ، بل يقوم بعقد موادعة معهم ويدعوهم لإجتناب إعانة الذين كفروا في هجومهم وغزوهم للمدينة وأطرافها .
الرابعة : صيرورة الرعب الذي يسبق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة لهروب الذين كفروا بأموالهم ، أو أنهم يختارون دخول الإسلام ليصبحوا في مأمن وحرز الإسلام ، ويكون لهم ما للمسلمين ، فمع حلية الغنائم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان الله عز وجل جعل سعة ومندوحة للناس عند تقدم ألوية الإسلام ، إما بدخول الإسلام أو الهروب ، وحتى هذا الهروب فهو وسيلة للتدبر والتفكر في لزوم الإيمان ونبذ عبادة الأصنام .
وعن عبادة بن الصامت عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (فأدوا الخيط والمخيط وإياكم والغلول فإنه عار على أهله يوم القيامة) ( ) .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يؤسس إلى دولة [خَيْرَ أُمَّةٍ]( )، وتتصف بأمور :
الأول : حفظ الأموال العامة.
الثاني : صيرورة التنزه عن الخيانة ملكة عامة عند المؤمنين والمؤمنات.
الثالث : حث العوائل والأسر على اجتناب أمور :
أولاً : إخفاء السرقة والمال الحرام.
ثانياً : التواطئ في أكل السحت.
ثالثاً : الإغراء وحث الأولياء على الغلول ونحوه.
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إعادة أكثر الغنائم إلى أهلها عند اسلامهم وعند سؤالهم ورجائهم إعادتها، والغلول برزخ دون تمام هذه الإعادة، فجاءت آية النهي عن الغلول والسنة النبوية لتهيئة المقدمات والأسباب في إعادة هذه الغنائم والأموال الى أهلها .
وهل يختص الغلول بالأموال المنقولة خاصة ما خف وزنه وغلى ثمنه الجواب لا، إنما يشمل أموراً :
أولاً : الغلول وسرقة المواشي والأنعام.
ثانياً : الإستيلاء على الأراضي والبيوت والأثاث.
ثالثاً : الإستحواذ على السبايا من النساء والصبيان ومنهم الأطفال الرضع.
ومن خصائص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة المسلمين الى الإقتداء بالأنبياء، والتحلي باتباع نهجهم، وهو من أسرار بيان جهادهم وقصصهم في القرآن , قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها آخر آية من سورة يوسف التي انفردت بخصوصية وهي أنها السورة الوحيدة التي اختصت بقصة نبي من الأنبياء هو النبي يوسف ابن النبي اسحاق ابن الرسول إبراهيم عليهم السلام.
وهل الإخبار عن مجئ صاحب الغل بما سرق وأخذ خلسة من الغنائم والمال العام يوم القيامة من باب التخويف بلحاظ إكرام المؤمنين يوم القيامة، أم أنه حق وحقيقة .
الجواب هو الثاني لأصالة الحقيقة، وعدم التعارض بين اكرام المؤمنين وبين إحضار الغلول، لعمومات الحساب، قال تعالى[الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
لتكون آية البحث حجة على الناس، ودعوة لهم للإحتراز من شدة الحساب يوم القيامة، ولو أخذ المسلم من الغلول هل يزيد رزقه الذي كتبه له الله بالحق، الجواب لا، إنما استبدل الحلال بالحرام، وما فيه الأجر والثواب بما فيه الفضيحة يوم القيامة والحساب.
مفهوم الموافقة في الآية
من مصاديق الآية وجوه :
الأول : تأكيد عصمة الأنبياء.
الثاني : الوحي الذي ينزله الله للأنبياء واقية من الغلول والفواحش الظاهرة والخفية.
وهل في الآية شاهد على عصمة يوسف عليه السلام، وعدم دنوه من امرأة العزيز في قوله تعالى[وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ]( )، الجواب نعم، وتقدير آية البحث: وما كان لنبي أن يغل أو أن يفعل أي فاحشة.
الثالث : يا أيها الناس ان الإسلام برئ من الغلول، ومن يغل فانما هو فعل معصية.
الرابع : وجوب الإستعداد ليوم القيامة بالإمتناع عما نهى الله عنه.
الخامس : الأجر والثواب يوم القيامة للمسلم والمسلمة اللذين امتنعا عن الغلول، فان قلت إنما القتال ساقط عن النساء، الجواب نعم، ولكن المرأة قد تشترك في الغلول من جهات :
الأولى : جمع الغلول.
الثانية : إخفاء الغلول.
الثالثة : التصرف بالغلول.
الرابعة : إنكار صفة الغلول عما في البيت أو اليد.
الخامسة : بيع الغلول.
السادسة : الشهادة زوراً بخصوص الغلول، فجاءت الآية للتحذير من هذه الخصال المذمومة التي قد تصدر من الرجل أو المرأة.
ومن إعجاز القرآن فرض الصلوات الخمس على كل من الرجل والمرأة في الإسلام لتنمية العصمة عندهم من فعل السيئات، وإرتكاب الآثام.
السادس : التذكير بيوم القيامة، وعالم الحساب.
السابع : ترغيب الناس بعمل الصالحات وإنذارهم من فعل السيئات، قال تعالى[كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ]( ).
الثامن : إنذار المنافقين من الغلول، والأخذ خفية من الغنائم، وإثارة أسباب الفتنة، قال تعالى[وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( ).
التاسع : بيان قانون للناس جميعاً أن من يدخل الإسلام يجب عليه ألا يغل ويأخذ من المال العام، فلا يختص الغلول والنهي عنه بأيام النبوة، وغنائم الحرب، إنما هو أمر متجدد وعام في كل زمان ومكان، وشامل لأموال الدولة , وحقوق الناس مسلمين أو غير مسلمين.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إن الناس مسلطون على أموالهم( ).
فلم يحصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم السلطان على المال الخاص بالمسلمين إنما هو عام لكل الناس، وهل يشمل الدول والمؤسسات والشركاء الجواب نعم، لبيان دعوة وحرص وما يرافقه من الأمن المجتمعي، والطمأنينة في النفوس، وبذل الوسع في التجارة والمكاسب والإستثمار.
العاشر : ما كان لنبي أن يغل فاتبعوا الأنبياء في نهجهم.
الحادي عشر : سيأتي يوم القيامة وليس مع أي منهم غلول.
الثاني عشر : سيتجلى للناس يوم القيامة أن النبي محمداً لم يأخذ قطيعة حمراء أو أي شئ من الغنائم خلسة.
الثالث عشر : تنزه النبي محمد صلى لله عليه وآله وسلم في كل معارك الإسلام عن الغلول، وعن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية { وما كان لنبي أن يغل } ( )في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر فقال بعض الناس : لعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذها فأنزل الله وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ.
الرابع عشر : لقد اثنى الله عز وجل على المسلمين ومدحهم بقوله [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ). فاذا كان المسلمون لا يتقيدون بأحكام الإمتناع عن الغلول فلا يبقى إلا الأنبياء منزهين عن الغلول، ويأبى الله عز وجل إلا أن تكون الخصال الإيمانية الحميدة باقية عند الناس وهو من فيوضات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
مفهوم المخالفة في الآية
وفيه مسائل :
الأولى : وما كان لنبي أن يغل، ومن يأخذ من الغنائم خفية يخالف نهج الأنبياء.
الثانية : القبح الذاتي للغلول للنهي عنه من عند الله والتنزه الأنبياء عنه.
الثالثة : طوبى للذين لا يغلون يوم القيامة فلا يحضر معهم الغلول الذي يفضحهم بين الخلائق .
الرابعة : أخذ الغلول ضرر ووبال في الدنيا والآخرة.
الخامسة : الذي يغل ليس بنبي.
السادسة : تتضمن الآية في مفهومها الثناء على المسلمين الذين يتنزهون عن الغلول.
السابعة : المنع من الغلول نوع زجر عن الغزو والهجوم، وهو من باب سدّ الذرائع .
الثامنة : منع المسلمين والناس من الإساءة للأنبياء ومقاماتهم السامية.
التاسعة : تنزه الله عز وجل عن ظلم العباد.
وهل آية البحث من مصاديق خاتمتها[وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] الجواب نعم من وجوه :
أولاً : تبعث الآية على التفقه في الدين.
ثانياً : في الآية إنذار للمسلمين والمسلمات من الغلول.
ثالثاً : إقامة الحجة على الذين يأكلون من الغلول .
رابعاً : تقدير الآية : وهم لا يظلمون في الدنيا والآخرة.
ولقد تضمنت الآية أموراً :
الأول : الإبتداء بالثناء على الأنبياء.
الثاني : تنزه الأنبياء عن الغلول , قال تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
الثالث : إثم وعقوبة الذي يأخذ من الغنائم والمال العام خلسة.
الرابع : حضور الغل مع صاحبه يوم القيامة , قال تعالى[وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( ).
الخامس : شكر المسلمين لله عز وجل على تحريم الغلول لما فيه من تعاهد معاني الأخوة بينهم ، ولبيان الإعجاز في تحقق المصاديق الواقعية للآية القرآنية بآية أخرى تتضمن الأمر والنهي ، إذ تجعل آية البحث المسلمين والمسلمات يعملون بسنن قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) في حال السلم والحرب والقتال .
السادس : لزوم تعاون المسلمين بالإمتناع عن الغلول ، وهو من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعمومات قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
السابع : من مفهوم المخالفة لقوله تعالى [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ) من إمتنع عن الغلول ينال الثواب يوم القيامة بلحاظ أن هذا الإمتناع أمر وجودي ، لم يتم إلا عن إرادة وقصد طاعة الله ورسوله .
الثامن : لقد ذكرت آية البحث قانوناً وهو إحضار الدليل العيني والشاهد على الإدانة مع صاحبه ، مما يدل على البشارة بحضور عمل الصالحات والخيرات مع أهلها .
التاسع : أختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] ( ).
ولا يختص بأصحاب الغلول ، إنما هو قانون من الإرادة التكوينية يتغشى الناس جميعاً في يوم الحشر بدليل ما قبله ، وهو قوله تعالى [ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ] ( ) وفيه دعوة للمسلمين لعمل الصالحات وللناس جميعاً للتوبة والإنابة والإقرار بالوحدانية والرسالات والوقوف بين يدي الله عز وجل للحساب ، ويمنع هذا الإقرار العام من الغلول لإنتفاء التضاد والحروب بين أهل الإيمان والكفار ، ولعدم قيام الذين كفروا بغزو المؤمنين .
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً ولا تختص هذه الحاجة به وهو خليفة الله في الأرض بل هي ملازمة لعالم الإمكان والخلائق , ويمتاز الإنسان بأنه محتاج لرحمة الله في الدنيا والآخرة، وأيهما أكثر , الجواب حاجته في الآخرة هي الأشد والأعظم.
فجاءت آية البحث لإصلاح النفوس، وتهذيب عالم الأفعال، ومحاربة الطمع والسرقة والإستحواذ على الحق العام والملك الشخصي، والتخويف بعالم الحساب والعقاب في الآخرة .
وحينما ذكرت آية البحث أهوال يوم القيامة أخبرت بما يبعث السكينة في نفوس المؤمنين الذين يطيعون الله ورسوله ويتنزهون عن الغدر والخيانة .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يبدأ قوماً بقتال وإذا التقى الصفان للقتال، واختار الكفار الإنسحاب فانه لا يطاردهم، ولا يأمر برميهم بالسهام , وكان يأمر أداء السرايا بدعوة الناس إلى كلمة التوحيد، وعدم الإبتداء بقتال.
وجاءت آية البحث لمنع المسلمين من التحريض على مطاردتهم أو مباغتتهم طمعاً بالغلول وحيازة الغلول.
وقد يكون إنسحاب العدو هذا نتيجة سماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينادي بأعلى صوته بنداء التوحيد (قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا)( )، لينادي باسمه في الأذان والشهادة له بالرسالة مع كلمة التوحيد في مشارق ومغارب الأرض وقد يجعل تفكير المسلم بالغلول ورغبته برحمته يترك موضعه في القتال ويختار الذهاب الى المال والحرز والغنيمة، وفي معركة أحد ترك الرماة مواضعهم طمعاً بالغنائم مع تنزهم عن الغلول، وكان هذا الترك سبباً لخسارة المسلمين في المعركة وفقد سبعين شهيداً، فكيف إذا كان شطر من المسلمين يسعى لجمع الغلول وحيازة المال للذات وهل يسبب هذا السعي الخصومة بين المسلمين، الجواب نعم.
وقد يؤدي إلى الإقتتال بينهم، والشواهد التأريخية بخصوص الجنود والفرق التي تسعى للحيازة الخاصة كثيرة، وتفيد وقوع القتال بينهم، وقد يقتلون جميعاً فلا ينتفعون من الغلول.
ومن إعجاز الآية مجيؤها بصيغة الفعل المضارع[وَمَنْ يَغْلُلْ] ( ) للتحذير من الغلول في قادم الأيام ومعارك الإسلام اللاحقة , ولتبقى مضامين الآية إلى يوم القيامة , فان قلت لم تتضمن الآية صيغة الأمر والنهي، الجواب قد تضمنت صيغة النهي، من جهات:
الأولى : الجملة الخبرية، ونفي الغلول عن الأنبياء جميعاً.
الثانية : صيغة الجملة الشرطية [وَمَنْ يَغْلُلْ] ( ).
الثالثة : التحذير والإنذار من الغلول .
الرابعة : التذكير بيوم القيامة وعالم الحساب .
الخامسة : مفهوم الثواب لمن يعمل الصالحات، والإثم والعقاب للذي يعصى الله ورسوله , قال تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه] ( ).
بين هجرة موسى ع وهجرة النبي محمد
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار التبليغ والهداية إلى الإيمان ، وتفضل بالوحي والتنزيل مدداً وعوناً للأنبياء والصالحين في الدعوة والتبليغ ، ولم يترك الأمر خاصاً بالعقل والجهد الشخصي والمبادرة .
وتلقى أولياء الشيطان الدعوة إلى الإيمان بالجحود وإظهروا الإستخفاف بالأنبياء ونعتوهم بالجنون، ولم يزد هذا التلقي المؤمنين إلا ثباتاً في مناهج التقوى , قال تعالى[ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي]( ) .
وقد ورد لفظ (مجنون ) احدى عشرة مرة في القرآن منها ثمانية في نعت الذين كفروا الأنبياء بالجنون , منهم :
الأول : الرسول نوح عليه السلام ، كما في التنزيل [كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ] ( ).
الثاني : الرسول موسى عليه السلام ، إذ ورد عن فرعون في التنزيل [قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ]( ).
الثالث : الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم , لميل الذين كفروا للإقامة على الضلالة , وعنادهم، وكراهتهم لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ]( )، وتفضل الله عز وجل بالشهادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة , وأنه هو الذي ينزل عليه الوحي وآيات القرآن .
ترى ما هي النسبة بين هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وهجرة وخروج موسى عليه السلام من مصر وهروبه من فرعون قبلها .
الجواب النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه , ومادة الإلتقاء من وجوه :
الأول : كل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وموسى عليه السلام رسول من الرسل الخمسة أولي العزم .
الثاني : هجرة كل منهما من القوم الظالمين .
الثالث : لم يهاجر كل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وموسى عليه السلام إلا بالوحي .
الرابع : تجلي المعجزة في طريق الهجرة، كما تقدم في ذكر معجزات النبي محمد في طريق الهجرة , وفي موسى عليه السلام قال تعالى[فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ]( ).
الخامس : عجز القوم الظالمين عن اللحاق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا بالنبي موسى عليه السلام من قبل .
السادس : ذكر القرآن لكل من الهجرتين توثيق لموضوعهما , ليبقى موعظة للأجيال في كل زمان .
السابع : نجاة كل من موسى عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة بآية ومعجزة من عند الله عز وجل.
أما مادة الإفتراق , فمن وجوه منها :
الأول : خروج موسى عليه السلام مع قومه من بني إسرائيل وجاء وفي سِفر الخروج , (فارتحل بنو اسرائيل من رعمسيس الى سكوت نحو ست مئة الف ماش من الرجال عدا الاولاد و صعد معهم لفيف كثير ايضا مع غنم و بقر مواش وافرة جدا) ( ).
بينما لم يخرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أبو بكر , نعم سبقه عدد من الصحابة , وبعد أن نام الإمام علي عليه السلام في فراشه ليلة عزمت قريش على قتله , قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
الثاني : مصاحبة المعجزة العقلية والحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة , وآية العصا لموسى عليه السلام , قال تعالى [وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ]( ) .
ولقد صاحب القرآن وتوالي نزول آياته والوحي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في طريق هجرته, وهو معجزة عقلية , إلى جانب المعجزات الحسية .
الثالث : خرج موسى عليه السلام وقومه من مصر خوفاً من فرعون إلى البيداء والتيه , وقد توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مدينة يثرب حيث الأنصار من الأوس والخزرج بانتظاره لتعمر المدينة بالتقوى إلى يوم القيامة .
الرابع : غرق فرعون وجنوده عندما أرادوا اللحاق بموسى عليه السلام وأصحابه , وقد عجزت قريش عن اللحاق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , نعم أخذوا يواصلون الغارة على المدينة , وقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الخامس : لقد سعى فرعون وجنوده في اللحاق بموسى عليه السلام وقومه، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد طلبته قريش وهم أهله وأبناء عمومته وقد ورد قوله تعالى[وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، فهل كانت هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنذاراً لهم ، الجواب نعم.
السادس : لقد عبر موسى عليه السلام وقومه البحر بمعجزة وليس بين مكة والمدينة من بحر.
السابع : كان مع موسى عليه السلام أخوه هارون نبياً , وليس مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (نبي) وهو خاتم النبيين وسيد المرسلين .
وأكثر الآيات في هذا المقام تتعلق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان شدة الأذى الذي لاقاه من قومه ، وصبره وعدم اختياره القتال والقتل، إنما كان يدعوهم بالحجة والبرهان ، كما أن آيات القرآن تتوالى بالنزول، وفي كل يوم هناك دعوة سماوية ناضرة جديدة تدعوهم إلى الهدى والإيمان ، وفي التنزيل[وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ]( ).
وتدل الآية أعلاه على أن المشركين يقرون ويسلمون بأن القرآن نازل من عند الله عز وجل ، ولكنهم يتخذون المغالطة علة لعنادهم وجحودهم، ومنع الناس من التصديق برسالته ، إذ يدّعون أن آيات الذكر والتنزيل تأتي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مجنون يمسه الشيطان ، والجنون فساد العقل ، لبيان حسد واستكبار بعض رجالات قريش .
ومن إعجاز القرآن نفي سلطان الشيطان وأعوانه عن الذين آمنوا، ليكون من باب الأولوية القطعية سلامة الأنبياء من المس ، وأثر وإغواء الشيطان وأعوانه مطلقاً .
وقد جاء الجزء السابع والستون بعد المائة من هذا السفر المبارك خاصاً بتفسير قوله تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) .
والذكر هو القول أو الكتاب المقروء ، وهو مصدر , سمّي ذكراً لأنه يذكر أموراً أو أنه يذّكر الناس بما يجب عليهم .
والقرآن مصدر قرأ أطلق على اسم المفعول ، والمراد الكلام المقروء .
والآية أعلاه من سورة الحجر نزلت في ذم بعض رؤساء الكفر، على أقوال :
الأول : عبد الله بن أمية .
الثاني : النضر بن الحارث .
الثالث : نوفل بن خويلد .
الرابع : الوليد بن المغيرة .
الخامس : عقبة بن أبي معيط .
ومن خصائص الذين كفروا ذم النبوة وملاقاة نبي زمانهم بالإعتداء عليه ، كما في قوله تعالى [كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ] ( ) .
وفي الآية حجة على الذين كفروا الذين كرهوا التسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حسداً وتكاسلاً عن أداء الفرائض العبادية .
ولم يكتف القرآن بنفي الجنون عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما خاطب المسلمين والناس جميعاً بقوله تعالى[وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ] ( ) .
وهل يمكن القول بقانون : أن كل آية من القرآن تنفي الجنون عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين ، الجواب نعم ، وهو من فضل الله بالقرآن .
وكانت السنة النبوية شاهداً كالشمس في رابعة النهار على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتنزهه عن مس الشيطان والسحر والكهانة والجنون ، وسرعان ما زال سحر الذين كفروا والغشاوة التي أرادوا جعلها على أعين الناس ، فامتنعوا عن الخروج معهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصاروا يدخلون الإسلام أفواجاً ، وكانت قبائل العرب ترقب حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع قريش كما في حديث عمرو بن سلمة الذي قال :
(كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم: ما للناس ما للناس ؟ ما هذا الرجل ؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله وأوحى إليه كذا، فكنت أحفظ ذاك الكلام، فكأنما يغرى في صدري، وكانت العرب تلوم( ) بإسلامهم الفتح فيقولون: أتركوه وقومه، فإن إن ظهر عليهم فهو نبى صادق.
فلما كانت وقعة أهل الفتح( )، بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي حقا.
قال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم , وليؤمكم أكثركم قرآنا فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا مني لما كنت أتلقى من الركبان.
فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت على بردة إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تغطون عنا است قارئكم؟ فاشتروا فقطعوا لي قميصا، فما فرحت بشي فرحي بذلك القميص)( ).
وحتى الذي يبعثه المشركون لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويعدونه لإغتياله ، فانه سرعان ما يرى المعجزة التي تحول دونه ودون اغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيبادر إلى دخول الإسلام .
ولقد عاش النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو أربعين سنة بين ظهراني قريش في مكة قبل النبوة ، وخرج بالتجارة ، وكانوا يسمونه بالقاب حميدة منها :
الأول : الصادق .
الثاني : الأمين .
الثالث : راجح العقل .
وكان رجالات قريش يستشيرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويجعلونه حكماً .
وعندما كان عمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خمساً وثلاثين سنة أي قبل البعثة النبوية بخمس سنوات أعادت قريش بناء الكعبة ، واختلفوا بينهم أيهم يضع الحجر الأسود في موضعه لما في القيام بوضعه في محله من الفخر ، وكاد يقع بينهم قتال .
ثم أشار عليهم أبو حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم بأن يحكّموا أول داخل من باب الصفا ، وهو الذي يختار من يضع الحجر الأسود في محله، ويقضي بينهم فتراضوا على هذا ، فكان الداخل إلى البيت هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فَلَمّا رَأَوْهُ قَالُوا : هَذَا الْأَمِينُ رَضِينَا ، هَذَا مُحَمّدٌ) ( ) وفيه مسائل :
الأولى : تسليم وإقرار كبار رجالات قريش بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أمين مؤتمن، والإجماع على وثاقته وحكمته وهو منزه عن الخيانة وعن الكذب .
الثانية : إقامة الحجة على الذين كفروا بلزوم تصديقه إذا جاءته النبوة ، فاذا كان أميناً في أمور وحقوق الناس ، فمن باب الأولوية أنه أمين فيما يخبر عنه من الوحي والتنزيل الذي يأتيه .
ومن الآيات في المقام الحجة التي تختص بقياس الأولوية فآيات القرآن وما تتضمنه من الإعجاز شاهد على صدق نزولها من عند الله عز وجل .
الثالثة :حادثة وضع الحجر الأسود في موضعه دعوة متقدمة لقريش لتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته، لقد رضوا به حكماً فيجب أن يرضوا بالمعجزات التي جاء بها من باب الأولوية القطعية.
الرابعة : بيان قانون وهو درء الفتنة بين القبائل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحكمته، وهو نوع مقدمة وأمارة بانتهاء الفتن، وإنحسار الحروب في الجزيرة ببعثته.
الخامسة : من الشواهد والحجة على قريش تسميتهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمين، لثبوت صدقه وحسن معاملته في التجارة، وإصلاحه بين الناس، وفيه دعوة لأهل مكة والقرى والأمصار بتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ]( )، لبيان أن الذين كفروا افتروا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاء القرآن للقطع بقانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يخبر عن الله، ويبلغ بصدق آيات التنزيل، وأن الله عز وجل عصمه من الخطأ والزلل في التبليغ.
السادسة : يمكن استقراء اسم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الحديث أعلاه وهو(المرضي) إذ يرضى عليه حتى أعدائه، وهذه الصفة مصاحبة للنبي محمد صلى الله عيله وآله وسلم ولميراث النبوة.
بحث أصولي
يسمى الواجب على وجوه :
الأول : الفرض .
الثاني : الحتم .
الثالث : اللازم .
وقال الحنفية بالتقسيم بين الفرض والواجب ، وأن الفرض ما ثبت بدليل قطعي ، أما الواجب فهو ما ثبت بدليل ظني مثل خبر الواحد والقياس.
والمشهور والمختار أن الفرض والواجب بمعنى واحد .
وينقسم الواجب بلحاظ ذاته إلى قسمين :
الأول : الواجب المعين : وهو الواجب المطلوب أداؤه على نحو الحصر والتعيين مثل الصلاة كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( ) فانها واجبة بعينها ، وليس لها بدل أو عوض ، وكذا مثل صيام شهر رمضان ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ) ويلزم قاعدة الإشتغال ووجوب أدائه بالذات لتبرأ الذمة .
الثاني : الواجب المخير الذي يجب أن يؤدى بأحد أفراد محصورة ومبينة، مثل كفارة اليمين كما في قوله تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) وكذا بالنسبة لكفارة الإفطار العمدي في شهر رمضان فانها تخيريية .
ولا كفارة في الإفطار عن مرض وعذر ونحوه , وكفارة الإفطار العمدي هي :
الأول : إطعام ستين مسكيناً .
الثاني : عتق رقبة .
الثالث : صيام شهرين متتابعين .
ومن الفقهاء من قيد وجوب الكفارة أعلاه بما إذا كان الإفطار بالجماع ، وأما إذا كان بالأكل والشرب ، فليس فيه إلا القضاء .
وتعريف الواجب في الإصطلاح المنطقي هو ما طلب الشارع من المكلف فعله على سبيل القطع والإلزام
وفي الفقه عرّف بعدة تعريفات منها ذات التعريف أعلاه ، ومنها ما توعد الشارع على تركه ، ومنها ما يثاب فاعله ويذم تاركه.
وفرق بين التعريف المنطقي لأنه تعريف بماهية الشئ ، وليس الحكم جزءً من التعريف، وقيل أن الفقهاء يعرفون الشئ بحكمه والنظر إلى ثمرة التكليف.
ولا دليل على هذا التقسيم إذ أن الفقهاء يجعلون حقيقة الشئ في أصل التعريف أيضاً ، ليكون بين التعريف الفقهي والمنطقي عموم وخصوص مطلق ، وهو من أسرار دراسة طلبة العلوم الدينية للمنطق وأصوله .
وقسم الحنفية الحرام إلى قسمين :
الأول : الحرام الثابت بدليل قطعي الثبوت والدلالة .
الثاني : المكروه تحريماً ، وهو الثابت بدليل ظني الثبوت والدلالة.
الآية التاسعة
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ]( ).
توجه الخطاب في الآية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهل هو من مختصاته صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا ، إنما هو خطاب عام للأمة من جهات :
الأول : التبعية .
الثانية : الإلحاق .
الثالثة : التكيف العام .
الرابعة : وحدة الموضوع في تنقيح المناط .
ومن الإعجاز في الآية أنها ذكرت الأيدي بصيغة الجمع بالذات ولغة الخطاب للمسلمين بقوله تعالى [أَيْدِيكُمْ] لبيان أن الأسرى بيد المسلمين .
وقد جعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدل وعوض كل أسير لمن أخذه وأسره من المسلمين ، وينطق المسلمون بذات الآية أعلاه في الصلاة ويعملون بمضامينها (وكان العباس بن عبد المطلب يقول : أعطاني الله هذه الآية { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى }( ) وأعطاني بما أخذ مني أربعين أوقية أربعين عبد/اً) ( ).
ولكن هذا لا يعني ان الآية نزلت فيه ، إنما هي عامة في الأسرى كلهم ، وهل تختص بأسرى بدر ، الجواب لا ، وهذه الآية من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
لإرادة الوعد الكريم للأمر، وفيه دعوة لهم للإيمان حتى الذي يصر على الكفر ، فان حضوره وأسرى المشركين عند المسلمين يجعله يرى معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبراهين التي تدل على نبوته ، وإيمان وصلاح المسلمين ، فيبدأ التغيير من القلب ، ولبيان قانون وهو أن الله عز وجل يعلم ما في القلوب ويرزق عليه إن كان خيراً , وفي التنزيل[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ…]( ).
ومن معاني الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم توجه البشارة والوعد للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ، وتوجهه حتى إلى الأسرى من الذين قاتلوا المسلمين في معركة بدر ثم أوثقهم المسلمون رباطاً ، وفيه رسالة إلى الناس بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله عز وجل وأن نبوته خير محض ورأفة بالناس، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وفيه زجر للكفار عن بذل الوسع في قتال المسلمين ، فقد يستبسل المقاتل إذا علم أن عدوه سيقتله ويمثل به إذا أسره ، أما إذا أدرك أن عدوه سيرحمه عند الأسر فانه يختار الأسر، ويتجنب القتل والقتال ، لتكون آية البحث دعوة لنبذ القتال والحرب والتعدي ، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين بالتخفيف في أسباب ومقدمات القتال عنهم وعن عدوهم ، وصيرورة هذا التخفيف دعوة للناس للإيمان ونبذ البغضاء والكراهية والإرهاب .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أمور :
الأول : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأسرى، خاصة أن الأمر لا يختص بأسرى معركة بدر , فقد سبق معركة بدر وقوع اثنين من الأسرى بيد المسلمين في سرية نخلة وهما:
الأول : الحكم بن كيسان.
الثاني : عثمان بن عبد الله.
أما الأول فقد اسلم لرؤيته المعجزات تترى على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولحسن معاملة المسلمين له.
وأما الثاني فعاد الى مكة، ومات فيها كافراً، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله: عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطعموا الجائع ، وعودوا المريض، وفكوا العاني ( ).
الثاني : لقاء وحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الأسرى .
الثالث : رأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالأسرى بدليل أن إخبارهم للأسرى بوعد من الله يدل بقياس الأولوية على عدم ظلم أو ضرب المسلمين لهم .
الرابع : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باطلاق عدد من الأسرى من غير بدل أو عوض , ولم تمر سنة على معركة بدر حتى لم يبق أسير عند المسلمين.
وذكر أن الآية نزلت في العباس بن عبد المطلب ، لأنه جاء مع جيش المشركين ، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا طعام أهل بدر فبلغته النوبة يوم بدر (وكان خرج بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها الناس ، فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا قبل ذلك وبقيت العشرون أوقية مع العباس فأخذت منه في الحرب) ( ).
وسأل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون هذه العشرون أوقية من فدائه ، فقال له النبي : أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا أتركه لك) ( ).
وكلفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فداء كل من الأسرى :
الأول : عقيل بن أبي طالب .
الثاني : نوفل بن الحارث بن عبد المطلب .
الثالث : عتبة بن عمرو أخو بني الحارث بن فهر , وهو حليف العباس .
والاثنان الأولان أعلاه ابنا اخوي العباس .
وكان طالب بن أبي طالب قد خرج مع جيش قريش ، وله يومئذ اشعار بمدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذم كفار قريش قد تقدم ذكرها في الأجزاء السابقة، فعاد من وسط الطريق ولكنه لم يصل إلى مكة ، ولم يعلم خبره .
ولو كان أسيراً هل كلّف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمّه العباس فداءه أيضاً ، الجواب نعم .
ومن الإعجاز في المقام أن العباس حينما تحمل بدل فكاكه وابني أخويه وحليفه من الأسر , قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا محمد تركتني اتكفف قريشاً , أي أن هذا البدل والعوض يأتي على كل حال .
وقد يسمع الكلام أو يقرأه فيما بعض من أجيال الناس فيقول كيف يفعل هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع عمه ، فجاء جوابه معجزة له ، إذ قال ، فإين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل أول خروجك من مكة .
(وقلت إن حدث لي حادث كانت لك ولولدك، فقال العباس: من أخبرك به فو الله ما كان غيري وغيرها ثالثا.
قال أخبرني بذلك ربي فأسلم العباس وافتدى واختلفوا في الغنائم والنفل فنزلت سورة الأنفال بأسرها في يوم بدر يقول حسان بن ثابت :
سرنا وساروا إلى بدر لحينهم…لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
وقال إني لكم جار فأوردهم…سرى الموارد فيه الخزي والعار( ).
وأم الفضل هي لبابة بنت الحارث الهلالية زوجته .
وتؤكد الآية حقيقة تأريخية وهي وجود أسرى عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأنهم متعددون ،وفيه دعوة لشكر أجيال المسلمين لله عز وجل على نعمة وقوع الأسرى في أيديهم من جهات :
الأولى : انتقال المسلمين من حال الضعف والإستضعاف إلى جلب الأسرى إلى المدينة .
الثانية : بيان مصداق لنجاة وتخلف المسلمين من حال الضعف والذل التي كانوا عليها ، وفي التنزيل [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) ليكون قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للأسرى بأنهم إذا كانت نواياهم حسنة وأنهم يتدبرون في معجزات النبوة ،ويتفكرون بلزوم الإقرار بالتوحيد وآياته الجلية في الأكوان والأنفس فان الله عز وجل يرزقهم مثل الذي فاتهم من معاني سلامة ونجاة المسلمين من الذلة ، إذ أنهم يصبحون في حال التبليغ والوعظ والإحتجاج , وفي التنزيل[أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ]( ).
الثالثة : قد تميل بعض الجيوش إلى ما يسمى غسل أدمغة الأسرى ، بينما جاءت آيات القرآن بالإحسان إلى الأسرى ، ونزل الوعد لهم من عند الله ، لبيان قانون وهو عدم وجود حاجب وبرزخ بين الله وبين عموم عباده وخلقه .
الرابعة : جاءت الآية بالوعد الكريم للأسرى بأن يرزقهم الله عوضاً أفضل وأحسن وأكبر مما دفعوه من العوض بدل فكاكهم من الأسر ، لتدل بالأولوية القطعية على أن الله عز وجل رزق ويرزق المسلمين أضعاف ما يؤتي هؤلاء الأسرى .
وتبعث الآية الأسرى إلى العزم على عدم قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بعد فكاكهم من الأسر ، لأنهم يتطلعون إلى الخير البديل .
ليكون من معاني (الخير) في قوله تعالى [إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا]( )، وجوه :
الأول : دخول الإسلام.
الثاني : النية والعزم على دخول الإسلام.
الثالث : توبيخ الذين كفروا لسوقهم إياهم إلى قتال ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : التنزه عن النفاق، إذ أن الآية تحذر الأسرى من النفاق، ودخول الإسلام تقية ونفاقاً، وجاءت آيات القرآن بذات التحذير قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
الخامس : القيام بتبليغ الناس بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقيد الإيمان والتصديق بها.
السادس : العزم على الإقامة في دار الهجرة وعدم الرجوع إلى مكة، أو الذهاب إلى مكة ثم الهجرة إلى المدينة برداء الإيمان.
الخامسة : وقوع الأسرى من المشركين في يد المسلمين زاجر لعموم المشركين عن محاربة الإسلام، وقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة : الآية شهادة سماوية بوجود أسرى عند المسلمين، وبقائهم بأيديهم من غير أن يقوم المسلمون، وخاصة ذوو الشهداء بتعذيبهم أو الإعتداء عليهم أو قتلهم، ولم يرد في الأخبار أن الصحابة كانوا يُسمعون الأسرى كلمات توبيخ وذم.
السابعة : في الآية بشارة وقوع أسرى آخرين من المشركين بيد المسلمين، ولم تمر السنوات حتى وقع ستة آلاف من الذاري والنساء من هوازن بيد المسلمين ومن (الإبل أربعة وعشرون ألفاً، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية فضة)( ).
وفصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الأسرى الذكور والسبايا وأستانى بالسبي رجاء مجئ أهلهم، فجاء وفد هوازن الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الجعرانة، وقد سألوه أن يمنّ عليهم وسألوه الرحم، فقالوا : يا رسول الله إنا أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا منّ الله عليك ( ) .
ثم قام خطيب هوازن زهير بن صرد، فاثنى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : إنما سبيت عماتك وخالاتك وحواضنك اللائي كفلنك، تذكيراً له بمدة حضانته عند حليمة السعدية.
ثم قال : ولو أنا ملحنا للحارث بن أبي شمر أو النعمان بن المنذر، ثم نزل منا أحدهما بمثل ما نزلت به لرجونا عطفه وعائدته وأنت خير المكفولين ثم قال : البسيط
امنن علينا رسول الله في كرم … فإنك المرء نرجوه وندخر
امنن على بيضة قد عافها قدر … ممزق شملها في دهرها غير
يا خير طفل ومولود ومنتخب … في العالمين إذا ما حصل البشر
إن لم تداركها نعماء تنشرها … يا أرجح الناس حلما حين يختبر
امنن علي نسوة قد كنت ترضعها … إذ فوك يملؤه من محضها درر
إذ كنت طفلا صغيرا كنت ترضعها … وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته … واستبق منا فإنا معشر زهر
يا خير من مرحت كمت الجياد به … عند الهياج إذا ما استوقد الشرر
إنا لنشكر آلاء وإن كفرت … وعندنا بعد هذا اليوم مدخر
إنا نؤمل عفوا منك تلبسه … هذي البرية إذ تعفو وتنتصر
فاغفر عفا الله عما أنت واهبه … يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر ( ).
ولما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقالتهم وهو الذي اثنى عليه الله عز وجل بقوله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
قال: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، ولما سمع المهاجرون والأنصار كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا مثل قوله.
ولكن الأقرع بن حابس وبنو تميم، وعيينة بن حصن وبنو فزارة امتنعوا عن إعادة ما في أيديهم من السبي وساعدهما قومهما ، فلم يحملهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إعادة السبايا، ولكنه عوضهما عما في أيديهما أعواضاً رضوا بها ، وذكر أن الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤلفة قلوبهم من الخمس .
وقد ورد ذكرهم في آية الصدقات[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ) وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف إنسان، أطلقهم النبي من غير بدل أو عوض.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أعطى لعدد من المؤلفة قلوبهم، كل واحد منهم مائة من الإبل , وهم :
الأول : أبو سفيان بن حرب الذي كان رئيس جيش المشركين في معركة أحد .
