المقدمـــــــــــة
الحمد لله حمداً كثيراً متصلاً مباركاً دائماً , نسأله تعالى أن يصعد في السموات وأن يكون حاضراً في الملمات ، وواقية من الشدائد والآفات .
الحمد لله حباً له سبحانه وتقرباً إليه ، ورجاء رفده وتوالي فضله علينا وعلى الناس ، فان كل نعمة خاصة أو عامة من عند الله تكون أعم في موضوعها وحكمها وأثرها ، فتأتي النعمة لشخص معين ولكن عدد الذين ينتفعون منها لا يعلمه إلا الله عز وجل إذ تنفع الحي والميت والذي لم يولد بعد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) لأن نعمه سبحانه توليدية متجددة , فكل نعمة من عند الله تتفرع عنها نعم متعددة من غير أن تنقص النعمة الأولى , فالحمد والشكر لله على نعمة ما علمنا منها وما لم نعلم ، ومن خصائص النعمة الإلهية أنها برزخ دون البلاء والضرر .
الحمد لله الذي جعل الدنيا دار الحمد له والثناء عليه وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) وكل حمد لغيره ينقضي ويزول في أطرافه وهي :
الأول : الحامد .
الثاني : المخلوق الذي يتوجه إليه الحمد .
الثالث : موضوع الحمد للمخلوق .
أما الحمد لله عز وجل فهو دائم وباق ومتجدد في موضوعه وحكمه وأثره في الحياة الدنيا وهو حاضر في الآخرة كرحمة وثواب وباب للعفو والمغفرة ورجحان لكفة الميزان ، قال تعالى [فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ] ( ).
الحمد لله حمداً كثيراً , وسلام على عباده الذين اصطفى الذين خصهم بالنبوة والتنزيل ، والذين ذكرهم في القرآن بالمدح والثناء .
الحمد لله الذي جعل الملائكة سكنة السموات , والناس سكنة وعمار الأرض ، ولم يفصل بينهم برزخ دائم ، إذ تفضل الله وأنزل الملائكة لنصرة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يجعل عبادته تعالى مستديمة في الأرض إلى يوم القيامة ، وهذه الإستدامة من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) لبيان قانون وهو أن مصاديق النصر في يوم بدر متجددة إلى يوم القيامة ، ولم يتم بغزو أو هجوم من المسلمين , وهو من أسباب تسميته [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( ) وهذا التجدد من الشواهد على ان نزول الملائكة لنصرة النبي والمؤمنين في معارك الإسلام الأولى رحمة بالإجيال المتعاقبة في الأرض ، ودعوة لهم للإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه ، وفي التنزيل [الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ] ( ) .
وقدمت الآية أعلاه خلق السموات والأرض بآية مستحدثة من عند الله و(عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما [لصاحبه] : أنا فطرتها، أنا بدأتها. فقال ابن عباس أيضًا: { فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } بديع السموات والأرض) ( ).
وذكرت صفة الطيران ملازمة للملائكة , وهي الحال الأكثر من الدبيب فيهم ، مع تفضل الله عز وجل بزيادة عدد الملائكة وأجنحتها ، وقد رأى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جبرئيل في ستمائة جناح منها اثنان يبلغ بهما المشرق إلى المغرب .
ومن معاني الألف واللام في [الْحَمْدُ لِلَّهِ] ( ) إفادة الإستغراق أي كل الحمد لله عز وجل وحده بيده الخير وهو على كل شئ قدير ، وقد أثنى الله عز وجل على نفسه في الكتب السماوية كلها ، ليرث المسلمون الأرض بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) مع قراءة كل واحد منهم ذكراً أو أنثى هذه الآية سبع عشرة مرة في اليوم على نحو الوجوب العيني في الصلاة ، ولم تكن هذه القراءة عرضية ، أو من الكيفية المتعارفة في صيغ الكلام بين الناس ،إنما يتلوها المسلم وهو متوضئ وطاهر ، وواقف بحال خشوع وخضوع بين يدي الله.
الحمد لله الذي هدانا لحمده ، ويسره على الألسن , ليتجلى على الجوارح وفي السلوك , قال تعالى [وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ]( ) ونسأله تعالى أن يجعلنا من الحامدين في الدنيا وعالم البرزخ ويوم القيامة.
الحمد لله الذي جعل آيات القرآن كنوزاً من العلم وخزائن لا تنفد كلما تناول العلماء آية وجدوا فيها من الذخائر والدرر أضعاف ما ذكرها الذين سبقوهم من علماء التفسير والفقه والأصول وعلماء الإجتماع وغيرهم , إلى جانب اللآلئ التي تستحدث مع الأيام , والوقائع , والإكتشافات العلمية .
الحمد لله الذي جعل آيات القرآن تتحدى العلماء من المسلمين وغيرهم في كل زمان بأن أسرارها وعلومها لا تنقطع إنما هي ينابيع من الذهب المصفى ، ورياض ناضرة تفوح برياحين العلم , وضياء مبارك ، وتأخذ بأيدي الناس للهداية والرشاد .
الحمد لله عز وجل على تسخير نفر من العلماء في كل زمان لتفسير القرآن ، وهو من عمومات قوله تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] ( ).
والحمد لله على عناية كل المسلمين والمسلمات بعلم التفسير ورشحات مسائله ، ومنذ نحو ألف وأربعمائة سنة تصدر شذرات وروايات التفسير , وتألف الكتب والمجلدات فيه .
وقد يصل تفسير سور القرآن كلها إلى عشرين أو ثلاثين جزء ،ويسمى تفسير الرازي بالتفسير الكبير وهو اثنان وثلاثون جزء يتضمن تفسير كل آيات وسور القرآن ، وكل جزء منها بقدر الجزء من أجزاء تفسيرنا هذا تقريباً .
وقد أنعم الله عز وجل علينا بصدور سبعون ومائة جزء من التفسير، ولا زلت في بدايات القرآن ، وفي سورة آل عمران في آية علمية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً .
الحمد لله على تفضله بقيامي بمفردي بالتأليف والتصحيح والمراجعة لأجزاء سِفر التفسير هذه ولكتبي الفقهية والأصولية والكلامية ، ليس معي إلا فضل الله عز وجل ، ومن هذه الكتب رسالتي العملية الحجة (خمسة أجزاء) ورسالتي (حجة النساء ) مجلدين وهي أول رسالة عملية للمرأة في العبادات والمعاملات .
وكتاب (العهد) مختصر مسائل العبادات والمعاملات والأحكام( )، مع قيامي وإلى الآن بالتدريس في البحث الخارج الفقهي والأصولي , وفي علم التفسير , والأخلاق , وعلى نحو يومي باستثناء يومين في الأسبوع , بلطف وفيض من عند الله عز وجل .
وبينما كانت الآية القرآنية تُفسر بسطرين أو ثلاثة أو أكثر قليلاً ، أنعم الله عز وجل عليّ وعليكم بتخصيص جزء أو أكثر لتفسير الآية القرآنية مع إضافة أبواب مستقلة ومستحدثة في تفسير كل آية وهي :
الأول : الإعراب واللغة
الثاني : في سياق الآيات , وصدرت أجزاء مستقلة , كل جزء في الصلة بين آيتين( ).
الثالث : صلة خاتمة الآية السابقة بآية البحث.
الرابع : إعجاز الآية الذاتي .
الخامس : إعجاز الآية الغيري.
السادس : الآية سلاح .
السابع : مفهوم الآية .
الثامن : الآية لطف .
التاسع : إفاضات الآية .
العاشر : الآية بشارة .
الحادي عشر : الآية إنذار .
الثاني عشر : الآية موعظة .
الثالث عشر: الآية رحمة .
الرابع عشر : الحاجة لآية البحث .
الخامس عشر : البحث البلاغي .
السادس عشر : ثناء الله على نفسه في آية البحث .
السابع عشر : النعم التي تذكرها آية البحث .
الثامن عشر : الصلة بين أول وآخر الآية .
التاسع عشر : أسباب النزول .
العشرون : من غايات الآية .
الحادي والعشرون : التفسير ، بلحاظ تفسير الحرف والكلمة وشطر الآية.
ومن فضل الله عز وجل سأضيف بابين آخرين في تفسير كل آية وهما :
الأول : مفهوم الموافقة في الآية : وهو المعنى المستقرأ من الآية والمسكوت عنه فيها ، والموافق في حكمه لمنطوق الآية سواء الأمر أو النهي أو في الحلية أو الحرمة أو غيرهما.
إذ نستعرض في تفسير كل آية وجوه مفهوم الموافقة لمنطوقها ، لتتفرع عنه علوم مستحدثة عديدة .
الثاني : مفهوم المخالفة ، وهو دلالة الكلام على نفي الحكم المخالف لحكم المنطوق به ، لإنتفاء قيد وشرط من قيود المنطوق ، وقد يسمى (دليل الخطاب ) ، وبغض النظر عن القول بأنه من الأدلة الشرعية أو أنه ليس بدليل شرعي ، وهو المختار فان مضامين الآية القرآنية أعم من أن تكون أحكاماً ، فقد يرد فيها الخبر والبيان والقصة ، وفي التنزيل [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ) وتستبين مسائل في باب الأحكام .
فتبين مسائل في مفهوم المخالفة ، ولكن ليس من سبيل الحكم والقطع ومن أنواع مفهوم المخالفة :
الأول : مفهوم الغاية .