الثاني : سهيل بن عمرو الذي رأس وفد قريش في صلح الحديبية، والذي منع أن تكتب في العقد صفة الرسالة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اكتب باسمك اللهم.
فكتبها.
ثم قال: اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو “.
قال: فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك) ( ).
الثالث : صفوان بن أمية الذي قال حين أعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مائتين من الإبل : لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين وأنه لأبغض الخلق إلي ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي .
الرابع : عيينة بن حصن الفزاري .
الخامس : حكيم بن حزام .
السادس : الأقرع بن حابس .
السابع : معاوية بن أبي سفيان .
الثامن : يزيد بن أبي سفيان .
التاسع : قيس بن عدي ، وقال الواقدي (وأعطى مالك بن عوف مائة من الإبل) ( ) .
ولكن مالكاً هذا كان رئيس هوازن في معركة حنين ، وقد فرّ من ميدان المعركة ، ودخل الطائف وأغلق وقومه الحصن عليهم ، والمختار أنه لم يكن حاضراً قسمة غنائم حنين إلا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أعطاه بعد وفوده إلى المدينة مسلماً .
وأعطى النبي خمسين من الإبل لكل من :
الأول : مخرمة بن نوفل .
الثاني : عمير بن وهب .
الثالث : سعيد بن يربوع .
الرابع : عدي بن قيس السهمي , وكلهم من قريش .
وأعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عباس بن مرداس الأسلمي أربعاً من الإبل وقيل خمسين ، فعاتب عباس النبي صلى الله عليه وآله وسلم
كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتهَا … بِكَرّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ
وَإِيقَاظِي الْقَوْمِ أَنْ يَرْقُدُوا … إذَا هَجَعَ النّاسُ لَمْ أَهْجَعْ
فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِي … دِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
وَقَدْ كُنْت فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ … فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعْ
إلّا أَفَائِلَ أُعْطِيتهَا … عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الْأَرْبَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ … يَفْوَقَانِ شَيْخِي فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْت دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا … وَمَنْ تَضَعُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعْ) ( ).
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم اذهبوا به فاقطعوا عني لسانه فاعطوه حتى رضي ، أي أن رضاه هو المقصود بقطع لسانه .
وقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاتباً: أتقول فيّ الشعر, فجعل يعتذر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقال: بأبي أنت وأمي إني لأجد للشعر دبيباً على لساني كدبيب النمل ثم يقرصني كما يقرص النمل فلا أجد بدا من قول الشعر فتبسم صلى الله عليه وسلم , وقال : لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحسان بن ثابت : كأنك تنضحهم بالنبل. فهجاهم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقد شفيت يا حسان وأشفيت( ).
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم تآلفهم على الإسلام ، وإصلاح قلوبهم ، وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال (يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائةً وتركت جعيل بن سراقة الضمري! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما والذي نفسي بيده، لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلها مثل عيينة والأقرع، ولكني تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه) ( ).
وعن عمار قال : كانت الخوارج تقول: إن علياً سبى المسلمين، فلم يكن أحد أدرك علياً ولا ذلك إلا أبو الطفيل. قال: فلما قدمت سألت أبا الطفيل، فقال: إن علياً لم يسب مسلماً، إن علياً سبى بني ناجية وكانوا أسلموا ثم ارتدوا عن الإسلام( ).
وباعهم من مصقلة بن هبيرة بمائة ألف، فأعطاه خمسين ألفاً، وبقيت عليه خمسون.
فاعتقهم مصقلة ولحق بمعاوية، فأجاز علي عتقهم، وذكر أن الأسرى مروا بهم على مصقلة بن هبيرة الشيباني.
وهذا العتق من مصاديق قوله تعالى[لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
ولم يرد لفظ [مِنْ الأَسْرَى] ( ) في القرآن إلا مرة واحدة ، وفي آية البحث لبيان أن مسألة الأسرى خاصة بالذين يأسرهم المسلمون ، وأن عدد أسراهم عند الذين كفروا قليل وهو من أسباب زجر الذين كفروا عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الإعجاز في المقام أن هؤلاء الأسرى لم يأخذهم المسلمون من القرى أو من طرق السفر والركبان ، إنما جاءوا مدججين بالسلاح ، يسعون لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في أسرى معركة بدر وعددهم سبعون .
ولم تكن مسألة الأسرى معروفة عند المسلمين ، وكان الأسرى في الجاهلية يباعون في الأسواق ليصبحوا بعد الحرية عبيداً أذلة ، فجاء الإسلام باكرام الأسير وأن كان كافراً ، وأمر باطعام الأسير حباً لله عز وجل في عبادة واشاعة لمعاني الرحمة بين الناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وليس في القرآن آية أو آيات توصي المسلمين الذين قد يقعون أسرى بأيدي العدو ، نعم جاءت آيات القرآن بحث المسلمين على تعاهد التقوى وكذا بالنسبة للسنة النبوية ، وهو من الإعجاز القرآني بوقاية المسلمين من الأسر مع أن عدد جيوش المشركين في كل معركة من معارك الإسلام الأولى أكثر من ثلاثة أضعاف عدد جيش المسلمين ، أما بالنسبة للعدة والسلاح فالفارق بينهما أكبر .
ويوصي بعض المسلمين بعضاً أو الأخوة الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص وقوع بعضهم في الأسر ، إنما كانت الوصية بالشهادة في سبيل الله ، وفي التنزيل [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] ( ) .
ومن مقدمات معركة بدر قيام خيل المشركين بالطواف حول مخيم المسلمين ، وابتعدوا قليلاً في البيداء وعلموا أنه ليس من مدد أو كمين للمسلمين، وقالوا:
( إنما هم أكلة جزور وقالوا لعمير حرش بين القوم فحمل عمير على الصف بمائة فارس ) ( ).
ومع هذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه لا تقاتلوا حتى أذن لكم ، ولما تمادى المشركون في تعديهم واقتربت خيلهم من المسلمين ، ونالوا منهم وصار الدفاع ضرورة ، قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوعظ أصحابه ، وزفّ بشارة الجنة لمن استشهد دفاعاً (والذى نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر الا أدخله الله الجنة .
فقال عمير بن الحمام اخو بنى سلمة وفى يده تمرات يأكلهن بخ بخ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة الا ان يقتلنى هؤلاء , قال ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل) ( ) .
وجاءت آية البحث بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى] ( ).
ويحتمل من جهة التبليغ وجوهاً :
الأول : قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأسرى القريبين من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساعة نزول الآية .
الثاني : طواف النبي صلى الله على الأسرى خاصة أو قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم باخبار الأسرى بالآية ومضمونها عند حضورهم عنده أو رؤيته لهم، وأن كل واحد منهم موجود عند الذي أسرّه .
الثالث : تفويض النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبليغ الأسرى إلى أهل بيته وأصحابه .
الرابع : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للآية هو تبليغ لهم .
الخامس : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالمصداق العملي للآية في صلتهم مع الأسرى بوعظهم ودعوتهم لإصلاح نفوسهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا قولوا لمن في أيديكم من الأسرى).
وهل يختص مضمون الآية بالأسرى وحدهم ، الجواب تشمل الآية الناس جميعاً ، وفيها دعوة للذين كفروا لنبذ القتال والغزو والهجوم ، فاذا صلحت القلوب إمتنعت الجوارح عن الظلم والتعدي .
ولم يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسرى بالوعد والوعيد من عنده ، إنما هو مبلغ لهم من عند الله عز وجل لتنمية ملكة الإقرار بالربوبية المطلقة لله سبحانه في نفوس الأسرى، وفي التنزيل[إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ]( ) .
ومن خصائص آية البحث أنها تجذب الأسرى وغيرهم إلى الإسلام وتجعلهم يحبون أداء الصلاة والوقوف في صفوف المسلمين بين يدي الله عز وجل .
وتطرد النفرة في نفوسهم الإيمان وسننه .
ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى يصلحوا سرائرهم وعدم إعادة الكرة بالهجوم على المسلمين وإرادة غزو المدينة.
الثاني : يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى يبلغوا قومهم إن يعلم الله ما في قلوبهم خيراً يؤتهم خيراً .
فمن خصائص عطاء الله أنه عظيم ومتصل .
الثالث : يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى والذين سيكونون أسرى في أيديكم .
فلا يختص موضوع الآية بالأسرى أيام نزول آية البحث بل هو حكم عام ومتجدد .
وفيه بعث للسكينة في نفوس المؤمنين وإخبار للذين كفروا بأن الأسير منهم لا يخشى عليه القتل ، إنما يرضى منه حسن النية.
ومن إعجاز الآية أنها لم تأمر الأسرى بفعل الخير ، فقد يأول بتسخير الأسير في الزراعات والصنائع ، أو في زجه في الحرب وقتال أعداء الإسلام ، إنما أراد الله عز وجل من الأسرى فقط حسن النية ومن رشحاته إجتناب الإضرار بالمسلمين .
الرابع : يا أيها المهاجرون والأنصار قولوا لمن في أيديكم من الأسرى .
الخامس : يا أيتها المؤمنات قلن لمن في أيديكم من الأسرى .
وذكرت الآية اسم الخير مرتين وبحال النصب (خيراً ) مع التباين في موضوع وجهة الصدور ، ويكون تقدير معنى خيراً في قوله تعالى [إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا] ( ) على وجوه:
الأول : إن يعلم الله في قلوبكم توبة وندامة على محاربتكم النبوة والتنزيل.
الثاني : إن يعلم النبي في قلوبكم خيراً ونقيضاً للشر الذي كنتم تتصفون به في التعدي على الإسلام والمسلمين.
الثالث : إن يعلم الله في قلوبكم العزم على دخول الإسلام .
الرابع : إن يعلم الله في قلوبكم التوقي والاحتراز من اتباع الشيطان يؤتكم خيراً مما أخذ منكم .
لقد كان هذا الإتباع من أسباب وقوعهم في الأسر فجاءت آية البحث لحثهم على الإمتناع والتجافي والإعراض عن هذه الأسباب، قال تعالى [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
السادس : إن يعلم الله في قلوبكم النية على نهي الناس عن إعانة الظالمين في محاربتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
السابع: إن يعلم الله في قلوبكم النفرة من الكفر وبغض مفاهيمه.
الثامن : إن يعلم الله في قلوبكم حب الله ورسوله .
التاسع : إن يعلم الله في قلوبكم عدم تربية أولادكم على الضلالة والجحود .
لقد كان قوم نوح عليه السلام يحذرون أبناءهم منه (عن ابن عباس: أن نوحاً بعث في الألف الثاني ، وأن آدم لم يمت حتى ولد له نوح في آخر الألف الأول ، وكان قد فشت فيهم المعاصي ، وكثرت الجبابرة ، وعتوا عتوّاً كبيراً.
وكان نوح يدعوهم ليلاً ونهاراً ، سراً وعلانية ، صبوراً حليماً ولم يلق أحد من الأنبياء أشد مما لقي نوح ، فكانوا يدخلون عليه فيخنقونه ويضرب في المجالس ويطرد ، وكان لا يدع على ما يصنع به أن يدعوهم.
ويقول : يا رب اغفر لقومي فانهم لا يعلمون ، فكان لا يزيدهم ذلك إلا فراراً منه ، حتى إنه ليكلم الرجل منهم فيلف رأسه بثوبه ويجعل أصابعه في أذنيه لكيلا يسمع شيئاً من كلامه ، فذلك قوله الله { جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم }( ) .
ثم قاموا من المجلس فاسرعوا المشي ، وقالوا : امضوا فإنه كذاب . واشتد عليه البلاء ، وكان ينتظر القرن بعد القرن ، والجيل بعد الجيل ، فلا يأتي قرن إلا وهو أخبث من الأول وأعتى من الأول ، ويقول الرجل منهم : قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا ، فلم يزل هكذا مجنوناً ، وكان الرجل منهم إذا أوصى عند الوفاة يقول لأولاده : احذروا هذا المجنون فإنه قد حدثني آبائي : إن هلاك الناس على يدي هذا( ).
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن كثيراً من الأبناء دخلوا الإسلام قبل آبائهم ، وصاروا دعاة لهم ، وسبباً في جذبهم للإسلام ،وهناك شواهد كثيرة قبل الهجرة .
ولا تختص بالأبناء الذكور بل تشمل البنات، ودخول الأخوات قبل إخوانهن.
ومن الإعجاز في صلح الحديبية أنه اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أن لا يأتيك منا أحد ، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا) ( ).
وبينما هم يكتبون الكتاب إذ جاء أبو جندل يرسف بالحديد وهو ابن سهيل بن عمرو هذا ممثل قريش ، فقد كان مسلماً وهو في مكة ، وقيده أبوه بالحديد كيلا يغادر إلى المدينة , فرده النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعاه للصبر , مما يدل على انه يقدم التضحية من اجل إبرام الصلح مع المشركين .
مفهوم الموافقة في الآية
وفيه مسائل :
الأولى : نزول النداء من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة (ياأيها النبي) إكرام من وجوه :
الأول : إنه إكرام وتشريف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : فيه إكرام للمسلمين والمسلمات، وهل هو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، الجواب نعم بلحاظ أن نبيهم يشهد له الله عز وجل بالنبوة من عنده.
الثالث : إنه إكرام لأهل الكتاب لتوالي الأنبياء , ولمجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق بالأنبياء السابقين.
الرابع : إنه دعوة للناس جميعاً للهدى والحق والصلاح، إذ أن تقدير الآية : يا أيها الذي بعث إلى الناس جميعاً بالوحي والتنزيل.
الخامس : في الآية إكرام للمسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار الذين بادروا إلى التصديق بالنبوة، قال تعالى[وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ]( )، وفيه وجوه وأقوال :
أولاً : المراد المسلمون قبل الهجرة، وهم على شعبتين :
الأولى: الذين آمنوا بالنبوة قبل الهجرة، ومنهم مهاجروا الحبشة.
الثانية : الأنصار من أهل بيعة العقبة الأولى والثانية، وعموم الأنصار الذين اسلموا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحاب العقبة الثانية مصعب بن عمير ليعلمهم معالم الدين وأحكام الحلال والحرام، وكان يدعو أهل المدينة من الأوس والخزرج إلى الإسلام، ويبشرهم بقرب قدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً إلى المدينة.
ثانياً : الذين صلوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى القبلتين إلى بيت المقدس أولاً ثم إلى البيت الحرام، وعن ابن عباس قال: إن أول ما نسخ في القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بضعة عشر شهراً.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب قبلة إبراهيم ، وكان يدعو الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله[قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ]( )، إلى قوله[فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ] ( )، يعني نحوه ، فارتاب من ذلك اليهود وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله[قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ]( )، وقالفَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.
وصحيح أن القبلة نسخت ولكن هذا النسخ ليس في القرآن، بلحاظ أن النسخ مركب من أطراف:
الأول : المنسوخ، وهو السابق زماناً في نزوله على الناسخ.
الثاني : النسخ ومحو الحكم.
الثالث : الناسخ.
وقد جاء القرآن بآية التوجه إلى البيت الحرام، ولم يكن فيه ذكر لبيت المقدس كقبلة إلا على القول بحجية مفهوم المخالفة وهذا المفهوم مستقرأ من ذات الآية أعلاه، وليس من آية أخرى، نعم تدل الآية على النسخ في القبلة , وليس بين الآيات .
ثالثاً : الصحابة الذين شهدوا معركة بدر، وعددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، ويسمون البدريين.
رابعاً : الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيعة الرضوان يوم الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، وكان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألف وأربعمائة من الصحابة، وخرجوا وهم لا يريدون حرباً ولا قتالاً، إنما كانوا يرفعون ألوية السلام والأمن، ويدعون لسور الموجبة الكلية الجامع بينهم وبين عامة الناس من جهات:
الأولى : إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عمارة البيت الحرام.
الثانية : القصد والنية من خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أداء مناسك العمرة، وفي التنزيل[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( )، ومن مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خرجوا إلى العمرة من غير سلاح، ليصيروا وسط خيل المشركين، في آية فريدة في التأريخ فوقاهم الله عز وجل وتم صلح الحديبية وصار فتحاً .
وعن ابن مسعود قال: أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي ، وكان إذا أتاه اشتد عليه فسرّي عنه وبه من السرور ما شاء الله ، فأخبرنا أنه أنزل عليهإِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا.
الثالثة : كان الخروج في شهر حرام وهو شهر ذي القعدة ليس فيه قتال، وكذا الشهر الذي يليه وهو شهر ذي الحجة.
ولكن المشركين أصروا على القتال وقدموا خيلهم برئاسة خالد بن الوليد لولا فضل الله عز وجل يدفعهم وعقد صلح الحديبية فكان فتحاً ونصراً، ودليلاً على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يحتسب الصلح نصراً، وقيل فيه نزل قوله تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
وكان الناس أيام الصحابة يقولون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بايع أصحابه يوم الحديبية على الموت، فقال: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ : إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لَمْ يُبَايِعْنَا عَلَى الْمَوْتِ وَلَكِنْ بَايَعَنَا عَلَى أَنْ لَا نَفِرّ .
فَبَايَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ النّاسَ وَلَمْ يَتَخَلّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَهَا ، إلّا الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ فَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ وَاَللّهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهِ لَاصِقًا بِإِبْطِ نَاقَتِهِ . قَدْ ضَبَأَ إلَيْهَا ، يَسْتَتِرُ بِهَا مِنْ النّاسِ( ).
خامساً : السابقون بالموت والقتل في سبيل الله من المهاجرين والأنصار، إذ أنهم سبقوا إلى دار الثواب والنعيم الدائم، وقال الله تعالى في الثناء على الشهداء، وبيان حسن حالهم[فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
والمختار أن الآية تشمل عموم المهاجرين والأنصار قبل فتح مكة , والمراد من الحرف (من) في قوله تعالى[مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] البيان والحصر والتمييز , ومنع الترديد والإجمال.
الثانية : من معاني مفهوم الموافقة في آية البحث توجه النداء إلى المسلمين والمسلمات أيضاً , فتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا قولوا لمن في أيديكم من الأسرى .
ثانياً : يا أيتها اللائي آمنّ قلن لمن في أيديكن من الأسرى .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنّ قل لمن في أيديكم من الأسرى .
رابعاً : يا أيتها التي آمنت قولي لمن في أيديكم من الأسرى .
الثالث : تبليغ الأسرى بلزوم إصلاح السرائر والإبتداء بالتخلص من الكفر ومفاهيم الشرك بترك الإقامة على الضلالة ، وهذا الترك أمر وجودي .
الرابع : من معاني ومنافع الخير في قلوب الأسرى زجر المشركين عن التعدي والهجوم ، وإتخاذ مسألة الأسرى سبباً للتحريض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الخامس : لقد أخبرت آية البحث عن تفضل الله عز وجل بأنه يأتي الأسرى خيراً إذا علم بما في قلوبهم خيراً ، وفيه شاهد على أن الله عز وجل ينفرد بالعلم بما في القلوب ، وفيه نهي للأسرى وغيرهم عن الهمّ بالإضرار بالمسلمين , قال تعالى [فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ] ( ).
السادس : إخبار الآية عن علم الله عز وجل بما في القلوب دعوة للإيمان ، وحث للمشركين على ترك عبادة الأوثان التي لا تنفع ولا تضر .
ان تجلي قانون عجز الأوثان عن النفع أو الضرر مدد وعون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته ودعوته للناس ، وبعد أن سادت مفاهيم التوحيد في الأرض ، وانقطعت عبادة الأوثان والإنقياد التام للطواغيت قد يتساءل بعضهم : هل يعقل أن تقوم قريش بعبادة الأوثان وهم مجاوروا البيت الحرام , وذرية إبراهيم .
والجواب ، قد جاء القرآن بالإخبار عن عبادة قوم إبراهيم الأوثان مع رؤيتهم المعجزات على يديه .
وقد تفضل الله عز وجل بنجاته من النار التي أوقدوها لحرقه بعد أن ربطوه بالوثاق وسطها ، كما ورد في التنزيل [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا] ( ) .
لتكون معجزة الإنقاذ من الشدائد حاضرة في الوجود الذهني للمسلمين والمسلمات مع بعثهم على الدعاء .
ورجاء السلامة والنجاة ، وهل يدعو المسلمون للقتال والنصر على الكافرين أم أن الأولى هو الدعاء لإجتناب وصرف القتال ، الجواب هو الثاني ، وهو من مصاديق رحمة الله عز وجل بالعباد ، فان قلت قد ورد في التنزيل قوله تعالى [وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( ) ثلاث مرات :
الأولى : خاتمة سورة البقرة ( )ويتعلق بدعاء طالوت وجنوده من مؤمني بني إسرائيل عند ملاقاة جالوت والجبابرة .
الثانية : وردت في دعاء المؤمنين لإرادة النصر بالإيمان والحجة والبرهان ، وعند إلتقاء الجمعين إذا أصر المشركون على القتال .
الثالثة : وردت في دعاء أصحاب الأنبياء الذين قاتلوا تحت لواء النبوة بصبر وعزيمة وسلامة من الوهن والضعف .
الجامع المشترك بينها من جهات :
الأولى : إرادة المعنى الأعم للنصر ، فمن معاني النصر (المعاونة والتأييد، بضدّ الخِذْلان، يقال نصره الله ينصره نَصْراً ونُصْرَة، فهو ناصر والمفعول منصور. والنَّصير: فَعيل من ناصر) ( ).
الثانية : نصرة الله عز وجل أعظم من المعرفة والتأييد ، إنما نصرة الله عز وجل المدد الذي يحسم الأمر بالفوز والعز والنجاة لمن ينصره الله عز وجل ، وهو العزيز الذي يقهر الخلائق كلها .
الثالثة : النصر للمؤمنين في معركة بدر وأحد والخندق .
الرابعة : النصر على النفس الشهوية والغضبية ، قال تعالى [وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) .
الخامسة : الغنى عن الغزو والنهب والإمتناع عنه .
وتحتمل آية البحث وجوهاً :
الأول : نصر الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثاني : الآية من رشحات وثمرات نصر الله للنبي.
الثالث : لا صلة لموضوع الأسرى في الآية بالنصر في المعركة ، والجواب هو الوجه الأول والثاني أعلاه.
مفهوم المخالفة في الآية
وفيه مسائل :
الأولى : دعوة المسلمين إلى عدم مناداة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باسمه، قال تعالى[لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ]( ).
الثانية : ذم وتوبيخ الذين كفروا لأنهم جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآذوه وأهل بيته وأصحابه وحاربوه.
الثالثة : بيان حب الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإكرامه له ، وإختصاصه بالمناداة بصفة النبوة.
الرابعة : مجئ الآية بالأمر الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل) ويحمل هذا الأمر على الوجوب , فلابد أن يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسرى .
وهل تلزم المخاطبة قبلاً وجهاً لوجه أم تكفي فيه الواسطة، وتلاوة المسلمين لآية البحث ، الجواب هو الأول، وهو من الشواهد على معاني الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعناية التنزيل والسنة النبوية بهم ، فالأمر من الله عز وجل (قل) تنزيل وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتبليغه للأسرى سنة نبوية، وهو من الموارد التي يجتمع فيها القرآن والسنة في ذات القول والفعل.
الرابعة : لم تقل الآية(في يديك) إنما قالت[فِي أَيْدِيكُمْ]( )، فليس عند شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسرى، فالمسلم الذي يؤسر مشركاً يكون عنده ، ونداءه له، وقد أوصاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأسرى خيراً .
وهذه الآية أمر من عند الله , وهي أكبر وأعظم من وصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : تأسيس مدرسة العناية بالأسرى , والمنع من تحريف الوقائع التأريخية، فلا يأتي أحد ويقول بتقصير المسلمين نحو الأسرى ، إذ تشهد آية البحث بأن المسلمين كان عندهم أسرى .
السادسة : هل يختص كلام وتوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأسرى بخصوص مضمون آية البحث أن أنه أكثر وأعم، الجواب هو الثاني .
إذ تبين الآية أصل وموضوع المسألة ، لقد حارب هؤلاء الكفار النبوة وأغاروا على المدينة لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , فكانت معركة بدر التي يبعد موضعها عن المدينة نحو(150) كم , وفيه تخفيف عن أهل المدينة، من وجوه :
الأول : عدم وقوع معركة الإسلام الأولى في المدينة وأطرافها.
الثاني : مجئ نبأ وبشارة النصر , ودخول الأسرى والغنائم الى المدينة دفعة واحدة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو من الشواهد على صدق نبوته.
الثالث : بعث السكينة في نفوس المسلمين , قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
الرابع : زيادة ايمان المسلمين والمسلمات .
الخامس : توبيخ وكبت المنافقين ، ومنع أثرهم وتأثيرهم.
السادس : إنذار الذين كفروا، وزجرهم عن معاودة الهجوم على المدينة.
وكانت بعض القبائل تغير على بعضها الآخر، فتأخذ الرجل والمرأة والصبي من فراشهم، ثم يبيعونهم في سوق النخاسة، بينما أسر الذين كفروا في معركة بدر بسبب تعديهم وغزوهم للمسلمين، ومع هذا جاء الأمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يصلحوا ما في نفوسهم، ليكون هذا الإصلاح طريقاً للنجاة في النشأتين .
ومن الإعجاز في المقام أن الآية تخاطب الأسير على نحو القضية الشخصية وما يتعلق بنواياه ، وما يعتقده .
وكانت الأمم السابقة يسملون ويغفلون عيون الأسرى ، وقد يسلخون جلودهم ويطعمونها للكلاب ويتمنى الأسير التعجيل بقتله.
فجاءت آية البحث لتؤكد سلامة الأسير في الإسلام، وحرمة إيذائه وقتله.
ومن ضروب هذه الحرمة أنه مرشح للهداية والإيمان، وقد يدخل الإسلام في أي ساعة، وهل آية البحث من مصاديق قوله تعالى[قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ]( ) .
الجواب نعم، إذ تجعل الآية كل أسير يتفكر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومنها إكرامه للأسرى، وطاعته لله عز وجل في مخاطبتهم بلطف وإكرام ، وترغيب بالإيمان، إذ تبين الآية للمسلمين والأسرى وعموم الناس عناية الإسلام مع شخص الواحد، ودعوته إلى الإسلام ، وغبطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين باسلامه.
وتبذل الأحزاب والجمعيات والمؤسسات الجهود المضنية , وتنفق الأموال لكسب الصوت الواحد في الإنتخابات ونحوها.
وجاءت آية البحث لتكون أعظم داعية الى الهدى , وتتصف بأمور :
الأول : استمرار الدعوة في آية البحث.
الثاني : عدم إختصاص مضامين الآية بالأسرى عند المسلمين، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قل للناس أن يعلم الله في قلوبهم .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا قولوا لمن في أيديكم من الأسرى.
ثالثاً : هل يصح تقدير الآية: يا أيها اللاتي آمنّ قلن لمن في أيديكم من الأسرى.
الجواب نعم لجهات :
الأولى : عموم الخطاب الإلهي في الآية.
الثانية : إلحاق المسلمين والمسلمات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في لزوم الإمتثال لأمر الله.
الثالثة : الصدق كون الأسرى في أيدي المسلمين والمسلمات.
الرابعة : آية البحث من آيات التبليغ وتهذيب النفوس.
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا قولوا للناس من يعلم الله في قلوبكم خيراً.
وهل تتضمن الآية ذكر حق للأسرى , الجواب نعم، لبيان قانون في الإسلام وهو أن كل إنسان له حق في الإسلام من بلوغ الدعوة له بالحسنى هو من مصاديق قوله تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
وتتضمن الآية الأمر من الله بحقن دماء الأسرى، وحمايتهم وتلاوة القرآن عليهم، وفيه نهي عن قتل وذبح الأسرى على أي ملة كانت.
وقد دخل الأسرى المدينة وهم في حال خوف وفزع، ولا يعلمون ماذا ينتظرهم، وهل يقتلهم المسلمون، فنزلت آية البحث لتبعث السكينة في نفوسهم، وتدعوهم بصيغة الشرط الى التنزه عن مفاهيم الشرك، وتدعوهم الى العزم بعدم محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إن أطلق سراحهم وفكوا من الأسر، وفيه بشارة لهم بأن يخلف الله عز وجل عليهم أحسن وأعظم مما أخذ منهم من البذل والعوض، ويتفضل الله عز وجل عليهم بالمغفرة وهي أعظم نعمة ينالها الإنسان في الدنيا ليتعلم الأسرى من سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة المسلمين الإستغفار.
وعن الإمام علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه كان إذا قام إلى الصلاة قال :
[وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( )، [إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ]( ).
اللهم انت المالك لا اله الا انت انت ربي وانا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبى فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر الذنوب الا انت واهدنى لا حسن الاخلاق لا يهدى لاحسنها الا انت واصرف عنى سيئها لا يصرف عنى سيئها الا انت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس اليك .
انا بك واليك تباركت وتعاليت استغفرك واتوب اليك فإذا ركع قال اللهم اليك ركعت وبك آمنت ولك اسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخى وعظامي وعصبي .
فإذا رفع رأسه قال اللهم ربنا لك الحمد ملا السموات والارض وما بينهما وملا ما شئت من شئ بعد فإذا سجد قال اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك اسلمت سجد وجهى للذى خلقه وصوره فشق سمعه وبصره[فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ]( ).
ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والسلام اللهم اغفر لي ما قدمت وما اخرت وما اسررت وما اعلنت وما اسرفت وما انت اعلم به منى انت المقدم وانت المؤخر لا اله الا انت ( ).
الآية العاشرة
قوله تعالى [إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
هذه هي الآية التاسعة عشرة من سورة الأنفال، إبتدأت الآية بالخطاب بلغة الشرط والفعل [إِنْ تَسْتَفْتِحُوا].
ويحتمل قوله تعالى [وَإِنْ تَنتَهُوا] وجوهاً :
الأول : إنه خطاب للمشركين من أهل مكة .
الثاني : إنه خطاب للمؤمنين .
الثالث : القول بالتفصيل وهو [إِنْ تَسْتَفْتِحُوا]خطاب للمؤمنين [وَإِنْ تَنتَهُوا] خطاب للكافرين أي تنتهوا عن القتال ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والإستفتاح الإنصاف في الدعاء ، ومن أسماء الله عز وجل الفتاح ، وفي التنزيل [وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ] ( ) وهو الذي يفتح أبواب النعم ، وأنهار الإحسان ، ولا يغلق مصاديق الرحمة ، وهو الذي يفتح على الناس سبل الهداية ، ومنها بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيها من مصاديق الفتح من وجوه :
الأول : فتح نزول آيات القرآن من عند الله .
الثاني : فتح أبواب الرحمة على الناس .
الثالث : إنشراح القلوب ببعثة خاتم النبيين .
الرابع : فتح مكة من غير قتال يذكر .
الخامس : فتح خزائن الأرض للمسلمين .
لقد ورد قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ] ( ) وتفضل الله وخفّف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , وتم فتح مكة بيسر .
السادس : فتح خزائن رحمة الله .
السابع : فتح باب دخول الإسلام من غير شرط أو قيد .
والله عز وجل هو الذي يفتح القلوب والأذهان للتدبر في معجزات التنزيل والنبوة والإقرار بها ، ويكون هذا الفتح واقية من القتال والحروب.
الثامن : يفتح الله سبل الهداية للناس ، فيجعل رؤساء الكفر عاجزين عن جمع وتحشيد الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد تكرر استفتاح كفار قريش ، فوثّقه القرآن لينتفع المسلمون والناس جميعاً من هذا التوثيق ، وما فيه من الموعظة والعبرة ، وهذا الإستفتاح على وجوه:
الأول : عندما أراد كفار قريش الخروج إلى معركة بدر تعلقوا بأستار الكعبة بلحاظ أنهم سدنة البيت الحرام ، وأنهم يقومون بسقاية وخدمة وفد الحجيج ،وقالوا أن محمداً قطع الرحم، وسفه آباءهم لعبادتهم الأوثان ، وعاب عليهم دينهم ، وفرق جماعتهم ، وجعل عدداً من أبنائهم يهاجرون إلى الحبشة وإلى المدينة .
ولم يشتكوا من تعرضه لقوافلهم التي هي مصدر رزقهم ، مما يدل على أنه ليس من خطر عليها من جهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
ثم سألت قريش الله أن يحكم بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينصر صاحب الحق ، ويمحق الباطل .
فان قلت قد توجهت قريش بالدعاء إلى الله ، فكيف تقولون أنهم مشركون ، الجواب ، قد يتوجه المشرك إلى الله عز وجل في ساعة الشدة والضراء مع بقائه على تقديس وعبادة الأوثان، وفي التنزيل[فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ]( ).
الثاني : في طريق المشركين إلى معركة بدر كان الجدال والإحتجاج يقع بينهم وبين بني هاشم وغيرهم ممن كان معهم ولا يرضى بهذا المسير خاصة وأن بعضهم أُخرج كرهاً إلى المعركة ، وبعضهم خافوا من بقائه خلفهم في مكة وقيامه بالدعوة إلى الإسلام والتجاهر بعبادته .
الثالث : في صبيحة يوم بدر ، وإرادة بعض رؤساء المشركين شحذ الهمم ، إذ قال أبو جهل بصوت مرتفع :
(اللهم اقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة) ( ).
وهو من مصاديق [إِنْ تَسْتَفْتِحُوا]( ) وفيه حجة على جيش المشركين ، ودعوة لهم لنبذ الشرك وعبادة الأوثان .
ويحتمل الفتح المذكور في الآية بقوله تعالى [فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ] ( ) وجوهاً :
الأول : إرادة نصر المسلمين في معركة بدر ، فهو فتح .
الثاني : هزيمة الذين كفروا في معركة بدر .
الثالث : قتل بعض رؤساء المشركين ، ومنهم أبو جهل وهو نفسه الذي استفتح .
الرابع : كان المشركون من الأوس والخزرج قبل الإسلام إذا قاتلوا اليهود استفتح عليهم اليهود بالدعاء إلى الله بأن يبعث إليهم الرسول الذي جاءت التوراة بالبشارة به .
الخامس : كان رجال قريش يسألون اليهود عن نبي آخر زمان ، وهل تنطبق صفاته المذكورة في بشارات التوراة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : المراد فتح مكة لأنه خير محض ونعمة عظمى على قريش فهو باب لتوبتهم ودخولهم الإسلام وعمارة البيت الحرام بمفاهيم التوحيد وسنن النبوة .
السابع : بيان قانون وهو تجدد النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل المعارك مع المشركين ، أي أن الآية إنذار للذين كفروا وبعث لليأس في نفوسهم من النصر ونحوه.
فكلما استفتحوا جاء نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وتصيب الذين كفروا الهزيمة ، ليكون من باب الأولوية القطعية هزيمتهم حتى في حال اختيارهم عدم الإستفتاح .
وتكون آية البحث من مصاديق بعث الخوف في قلوب الذين كفروا ، وقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
الثامن : تخاطب الآية الذين كفروا بأنهم يريدون النصر والغلبة ويسألون الله وهم مشركون ، وشاء الله عز وجل أن ينصر الإسلام، ويفتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة ويكون معنى الفتح وقف المعارك والقتال في الجزيرة ، وصيرورة الناس في حال أمن تحت لواء الإيمان .
لتجمع الآية بين الوعد والوعيد مع إتحاد الموضوع ، فقد يأتي الوعد لطرف أو جهة بينما يأتي الوعيد لطرف آخر ، أما آية البحث فانها تتضمن الوعد الكريم للمسلمين بالفتح ، والوعد والوعيد للذين كفروا بذات الفتح لأنه رحمة عامة .
ليكون من معاني الآية الكريمة زجر الذين كفروا عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخبارهم بأن الفتح أمر قطعي لابد وأن يتم ويتحقق ، فمن معاني الفتح في الآية الحكم به ، والحتم والقطع بتحققه .
وقيل أن الخطاب لأهل مكة على سبيل التهكم ، ولكن الآية تخبر عن قرب تحقق الفتح بالنصر التام للإسلام، وفتح مكة، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا ان استفتح الذين كفروا فقد جاءكم الفتح ، و( عن جابر قالوا : يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم، فقال: اللهم اهد ثقيفا( ).
الثاني : يا أيها الذين آمنوا ان تستفتحوا فقد جاءكم الفتح .
الثالث :يا أيها الذين آمنوا استفتحوا ليأتيكم الفتح وفي التنزيل[إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ]( ).
الرابع :يا أيها الذين كفروا ان تستفتحوا فقد جاءكم فتح مكة ، ودحر مفاهيم الكفر ، وهدم الأصنام والأوثان .
الخامس :يا أيها الناس ان استفتح الذين آمنوا فقد جاءكم الفتح.
السادس : يا أيها الناس ان إستفتح الذين كفروا فقد جاء الفتح ، فلا تعينوا أو تمدوا الذين كفروا .
السابع : يا أيها الناس انصروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فان الفتح قريب بفضل من الله عز وجل ، وفي التنزيل [نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ]( ).
(وقال أُبي بن كعب وعطاء الخراساني : هذا خطاب أصحاب رسول الله قال الله للمسلمين : {إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ}( )، أي تستنصروا الله وتسألوه الفتح فقد جاءكم الفتح أي بالنصرة.
و( قال حبّاب بن الأرت : شكونا الى رسول الله عليه السلام فقلنا : لا تستنصر لنا.
فاحمر وجهه وقال : كان الرجل قبلكم يؤخذ ويحفر له في الأرض،
ثمّ يجاء بالمنشار فيقطع بنصفين ما يصرفه عن دينه شيء،
ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه عن دينه،
ولُيتِمنَّ الله هذا الأمر حتّى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت ولا يخشى إلاّ الله عزّ وجلّ والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون) ( ).
وقيل بالتفصيل [إِنْ تَسْتَفْتِحُوا] خطاب للمسلمين [وَإِنْ تَنتَهُوا] خطاب للمشركين .
ثم جاء قوله تعالى في آية البحث [وَإِنْ تَعُودُوا] وهو خطاب وإنذار للذين كفروا، وهو على وجوه :
الأول : وان تعودوا للقتال بعد معركة بدر نعد إلى إنزال الملائكة لهزيمتهم.
الثاني : وإن تعودوا للإستفتاح نعد إلى هزيمتهم ، وهلاك طائفة منكم.
الثالث : وان تعودوا إلى تكذيب النبوة والتنزيل نعد إلى نزول البلاء بكم .