الثاني : مفهوم الشرط .
الثالث : مفهوم الوصف .
الرابع : مفهوم العدد .
الخامس : مفهوم اللقب .
السادس : مفهوم التقسيم : وهو ما يستقرأ من خلاف تقسيم المحكوم عليه إلى قسمين أو أكثر ، وذكر حكم خاص لكل منهما ، ومن مفاهيمه أن كل قسم يختص بحكمه .
كما في قوله تعالى [فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً]( ) للتخيير بينهما بخصوص الأسرى الذين يقعون بأيدي المسلمين , وعدم وجود قسيم ثالث يجلب للأسرى الضرر .
فأما أن يمنوا عليهم بالعفو ويطلقوا سراحهم ، وأما أن يفادوهم بالمال .
ونسب إلى مالك أن الإمام مخير في الأسرى بين خمسة :
الأول : المنّ .
الثاني : الفداء .
الثالث : القتل .
الرابع : الإسترقاق .
الخامس : ضرب الجزية ( ).
وقال الشافعي بالتخيير بين أربعة منها واستثنى الجزية والظاهر لأن الجزية لا تشمل الكفار .
والمختار انحصار التخيير بين المن والعفو ، وبين طلب البدل والعوض للكتاب والسنة ، وقد أطلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدداً من الأسرى من غير عوض أو بدل ، كما ترك العوض ومقداره للصحابة الذين قاموا بأسر الأسرى .
وقال بعضهم أن الآية أعلاه منسوخة بآية السيف ، وقوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) (فلا يجوز إلا قتلهم ) ( ).
والصحيح أن آية التخيير بين المن والفداء محكمة وليست منسوخة ، ثم أن الآية أعلاه والتي تسمى آية السيف خاصة بلقاء المشركين من كفار مكة وما حولها أوان نزولها , ولا تتعلق الآية بالأسرى لأن موضوعها مختلف ، وتتعلق بلقاء الكافرين وقتالهم بعد مدة الهدنة وليس الذي في أيدي المسلمين ، كما أن الآية أعلاه تتضمن الأخذ بقوله تعالى [وَخُذُوهُمْ] أي أسر المشركين ليترشح عنه ذات الحكم وهو أما المن أو الفداء ، وقيل المراد من [احْصُرُوهُمْ] السجن ، ولكن الآية أعم وتتضمن الحجز وما يسمى بالإقامة الجبرية ، والمنع من الإنحياز إلى فئة الذين كفروا .
ومن فضل الله عز وجل في تفسيرنا هذا أنه أحسن تفسير في مضامينه واستقراء المسائل واستنباط الأدلة والحجج من ذات الآية الكريمة ، ومن صلتها مع آيات القرآن الأخرى سواء الآيات المجاورة لها أو التي غير مجاورة لها ولسياق ونظم القرآن موضوعية في إعجازه وعجز البشر عن الإتيان بمثله ، وفي التنزيل [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ) .
قد انبهر أساطين اللغة من قريش وقبائل العرب بكلمات وآيات القرآن وسياقها ، وتوالي نزولها بإعجاز .
و(لما أنزل على النبي (عليه السلام) [حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ]( )، إلى قوله : {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} قرأها النبي (عليه السلام) في المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته،
فلما فطن النبي (عليه السلام) لإستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية،
فانطلق الوليد حذاء مجلس قومه بني مخزوم فقال : والله لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمغدق وإنّه يعلو وما يُعلى. ثم انصرف إلى منزله،
فقالت قريش : صبا والله الوليد والله ليصبأنّ قريش كلّهم وكان يقال للوليد : ريحانة قريش،
فقال : لهم أبو جهل أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزيناً،
فقال : له الوليد مالي أراك حزيناً يا ابن أخي،
قال : وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك ويزعمون أنّك تؤمن بكلام محمد وتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم،
فغضب الوليد وقال : ألم تعلم قريش أني أكثرهم مالا وولداً وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل؟
ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه،
فقال لهم : تزعمون أن محمداً مجنوناً فهل رأيتموه يخنق قط؟
قالوا : اللهم لا،
قال : تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه يتكهّن قط ؟
قالوا : اللهم لا،
قال : تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟
قالوا : اللهم لا. قال : تزعمون أنه كذّاب فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب؟
قالوا : لا،
وكان رسول الله (عليه السلام) يسمّى : الأمين قبل النبوة من صدقه. فقالت : قريش : فما هو؟
فتفكّر في نفسه ثم نظر وعبس فقال : ما هو إلاّ ساحراً،
أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه فهو ساحر،)( ).
لقد سخطت قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الأبناء والأتباع والعبيد دخلوا الإسلام ونعتوه بأنه ساحر في جذبه الناس إلى الإسلام ، مع أنه دين هدى ، قال تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( ).
لقد أنعم الله عز وجل علينا ولأول مرة في تأريخ الإسلام بكثرة وتوالي القوانين في هذا التفسير .
وهي مقتبسة ومترشحة في مضامينها وموضوعها من ذات الآية القرآنية ودلالاتها في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً ، لتكون تأسيساً لعلوم غير متناهية في كل من :
الأول : علم التفسير وعلوم القرآن التي تكشف عن شذرات من مضامينه القدسية ، وأسباب نزوله ، وقراءته ورسمه واعجازه ، والناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والمكي والمدني , وأوصل الزركشي علوم القرآن إلى سبعة وأربعين نوعاً وذكر السيوطي ثمانين نوعاً منها ( )، وهي أكثر بلحاظ الإنشطار فيها ، وتعدد الموضوعات والعلوم والقواعد .
الثاني : علم الفقه والأصول .
الثالث : علم الكلام .
الرابع : علم الإجتماع والأخلاق .
الخامس : علم المنطق والعلوم الطبيعية .
وقيدناه بأنه تأسيس لأن ما سيأتي وسوف يأتي به العلماء من ذات النهج لهذا التفسير وغيره أكبر وأكثر وأعظم للحقيقة السماوية للقرآن وهو أن قوانينه من اللامتناهي .
ثم جاءت الأجزاء (159-160-161-163-164-165-166) في قانون هو سور الموجبة الكلية في خروج كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو (لم يغزُ النبي ص أحداً) الذي هو إشراقة وبينه تطل على أهل الأرض لكشف حقائق وقواعد نبوية ثابتة .
ويقال غزا يغزو غزواً وغزواناً، ومعناه مهاجمة العدو وقتله في عقر داره، قال النابغة :
وثقتُ له بالنصر إذ قيل قد غزا … قبائلُ من غسانَ غيرُ أشائبِ( ).
وغزا الشيء أي أراده وطلبه ، وهذا المعنى عام ولا بأس به ويقال : أَخْفَقَ الرجلُ، إذا طلب حاجة فلم ينجح أو غزا فلم يغنم( ).
وأكثر المرات التي خرج فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت بغنائم ولا يسمى إخفاقاً إنما كان نجاحاً وتوفيقاً ورحمة.
ويسمى الغزو بعد الغزو: التعقيب ( ).
ويقال للرجوع من الغزو القفول .
ولم يقصد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم غزو قرية أو بلدة أو قوم ، ولكنه كان في حال دفاع ، أو أنه يخرج ومعه أصحابه لدفع القتال وصرف القوم الكافرين عن غزو المدينة .
وبلغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شهر محرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً على هجرته إلى المدينة أن طليحة وسلمة ابني خويلد قد سارا في قومهما ومن حالفهما وأطاعهما يدعون إلى حرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقتاله .
فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا سلمى بن عبد الأسد وعقد له لواء وأرسل معه مائة وخمسين من المهاجرين والأنصار وأمره أن يسرع السير وأن ينكب عن الطريق العام ، فذهب إليهم سلمة ولم يقاتلهم ، ولكنه شتت جمعهم ، وتفرقوا ، وجاء أبو سلمة ببعض الشياء والإبل ، لبيان أن السرايا التي بعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) من جهات :
الأولى : لا يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالوحي وتسليم الصحابة بهذا القانون بلغة للصبر، وطريق للنصر.
الثانية : وجود أمة من المهاجرين والأنصار يستجيبون لأمر النبي ويذبون عنه ، وفي التنزيل [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( ).
الثالثة : من أهم وظائف سرايا المسلمين تفريق جمع الذين كفروا ومنعهم من الهجوم على المدينة .
وكل من هذا التفريق والجمع من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدفاعية ، وهل هو معجزة قائمة بذاتها أم أنه رشحة وفرع المعجزة ، الجواب هو الأول .
الرابعة : إنكار المعجزات سواء كانت المعجزات العقلية , وكل آية من القرآن معجزة قائمة بذاتها، أو المعجزات الحسية التي جرت على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة أو التي وقعت في المدينة.
فان قلت أن القدر المتيقن من الحجة في المقام على كفار قريش هي الآيات الحسية التي وقعت في مكة ، والجواب ان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي وقعت في المدينة تصل إلى أهل مكة وغيرهم ، كما أن القرآن وثّق عدداً من هذه المعجزات ومنهم من أوصل معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية إلى ألف معجزة .
وقال بعضهم بالإكتفاء بمعجزة القرآن وحده ، ومن الناس من استدل بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما ورد (عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) ( ).
ولم يرد الحديث أعلاه عن غير أبي هريرة ، ذكره مسلم والبخاري ، وليس المراد هنا الحصر ، إنما بيان إنفراد وأختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة عقلية متحدة ينتفع منها الناس وإلى يوم القيامة ، وتجعل المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) في كثرتهم وتوارثهم الإيمان ، إلى جانب المعجزات الحسية التي رزقه الله مثل سائر الأنبياء .
الخامسة : في خروج كل سرية من المدينة تعظيم لشعائر الله، ودعوة الى الله سبحانه.
السادسة : تتابع خروج كتائب وسرايا الإيمان من المدينة , وقيادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعدد منها واقية من المعارك والحروب بين المسلمين والذين كفروا.
السابعة : في السرايا دعوة للناس لدخول الإسلام، ومنع من إعانة الذين كفروا على المسلمين.
الثامنة : كانت أغلب الكتائب والسرايا تعود إلى المدينة من غير قتال، فاعتاد الناس على خروجها وعلى مرور المسلمين بهم، وكانت مناسبة لرؤية أهل القرى والأعراب للمسلمين وهم يؤدون الصلاة ويتلون آيات القرآن، ويبينون معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولزوم التصديق برسالته.
التاسعة : لقد كان مشركوا قريش ومن والاهم وحالفهم يحرضون الناس وينفقون الأموال، ويغرون رؤساء ووجهاء القبائل والشعراء لتأليبهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وجوه :
الأول : المبادرة إلى غزو المشركين.
الثاني : الصبر والتحمل والقعود لحين هجوم وغزو المشركين.
الثالث : التسليم بشروط المشركين ولكنهم لا يرضون إلا الإرتداد، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( ).
ولم يكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقصد الهجوم والقتال، ولكنه قد يخرج للدفاع ومنع الكفار من الهجوم على المدينة، فبلغه ان بني المصطلق وهم من خزاعة يجمعون له ويحشدون الجنود، ويحرضون القبائل على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورئيسهم هو الحارث بن أبي ضرار.
فخرج لهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سبعمائة من أصحابه والتقوا عند ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد، فتزاحف الفريقان فبعث الله الخوف والرعب في قلوب بني المصطلق , فانهزموا , فسبى المسلمون النساء والصبيان وجمعوا الأموال والأنعام منها ألفا بعير.
وكان هذا اللقاء رحمة بالمسلمين والناس إذ تفرق المشركون قبل أن يقوموا بجمع جيوش كثيرة أخرى، ويقوموا بغزو المدينة وإعانة كفار قريش وقتل أحد الصحابة خطأ من قبل أحد الأنصار إذ ظنه من العدو.
ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ وقوع جويرية في الأسر , وهي ابنة رئيس بني المصطلق الحارث بن أبي ضرار الذي كان يقوم بجمع الجيوش قبل اللقاء ووقعت في سهم ثابت بن قيس بن الشماس، فكاتبته على نفسها أن يعتقها لقاء مال تدفعه له، وكانت جميلة ومليحة تجذب القلوب إليها، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تستعينه على مبلغ الكتابة.
أي أن الأسير والسبية يدخلان على النبي محمد حتى في أول أيام السبي.
وهو من مصاديق عموم الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
قالت عائشة وكانت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك السرية إذ أقرع بين نسائه عند الخروج فخرج سهمها وقيل معها أم سلمة: فَوَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ رَأَيْتهَا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي فَكَرِهْتهَا ، وَعَرَفْت أَنّهُ سَيَرَى مِنْهَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا رَأَيْت ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ بعد كل قال :
قالت : يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ ، سَيّدِ قَوْمِهِ وَقَدْ أَصَابَنِي مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخَفْ عَلَيْك ، فَوَقَعْت فِي السّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ بْنِ الشّمّاسِ أَوْ لِابن عَمّ لَهُ فَكَاتَبْته عَلَى نَفْسِي فَجِئْتُك أَسْتَعِينُك عَلَى كِتَابَتِي .
قَالَ فَهَلْ لَك فِيّ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَتْ وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللّهِ.
قَالَ أَقْضِي عَنْك كِتَابَتَك وَأَتَزَوّجُك ؛ قَالَتْ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ قَدْ فَعَلْت .
قَالَتْ عائشة : وَخَرَجَ الْخَبَرُ إلَى النّاسِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَدْ تَزَوّجَ جُوَيْرِيَةَ ابْنَةَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ.
فَقَالَ النّاسُ أَصْهَارُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ.
قَالَتْ : فَلَقَدْ أُعْتِقَ بِتَزْوِيجِهِ إيّاهَا مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَمَا أَعْلَمُ امرأة كَانَتْ أَعْظَمَ عَلَى قَوْمِهَا بَرَكَةً مِنْهَا( ).
وذكر خبر آخر في قصة زواج جويرية، وأن أباها جاء بالفداء وأخفى بعيرين منه في الطريق إذ غيبهما في العقيق، فلما حضر عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهما بآية من علم الغيب فاسلم الرجل ونطق بالشهادتين.
فخطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنته وأصدقها أربعمائة درهم.
ومن الإعجاز في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجمع بين السنة الدفاعية والأسرية، وإصلاح المجتمعات.
فبعد اللقاء في ميدان المعركة ووقوع المشركين في الأسر والسبي وصيرورة أموالهم غنائم تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم جويرية في ذات الواقعة وليس ثمة فترة بين الهجوم الدفاعي عليهم وبين صيرورتهم أصهار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأكرم الله جويرية بنيل مرتبة أم المؤمنين قال تعالى[النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
لقد أكرم الله عز وجل الأنبياء بالخطاب بالاسم، فقال تعالى [يَامُوسَى] في آيات منها قوله تعالى[وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى]( ) [ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]( )، وخاطب الله عز وجل يحيى بقوله تعالى[يَايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ]( ).
أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد خاطبه الله عز وجل بالنداء(يا أيها النبي) في آيات متعددة، منها تكراره في آيتين متعاقبتين قال تعالى[ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ]( ).
ويتضمن هذا الجزء بياناً وتفسيراً للآية الأخيرة أعلاه، وهذا النداء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه تفضيله على الأنبياء قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( )، لبيان أن جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحجة والبرهان ومن النفوس مستكبرة قد تستلزم الغلظة معها، ومنها يكفي التنبيه، ويخاطب البرهان العقول وعموم الناس ، وينفذ إلى القلوب، ويخالط النفوس، فلا تستطيع الإعراض عنه، لذا تفضل الله عز وجل وجعل المعجزة مصاحبة للنبوة.
كما ورد في القرآن النداء [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ] مرتين إحداهما قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ]( ).
وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين، والإمتناع عن الغزو والبطش، فاذا كان المسلمون يغزون الكفار فمن باب الأولوية القطعية غزو الذي يسارع في الكفر والذي يصر عليه، ليكون موعظة وعبرة لغيره، ولكن الله عز وجل خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويلحق به المسلمون بعدم الحزن من مسارعة شطر من الكفار في منازل الكفر والجحود، ولزوم التحلي بالصبر كأمر وجودي مقترن بالدعوة الى التوبة والإنابة، والتدبر بالآيات والمعجزات.
وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أتت علي ثلاثون من بين ليلة ويوم وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال ( ).
وورد قوله تعالى[َلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا]( )، ليؤكد بأن النبي محمداً نذير لأهل القرى والمدن والناس جميعاً، ويدل عليه قوله تعالى[لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ).
وتمنع الآية أعلاه [فَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ] النبي محمداً من طاعة الكافرين في مداهنتهم وهواهم، واصرارهم على الإقامة في مقامات الكفر والجحود.
لقد أحب الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وأراد لهم الإخلاص في عبادته، والإمتناع عن طاعة الذين اتبعوا الهوى، ثم أمر الله عز وجل نبيه الكريم بأن يجاهد الكفار والمنافقين بالقرآن وليس بالغزو والهجوم والحرب، انما يكون قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفاعاً عن التنزيل وعن المسلمين.
ولابد في دراسة التأريخ من استنباط المسائل التي تتعلق بالمستقبل وسنخية حياة الأفراد والعوائل والشعوب والأمم بما فيه النفع العام للناس، وأسباب جلب المصلحة ودفع المفسدة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فلابد أن يعمل الناس مجتمعين ومتفرقين على تحسين الأحوال العامة ، وتهذيب السلوك ، وتنمية الأخلاق الحميدة، قال تعالى[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ]( ) .
ولقد أصبح العالم كالقرية الصغيرة ، ولابد من إصلاح مناهج التعليم بما تتنزه معه الأجيال اللاحقة من ثقافة العنف وإملاء الرأي على الغير ، ومن خصائص التداخل الحضاري ووسائل الأعلام التي تجمع بين المشرق والمغرب بمرآة واحدة التسليم بوجود المخالف في القول والفعل وأن هذا الخلاف ليس فيه ضرر عام .
وتتجه العناية اليوم وغداً في تعليم الناشئة حب لغة الحوار ، وترك العنف حتى في الألعاب البلاستيكية ، ومن الأولى وجود قواسم إنسانية حميدة في مناهج التعليم بالتعايش السلمي ، والقيم الأخلاقية المشتركة بين الملل والكتب السماوية إذ تلتقي في نبذ الظلم ، وتمنع من خطاب الكراهية ، ويقع على عاتق مدوني القوانين ومعدي المناهج والتربويين دفع مقدمات الإرهاب والتطرف والعنف حتى على نحو القضية الشخصية ، لقد حارب الإسلام ومن سنيه الأولى وأد البنات والثأر والقتل العشوائي .