الرابع : وان تعودوا للغزو على بلد المسلمين وهو المدينة المنورة نعد إلى قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالدفاع.
الخامس : وان تعودوا للإستفتاح يأتيكم بالإنذار والبشارة بالفتح ،وإقامة الفرائض العبادية في مكة .
إذ أن هذا الفتح إنذار وبشارة للمشركين ، وهو بشارة للمؤمنين إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار رحمة للناس جميعاً ، أما الآخرة فهي دار رحمة للمؤمنين الذين عملوا الصالحات .
لذا تجد كل سورة من القرآن تبدأ بقوله تعالى [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( )وقيل أن قوله تعالى [وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ] ( ).
(أنه خطاب للمؤمنين نصرهم الله تعالى يوم بدر حين استنصروه [وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]( )، يعني عما فعلتموه في الأسرى والغنيمة)( ).
السادس : وان تعدوا نعد بصبر ودفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
السابع : وان تعودوا للقتال نعد عليكم بالقتل والأسر لإرادة منع القتال في الأرض .
ومن معاني الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الزجر العام عن القتال ، وتحذير المشركين منه ، إذ يخبرهم الله عز وجل بأن الهزيمة عاقبتهم ، فالأولى لهم ترك الهجوم والإغارة على المسلمين .
الثامن : يا أيها الذين كفروا ان تعودوا للاستفتاح نعد لنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولهزيمتكم ، لبيان أن استفتاحهم حجة عليهم.
إن قوله تعالى [وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ] تخويف ووعيد من تجهيز الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وتذكير بقوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) وأن المسلمين على استعداد للدفاع.
وهل في الآية إخبار عن احتمال عودة المشركين للقتال ، الجواب نعم ، وهو الذي جرى في معركة أحد والخندق .
لقد كانوا في حال عناد وحمية ، فتفضل الله عز وجل وأنذرهم ، ومن معاني ودلالات هذا الإنذار وجوه :
الأول : زجر الذين كفروا عن حشد الجيوش للإغارة على المدينة المنورة .
الثاني : نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول الآيات والملائكة، وبذات الرمي إذ تكون الحصى والنبل الذي يرميه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسيّراً وموجهاً من عند الله حيث يشاء، وهناك مسألتان :
الأولى : هل من هذا الرمي قوله تعالى[تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ]( )، فتخرق تلك الحجارة جنود أبرهة ( كما ينخرق ورق الزرع البالي المأكول، عن ابن عباس( ).
الثانية : هل قوله تعالى[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ]( )، إخبار متقدم زماناً عن الصواريخ والإطلاقات الموجهة بالليزر ونحوه مما يصيب هدفه بدقة.
أما الأولى فهناك تباين، فصحيح أن الحجر الصغار الذي تلقيه الطير على جنود أبرهة باذن الله، إلا أنه ليس مثل آية البحث وما فيها من الشأن العظيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والرفعة له وللمؤمنين .
وأما الثانية فالجواب صحيح أن الآية تخبر عن هذه العلوم المستحدثة في الرمي في إصابة الهدف وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، إلا أن الرمي الذي ذكرته آية البحث أدق كما أنه قد لا يصيب الذي يعلم الله عز وجل بأنه سيتوب ويهتدي أو الذي سيخرج منه ولد صالح.
بينما تلك الصواريخ بلاء عام، ترمى بالحق والباطل وتصيب الأبرياء والمستضعفين، وقد تهلك الحرث والنسل.
الثالث : جاءت الآية[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ] بصيغة الماضي، وبخصوص معركة بدر، وتقديرها بصيغة المضارع: وما ترمي إذ ترمي ولكن الله هو الذي يرمي، من جهات :
الأولى : بيان قانون وهو أن رمي النبي في ميدان المعركة بآية ومدد من عند الله عز وجل.
الثانية : الإخبار عن ظلم وتعدي جيش الذين كفروا.
الثالثة : تأكيد قانون وهو إذا أنعم الله نعمة فانه أكرم من أن يرفعها.
الرابعة : حاجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى المدد والعون من عند الله عز وجل.
الخامسة : بيان قانون وهو تعدد ضروب المدد الذي يأتي من عند الله عز وجل للنبي والمؤمنين، وأنه لا ينحصر بنوع واحد، مع أن النوع الواحد يتضمن مصاديق وأفراد كل فرد منها يهلك جيش المشركين كما في قوله تعالى[فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، إذ أن الملك الواحد يقدر على هلاك جميع المشركين في الأرض.
السادسة :زيادة إيمان المسلمين، وصرف الكراهة عنهم حينما يخرجون في السرايا.
السابعة : دعوة الناس الى التوبة والإنابة لدلالة هذه الآية على تكرار المعجزة الحسية مع كل رمية يرميها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامنة : نهي الذين كفروا من قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن نتيجته الحتمية هي خسارتهم وقتل طائفة منهم وهزيمتهم، لذا قال الله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الثالث : منع الناس من الإنقياد لرؤساء الكفر في محاربة الإسلام لبيان نفع عظيم من قوله تعالى [وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ] ( ) وهو حتى إذا سعى الذين كفروا في قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فانهم لا يجدون جنوداً واتباعاً ، لذا ورد قوله تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا] ( ).
وإخبار القرآن عن حال التبرأ المتبادل يوم القيامة بين رؤساء الكفر واتباعهم عامة حتى لو كانوا ابناءهم أو عبيدهم دعوة وتحذير للناس من الخروج معهم لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربة هذه الآيات التي هي رحمة للناس ، وتتضمن التذكير بعالم الآخرة ، وتكشف عن حال الناس يوم الحشر الأكبر[قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا]( ).
وتدل هذه الآيات في مفهومها على أن الذين تنزهوا عن الكفر سلموا ونجوا من الحساب ، وصاروا ينظرون إلى الذين كفروا كيف يتبرأ بعضهم من بعض ولا ينفعهم هذا التبرأ ، قال تعالى في الثناء على المؤمنين [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ] ( ).
لقد كان رؤساء الشرك يسعون في إضلال أتباعهم وجنودهم بأنهم يسألون الله كما يسأله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما تدل عليه آيات القرآن.
فجاءت هذه الآية لبيان أن الله عز وجل لهم بالمرصاد ، وأن النصر للمسلمين سيتكرر كلما قصد الذين كفروا ، قتال ومحاربة النبوة والتنزيل.
فان قلت قد عاد الذين كفروا إلى القتال في معركة أحد ، ولم ينهزموا ، والجواب من جهات :
الأولى : لم يتحقق للذين كفروا النصر أو الغلبة في معركة أحد .
الثانية : قد رجع الذين كفروا من معركة أحد في ذات يوم المعركة من غير أن يحققوا أي غاية من غاياتهم الخبيثة، وهو هزيمة لهم.
الثالثة : صحيح أن المسلمين خسروا سبعين شهيداً في معركة أحد، ولكن هذا لا يعني نصراً للذين كفروا ، والفيصل هو القرآن ، وقد جاء بالإخبار عن خزي وخسارة الذين كفروا، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
إذ تبين الآية أعلاه خسارة الذين كفروا في معركة أحد ، ليتحقق مصداق من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ]( ).
الرابعة : تجلي قانون كلي في معارك الإسلام ، وهو خسارة المعتدين، والذين كفروا هم الذين يقومون بالإعتداء والظلم والإبتداء بالقتال ، قال تعالى [إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ] ( ) وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : المعتدون خاسرون .
الصغرى : الكفار معتدون .
النتيجة : الكفار خاسرون .
وذات الكفر والتلبس به اعتداء وظلم .
الخامسة : لا ملازمة بين عودة المشركين للقتال ، وعدم الهزيمة ، فقد يعود المنهزم للقتال في معركة لاحقة ، كما في عودة الكفار للقتال في معركة أحد مع هزيمتهم الجلية والواضحة في معركة بدر ، لذا صاروا يعدون لمعركة أحد لمدة سنة ، ومنعوا الناس في مكة من البكاء على قتلاهم في معركة بدر كيلا تثبط الهمم ، ويقعد الناس عن الخروج للقتال ، ولم يعلموا أن كل آية من القرآن زاجر لهم عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وهذه الآيات وما فيها من معاني الزجر على وجوه :
الأول : السور المكية، فصحيح أنها نزلت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبل معركة بدر بأكثر من سنة، ولكن زجرها عن العداوة للنبوة لا يختص بكفار قريش ولا بالذين خرجوا منهم لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو عام يشمل الناس جميعاً، وهو من مصاديق قوله تعالى[ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الثاني : الآيات التي تدعو المسلمين الى الصبر، وترّغب فيه، وتبين ثوابه وأجره وأنه مفتاح للنصر والظفر، قال تعالى[وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
الثالث : الآيات التي تأمر المسلمين بالقتال، وهذا الأمر زاجر للذين كفروا عن التعدي، لما يصير الى أذهانهم من استعداد المسلمين للتضحية والفداء لتلقي الأمر بالقتال من عند الله عز وجل، وفي التنزيل[قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ]( ).
ومن إعجاز القرآن والحجة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن القرآن لم يأمر بالغزو والهجوم، إنما أمر بالقتال الذي هو بهيئة الدفاع لقوله تعالى[وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
وتدل الآية في مفهومها على إنحصار واتصاف قتال المسلمين بأمور :
الأول : بقصد وإرادة (في سبيل الله) وليس لمصالح ومنافع خاصة.
الثاني : الزجر عن اقتتال المسلمين فيما بينهم.
الثالث : إرادة قصد القربة في القتال، وحب لقاء الله، وفي التنزيل[قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ]( ).
الرابع : تآزر المسلمين في القتال، لصيغة الجمع ولغة الأمر في الآية[قَاتِلُوا].
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى) ( ).
الخامس : تدل الآية في مفهومها على نهي المسلمين عن قتال أو غزو أو قتل الذين لم يقاتلونهم ، وهل تحرمه الآية في مفهومها أم يشملها عدم حجية المفهوم في المقام.
الجواب تستقرأ الحرمة من آيات أخرى وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية .
السادس : مجئ الفتح من عند الله سواء بقتال أو بغير قتال ، وفي التنزيل [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
ومن الإعجاز في آية البحث إتحاد صيغة الخطاب بما يفيد إرادة جهة واحدة وهم الذين كفروا ، بلغة الذم والتحدي والوعيد مع إختتامها بالثناء على المؤمنين والعهد والوعد من الله لنصرة نبيه الكريم ، ومن آمن برسالته.
إذ جاءت خاتمة الآية بصيغة القانون العام الشامل لكل أفراد الزمان الطولية بقوله تعالى [وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وأصل الفتح هو الإفراج وهو ضد الإغلاق ، يقال فتحت الباب فتحاً ، والمفتاح ما يفتح به ، وجاءت الآية بذكر الفتح ومجيئه من غير تفصيل للمفتاح , ووسائل الفتح لأن مقاليد الأمور كلها بيده سبحانه.
ووردت سورة في القرآن باسم (سورة الفتح ) وأولها [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا *لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا] ( ) وجاء الفتح في القرآن بمعان متعددة منها :
أولاً : الفتح المادي أو ما يفيد معناه ، كما في قوله تعالى في بشارة المؤمنين وما أعد الله لهم في الآخرة من الإقامة في الجنة [فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ] ( ).
ثانياً : النصر والظفر ، كما في قوله تعالى [فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا] ( ).
ثالثاً : بمعنى الفصل والقضاء ، كما ورد حكاية عن نوح في التنزيل [قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ] ( ) .
رابعاً : الإرسال كما في قوله تعالى [مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا] ( ) .
خامساً : البشارة والأمل ، كما في قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] ( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحب البشارة تلقياً ، ووعداً ، وإنتفاعاً ومناسبة للشكر لله عز وجل .
وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا( ).
سادساً : إرادة فتح مكة ، كما في قوله تعالى [فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ] ( ) وكما في قوله تعالى [وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ]( ) ، وقال الشعبي المراد من الفتح هنا صلح الحديبية .
ومن الإعجاز في الآية تجلي مفهوم الموافقة والمخالفة لصيغة الخطاب هذه بوضوح وما يفيد هداية الناس للإسلام ، ومبادرتهم إلى التوبة وزيادة إيمان المسلمين ، وتقدير صيغة الخطاب ومفهومها من وجوه :
الأول : يا أيها الذين كفروا ان تستفتحوا وتسألوا النصر ، فان النصر آت وهو خاص للرسول محمد ، ومن مفاهيمه أمور :
الأول : تثبيط عزائم المشركين .
الثاني : شحذ همم المسلمين .
الثالث : شكر المسلمين لله عز وجل على نزول هذه الآية أما المنافع المترشحة عنها فهي كثيرة، ومنها ما لا يعلمه إلا الله عز وجل.
الرابع : دعوة المسلمين للدعاء وسؤال الله النصر .
الخامس : بيان قضاء وحكم الله عز وجل المنجز في نصر المسلمين وهزيمة الذين كفروا .
السادس : الفتح والنصر والغلبة والعز أمور بيد الله عز وجل وحده ، وفيه بعث للطمأنينة في نفوس المسلمين , وإصابة الذين كفروا بالخيبة .
السابع : يا أيها الذين كفروا سواء استفتحتم أم لم تستفتحوا فان النصر بيد الله وهو لا ينصر إلا المؤمنين على القوم الكافرين .
الثامن : بيان حكم وقضاء الله بقطع دابر الكفر والضلالة بقرب زمان الفتح .
التاسع : بعث الشوق في النفوس للفتح من عند الله، ودعوة المسلمين للدعاء لتقريبه ، ومحو المدة وأفراد الزمان التي تحول دونه ودون التعجيل به ، لتكون آية البحث سبباً لتفقه الناس في المعارف الإلهية ، وإخباراً لهم بأن الفتح وظهور الإسلام وسيادة الإيمان بالله أمر قريب ، وهو حتم ، وفيه ترغيب للناس بالتوبة والإنابة.
فاذا أدرك الناس أن الفتح قريب وقطعي الوقوع فانهم يجتنبون محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنفاق الأموال وتعطيل الأعمال بسبب المحاربة التي لا تجلب إلا الأذى والخيبة لهم ، لذا يفاجئ أهل المدينة في كل يوم ببعض رؤساء وعامة المشركين يدخلون المسجد النبوي مسلمين ويؤدون الصلاة اليومية خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيرى الناس بعض رؤساء المشركين في الصفوف الأولى ، بعد إيذائه المهاجرين في مكة ، أو قتاله للنبي في معركة بدر وأحد .
العاشر : يا ايها الذين آمنوا اصبروا واسعوا للفتح .
الحادي عشر : يا أيها الذين آمنوا لا تغزوا ولا تنهبوا فان الفتح قريب وهو من عند الله .
الثاني عشر : اشكروا الله على نعمة الفتح ، وامتنعوا عن التعدي والظلم ، وفي التنزيل[وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الثالث عشر : إن القول بتوجه الخطاب في الآية [إِنْ تَسْتَفْتِحُوا] إلى الذين كفروا لا يمنع من حمله على إرادة المسلمين سواء في المنطوق أو المفهوم بالبشارة لهم بالنصر والفتح ، وتبعث هذه البشارة الطمأنينة في نفوسهم ، وتدعوهم إلى عدم البطش بالذين كفروا خشية من إعادتهم الكرة في الهجوم على بلد المسلمين المدينة، وإشاعة الفساد وسفك الدماء ، ولبيان أن الفتح نعمة على الناس جميعاً بما فيهم المشركون من أهل مكة ، فحينما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في السنة السابعة من الهجرة في عمرة القضاء رأوا مصاديق الخشية من الله عند المسلمين ، وكيف أنهم يخلصون الطاعة لله ورسوله.
وهم منقطعون إلى العبادة ومناسك العمرة ، ولا يؤذون سواء بلحاظ التقيد بشروط صلح الحديبية أو بلحاظ منهج وسنخية الآيات ، لتتجلى آيات ومصاديق لقوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) وقوله [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ) لبيان قانون وهو أن تقوى المسلمين سبيل لهداية الناس إلى الرشد ، وطريق إلى التوبة والإنابة ، فيأتي الثواب والأجر للمسلم في المقام على وجوه :
الأول : التحلي بآداب وسنن الطاعة الواجبة ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) .
الثاني : حسن أداء المسلمين مناسك العمرة كما أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكما أداها إبراهيم عليه السلام .
الثالث : تقيد المسلمين بشروط صلح الحديبية قبل الدخول إلى مكة وعند الدخول إليها والطواف بالبيت الحرام ، وخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه منها بعد إنقضاء ثلاثة أيام كشرط من مشركي قريش .
ويحتمل هذا الشرط وجوهاً :
أولاً : إنه من ظلم المشركين لأنفسهم وللمسلمين .
ثانياً : انه من مصاديق الصد عن المسجد الحرام ، وقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي] ( ).
ثالثاً : انه من التعدي والجور .
رابعاً : انه من أسباب تعجيل البلاء والطمس وضياع السلطان من الذين كفروا.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق منع الذين كفروا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من العمرة في السنة السادسة للهجرة ثم طلب المشركين منه في عمرة القضاء بالمغادرة بعد ثلاثة أيام .
وعندما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة في تلك السنة وهي السابعة للهجرة ( قال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد وهنهم حمى يثرب)( )، لإرادة المشركين الحسد والنفاق والسخرية والإستهزاء.
وعن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يرملوا ثلاثة اشواط ويمشوا بين الركنين ليرى المشركون جلدهم فقال المشركون هؤلاء الذين زعمتم ان الحمى قد وهنتهم هؤلاء اجلد من كذا وكذا , قال ابن عباس: ولم يأمرهم ان يرملوا الاشواط كلها الا للإبقاء عليهم( ).
والرمل تتابع المشي مع إسراع الخطى , ونوع هرولة ، وكانت محصورة بين الركنين.
ليراهم المشركون إذ كانوا في دار الندوة ينظرون ، فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أراد بالرمل أموراً :
الأول : بعث الفزع في قلوب الذين كفروا .
الثاني : إبطال مقولة الذين كفروا بوهن المسلمين ..
الثالث : بيان حقيقة وهي عدم إصابة المسلمين بالضعف أو الوهن من معارك الدفاع عن الإسلام .
لتكون معاني قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا] على وجوه :
الأول : ولا تهنوا فيطمع الذين كفروا بالعودة الى قتالكم .
الثاني : ولا تهنوا فان الفتح قريب .
الثالث : ولا تهنوا فيشمت المنافقون والمنافقات، وينشرون الأقاويل، والإشاعات وأسباب الصدّ بقصد القعود والوهن، وفي التنزيل[الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا]( ).
الرابع : ولا تهنوا فان الفتح قريب.
الخامس : ولا تهنوا في طاعة الله وأداء الفرائض والعبادات لبيان أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأداء العمرة في السنة السادسة للهجرة، وعقد صلح الحديبية من عدم الوهن هذا، وكذا بالنسبة لأدائه وأصحابه مناسك عمرة القضاء ، فلا يختص موضوع النهي عن الوهن بمسألة القتال إنما يشمل سبل التقوى .
السادس : ولا تهنوا فمن خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، عدم الوهن والضعف .
السابع : ولا تهنوا فمع السلامة من الوهن يكون النصر والظفر.
مفهوم الموافقة في الآية
وفيه مسائل :
الأولى : تعدد الإنذار للذين كفروا للإنصراف عن القتال ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثانية : ذات الأستفتاح من الذين كفروا حجة عليهم ، فكلما سألوا الله عز وجل الحكم والفتح بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان الله عز وجل لا يحكم إلا بالحق ، ويتجلى الحق في المقام بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : سواء استفتح الذين كفروا أو لم يستفتحوا فقد جاء الفتح والنصر للنبوة والإيمان.
الرابعة : دعوة الذين كفروا لدخول الإسلام ، قال تعالى [وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ] ( ) .
الخامسة : الآية في منطوقها إنذار للذين كفروا ، وهي في مصداقها بشارة للذين آمنوا لقرب الفتح بفضل من الله عز وجل ، وهو ظاهر الآية الكريمة ، أي أن الفتح لا يأتي بالغزو والقتال ، إنما هو آية من عند الله عز وجل .
وعن ابن زيد في قوله[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( )، قال : هذا يوم بدر ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات فرمى بحصاة بين أظهرهم ، فقال : شاهت الوجوه فانهزموا( ) .
وتقدير أول آية البحث : يا أيها الذين كفروا ان تستفتحوا وتسألوا النصر فان نصر الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحقق فتح مكة قريب، وفيه وجوه :
الأول : هذا النصر رحمة للناس جميعاً.
الثاني : فيه غلبة على النفس الشهوية.
الثالث : فيه نجاة من إغواء الشيطان ، وصيرورته خاسئاً طريداً.
الرابع : إنه إنذار للذين كفروا من القتال والهجوم والغزو، فالأصل هو عدم وقوع قتال ومعارك بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقريش لأن الله بعثه رسولاً بالمعجزات والبراهين.
السادسة : لقد جاءكم والناس جميعاً الفتح ، ولا عبرة بسؤال الذين كفروا إنما [وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ] ( ).
السابعة : تتضمن الآية الأمر الى الذين كفروا بالكف والإنتهاء بقوله تعالى [وَإِنْ تَنتَهُوا] ( ) وفيه وجوه :
الأول : انتهاء الذين كفروا عن الهجوم والقتال ، لقد كشفت وقائع معارك الإسلام الأولى على حقيقة من وجوه :
أولاً : خسارة الذين كفروا في الميدان .
ثانياً : ظلم الذين كفروا لأنفسهم .
ثالثاً : سقوط عدد من الذين كفروا أسرى في كل معركة من معارك الإسلام.
رابعاً : خسارة الذين كفروا الأموال بالباطل ومن غير عوض .
خامساً : تعطيل تجارة قريش ، وإثارة الرعب والفزع في مكة وما حولها لأن المشركين كانوا على أحد أمور :
أولاً : التهيئ للقتال وحشد وجمع الجيوش والإنفاق على الأتباع وشراء العدة والأسلحة والرواحل .
ثانياً : الخروج لغزو المدينة ،وقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ومن قاتله فهو يقاتل الوحي والتنزيل لذا قال الله تعالى [فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ] ( ).
ثالثاً : العودة من الغزو والقتال ، ونزول المصيبة بكثرة القتلى ، ولا تختص مصيبة أهل مكة في المقام بالذي يقتلون من المشركين بل تشمل الذين قتلوا من المهاجرين إذ يصاب أهل مكة بالحزن والأسى على فقدهم كل من :
أولاً : ذوو القربى .
ثانياً : الأصدقاء والجيران .
ثالثاً : المسلمون والمسلمات الذين بقوا في مكة .
رابعاً : عامة أهل مكة لإدراكهم بأن جيش المشركين خرج للقتال من غير سبب أو تهديد لهم , ولإقراهم ولو على نحو الموجبة الجزئية بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولأن قتل الصحابة ظلم وعدوان .
خامساً : إدراك أهل مكة وغيرهم للقبح الذاتي لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقتل من المهاجرين في معركة بدر كل من :
أولاً : عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، قطعت رجله في المبارزة التي أصر عليها المشركون ، ومات في موضع يسمى الصفراء عند عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة ، ليدخل الحزن بيوت بني هاشم .
ويعم الحنق الناس على كفار قريش خاصة الذين أصروا على القتال فيكون من معاني تقدير الآية : إن تستفتحوا فقد جاء الفتح لأهل مكة ليستريحوا من رؤساء الكفر والضلالة , ولتزاح مئات الأصنام في البيت الحرام .
وعن جابر رضي الله عنه قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنماً فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت لوجهها وقال[وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ).
وأخرج الطبراني في الصغير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعلى الكعبة ثلثمائة وستون صنماً ، فشد لهم إبليس أقدامها بالرصاص ، فجاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخرّ لوجهه فيقول : {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً} حتى مر عليها كلها( ).
ثانياً : عمير بن أبي وقاص ، وكان عمره ست عشرة سنة ، ولكنه ألح على الخروج ، وقد أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع , ولكنه أخذ يبكي .
ثالثاً : ذو الشمالين بن عبد عمرو الخزاعي .
رابعاً : صفوان بن بيضاء .
خامساً : عاقل بن البكير الليثي حليف بني عدي .
سادساً : مهجع مولى عمر بن الخطاب ، وقيل هو أول قتيل من المسلمين.
وقتل من الأنصار يومئذ ثمانية لتكون نسبة قتلى المهاجرين 43% من مجموع الشهداء في معركة بدر ، بينما كانت نسبة عددهم لعموم جيش المسلمين يومئذ أقل كما تختلف النسبة كثيراً في معركة أحد ، فمن بين سبعين شهيداً من المهاجرين والأنصار في معركة أحد كان عدد قتلى المهاجرين أربعة وهم :
أولاً : حمزة بن عبد المطلب .
ثانياً : مصعب بن عمير، وعن ابن عباس في قوله[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]( )، الآية، قال: إن أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من شوال حتى نزل أحداً ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن في الناس ، فاجتمعوا وأمر على الخيل الزبير بن العوّام ، ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي ، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء رجلاً من قريش يقال له مصعب بن عمير ، وخرج حمزة بن عبد المطلب بالجيش ، وبعث حمزة بين يديه ، وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير وقال : استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه حتى أوذنك ، وأمر بخيل أخرى فكانوا من جانب آخر فقال : لا تبرحوا حتى أوذنكم ، وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الزبير أن يحمل ، فحمل خالد بن الوليد فهزمه ومن معه فقال[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]( ).
وأن الله وعد المؤمنين أن ينصرهم وأنه معهم ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعضاً من الناس فكانوا من ورائهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كونوا ههنا ، فَرُدّوا وجهه من نَدَّ مِنَّّا ، وكونوا حرساً لنا قبل ظهورنا . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هزم القوم هو وأصحابه الذين كانوا ، جعلوا من ورائهم فقال بعضهم لبعض لما رأوا النساء مصعدات في الجبل ، ورأوا الغنائم : انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوا الغنيمة قبل أن تستبقوا إليها .
وقالت طائفة أخرى : بل نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنثبت مكاننا ، فذلك قوله[مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا]( )، للذين أرادوا الغنيمة{ومنكم من يريد الآخرة} للذين قالوا : نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونثبت مكاننا . فاتوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، فكان فشلاً حين تنازعوا بينهم يقول[وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ]( )، كانوا قد رأوا الفتح والغنيمة .
ثالثاً : عبد الله بن جحش .
رابعاً : شماس بن عثمان .
الثامنة : لقد كان الذين كفروا في زهو وتفاخر من وجوه :
أولاً : كثرة العدد .
ثانياً : جمع وانفاق الأموال والذهب والفضة .
ثالثاً : وجود الحلفاء والأتباع والعبيد لرجالات قريش واستجابة عدد من القبائل لدعوتهم للقتال .
رابعاً : الصلات العامة لقريش مع ملوك زمانهم والملأ من قومهم ، ومع رؤساء القبائل وكثرة ذهابهم إلى الأمصار بالتجارة ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ) .
خامساً : مجئ وفود القبائل العربية إلى مكة لأداء مناسك الحج والعمرة.
سادساً : وجود فرسان وشجعان في قريش .
سابعاً : حمية الجاهلية والمناجاة بالباطل بين رجالات قريش ، وقد يدفعهم الزهو والحمية إلى العودة إلى القتال ، وهو الذي وقع في معركة أحد.
فجاءت الآية للإنذار والوعيد بقوله تعالى [وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ]( )، وفيه شاهد بأن الذي يرد ويعود ليس النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وأًصحابه , وأنهم لا يختارون الغزو والقتال، إنما الذي يعود عليهم بالرد هو الله عز وجل ، لبيان قانون وهو أن المشركين يحاربون الله عز وجل ورسوله , وفي التنزيل[مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( ) .
وهل تدل الآية أعلاه في مفهومها على أن الذي يحارب الرسول فانما يحارب الله عز وجل الجواب نعم، لذا جاء الوعيد بالعودة من عند الله عز وجل، ومن مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) في المقام أمور :
الأول : إقامة الحجة على الذين كفروا لعودتهم في معركة أحد بثلاثة أضعاف عددهم في معركة بدر ، إذ زحفوا بثلاثة آلاف رجل.
ليكون من مصاديق قوله تعالى [نَعُدْ] نزول خمسة آلاف من الملائكة لنصرة النبي صلى اله عليه وآله وسلم وأصحابه , قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
الثاني : استحقاق الذين كفروا الكبت والخسارة لتعديهم وظلمهم لأنفسهم والمؤمنين والناس جميعاً.
وهل يختص ظلم الذين كفروا بقيامهم بالغزو والهجوم في معركة بدر وأحد والخندق وحنين بأهل زمانهم , الجواب لا، فهم ظالمون للأجيال اللاحقة، وقد أرادوا صدهم عن الحق والهدى ليكون قوله تعالى[وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ]( )، من مصاديق قوله تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الثالث : القبح الذاتي لقصد الذين كفروا القتال وعزمهم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتل أو أسر أصحابه خاصة المهاجرين لمنع الناس في مكة من دخول الإسلام .
الرابع : سلامة قافلة أبي سفيان في طريق عودتها من الشام ، وإنتفاء السبب الذي من أجله خرجت قريش بخيلها وخيلائها .
الخامس : كل آية قرآنية تنزل من السماء حجة بالغة ، ودعوة للناس للإحتجاج بالحكمة والبرهان ، وفي التنزيل[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا]( ).
مفهوم المخالفة في الآية
وفيه مسائل :
الأولى : إستفتاح ودعاء الذين كفروا لن ينفعهم لأن كفرهم وجحودهم حاجب دون صعوده الى السماء، إنما هو طريق للفتح العام .
الثانية : أبى الله عز وجل إلا أن يأتي بالفتح ، فهو سبحانه الذي بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالحق والهدى ، ولكن الذين كفروا شهروا السيوف لقتاله ومحاربته ، فأخبرهم الله عز وجل بأن الفتح قادم , وفيه سلامة من استدامة وتكرار القتال والحروب ، إنما يتجلى فتح مكة بأداء الفرائض والمناسك .
الثالثة : لقد خلق الله الناس لعبادته وعمارة الأرض باللهج باسمه ، والشكر له على النعم الظاهرة والباطنة ، وفتح مكة نوع طريق للعبادة والصلاح .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الله : ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى ، وأسد فقرك ، وإلاّ تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك ( ).
الرابعة : يدل قوله تعالى [وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] ( ) على أن عدم انتهاء الذين كفروا من القتال شر لهم ، وفيه ضرر عليهم .
الخامسة : يدل قوله تعالى [وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ] ( ) على عظيم قدرة الله عز وجل , وأنه سبحانه يتفضل بالإنذار والوعيد للذين كفروا فان عادوا لمهاجمة المسلمين فان الله عز وجل ينتقم منهم ، وفيه شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله ، وأنه سبحانه يدفع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، ويمنع المشركين من تحقيق نصر أو غلبة .
وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول :وإن تعودوا للإستفتاح نعد بالوعيد وإخباركم بالفتح .
الثاني : وإن تعودوا إلى القتال نعد بانزال الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن إعجاز القرآن توجه الخطاب في نزول الملائكة الى المسلمين خاصة كما في قوله تعالى[فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )،[ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( )، [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( )، لإقامة الحجة على الذين كفروا، وبيان حرمانهم من هذا الخطاب التشريفي وما فيه من الوعد الكريم بالنصر، والذي يدل في مفهومه على التخويف والوعيد للذين كفروا.
الثالث : وان تعودوا للغزو نعد للدفع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
ومن الآيات أن عودة الذين كفروا للقتال ونحوه محدودة ومنحصرة من جهة العدد والزمان والمكان ، أما سخط الله عليهم وعودته فانه غير محدود .
السادسة : لماذا توعد الله الذين كفروا بقوله [وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ]( )، فهل يدل على أنهم إن لم يعودوا للقتال لا يعود الله عز وجل عليهم بانتقامه وبطشه ، الجواب لا .
فقد يأتي القيد والشرط للمدح أو التفخيم أو الذم أو الوعيد كما في هذه الآية الى جانب الإخبار عن تفشي القتل بالذين كفروا في ميدان المعركة , ولتكون الآية شاهداً على أن الذين كفروا هم الذين يبدأون الغزو.
فذات الكفر والتلبس به سبب لنزول البلاء بالذين كفروا .
وتقدير الآية : سواء عدتم أو لم تعودوا فاننا نعد ، وفي قوله تعالى [نَعُدْ]وجوه :
الأول : العودة والرجوع على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا بالنصر والغلبة .
الثاني : العودة على الذين كفروا بالغضب والبطش .
الثالث : العودة لإزاحة مفاهيم الكفر والضلالة من النفوس والمجتمعات .
وهل يمكن تقدير الآية : وان تعدوا للغزو نعد بنزول آيات القرآن وما فيها من البشارة والإنذار , الجواب نعم، بلحاظ أن كل آية دعوة إلى الله، وسلاح لاستئصال الكفر والجحود.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان واختبار وابتلاء، وتفضل ورزق الإنسان العقل للتمييز بين الحق والباطل ، وأنعم الله على الناس بالنبوة والمعجزة لتصاحب الإنسان من أول عمارته الأرض ، إذ نزل آدم عليه السلام وهو نبي.
ويتعاقب الأنبياء وتتعدد المعجزة ، ثم تنقطع النبوة ولكن المعجزة لم تنقطع إذ تبقى تدل عليها في الليل والنهار، وفي كل مكان ومن مصاديقه قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
فقد جعل الله عز وجل القرآن معجزة عقلية تتولد عنها البراهين التي تدل على وجوب عبادة الله عز وجل والتصديق بالأنبياء والكتب السماوية ، ومن الإعجاز في المقام وجوب قراءة كل مسلم ومسلمة القرآن خمس مرات في اليوم والليلة في الصلاة ليتدبرا في الآيات وليستمع الناس لها .
قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) فجاءت آية البحث لإنذار الذين كفروا ومنعهم من الغزو والقتال ، وإذا امتنعوا عن الغزو ، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم دائب على تلاوة آيات القرآن ، ويفقه المسلمين في أحكام الحلال والحرام وينصت له الناس، ويتدبرون في معجزاته.
وفي التنزيل [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
وتبين الآية أعلاه صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهاج النبوة ، وليس فيها غزو وهجوم ،إنما هي بيان للآيات ، وتجلي للمعجزات , وصيغ جذب الناس للهدى والإيمان .
السابعة :يدل قوله تعالى [وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا] ( )على عظيم قدرة الله عز وجل وحجبه لأسباب القوة والمنعة عن الذين كفروا ، إذ تخبر هذه الآية عن قانون وهو أن كثرة جيوش وأموال الذين كفروا لا تمنع عنهم أسباب الهزيمة.
وهل المراد أنها لا تدفع عنهم الموت والأجل ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ) الجواب نعم ، ولكن الآية أعم ، فالمراد عدم نفع الفئة لهم مجتمعين ومتفرقين، مما يدل على عجز المشركين عن تحقيق النصر والغلبة ، وإن مات المشرك فمصيره إلى النار ، قال تعالى[وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ]( ).
لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة , هو وأصحابه وهم لا ينوون القتال ، بينما خرج الذين كفروا وقد تعلقوا باستار الكعبة يدعون .
وعن عطية قال: قال أبو جهل يوم بدر: “اللهم انصر أهدى الفئتين، وخير الفئتين وأفضل” فنزلت:(إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ( ).
ولم يرد لفظ [وَلَنْ تُغْنِيَ] باضافة حرف العطف الواو في القرآن إلا في آية البحث وكـأنه بيان لقانون وهو إنقطاع فئة الذين كفروا وعدم عودتها أو إجتماع فئة أخرى لهم بعد صلح الحديبية ثم فتح مكة .
لقد كان كبار رجالات قريش من الكفار يظنون أن فئتهم وجماعتهم وكثرتهم تنفعهم ، وتكون سبباً لنصرهم في معركة بدر ، فنزلت بهم الهزيمة والخسارة ، فأخبرت آية البحث بأن إكثارهم الجنود في معركة أحد والخندق لن يدفع عنهم الخزي وأسباب الهزيمة لأن الله عز وجل يرجع كيد الكافرين إلى نحورهم ، قال سبحانه [لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ] ( ).
الثامنة : أختتمت الآية بقوله تعالى [وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وهو قانون من الإرادة التكوينية يتصف بالدوام والبقاء من أيام أبينا آدم وإلى أن تقوم الساعة ، وقال الواحدي في معنى الآية (فالنصر لنا) ( ).
ولكن الآية أعم ، ومن مصاديقها وجوه :
الأول : وأن الله مع المؤمنين في حلهم وترحالهم .
الثاني : وأن الله مع الأنبياء والمؤمنين ، ترى لماذا لم تذكر الآية الأنبياء، الجواب بلى، تذكرهم ، وبين الأنبياء ولفظ المؤمنين عموم وخصوص مطلق ، فالأنبياء سادة وأئمة المؤمنين .
الثالث : وأن الله مع المؤمنين يصرف عنهم البلاء ، ويدفع عنهم الشر والأذى .
الرابع : وأن الله مع المؤمنين على قلتهم والنقص في أسلحتهم .
الخامس : وأن الله مع المؤمنين أمس واليوم وغداً .
السادس : وأن الله مع المؤمنين حافظاً لهم .
السابع : وأن الله مع المؤمنين يصرف عنهم القتال ، فان قلت قد وقعت معركة بدر وأحد والخندق وحنين ، والجواب ما صرف من أسباب القتال عن المسلمين أكثر وأشد .
فيكون تقدير الآية : وأن الله مع المؤمنين يصرف عنهم القتال, وأن قاتلهم الذين كفروا فان النصر يكون للمؤمنين .
الثامن : وأن الله وملائكته مع المؤمنين .
التاسع : وأن الله لا يخزي المؤمنين .
العاشر : وإن الله مع المؤمنين إذ بعث لهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً وإماماً وقائداً ، قال تعالى[قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً]( ).
الحادي عشر : وإن الله مع المؤمنين إذ جعل كلامه وهو القرآن مصاحباً لهم ، ويأخذ بأيديهم إلى سبل الرشاد في الدنيا والآخرة .
الثاني عشر : وإن الله مع المؤمنين إذ ينزل الملائكة مدداً لهم .
الثالث عشر : يا أيها الذين كفروا ان الله مع المؤمنين فكفوا عن قتالهم .
الرابع عشر : وإن الله مع المؤمنين في الدنيا والآخرة .