ومن الإعجاز الغيري لآيات القرآن تنزيه المجتمعات من هذه الخصال المذمومة ، فتأتي الآية القرآنية بخصوص حرمة الوأد بصيغة الخبر ، وبما يتعلق بعالم الآخرة بقوله تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ) لتحظى المرأة في الإسلام ومن حين ولادتها بالإكرام، ويزول الوأد إلى الأبد، ثم أن موضوعه والمقتضي القبلي وأسباب السبي والنهب انتفت في الإسلام .
وهل إنقطاع الوأد من إنتفاء المعلول لإنتفاء علته ، الجواب إنه أعم إذ جاء القرآن بحرمته ، فعلى فرض وجود سلب ونهب ، فان المسلمين يمتنعون عن الوأد ، وهذا الإمتناع من مقدمات ملكة كراهية القتل وسفك الدماء ، ولما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء أجابهم الله عز وجل بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ومن علم الله عز وجل مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحجة والبرهان ، ودعوته الناس إلى الهدى والإيمان بالحق والبينة ، لتأكيد قانون في مناهج النبوة وهو أن النبي لا يحتاج ولا يطلب الغزو والنهب ، وأن الله عز وجل هو الذي يهدي الناس إلى الإيمان.
وعن (شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة تحدّث: أن رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك.
قالت: قلتُ: يا رسول الله، وإن القلب ليقلَّب؟.
قال: نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا وقلبه بين إصبعين من أصابعه، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدَانا، ونسأله أن يهبَ لنا من لدنه رحمةً إنه هو الوهاب.
قالت: قلتُ: يا رسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: بلى؛ قولي: اللهم ربّ النبي محمدٍ، اغفر لي ذنبي، وأذهب غَيظَ قلبي، وأجرني من مُضِلات الفتن) ( ).
ولابد من العناية بتلقي الناشئة للعلوم والمفاهيم المناهضة للإرهاب بدرجة الرضا ، وكمال القبول مما يلزم التعاون والتعاضد بين المؤسسات ، ومنها علم التفسير والتأويل ، وكشف حقائق التأريخ بتنزيه التنزيل والسنة عن العنف والغلظة والشدة بلحاظ تلك الأزمنة ، وما هو سائد في النظام القبلي من الثأر والتشفي بالبطش .
فنزل القرآن وكل آية منه تدعو إلى الرحمة والرأفة ، وتمنع من الشدة والبطش والضرر ، ليكون من وجوه تقدير قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وجوه :
الأول : وما أرسلناك في كل آية من القرآن إلا رحمة للعالمين .
الثاني : وما أرسلناك في سنتك إلا رحمة للعالمين .
الثالث : وما أرسلناك في خروجك في الكتائب إلا رحمة للعالمين .
الرابع : وما أرسلناك في محاربة الوثنية وعبادة الأصنام إلا رحمة للعالمين.
الخامس : وما أرسلناك إلا بالعفو والصفح إلا رحمة للعالمين .
السادس : وما أرسلناك إلا لإرادة الرحمة للعالمين .
السابع : وما أرسلناك إلا لنبذ الإرهاب والقتل العشوائي رحمة للعالمين.
ويدل قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) في مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة على أن القصاص من الجاني سواء في الجرح أو القتل هو لبعث واستدامة الحياة ، لأن الذي يخشى من القود والقصاص يتجنب قتل الغير ، ويمتلك جوارحه في ساعة الغضب ، ويمتنع من استحواذ النفس الغضبية عليها.
ويدل في مفهومه أيضاً على أن الإسلام لم يأت بالإعدام والقتل على كثير من الجنايات لحصر القتل بالقصاص .
وقد يقال بورود الأمر في القرآن بالقتل في غير القصاص ، وهو قوله تعالى [إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ] ( ) .
والجواب قد ذكرت الآية إجتماع أفعال قبيحة تتضمن الشرك والظلم والتعدي والقتل ، وهي :
الأول : محاربة الله عز وجل .
الثاني : محاربة الرسول بما هو رسول جاء بالمعجزات من عند الله عز وجل ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ] ( ) .
الثالث : السعي بالفساد في الأرض ، وإخافة السبيل( )، وقطع الطريق .
ومن الإعجاز في الآية ورود التخيير فيها، ومن وجوه الحكم خيار النفي في الأرض ، وفي الآية وجوه :
الأول : إرادة التخيير ، وحمل الآية على معنى الإستقلال من غير تقدير محذوف .
الثاني : ورود محذوف ، وقيد مقدر ومنه : إذا قاموا بالقتل يقتلون قصاصاً.
وإذا قطعوا الطريق وأخافوا السبيل ولم يسلبوا المال ولم يقتلوا أحدا فانهم ينفون من الأرض .
الثالث : الكافر الذي يقوم بالقتل يقتل قصاصاً .
وفي أسباب نزول الآية ورد عن أنس قال (نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة. قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابُوا الفرجَ الحرام.
قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سَرَق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته، ورجلَه بإخافته. ومن قتل فاقتله. ومن قتل وأخاف السبيل واستحلَّ الفرج الحرام، فاصلبه) ( ).
والحديث ضعيف السند بابن لهيعة ، إذ أنه خلط بعد احتراق كتبه ، ولا يحتج بروايته.
ويحتمل المراد من النفي في الآية وجوه :
الأول : النفي هو الابعاد من البلد .
الثاني : المراد من النفي في الآية هو السجن لأن السجون ينتقل من سعة الدنيا إلى ضيق السجن ، ويصير المسجون كأنه منفي من الأرض وأستدل عليه بقول بعض المسجونين
(خَرَجْنَا من الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنَ اهْلِها … فَلَسْنَا من الأمواتِ فيها ولاَ الأحْيَا
إذا جاءنَا السَّجَّان يَوْماً لِحَاجَة … عَجِبْنَا وقلنا جَاءَ هذا من الدُّنْيَا) ( ).
ولا دليل عليه إنما المراد من النفي هو الإخراج من بعد الجناية إلى بلد آخر يكون فيها ذات الشخص غريباً عاجزاً عن التأثير والأثر بالباطل وفيه فرصة له للتوبة والإنابة .
ولم يكن في أيام النبوة سجن ، ولم يسجن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحداً اسبوعاً أو شهراً أو سنة ، وهو من مصاديق الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن أبغض الأمور في الحياة هو السجن، ويدخل فيه الأذى على المسجون ووالديه وأولاده وعصبته وغيرهم.
(حكى مكحول أن عمر بن لخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون، وقال أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم) ( ).
وقد جاء القرآن بالنفي وليس بالسجن لبيان زوال الشر بهذا النفي ، وفيه من المنافع ما لا يعلمها إلا الله ، وقد ذكر القرآن أن السجن انما يبعث النفرة في النفوس منه ، كما قصة سجن النبي يوسف عليه السلام ، مع سمو مرتبة النبوة وبراءته ، وعدم جواز سجنه حتى في شرع القوم الظالمين .
وهل ذكر الله عز وجل لسجن يوسف النبي يبعث النفرة من الحكم بالحبس وعدم التعجل فيه الجواب نعم، وحتى صاحبي يوسف فان احدهما خرج من السجن وتولى خدمة الملك وصار سبباً لخروج يوسف من السجن وهل في خروج النبي يوسف عليه السلام من السجن بمعجزة حسية منها عالم الرؤيا دعوة الى إيلاء عناية خاصة بالعفو الخاص والعام في المناسبات العامة وغيرها، ووضع قوانين وقواعد تساهم في محو وحذف شطر من أيام السجن , والإنتفاع من تجارب العالم في هذا المقام , الجواب نعم.
لقد جاءت آية البحث بالتخفيف عن المسلمين بقوله تعالى[الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ]( )، لبيان الحسن الذاتي للتخفيف مع أن المسلمين يفوزون بالمدد من عند الله , والثواب العظيم في حال التخفيف أو عدمه، وفيه دعوة للمسلمين وغيرهم بالتخفيف عن الناس والتسهيل والتيسير حتى في المعاملات ، و( عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رحم الله عبدا سمحا إذا باع ، سمحا إذا اشترى ، سمحا إذا اقتضى ، سمحا إذا قضى( ).
وجاء هذا الجزء من تفسيرنا للقرآن وهو الواحد والسبعون بعد المائة في قراءة لبضعة آيات من القرآن تكون السنة النبوية مرآة لها في الدفاع ودفع القتال ، وفي إجتناب الهجوم والغزو ، وبيان أن المشركين هم الذين كانوا يقومون بالهجوم والغزو .
ليكون منهاجاً في علم التفسير , وشاهداً على تجلي مصاديق الرحمة العامة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وكشفا للحقائق , فمع تفشي القتل والسبي في زمان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فانه جاء بمنع القتل وأسبابه .
ويتقاتل الناس آنذاك لسنوات على أمور بسيطة كما في حرب البسوس ، التي استمرت نحو أربعين سنة بسبب رمي كليب بن ربيعة وهو من ملوك العرب ناقة البسوس بنت منقذ التميمية لأنه لم يرض أن ترعى مع إبله واسم الناقة سراب، وقيل أنها لرجل من جرم كان قد نزل على البسوس.
وامتنع القتال بين القبائل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتسود مفاهيم الأخوة الإيمانية بينهم .
وأهل مكة عشيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومحل بعثته ورفعته عز لهم , ولكن أغلبهم اختاروا محاربته ولاية للشيطان , وحبا لاتباع الهوى , قال تعالى[فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]( ).
حرر في 7/5/2018
20 شعبان 1439
الآية الثالثة عشرة
قوله تعالى[إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الرؤيا والأحلام رياضاً رحبة يقتطف ثمارها الناس جميعاً البر والفاجر ، ولا يختص الإنتفاع من الرؤيا بصاحبها، فقد ينتفع منها غيره متحداً أو متعدداً , وجاء القرآن ليبين قانوناً وهو إنتفاع الأمم من الرؤيا الواحدة وحسن تأويلها ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن وسلامته من التحريف.
كما ورد في قصة يوسف في التنزيل[وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ]( )، وهل كان تأويل يوسف لرؤيا الملك من الوحي أم اجتهاداً منه، المختار هو الأول .
ولا بد من دلالات عظيمة في رؤية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجيش المشركين قليلاً، ومنه السلامة العامة للمسلمين من الفشل والجبن والحذر من الخصومة والخلاف.
وهو من مصاديق أن الدنيا دار الرحمة إذ يأتي الفضل الإلهي إلى الناس حتى وهم نيام فينير لهم طريق الرشاد عند حال اليقظة ، وهو من أسرار نعمة النوم والحاجة إليها.
وقد يرى الإنسان رؤيا في وقت قد نام فيه خلاف عادته سواء كانت رؤيا بشارة أو إنذار ، فيقول لو لم أنم في هذه الساعة لما رأيت هذه الرؤيا ، والصحيح أن الله عز وجل قد شاء أن يريها العبد في تلك الساعة ، وهو القادر على أن ينعم عليه بأن يراها في أي ساعة ينام فيها ، كما يشمل قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) عالم الرؤيا من جهات :
الأولى : محو رؤيا الإنذار ، فقد يكون في علم الله أن يرى هذا العبد رؤيا إنذار تفزعه أو تحذره ، ولكن الله عز وجل يمحو عنه هذه الرؤيا وموضوعها بالدعاء والصدقة والعمل الصالح.
الثانية : محو مصداق رؤيا الإنذار بأن تنذر الرؤيا بوقوع أمر وحدوث ضرر ، ويأتي أوانه وتتحقق مقدماته ، ولكن الله عز وجل يمحو هذا المصداق ، وهو من أعظم وأبهى مسائل الرؤيا ففيه حث للناس للدعاء لمحو مصداق رؤيا الإنذار ، والتصدق لصرفها.
فعندما يرى الإنسان رؤيا إنذار مثل موت أحد الأقارب أو حدوث غرق ، أو تلف مال أو مصيبة أخرى عليه ألا ينتظر وقوعها ، إنما يجب أن يبادر إلى الدعاء والمسألة لمحوها ، والتصدق لدفعها , وعدم تحقق أمرها فيحين أوانها ولا تقع المصيبة بفضل من الله ، لتكون رؤيا الإنذار ذاتها دعوة لعدم نزول المصيبة والبلاء .
وهل يختص هذا المحو لمصداق رؤيا الإنذار بالمؤمنين أم أنه عام يشمل الناس جميعاً .
المختار هو الثاني ، فكل إنسان يرى رؤيا إنذار عليه أن يدعو الله ويسأله محوها عسى أن يتفضل الله بالإستجابة، ليكون من معاني ومنافع الرؤيا تقريب الناس من مقامات العبادة والإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
لقد جعل الله الرؤيا حبلاً محدوداً بينه وبين روح العبد وهو من أسرار قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) وكان بعض رجالات الأمم السالفة من يعتقد بأن مستقبل كل إنسان وما سيلاقيه في حياته يتجلى في أحلامه ، وإذا علم كيف يفسرها فانه ينتفع منها ، وفيه اقرار بعالم الغيب، وهو من عمومات قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( )، فتأتي الرؤيا للإنسان ليتدبر في خلقه، وضعفه، وحاجته المستديمة إلى رحمة الله.
وليس من حضارة سادت في الأرض إلا وأولت الرؤيا عناية خاصة ، سواء الحضارات الشرقية القديمة أو الحضارة اليونانية والرومانية .
وكان الملوك والسلاطين يحذرون على عرشوهم وسلطانهم فيتدبرون بما يرون من أحلام، والخشية من الأشخاص .
وكان السومريون قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد يظنون أن الروح أو شطر منها تخرج من الجسد لتزور أماكن وأشخاص ، وأن ملكاً يحمل الأرواح تنقلها.
وكان جلجامش يتوسل إلى الآلهة ليرى رؤيا عن مستقبله وكذا المصريون القدامى بنوا للرؤيا معابد خاصة ، وجعلوا فيها أسرة للأحلام ومنهم من فسر الرؤيا بالضد ، فالمال رمز الفقر والفاقة ، والموت إشارة إلى الحياة ، ورؤيا المصيبة شاهد على الفرح ، وكذا العكس .
وجاء القرآن ليمنع من الأوهام في باب الأحلام ، ويدعو الناس إلى عبادة الله ، وإلى الإقرار بأنه تعالى هو الخالق والرازق والمهيمن ، وأن الرؤيا للبشارة والإنذار ، وما يمحوه الله عز وجل من البلاء وضروب القدر لا يعلمه إلا هو سبحانه.
وفي قوله تعالى [لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( )، ورد عن عبادة بن الصامت أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها ، (قال : الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن ، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوّة ، فمن رآى ذلك فليخبر بها وادّاً ، ومن رآى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان ليحزنه ، فلينفث عن يساره ثلاثاً وليسكت ولا يخبر بها أحداً) ( ).
وتتصف رؤيا الأنبياء بأنها شعبة من الوحي لسلامة أرواح الأنبياء من الأخلاط ونزغ الشيطان , وهل كل رؤيا للأنبياء وحي أم هناك رؤيا شخصية ليس من الوحي.
المختار هو الثاني إذ يميز النبي ساعة رؤياه وبعدها بأن هذه الرؤيا من الوحي أو لا ، وقد ورد في إبراهيم وابنه في التنزيل [قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ] ( ) وفيها تسليم من إبراهيم وإسماعيل بأن هذه الرؤيا من الوحي .
فهي مدرسة في الإحتجاج والبرهان لذا وردت آية البحث بقوله تعالى [إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ] ( ) لبيان أن هذه الرؤيا من الله عز وجل .
والمنام مصدر والمراد منه النوم , كما يشمل أوان ومكان النوم ، والمراد في الآية هو الأول.
لقد رأى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المنام أن جيش المشركين في معركة بدر قليل ، فقام باخبار المهاجرين والأنصار الذين معه بها، فاطمأنت نفوسهم ، ودفع الله عز وجل عنهم الخوف والوجل من اللقاء ، ولم يهابوا المشركين ، ولم يستحضروا الأخبار التي تحكي عن كثرة جيشهم وشدة بأسهم وكثرة أسلحتهم وخيلهم ، لتكون هذه الرؤيا من أسباب المدد والعون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأن المشركين هم الذين إختاروا القتال ، ولم يرض رؤساؤهم بالصلح وإجتناب القتال .
ومن السنة النبوية أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يسأل أصحابه في الصباح وبعد صلاة الفجر هل رآى منكم أحد رؤيا ، فاذا أخبره أحدهم برؤيا رآها استمع لها وأوّلها ، واستبشروا بما فيها من البشارة ، وسأل الله عز وجل صرف ما فيها من رموز الإنذار لتنمية ملكة العناية بالرؤيا الصالحة عند المسلمين ، وكيفية تقريب مصداق البشارة ، ودفع الإنذار ، لتأتي رؤيا النبي التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية فيصغي لها المسلمون ويستبشرون بها ، وتكون مقدمة لقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
ولم يعلم المشركون أن الله عز وجل سخّر الرؤيا لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، لتكون هذه الرؤيا من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ) ولتفتح الباب أمام علم الرؤيا في الإسلام( ) بما يكون خيراً محضاً ونفعاً دائماً ، وخالياً من الأوهام ، ومانعاً من العبث والتسويف والإستهزاء بالرؤيا ، والتي تجري فيها وقائع متعددة في دقيقة أو دقائق معدودة في النوم ، ولا تختص الرؤيا والإنتفاع منها بالمؤمنين بل هي نعمة ورحمة لأهل الأرض وإلى يوم القيامة .
وعن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال (إن الاحلام لم تكن في ما مضى في أول الخلق، وإنما حدثت، فقيل : وما العلة في ذلك ؟
فقال: إن الله عز ذكره بعث رسولا إلى أهل زمانه فدعاهم إلى عبادة الله وطاعته فقالوا: إن فعلنا ذلك فما لنا ؟ ما أنت بأكثرنا مالا ولا بأعزنا عشيرة، فقال: إن أطعتموني أدخلكم الله الجنة، وإن عصيتموني أدخلكم الله النار، فقالوا: وما الجنة والنار ؟
فوصف لهم ذلك، فقالوا: متى نصير إلى ذلك ؟ فقال: إذا متم.
فقالوا: لقد رأينا أمواتنا صاروا عظاما ورفاتا، فازدادوا له تكذيبا وبه استخفافا، فأحدث الله عز وجل فيهم الاحلام فأتوه فأخبروه بما رأوا وما أنكروا من ذلك .