الخامس عشر : ان الله قريب من الناس جميعاً ، وهو مع المؤمنين ، لتثبيت أقدامهم في منازل الإيمان ،وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] ( ).
السادس عشر : وإن الله عز وجل مع المؤمنين فيصرفهم عن الغزو والبطش والنهي والسلب، وهذا الصرف من عمومات قوله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
السابع عشر : وإن الله مع المؤمنين ليتعاهدوا الأخوة بينهم في الله ولله.
الثامن عشر : وإن الله مع المؤمنين في توادهم وتراحمهم .
التاسع عشر : وإن الله مع المؤمنين لهداية الناس جميعاً .
العشرون : وإن الله مع المؤمنين في كل زمان ومكان .
الحادي والعشرون : وإن الله مع المؤمنين فلا يجعل النصر والغلبة للذين كفروا ، وفي التنزيل [وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] ( ).
ولم يرد لفظ ( وإن الله مع ) في القرآن إلا في آية البحث ,ولم تقل الآية وإن الله مع الذين آمنوا .
والمختار أن النسبة بين الذين آمنوا والمؤمنين هي العموم والخصوص المطلق ، فالذين آمنوا أعم وأكثر .
الثاني والعشرون : وإن الله مع المؤمنين إذ يبشرهم في الدنيا والآخرة .
الثالث والعشرون : من مصاديق قوله تعالى [أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) عجز كفار قريش عن الهجوم عليهم بعد معركة الخندق ، ولما رجع عشرة آلاف رجل من جيش المشركين بعد إحاطتهم المدينة المنورة لأكثر من عشرين ليلة ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنهم لا يغزونا بعدها .
عن (محمد بن إسحاق: لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما بلغنا: “لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم.
فلم تغز قريش بعد ذلك، وكان هو يغزوهم بعد ذلك، حتى فتح الله عليه مكة) ( ).
والحديث مرسل إذ ولد محمد بن إسحاق سنة 85 للهجرة في المدينة ، وتوفى سنة 151 للهجرة في بغداد ، لذا قال بخصوص الخبر أعلاه (فيما بلغنا).
أما الشطر الأول من الحديث فتؤكد الوقائع صحته فلم تستطع قريش غزو المدينة بعد واقعة الخندق ، وأما الشطر الثاني (ولكنكم تغزونهم) فيحتاج إلى دليل وسند إذ لم يغزوا المسلمون قريشاً إنما خرجوا في السنة التالية وهي السنة السادسة للهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأداء العمرة، وليس معهم سلاح ، فكان صلح الحديبية .
ويجمع قوله تعالى [وأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ] بين أمرين :
الأول : الوعد من جهات :
الأولى : خاتمة آية البحث وعد من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله كفيل وحافظ له ولأهل بيته وأصحابه .
الثانية : إنه وعد للمهاجرين والأنصار .
الثالثة : إنه وعد كريم للذين يقتلون في سبيل الله بأنه سبحانه معهم في الدنيا والآخرة ، وفيه مواساة لأسرهم وعوائلهم .
الرابعة : إرادة بعث السكينة في نفوس المسلمين من جهة الحفظ والسلامة ، وزيادة الرزق والغبطة والسعادة في النشأتين .
الخامسة : إعانة المسلمين على أداء الفرائض والعبادات , وتهيئة مقدماته وإزاحة الموانع دون أدائها.
السادسة : نصر المؤمنين عند هجوم الذين كفروا .
السابعة : صرف أذهان وسعي الذين كفروا عن الهجوم على المؤمنين أو قتلهم .
الثامنة : إعانة المؤمنين في قيامهم بالأمر بالمعروف ونهيهم عن المنكر، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
التاسعة : إصلاح نفوس المسلمين ، وتهذيب مجتمعاتهم وتنزههم عن الأخلاق المذمومة كالكذب والغيبة والنميمة .
الثاني : الوعيد للذين كفروا من جهات :
الأولى : حرمان الذين كفروا من العون والمدد من الله عز وجل.
الثانية : توبيخ وذم الكفار بجحودهم، وعدائهم ومحاربتهم للمؤمنين ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب)( ).
الثالثة : الوعيد بهزيمة الذين كفروا في حربهم مع المسلمين لأن الذين معهم الله لا ينهزمون وهو الذي تجلى في معركة بدر وأحد والخندق ، فان قلت قد خسر المسلمون سبعين شهيداً في معركة أحد ،وقال الله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( ).
والجواب من وجوه :
الأول :الصعود في المقام ليس فراراً وهزيمة , إنما يفيد معنى التراجع.
الثاني : ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وثلة من أهل بيته وأصحابه في الميدان بدليل قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ( ) .
الثالث : بيان الآية لعدم حزن المؤمنين على ما فاتهم، أي أنهم لم يخسروا المعركة ، ولكن فاتتهم الغنائم وكثرة الأسرى ، بينما جلبوا معهم في معركة بدر سبعين أسيراً من المشركين، من غير أن يؤذوهم.
الرابع : إبتداء المشركين بالإنسحاب من المعركة ، فكما أنهم هم الذين يبدأون بالقتال والرمي والمبارزة في كل معركة فهم أول من ينسحب منها، مع مصاحبة الخيبة والخسران لهم، وفي التنزيل[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
ومن شأن الذي يستعد للقتال مدة أطول ، ويقوم بالإبتداء بالهجوم وإختيار الزمان والمكان المناسبين له في القتال أن يتوقع تحقيق مكاسب كبيرة له ، ولكن الذين كفروا يرجعون في كل مرة بالخيبة وفقد الأحبة ، ويتفرق أصحابهم عنهم، مع الإقرار العام بأن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم منصور بالمعجزة ، ففي كل معركة بين المسلمين والمشركين تتجلى مصاديق لقوله تعالى [وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
فمن خصائص هذه الآية أنها رسماً ولفظاً وموضوعاً مصاحبة للمؤمنين في كل زمان ، وهي قانون دائم.
وفيه إزاحة لمفاهيم النفاق من النفوس، ومنع أثر وضرر المنافقين في المجتمعات، ولم يكن هناك نفاق والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة، ولكن بعد الهجرة وإزدياد قوة المسلمين، وتجلي ميل الناس لدخول الإسلام، أظهر طائفة من الناس الإيمان مع إبطانهم الكفر، وعدم مغادرتهم لمنازله، وكان الناس على فرق:
الأولى : المؤمنون.
الثانية : المنافقون.
الثالثة : أهل الكتاب.
الرابعة : الذين كفروا.
وكان أذى الذين نافقوا على الإسلام في بعض الأمور أشد من غيرهم في أمور كثيرة، لأنهم يعيشون بين ظهراني المسلمين، ومنهم من يحضر الصلاة في المسجد النبوي، ويخرج إلى القتال والدفاع، كما ورد في التنزيل حكاية عن رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول وأصحابه: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ.
ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه مع تقادم الأيام يزداد عدد المسلمين ويقل عدد المنافقين، ويضعف صوت النفاق ليشكر المسلمون الله سبحانه على هذه النعمة العظمى، وعلى تخلف وقصور المنافقين عن الإضرار بهم، لأن النفاق وجد عندما قويت شوكة المسلمين , وعجز المنافقون عن تحريض الذين كفروا عليهم.
ولو دار الأمر بين كون الله عز وجل مع المؤمنين على نحو الدوام والإستدامة أم بخصوص حال معينة كالقتال ، الجواب هو الأول وفيه دلالة على سلامة المؤمنين من الظلم والقتل العشوائي والإرهاب لأن من معاني الآية أن الله عز وجل مع المؤمنين يدفع عنهم ويدفعهم عن الغزو وعن القتل وسفك الدماء بغير حق .
الآية الحادية عشرة
قوله تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
من خصائص القرآن أنه ذكرى وتذكير ليكون موعظة وعبرة ومدرسة لأجبال المسلمين والناس جميعاً ، فقد ورد الخطاب في القرآن بالذكرى للناس جميعاً بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] ( ) وجاء الخطاب لبني إسرائيل [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ).
كما جاء على لسان الأنبياء السابقين في إنذارهم لقومهم ، ودعوتهم للإسلام ، كما في هود ، إذ ورد حكاية عنه في التنزيل [أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
وكانت أجسام قوم هود عظيمة ، وقيل يصل طول أقصرهم الى ستين ذراعاً ورزقهم الله من الطبيات ، وجعلهم كالملوك .
(من طريق عطاء عن ابن عباس قال : كان هوداً أول من تكلم بالعربية ، وولد لهود أربعة : قحطان ، ومقحط ، وقاحط ، وفالغ ، وهو أبو مضر ، وقحطان أبو اليمن ، والباقون ليس لهم نسل .
وأخرج إسحق بن بشر وابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس ومن طريق ابن اسحق عن رجال سماهم ومن طريق الكلبي قالوا جميعاً : إن عاداً كانوا أصحاب أوثان يعبدونها ، اتخذوا أصناماً على مثال ودَّ ، وسواع ، ويغوث ، ونسر ، فاتخذوا صنماً يقال له : صمود ، وصنماً يقال له : الهتار ، فبعث الله إليهم هوداً ، وكان هود من قبيلة يقال لها الخلود ، وكان أوسطهم نسباً وأصبحهم وجهاً ، وكان في مثل أجسادهم أبيض بعد أبادي ، العنفقة( )، طويل اللحية ، فدعاهم إلى الله ، وأمرهم أن يوحدوه وأن يكفوا عن ظلم الناس ، ولم يأمرهم بغير ذلك ، ولم يدعهم إلى شريعة ولا إلى صلاة ، فأبوا ذلك وكذبوه ، وقالوا : من أشد قوّة؟ فذلك قوله تعالى[وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا]( )، كان من قومهم ولم يكن أخاهم في الدين[قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ] ( )، يعني وحدوا الله [وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا]( )، يقول : لكم[مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ] ( )، يعني فكيف لا تتقون[وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ]( )، يعني سكانا { في الأرض من بعد قوم نوح } فكيف لا تعتبرون فتؤمنوا وقد علمتم ما نزل بقوم نوح من النقمة حين جحدوا[فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ]( )، يعني هذه النعم[لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( )، أي كي تفلحوا ، وكانت منازلهم بالأحقاف .
والأحقاف : الرمل . فيما بين عمان حضرموت باليمن ، وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها ، وقهروا أهلها بفضل قوّتهم التي آتاهم الله) ( ).
كما توجه خطاب التذكير في القرآن إلى بني إسرائيل [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( ) مع التباين بينه وبين الخطاب لقوم هود ، وهو أنه خاص بهم للدلالة على إنقطاع أيامهم ، أما الخطاب لبني اسرائيل فهو في زمان نزول القرآن لبيان أنهم أمة من الأمم .
ومن الإعجاز في القرآن خطابه لليهود والنصارى مع وجودهم في كل زمان ، قبل نزول القرآن وبعده ، وهو من الشواهد القرآنية الباهرة في التباين والتمييز بين الخطاب بين الأمم المنقرضة ، والأمم والملل الباقية من أهل الكتاب .
وينتفع المسلمون من التذكير العام والخاص الوارد في القرآن ، وجاءت آية لتذكير المسلمين بحالهم وهم في مكة قبل الهجرة وكانوا على وجوه :
الأول : قلة العدد .
الثاني : الإستضعاف .
الثالث : إخفاء أكثرهم إسلامه.
الرابع : أداة الصلاة والعبادات خفية في الغالب .
الخامس : قراءة المسلمين الأوائل لآيات القرآن بالإخفات إلا ما ندر.
السادس : نقص المال عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، خاصة بعد نفاد مال خديجة وموت أبي طالب ، وطول حصار قريش لبني عبد المطلب .
السابع : استضعاف المسلمين سبب لنيلهم عظيم الثواب والأجر، ليكون هذا التذكير إنما تذكير بالنعم وبشارة بالثواب .
الثامن : جاءت الآية بوصف استضعاف المسلمين بالإطلاق المكاني بقوله تعالى [مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ] ( ) فكان المسلمون في مكة خائفين ، وكذا عند خروجهم منها .
وقد هاجرت طائفة منهم إلى الحبشة بنصيحة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل هجرته إلى المدينة فأرسلت قريش خلفهم وفداً إلى النجاشي لتسليمهم لهم وإعادتهم كالأسرى إلى قريش ، وهو من عمومات قوله تعالى [تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ] ( ).
التاسع : قيام كفار قريش بتعذيب عدد من المسلمين والمسلمات في مكة ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يمر على عمار بن ياسر وأخيه وأبويه يُضربون من قبل بني مخزوم في الظهيرة برمضاء مكة ، فيقول لهم (صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمْ الْجَنّة فَأَمّا أُمّهُ فَقَتَلُوهَا ، وَهِيَ تَأْبَى إلّا الْإِسْلَامَ) ( ).
وقوله تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ] ( )خطاب للمسلمين، ويحتمل في جهته وجوهاً :
الأول : إرادة المسلمين الأوائل من أهل مكة .
الثاني : المقصود المهاجرون والأنصار .
الثالث : المسلمون والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه، فمن خصائص الخطاب القرآني إتصافه بصيغة الشمول والعموم، وبقاؤه حياً طرياً حاضراً في كل زمان، ليشكر المسلمون الله عز وجل , وينقطعوا إلى العبادة والزهد، ويجتنبوا الظلم والتعدي، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
وتبين الآية أن المسلمين لم يزد عددهم وينتصروا على عدوهم ، ويزول عنهم الإستضعاف إلا بفضل ونعمة من الله عز وجل مما يلزم شكره تعالى , وهذا الشكر من سنن التقوى والتحلي بلباس العفو والصفح .
ومن إعجاز القرآن أنه كتاب العفو، إذ يخبر عن عفو ومغفرة الله عز وجل للذنوب .
وتبعث آيات القرآن على العفو بين الناس ، وترّغب به ، قال تعالى [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ]( )، ومن منافع العفو أنه برزخ دون الخصومة وأسباب الغضاضة والنفرة ، ليكون سبيلاً لتدبر الناس في معجزات النبوة وإن كانوا مع كفار قريش ، وهو واقية من الغزو والقتال ، والعفو حرب رسالية ضد الثأر والقتل العشوائي والإنتقام من ذوي وعشيرة القاتل .
وحتى الذي لا يعفو فانه يجتنب البطش وهذا القتال إنما ينتظر حكم القصاص لقوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
ومن إعجاز القرآن انه سابق للدعوة والقوانين التي تقول برفع ووقف الإعدام .
إذ خص القرآن القتل بالقصاص وقرنه بالعفو وحببّ العفو إلى النفوس ، ورغبّ فيه ووعد عليه خيراً كثيراً بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
وهل الذكرى في قوله تعالى [وَاذْكُرُوا] أمر وجودي أو عدمي ، الجواب هو الأول ، إذ ان الذكرى هنا على وجوه :
الأول : استحضار المسلمين في الوجود الذهني لحال قلتهم وضعفهم .
الثاني : تدارس وتدبر المسلمين في حال استضعافهم وهم قليل .
الثالث : مناجاة المسلمين بحال العز والمنعة التي صاروا عليها بعد الضعف والفقر .
الرابع : توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على كل من :
الأولى : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : حال الإستضعاف التي كان عليها المسلمون ، وتفضل الله عز وجل عليهم بالصبر والرضا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
الثالثة : تعدد النعم التي تفضل الله عز وجل بها على المسلمين بخصوص المسألة التي تذكرها الآية وهي انتقال المسلمين من حال القلة والإستضعاف إلى الأمن والمتعة ، إذ أنها إنحلالية تشمل كل مسلم ومسلمة من المهاجرين والأنصار ، وكل يوم وساعة من أيامهم لتكون الأفراد التي يتذكرها المسلمون ويلزم استحضارها في الأذهان من اللامتناهي ، فيذكر كل مسلم أموراً :
أولاً : ما تحمله ذاكرة المسلم من شدة وغلظة الذين كفروا .
ثانياً : عناء أسرة وعيال المسلم من القوم الظالمين.
ثالثاً : يذكر المسلم ما لاقاه أخوته المؤمنون من شدة الأذى وهذا التذكر من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
رابعاً : إنقطاع ما لاقاه المسلمون من قتال المشركين وسفك الدماء وسقوط اربعة عشر شهيداً في معركة بدر ، وسبعين شهيداً في معركة أحد إلى جانب قتل بعض المسلمين غيلة ، كما في قتلى كل من :
الأول : سرية الرجيع , إذ جاء وفد من رجال قبيلتي عضل والقارة في شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبروه بوجود طائفة منهم مسلمين ، وأنهم يحتاجون التفقه في الدين وتلاوة القرآن وتعلم أحكام الحلال والحرام.
فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم عشرة من أصحابه فغدر الكفار بهم في الطريق ، ثم حاصرهم مائتا رجل وأعطوهم الأمان إن سلّموا أنفسهم ، ولكنهم قاتلوا فقتل منهم سبعة وسلّم ثلاثة أخرون أنفسهم بعد أن أعطوهم الأمان ، فقتلوا أحدهم وأسروا خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة وباعوهما في مكة فقتلهم كفار مكة .
وأخرج ابن المنذر عن أبي إسحق قال : كان الذين اجلبوا على خبيب في قتله نفر من قريش عكرمة بن أبي جهل ، وسعيد بن عبد الله بن أبي قيس بن عبد ود ، والأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، وعبيدة بن حكيم بن أمية بن عبد شمس ، وأمية ابن أبي عتبة( ).
وقد تقدم حديث صلبهما من قبل كفار قريش، بينما أكرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون أسرى المشركين في بدر ، ومنهم من أطلقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير فداء ، وكذا بالنسبة لبعض المسلمين ، ومنهم من فكوا أسره لقاء إبقاء بدله كدين عليه بأن يبعثه بعد وصوله إلى مكة فلم يبعث به.
الثاني : وقعت مأساة ومجزرة لرهط من المسلمين في بئر معونة في ذات أوان فاجعة الرجيع، إذ جاء أحد وجوه العرب وهو أبو براء عامر بن مالك ويلقب ملاعب الأسنة إلى المدينة وافداً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولما عرض عليه الإسلام لم يدخل الإسلام ، ولكنه لم يبق مصراً على الكفر وكأنه طلب الفسحة والمهلة للتفكر ، كما أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرسل من أصحابه إلى أهل نجد.
ولم يستجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم له في بادئ الأمر خشية من غدر الكفار هناك، ولكن ملاعب الأسنة ضمن له سلامتهم، فبعث معه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أربعين من الصحابة من القراء ليفقهوا الناس في الدين، ويدعوا الى الإسلام فغدر بهم عامر بن الطفيل , وفي رواية أن الذين بعثهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانوا سبعين من الصحابة.
وعن أنس بن مالك قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا لحاجة يقال لهم القراء.
فعرض لهم حيان من بنى سليم: رعل وذكوان، عند بئر يقال لها بئر معونة، فقال القوم: والله ما إياكم أردنا وإنما نحن مجتازون في حاجة للنبى صلى الله عليه وسلم، فقتلوهم.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم شهرا في صلاة الغداة، وذاك بدء القنوت وما كنا نقنت ( ).
خامساً : النفع العظيم الخاص والعام للمسلمين والناس عند نزول كل آية من القرآن.
سادساً : التوبة الشخصية للذوات، ودخولهم الإسلام وحسن إسلامهم.
سابعاً : قصة ومصيبة قتل كل شهيد من المسلمين، ومن الآيات في المقام حفظ كتب المسلمين لأكثرها، ثم سيادة الإسلام في الجزيرة وامتناع القتل والقتال فيها.
ثامناً : حال العوز ونقص الأموال والأسلحة والرواحل التي كان عليها المسلمون، فقد خرجوا إلى معركة بدر وليس معهم إلا فرس واحدة، وقيل فرسين.
وفي الآية ثناء على المسلمين لأنهم لم يميلوا الى زينة الدنيا، قال تعالى[زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ]( ).
إذ رضي المسلمون باجتماع خصلتين في كل منهما مشقة وعسر وهما :
الأول : قلة العدد.
الثاني : الإستضعاف من قبل القوم الظالمين.
وفي الآية شاهد على عدم وجود ناصر للمؤمنين من بين الناس إلا الله عز وجل، لتمر الأيام سريعة فتنتفي القلة عن المسلمين ويصبح عددهم كثيراً، ومن مصاديقه قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً]( )، وتمحى عنهم صفة الإستضعاف , مع زوال الجهة التي كانت تستضعفهم، بل أصبح رؤساء الكفر مسلمين.
لقد وصفت الآية استضعاف المسلمين [في الأرض]ويحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة أرض مكة .
الثاني : المقصود الموضع الذي فيه المسلمون.
الثالث : الإستضعاف في عموم الأرض ، فليس للمسلمين آنذاك دولة وحكم.
والمختار هو الثالث، فحتى المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة كان عددهم نحو مائة من الرجال والنساء ،وهو عدد قليل وهم في دار غربة ، ومنآى عن بلادهم وهي مكة ، ليس عندهم تجارة أو مكاسب ، ولا ينفق عليهم النجاشي .
وهل تذكير المسلمين بقلة عددهم واستضعاف القوم الظالمين لهم في السني الأولى لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة لهم للرأفة بالناس ، الجواب نعم ، ومن مصاديق الرأفة ترك الغزو والنهب ، إنما كانت كل آية من القرآن ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للناس للإيمان ، وترك عبادة الأوثان ، ليكون من خصائص آية البحث نشر شآبيب الرأفة بين المسلمين وعموم الناس ، وعدم بعث النفرة في نفوسهم، وفي التنزيل[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ]( ).
لقد ذكرت آية البحث ثلاثة صفات من الضعف كان المسلمون عليها لينتقلوا إلى ثلاث صفات من العز والشأن ، مع لزوم الذكرى واستحضار كل فرد منها في الوجود الذهني ،وفي القول والفعل .
أما الأولى التي مضت وإنقطعت أيامها فهي :
الأولى : قلة عدد المسلمين ، وهل تختص هذه القلة بما قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة ، الجواب لا ، إنما هي أعم ، فحتى بعد الهجرة كان المسلمون قلة بدليل نسبة جيشهم إلى عدد جيش المشركين في معارك الإسلام الأولى وهي :
أولاً : عدد جيش المسلمين في معركة بدر نحو ثلث عدد جيش المشركين.
ثانياً : عدد جيش المسلمين في معركة أحد أقل من ربع عدد جيش المشركين .
ثالثاً : زحف المشركون في معركة الخندق بعشرة آلاف رجل ، ولم يكن عدد المسلمين ربع عددهم ، وكان المنافقون ينسحبون من الرباط .
لذا جاءت آيات أخرى تحث المسلمين على الذكرى والتدبر في حال ضعفهم وشدة بطش عدوهم ، وزحف الأحزاب لقتالهم واقتحام المدينة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا *وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا] ( ).
وقد طالت أيام الحصار ، وكان المنافقون يتسللون ويعتذرون بأن بيوتهم مكشوفة ، ويخافون من تعرضها للسرقة والنهب .
وكان عدد الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الليالي نحو ثلاثمائة كما ورد عن حذيفة قال: (لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ، ونحن صافون قعود ، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا ، وقريظة اليهود أسفل نخافهم على ذرارينا.
وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ، ولا أشد ريحاً منها ، أصوات ريحها أمثال الصواعق ، وهي ظلمة ما يرى أحد منا اصبعه.
فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون[إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ]( )، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له ، يتسللون ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك ، إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً رجلاً حتى مرّ علي ، وما علي جنة من العدو ، ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ، ما يجاوز ركبتي ، فأتاني وأنا جاث على ركبتي.
فقال : من هذا؟ قلت : حذيفة، فتقاصرت إلى الأرض فقلت : بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم .
فقال : قم . فقمت فقال : إنه كان في القوم خبر ، فأتني بخبر القوم قال : وأنا من أشد الناس فزعاً ، وأشدهم قراً ( )، فخرجت .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم احفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته.
قال : فو الله ما خلق الله فزعاً ولا قراً في جوف إلا خرج من جوفي ، فما أجد منه شيئاً ،
فلما وليت قال : يا حذيفة لا تحدث في القوم شيئاً حتى تأتيني ، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم ، نظرت في ضوء نار لهم توقد ، واذا برجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ، ويمسح خاصرته ويقول : الرحيل . . . الرحيل . . .
ثم دخل العسكر فإذا في الناس رجال من بني عامر يقولون : الرحيل . . . الرحيل يا آل عامر لا مقام لكم ، وإذا الريح في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبراً فوالله أني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم ، ومن بينهم الريح يضربهم بها .
ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما انتصفت في الطريق أو نحو ذلك ، إذا أنا بنحو من عشرين فارساً متعممين( ) ، فقالوا : اخبر صاحبك أن الله كفاه القوم ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يشتمل في شملة يصلي ، وكان إذا حزبه أمر صلى ، فأخبرته خبر القوم أني تركتهم يرتحلون . فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذا جاءتكم جنود . . . }( ))( ).
وحتى في صلح الحديبية فقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أداء العمرة ومعه ألف وأربعمائة من أصحابه من أهل المدينة وما حولها ومن غير سلاح لتحيط بهم خيل المشركين يريدون الهجوم عليهم لولا فضل الله ، وتحول الأمر إلى نصر وفتح عظيم للمسلمين بعقد الصلح بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين ، أن سعادة وغبطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بصلح الحديبية ونزول القرآن بالشهادة بأنه فتح شاهد على أن الإسلام ليس دين سيف وقتال ، إنما هو دين موادعة وصلح وإشاعة للمودة بين الناس واستئصال للعنف والإرهاب والعادات المذمومة من الثأر والوأد والسبي والنهب .
ويحتمل صلح الحديبية وجوهاً :
الأول : إنه نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثاني : انه نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وطريق هداية لمشركي قريش .
الثالث : إنه نصر للناس جميعاً .
ولا تعارض بين هذه الوجوه إذ يخرج الذين كفروا بالتخصيص من صبغة النصر ، فقد كان صلح الحديبية هزيمة لهم , وأصبحوا عاجزين بعده عن حشد الجيوش وعن الغزو والهجوم ، وهو من مصاديق قوله تعالى في واقعة الخندق [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
الثانية : تذكير المسلمين بأنهم كانوا في حال استضعاف .
وهل يشمل هذا الإستضعاف حال اللقاء في ميدان معركة بدر ، الجواب نعم لتكامل أسباب القتال والعدة عند جيش المشركين والنقص الحاصل والظاهر في العدد والعدة عند المسلمين إلى جانب حسن الموضع الذي اتخذه جيش المشركين ، وعندهم الماء ، بينما كان المسلمون [بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا] ( ) وهي أرض سبخة يصعب المشي فيها إلا بعناء مع إنعدام الماء فيها ، لبيان أن النصر الذي ناله المسلمون بفضل ولطف من عند الله عز وجل ليلجأوا إلى سنن العبادة وأداء المناسك ، ولا يتكلوا على كثرتهم وقوتهم بعد ذهاب الإستضعاف عنهم ، ويلزم تفويض الأمور إلى الله التقيد بسنن التقوى ومنها التنزه عن الظلم .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) تأخير العذاب عن الذين كفروا ، وهذا التأخير ليس أمراً مجرداً وعدمياً ، إنما هو مقترن بتوالي المعجزات وبلوغها لهم ، ودخولها إلى بيوتهم ، لتحثهم على الإيمان ، ونبذ عبادة الأوثان .
لقد توارث الناس أيام الجاهلية عادات مذمومة ، وصاروا يمتنعون عن الصلاة وأحكام الحلال والحرام ، وتفشى القتل والنهب وأكل الربا والمال الحرام بينهم ، ومع هذا لم يأت الإسلام بالشدة والقتل لتخليصهم من هذه الأخلاق المذمومة بل تفضل الله عز وجل عليهم بالآيات والمعجزات ، ولكن رؤساء الكفر أصروا على القتال ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن عجزوا عن اغتياله .
وأيهما أكثر نفعاً وأثراً وسرعة في محو العادات المذمومة السيف أم المعجزات .
الجواب هو الثاني ، وعليه منهج الأنبياء ، فلم يرفع موسى عليه السلام سيفاً , وأمته باقية ومذكورة في القرآن ، نعم قاتل عدد من أنبياء بني إسرائيل الطواغيت .
ولم يرفع عيسى سيفاً ، ولم يكن عنده بيت ومأوى وأمته من أكثر الأمم ، فان قيل قد حمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السيف ، والجواب أنه لم يحمل سيفاً طيلة وجوده في مكة ، وحتى في طريق الهجرة الذي يكون السيف فيه ضرورة لم يحمله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أبو بكر ، ولكن كان معه الدعاء والمعجزة وجبرئيل عليه السلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
وحينما وصل إلى المدينة لم يحمل سيفاً ، وفي السنة الثانية من الهجرة خرج في السرايا ، ثم خرج في احدها وكان فيها واقعة بدر ، ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المعركة وليس معه سيف ، ولم يدخل موسى وعيسى عليهما السلام معركة ، كما ورد القرآن بالإخبار عن قتال طائفة من الأنبياء هم وأصحابهم للذين كفروا ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن معارك الإسلام انقطعت قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى .
فبعد فتح مكة نزل قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ) ، في أيام التشريق في حجة الوداع و(دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة , وقال: “إنه قد نُعِيت إليّ نفسي”، فبكت ثم ضحكت، وقالت: أخبرني أنه نُعيت إليه نفسُه فبكيت، ثم قال: “اصبري فإنك أول أهلي لحاقًا بي” فضحكت) ( ).
وعن ابن عباس أن سورة النصر هي آخر سور القرآن نزولاً أي المراد سورة كاملة وإلا فقد ذكرت عدة آيات بأن كل واحدة منها هي آخر آية من آيات القرآن نزولاً .
لقد أنعم الله عز وجل على الناس برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحفظ المجتمعات من ضروب عذاب الإستئصال وهذه النعمة متجددة في كل زمان، وهو من أسرار حفظ آيات القرآن من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، وأن هذا الحفظ رحمة أخرى للناس وفيض ورزق كريم من عند الله عز وجل للناس جميعاً على اختلاف مشاربهم.
فمن خصائص بعثة الأنبياء أنهم رحمة للناس من وجوه :
الأول : الذين سبقوا بعثة النبي أو الرسول.
الثاني : الذين صاحبوا بعثة النبي أو الرسول.
الثالث : الذي جاءوا من بعد زمان النبوة.
لتكون بعثة كل نبي رحمة للناس جميعاً، وان قيل قد علمنا ببلوغ الرحمة الى أهل زمان النبي والذين من بعده، فكيف تأتي الرحمة للذين غادروا الدنيا قبل بعثته .
الجواب بدعاء الصالحين واستغفارهم ، وبتصديق الذراري للنبوة والتنزيل.
وقيل المراد من الأرض في قوله تعالى[مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ]( )، أي أرض مكة، لإستضعاف قريش لهم.
الثالثة : لقلة المسلمين وضعفهم، وتحليهم بالصبر وعدم عزمهم على القتال كانوا يخافون، أن يأسرهم أو يقتلهم الكفار.
وهذا الخوف مصاحب لهم في الحل والترحال، وحتى الذي يهاجر فان قريشاَ كانت تنشر العيون لمنع المهاجرين كما كان بنو هاشم خائفين من كفار قريش بسبب بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنهم لم يتخلوا رجالاً ونساءً عن الدفاع عنه باستثناء أبي لهب وقد وجهوا له اللوم على مؤازرته الكفار ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ونزل القرآن بذمه وزوجته .
وعن زيد بن أرقم قال (لما نزلت { تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى }( ) إلى { وامرأته حمالة الحطب }( ) فقيل لامرأة أبي لهب : إن محمداً قد هجاك . فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في الملأ ، فقالت : يا محمد علام تهوجوني؟ قال : إني والله ما هجوتك ، ما هجاك إلا الله . فقالت : هل رأيتني أحمل حطباً أو رأيت في جيدي حبلاً من مسد ؟ ثم انطلقت . فمكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أياماً لا يُنزّل عليه ، فأتته فقالت : ما أرى صاحبك إلا قد ودعك وقلاك ، فأنزل الله { والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى }( ) ) ( ).
قالت له صفية بنت عبد المطلب، أي أخي أيحسن بك خذلان ابن أخيك وإسلامه، ثم أقامت الحجة عليه بأن العلماء يبشرون بخروج نبي من صلب عبد المطلب، وصاروا يخبرون عن أمارات حلول زمانه أي أنه ليس من الذرية البعيدة انما قد حلّ وقت نبوة خاتم النبيين وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يخبر عن الله وأنه الرسول والآيات تترى بين يديه، لتبين له حقيقة وهي مع وجود المقتضي وفقد المانع لماذا لم يؤمن أبو لهب بنبوته .
وبعد أن استمع أبو لهب لها قال: هذا والله الباطل، والأماني وكلام النساء في الحجال، أي أنهن يأملن ويحلمن من غير أن يعرفن حقائق الأمور، والموانع والعوائق دون تحقيق الأماني .
ثم قال : إذا قامت بطون قريش كلها، وقامت معها العرب في محاربتها فما قوتنا بهم، فو الله ما نحن عندهم إلا أكلة رأس.
ترى لماذا تقوم قريش والعرب معهم هل لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الى الله ويحارب عبادة الأوثان، إنما الذي حصل هو أن العرب صاروا يميلون الى الدعوة السماوية والحق والهدى، على نحو متزايد، وهو من أسرار نفخ الروح من الله في آدم وقوله تعالى[ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
لقد كان جواب أبي لهب مغالطة، ولم يستطع كفار قريش الإضرار بالنبي ولتقوم الحجة على أبي لهب فينزل قوله تعالى[تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( )، وفيه إعجاز من جهة أن الله عز وجل يعلم بأن أبا لهب يموت على الكفر، وأن التوبة لا تدركه.
لقد كان المسلمون في بداية الدعوة وأيام الهجرة الأولى يخافون من أسر الذين كفروا لهم، ومن إجتياحهم المدينة، ولكنهم لم ينتقموا من الكفار بالإغتيال والغيلة والغدر، وملاحقة الأفراد من المشركين إنما تحلوا بالصبر، ولجأوا الى الدعاء والإصغاء إلى آيات القرآن التي كانت تتضمن البشارة والإنذار، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
أما الصفات الثلاثة من العز والشأن التي انتقل إليها المسلمون بفضل من الله وذكرتها الآية فهي :
الصفة الأولى : إيواء المهاجرين إلى المدينة، وتجلي منافع الهجرة كل يوم , من حين إبتدائها والشروع فيها , وإلى يوم القيامة .
وهل يختص الإيواء الذي تذكره الآية بقوله تعالى[فَآوَاكُمْ] بالمهاجرين من الصحابة، الجواب لا، انما يشمل كلاً من :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل[أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى]( ).
ومن الإعجاز في الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث إتحاد اللفظ، وإبتداء كل واحدة منهما بحرف الفاء للدلالة على التعقيب، وسرعة تخقق الإيواء وعدم التأخير والإبطاء في الإيواء وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، وفيه مسائل :
الأولى : بيان عظيم قدرة وسلطان الله عز وجل.
الثانية : ذكر مصداق لإنتفاع المسلمين من قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
الثالثة : قيل المراد من (آواك) بأن ضمك إلى عمك أبي طالب، ولكن الآية أعم في مضمونها ودلالتها سواء بتغشي رحمة الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحفظه من حين ولادته، وحضانته، ودفع الآفات ودنس الشرك عنه أو مصاحبة الوحي له .
وليس من حصر لنعم الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورغم أنه كان يتيماً، فقد كان سيد شباب قريش.
وحينما حضر أبو طالب ونفر من بني هاشم ورؤساء مضر وخاصة قريش لخطبة خديجة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب أبو طالب خطبة بليغة إبتدأها بالحمد لله والشكر له سبحانه على ما خصهم به من النعم .
ثم بيّن منزلة وشأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قريش ورجحان سمته، وطائفة من قريش يسمعون، وشاعت تلك الخطبة , وهي باقية وموثقة في الكتب إلى يومنا هذا إذ قال أبو طالب : الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضىء معد، وعنصر مضر.
وجعلنا سدنة( ) بيته، وسواس( ) حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس.
ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوزن به رجل إلا رجح به؛ فإن كان في المال قلة فإن المال ظل مائل وأمر حائل، ومحمد قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها ما آجله وعاجله من مالي كذا، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل جسيم( ).
وحينما أتم أبو طالب خطبته تكلم ورقة بن نوفل بن أسد وهو ابن عم خديجة بنت خويلد بن أسد، وكان قساً ومعروفاً بالبلاغة، فاحسن الرد إذ ابتدأ هو الآخر بالحمد لله وذكر فضائل قريش، وما خص الله به بني هاشم.
وقال: فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أي بنو هاشم أهل ذلك كله، وأعلن الرضا بهذه الخطبة وصلة السبب مع بني هاشم، والفخر بخطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لخديجة.
وقال : قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله على أربعمائة دينار ، وفي مقدار الصداق أقوال أخرى.
والدينار مثقال ذهب عيار ثمان عشر حبة.
ولما سكت ورقة، قال أبو طالب: قد أحببت أن يشركك عمها، أي أن العم بمنزلة الأب , وفي التنزيل ورد ذكر اسماعيل كأب لبني اسرائيل بقوله تعالى[أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( )، والعم أقرب من ابن العم حتى في الميراث فقال عمها عمرو بن خويلد: اشهدوا عليّ يا معشر قريش أني قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد، وشهد عليه صناديد قريش.
ولا يختص تفضل الله بايواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهجرته إلى المدينة بل انه يبدأ من حين ولادته لقوله تعالى [أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى] ( ).
ويكون من معاني تقدير [فَآوى] أي آواك وآوى أهل البيت والمسلمين ، وصحيح أن النسبة بين قوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ] ( ) وبين الآية أعلاه هي العموم والخصوص المطلق إلا أنه لا يتعارض مع وجوه :
أولاً : آية البحث تفسير وبيان للآية أعلاه .
ثانياً : بيان قانون وهو أن النعمة التي نالها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاز بها المسلمون إلا نعمة النبوة والوحي والمعجزة ، وهي ثروة باقية بأيدي المسلمين ، ومنه آية البحث ، ومن خصائص هذه الثروة تنمية ملكة النفرة من الإرهاب ، وإجتناب القتل والإسراف فيه .
ثالثاً : فوز النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإيواء الخاص من عند الله المذكور في الآية أعلاه من سورة الضحى ، وهو من فيوضات النبوة ، وإجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الله ، وآيات الصبر والخلق الحميد الذي كان يتصف به .