فقال: إن الله عز ذكره أراد أن يحتج عليكم بهذا، هكذا تكون أرواحكم إذا متم وإن بليت أبدانكم تصير الارواح إلى عقاب حتى تبعث الابدان) ( ).
وقد وردت رؤى في القرآن , أربعة منها في يوسف عليه السلام ، رؤيا وتعبيراً ، وواحدة لإبراهيم وقد تقدم ذكرها ومنها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويحتمل أوان رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجيش المشركين في المنام قليل عددهم وجوهاً :
الأول : أنه قبل الوصول إلى ميدان معركة بدر .
الثاني : في عشية ليلة معركة بدر .
الثالث : صباح يوم بدر وهو السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة وقبل أن يبدأ القتال .
وتواترت الأخبار بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينم ليلة معركة بدر إنما كان قائماً (يُصَلّي إلَى جِذْعِ شَجَرَةٍ هُنَاكَ( ).
عن عبدالله بن ثعلبة بن صعير، أن أبا جهل حين التقى القوم قال: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما
لا نعرف فأحنه الغداة.
فكان هو المستفتح على نفسه( ).
فبينما هم على تلك الحال، وقد شجّع الله المسلمين على لقاء عدوهم وقللهم في أعينهم حتى طمعوا فيهم، خفق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خفقة في العريش ثم انتبه فقال: ” أبشر يا أبا بكر هذا جبريل معتجر بعمامته آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع، أتاك نصر الله وعدته) ( ).
لقد ألقى الله عز وجل النوم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليريه من آيات الوحي قلة عدد المشركين .
وعن الحسن البصري أن الرؤية في الآية عياناً وليس رؤيا منام أما قوله تعالى [مَنَامِكَ] ( ) أي في عينيك التي هي محل النوم( ) .
ولكن الكلام العربي يحمل على ظاهره لأصالة الظاهر، إلا مع القرينة الصارفة.
والمراد من المنام رؤيا الأحلام ، وفيه نكتة وهي تلقي المسلمين رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كوحي من عند الله ، وأنه لو دار الأمر بين رؤيتهم عياناً لكثرة جيش المشركين وبين إخبار النبي لهم عن قلته لأخذوا بإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستبشروا بقلة عدد أفراد جيش العدو ، بالإضافة إلى أن الله عز وجل تفضل وقلل عدد المشركين في أعين المسلمين ، قال تعالى [وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ]( ) فهذه القلة عياناً وليس رؤيا لتكون مصداقاً واقعياً لرؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبياناً لموافقة الواقع لرؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وبينما تزأر جيوش ورواحل المشركين وتسمع جعجعة سلاحهم ، فان المسلمين مشغولون وبغبطة برؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن قلة عدد المشركين .
وهو أمر لم يحدث في التأريخ إلا في معركة بدر ومعارك الإسلام الأولى، وهو من مصاديق فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
فيرى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا يخبر بها المسلمين ، فيتجه الرجحان في المعركة إلى كفتهم ، وفيه دعوة للمسلمين للعناية بالرؤيا التي يراها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتخاذها نبراساً ومنهاجاً لأنها من عند الله عز وجل ، وفي التنزيل [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
وفي انشغال المسلمين برؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وسعادتهم بها إمتناع عن الغزو وإجتناب له ، فهذه الرؤيا أنس وعضد للمسلمين ، وباعث على الرحمة بالناس ، ولم يخطر على بال أحد أن تكون الرؤيا من وجوه البراهين في الدعوة إلى الله , والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فقد كان جيش المشركين كثيراً إذ أنه يبلغ ألف رجل ، ولا يستقل موضوع الكثرة بذات العدد ، إنما يكون بالمقارنة مع قلة عدد المسلمين ،إذ كان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، بالإضافة إلى التباين في الرواحل ، فمثلاً كان عدد جيش المشركين مائتي فرس ، وليس مع المسلمين إلا فرس واحدة ، مع موضوعية وأثر الفرس في الكر والفر ، فتفضل الله عز وجل وأنزل من السماء الماء والمطر ليصبح المشركون عاجزين عن الإنتفاع من خيلهم.
وهل هذا المطر من مصاديق الطهور في قوله تعالى [وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا] ( ) الجواب نعم ، فقد كان عوناً للمسلمين وطهوراً للقلوب ، وتزكية للمؤمنين ودعوة للناس للتوبة والإنابة ، وهو مقدمة لنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , وتقدير آية [ببدر ] على وجوه :
الأول : ولقد نصركم الله ببدر برؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : ولقد نصركم الله ببدر بتقليل عدد المشركين في أعينكم , ليكون هذا التقليل من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الثالث : ولقد نصركم الله ببدر ببشارات قرآنية وأخرى على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : ولقد نصركم الله ببدر بدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : ولقد نصركم الله ببدر بنزول الماء من السماء ليلة المعركة .
السادس : ولقد نصركم الله ببدر بالكاف والنون .
السابع : ولقد نصركم الله ببدر بمعجزة وآية من عنده لتدعوا الناس إلى الإيمان بالحكمة والموعظة .
لقد جاءت آية البحث خطاباً خاصاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان أن هذه الرؤيا من مصاديق الوحي من جهات :
الأولى : رؤيا قلة عدد المشركين في معركة بدر بفضل من عند الله عز وجل .
الثانية : هذه الرؤيا جزء من الوحي .
الثالثة : بيان عظيم قدرة الله عز وجل ، وأنه وحده له السلطان والقدرة على النفوس ، سواء النفوس المتعالية والطاهرة أو عامة النفوس، قال تعالى[اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( )، والمراد من التوفي في الآية أعلاه المنام.
ويرتقي العلم في هذه الأزمنة بسرعة فائقة تبهر حتى أهل الزمان مع أن هذا الإرتقاء تدريجي ، فلا يستطيع العلماء اليوم أو غداً التحكم برؤيا الإنسان ، وإختيار الموضوع الذي يراه في المنام .
أو أنه يطلب رؤيا في موضوع مخصوص واستقراء المستقبل عن طريق الرؤيا ، ولا عبرة بما يحدث به المرء نفسه أو يكرر عليه الكلام فيه فتأتيه الرؤيا ، ومثل هذا الأمر مذكور في أقسام الرؤيا , أو إعلان صناعة بعض الأجهزة بهذا الخصوص .
لقد جعل الله عز وجل الرؤيا الصادقة حبلاً ممدوداً بينه سبحانه وبين روح العبد ، وهو من الشواهد على خلافة الإنسان في الأرض بتقريب وهو عدم انقطاع صلة الإنسان بملكوت السموات وعلم الغيب ، فتأتيه الرؤيا ليتعاهد سنن الخلافة ويجتنب الفساد والقتل ، ولتكون الرؤيا من مصاديق احتجاج الله عز وجل على الملائكة حين [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) من جهات :
الأولى : الرؤيا سبيل هداية ومانع عن المعصية ومقدماتها، وهل تختص هداية الرؤيا بصاحبها ، الجواب لا ، إذ ينتفع منها السامع والقارئ لها .
وتأتي الرؤيا للأم فينتفع منها الابن ، وتأتي للزوجة فيتعظ منها الزوج وكذا العكس ، ويرى الأب رؤيا إنذار مثلاً فيحذر أبناءه ذكوراً وأناثاً .
الثانية : الرؤيا مناسبة للدعاء وسؤال المغفرة من عند الله عز وجل .
الثالثة : الرؤيا زاجر عن فعل الفاحشة ، وعن الفساد سواء التي فيها الإنذار والتخويف أو التي تتضمن البشارة والأمل .
الرابعة : عالم الرؤيا حجة على المشركين , ويفيد نهيهم عن محاربة الإسلام .
إذ يتضمن قوله تعالى [إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً]( ) التبكيت للذين كفروا ، وفيه خيبة لهم ، فقد كانوا يرجون خشية وخوف المسلمين من كثرة عددهم ، وإذ أنعم الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم برؤيا أخبر بها أصحابه فتلقوها بالتسليم ، كما في آية البحث إذ أيقنوا بأن عدد جيش الذين كفروا قليل ، مع أنه قريب منهم وكثرته ظاهرة ، لبيان أنه لو دار الأمر بين تصديق رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وبين تصديق أعينهم إذا كان بينهما تباين فأنهم يصدقون برؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد جعل الله الحياة الدنيا دار إمتحان واختبار، وتارة يكون الإنسان في راحة من الإمتحان وأخرى يفاجئه ويأتيه فجأة ودفعة ، أو على نحو التدريج سواء بالإبتلاء بالموضوع أو الحكم من جهات :
الأولى : الإبتلاء الخاص المنفرد المتحد .
الثانية : الموضوع المنفرد المتعدد .
الثالثة : الموضوع المتعدد .
الرابعة : الإبتلاء العام .
الخامسة : الأثر والعاقبة .
وتفضل الله عز وجل ورزق الإنسان من العقل لإجتناب مقدمات الإبتلاء ، ولصرف ما يأتي من أسباب خارجة عن إرادة الإنسان ، وتفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء، وأنزل الكتاب السماوية لهداية الناس، وللجوء إليه لصرف البلاء وأثره .
ثم أنعم على الناس بأداء الصلوات والصيام والمناسك الأخرى ، ومن الآيات أن كل أهل ملة من أتباع الأنبياء يؤدون صلاة خاصة لله عز وجل، وقد فرض الله عز وجل على المسلمين خمس صلوات في اليوم بمقدمة عبادية ، وهي الوضوء والطهور فلا تصح الصلاة إلا به ، ليكون طهارة من الذنوب وواقية من البلاء ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ]( ).