إن قوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ]( )، دعوة للمسلمين لتحمل الأذى ، وعدم التعدي أو الغزو ، فما دام الفرد والجماعة في مأوى ومأمن من الله عز وجل فانهم لا يخشون أحداً كما أنهم يحترزون من الظلم لعلمهم بأنهم في كنف رحمة الله وكفايته، وهو من رشحات وضع البيت لعامة الناس وما فيه من البركة والفيض، قال تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ) .
وهل من صلة بين إيواء الله للمسلمين وبين نصرهم ، الجواب نعم ، لصيغة الإطلاق في الإيواء الشاملة لحال السلم والحرب.
الثاني : تفضل الله عز وجل بايواء المسلمين الأوائل من أهل مكة، والحفظ في مكة مدة البقاء فيها، فقد منع الله عز وجل المشركين من البطش بهم، والإنتقام منهم، وهل في حكم حرمة القتال والقتل في الأشهر الحرم إيواء للمؤمنين.
الجواب نعم وهو إيواء للناس كلهم، وتلك آية من الإرادة التكوينية لأن هذه الأشهر رحمة وإيواء للناس جميعاً، وبرزخ زماني دون سفك الدماء، قال تعالى[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ] ( ).
ولم ينقطع هذا الإيواء بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأكثر أصحابه فمن بقي في مكة من المسلمين تغشته رحمة الله، وفي التنزيل[فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
الثالث : إرادة الإيواء إلى الإسلام، فهو كهف حصين وأمن في النشأتين، فمن دخل الإسلام تغشته رحمة الله، وهو من عمومات قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الرابع : حسن المعيشة في الأسرة والعائلة، ومن الآيات أن الذي يدخل الإسلام يسعى لدخول أفراد أسرته في الإسلام، نعم هناك من يصر على الكفر وإيذاء الذي يسلم من أسرته، كما في بعض رؤساء الكفر مثل سهيل بن عمرو وهجرة ابنته مع زوجها أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة الى الحبشة، وتقييده لإبنه المسلم أبي جندل بالأصفاد في مكة كيلا يهاجر الى المدينة ليتفضل الله عز وجل بفتح مكة ونجاة المسلمين، ودخول ذات الكافرين الإسلام.
فلجأ الأبناء المسلمون الى الهجرة، وهو من مصاديق ايواء الله عز وجل لهم، وهذا الإيواء من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، وهو من مفاهيم قوله تعالى[الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا]( ).
لتدل الآية أعلاه في مفهوم المخالفة على تفضل الله عز وجل بايواء وحفظ المهاجرين، وأنه أعانهم على الهجرة، وسلموا بدينهم وأنفسهم، ونجوا من السؤال الإنكاري والتوبيخ الذي توجهه الملائكة للذين كفروا عند قبض أرواحهم.
الخامس : هجرة نفر من أهل البيت والصحابة الى الحبشة، ويفوق عددهم رجالاً ونساءً المائة، في وثيقة جهادية تدل على صبر المسلمين، وعدم إختيارهم القتال في مكة أو ما حولها، إذ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أشار عليهم بالهجرة وعيّن لهم الحبشة بالذات لأن فيها ملكاً عادلاً، مع بعد بلاد الحبشة عن مكة والجزيرة.
لقد كان هذا العدد الى جانب المسلمين الآخرين الذين بقوا في مكة والذين يخفون إسلامهم كافياً لمواجهة وتحدي الذين كفروا.
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصل في الأمر، ومنع من الفتنة والإقتتال اللذين يريدهما المشركون إذ قال لطائفة من أصحابه : لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن فيها ملكاً لا يظلم أحد عنده، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه فخرج المسلمون إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم( ).
السادس : هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة، ووجود إخوان لهم فيها، سواء أخوة الإيمان العامة، وعمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، أو الأخوة الشخصية التي عقدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين كل اثنين من أصحابه.
السابع : إيواء الصحابة إلى القرآن والتنزيل، فيصدرون عن أحكامه، وفي التنزيل[مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ]( ).
الثامن : إيواء المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسنته النبوية القولية والفعلية، ومن الإعجاز في قوله تعالى[فَآوَاكُمْ] حضور آيات القرآن والسنة النبوية في حياة المسلمين الإجتماعية والإقتصادية والتشريعية، إذ يلجأون لهما في السراء والضراء، وإذا كسفت الشمس أو خسف القمر صلّى المسلمون والمسلمات صلاة الآيات وان حصل الجدب والجفاف صلوا صلاة الآيات، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام فيها لإعلان التسليم بأن مقاليد الأمور بيد الله وأن الأكوان مستجيبة لأمره سبحانه.
ومن مصاديق قوله تعالى[وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( )، أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعلم المسلمين كيفية الإيواء واللجوء إلى رحمة الله ليكون من مصاديق ورشحات اللجوء الى الله الصبر ودنو الفرج وإزاحة الهموم، وفي التنزيل[إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ]( ).
وتحتمل تلاوة المسلمين والمسلمات القرآن في الصلاة في المقام وجوهاً :
أولاً : إنها من الإيواء الذي تذكره آية البحث.
ثانياً : ليست من الإيواء.
ثالثاً : إنها من مقدمات الإيواء.
والمختار هو الأول والثالث أعلاه، وليكون هذا الإيواء على وجوه :
الأول : منه ما يأتي من عند الله إبتداءً.
الثاني : ما يجب على المسلم أداءه وإتيانه، ويكون الإيواء نعمة مترشحة منه.
الثالث : ما يختاره المسلم، ويلجـأ إليه كمأوى، وفي التنزيل[فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ]( ).
وورد لفظ (آواكم) و(أيدكم) في القرآن مرة واحدة في آية البحث، لبيان مسألة وهي أن الله عز وجل أكرم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بنعم عظيمة إذ جمع لهم كثرة عددهم، وتنامي قوتهم، وتخلصهم من الإستضعاف، كما تفضل عليهم بالإيواء والنصر والرزق الكريم، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن مصاديق (خير أمة) أن النصر الذي فازوا به هو من عند الله، وليس هو الغزو والهجوم والنهب، إنما النصر في المقام على وجوه :
أولاً : بالدفاع والإضطرار للقتال.
ثانياً : النصر في القلوب وسلامة السرائر من الشك والنفاق.
ثالثاً : الغلبة على النفس الشهوية.
رابعاً : العصمة من إغواء الشيطان، ودحر رؤساء الكفر عندما يصرون على الهجوم، وتبين آيات القرآن، والوقائع التأريخية أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ينو قتال كفار قريش، حينما كان في مكة، واختار الهجرة لإجتناب هذا القتال، وهذا الإجتناب منهاج الأنبياء.
ومن معاني قوله تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، أنهم ينذرون من القتال ومقدماته، ويتوجه هذا الإنذار إلى الذين كفروا على جهات:
الأولى : النهي عن الإعراض عن معجزات النبوة.
الثانية : التبكيت على عدم التدبر بالآيات الكونية التي تدل على التوحيد، إذ جعل الله عز وجل العقل رسولاً باطنياً عند الإنسان.
الثالثة : التنبيه للزوم الإقرار بمعجزات الأنبياء، ومن مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام وجوه :
الأول : القرآن معجزة عقلية، وكل آية وشطر آية منه معجزة عقلية وكذا بالنسبة للجمع بين آياته واستقراء المسائل منها، قال تعالى[أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( ).
الثاني : تعدد معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية.
الثالث : حفظ القرآن لمعجزات الأنبياء، وذكره لقصصهم، وخلودها في القرآن , وهو من الشواهد على حاجة الناس إلى سلامته من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان.
وهل يختص الأمر بحفظها , الجواب لا، إنما هي مصاديق من مدرسة النبوة جعلها الله عز وجل ثروة ومنهاجاً للمسلمين في حياتهم العامة، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الرابع : الأجر والثواب للمسلم والمسلمة عند تلاوتهما لآيات القرآن، والتفقه في قصص الأنبياء، وبيان إجتهادهم في إنذار قومهم ودعوتهم الى التوحيد، ونبذهم القتل والقتال، وهذا الإنذار القولي أمضى من السيف، إذ ينقضي أثر السيف في ساعته، أما الإنذار بالحكمة والبرهان والوعيد على الجحود بالبلاء والعذاب في النشأتين فهو دائم ومستديم.
ويدل قوله تعالى[وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ]( )، على أن النصر من عند الله مطلوب بذاته، وهو مقدمة ونوع طريق لتحقيق غايات عظيمة منها الأمن للمسلمين في إقامتهم الفرائض والشعائر.
لقد حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على إبقاء أعضاء الوفود التي تأتي للمدينة لدخول الإسلام أياماً في المدينة، ويكونون ضيوفاً عليه ليتعلموا كيفية أداء الصلاة، والحرص عليها، وعدم التفريط بأوقاتها، وإجتناب النسيان في كيفيتها وأوقاتها الخمسة ، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
وأراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يبين للوفود وجوب التلاوة وقدسيتها، ولزوم حفظ سورة الفاتحة وسور وآيات أخرى تتلى في الصلاة، كما أنهم يشاهدون مدة إقامتهم كيف ينزل الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما يعتريه من التعرق ونحوه حتى في اليوم البارد نتيجة الوحي وثقله، وحرص المهاجرين والأنصار على التفقه في الدين، ومعرفة تفسير الآيات والمذاكرة في معانيها وأسباب نزولها، وشكر الله عز وجل على نعمة الإيمان وفضيلة صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي نزول القرآن وفي التنزيل[وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً]( ).
ويكون من معاني وتقدير الآية وجوه:
الأول : وأيدكم بنصره لتعبدوا الله وحده.
الثاني : وأيدكم بنصره لدحر مفاهيم الكفر والضلالة.
الثالث : وأيدكم بنصره لأنه تعالى ينصر المؤمنين، قال تعالى[وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابع : وأيدكم بنصره ليدخل الناس الإسلام.
الخامس : وأيدكم بنصره لتنزيه الأرض من الغزو والإرهاب والوأد والعادات المذمومة.
السادس : وأيدكم بنصره فلا راد لنصره ومشيئته.
السابع : وأيدكم بنصره لأن الذين كفروا ظالمون مصرون على الغزو.
الثامن : وأيدكم بنصره لزجر عامة المشركين عن قتالكم، فقد كان كفار قريش يستنجدون بالقبائل والدول لإعانتهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ويقترن هذا الإستنجاد بالإفتراء على النبوة والتنزيل وتخويف الناس منهما وينفقون الأموال لجلب الأنصار والأتباع فخاب سعيهم، قال تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
بينما أكرم الله عز وجل الأوس والخزرج الذين آووا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين باسم الأنصار، ولم ينل هذا الاسم ومنزلته بعدهم أحد الى يوم القيامة، قال تعالى[لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ]( ).
التاسع : وأيدكم بنصره جزاء على إيمانكم وصبركم في طاعة الله ورسوله، وورد في خاتمة آية الوضوء [وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
العاشر : وأيدكم الله بنصره فاشكروا له.
الحادي عشر : وأيدكم بنصره لترأفوا وترحموا الناس .
الثاني عشر : وأيدكم الله بنصره نعمة من عنده على الناس جميعاً، فصحيح أن النصر خاص بالمؤمنين إلا أن منافعه تتغشى أهل الأرض كلهم.
الثالث عشر : وأيدكم بنصره الذي لا يرد، فلو اجتمعت السموات والأرض، وما فيها لما استطاعت منع نصر الله، علما بأن السموات والأرض تتنزه وتتبرأ عن مثل هذا الإجتماع فهي مستجيبة لأمر الله، وعون ومدد للمسلمين في نصرهم.
وقد تفضل الله عز وجل وأنزل الملائكة لنصرتهم، كما أن السماء في عشية معركة بدر أنزلت المطر ليكون عوناً للمسلمين في أرضهم، ليتلاقح الماء مع تراب المعركة ويشتركان في نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وهزيمة البغاة.
وقد أنعم الله عز وجل على الصحابة الذين حضروا معركة بدر بأن ناموا ليلتهم إذ رماهم الله عز وجل بالنعاس أمنة لهم , وفيه مسائل :
الأول : التخفيف عن المؤمنين .
الثاني : طرد الخوف والفزع والإجهاد عنهم.
الثالث : إنه مانع من المناجاة بأسباب الخوف وكثرة عدد جيش المشركين وأسلحتهم بالنسبة لقلة عدد جيش المسلمين وأسلحتهم، قال تعالى[إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ] ( )، قال أبو طلحة : لقد سقط السيف مني يوم بدر لما غشينا من النعاس.
وبقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده قائماً تلك الليلة يدعو الله ويسأله النصر، وهذا النصر من مصاديق قوله تعالى[وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ]( ).
وكان عند جيش المشركين مائتا فرس، ولم يكن عند المسلمين إلا فرس واحدة هي فرس المقداد، وكانت الأرض دهاساً تسيح فيها الأقدام، وأجنب بعض الصحابة فقالوا كيف ندخل المعركة بالجنابة، وكيف يلقي الله الشهيد منا وهو جنب فتفضل الله عز وجل وأنزل المطر، فكان رحمة ، وطهوراً، وتخفيفاً.
الرابع عشر : وأيدكم بنصره مع كثرة المشركين وقلة عددكم، قال تعالى[مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
الخامس عشر : وأيدكم بنصره مع كثرة أسلحة ورواحل ومؤن المشركين , وحال الفقر والفاقة التي أنتم عليها.
السادس عشر : وأيدكم بنصره كما أيدّ الأنبياء والمؤمنين من قبل.
السابع عشر : وأيدكم بنصره لقانون من الإرادة التكوينية، قال تعالى[وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثامن عشر : وأيدكم بنصره وسيؤيدكم بنصره، وفيه بعث لليأس والخوف في قلوب المشركين، وحث للمؤمنين على ترك الغزو خشية مباغتة العدو، فمن يفوز بالنصر من عند الله لايخشى الذين كفروا ولا يبطش بالناس.
التاسع عشر : وأيدكم بنصره بنزول الملائكة مدداً وعوناً.
وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يقر المسلمون وأهل الكتاب من اليهود والنصارى وغيرهم بأن مقاليد الأمور بيد الله عز وجل وأن الخلائق مستجيبة لمشيئته، وقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبشارات القريبة والبعيدة، وكل واحدة منها يتحقق مصداقها بالأتم والأمثل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل معركة بدر بيوم يري أصحابه مصارع كبار المشركين ,
فيقول هذا مصرع فلان , هذا مصرع فلان يضع يده على الارض ها هنا وها هنا، فما أماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم)( ).
وأخبرت الآية عن تفضل الله عز وجل برزق المسلمين من الطيبات وهذا الفضل ورد بصيغة العموم للناس جميعاً بقوله تعالى [وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ]( ).
فهل المقصود ذات الرزق في الآية أعلاه وآية البحث، المختار هو نسبة العموم والخصوص المطلق فقد انتفع المؤمنون من الرزق العام للناس جميعاً في الآية أعلاه، وانتفعوا على نحو خاص مما ورد في الآية أعلاه لبيان إختصاص المسلمين بنعم عظيمة ولا يأتي النصر في الغالب إلا بعد إنفاق الأموال وكثرة الخسائر في النفوس والأسلحة وتعطيل التجارات والأعمال .
فجاءت الآية لتخبر عن الجمع بين أمور:
الأول : نصر الله للمسلمين بآية ومدد من عنده سبحانه.
الثاني : صيرورة هذا التأييد حرزاً وطريقاً للمكاسب.
الثالث : تفضل الله برزق المسلمين من الطيبات.
لبيان أن النصر لم يكلف المسلمين شيئاً لأنه من عند الله عز وجل، فان قلت قد سقط أربعة عشر شهيداً في معركة بدر ، والجواب لقد أنعم الله عز وجل عليهم بالحياة في ظل العرش من حين مغادرتهم الدنيا، قال تعالى[وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
ثم أن الخطاب في الرزق للمؤمنين الأحياء لقرينة الطيبات لأنه ورد في باب اللذائذ الحلال في الحياة الدنيا .
وقال الزمخشري: (ورزقكم من الطيبات) أي الغنائم( ).
ولكن الآية أعم، وتتضمن تحسين معيشة المسلمين، وكثرة أموالهم، ونماء الزراعات وازدهار التجارات ومكاسب المسلمين مع التوسعة في الرزق، واستقرار المجتمعات وقلة الحروب والقتال.
وأختتمت الآية بقوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] لبيان أن الله عز وجل غير محتاج الى شكر الناس له، ولكن هذا الشكر خير محض لذات المؤمنين، إذ يزيد عليهم الله عز وجل من فضله، قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( )، ولبيان أن الله عز وجل قريب من العباد، يحب أن يسمع نداءهم، وشكرهم.
ومن الشكر لله عز وجل الاطمئنان والتسليم لقانون وهو أن الله هو الرزاق الذي يتفضل بالنعم الظاهرة والباطنة على المؤمنين، وأن رزقه مطلق غير مقيد أو محدود.
ومن الشكر لله عز وجل الإنقطاع إلى العبادة والنسك وإجتناب الظلم والتعدي لعدم إجتماع المتضادين، وقد قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ) ولتكون الحياة الدنيا دار الشكر لله والثناء عليه سبحانه ، وهو الذي ينعم على بعباد ليشكروه فيجزيهم في الدنيا والآخرة على شكرهم له.
الصفة الثانية : تأييد الله عز وجل للمسلمين، ووردت الآية بصيغة الجمع , والمراد على وجوه:
الأول : تأييد ونصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : تأييد الله عز وجل للمهاجرين، وهل المقصود في الآية خصوص التأييد في المعركة أم يشمل غيره، الجواب هو الثاني إذ يشمل وجوهاً :
أولاً : التأييد بالسلامة من القوم الظالمين في مكة، فهو حرز ونصر، وفي التنزيل [وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( ).
ثانياً : الحفظ والسلامة في طريق الهجرة.
ثالثاً : التأييد في الإيواء، وهي الصفة الأولى، في هذه الآية بقوله تعالى[فَآوَاكُمْ] للتداخل بين الصفتين، ولأن الإيواء والتأييد متداخلان.
رابعاً : التأييد من الله للمؤمنين في منع الذين كفروا من الإغارة على المدينة المنورة.
الثالث : تأييد الله عز وجل للأنصار، وفي قوله تعالى[وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ] إخبار أن ما حققه المسلمون من النصر هو من عند الله.
وهذا النصر لم يقم على الهجوم والغزو، إنما قام على التأييد والنصرة من عند الله عز وجل، ومن الإعجاز في قوله تعالى[وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ]( )، التعدد في النعمة، من جهات:
الأولى : تأييد الله عز وجل للمسلمين.
الثانية : نصر الله عز وجل للمسلمين.
الثالثة : صيرورة النصر مادة وموضوعاً للتأييد .
وهل تحتمل الآية أن الله عز وجل يؤيد المسلمين في غير النصر، الجواب نعم، وهو من باب الأولوية، وتجدد واستدامة نعم الله عز وجل على المسلمين، والنصر ضد الخذلان، وفي التنزيل[إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
أما التأييد فهو المعاونة والتعضيد والتقوية ، ولقد تفضل الله عز وجل وأيدّ عيسى عليه السلام بقوله تعالى[أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ]( ).
وقد أيد الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالنصر لبيان قانون وهو أن الأنبياء ورثة الأنبياء، وأن نصر الله عز وجل للأنبياء السابقين لم يغادر الأرض، إنما ينتفع منه المؤمنون بحسب الحاجة والحال والشأن وهو من مصاديق قوله تعالى[كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ]( ).
مفهوم الموافقة في الآية
في الآية مسائل :
الأولى : إبتدأت الآية بصيغة الأمر الموجه إلى كل المسلمين والمسلمات بقوله تعالى [وَاذْكُرُوا]، وهل يشمل هذا الخطاب المسلم الذي دخل الإسلام ، والمسلمين في حال كثرة وتوالي النعم أم أنه خاص بالمهاجرين والأنصار الأوائل.
الجواب هو الأول ، فهذا الأمر بالتذكر واستحضار قلة عدد المسلمين متجدد إلى يوم القيامة ، فيرى المسلم إنتشار الإسلام ودخوله إلى كل بلد في المعمورة فيدرك أن هذه النعمة لم تتم إلا بآية من عند الله ، وهو شاهد على صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته وأن الله عز وجل هو الذي أيده وأعانه والمسلمين، وفي التنزيل[فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ]( ).
ترى ماذا لو لم يؤيد الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بنصره، يحتمل الجواب وجوهاً :
الأول : بقاء المسلمين في حال ضعف واستضعاف .
الثاني : إصابة المسلمين بالنقص مع قلتهم وشدة الإستضعاف والضرر.
الثالث : تخلف المسلمين من القلة والإستضعاف .
والمختار هو الثاني فتخلص المسلمين القلة والإستضعاف رحمة من عند الله وشاهد على أنه سبحانه يمدهم بالعون وآيات الفضل والإحسان التي لا يقدر عليها إلا هو ، ولا يجعلها إلا للأنبياء وأنصارهم، وهو الذي يهدي الأفراد والجماعات الى سبل الإيمان وفي التنزيل[وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ]( )، وأوان ومكان وكيفية هذا الدخول لا يعلمها إلا الله، ولا نتم إلا بفضل منه سبحانه.
الثانية : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا أذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون) بلحاظ إتصال وإستدامة خطابات القرآن إلى يوم القيامة.
وهل كان هؤلاء القلة يعلمون أن المسلمين سيزداد عددهم ليصل إلى مئات الملايين وينتشرون في الأرض ، الجواب نعم ، وهو المستقرأ من آيات القرآن ومن السنة النبوية ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
(عن شداد بن أوس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها ، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها ، وأني أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض( )، وإني سألت ربي أن لا يهلك قومي بسنة عامة ، وأن لا يلبسهم شيعاً ولا يذيق بعضهم بأس بعض.
فقال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ، ولا أسلط عليهم عدواً من سواهم فيهلكوهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ، وبعضهم يقتل بعضاً ، وبعضهم يسبي بعضاً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني أخاف على أمتي الأئمة المضلين، فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة)( ).
(عن تميم الداري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “ليبلغن هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله هذا الدين، بعِزِّ عزيز، أو بِذُلِّ ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر”، فكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخيرَ والشرفَ والعزَّ، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية) ( ).
الثالثة: دلالة قوله تعالى [فَاذْكُرُوا] على إنقضاء أيام القلة ونقص العدد والإستضعاف ، فقوله تعالى [إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ] ( ) أي تتصفون بالقلة من وجوه:
الأول : قليل ونقص في العدد .
الثاني : قليل في المنعة والقوة .
الثالث : قليل في البلدة التي أنتم فيها وهي المدينة المنورة .
الرابع : قليل بين الناس لوجود أهل الكتاب والمشركين .
الخامس : صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في مكة على إيذاء المشركين، وهل استهزاء المشركين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إيذاء له وحده أم أنه إيذاء للمسلمين والمسلمات أيضاً .
الجواب هو الثاني، وكان هذا الاستهزاء والإيذاء البدني لا يزيدهم إلا ايماناً.
السادس : قلة عدد المسلمين في الجزيرة .
الرابعة : إبتدأت آية البحث بالأمر للمسلمين بتذكر قلة عددهم وضعفهم واستضعاف الظالمين لهم ليتعلق مفهوم الموافقة بأمور أخرى مشابهة مثل :
أولاً : إخفاء كثير من المسلمين إسلامهم .
ثانياً : لجوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم قبل الهجرة.
ثالثاً : تعذيب الذين كفروا لطائفة من المسلمين .
رابعاً : حصار قريش لبني هاشم لنحو ثلاث سنوات .
خامساً : الإفتراء والتعدي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وفي أيام موسم الحج في منى ، وفي قوله تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى] ( ).
وورد (عن ابن عباس في قوله [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى]( )، قال أبو جهل بن هشام : حيث رمى رسول الله بالسلا على ظهره وهو ساجد لله عز وجل) ( )، ولكن الآية أعم في موضوعها، والشواهد عليها.
سادساً: موت بعض الصحابة والصحابيات تحت التعذيب في مكة.
سابعاً : مصادرة كفار قريش لأملاك وأموال كثير من الصحابة ،
ثامناً : أداء طائفة من المسلمين والمسلمات الصلاة وتدارسهم القرآن خفية في بدايات الإسلام .
الخامسة : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل لدخول الناس الذين كانوا يؤذونهم في الإسلام إلا من قتل منهم ، لذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم امتنع عن الدعاء عليهم حتى وهم يحاربونه ، إنما سأل الله عز وجل لهم الهداية فتفضل الله عز وجل بالإستجابة لدعائه .
السادسة : وجوب شكر المسلمين لله عز وجل على تبدل حال الضراء إلى السراء والنعم المتتالية من غير أن يقيموا بالضراء والأذى مدة طويلة ، ويدل عليه ورود الفاء في قوله تعالى [فَآوَاكُمْ]التي تفيد التعقيب ، فلم تقل الآية (وآوَاكُمْ)، وتتجلى هذه الحقيقة بحدوث بيعة العقبة الأولى والثانية عندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرض نفسه على القبائل ويدعوهم إلى الإسلام وإلى إيوائه ليبلغ رسالة ربه فاعلن وفد الأوس والخزرج إيواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه إذا وصل إلى المدينة يثرب .
السابعة : لم تقف نعم الله عز وجل عند إيواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ونجاتهم من أهل مكة ، إنما تفضل الله عز وجل بنصرهم على القوم الكافرين الذين أصروا على اللحوق بهم إلى المدينة وأسرهم أو قتلهم .
الثامنة : دعوة المسلمين إلى التدبر في آيات الرزق وكثرة الطيبات التي تفضل الله عز وجل بها عليهم .
التاسعة : اختتام آية البحث بما يدل على الحسن الذاتي للشكر لله عز وجل بقوله تعالى[وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
العاشرة : لقد أخبرت الآية عن تفضل الله برزق المسلمين من الطيبات ، ومن الإعجاز في الآية ورودها بصيغة التبعيض بحرف الجر (من) لبيان وجوه :
الأول : توالي الطيبات والرزق الكريم من الله عز وجل للعباد من اللامتناهي ، وتأتي دفعة وتدريجياً في دعوة للناس للدعاء , وهو من مصاديق قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) .
الثاني : بعث المسلمين للتحلي بسنن التقوى والدعاء لزيادة الطيبات التي يتفضل بها سبحانه , وفي التنزيل [وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ]( ).
الثالث : دعوة الناس جميعاً لتلمس الرزق الكريم والفوز بالطيبات بالإيمان بالتوحيد ، ونبذ عبادة الأوثان ، وترك القتال والقتل والإرهاب ، قال تعالى [وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
الحادية عشرة : تقدير الآية على وجوه :
أولاً : ورزقكم ويرزقكم الله من الطيبات، فمن أسرار حرف التبعيض (من) استدامة وتجدد الرزق من عند الله عز وجل .
ثانياً : ورزقكم من الطيبات لإخلاصكم في الإيمان .
ثالثاً : ورزقكم من الطيبات جزاء في الدنيا على إيمانكم.
رابعاً : ورزقكم مجتمعين ومتفرقين من الطيبات .
فقد جاء المهاجرون إلى المدينة وهم فقراء ليصبح كثير منهم أغنياء ، ومنهم من زاول التجارة والبيع والشراء في السوق من غير أن يسبب الأمر فقرا أو فاقة عند الأنصار وأهل المدينة ، مما يدل على عدم المزاحمة في الكسب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ] ( ).
فأبو بكر مثلاً كان يذهب إلى سوق البقيع كل يوم يحمل الأثواب على كتفيه ليبيع ويشتري ، وعندما تولى الخلافة جعلوا له مرتباً (250)دينار في السنة مع شطر من شاة كل يوم، وطلبوا منه أن يمتنع عن الخروج للسوق ، وقيل خرج مرة أخرى للسوق لعدم كفاية ما يحصل عليه من الأجر، وأختلفوا فاحتكم أبو بكر وعمر إلى الإمام علي عليه السلام ، فأمضى وأيد طلب أبي بكر بزيادة راتبه إلى ثلاثمائة دينار (فانطلق أبو بكر فصعد المنبر واجتمع إليه الناس فقال أيها الناس إن رزقي كان خمسين ومائتي دينار وشاة يؤخذ بطنها ورأسها وأكارعها وإن عمر وعلياً كملا لي ثلثمائة دينار والشاة أفرضيتم فقال المهاجرون اللهم نعم قد رضينا.
فقال أعرابي من جانب المسجد لا والله ما رضينا فأين حق أهل البادية، فقال أبو بكر إذا رضي المهاجرون شيئاً فإنما أنتم تبع)( ).
الثانية عشرة : بيان قانون وهو لا يقدر على الرزق الكريم والطيبات إلا الله عز وجل، وفي التنزيل[إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( ).
وتقدير الآية : ورزقكم الله من الطيبات ، ولا يقدر على هذا الرزق إلا هو سبحانه ،فان قلت لا يختص الرزق من الطيبات بالمؤمنين ، وهذا صحيح ، فان الرزق رحمة من عند الله يصيب بها البر والفاجر ، قال تعالى [وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ) ولكن الرزق للمؤمنين مستديم ومتجدد ، وهو سبب لشكرهم لله عز وجل لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) أما الذين كفروا فان الرزق الكريم يكون عليهم حجة لأنهم جحدوا به بمحاربتهم النبوة والتنزيل .
مفهوم المخالفة في الآية
وفيه مسائل :
الأولى : لم يبدأ الإسلام بكثرة الأنصار والأتباع إنما بدأ بالدعوة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأفراد ، قال تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ) وكان أول من آمن به خديجة ثم الإمام علي عليه السلام ، ثم توالى دخول الصحابة في الإسلام .
الثانية : بيان ثبات المسلمين الأوائل في منازل الإسلام مع ضعفهم واستضعافهم .
الثالثة : دعوة المسلمين إلى الصبر على الأذى ، وقيام الذين كفروا بالتوجه بالجيوش إلى المدينة لقتال النبي صلى الله وآله وسلم وأصحابه ، ولقد وقعت معركة أحد خارج المدينة ، فهل كان المشركون متوجهين إليها ، الجواب نعم .
الرابعة : دعوة المسلمين لرحمة المستضعفين في الأرض والتحلي بالأخلاق الحميدة ، قال الله تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وهل الأسرى من المستضعفين أم أن تلبسهم بالكفر ، وقتالهم المسلمين قبل الأسر يحول دون وصفهم بالمستضعفين ، المختار هو الأول، للحاظ الحال والزمن الهيئة التي هم فيها , لذا جاء القرآن والسنة بالرأفة بهم ، قال تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا] ( ).
الخامسة : كما أمرت الآية المسلمين أن يذكروا قلتم وضعفهم ، فانها تدعوهم للتدبر في كثرتهم ومنعتهم وقوتهم وأنها لم تكن لولا فضل الله عز وجل ، وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد عادى النبوة أناس كثيرون فأخزاهم الله ، وسادت ملوك وعروش في أمصار وأقطار من الأرض ، ولكنها إنقرضت وزالت .
أما النبوة والتنزيل فهما باقيان وهما سبب منعة وعز وفخر ، إذ يتوارث المؤمنون من أيام أبينا آدم سنن التقوى، فمن مصاديق قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وجود أمة مؤمنة في كل زمان واستدامة سنن التقوى في الأرض، قال تعالى[كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
السادسة : دعوة المسلمين للدعاء وسؤال الله عز وجل لتوالي وزيادة النعم ، فمن خصائص التذكير بالنعم واستحضارها الترغيب بالدعاء والشكر لله عز وجل عليها ، وفي التنزيل [وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ] ( ).
السابعة : في الآية زجر للذين كفروا عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، إذ أنها تتضمن الإخبار عن صيرورة المسلمين في حال أمن وسعة في العيش ، بحيث يستطيعون شراء الأسلحة والرواحل للدفاع ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( ).
لقد أدرك المشركون أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في السرايا لن يجعلهم يهمّون بحال عوائلهم ، وما يطعمون لأن الله عز وجل رزقهم من الطيبات .
الثامنة: أخبرت الآية عن تفضل الله برزق المسلمين من الطيبات، وفيه غنى عن الغزو والهجوم والإستيلاء على الأموال .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعيد السبايا والأموال والغنائمإلى أهلها المشركين عندما يأتون ويسألونه ، والصحابي الذي لا يعيد لهم أموالهم يعوضه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويعطيه البدل حتى يعيدها لهم ، وتلك آية في أخلاق النبوة ، وأن الطيبات ليست هي الغنائم .
ليؤسس النبي صلى الله عليه وآله سولم لقانون وهو أن الغنائم ليست غاية في سرايا الإسلام ، وأنه لم يغز أحداً طمعاً في الغنائم ، وإن كان المغزو مصراً على القتال، فإن المسلمين في غنى عن الغنائم ، لأن الله عز وجل رزقهم من الطيبات ، ولكن الإستيلاء على الغنائم سبب لرحمة ذات الكفار بمنعهم من تسخيرها في الحرب على النبوة والتنزيل .
وقد عقد النبي صلى الله عليه وآله سلم عقد موادعة وصلح مع يهود المدينة والقبائل التي تحيط بالمدينة ليكونوا وأموالهم وأفعالهم في مأمن وحرز، وقد دافع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عنهم، ومن مواد المعاهد مع اليهود(وَإِنّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي النّجّار ِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف ٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ؛ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ؛ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ؛ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف ٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ، إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَإِنّ جَفْنَةَ بَطْنٌ مِنْ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّ لِبَنِي الشّطِيبَةِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ( ).
نظرية علمية
من خصائص هذا الزمان عناية علماء الطاقة والهيئات العلمية الكبرى بالظواهر الكونية، والسياحة في الفضاء وبلوغ الأجرام السماوية البعيدة لتكتشف بعض الأسرار الكونية التي ينتفع منها الإنسان مطلقاً والتي تدل على الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , منها تشريع الصلاة خمس مرات في اليوم، وصيام شهر رمضان على نحو الخصوص، وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
ومن الظواهر الكونية وجود أمواج للأجرام منها ما يُرى , ومنها مالم يكتشف الى الآن، ومنها ما يكون له صوت شديد ومنها ما ليس له صوت.
والصوت له أمواج مثل أمواج البحر ، وكذا بالنسبة للضوء.
وهناك مسألتان علميتان هما :
الأولى : تغير وتبدد الطول الموجي مع دخول كل وقت صلاة كالزوال لوقت صلاة الظهر، والغروب لصلاة المغرب، مع التداخل بين صلاة الظهر والعصر، والتداخل بين صلاة المغرب والعشاء.
الثانية : نشاط غدة مخصوصة عند الإنسان ذكرا أو أنثى عند دخول كل صلاة وكأنها تشحن الطاقة، وتستمر الطاقة التي تفرزها نحو ربع ساعة ثم تأخذ بالضعف والنقص، وهو من أسرار تعيين أوقات الصلاة , وتشريع صلاة الجماعة في أول وقتها.
وبيان التناسب والتلائم والمصاحبة بين التغيير في الآيات الكونية , والتغيير في بدن وجسم الإنسان يبعثه على التدبر في الخلق، ويجذبه إلى طاعة الله، ويجعله يلجأ إلى العبادة والإستغفار .
قال تعالى[إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
وأن سنخية الطاقة في صلاة الظهر تختلف عن الطاقة في صلاة المغرب، وهذه النظرية بحاجة إلى اثبات علمي وهو من الشواهد الكونية التي تدل على أن تشريع الصلاة والصيام من عند الله عز وجل، إذ ذكر أنه في شهر من السنة تتكاثف موجات الطاقة كلها .
الآية الثانية عشرة
قوله تعالى [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
لقد جاءت الآية السابقة بالتذكير ودعوة المسلمين لتذكر حال القلة والإستضعاف التي كانوا عليها ، وجاءت هذه الآية لتذكيرهم بمقدمات معركة بدر مع بيانها ، وتوثق حال جيش المسلمين ، وجيش الذين كفروا يومئذ.
والعِدوة بضم العين وكسرها شفير وطرف الوادي .
وتكرر لفظ [الْعُدْوَةِ] في هذه الآية من سورة الأنفال مرتين ، ولم يرد في آية أخرى من القرآن ، وهو من الإعجاز في إتحاد وتعدد مواضع اللفظ القرآني ودلالاته، وفيه مسائل:
الأولى : جريان وقائع معركة بدر مرة واحدة في التأريخ وعدم تكرارها مرة أخرى .
الثانية: بيان نصر الله عز وجل للمسلمين حتى مع رجحان كفة المشركين في ميدان القتال إلى جانب رجحان كفتهم في الأسباب الأخرى.
الثالثة : الثناء على المسلمين لصبرهم ورضاهم بالموضع الأدنى بالإضافة إلى قلة عددهم وأسلحتهم .
الرابعة : تجلي بركة حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ميدان المعركة ، ومصاحبة النصر له , على كل حال .
والدنيا من الأدنى أي الأقرب إلى المدينة ، والقصوى من الأقصى أي الأبعد والأكثر طولاً . ولابد من أسرار ودلالات في ذكر الله عز وجل لمواضع جيش المسلمين وجيش الذين كفروا يومئذ .
وفيه نكتة وهي رجحان كفة جيش المشركين يوم بدر من جهات:
الأولى : كثرة عدد جيش المشركين.
الثانية : حدة وكثرة السيوف والرماح والدروع .
الثالثة : كثرة الخيل والإبل والرواحل التي مع المشركين .
الرابعة : وجود زيادة وفائض في العدة والمؤون التي مع المشركين .
الخامسة : التعدد والتنوع في أنساب جيش المشركين فمنهم من قبائل قريش ومن قبائل أخرى , ومن الأعراب والعبيد.
السادسة : حسن الموقع الذي اختاره المشركون لمعسكرهم .
وفيه حجة عليهم ، فمع إجتماع أسباب الترجيح لهم في العدد والعدة والأسباب المتعددة إلا أن الهزيمة المقرونة بالخزي كانت في إنتظارهم .
وفيه زجر للذين كفروا من التعدي والهجوم ، وإختيار القتال ، فهذا الإختيار مكروه في ذاته.
إستحواذ قريش على أموال النبي (ص) والمهاجرين
ورد عن عمار بن ياسر في ذكر تأريخ وكيفية دخوله الاسلام قال: لقيت صهيباً بن سنان على باب دار الأرقم وهي بالقرب من جبل الصفا وهو يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان فيها فقال عمار لصهيب: ما تريد هنا.
فرد عليه صهيب ذات السؤال للحذر والخوف من الذين كفروا : ما تريد أنت، فقال عمار: أريد الدخول على محمد فاسمع كلامه، فاجابه صهيب بأنه حضر لذات الغاية( ).
مما يدل على عدم خشية أحدهما من الآخر حينئذ , وأن أمر الإسلام صار بحال من الإعلان، فدخلا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاستمعا الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعاهما إلى الإسلام , وتلا عليهما آيات من القرآن , فاسلما معاً وبقيا في دار الأرقم حتى المساء وخرجا مسلمَين تحت جنح الظلام مستخفين من كفار قريش ، لتمر الأيام والسنين ويصعد على الصفا كل عام ملايين الحجاج والمعتمرين.
وكان اسلام عمار وصهيب في يوم واحد بعد بضع وثلاثين رجلاً( ).
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أنا سابق العرب إلى الجنة وصهيب سابق الروم إلى الجنة , وبلال سابق الحبشة إلى الجنة , وسلمان سابق الفرس إلى الجنة ( ).
وقد هاجر عمار الى المدينة بعد تعرضه لأشد الأذى من كفار قريش، وموت أمه سمية تحت التعذيب وهي أول شهيد في الإسلام.
كما هاجر صهيب بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأيام وكان رامياً، فلحقه جماعة من المشركين لصده ومنعه من الهجرة .
فلما أحس بهم نثر كنانته فجعلها بين يديه واستعد لرميهم، وقال: والله لقد علمتم أني من أرماكم , والله لا تصلون حتى أرميكم بكل سهم معي ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي، ثم أفعلوا ما شئتم فقالوا له: لقد جئتنا صعلوكاً فقيراً، وأصبحت غنياً، فلا نتركك تذهب عنا غنياً.
قال لقد علمتهم أني خرجت وليس معي ذهب وفضة , قالوا: دلنا على مالك بمكة نخلي عنك، فلم يمتنع عن أن يدلهم، ولم يرمهم بالنبل والسهام، إنما أخذ منهم العهود على الأمان وتركه وشأنه , ثم دلهم على ماله في مكة وأين وضعه .
وقال: احفروا تحت أسكفة الباب فإن بها أواقي ، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين( ).
لبيان قانون وهو أن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أدب أصحابه على إجتناب القتال وسفك الدماء وإن تركوا أموالهم، فنزل قوله تعالى[ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ]( ).
وقدم صهيب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يزال في قباء وبادره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقول: يا أبا يحيى ربح البيع , ربح البيع .
فقال صهيب : يا رسول الله ما سبقني اليه أحد , وما أخبرك إلا جبرائيل عليه السلام.
وهل هذه الأموال التي استحوذت عليها قريش من المهاجرين من أسباب رجحان كفتهم في معركة قريش، الجواب نعم، لتكون وبالاً عليهم .
ومن الصحابة الذين استحوذت قريش على أموالهم، آل جحش بن رئاب , وهم أبناء عمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا قد اسلموا قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم , وأمهم أميمة بنت عبد المطلب .
ولما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى المدينة، أغلق آل جحش دارهم وغادروا جميعاً رجالاً ونساءً مهاجرين إلى المدينة، وهم :
الأول : عبد الله بن جحش والذي شارك في معركة بدر، واستشهد في معركة أحد.
الثاني : أبو أحمد بن جحش، وقد هاجر الى الحبشة ثم عاد الى مكة , وخرج الى المدينة مهاجراً مع عكاشة بن محصن وجماعة.
الثالث : عبيد الله بن جحش، وهاجر الى الحبشة وتنصر هناك ومات فيها، وتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوجته بعده وهي أم حبيبة.
الرابع : زينب بنت جحش أم المؤمنين التي نزل فيها قوله تعالى[فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً]( )، وكانت أول زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحاقا به ، توفيت في السنة العشرين للهجرة , وعمرها (53 سنة) ودفنت بالبقيع ، ولم تترك ديناراً ولا درهماً , ولما أراد الوليد بن عبد الملك توسعة المسجد النبوي باع ورثتها بيتها بخمسين ألف درهم.
الخامس : حمنة بنت جحش زوجة الصحابي مصعب بن عمير الذي استشهد في معركة أحد، فتزوجها طلحة بن عبيد الله.
وكان آل جحش حلفاء حرب بن أمية بن عبد شمس، فعمد أبو سفيان بن حرب إلى دارهم بعد هجرتهم فاستحوذ عليها، وباعها بأربعمائة دينار ذهباً من عمرو بن علقمة العامري من بني عامر بن لؤي، وبلغ آل جحش أن أبا سفيان باع دارهم، فقام أبو أحمد الذي كانت زوجته الفارعة بنت أبي سفيان بانشاء قصيدة يهجوه فيها، ويبين قبح فعله، فقال:
أبلغ أبا سفيان أمرا في عواقبه الندامه
دار ابن أختك بعتها تقضي بها عنك الغرامه
وحليفكم بالله رب الناس مجتهد القسامه
اذهب بها اذهب بها طوقتها طوق الحمامه( ).
فلما كان يوم فتح مكة ودخل آل جحش مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليها، وليس عندهم دار يأوون إليها، جاء أبو أحمد بن جحش وقد ذهب بصره الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال : يا رسول الله ان أبا سفيان عمد الى دارنا فباعها بغير حق.
فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الى جنبه، وسارّه بشئ، فما عاد أبو أحمد يذكر هذا الدار بشئ.
فسألوه عن الأمر فقال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن صبرت كان خيراً لك، وكانت لك بها دار في الجنة.
قلت : أنا اصبر، فتركها أبو أحمد ثم اشتراها يعلى بن منبه.
وعن أسامة بن زيد أنه قيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الطريق الى مكة لإرادة الفتح: يا رسول الله، أين تنزل بنا غَداً؟ قال صلى الله عليه وسلم: وهل ترك لنا عَقِيلٌ من منزل؟! وفي رواية: هل ترك لنا عَقِيلٌ من رباع أو دور( ).
أي مع أن بيع عقيل لدور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبني هاشم ليس شرعياً فان النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يسترجع بيوتهم , وكأن هذا البيع فضولي .
وهل انتفعت قريش من هذه الأموال , وهل رجحت كفتهم في معركة بدر وأحد , الجواب لا .
لقد التقى الجيشان وصارت معركة بدر قاب قوسين أو أدنى إذ يصر الذين كفروا عليها ، كما أن قافلة أبي سفيان إجتازت وصارت على مقربة من مكة ، وعلم المسلمون بهذا الإجتياز وأنهم لا يقدرون عليها، لقوله تعالى [وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ] ( ).
وقد بعث رئيس القافلة أبو سفيان إلى قريش وهم في الجحفة التي تبعد عن مكة (183)كم بأن القافلة سلمت وصارت في طريقها إلى مكة فأرجعوا ، ولكن أبا جهل وأصحابه أصروا على التوجه إلى ماء بدر الذي يبعد عن الجحفة نحو( 120) كم .
وقيل لرسول الله (ألا تلعن قريشاً بما أتوا إليك؟ فقال : لم أبعث لعاناً إنما بعثت رحمة، يقول الله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}( ) ( ).
وفي الآية أعلاه قال ابن عباس ( هو عامّ فمن آمن بالله واليوم الآخر كتب له رحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن عوفي ممّا أصاب الأُمم من المسخ والخسف والقَذف) ( ).
وقيل أن الرحمة في الآية أعلاه خاصة بالمؤمنين .
والصحيح أن الرحمة في الآية مطلقة وعامة , ومن الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
فليس من حصر لوجوه رحمة الله بالمؤمنين في أنفسهم وأرزاقهم وذراريهم وعباداتهم ، وصلاحهم لتصيب الرحمة عامة الناس من جهات :
الأولى : رشحات الرحمة على المؤمنين .
الثانية : عموم البركة على أهل الأرض بسطوع شمس الإيمان .
الثالثة : محو الفتن والبلايا عن عامة الناس ، وكما في قوله تعالى [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً] ( ) فان مفهوم المخالفة في المقام سلامة عموم الناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الغرق والخسف والزلزلة ونحوها .
الرابعة : صيرورة عموم الناس ومنهم الذين كفروا في حال تدبر بآيات التنزيل ومعجزات النبوة ، لأن شآبيب الرحمة مقدمة ووسيلة للتفكر بالآيات والبراهين الدالة على التوحيد .
ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، تقريب الناس كافة من الإيمان بالآيات والبراهين الدالة على وجوب عبادة الله عز وجل .
وذكرت الآية قافلة أبي سفيان بقوله تعالى [وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ] ( ) لبيان أنه قريب من المسلمين عند خروجهم، ومن ميدان معركة بدر ولو شاء الله عز وجل لالتقى جيش المسلمين بالقافلة واستولوا عليها عوضاً إما أخذوه قهراً من النبي والمهاجرين من العقار والأموال .
ترى ماذا لو استولى المسلمون على القافلة ثم جاء جيش المشركين ، الجواب لانشغل المسلمون بتلك الأموال ، ولاختلفوا في قسمة ما فيها من الذهب والفضة وغيرها من البضائع إلى جانب ألف بعير مجموع الأبل التي فيها ولاختلفوا حتى في اختيار الإبل، ونوع الغنيمة لكل واحد منهم.
فشاء الله عز وجل أن يصرف عنهم القافلة وأن يلتقي الجيشان ، فتكون قلوب المسلمين منقطعة إلى الدعاء والمسألة ورجاء النصر من عند الله .
لقد أصّر الذين كفروا على القتال، وان لم تقع معركة بدر لوقعت غيرها، ولو شاء الله لصرفهم عن القتال ولكنه سبحانه اقام الحجة عليهم بمناجاتهم بمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأًصحابه في سوح المعارك فلم يجنوا إلا الخزي , وفي التنزيل[وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ]( ).
وقد أنعم الله عز وجل بقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعركة ، وهو يركع ويسجد ويلح بالدعاء بالنصر ، فقوله تعالى [وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ] ( ) دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل على نعمه من وجوه :
الأول : عدم قصد القافلة أو القتال .
الثاني : إملاء المشركين القتال على المسلمين .
الثالث : صحبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين وقيادته للمعركة ، ومن وجوه تلك القيادة أمور :
أولاً : عدم البدء بالقتال .
ثانياً : نهي الصحابة عن أي فعل أو رمي من غير إذن منه .
ثالثاً : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشركين إلى كلمة التوحيد بقوله (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) ومن الفلاح عدم وقوع قتال وسقوط القتلى مع التباين في العاقبة فالشهداء في الجنة ، وقتلى المشركين في النار.
وعن طارق بن عبد الله المحاربي أنه كان في سوق المجاز يعرض بضاعة له للبيع، فمر عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو ينادي بأعلى صوته : يا أيها الناس قولوا لا إله الا الله تفلحوا) ( ).
فانبهر طارق من هذا النداء وبهاء صاحبه وتحديه للكفر في موسم الحج والأشهر الحرم.
ثم رأى رجلاً يتبع النبي بالحجارة , وقد أدمى كعبيه وقدميه والنبي يقول ذات النداء العام: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا )، ويحاول صرف الناس عما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا تطيعوه، فانه كذاب ) .
وليس من كذب في المقام خاصة وأنه لم يدع بهذا النداء الى نفسه إنما يدعو الى التوحيد فسأل طارق من حوله من أهل مكة: من هذا .
قالوا: شاب من بني عبد المطلب .
قال : فمن هذا الذي يتبعه يرميه بالحجارة قالوا: هذا عمه عبد العزى وهو أبو لهب .
لبيان أن عامة قريش لم يتجرأوا على التعدي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الكيفية , وتلك المناسبة العبادية العامة إلا عمه . وإن قريشاً تعمدوا أن يتولى عمه تكذيبه وإيذاءه لعلها تكون ذريعة وحجة عند القبائل أي إذا كذّبه وآذاه عمه فمن باب الأولوية ألا تصدقوا به.
ولم تمر الأيام والأشهر حتى هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى المدينة وكانت هذه الهجرة وحدها نصراً مبيناً وأمناً، ومناسبة لبيان أحكام الشريعة، وتوثيق المسلمين لآيات القرآن والمنع من تحريف أو تبديل أو تغيير بعضها، لتكون هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى المدينة من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، فلم يحفظ القرآن بالسيف والقتال، إنما حفظه الله بفضله وهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن الى المدينة.
وقدم طارق بن عبد الله المحاربي إلى المدينة مع نفر من قومه من الربذة والتي تبعد عن المدينة المنورة نحو 170 كم وكانت أحدى محطات القوافل على الطريق بين العراق ومكة المكرمة، وعاش فيها الصحابي أبو ذر الغفاري آخر أيام حياته وتوفى فيه بعد أن نفاه عثمان إليها لأنه صار ينادي في الطرقات محتجاً على اعطاء مروان بن الحكم ونحوه مالاً كثيراً من بيت المال , وتقع الربذة بين العراق ومكة المكرمة( ) .
ونزل طارق المحاربي وأصحابه وامرأة من قومه على مشارف المدينة، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليه ثوبان أبيضان فسلم عليهم فردوا عليه السلام.
وقال: من أين أقبل القوم، قالوا: من الربذة، وكام معهم جمل أحمر قال: تبيعوني جملكم .
قالوا : نعم . قال : بكم ؟.
قالوا: بكذا وكذا صاعاً من تمر، ولم يستوضعوا شيئاً، حسباناً للمماكسة في الشراء، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: قد أخذته فقبله بالثمن الذي طلبوه.
ثم أخذ برأس الجمل ودخل به المدينة، حتى إذا توارى عنهم تلاوموا بينهم، وقالوا: أعطيتم جملكم من لا تعرفونه ولم يدفع لكم ثمنه، فقالت المرأة التي معهم ، لا تتلاوموا، فقد رأيت وجه رجل ما كان ليحقركم، ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه( ).
وفي الحديث شاهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يخرج بمفرده إلى أطراف المدينة، ويشتري ما فيه نفع للإسلام والمسلمين، من غير أن يخشى أحداً مع أن طلعته البهية تشير إليه، وهذا الخروج من مصاديق قوله تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( )، وفيه شاهد بان النبي محمد لم يظلم أحداً، ولم يطلبه أحد بظلامة أو ثأر.
ولما حان وقت العشاء أتاهم رجل ومعه كمية من التمر فحياهم بتحية الإسلام : السلام عليكم، وقال : أنا رسول من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليكم وأنه أمركم أن تأكلوا من هذا التمر حتى تشبعوا وتكتالوا حتى تستوفوا مقدار الثمن الذي طلبتموه بحملكم، أي أن الأكل لدرجة الشبع من الضيافة وليس من الثمن.
فأكلوا حتى شبعوا، واكتالوا حتى استوفوا.
قال طارق المحاربي ولما كان الغد دخلنا إلى المدينة: فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النّاسَ وَهُوَ يَقُول يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ : أُمّك وَأَبَاك ، وَأُخْتَك وَأَخَاك ، ثُمّ أَدْنَاك فَأَدْنَاك ( ).
ونزلت الآية بتوثيق خوف المؤمنين من قيام الذين كفروا بأسرهم وقتلهم وتفريق جمعهم ، ومنع وصولهم إلى المدينة ، والإحاطة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عنه ، فلا يقول أحد يوماً أن المسلمين لم يخافوا الذين كفروا وخطفهم لهم ، بل كان المسلمون قلة مستضعفين ، وعندما صار المسلمون كثرة وأعزة لم يقوموا بالإنتقام من الذين كفروا ، إنما اختاروا العفو رجاء الصلاح العام، والأجر والثواب من عند الله .
وفي قوله تعالى[وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( )، قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإِساءة ، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم {كأنه ولي حميم}( ).
لأن الذين بقوا أحياء من الذين كفروا دخلوا الإسلام ووقفوا بجانب المهاجرين والانصار في الصلاة ، وخرجوا معهم في سرايا الدفاع ، ومنهم من صار أميراً في سريته ليرأف بالناس ويمتنع عن البطش والقتل العشوائي .
ولم تقل الآية (ويتخطفكم الذين كفروا ) إنما ذكرت لفظ الناس لتأكيد كون المسلمين قلة في عددهم وليس معهم أسلحة تكفي للدفاع ، وفي الجمع بين لفظ العموم في (الأرض ) في الآية ولفظ (الناس )بيان لمصاحبة حال الإستضعاف للمسلمين حتى في حال الفرار عن البلدة أو القرية التي هم فيها.
فان قلت قد ورد قوله تعالى [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ] ( ).
والجواب نزلت هذه الآية في مسألة القبلة والجهة التي يتوجهون إليها ، ولكن ليس من مانع من عموم موضوعها ونفعها وأن الله حاضر مع المؤمنين ، وليس من تعارض بينها وبين آية البحث لأن المسلمين كانوا خائفين من الذين كفروا في الحل والترحال ، فانجاهم الله عز وجل منهم ، وسلّحهم وجعلهم أعزة يقيمون الصلاة في أي بقعة من الأرض بأمان فيتحرون جهة القبلة ، ويتوجهون إليها , قال تعالى [أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
ليكون تذكير الله عز وجل المسلمين بحال الإستضعاف التي كانوا عليها مناسبة لشكرهم لله عز وجل على النعم التي صاروا عليها ، وفضل الله الذي يتوالى عليهم .
ومن الإعجاز في آية البحث نزولها بصيغة الخطاب [واذكروا ] ويحتمل المراد وجوهاً :
الأول : إرادة المسلمين الأوائل .
الثاني : المراد خصوص المهاجرين .
وهل يشمل المهاجرات ، الجواب نعم .
الثالث : المراد مسلموا ومسلمات مكة .
الرابع : المهاجرون والأنصار .
الخامس : عموم أجيال المسلمين .
والمختار هو الأخير ،فصحيح أن القدر المتيقن من الإستضعاف هو سني الإسلام الأولى إلا أن الخطاب في الآية عام ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها النبي اذكر إذ أنتم قليل مستضعفون .
الثاني : يا أيها المهاجرون والأنصار اذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا اذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون .
الرابع : يا أيتها اللاتي آمنّ أذكرن إذ أنتم قليل .
وفي الآية دعوة للمسلمين للخوف من الله عز وجل الذي صرف عنهم الخوف، وفي التنزيل [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ) .
لتبين الآية أعلاه أن إزالة الخوف وإبداله بالأمن ظرف للعبادة ومناسبة لتجليات التقوى , والإبتعاد عن الغزو والنهب والسلب .
لقد فتح الله عز وجل أبواب الرزق على المسلمين، ودخل الناس في الإسلام ، وصلحت النفوس ويكون معها إحياء الأرض ، ونشاط الأسواق وكثرة وتكاثر الأنعام عند المسلمين وغيرهم ،والتي تكون مقدمة ومناسبة للتفقه في الدين وأداء الفرائض ، كما أن أداء الفرائض مقدمة للرزق والبركة من غير أن يكون بينهما دور للتباين الجهتي، وتعدد مصاديق كل فرد منهما ، ولأن كل فرد منهما أمر مستقل كفضل من الله .
ومن خصائص الفضل تفرع الخير والبركة عنه، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
وذكرت الآية ثلاثة خصال من أسباب الأذى الذي كان يتعرض له المسلمون بصيغة الماضي لبيان زوالها، وهي :
الأولى : قلة المسلمين .
الثانية : الإستضعاف من قبل القوم الظالمين .
الثالثة : خوف المسلمين من سبي وأسر الكافرين لهم .
لتتضمن الآية ثلاثة من النعم فاز بها المسلمون بالإضافة إلى أن النجاة من كل حال من القلة والإستضعاف وخشية الخطف نعمة عظيمة ، لتمر الأيام ويجمع المشركون الجيوش لمحاربة النبوة والتنزيل.
ولكنهم لم يخافوا منهم ولم يخشوهم، انما صار هذا الجمع زيادة في إيمانهم ، قال تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ).
فحينما إنسحبت جيوش المشركين من معركة أحد في ذات اليوم الثاني الذي ابتدأت فيه من غير أن ينالوا ويحرزوا أي غاية من الغايات الخبيثة التي جاءوا من أجلها ، وقطعوا شوطاً من المسافة في طريقهم إلى مكة ندموا على إنسحابهم وتلاوم الرؤساء بينهم ، فلابد أن الناس في الطريق والقائمين حول آبار الماء سألوهم ماذا فعلتم ، وهل حققتم نصراً ، فلن يجدوا جواباً ، فأدركوا أنهم إذا دخلوا مكة سيسألهم أهلها عن وعيدهم بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن جلب المهاجرين أسرى، والإكثار من القتل فيهم، وفي الأنصار , وليس عندهم جواب إلا الخيبة.
وهل كان المشركون يقصدون غزو المدينة , الجواب نعم ، إذ كانوا يريدون سبي المسلمات وأولاد المسلمين , وسمعهم معبد بن الخزاعي وهم بالروحاء (لا محمداً أصبتم، ولا الكواعب أردفتم، فبئس ما صنعتم! فهم مجمعون على الرجوع، ويقول قائلهم فيما بينهم: ما صنعنا شيئاً، أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، قبل أن يكون لهم وفرٌ والمتكلم بهذا عكرمة بن أبي جهل) ( ).
فعزموا على العودة للقتال والغزو لبيان إصرار الذين كفروا على القتال والظلم والتعدي، وعندما أخبر الناس النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بنية وعزم جيش المشركين على العودة للقتال، تحلوا بالصبر ورباطة الجأش، وأظهروا حسن التوكل على الله، وتوجهوا لمطاردة الذين كفروا ولقائهم، وفي التنزيل[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
وعن أبي سعيد الخدري قال : لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَرَى أَمْرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالًا ثُمَّ لَا يَقُولُهُ فَيَقُولُ اللَّهُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِيهِ فَيَقُولُ رَبِّ خَشِيتُ النَّاسَ فَيَقُولُ وَأَنَا أَحَقُّ أَنْ يُخْشَى( ).
لينال المهاجرون والأنصار مرتبة الخشية من الله بالقول والفعل.
وتدل الآية أعلاه على انتفاء الخوف عن المسلمين من تخطف وأسر الذين كفروا لهم، ومع تحقيق الذين كفروا غلبة في بعض جولات القتال في معركة أحد فان الله عز وجل وقى المسلمين الوقوع في الأسر، فقد كان المشركون مشغولين بقطع طرف وطائفة منهم، وعجزوا عن أسر نفر من المسلمين، وسلامة المسلمين من الأسر يوم معركة أحد من مصاديق قوله تعالى[فَآوَاكُمْ] فالذين آواهم الله عز وجل في مأمن وحرز من الأسر والسبي.
وهل يختص موضوع الإيواء بالحياة الدنيا أم أنه يشمل عالم الآخرة، الجواب هو الثاني، فمن خصائص نعمة الله عز وجل البقاء والإستدامة، وعدم الزوال، فان قلت ورد في التنزيل[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]( ).
والجواب هذه الآية شاهد على عدم إنقطاع إيواء الله عز وجل للمسلمين، وهم لم يغيّروا ما بأنفسهم بل تدل الآية أعلاه من سورة آل عمران على صدق إيمانهم وإستعدادهم للدفاع والتضحية، وزيادتهم إيماناً في مسالك التقوى والخشية من الله.
لقد خرج نحو ألف من المسلمين لملاقاة الذين كفروا في معركة أحد ، ورجع ثلاثمائة من وسط الطريق بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول.
وفي اليوم التالي لمعركة أحد خرج أكثر من مائتين منهم مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى حمراء الأسد لمطاردة الذين كفروا، وهم الذين حذّرهم الناس من عودة الذين كفروا للقتال، فزادهم إيماناً.
ويصيب الخطف المنفرد والقلة من المسلمين لتدل كثرتهم هذه على سلامتهم من الخطف لتمتلأ قلوب الذين كفروا باليأس، ويستحوذ عليهم القنوط بسبب العجز عن النيل من المسلمين مجتمعين ومتفرقين .
وذكرت الآية تأييد الله عز وجل للمسلمين بأعظم سلاح، وهو النصر من عند الله عز وجل، وصحيح أن ذات النصر يستلزم الإعداد والمقدمات والسلاح , ولكن الله عز وجل تفضل على المسلمين بنصره، ولم تقل الآية (وايدكم بالنصر) إنما ذكرت أن التأييد كان بنصر الله عز وجل ويتصف بأمور:
الأول : النصر المبين.
الثاني : نزول الملائكة مدداً وعوناً للمسلمين، وفي التنزيل[فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الثالث : قهر وخزي المشركين.
الرابع : عدم وقوع إنكسار وهزيمة للمسلمين في معارك الإسلام كلها، قال تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
الخامس : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا.
السادس : من خصائص نصر الله توثيقه وحفظه في الأجيال المتعاقبة، إذ نزل القرآن بآيات النصر والغلبة للمسلمين، ومنه قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، لبيان قانون وهو تحقق نصر الله للنبوة والتنزيل وأهل الإيمان في كل الأحوال بمشيئة وقدرة الله تعالى، فلا موضوعية للأسباب والمقدمات فينصر الله القليل وأهل الضعف والذلة والمدار على الإيمان، لذا أمرت الآية أعلاه المسلمين بالتقوى والخشية من الله لإستدامة النصر لهم ولبيان حاجتهم للتقوى في معارك الإسلام اللاحقة , وفي حياتهم اليومية.
ومن التقوى التنزه من الظلم والسلب والنهب والتعدي، وما لبثت أرض الجزيرة حتى ساد الأمن في أرجائها، وتغشاها الإيمان، ونبذ الناس عادات الجاهلية الدهماء .
وهل بشر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحياة الأمن والأمان للمسلمين , الجواب نعم، وفي مناسبات متعددة منها أيام حفر الخندق وعندما كان عشرة آلاف رجل من جيش المشركين يحيطون بالمدينة إذ شاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلمان الفارسي وقد ضعف عن كسر صخرة في الخندق وقيل أن سلمان هو الذي جاء الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم راجياً العون , فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : دعوني فأكون أول من ضربها.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بسم الله، فضربها، أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبدأ الضرب إلا بعد أن نطق باسم الله عز وجل لبيان منافع التسمية وذكر الله في كل حال.
وفي تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للبسملة عند الشروع بالفعل مسائل :
الأولى : دعوة المسلمين للجوء الى الله عز وجل.
الثانية : حث المسلمين على ذكر الله عز وجل، وعدم الغفلة عن الذكر في حال السراء والضراء ، قال تعالى[وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
الثالثة : البسملة أمان من الخوف والخشية من جيوش الكفر التي تحيط بالمدينة.
الرابعة : بيان قانون وهو أن المسلمين لا يلجأون الى الإنتقام والكر والفر، إنما يفرون إلى ذكر الله.
الخامسة : تأكيد قانون وهو أن البسملة سلاح ومفتاح للأمر المشكك والمعضلة.
السادسة : بيان صدق توكل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على الله , وفي التنزيل[الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ]( ).
السابعة : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعبوديته لله عز وجل، وخشوعه واستجارته به، وفي التنزيل[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
الثامنة : دعوة الناس للإسلام.
التاسعة : بيان معجزة للنبي محمد تبدأ بالبسملة في كسر السخرة.
العاشرة : تنمية ملكة التقوى عند المسلمين.
الحادية عشرة : بيان قانون وهو أن المسلمين لايريدون الغزو والهجوم إنما يلجأون الى الذكر.
فضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوقعت الصخرة: فلقة من الصخرة بمقدار ثلثها , فكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكبرّ معه المسلمون.
وقال: قصور الشام ورب الكعبة، ثم ضرب أخرى ( فوقعت فلقة ثلثها فقال: الله أكبر قصور الشام ورب الكعبة، ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة فقال: الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة.
فقال عندها المنافقون: نحن نخندق على أنفسنا وهو يعدنا قصور فارس والروم ( ).
لتمر الأيام والسنين ويتحقق مصداق البشارة التي قالها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يبقى للمنافقين إلا الذم وسوء المصير وفي التنزيل[وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( ).
ومثله البشارة التي وردت في حديث عدي بن خاتم الطائي عند مجيئه الى المدينة ودخوله الإسلام، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الطريق الى معركة بدر يزف لأصحابه البشارة بالنصر والغلبة ويخبرهم عن مصارع رؤساء الكفر، ومع هذا فانه كان يرجو عدم وقوع القتال، وكان يمتنع عن الإبتداء به وهو من مصاديق إطلاق وعموم الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى في آية البحث [وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ]( )، بأن سيرة وأخلاق الأنبياء هي دفع القتال والحيلولة دون وقوعه مع أن النصر فيه للنبي وأنصاره لقانون من الإرادة التكوينية وهو أن المعجزة كافية لهداية ورشاد الناس.
وجاءت الآية بصيغة الماضي (وأيدكم) لبيان أن نصرة الله عز وجل للمسلمين حتى وهم في حال الإستضعاف والخوف والوجل، ومن النصر السلامة من الإختطاف والأسر وإضطهاد الذين كفروا لبيان رشحات قانون الدنيا ملك لله عز وجل، فتجري الوقائع بمشيئته ورحمته فأبى سبحانه إلا نصر المؤمنين لتنزيه الأرض من الجهالة والإرهاب، وليصير الناس أخوة، لا يصدرون إلا عن التنزيل وسنن الأنبياء، وما يمليه العقل من الضوابط العامة، ويكون نصر الله للمؤمنين حاضراً في السراء والضراء، ولا يختص بميدان القتال والمعارك.
وورد في آية البحث قوله تعالى[وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ]( )، أي لما وقع القتال، لأن المسلمين يعرضون عن القتال من جهات :
الأولى : قلة عدد المسلمين مع كثرة جيش المشركين، لقد حضر من المشركين نحو ألف في معركة بدر، وقد جاءوا على عجالة لإنقاذ قافلة أبي سفيان، إذ أنهم تهيأوا للخروج من مكة في ثلاثة أيام، أما لو كانوا على موعدة للقتال لحشروا من الرجال والرواحل والأسلحة ضعف عددهم، بدليل أنهم خرجوا بعدها بسنة إلى معركة أحد , وعددهم ثلاثة آلاف أي ثلاثة أضعاف عددهم في معركة بدر.
الثانية : حرص المسلمين على سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبسلامته تترى آيات القرآن بالنزول والتعاقب، مع حاجتهم والناس جميعاً لكل آية منها.
الثالثة : كراهة المسلمين للقتال.
الرابعة : قيام المعجزة العقلية والحسية بدعوة الناس إلى الإسلام.
أن قوله تعالى[وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ] شاهد على أن المسلمين لم يرغبوا بالقتال، ولم يقابلوا تهديد ووعيد الذين كفروا بمثله، فهم لا يقصدون القتال، يدعون إليه لأنهم مشغولون بالذكر[فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ]( )، من نعمة التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاحبته، وأداء الصلاة اليومية بخشوع وخضوع.
ومن الآيات أن معركة بدر وقعت في السنة الثانية للهجرة وهي ذات السنة التي نزلت فيها فريضة الصيام، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
وتبين الآية أن الله عز وجل هو الذي جعل المسلمين يلتقون مع المشركين بعد إصرار المشركين على القتل، ولو لم تقع معركة بدر فهل يمتنع الذين كفروا عن هذا الإصرار.
الجواب لا، لقد كانوا عازمين على القتال، وقتل المؤمنين، وغزوا المدينة وهو البلد الوحيد للإسلام، وكان فيها قبائل من اليهود وفيها المنافقون والكفار، لينصر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر، فتقوى شوكة المسلمين، ويزداد عددهم، وتكثر أموالهم.
وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً]( )، أي مكتوباً منذ الأزل ولا بد أن يقع، بنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعذاب الذين كفروا بهزيمتهم واستئصال بعض رؤسائهم ليكونوا موعظة لغيرهم من جهات:
الأولى : زجر رؤساء الكفر الآخرين عن التعدي على الإسلام.
الثانية : حث الناس على عدم إطاعة الذين كفروا.
الثالثة : مواساة مسلمي ومسلمات مكة، وتقوية قلوبهم، وبعث الغبطة في نفوسهم.
وهل يشملهم خطاب النصر في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، أم أنهم انتفعوا من رشحات هذا النصر.
الجواب هو الأول، فقد يختص الخطاب في الآية بالمسلمين الذين كانوا في ساحة معركة بدر، ودخل النصر بيوت المدينة، كما دخل بيوت بني هاشم والمسلمين في مكة، ودخل بيوت المشركين أنفسهم لأن شطراً من أولادهم دخلوا الإسلام.
وقد أسف بعضهم على قتل آبائهم الكفار في معركة بدر لعلمهم بأن عذابهم في جهنم أشد وأمر، وكانوا يرغبون بدخول آبائهم الإسلام.
ولا بأس باحصائية تبين أسماء الذين أسلموا من أبناء رؤساء المشركين وقصة كل واحد منهم من حين إسلامه وإلى شهادته منهم :
الأول : الوليد بن الوليد بن المغيرة.
الثاني : سلمة بن هشام أخو أبي جهل.
الثالث : أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة.
الرابع : سهلة بنت سهيل بن عمرو، وهي زوجة أبي حذيفة بن عتبة وقد هاجرا الى الحبشة، وقد طلب أبو حذيفة من أبيه عتبة بن ربيعة المبارزة يوم بدر ثم انصرف عنها، إذ نهاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنها.
ولما قتل عتبة بن ربيعة وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسحب قتلى المشركين والقائهم في القليب، وأخذوا جثة عتبة نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي حذيفة فرآه كئيباً، وقد تغير لونه، فلم يتركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشأنه، بل تحدث معه لمعرفة ما حلّ به، وللتخفيف عنه، وشدّ قلبه في مقامات الإيمان.
فقال: يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شئ؟
فقال : لَا ، وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا شَكَكْت فِي أَبِي وَلَا فِي مَصْرَعِهِ وَلَكِنّنِي كُنْت أَعْرِفُ مِنْ أَبِي رَأْيًا وَحُلْمًا وَفَضْلًا ، فَكُنْت أَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهُ ذَلِكَ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَمّا رَأَيْت مَا أَصَابَهُ وَذَكَرْت مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ بَعْدَ الّذِي كُنْت أَرْجُو لَهُ أَحْزَنَنِي ذَلِكَ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِخَيْرِ وَقَالَ لَهُ خَيْرًا ( ).
مفهوم الموافقة في الآية
وفيه مسائل :
الأولى : لقد تضمنت الآية السابقة الإخبار عما كان عليه المسلمون من حال قلة العدد والإستضعاف ، وتلبسهم بالصبر والتحمل من غير أن يتناجوا بالقتال والإنتقام من المشركين ، فكانت صلاتهم كل فريضة رحمة بهم، وطريقاً للرفعة والنجاة من أسباب الضعف والعوز والفاقة .
وجاءت آية البحث لتبين أن المسلمين حتى في مواضع القتال كانوا في العدوة الدنيا ، وفي أرض سبخة .
وفي قوله تعالى [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى] ( ) دعوة للمسلمين لدراسة حال مواضع القتال وأثرها ، وكيف أن المسلمين كانوا في موضع أدنى من موضع العدو .
لبيان قانون وهو مجئ نصر الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على كل حال وفي أي مكان وزمان توبيخ للذين كفروا ونهي عن مواصلة القتال .
لقد أظهر كفار قريش الخبرة والحنكة في مقدمات القتال باختيارهم الموضع الأفضل والأحسن وفرطوا به ولعله من أسباب إصرارهم على القتال إلى جانب كثرة عددهم وسلاحهم ، فكانوا [بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى] ( ) و[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] ( ) يلحق الذل والإنكسار الذين كفروا وإن كانوا في مواضع محصنة وقلاع ذات جدران عالية , ولم يكن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الدعاء، وكان يهتف بتضرع : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، فاستجاب الله عز وجل له وأنزل الملائكة لنصرته .
وعن ابن عباس قال (بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في اثر رجل من المشركين امامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول اقدم حيزوم , فنظر إلى المشرك امامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد خطم انفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك اجمع .
فجاء الانصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين) ( ).
الثانية : أخبرت آية البحث بان قافلة أبي سفيان قريبة من المسلمين إذ أخذ أبو سفيان أسفل الوادي لبيان أنه صار من المتعذر على المسلمين التعرض للقافلة لتقابل الجيشين، وسمي ركباً لأنهم كانوا يقودون الإبل ، وقيل كانوا على بعد ثلاثة أميال من موقع معركة بدر وهو بعيد ، والمختار أنها كانت بمسافة أبعد من هذا والمراد أنها فاتت المسلمين ولا يدركونها .
والإجماع على أن رئيس القافلة هو أبو سفيان ، ولكن أختلف في عدد الرجال الذين كانوا معه في القافلة على أقوال :
الأول : ثلاثون رجلاً .
الثاني : أربعون رجلاً .
الثالث : سبعون رجلاً .
لبيان أن المسلمين لم يطمعوا فيها ، إنما أرادوا الدفاع عن نبيهم وأنفسهم ودينهم ، وقد ورد في سورة الأحزاب ومعركة الخندق قوله تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ] ( ) والمراد من أسفل منكم في الآية أعلاه أهل مكة وغطفان .
الثالثة : بيان حقيقة وهي أن اللقاء للقتال في معركة بدر لم يكن عن موعدة بين الفريقين ، وأن المسلمين لم يهددوا بالقتال ولم يكن عن موعدة بين الفريقين ، ولم يسعوا إليه في خروجهم هذا لقوله تعالى [وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ]( ).
الرابعة : ذكرت الآية التباين في الموضع والمحل بين جيش المسلمين وجيش الذين كفروا ، إذ يتبادر إلى الذهن أن الجيشين في موضع واحد لأنهما متقاربان ومتقابلان.
فجاءت الآية بذكر التباين بينهما من جهة سنخية الموضع وأن كان يرى أفراد كل جيش الجيش الآخر وحركتهم ، لبيان نعمة الله على المسلمين ، إذ ينزل الله عز وجل الماء من السماء فيسقى المسلمون , ويملأون الأحواض والقرب ويغتسلون ويتطهرون ، وتصبح أرضهم كالصلبة المتماسكة، بينما يرتبك جيش الذين كفروا من المطر ويفيض عليهم الماء وتصبح أرضهم وحلة يصعب السير فيها ، ولم تعد ميداناً للخيل ، وفيه تخفيف عن المسلمين لأنهم يقاتلون رجالة ليفقد المشركون بريق وأثر أهم سلاح عندهم وهو الخيل ، وكانوا ينوون أن يجعلوا موضعهم منتدى للطرب والغناء وشرب الخمور وبذل الطعام ، ليشيع عند العرب تحديهم وشدة بأسهم وكثرة أموالهم وبذلهم ، وقدرتهم على جمع الجيوش بسرعة فائقة فأخزاهم الله وأرجع كيدهم إلى نحورهم، وفي التنزيل[أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ الْمَكِيدُونَ]( ).