وجاءت الكتب السماوية بالهداية إلى سبل دفع الإبتلاء، وتضمنت آية البحث دفعه وصرفه برؤيا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم تفضل الله بتوثيق هذه الرؤيا في القرآن ليتجدد الإنتفاع العام منها وإلى يوم القيامة.
ولا يختص الإنذار برؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فعالم الرؤيا واسع ، ومنه رؤية الكافر في المنام رؤيا تنذره وهو من مصاديق[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ…]( )، شخصياً أو تنذره وقومه ويقّيض الله عز وجل الأسباب لإشاعتها ونشرها .
لمنع الإقتتال وسفك الدماء بين الناس ، فمن حب الله لعباده ورحمته لهم دفع مقدمات القتال عنهم ، ولا يعلم ما صرف من القتال وأسباب الإبادة الجماعية العامة بالنبوة والتنزيل إلا لله عز وجل.
ويمكن إنشاء قانون وهو حفظ الجنس الإنساني بالنبوة والتنزيل).
وقد دأب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على إجتناب القتال ، وعلى عدم الإبتداء به إذا أصر الذين كفروا على اللقاء وتناجوا بالباطل، وشهروا السيوف وبان لمعانها أجابهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنداء (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)( ).
ولم يقل لهم وقولوا أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكون كلمة التوحيد هي البرزخ دون القتال، وعن سعيد بن المسيب قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كسرى ، وقيصر ، والنجاشي أما بعد : فتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون فلما أتى كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر فقرأه قال: إن هذا الكتاب لم أره بعد سليمان بن داود ( بسم الله الرحمن الرحيم ( ) .
وحينما رآى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا قلة عدد المشركين، قال الكلبي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر وأخبره الله بسير المشركين أراه المشركين في منامه قليلا فقال رسول الله أبشروا فإن الله أراني المشركين في منامي قليلا( )، أي حتى لو كان عددهم كثيراً فانهم كالقلة من جهة القدرة على القتال .
وحينما التقى الجيشان صبيحة يوم بدر رآى المسلمون قلة عدد المشركين إذ قللهم الله في أعينهم فقالوا : صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رؤياه ، وأيقنوا أن هذه الرؤيا حق وهي نعمة عليهم وبشارة تسبق اللقاء والقتال ، ومع أن المسلمين رأوا قلة عدد المشركين فانهم لم يهجموا عليه ، ولم يلّحوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال ، ولم يقوموا برميهم بالنبال ، إنما صبروا ، وكانوا يتبعون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في التطلع إلى صرف القتال مع توالي البشارات بنصرهم وهزيمة المشركين .
وفيه دعوة للمسلمين بعدم السعي للقتال ، وعدم البدء به حتى وأن كانت كفتهم هي الراجحة ، وهو الذي تحقق واقعاً في كل معارك الإسلام.
ومن وجوه تقدير الجمع بين آية البحث وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإمتناع عن البدء بالقتال دعوة المسلمين وإجتناب القتال حتى في حال قلة وضعف العدد لأن الآيات والبراهين كافية ، وقال تعالى [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] ( ).
ولم تنحصر البشارات برؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ففي ليلة معركة بدر أنزل الله عز وجل المطر ليغتسل المسلمون ويملأوا القرب ، وتكون الأرض ملائمة لقتال الرجال.
وعن الإمام علي عليه السلام قال بخصوص ليلة بدر قال (أصابنا من من الليل طش من المطر، يعنى الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني قائما يصلي، وحرض على القتال.
وعن حارثة بن مضرب، عن علي عليه السلام، قال : ما كان فينا فارس يوم بدر إلا المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح)( ).
ترى لماذا تفضل الله عز وجل برؤية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المنام قلة عدد جيش الذين كفروا ، الجواب من وجوه:
الأول : اللطف والتخفيف من عند الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثاني : بيان مصداق لسلاح رؤيا الأنبياء ، وبعث الخوف في قلوب الذين كفروا منه .
الثالث : إرادة فضل الله عز وجل بالوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اليقظة والمنام .
الرابع : بيان سمو مرتبة المهاجرين والأنصار بالتصديق والتسليم برؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنها حق وصدق .
الخامس : صيرورة الرؤيا بشارة للنصر ، وإتخاذها حرزاً .
السادس : تأكيد عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى في المنام.
السابع : امتناع المسلمين عن البطش والقتل العشوائي والغزو والمباغتة والنهب لأن جيش المشركين في نظرهم قليل ، أي لإنتفاء المقتضي، ووجود المانع وهو لباس التقوى الذي يتحلى به المسلمون حتى في موضوع القتال، قال تعالى[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ).
ومن الإعجاز في المقام أنه حينما نشبت معركة بدر كان جيش المشركين كالقليل بالنسبة للمسلمين من جهات :
الأولى : مصرع رجالات من رؤساء قريش الذين تقدموا للمبارزة وهم:
الأول : عتبة بن ربيعة .
الثاني : شيبة بن ربيعة .
الثالث : الوليد بن عتبة ، إذ قتلوا جميعاً في المبارزة مع الإمام علي عليه السلام وحمزة بن عبد المطلب ، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب .
لقد صار جيش المشركين بين قتيل وأسير ومنهزم ، وهو أصدق معاني القلة والنقص ، ليكون من معاني رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة جيش المشركين قلة على نحو الحقيقة في نتائج المعركة وآثارها .
وتحتمل رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقلة عدد المشركين من جهة السعة والتضييق وجوهاً :
الأول : إختصاص موضوع الرؤيا بمعركة بدر .
الثاني : المقصود نتيجة معركة بدر .
الثالث : إرادة التصور الذهني لقلة عدد المشركين في كل معركة من معارك الإسلام .
الرابع : بيان قانون وهو قلة عدد المشركين من جهة الأثر والتأثير والقتال في الميدان ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، بتقريب وهو أن زحف وهجوم الذين كفروا من المكر الخبيث وأن رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقلتهم من مكر الله الذي ينفع العباد جميعاً وهذه الريا من أسباب ثبات المسلمين في منازل الإيمان وتحليهم بالصبر في الميدان، ومن عمومات قوله تعالى[وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً]( ).
وكلها من مصاديق آية البحث .
وقد زحف المشركون في السنة الخامسة للهجرة بعشرة آلاف رجل ، وأحاطوا بالمدينة وأصاب الخوف الذين نافقوا وأرجفوا في المدينة ، ولكن المؤمنين صبروا وسلموا بقضاء الله، وأظهروا حسن التوكل عليه سبحانه ، قال تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا] ( ) .
لقد ذكرت آية البحث أمرين :
الأول : رؤية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المنام قلة عدد جيش المشركين .
الثاني : عدم رؤية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجيش المشركين كثيراً ، ولم تذكر الآية مسألتين :
الأولى : عدم رؤية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لرؤيا تبين ماهية وعدة جيش المشركين .
الثانية : رؤية جيش المشركين بعدده الواقعي , وهم نحو الف رجل .
أما المسألة الأولى فان هذه الرؤيا نعمة عظيمة على البدريين وعموم المسلمين إلى يوم القيامة ، وتفضل الله عز وجل وجعلها موضوعاً لآية قرآنية ، وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف والتبديل والتغيير ، لتبقى الوقائع التأريخية ثروة وكنزاً وإرثاً لعموم المسلمين والناس .
ولقد أكرم الله عز وجل نبيه بنزول الملائكة، ورؤية الناس لهم في الواقع قال ابن عباس: فبينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في اثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد حطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط , فأخضر ذلك أجمع .
فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين ( ).
وأما المسألة الثانية فان رؤية جيش المشركين بعددهم في الواقع من الكثير الذي حجبه الله عز وجل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فيكون تقدير قوله تعالى [إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ) على وجوه :
الأول : لو أراكهم عددهم الفعلي. ( )
الثاني : لو أراكهم وهم يستبسلون في القتال ، ويبذلون الوسع في الإغارة على المسلمين .
الثالث : لو أراكهم وهم يركبون مائتي فرس، جاءوا بها ويغيرون على جيش المسلمين .
الرابع : لو أراكهم وهم يشهرون السيوف , ويتناجون بالإغارة على المدينة .
الخامس : لو أراكهم ضعف عددهم أي كأنهم الفان .
ومن الإعجاز في الآية أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يخبر المسلمين برؤياه حتى لو كانت تتضمن أسباب الفرقة والخلاف عند المسلمين ، وتقدير الآية : لو أراكهم كثيراً فلابد أن تخبر أصحابك بها فلفشلتم ولتنازعتم في الأمر .
لبيان قانون وهو أن النبي لا يخفي رؤيا الوحي انما يقوم بالإخبار عنها سواء كانت رؤيا بشارة وإنذار , قال تعالى[الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا]( )، وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا تتضمن الإنذار قبل الخروج الى معركة أحد وأخبر بها أصحابه.
مفهوم الموافقة في الآية
وفيه مسائل :
الأولى : بيان قانون وهو نصرة الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بسلاح الرؤيا ، وهذا السلاح على وجوه :
الأول : رؤيا الوحي ، وهي خاصة بالأنبياء .
الثاني : رؤيا البشارة .
الثالث : رؤيا الإنذار .