الخامسة : تبين الآية أن اللقاء في معركة بدر تم بمشيئة الله ، وليس عن ميعاد من المسلمين ، وفيه تأكيد لقانون وهو أن المسلمين دخلوا أول معركة في الإسلام من غير قصد أو سعي إليها ، ولم يكونوا سبباً في وقوعها ، ولكن المشركين هم الذين أبوا إلا القتال فكانت هزيمتهم وهلاك سبعين وأسر سبعين منهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً] ( ).
وحينما نزل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ناحية بدر بعث نفراً من المهاجرين والأنصار وقال (اندفعوا إلى هذه الظراب وهي في ناحية بدر فإني أرجو أن تجدوا الخبر عند القليب الذي يعلى الظراب فانطلقوا متوشحي السيوف فوجدوا وارد قريش عند القليب الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا غلامين أحدهما لبني الحجاج بن الأسود والآخر لأبي العاصي يقال له أسلم) ( ).
وأفلت أصحابهما نحو جيش قريش .
فلم يقتلوا الغلامين ، إنما جاءوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في عريش له دون الماء ، فأخذوا يسألون العبدين عن أبي سفيان وأصحابه ، فصار العبدان يحدثانهم عن قريش ومن خرج منهم ، وحينما يسألونهم عن عدد أفراد الجيش يقولان لا نعلم فيضربونهما .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فخفف في صلاته ، وعندما أتمها إلتفت إلى الصحابة الذين جاءوا بهم ، وقال : إنكم تضربونهما إذا صدقا ، فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسألهما عن عدد أفراد جيش قريش.
قالا : لا نعلم ، وفيه تأكيد بالدلالة التضمنية على وجود جيش المشركين بالقرب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولم يعد لمسألة قافلة أبي سفيان موضوعية أو أثر , وفي التنزيل[وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( )، فبدل غنيمة القافلة صار الأمر يحتمل وجوهاً:
الأول : النصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثاني : عدم وقوع قتال بين الفريقين .
الثالث : النصر للمسلمين مع الغنائم .
الرابع : عدم وقوع غنائم بيد المسلمين .
الخامس : التكافؤ والتساوي في القتال , وعدم إنكسار وهزيمة أحد الطرفين .
وأما احتمال نصر المشركين فهو سالبة بانتفاء الموضوع لأن الله عز وجل أبى إلا نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
وقد تحقق الوجه الأول والثالث أعلاه ، وكانت غنائم بدر وبدل الأسرى أعظم وأكبر من قافلة أبي سفيان من وجوه :
الأول : الإبل والخيل والسيوف والدروع والمؤن والأموال ، إذ جاء المشركون معهم بالأموال لإنفاقها في الطريق وعند الإقامة في بدر ولوجوه الصرف المحتملة .
الثاني : قيام جيش المشركين برمي الأزواد والأمتعة من رواحلهم عند الهزيمة ، لإرادة الخفة وقلة الأحمال على الرواحل.
بينما كانت قافلة أبي سفيان تحمل الأدم والحبوب ، نعم كان فيها الذهب والفضة ، ولكن سعر الذهب آنذاك لم يكن مرتفعاً مع أهميته عند الناس.
(عن مجاهد قال: سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا، فقال:”نعم! وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم! فأبوا ورجعوا، فأنزل الله:(أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل)، أن يريهم الله جهرة) ( ).
ولو صير الله عز وجل الصفا ذهباً يومئذ ، لقالوا أنه سحر ، ولكسروا الجبل بالفؤوس، وأخذوا الذهب ثم أنكروا المعجزة من الأصل .
بينما جبل الصفا يدر الذهب في كل عام على أهل مكة في موسم الحج وطيلة أيام السنة .
الثالث : ورود آلاف الدنانير الذهبية وآلاف الدراهم الفضية على الصحابة في المدينة كبدل وعوض لفك عشرات من الأسرى ، ومن مصاديق النبوة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأخذ عوض الأسرى لنفسه أو لبيت المال أو لتوزيعه على البدريين أو عموم المسلمين بل قال ان كل من أسر أسيراً فبدله له .
وأذن لهم بطلب عوض كثير كما أجاز لهم التسامح في الأمر مع ضابطة وهي العناية بالأسرى وحفظ سلامتهم ، وعدم الإساءة لهم أو تعييرهم أو توبيخهم .
ويدل قوله تعالى[لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً] على أن كل أمر يشاءه الله سبحانه لابد وأن يتحقق وينجز، وفي التنزيل[وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ]( )، وفيه بيان لعلم الله بالوقائع والأحداث قبل وقوعها، وهل فيه دعوة للمسلمين للدعاء لمحو البلاء والضرر .
الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
السادسة :تبين الآية أن واقعة بدر مما أثبته الله عز وجل وأمضاه ، لذا وردت تسمية يومها بيوم الفرقان.
أختتمت الآية بذكر ثلاثة أسماء من أسماء الله عز وجل بقوله [وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ].
ومن معاني خاتمة الآية أمور :
الأول : يسمع الله عز وجل دعاءكم ومناجاتكم عشية معركة بدر، ويعلم حالكم .
الثاني : يسمع الله شكر المسلمين له، كما أنه سبحانه يبعث المسلمين على الشكر له.
الثالث : يسمع الله عز وجل زهو وتفاخر كفار قريش، وعزمهم على الغزو.
الرابع : يعلم الله عز وجل المصالح والمفاسد وأسبابها ومقدماتها وآثارها , وقد تكررت تلك الخاتمة المباركة في آيات أخرى منها قوله تعالى[لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) .
ليكون من معاني الآية أعلاه بلحاظ آية البحث حياة المسلمين بالإيمان ، وهلاك الذين كفروا وهم في الدنيا باختيارهم الكفر.
الخامس : يعلم الله عز وجل صبر المسلمين، وأنهم يتعلمون الأذى ، ولا يريدون الغزو.
السادس : يعلم الله عز وجل مكر وحيلة وخبث الذين كفروا .
السابع : يعلم الله عز وجل أن عاقبة الذين كفروا الخسران في النشأتين .
الثامن : يعلم الله عز وجل أن الله عز وجل يظهر نبيه، ويعز الإسلام، قال تعالى[لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( ).
مفهوم المخالفة في الآية
وفيه مسائل :
الأولى : إكرام المسلمين في الخطاب الوارد في الآية لبيان حالهم عند اللقاء وأن الله عز وجل يراهم ويحفظهم ، وفيه ذم للذين كفروا إذ جعلوا اللقاء للقتال والحرب ، بينما الأصل هو إيمان الجميع والتعاون للتخلص من الأوثان وعبادتها ، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
الثانية : بيان التباين والتضاد بين المسلمين بقوله تعالى [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا]( )، وبين الذين كفروا بقوله تعالى [وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى]( ) .
وهل الواو في [وَهُمْ] للعطف أم للإستئناف ، الجواب هو الأول ، وتقدير الآية : إذ هم .
ومن معاني الآية [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى] ( )عدم القطع بالقتال ، فقد تستمر الحال ويتباعد الفريقان لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمتنع عن البدء بالقتال، ويرجو عدم وقوعه ، ويتطلع إلى جيش الذين كفروا والمساعي التي تجري فيه .
فقد نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عتبة بن ربيعة وهو يسعى بينهم لدفع القتال والرضا بدية ابن الحضرمي.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم (إن يكن عند أحد من القوم خير فهو عند صاحب الجمل الأحمر وإن يطيعوه يرشدوا) ( ).
إن إصرار أبي جهل على الثأر لابن الحضرمي شاهد على أن علة وسبب القتال ليس قافلة أبي سفيان ، إنما هو الحسد والبغض لأهل الإيمان ومحاربة النبوة بسيف الشرك والوثنية .
الثالثة : يتصل موضوع هذه الآية بالآية السابقة لها التي تبين قسمة الخمس، وتخبر عن نزول آيات من القرآن في يوم معركة بدر، وتسميته بيوم الفرقان عندما إلتقى للمواجهة الإيمان والشرك، إذ قال الله [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابن السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الرابعة : من مصاديق خاتمة الآية السابقة [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] نصر المسلمين مع قلة عددهم , ورواحلهم وأسلحتهم بالقياس الى كثرة العدو ، ومؤنه.
الخامسة : تبين الآية قانوناً، وهو لم يأت التكليف والجزاء إلا بعد العلم وإقامة الحجة لذا كانت معجزات الأنبياء حسية، ليدرك الناس جميعاً لزوم التوحيد، وتصديق الأنبياء، وتفضل الله عز وجل وجعل معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية وحسية، لإنقطاع النبوة بمغادرته الى الرفيق الأعلى، وبقاء آيات القرآن بينة وحجة على الناس لعبادة الله ولم تكن البينات التي تدعو الى عبادة الله خاصة بمعجزات الأنبياء إنما تشمل الآيات الكونية في السماء والأرض.
السادسة : يدل قوله تعالى[لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً]( )، أن الذي يشاءه الله لابد وأن يقع، وأن المشيئة له وحده سبحانه، وهو القادر على كل شئ.
وتحتمل الحياة والموت في الآية وجهين :
الأول : إرادة بقاء الإنسان حياً في الدنيا فيرى المسلمون والذين بقوا أحياء من الذين كفروا في معركة بدر معجزات النبوة ونزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويغادر الشهداء من المسلمين الدنيا وهم مطمئنون بأنهم على الحق ، ويفارق الكفار الدنيا بالحسرة والندامة لأنهم قاتلوا من غير غاية حميدة .
الثاني: إرادة الإيمان من معنى [وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] وإرادة الكفر من معنى [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ] فيرجع المؤمنون الى المدينة بحياة الإيمان، وتتوب طائفة من المشركين، فتكون هذه التوبة حياة لهم، ويرجع الذين يصرون على الكفر الى مكة وهم هلكى لإختيارهم الكفر والضلالة، ليس بينهم وبين العذاب الأخروي إلا أيام بقائهم في الحياة الدنيا إلا من تدركه التوبة.
وهل آية البحث ظاهرة في مسألة التوبة هذه، الجواب نعم، إذ أنها تحث عليها، وتجعل باب التوبة مفتوحاً لذا جاءت الآية بصيغة الفعل المضارع، وهو من الإعجاز في تأخير مسألة الحياة بقوله تعالى[لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ].
ولا تعارض بين الوجهين، وكلاهما من معاني الآية الكريمة، وهل هذا الهلاك أمر وجودي أم عدمي , الجواب هو الأول.
قانون اللفظ المنفرد في القرآن
من إعجاز القرآن إحاطة كلماته المحدودة باللا محدود من الوقائع والأحداث، وتجلي الإعجاز بالجمع بين آياته، وكل شطر من آية مع شطر من آية أخرى( ).
إلى جانب الإعجاز في إعرابها ودلالاتها وتراكيبها والجمع بين الحقيقة والمجاز والصريح والكناية، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ , واللفظ والرسم والوصل والوقف .
وعدد كلمات القرآن هو(77934) كلمة ( )ومن إعجاز القرآن أمور :
الأول : كثرة الكلمات التي ترد مرة واحدة فيه ، فتجدها في آية قرآنية ثم لا تأتي في آية أخرى مع كثرة آيات القرآن والبالغة (6236) آية .
ولا تتكرر في ذات الآية القرآنية مع التشابه الموضوعي بين آيات متعددة من القرآن .
ولابد من إحصاء هذه الكلمات ، وهل ستكون بعدد آيات القرآن ، أم أكثر أم أقل منها , الأقرب هو الأخير.
الثاني : إجراء إحصاء آخر لكل كلمتين متصلتين لم يرد في القرآن بهذا الإتصال إلا مرة واحدة .
وسيكون عددها أكثر من عدد آيات القرآن ففي آية البحث ومع قلة كلماتها ورد لمرة واحدة في القرآن كل من :
الأولى : في أيديكم .
الثانية : من الأسرى .
الثالثة : الاسرى إن .
الرابعة : قلوبكم خيراً .
الخامسة : خيراً يؤتكم .
السادسة : خيراً مما.
السابعة : مما أخذ .
التاسعة : أخذ منكم .
العاشرة : منكم ويغفر .
ولا يختص الإحصاء هنا ببيان العدد والرقم ، إنما هو نوع طريق ومقدمة لإقتباس المسائل ، واستنباط السنن والأحكام ، ويمكن أن نسميه علم ( العدد المنفرد ) في القرآن ، وما يترشح عنه ، والإعجاز الذي يتضمنه والمنافع التي تتفرع عنه .
فمن معاني الأولى أعلاه [فِي أَيْدِيكُمْ] صيرورة المسلمين أعزة وعندهم أسرى ويلزم الرفق بهم ، وعدم التعدي عليهم .
ومجئ القول لهم بأن الله عز وجل يرزقهم خيراً إن علم أن الذي في قلوبهم خير ، باللطف والبيان والترغيب ، وهل تلاوة ذات الآية عليهم من هذا القول الذي تذكره الآية نفسها ، الجواب نعم .
ومن معاني تخلص المسلمين من الذل كما أخبرت الآية [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) أمور :
أولاً : سلامة المسلمين من الوقوع في الأسر .
ثانياً : نصر المسلمين في معركة بدر .
ثالثاً : وقوع سبعين من المشركين أسرى بيد المسلمين .
رابعاً : لزوم معاملة الأسرى وفق الضوابط الشرعية كما في القرآن والسنة ، قال تعالى[وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا] ( ) .
خامساً : عز المؤمنين بأن الأسرى عندهم جميعاً ، وليس عند الذين أسروهم وحدهم .
سادساً : عجز المشركين عن فك قيد الأسرى عن أصحابهم بالقهر ، وقد استمر فكهم بدفع البدل لنحو سنة ، وكأنهم أرجأوا الهجوم في معركة أحد حتى وصل إليهم أسراهم ، مع أن القرآن أوصى بالعناية بهم ، ولكن المشركين كانوا يخافون دخولهم الإسلام وقتالهم تحت لواء النبوة، وقد اسلم بعضهم مدة الأسر.
سابعاً : ملاحظة الأسرى وإكرامهم ، ومنع صدور الأذى والكيد منهم ، وتولي عدد من الأسرى تعليم صبيان المدينة مقابل فكهم من الأسر ، ومن غير أخذ بدل مالي عنهم .
وقام أحدهم بضرب أحد الصبيان أثناء التعليم ، وعندما عاد إلى البيت أخبر أمه , فقالت : أحنة الجاهلية , لا تذهب إليه أبداً.
أي أن أهل الصبي لم ينتقموا من الأسير ، ولم يوبخوه ، ولكنهم اكتفوا بعد إرساله إلى درسه ويدل خبر تعليم الأسرى لأولاد المسلمين على تعدد صفوف التعليم، وأن بعض الصحابة يقومون بتعليم شطر منهم وقد يكون بعض المسلمين ويهود المدينة يعلمون أبناء المسلمين القراءة والكتابة كمقدمة لقراءة القرآن، وان كان الغالب على عمل اليهود آنذاك مزاولة النسيج والحدادة ومنها صناعة الآلات التي تستلزمها الزراعة مثل المحراث والمساح والفأس والمنجل للحصاد، وفي الصياغة مثل صياغة الأساور التي تحيط بالعضد , وقد تسمى الدمالج والمعاضد , وصياغة الخواتم والخلاليل جمع خلخال وهي كالسوار يوضع في القدم تلبسه المرأة حول الكعب سواء من الذهب أو الفضة أو المعدن , وغالباً ما يكون لها صوت عند المشي وهل نقصّ قوله تعالى[النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ]( )، من استعمال الخلخال عند المسلمين , وعموم أهل الأرض الجواب نعم .
وعن سعيد بن جبير قال: إن المرأة كانت يكون في رجلها الخلخال فيه الجلاجل ، فإذا دخل عليها غريب تحرك رجلها عمداً ليسمع صوت الخلخال فقال : { ولا يضربن } يعني لا يحركن أرجلهن { ليعلم ما يخفين } يعني ليعلم الغريب إذا دخل عليها ما تخفي من زينتها( ) .
ولكن موضوع الآية أعم ولا ينحصر بمسألة معينة , ولغة الشرط (فاذا دخل عليها) إنما يشمل مشي النساء في الطرقات وغيرها، ولا تختص هذه الأعمال والمهن في المدينة باليهود بل يقوم بها العرب أيضاً.
ثامناً : طلب المسلمين من الأسرى البدل والعوض .
الثالث : تعدد معاني اللفظ المتحد في ذات الموضع الذي رد فيه ، ومجيوه بمعان أخرى في موضع آخر من القرآن بلحاظ نظم وسياق الآية ، كما في لفظ(أمة) الذي يدل على إرادة طائفة وفرقة من الناس، وقد يراد منه الشخص المنفرد كما في قوله تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ]( ).
الرابع : كل كلمة في القرآن فريدة لا تنوب عنها كلمة أخرى وان كانت مرادفة وشبيهة لها.
وهو من إعجاز القرآن ، وتعدد معاني اللفظ القرآني بما يفتح أبواباً من العلم للمسلمين .
الخامس : من خصائص اللفظ القرآني أمور :
أولاً : سهولة تلاوة اللفظ القرآني .
ثانياً : العذوبة في التلاوة .
ثالثاً : اليسر في حفظ اللفظ القرآني .
رابعاً : النفع العام والخاص بقراءة القرآن .
خامساً : ترغيب الحرف واللفظ القرآني للمسلمين والناس بتلاوته وقراءة القرآن، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وكل كلمة من القرآن تدعوكم لتلاوتها وتلاوة غيرها من كلمات القرآن.
بحث أصولي
مفهوم الموافقة
هو استحضار وذكر أمر مسكوت عنه موافقاً لحكم المنطوق، ويسمى أيضاً :
الأول : فحوى الخطاب أي ما يعقل ويفهم منه , والحكم المستقرأ من النص وان لم يكن ظاهراً فيه.
الثاني : لحن الخطاب وسمي، مفهوم الموافقة لأن المفهوم فيه وافق المنطوق من جهة حكمه.
الثالث : الأولوية.
فيدل قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا]( )، على تحريم اتلاف وتضييع أموالهم، وكما في قوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، فمن مفهوم الموافقة :
الأول : اياك نطيع.
الثاني : إياك نسأل وندعو.
الثالث : إياك نرجو.
الرابع : إياك نخشى.
الخامس : إياك نحب ونأمل.
ومن الإعجاز في اللفظ القرآني أن لفظ [إِيَّاكَ] لم يرد في القرآن إلا مرتين , وفي الآية أعلاه، لبيان القدسية والدلالة الخاصة لهذه الآية، وفضل الله عز وجل على المسلمين بجعل كل واحد منهم ذكراً أو أنثى يقرأها سبع عشرة مرة في اليوم والليلة وعلى نحو الوجوب العيني في الصلاة , وينقسم مفهوم الموافقة إلى أقسام :
الأول : مفهوم الموافقة القطعي، وهو الذي يتجلى بابانة الحكم والحجة، وانتفاء احتمال ما هو خلافه، ومن خالف بخصوص هذا المعنى للقطع قال أن القطع قد يرد معه احتمال للخلاف، ولكن لا يؤثر فيه , ويحتمل القطع الحاصل من الأخبار شعبتين:
الأولى : انه على مراتب متفاوتة، وأنه من الكلي المشكك.
الثانية : القطع على مرتبة واحدة، وهو من الكلي المتواطئ.
والمختار هو الأول أعلاه
الثاني : مفهوم الموافقة الظني، والظن هو رجحان أحد طرفين أو أكثر يدور بينها الإحتمال، وغلبة أحدها وذهب بعضهم مثل الباقلاني إلى القول بأن الظن على مرتبة واحدة ، ولكن الظن على مراتب متفاوتة , وقد أختلف في الدليل الظني مثل الإستحسان والمصالح المرسلة.
الثالث : مفهوم الموافقة المساوي، كما في قوله تعالى[وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ]( )، فيكون من معاني الآية النهي عن خروج المسلمين الى الدفاع زهواً وفخراً , وظلماً ونحوه .
الرابع : مفهوم الموافقة الأدنى أي بالتنبيه من الأعلى على الأدنى وقيل أنه من القياس لأن الحاق المسكوت عنه بالمنطوق في الحكم من القياس، ومنهم من أنكر كونه من القياس، وهو نزاع لفظي، والإجماع على حجيته.
واختلف في كفارة قتل العمد، مثلاً على قولين:
الأول : لما كانت الكفارة واجبة في قتل الخطأ فانها تجب في القتل العمد من باب الأولوية.
الثاني : تجب الكفارة في القتل الخطأ رجاء ستر وتغطية الذنب، والعوف من عند الله، أما القتل العمد فهو جرم وظلم وسفك للدماء فليس فيه كفارة , وحكمه القصاص أو العفو.
والمختار هو الأول رجاء فضل الله، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا]( ).
بحث أصولي
مفهوم المخالفة
المفهوم لغة مصدر فهم ، وهو المعرفة بالشئ في الوجود الذهني .
وفي الإصطلاح هو نفي الحكم الثابت للمنطوق عن المسكوت لإنتفاء قيد أو شرط في ذات المنطوق ، وأن حكم المسكوت عنه مخالف لحكم المنطوق به .
ويسمى أيضاً باسمين :
الأول : مفهوم الخطاب .
الثاني : دليل الخطاب .
ونسب إلى المشهور حجيته وأنه من الأدلة الشرعية ، وذكر عدم حجيته ، وكل من الفريقين له حجيته :
الأول : استدل الذين قالوا بحجية مفهوم المخالفة بأمور :
أولاً : أصالة التبادر وتقييد الحكم بوصف أو شرط أو عدد يدل على اثبات الحكم عند وجود القيد وعلى نفيه إذا انتفى ، كما في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
فمع تعذر الإستطاعة والزاد والراحلة لا يجب على المكلف الحج في ذات السنة ، ليكون معنى مفهوم المخالفة في الآية أعلاه أنه من ليس عنده استطاعة لا يجب عليه الحج ، ومن أراد الحج من غير استطاعة، يجوز ويستحب له مع تهيئة السرب فلو إختار خدمة الحاج في الطريق أو في مكة لأداء الحج فحجه مقبول ومجز.
ووردت السنة النبوية بتحديد المراد من الآية أعلاه بأنه مرة واحدة في العمر.
عن أبي أمامة الباهلي قال : قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الناس فقال : إن الله تعالى كتب عليكم الحج . فقال رجل من الأعراب : أفي كل عام؟ فسكت طويلاً ثم تكلم.
فقال : من السائل؟ فقال : أنا ذا.
فقال : ويحك . . ! ماذا يؤمنك أن أقول نعم؟ والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لتركتم ، ولو تركتم لكفرتم ، ألا أنه إنما أهلك الذين من قبلكم أئمة الحرج , والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض من شيء ، وحرمت عليكم منها موضع خف بعير لوقعتم فيه ، وأنزل الله عند ذلك [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ]( ) إلى آخر الآية)( ).
ثانياً : لابد من حكمة في ورود القيود في النصوص، ومنها نفي الحكم عما عدا النص إلا مع القرينة على ان هذا القيد لغرض آخر مثل المدح أو الذم أو الترغيب أو الترهيب .
ثالثاً : استدل بادراك العقل، فلولا أن يكون للقيد المذكور بالمنطوق موضوعية لما ورد ذكره , فالقيد الوارد في الأوامر والنواهي سواء كان وصفاً أو شرطاً أو بخصوص العدد أو الحصر ، كما في الحصر الزماني مثل [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] ( ) تدل على تخصيص الحكم في المنطوق به ، ونفيه عما يخالفه ، فقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
فاذا لم يهل هلال شهر رمضان لا يجب الصوم ، ويدل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ] ( ) على وجوب الكفارة على الذي يقتل الصيد وهو حرم للحج ، وتدل في مفهومها على عدم وجوب الكفارة على الذي يقتل الصيد خطأ ، وفي التنزيل [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( ).
والقائل بالعمل بمفهوم المخالفة قيده بشروط ، وهي :
الأول : موضوعية قيد المنطوق في الحكم ، فاذا جاء لغرض بياني آخر ، فليس له مفهوم مخالفة ، كما في قوله تعالى [وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ] ( ).
فلفظ فقيد [فِي حُجُورِكُمْ] لإرادة الغالب والأكثر في الربيبة وإلا فانها محرمة وإن كانت في غير الحجر لالحاقها بحكم الحجر، والمراد من الحجر الضمان والتربية .
وقوله تعالى [لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] ( )، ليس له مفهوم مخالف له لأن القيد [أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]جاء لبيان حال العرب في الجاهلية ، ولبعث النفرة من الربا، وكيفية جمع الأموال بواسطته .
وكما في قوله تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ] ( ) ليس من مفهوم مخالفة لأن قيد [خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ]لبيان أن بعض العرب كانوا يقتلون أولادهم للخوف من الفقر ومن إعالتهم، ومنه الوأد الذي تتعدد أسبابه منها خشية نهب المرأة في الغزو ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ).
ولا دليل على حجية مفهوم المخالفة في الغالب، نفيه من وجوه :
الأول : عدم إطراد مفهوم المخالفة في صيغ التخاطب العربية والإستدلال به .
الثاني : القدر المتيقن من تقييد الحكم بوصف أو شرط أو عدد هو ثبوت الحكم عند وجود هذا القيد .
الثالث : هناك أحكام عديدة غير ناظرة لمفهوم المخالفة، ولو عمل بها لوقع فساد , ففي قوله تعالى[اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ]( ).
فقد تدل الآية في مفهومها على أن الله عز وجل يغفر للمنافقين إذا استغفر لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعين مرة أو أكثر وكما في قوله تعالى[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]( )، فلا يصح الرجوع إلى مفهوم المخالفة، وظلم النفس في غير الأشهر الحرم.
وبالنسبة للأمثلة، فكل من الفريقين القائل بحجية مفهوم المخالفة أو الذي ينفيه يقدر على الإتيان بالعشرات منها، مما يدل على أن الحكم فيه أعم من أن ينحصر ويضيق بقول عام.
الرابع : لا دليل على كون مفهوم المخالفة حجة شرعية، وسكوت الشريعة من بعض المسائل أعم من الدعوة للرجوع إلى مفهوم المخالفة.
وأكثر رجال المذاهب الإسلامية على القول بأن مفهوم المخالفة حجة شرعية ، وهو نوع طريق لإستنباط الحكم الشرعي بالدليل النقلي والعقلي ، وخالف الأحناف .
ولابد للأصولي من التجرد عن التقيد والإنقياد والتام لما قاله علماء مذهبه في القرون والعقود السابقة إنما يرجع هو للدليل، فعلم الأصول لا يقسم وتبين مسائله حسب المذاهب والتحمس لها، والإجتهاد بحماس لبيان صواب رأي البارزين من رجال المذهب، مع بذل الوسع في ذم القول المخالف لهم.
ويحتمل حكم مفهوم المخالفة وجوهاً :
الأول : إنه حجة شرعية .
الثاني : أنه ليس بحجة شرعية .
الثالث : أنه حجة إذ جاء منطوق يبينه، وفي هذه الحالة تكون الحجة للمنطوق، كما في مفهوم قوله تعالى[وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ]( )، والمختار أنه ليس بحجة شرعية في الأعم الغالب، ويدل قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، أن الأحكام مبينة في القرآن بالنص والدليل الواضح للناس جميعاً على اختلاف مداركهم .
وهل يحاسب الله الناس يوم القيامة على مفهوم المخالفة وعدم تقيدهم به، الجواب لا، وهذا النفي حجة على القائلين بحجته، فمن فضل الله عز وجل أن يكون الإحتجاج بعالم الآخرة على مباني ومنطوق وبيان الأحكام في الدنيا.
ومفهوم الآية [وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ] هو عدم جواز وطئ الزوج لزوجته وهي حائض.
ولكن لا تصل النوبة إلى المفهوم من جهات :
الأولى : النهي الصريح عن الإقتراب للمرأة ووطأها في الحيض بقوله تعالى[وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ] ويحمل النهي في الآية على الحرمة.
الثانية : بيان الآية لجواز وطئ المرأة بعد الحيض، بقوله تعالى[فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ]( ).
الثالثة : قوله تعالى[فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ]( )، لبيان أن قوله تعالى[وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ] عطف تفسيري للإعتزال .
الرابعة : النصوص الواردة في السنة، ولما نزلت الآية أعلاه، ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : افعلوا كل شئ إلا الجماع( ).
الرابع : مفهوم المخالفة حجة إلا مع القرينة الدالة على عدم كونه حجة.
الخامس : مفهوم المخالفة ليس بحجة إلا مع القرينة التي تدل على عدم كونه حجة.
والمختار على وجوه :
الأول : مفهوم المخالفة ليس بحجة إلا مع الشواهد البينة.
الثاني : إحصاء المسائل التي تتعلق بمفهوم المخالفة , ودراسة كل واحدة منها على حدة، وبيان حكمها بالتجرد من التعصب لقول علماء المذهب .
الثالث : عدم الحاجة للجوء الى مسائل مفهوم المخالفة إذ أن الأحكام موجودة في القرآن والسنة على نحو المنطوق والوضوح ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ومفهوم المخالفة على أقسام :
الأول : مفهوم الصفة وهو تعليق الحكم في الموضوع بلحاظ صفة مخصوصة، وذكر ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض و السنن و الديات، وبعثه مع عمرو بن حزم فقرأت على أهل اليمن وهذه نسختها :
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال و الحارث بن عبد كلال و نعيم بن كلال قيل ذي رعين و معافر و همدان .
أما بعد فقد رجع رسولكم وأعطيتم من المغانم خمس الله وما كتب الله على المؤمنين من العشر في العقار ما سقت السماء أو كان سحاء أو كان بعلاء ففيه العشر( )، إذا بلغت خمسة أوسق( ).
وما سقي بالرشا( )، والدالية ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق , وفي كل خمس من الإبل السائمة شاة إلى أن تبلغ أربعا و عشرين فإذا زادت واحدة على أربع وعشرين ففيها ابنة مخاض( )، فإن لم توجد فابن لبون ذكر إلى أن تبلغ خمسة وثلاثين.
فإذا زادت على خمسة و ثلاثين واحدة ففيها ابنة لبون إلى أن تبلغ خمسة وأربعين.
فإن زادت واحدة على خمسة وأربعين ففيها حقة( )، طروقة الفحل إلى أن تبلغ ستين فإن زادت على ستين واحدة ففيها جذعة إلى أن تبلغ خمسة و سبعين فإن زادت واحدة على خمسة وسبعين ففيها ابنة لبون( )، إلى أن تبلغ تسعين.
فإن زادت واحدة على تسعين ففيها حقتان طروقتا الفحل إلى أن تبلغ عشرين ومائة فما زادت على عشرين و مائة ففي كل أربعين ابنة لبون وفي كل خمسين حقة طروقة الجمل و في كل ثلاثين باقورة تبيع جذع و في كل أربعين باقورة بقرة و في كل أربعين شاة سائمة شاة إلى أن تبلغ عشرين و مائة فإن فإن زادت على عشرين و مائة واحدة ففيها شاتان إلى أن تبلغ مائتين فإن زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلى أن تبلغ ثلاث مائة فإن زادت فما زاد ففي كل مائة شاة شاة و لا يوجد في الصدقة هرمة و لا عجفاء، و لا ذات عوار ولا تيس( )، الغنم إلا أن يشاء المصدق و لا يجمع بين متفرق و لا يفرق بين مجتمع خيفة الصدقة و ما أخذ من الخليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية و في كل خمس أواق( )، من الورق خمسة دراهم و ما زاد ففي كل أربعين درهما درهم و ليس فيما دون خمس أواق شيء .
وفي كل أربعين دينارا دينار إن الصدقة لا تحمل لمحمد ولا لأهل بيت محمد إنما هي الزكاة تزكى بها أنفسهم و لفقراء المؤمنين و في سبيل الله و ابن السبيل و ليس في رقيق و لا في مزرعة ولاعمالها شيء إذا كانت تؤدي صدقتها من العشر و أنه ليس في عبد مسلم و لا في فرسه شيء.
قال : وكان في الكتاب إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة : الإشراك بالله وقتل النفس المؤمن بغير حق , والفرار من سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين ورمي المحصنة وتعلم السحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم , وأن العمرة الحج الأصغر ولا يمس القرآن إلا طاهر ولا طلاق قبل إملاك ولا عتق حتى يبتاع و لا يصلين أحد منكم في ثوب واحد و شقة باد ولا يصلين أحد منكم عاقص( )، شعره ولا يصلين أحد منكم في ثوب واحد ليس على منكبه شيء وكان في الكتاب أن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فله قود إلا أن يرضى أولياء المقتول وإن في النفس الدية مائة من الإبل وفي الأنف الذي جدعه الدية .
وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية وفي المأمومة( )، ثلث الدية وفي الجائفة( )، ثلث الدية وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل وفي كل إصبع من الأصابع من اليد و الرجل عشر من الإبل وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة( )، خمس من الإبل وأن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار( ).
فذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الابل السائمة التي ترعى في البراري والمراعي المباحة، ولا تعلق من قبل المالك، وكما في الحديث : في سائمة الغنم زكاة.
وتدل هذه الصفة على عدم الزكاة في الأنعام التي يقوم صاحبها بعلفها.
الثاني : مفهوم الشرط، وهو الأمر والموضوع التي تدخل عليه أداة الشرط مثل (إن) (أن) (إذا) أو يفيد معناها من الأسماء والظروف كما في قوله تعالى[وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ]( ).
ومن الإعجاز في الآيتين أعلاه أن الله عز وجل لم يترك الحكم للمفهوم، واستنباط الدليل منه، مع أن صاحب البيت في قصة يوسف أعلاه عزيز مصر، ولابد أنه في مرتبة عالية في القضاء والحكم، فلم يكتف الشاهد بذكر حال واحدة وهي قد القميص من القبل لبيان صدقها فيه انما ذكر التفصيل وجاء البيان القاطع للوهم والشك، ولاقامة الحجة في براءة يوسف عليه السلام، ولبيان مسألة وهي أن كل واحد منهما يحتمل أنه صادق ويحتمل أنه كاذب.
ومن معاني مفهوم الشرط قول الناس يوم جمعهم فرعون عندما حضر موسى عليه السلام والسحرة، فقال الناس [لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ]( )، أي إذا لم يكونوا غالبين فلا نتبعهم.
ومعنى الشرط في اصطلاح علم الكلام ما يتوقف عليه المشروط، ولا يكون داخلاً فيه .
الثالث : مفهوم العلة : وهو تعلق الحكم بالعلة، وصيرورتها قيداً فيه، مثل الخمر حرام لأنه مسكر .
ومع كثرة ورود لفظ (لأن) و(لأنه) و(لأنها) في كلام الناس، والمؤلفات، ولغة الخطاب بلحاظ أنها من مفهوم العلة في الغالب، فلم ترد هذه الألفاظ الثلاثة في القرآن لبيان علو وسمو لغة العلة الواردة في القرآن.
الرابع : مفهوم الغاية , وهو جعل الأجل وقيد الغاية سبباً لعدم العمل بما هو خارجها، وانتفاء الحكم عما وراءها، ومن ألفاظها (إلى) (حتى) غاية الأمر , وفي التنزيل[بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ]( ).
ومن معاني مفهوم الغاية وكونها من ضمن وجوه مفهوم المخالفة هو أن ما بعد الغاية لا يشمله الحكم الذي قبلها، أو يكون العكس أن الحكم والمنطوق بعد أجل مخصوص ولا يصح قبله، كما في اللائي يتوفى عنهن أزواجهن، قال تعالى[وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ]( ).
أي حتى تنقضي العدة، وسماها الله عز وجل كتاباً لبيان أن العدة فرض وحتم، ولتعلق الأمر بالحساب والأشهر والأيام ولعل مفهوم الغاية من أكثر مصاديق مفهوم المخالفة تجلياً ووضوحاً.
الخامس : مفهوم الإستثناء، إذ يفيد الحصر والتقييد, ومن معانيه أن المذكور وما فيه لم يرد في القول الأول، كما ورد في التنزيل [لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ].
ومن الإعجاز في كلمة التوحيد إجتماع مفهوم الموافقة والمخالفة في موضوع متحد.
وأم أدوات الإستثناء (إلا) وقد يرد على وجوه :
الأول : الإستثناء بالاسم مثل(غير- سوى).
الثاني : الإستثناء بالفعل مثل(ما عدا – ماخلا-ليس).
الثالث : المركب من الحرف والاسم مثل(لا سيما) .
ومن شرائط الإستثناء الإتصال، وعدم الإنقطاع كما في قوله تعالى[فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ]( )، فلم يؤخر الله عز وجل الإستثناء وذكّر المؤمنين برسالة موسى عند جحود الناس وخوفهم من فرعون وبطش جنوده.
ومن شرائط الاستثناء ألا يكون مستغرقاً والمستثنى منه لأن المنطوق والمستثنى منه لا يرفع على نحو السالبة الكلية.
السادس : مفهوم اللقب: وهو تقييد الحكم أو الموضوع أو الخبر بالاسم , وسواء كان هذا الاسم علماً أو اسم جنس كما في قوله تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( )، فهل يعني حصر مواقيت الناس والحج بالأهلة وفق مفهوم المخالفة، أم يجوز أن يكون غير الأهلة مواقيت للناس ، أم هناك تفصيل فمواقيت الناس لا تختص أو تنحصر بالأهلة , ويجوز احتساب السنة الشمسية أو أي تأريخ وتقويم عام متفق عليه الجواب هو الأخير، أما الحج فلا يكون الا بالأهلة، لذا ذكر في الآية على نحو التعيين، وهو من إعجاز القرآن، والمنع من صيرورة الحج وفق حساب غير الأهلة، إذ يكون الوقوف على عرفة في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، ويوم الحج الأكبر في العاشر منه.
السابع : مفهوم العدد: وهو تعدد الحكم بعدد مخصوص، يدل على انتفاء الحكم بما عداه، وهو على قسمين :
الأول : يتعلق مفهوم المخالفة بما زاد على هذا العدد.
الثاني : يشمل مفهوم المخالفة ما زاد وما نقص عن هذا العدد.
فمثلاً قوله تعالى[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ]( )، فان مفهوم المخالفة عدم جواز زيادة حساب شهور السنة على اثني عشر شهراً، وجعلها ثلاثة عشر مثلاً وقد جاء البيان والتحريم بقوله تعالى[إِنَّمَا النَّسِيءُ]( )، كما أن الأشهر الحرم أربعة ولكن القتال مبغوض في كل أيام السنة، لذا قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
في أقسام الواجب
والواجب هو الفرض والأمر الذي يجب إتيانه ولا يجوز تركه، ويفيد الإلتزام وهو لازم وفرّق أبو حنيفة بين الواجب والفرض إذ جعل أصحابه التكاليف سبعة ، قالوا الفرض الواجب بدليل قطعي والواجب الثابت بدليل ظني ، أي أن النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق وقسموا النهي إلى قسمين :
1- بدليل قطعي وسمى حراماً .
2- بدليل ظني ويسمى مكروهاً .
وللواجب تقسيمات عديدة منها انه يقسم بلحاظ موضوع الطلب الى قسمين:
الأول: الواجب النفسي.
الثاني: الواجب الغيري.
والأول ما يطلب لذاته وليس من أجل شيء آخر كما في الصلاة، فانها مطلوبة بذاتها كفعل عبادي، اما الغيري فهو ما يؤمر به لأجل غيره ويمكن تقسيمه الى قسمين:
الأول: ما يكون مقدمة وواجباً لفعل واجب آخر كالوضوء بالنسبة للصلاة على القول بانه مستحب نفسي وواجب غيري.
الثاني: ما يكون مقدمة عقلية من غير ان يأتي الأمر بها كما في قطع المسافة لأداء الحج، فقد جاء الفرض بأداء مناسك الحج في مكة المكرمة، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
أما قطع المسافة وركوب الراحلة او السيارة او الطائرة فليس واجباً، ولكن الواجب لا يتم الا به، وأشكل على هذا التقسيم بان الواجب النفسي في حقيقته لم يطلب بذاته بل يطلب من اجل غايات أخرى بحسب الملاك والمصلحة منها الصلاح والنفع الشخصي العام، والثواب والجزاء، والإمتثال لأمر الله تعالى، مع قصد القربة فيكون ضمن الواجب الغيري، ولكن المدار ليس على الغايات البعيدة بل يكفي وجود تباين جهتي بين أفراد المأمور به لتعذر القدرة على الغايات او الإحاطة بها، او معرفة الملاك والمصلحة خصوصاً وانها ليست افعالاً كما في الحديث “الصلاة معراج المؤمن”( ) فالثواب والعروج أمران ليس مقدوراً عليهما، ولكن الصلاة واجب نفسي بذاته.
والقسمان بلحاظ التشريع ومضامينه والملاكات والغايات لا تكون متعلقاً للتكليف بل يمكن النظر بحسب الموضوع والمضمون والتعدد الجهتي، فالواجب ذاته يكون نفسياً اذا نظرنا اليه بحسب مقدماته، وتوجه الخطاب لأدائه على نحو الخصوص فجاء الخطاب التكليفي لأداء الصلاة بالذات، اما الموضوع فانه واجب ولكن المراد منه أداء الصلاة بشرط الطهارة، اما الغايات والمصالح فان المكلف يجهلها او انه يعجز عن الإحاطة بكنهها او انها غائبة عن الوجود الذهني خصوصاً عند الأداء.
فاطلاق صفة النفسي على الواجب لا يتعارض مع وجود غايات للواجب، كما ان هذه الغايات والثواب أعظم من ان يدركها المكلف بذاتها وما يلحقها من المضاعفة والزيادة، وما يتبعها من الفيض الإلهي في الآخرة.
وهل الإقرار الوارد في قوله تعالى[أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا]( ) مطلوب لذاته كواجب نفسي، ام انه واجب غيري والأمر به من اجل التوصل الى واجب غيري، فيه وجوه:
الأول: الإقرار واجب نفسي.
الثاني: انه واجب غيري.
الثالث: لو شككنا من أي القسمين هو , فالأصل هو الوجوب النفسي، لأن الغيرية تحتاج الى مؤونة زائدة.
الرابع: الجمع بين الأمرين.
والصحيح هو الأخير، فالإقرار واجب نفسي وغيري في آن واحد، والتقسيم بينهما استقرائي، ولا يمنع من الشركة بلحاظ تعدد معاني ومضامين اللفظ القرآني، فاراد الله عز وجل ان يأخذ من الناس الإقرار ويكون هذا الإقرار حجة بذاته كما انه فعل عبادي مطلوب من المكلفين بعد اقامة الحجة عليهم ومن رشحات أخذ ميثاق النبيين واتيان الكتاب والحكمة.
ويقسم الواجب إلى عدة تقسيمات بحسب اللحاظ والجهة والمضمون منها:
الأول: الواجب المطلق والمقيد: والأول هو الواجب الذي لا يتوقف وجوبه على شيء آخر كالصلاة فانها واجب مطلق ولا تترك بحال، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( )، والثاني أي المشروط الذي يتوقف وجوبه على شيء مخصوص يكون مأخوذاً في ذات الواجب على نحو الشرطية، فلا يتوجه الخطاب التكليفي وتنشغل الذمة بالواجب الا بتوفر الشرط، لإنتفاء المشروط بانتفاء شرطه ومنه الحج فهو واجب مشروط بالإستطاعة قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
وفيه تخفيف ورحمة للتباين بين الوجوبين .
فالصلاة واجب بدني يؤدى في المسجد او المسكن او في أي موضع ولا من وقت الإنسان كل فريضة الا بضع دقائق، اما الحج فهو واجب بدني ومالي ويستلزم قطع المسافة وتحمل المشاق ومفارقة الأهل والأحبة، فلذا قيده الله تعالى بالإستطاعة، وجعل الإستطاعة ملازمة لفرض الحج في القرآن , وفي نفس الآية التي تقول بوجوب الحج، ومتعقبة وملازمة له، منعاً للحرج والتعدد في التأويل والإجتهاد والتفسير.
الثاني: الواجب العيني والكفائي، والأول هو الفعل الذي يتعلق بكل مكلف، واذا أداه مكلف فانه لا يسقط عن غيره لأن كل واحد مكلف عيناً بأدائه، ويقابله الواجب الكفائي وهو المطلوب من جهة المكلف به، أي طبيعي الفعل المأمور به بنحو صرف الوجود، ويتوجه الخطاب فيه الى جميع المكلفين الا انه يكتفى بأداء فعل واحد عن المكلفين الآخرين، أما إذا تركوه جميعاً ولم يقم احد به فانه يؤثم الجميع، ومنه رد السلام وتغسيل الميت ودفنه.
وهل كان قيام قابيل بدفن هابيل من الواجب العيني أم الكفائي، الجواب هو الأول لإنحصار الدفن به، قال تعالى [فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ]( ).
(وقيل: كان ملكا ” في صورة الغراب)( ).
وفي الآية وجوه :
الأول : بعث الله غرابين أحدهما حي والآخر ميت ، فقام الحي بالبحث في الأرض وإهالة التراب على الميت .
الثاني : بعث الله غرابين ، فقتل أحدهما الآخر ، ثم بحث الأرض ودفنه فيه .
الثالث : يبحث الغراب التراب على هابيل فأدرك قابيل أن الله عز وجل أكرم هابيل وأنه تقبل قربانه وبعث طيراً ليدفنه ويعلمه كيفية دفنه.
ومن إعجاز الآية أنها تبين ذات وظيفة الغراب وهي أن يرى قابيل ما يجب عليه من دفن أخيه، ولا يعني أن الغراب هو الذي يقوم بالدفن عند تخلف قابيل عنه، لذا فهذا الدفن واجب عيني ليؤسس للواجب الكفائي، وقيل حمل قابيل أخاه بعد قتله لمدة سنة، حتى صارت السباع تتبعه لرائحته.
وقد يكون الواجب الكفائي عينياً مثل انحصار العلم بذات فعل معين بفرد مخصوص أو عند شاهدة غريق أو مصعوق بالتيار الكهربائي ولا أحد يستطيع انقاذه إلا فرداً واحداً .
وحتى في الواجب الكفائي فان الثواب والأجر لمن يقوم به ويؤديه، كما في مبادرة شخص واحد لرد السلام .
وقد يأتي الخطاب عاماً للمسلمين والمراد الواجب الكفائي ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) فلا يرابط كل المسلمين .
ويمكن تقسيم الواجب الكفائي إلى قسمين :
الأول : الواجب الكفائي الشخصي كرد السلام والصلاة على الميت ، وهو على وجوه :
أولاً : التكبيرات .
ثانياً : الدعاء المختصر مع كل تكبيرة .
ثالثاً : الدعاء الموسع مع كل تكبيرة .
الثاني : الواجب الكفائي النوعي ، الذي تقوم به جماعة ورهط وطائفة ، كما في خصوص تولي طائفة من المسلمين بالتفقه في الدين والقيام بالتبليغ قال تعالى[فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
والحج واجب عيني , وخطاب تكليفي موجه الى كل مكلف وأداء بعضهم لا يسقطه عن الآخر، فأداء الابن لا يسقط الفريضة عن الأب ان كان مستطيعاً وكذا في أداء الزوج فانه لا يسقط الفريضة عن الزوجة وكذا العكس وتستحب النيابة في الحج وقد تجب في حال العجز والقضاء عن الميت ونحوها.
الثالث: الواجب المنجز والمعلق، أما الأول فيعني اتحاد زمان الوجوب والواجب كالصيام حين رؤية الهلال، فزمان الوجوب هو رؤية الهلال ويتحقق الواجب في نفس اليوم، وكالصلاة حين دخول وقتها، اذ يتوجه بها الخطاب التكليفي الى المكلفين، أما الواجب المعلق فيعني ان فعلية الوجوب متقدمة زماناً على فعلية الواجب.
والحج من الواجب المعلق لأن أداءه متعلق بزمان مخصوص وهو موسم الحج وان تحققت الإستطاعة قبل الأوان فوجوبه الفعلي مشروط بالإستطاعة، وعند تحققها قبل زمان الواجب وهو أشهر الحج بكونه معلقاً لحين وصول زمان الواجب، وقال المعتزلة ان الإستطاعة قبل الفعل باعتبار انها متقدمة زماناً على الفعل، وقيل باستحالة الواجب المعلق ولزوم اعتبار أوان الداعي الى الفعل، والخلاف صغروي وأصولي والا فان الإجماع على توجه التكليف الى المستطيع أوان الحج ولزوم تهيئة وإتيان مقدماته العقلية والشرعية والوضعية.
الرابع: الواجب الأصلي والتبعي، والأول ما تعلق الوجوب به وعلى نحو الإستقلال كالصلاة، في قوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( )، أما الواجب التبعي فهو الذي لم يأتِ الخطاب بوجوبه، ولكنه أمر عرضي ومقدمة او تابع للواجب الأصلي كما في المشي وقطع المسافة الى الحج فانه ليس بواجب ولم يقصد بذاته ولكنه أمر تابع للحج، ومقدمة له والحج واجب أصلي، جاء الخطاب بأدائه.
الخامس: الواجب التعييني والتخييري، اذا تعلق الأمر بفعل مخصوص لا يمكن الإتيان ببدل عنه، فهو واجب تعييني، كالصيام في شهر رمضان فانه واجب لا يجزي عنه واجب آخر في عرضه، انما جاء الخطاب المولوي بأداء الصوم بالذات مع اجتماع شرائطه من البلوغ والعقل والإختيار والصحة ونحوها، اما أداء الفدية بالنسبة للشيخ والشيخة ممن لا يقدر على الصوم فهو واجب في طول الصوم وخاص بحال تعذره وليس في عرضه.
وكذا الوضوء فانه واجب تعييني وان كانت وظيفة المكلف تنتقل الى التيمم عند تعذر الماء، لأن التيمم واجب في طول وجوب الوضوء وليس في عرضه.
اما الواجب التخييري فهو ما كان له بديل مساوِ له في المرتبة ولم يتعلق به الطلب على نحو الخصوص، وللمكلف ان يختار أحد أفراد الواجب كما في كفارة افطار شهر رمضان عمداً فان المكلف مخير بين صيام شهرين متتابعين او عتق رقبة او اطعام ستين مسكيناً.
والحج واجب تعييني، تعلق به غرض المولى على نحو الخصوص وهو كالصلاة ليس له بديل في عرضه فلا شيء يجزي عن الحج الا الحج، فالناس بالنسبة لوجوب الحج على قسمين:
الأول : مستطيع ويجب عليه الحج بقيد الإيمان، ولا يقبل منه بديل عنه.
الثاني : غير مستطيع فلا يتوجه له تكليف بالحج، وكذا بالنسبة لإستقبال البيت في الصلاة فانه واجب تعييني وليس تخييرياً.
فليس للإنسان ان يختار بين الجهات في جهات القبلة بل لابد وان يتوجه الى جهة البيت الحرام.
السادس : يقسم الواجب بلحاظ وقته إلى قسمين :
الأول : الواجب المؤقت وهو الذي يؤدى بوقت مخصوص لا يجوز العدول عنه .
الثاني : الواجب غير المؤقت وهو الذي ليس له وقت مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، نعم يكون من الأمر والنهي هذا ما يكون مؤقتاً بوقت مخصوص أو يستلزم التعجيل والفورية .
السابع : الواجب الموسع والمضيق: وهذا التقسيم بلحاظ الوقت وأوان الأداء، وهو فرع الواجب المؤقت أعلاه فاذا كان الوقت يتسع للأداء في آنات متعددة فهو موسع، كصلاة الصبح فان وقت أدائها يستمر من طلوع الفجر الى طلوع الشمس، ومتى ما أديت كانت مجزية، ولكن لا يجوز تركها طيلة الوقت، والتباين في الفضيلة في وقت الأداء لا يضر بأصل هذه القسمة، اما المضيق فهو الذي يستوعب وقته أداء الواجب من غير زيادة، كفرض الصيام .
فإنه مضيق ومؤقت بخصوص شهر رمضان دون غيره من الأيام.
والواجب الموسع والمضيق فردا الواجب المؤقت الذي يكون لأدائه وقت مخصوص كالصلاة اليومية، في مقابل الواجب غير المؤقت الذي ليس لأدائه وقت مخصوص على نحو التعيين كدفع الكفارة وقيل منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنه على مراتب، فقد تكون الحاجة له فورية.
والحج من الواجب المضيق الذي يجب ان يؤتى بأيام مخصوصة، فالوقوف في عرفة مثلاً لا يكون الا في اليوم التاسع من ذي الحجة، وتحديداً بعد الزوال .
الثامن : يمكن تقسيم الواجب تقسيما جديدا إلى :
الأول : الواجب الزماني الذي يؤدى في زمان مخصوص كصيام شهر رمضان.
الثاني : الواجب المكاني، الذي يجب في موضع مخصوص وهو أداء مناسك الحج، ومنها:
أولاً : الطواف بالبيت الحرام.
ثانياً : صلاة الطواف قال تعالى[وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى]( ).
ثالثاً : الوقوف بعرفة.
رابعاً : الذهاب إلى مزدلفة.
خامساً : المبيت في منى.
الثامن: الواجب التعبدي والتوصلي: والأول هو الذي يؤتى به تقرباً الى الله تعالى وطاعة لأمره ولما فيه من المصلحة والمنفعة ولحسنه الذاتي، ورجاء الثواب على الإمتثال فيه، والسلامة من العذاب عند المعصية والتخلف عن أدائه كما في سائر العبادات.
أما التوصلي فهو الذي يؤتى به لمجرد حصوله في الخارج من غير قصد القربة والإمتثال لأمر الله تعالى، كما في غسل الثوب وحصول طهارته من غير قصد الطاعة، الا اذا قصد فيه الطاعة وجعله مقدمة.
الخلاصة: يعتبر الحج واجباً مشروطاً بالإستطاعة وليس مطلقاً، وواجباً عينياً فلا يجزي أداء مكلف عن مكلف مستطيع غيره، والنيابة فيه حكم خاص عند تعذر أداء المكلف ذاته.
والحج واجب معلق على الإستطاعة وزمان الواجب، وعندها يكون منجزاً، وهو واجب أصلي مطلوب بالأصل وليس بالتبعية للصلاة او الصوم او الجهاد.
وهو واجب تعييني جاء الخطاب الإلهي بالأمر به على نحو التعيين وليس هناك واجب آخر بديل عنه بعرض او رتبة واحدة معه.
والحج واجب مضيق في زمان مخصوص لا يقبل الترديد، او التأجيل، فترى ملايين الحجيج يقفون في عرفة في يوم واحد من السنة، وعند الغروب ولا تلبث أن ترى المكان عاد خالياً من الناس بعد ساعات في آية ليس لها مثيل في أي بقعة في العالم، والحج واجب نفسي مطلوب لنفسه وذاته وليس لواجب آخر.
وهو واجب تعبدي يشترط فيه قصد القربة ولما فيه من المنافع , قال تعالى [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسم اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ] ( )، وفي أداء الحج ثواب عظيم، بالإضافة الى حسنه الذاتي وكونه شاهداً على إستدامة عبادة الله في الأرض التي هي علة خلق الإنسان، ومادة بقاء الحياة الدنيا.
ومن الأصوليين المعاصرين من قسم القدرة الى:
الأولى : القدرة الشرعية.
الثانية : القدرة العقلية والأولى التي تؤخذ في موضوع الخطاب، وتستقرأ موضوعيتها في ملاك التكليف سواء جاءت صريحة في موضوع الخطاب او جاءت الدلالة عليها بالتضمن.
اما اذا لم تؤخذ القدرة في موضوع الخطاب، بل يدل عليها مضمونه ودلالتها كما في إرادة البعث والتحريك نحو المقدور او لعدم قدرة العاجز عن تلقي الخطاب الصريح فهي عقلية.
وفريضة الحج على هذا من الأولى , فقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ] يفيد القدرة الشرعية اذ جاء الخطاب صريحاً بالتكليف.
والعلة التامة في الفلسفة هي وجود المقتضي وفقد المانع، كما لو أحرزت دخول شهر رمضان، وعدم وجود مانع من الصيام كالمرض والسفر فيتحقق المعلول وهو وجوب الصيام، والعمل بقوله تعالى[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، ولو شككنا في إنتفاء المانع وإحتمال وجوده كالمرض فتجري قاعدة المقتضي والمانع بالبناء على إنتفاء المانع، ولزوم ترتب الأثر على المقتضي وتحقق المعلول وهو في المثل صيام شهر رمضان وتختلف عن أصل الإستصحاب بالتعدد والتباين بين مورد اليقين وهو وجود المقتضي ومتعلق الشك والإحتمال وهو وجود المانع .
أما في الإستصحاب فالموضوع متحد واليقين سابق ولكن الشك اللاحق يتعلق باستدامة الحدوث والبقاء في ذات الموضوع.
فجاءت آية البحث لتؤكد المقتضي لعدم الخوف من العدو، وهو من وجوه:
الأول : عطف الآية بصيغة النداء والخطاب للمسلمين والمسلمات بصيغة الإيمان.
الثاني : وصف حال المسلمين بأنهم الأعلى شأناً من غيرهم وأن أسباب ومقدمات النصر حاصلة عندهم على نحو القطع.
الثالث : بلوغ المسلمين مرتبة اليقين بالنصر والغلبة على الأعداء.
وهل آية البحث علة تامة للنصر، الجواب القدر المتيقن من الآية سلامة المسلمين من درن الشك والخوف والفزع من العدو.
أما قاعدة اليقين التي قال بها بعض الأصوليين فهي إرادة الشك الساري الطارئ على اليقين، ويلحظ أن التسمية لا تتلائم مع المسمى، فاذا كان الشك يدخل على اليقين ويدفعه، ويتحول اليقين إلى شك بحيث يدرك المتيقن حصول الشك وإنتفاء السبب والعلة لليقين فكيف تسمى القاعدة بقاعدة اليقين وهي أقرب إلى (اللايقين) خاصة وأن الشك يطرأ في ذات الموضوع المتيقن فيتغير العنوان وإن إتحد الموضوع، بخلاف الإستصحاب الذي يتعدد فيه المتعلق، فالحدوث السابق هو متعلق اليقين، أما إستدامة الحدوث فهي متعلق الشك، كما لو غاب الزوج عن زوجته لسنوات وكانت على يقين بحياته في السنة الماضية ثم شككت في حياته ففيه تفصيل:
الأول : الشك في أصل حياته في السنة الماضية، بمعنى أنه لم يكن حياً في السنة الماضية وأنه مات قبلها وهذا هو الشك الساري وهو الذي تتقوم به قاعدة اليقين.
الثاني : الشك في حياته هذه السنة أو الشهر أو الأسبوع بعد اليقين بها في السنة الماضية، وهذا الشك هو موضوع الإستصحاب، فالإستصحاب لا ينفي اليقين.
ولا يتعارض اليقين والشك فيه للتباين في الوعاء الزماني لكل منهما، أما قاعدة اليقين فان المحل واحد لليقين والشك ولا يجتمع المتضادان في محل واحد فحينما يطرأ الشك في ذات الموضوع يغادر اليقين قهراً، وبالإستصحاب نعمل باليقين السابق.
كما لو شككنا بعدالة زيد عند إدلائه بالشهادة فعلى أصل الإستصحاب نأخذ بشهادته ولا عبرة بالشك اللاحق لعدم قدرة الشك على إزاحة اليقين ومنه ما يكون من مصاديق الظن في قوله تعالى[إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ]( )، فلابد من الظن بالمسلم خيراً، والإحتراز من الظن بالباطل.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث( ).
والأستصحاب لغة: إستفعال الصحبة، والمراد إستدامتها ، وكان يسمى (إستصحاب الحال) ولم يكن هذا الاصتلاح موجوداً أيام النبوة وعهد الصحابة ، ومن معانيه لغة وجوه :
أولاً : المقارنة.
ثانياً : الملازمة وقد ورد في التنزيل[يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ]( ).
فوصف الله عز وجل الزوجة بالصاحبة، وهل يمكن تقدير الآية: تود المجرمة لو تفتدى من عذاب يومئذ ببنيها، وصاحبها وأخيها) الجواب نعم إذ ورد لفظ التذكير في الآية للغالب.
ثالثاً : العناية والحفظ، ويقال: ويقال: صَحِبَكَ اللهُ أي: حفظك)( ).
رابعاً : الملائمة(وكُلُّ شَيْءٍ لأَمَ شَيْئاً فقد اسْتَصْحَبَه)( )، (وكلُّ شَيءٍ لاءَمَ شَيئاً فقد استَصْحَبَه، قال:
إنَّ لك الفضل على صاحبي … والمِسْكُ قد يَستَصْحِبُ الرامِكا)( ).
خامساً : الإنقياد بعد صعوبة، ويقال(وأصْحَبَ البعيرُ والدابةُ، إذا انقاد بعد صُعوبة، قال الشاعر:
ولَسْتُ بِذي رَثْيَةٍ إمَّرٍ … إذا قِيدَ مُسْتَكْرَهاً أَصْحَبا)( ).
وعرف الإستصحاب في الإصطلاح بتعاريف متعددة، متقاربة المعنى وهل التمسك بحكم في زمن سابق متصل لعدم ثبوت إنتفائه وزواله، ولم يكن هذا الإصطلاح مذكوراً في أيام النبوة ولا الصحابة ولا التابعين بل إستحدث بعدهم، ولكن العمل به من أيام النبوة , وفيه نصوص عديدة تدل على سماحة الشريعة في مقام الشك .
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى فَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَنَ أَنْ قَدْ أَتَمَّ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ وِتْرًا صَارَتْ شَفْعًا وَإِنْ كَانَتْ شَفْعًا كَانَ ذَلِكَ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ( ).
وعن زرارة قال: قلت للصادق عليه السلام: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شئ من المني – إلى أن قال -: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فرأيت فيه ؟ قال: تغسله ولا تعيد الصلاة، قلت: لم ذاك ؟ قال لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا،قلت: فهل علي إن شككت في أنه أصابه شئ أن أنظر فيه ؟ .
قال: لا ولكنك تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك، قلت: فإني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله ؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك( ).
أول خروج للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة
لقد وصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة في شهر ربيع الأول ليبدأ التقويم الهجري ويستمر إلى يوم القيامة وهو من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه دعوة للمسلمين للتدبر في رحلة وهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة .
واستقبله الأنصار ، وصار عدد المسلمين في المدينة يزداد كل يوم من جهات :
الأولى : دخول جماعة من الأوس والخزرج في الإسلام .
الثانية : مجئ مهاجرين جدد من مكة .
الثالثة : حضور الوفود من أطراف مكة والمدينة والقرى في الجزيرة إلى المدينة للإصغاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته والإستماع لآيات القرآن فيدخلون الإسلام ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ] ( ).
وهل لطواف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القبائل في موسم الحج في مكة قبل الهجرة موضوعية وأثر في هذا التوافد الجواب نعم.
من أدلة الإجتهاد والتقليد
من معاني التقليد تعليق شئ على شئ، كما يقال قلدتها قلادة أي جعلت في عنقها قلادة، وفي التنزيل جعل الله الكعبة [الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أن قيام الناس بالشهر الحرام الذي يكف فيه عن القتال، والمراد من الشهر الحرام هي أربعة أشهر وهي ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وهي سرد متصلة , وشهر منفصل وهو شهر رجب.
وقيل المراد من الشهر الحرام في الآية أعلاه خصوص شهر ذي الحجة لما فيه من مناسك الحج.
والهدي هي الأنعام التي تساق إلى البيت الحرام، لأن صاحبها يكون في أمان لما تدل عليه بالدلالة التضمنية على أنه لا يريد قتالاً.
أما القلائد فان الرجل كان إذا خرج الى الحج تقلد شيئاً من السمرّ والشجر وإذا رجع تقلد شيئاً من شجر الحرم الذي يدل على أنه كان في الحج والعبادة، فلا يتعرض له أحد بأذى، سواء كان رجوعه فيما بقي من شهر ذي الحجة أو في شهر محرم .
وقد يضع الرجل القلائد ولحاء شجر الحرم على بعيره حيث توجه للأمن من الأعداء، فجاء الإسلام وأمضاه لما فيه من سنخية وأنه مظهر للحج .
وعن قتادة أن الآية منسوخة بآية السيف( )، وهو قوله تعالى[فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، والمختار أن الآية غير منسوخة للتباين الموضوعي.
وقال الفرزدق :
حَلَفْتُ بِرَبّ مَكَّةَ والمُصَلَّى … وأعناقِ الهَدِيِّ مُقَلَّداتِ( ).
أي أن تقليد الهدي متعارف عند المسلمين.
والفرزدق (38-114 هجرية) شاعر واسمه همام بن غالب ولد في أرض كاظمة، وعاش في البصرة ويتصف شعره بالمدح والفخر، والهجاء وعرف بالفصاحة لسكنه البادية ولأن قومه تميم من أفصح قبائل العرب وكان ذا مزاج متقلب يظهر في شعره، فيمدح شخصاً ثم يذمه في اليوم التالي .
ولكنه مدح أهل البيت منها قصيدته الميمية في البيت الحرام يمدح بها الإمام علي بن الحسين , وبحضور هشام بن عبد الملك , ومطلعها :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته … والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم … هذا التقي النفي الطاهر العلم( ).
ومدح أمراء بني أمية، وذم الحجاج بصيغة المدح بحضوره مع أنه كان في مباراة مع جرير.
وعن الأصمعي قال : اجتمع جرير والفرزدق عند الحجّاج. فقال: من مدحني منكما بشعرٍ يوجزُ فيه ويحسن صفتي فهذه الخلعة له، فقال الفرزدق:
فمن يأمنِ الحجاجَ والطيرُ تتَّقى … عقوبتَهُ إلاَّ ضعيفُ العزائم
فقال جرير:
فمن يأمنِ الحجّاجَ أمَّا عقابُه … فمرٌّ وأمَّا عقدُهُ فوثيق
يسرُّ لكَ البغضاءَ كلُّ منافقٍ … كما كلُّ ذي دينٍ عليكَ شفيقُ
فقال الحجاجُ للفرزدق: ما عملت شيئاً، إنّ الطير تنفر من الصبيّ والخشبة، ودفع الخلعة إلى جرير( ).
وسمي الفرزدق لفخامة وتجهم وجهه ولقصره، ومعناه الرغيف وللتقليد في الإصطلاح معنيان:
الأول : إتباع من ليس له حجة باتباعه ، وليس من دليل علمي عنده.
الثاني : التقليد اتباع من كان حجة في نفسه، وأنه لا يغني إلا عن الدليل.
والمقصود في المقام هو الوجه الثاني أعلاه، وقد يستشهد بالتقليد لرسول الله ولكن المقام ليس من التقليد، إنما هو وجوب إتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، نعم جاء القرآن والسنة النبوية بالحث على السؤال والإستغناء، والتفقه في الدين.
وقد ورد قوله تعالى[يَسْأَلُونَكَ] خمس عشرة من القرآن، كل واحدة منها خطاب من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنه قوله تعالى[وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ]( ).
ورد عن ابن عَبَّاسٍ يُخْبِرُ أَنَّ رَجُلًا أَصَابَهُ جُرْحٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَصَابَهُ احْتِلَامٌ فَأُمِرَ بِالِاغْتِسَالِ فَمَاتَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ أَلَمْ يَكُنْ شِفَاءَ الْعِيِّ السُّؤَالُ ( ).
حدثنا الحسن بن علي ، نا عاصم بن علي ، نا الفضل بن سليمان ، نا عبد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب ، قال : أخبرني أبي ، عن جدي ، علي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن قبطيا يتحدث إلى مارية فأرسل عليا رضي الله عنه إليه وقال له : اقتله فأخذ علي رضي الله عنه السيف يضرب به القبطي وهو على نخلة فإذا هو حصور ليس له ذكر ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : إنما شفاء العي السؤال( ).
عن أبى هريرة وعن زيد بن خالد الجهنى انهما أخبراه ان رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال احدهما يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله وقال الآخر وكان افقههما اجل يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي في ان اتكلم قال تكلم قال ان ابني كان عسيفا( )، على هذا فزنى بامرأته فأخبروني ان على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وجارية لي ثم انى سألت اهل العلم فأخبروني ان على ابني جلد مائة وتغريب عام انما الرجم على امرأته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اما والذى نفسي بيده لاقضين بينكما بكتاب الله اما غنمك وجاريتك فرد اليك وجلد ابنه مائة وغربه عاما وامر انيسا الاسلمي ان يأتي امرأة الآخر فان اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها( ).
ومما استدلوا به قول أبي بكر في الكلالة قال: أقضي فيها فان يكن صواباً فمن الله ، وان يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله برئ منه، وهم ما دون الولد والوالد، فقال عمر: اني استحي من الله أن أخالف أبا بكر.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أنا مدينة العلم وبابها علي فمن أراد العلم فليأت من بابه.
وقال في أصحابه : أقضاكم علي بن أبي طالب( )( ).
وورد عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنهما قالا: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه.
وقيل أنه شاهد على منع التقليد لأن الذي يعلم بالدليل مجتهد ملزم بالحجة وليس مقلداً، إنما أراد معرفة الدليل والأصل في الجملة.
وعن مالك قال: إنما انا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه.
ولا تعارض بين التقليد والسؤال عن الدليل، وفي هذا السؤال بيان للحكم، وتفقه للعامة، وبعث للطمأنينة في النفوس، وعون على العمل بمضامين لأمر أو الحكم.
وعن طريق سلام بن سليم ، قال : حدثنا الحارث بن غصين ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.
وسلام بن سليم ، متروك متهم قال ابن معين : ليس حديثه بشيء ، وقال ابن حبان : يروى عن الثقات الموضوعات كأنه كان المعتمد لها.
وأخرجه الخطيب من طريق سليمان ابن أبي كريمة ابو سليمة الصيداوي وهو شامي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا بلفظ : ( إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء ، فأيها أخذتم به اهتديتم ، واختلاف أصحابي لكم رحمة.
وإسناده ضعيف : وسليمان بن أبي كريمة ضعيف ، وجويبر هو ابن سعيد الأزدي ، وقال ابن حجر العسقلاني: متروك( ) ، وكذا قال الدارقطني والنسائي وغيرهما.
والضحاك هو ابن مزاحم الهلالي لم يلق ابن عباس، وقال البيهقي: هذا حديث متنه مشهور ، وأسانيده ضعيفة ، لم يثبت في هذا إسناد.
ورواه ابن عساكر في “تاريخه”( )، والديلمي في ” مسنده” ( )،من طريق نعيم ابن حماد حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب مرفوعا : ( سألت ربي عز وجل فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي فأوحى الله إلي : يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء ، بعضها أضوأ من بعض ؛ فمن أخذ بشئ مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى.
ونعيم بن حماد ضعيف ، وقيل عبد الرحيم بن زيد العمي كذاب.
وذكره ابن عبد البر من طريق أبي شهاب الحناط عن حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر مرفوعا به.
ثم قال ابن عبد البر : وهذا إسناد لا يصح ، ولا يرويه عن نافع من يحتج به.
وحمزة الجزري قال ابن معين : لا يساوي فلسا ، وقال البخاري: منكر الحديث ، وقال الدارقطني : متروك ، وقال ابن عدي : عامة ما يرويه موضوع.
وقال الإمام أحمد : لا يصح هذا الحديث.
وَقَالَ الْحَافِظ أَحْمد بن عَمْرو بن عبد الْخَالِق الْبَزَّار:
هَذَا الْكَلَام لم يَصح عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم.
الحديث : قال الشيخ : وعامة أحاديثه مناكير ( ).
عن أبي الجارود زياد بن المنذر الهمداني الخارفي الثقفي الأعمى كوفي عن محمد بن سنان: قال لي أبو الجارود: ولدت أعمى ما رأيت الدنيا قط، كان من أصحاب أبي جعفر الباقر عليه السلام، وروى عن الإمام الصادق ، وتغير عندما خرج زيد له كتاب تفسير، وهو زيدي المذهب واليه تنسب الزيدية الجارودية قال: قال ابو جعفر عليه السلام: إذا حدثتكم بشئ فاسألوني عنه من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن القيل والقال،وفساد المال، وفساد الارض، وكثرة السؤال، قالوا: يا ابن رسول الله وأين هذا من كتاب الله قال: إن الله يقول في كتابه[لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ]( )، وقال [وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا]( )، لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ.
فالإمام يدعو المؤمنين إلى سؤاله عن الدليل من القرآن فيما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يفتي ويحكم به، وفيه بعث للشوق في النفوس لآيات القرآن ولبيان أن القرآن، والسنة ينهيان عن الخصال المذمومة.
وقال تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( )، وقد تضمنت الآية وظيفة التفقه في الدين طائفة أي فريق وجماعة وطرف ، ليكون أفراد هذه الطائفة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في مراتب الفقاهة ، وكل فرد منهم يقوم بالإنذار والتحذير من جهات :
الأول : ينذروا قومهم بلزوم هجران الكفر ومفاهيمه .
الثاني : لينذروا قومهم من التفريط في أداء الصلاة في أوقاتها .
الثالث : لينذروا قومهم من تعدي وهجوم الذين كفروا .
الرابع : لينذروا قومهم من هجوم الذين كفروا في الشهر الحل والشهر الحرام ، وفي التنزيل [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
الخامس : لينذروا قومهم بلزوم أداء حج بيت الله ، وعدم تركه عند الإستطاعة مرة واحدة في العمر ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
السادس : لينذروا قومهم أهوال الآخرة .
السابع : لينذروا قومهم من النفاق .
الثامن : لينذروا قومهم من الغيبة والنميمة والحسد ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ]( ).
التاسع : لينذروا قومهم بآيات القرآن وما فيها من الوعد والوعيد .
العاشر : لينذروا قومهم بما جاء في السنة النبوية ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ) .
الحادي عشر : لينذروا قومهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثاني عشر : لينذروا قومهم من الركون إلى القوم الظالمين .
الثالثة عشر : لينذروا قومهم في أحكام الحلال والحرام .
الرابع عشر : لينذروا قومهم بلحاظ أن هذا الإنذار واجب كفائي .
الخامس عشر : لينذروا قومهم في الليل والنهار لأنهم يبقون معهم لا يغادرون إلى الرباط أو سوح الدفاع .
السادس عشر : لينذروا قومهم لحاجة الناس إلى الإنذار .
السابع عشر : لينذروا قومهم إذا رجعوا من المرابطة في الثغور .
الثامن عشر : لينذروا قومهم فينالوا الأجر والثواب، لأن الإنذار فيه أطراف :
الأول : المنذِر : بالكسر بصيغة اسم الفاعل ،وهو الذي يقوم بالإنذار , وقد تفضل الله عز وجل بأن جعل الأنبياء وهم أشرف الناس يتولون الإنذار بأنفسهم ، كما نزلت الكتب السماوية بصيغ متعددة للإنذار قال تعالى[تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ).
الثاني : لغة الإنذار والتحذير والوعيد .
الثالث: موضوع ومادة الإنذار .
الرابع : المنذَر بالفتح بصيغة اسم المفعول .
ومن الإعجاز في الآية مجئ الآية بصيغة الجمع بين الطرفين الأصليين في الإنذار ، وهم الطائفة المنذرة , والمنذرَون لبيان أنه لا يتوجه كل المسلمين أو أغلبهم إلى النفير ، فالآية تحتاج التفقه في الدين ، وهذا التفقه برزخ دون تجدد القتال ، وفيه حصانة من دبيب مفاهيم الكفر إلى مجتمعاتهم .
إن بقاء طائفة من الفقهاء ، وأهل العلم بين المسلمين في المدينة واقية من شرور المنافقين ، ويجب أن يقوم الذين يبقون للتفقه في الدين بواجبهم من جهات :
الأولى : تلاوة آيات القرآن ، وحفظ ما تيسر منه .
الثانية : المنع من تحريف أو تبديل كلمات من القرآن .
الثالثة : تعليم الناس أحكام الصلاة واتقانها .
الرابعة : بيان فروع الدين ومنها :
أولاً : الصلاة.
ثانياً : الصيام .
ثالثاً : الزكاة .
رابعاً : حج بيت الله الحرام.
خامساً : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابعة : تعظيم شعائر الله .
الخامسة : التحذير من عادات الجاهلية والوثنية .
السادسة : تعاهد طاعة الله ورسوله ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).