الرابع : رؤيا امضاء الفعل .
الخامس : رؤيا الهداية إلى فعل مخصوص .
السادس : رؤيا الزجر عن فعل مخصوص سواء بالنسبة للرائي أو غيره.
السابع : الرؤيا الصادقة مطلقاً، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً ، ورؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ، والرؤيا ثلاث .
فالرؤيا الصالحة بشرى من الله ، والرؤيا مما تحزن الشيطان ، والرؤيا مما يحدث بها الرجل نفسه ، وإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم وليتفل ولا يحدث به الناس ، وأحب القيد في النوم وأكره الغل ، القيد ثبات في الدين( ).
الثامن : رؤيا إصلاح النفس والرشاد إلى التوبة والإنابة .
ورؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آية البحث من الوحي ، وتتضمن البشارة للمسلمين ، والإنذار للذين كفروا ، وعندما جاء رسول أبي سفيان إلى جيش المشركين , وهم في الجحفة في الطريق إلى معركة بدر يخبرهم عن سلامة القافلة، ويدعوهم للرجوع لإنتفاء سبب الخروج والسير نحو بدر أو المدينة وأصرّ أبو جهل وبعض رجالات قريش على عدم الرجوع ، فأشار الأخنس بن شريق على الجيش بالرجوع ولكنهم لم ينصتوا له حينئذ توجه إلى بني زهرة على نحو الخصوص ، وكان حليفاً لهم فقال لهم (يا بنى زهرة قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جبنها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة، لا ما يقول هذا.
قال: فرجعوا فلم يشهدها زهري واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعا) ( ).
وشكروا له حسن رأيه وحصافته ، وصيرورته سبباً لسلامتهم في يوم بدر مما لحق جيش المشركين من أمور :
الأول : القتل .
الثاني : الأسر .
الثالث : خسارة الرواحل والمؤن .
الرابع : الذل والخزي الذي لحق جيش المشركين .
كما طاف عتبة بن ربيعة وغيره صبيحة يوم بدر على جيش المشركين لحثهم على الإمتناع عن القتال ، ولكنهم أصروا عليه بعناد، وفي التنزيل[بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ]( ).
وكانت رؤيا النبي بقلة عددهم أشد على الذين كفروا من جهة الأثر والتأثير ، إذ اجتمعت القرائن والأسباب لهزيمة الذين كفروا .
الثانية : موضوعية الرؤيا في السيرة النبوية وهداية المسلمين لما هو الأحسن والأصلح لبيان قانون وهو (الرؤيا سلاح للنبوة)وتجلى في رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكيفية أوضح وأظهر ، وهو من مصاديق تفضيله على الأنبياء السابقين ، فقلد جاءت الرؤيا عوناً ومقدمة روحانية للنصر في معارك الدفاع عن الإسلام، ولتبقى مدرسة ينهل منها المسلمون المواعظ في كل زمان.
الثالثة : تفضل الله على المسلمين بالرؤيا لبعث السكينة والطمأنينة في نفوسهم ، وعصمتها من دبيب الخوف والفزع من المشركين ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ] ( ) ولا يعلم أحد أن رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبب لبعث السكينة في نفوس المسلمين .
وتحتمل السكينة المترشحة عن رؤيا النبي وجوهاً :
الأول : السكينة في ذات نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وورد في إبراهيم عليه السلام [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي]( ).
ولقد جاءت الطمأنينة لإبراهيم بدعائه وسؤاله الله عز وجل في مسألة ذات فعل وبرزخ خارجي ، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاءته السكينة بفضل من الله ورؤيا مباركة ولينتفع منها أصحابه .
الثاني : بعث السكينة في نفوس الصحابة الذين خرجوا إلى معركة بدر ، وهل كانوا محتاجين لها ، الجواب نعم .
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً ، ومن ضروب الحاجة السكينة لأنها كيفية نفسانية لطيفة ، وضابطة حميدة للسلوك , وبرزخ دون الخوف والغضب والتهور ونحوها من أطراف الإفراط والتفريط .
الثالث: نزول السكينة على عموم المهاجرين والأنصار والصحابيات في المدينة ، فان تقليل عدد جيش المشركين في رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وفي أعين الصحابة نوع أمان لأهل المدينة بعجز المشركين عن استباحتها .
وتجلى هذا العجز بواقعة أحد ثم الخندق ، فلم يتمكن المشركون من إختراق الخندق ثم في صلح الحديبية والذي يدل على ضعف ووهن كفار قريش ، وعزوف القبائل عن نصرتهم .
الرابع : تبعث رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السكينة في قلوب المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة عند تلاوة آية البحث ، وعند استحضار وقائع معركة بدر ، وفي باب التفسير والتأويل بلحاظ أن هذه الرؤيا وحي ، وتم توثيقها في آيات القرآن وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
الرابعة : دعوة المسلمين للتطلع إلى فضل الله عز وجل من وجوه:
الأول : التنزيل .
الثاني : الوحي .
وبين الوحي والتنزيل عموم وخصوص مطلق إذ أن الوحي أعم.
الثالث : الواقع العملي .
الرابع : التصور الذهني وحال التفكر والتدبر .
الخامس : عالم الرؤيا الصادقة .
الخامسة : لزوم العناية بالرؤيا التي يراها المؤمن والإنتفاع منها، صحيح أنها ليست مثل رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي هي جزء وشعبة من الوحي إلا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أوصى بالعناية برؤيا المؤمن .
وعن عبادة بن الصامت : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية [لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
فقال: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ من أمتي قبلك! هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة.
وعن أم كرز الكعبية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت النبوّة وبقيت المبشّرات( ).
السادسة : دعوة المسلمين لسؤال الله عز وجل الرؤيا الصادقة والبشارة والإنذار في المنام بما يكون سبيل نجاة، وهذا السؤال من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
السابعة : يدل قوله تعالى[إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً]( )، على أمور:
الأول : رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شعبة من الوحي.
الثاني : رؤيا المنام.
الثالث : صدق الرؤيا لأنها من عند الله.
الرابع : صيرورة عدد المشركين قليلاً في المنام.
الخامس : دعوة المسلمين باجيالهم المتعاقبة للتصديق برؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وهل فيه وعد من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، الجواب نعم، فقد جعل الله عز وجل عدد المشركين قليلاً في أعين البدريين من الصحابة وصار سير القتال ووقائع المعركة بلحاظ قاعدة قلة عدد جيش المشركين.
الثامنة : بيان مسألة وهي عناية الناس بالمشاهدة والمحسوس وأثره في موازين القوى، والحالة النفسية، ولأن المسلمين آمنوا بالله ورسوله رزقهم الله عز وجل من الرؤيا والمشاهدات ما يكون عوناً لهم في الدفاع ، فمن الآيات في المقام أن معركة بدر والتقاء الجمعين لم يمكن بطلب ووعيد وسعي من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، إنما كانوا في حال دفاع، وهذا الدفاع نوع ضرورة وإضطرار.
التاسعة : بيان مائز وراجح للمسلمين في القتال وهو تهيئة أسباب إقدام المسلمين في الدفاع ودرء شرور العدو، لأن الله عز وجل أراد أن تستديم عبادته في الأرض، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )،
وتتجلى العبادة بالفرائض , وبحفظ خاتم الأنبياء وأصحابه، ليتوالى نزول القرآن ومن الآيات في المقام نزول القرآن على نحو التدريج والتوالي وهو من البشارات العملية بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ من القتل.
العاشرة : تفضل الله عز وجل على المسلمين بنعمة السلامة من الفشل والخزي والتنازع، وفي قوله تعالى[وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ]( )، ورد عن ابن عباس: سلم الله أمرهم حين أظهرهم على عدوهم( ).
الحادية عشرة : من معاني (ولكن الله سلم) منع الله عز وجل المشركين من الاستبسال في القتال، أو الثبات في الميدان والمناجاة بالصبر، فقد ولوا منهزمين في الساعات الأولى من المعركة.
ومن معانيه أيضاً الحيلولة دون إرادة الذين كفروا الثأر العاجل، فقد بعث الله عز وجل الخوف والفزع في قلوبهم، والإرباك في صفوفهم، فطال استعدادهم لمعركة أحد سنة كاملة، تعطلت فيها تجارتهم , وأنفقوا الأموال الطائلة كمقدمة ومستلزمات للمعركة، وشاع في القبائل حال الذل والخزي التي صارت إليه قريش.
الثانية عشرة : من معاني إبتداء الآية بقوله تعالى[إذ] بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لتذكر هذه النعمة، وإستحضارها في حال الحرب والسلم، وبيان موضوعيتها في نصر المسلمين في المعركة، ومن إعانة المسلمين في المقام تفضل الله بجعل تلاوة آية البحث واجبة في صلاة المسلمين فان قلت ما عدا قراءة سورة الفاتحة التي تقرأ في كل صلاة فان المسلم بالخيار في قراءة أي سورة وآيات من القرآن وهذه الآية من سورة الأنفال .
والجواب نعم هذه صحيح ، فهي في معرض التلاوة الواجبة كل يوم وإن قرأها المسلم في الشهر أو السنة أو العمر مرة , قال تعالى[فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ]( ).
ومن أسماء القرآن الذكرى ، قال تعالى [قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] ( ) وقد تفضل الله عز وجل وأنزل عدة آيات يتعلق موضوعها بمعركة بدر وأخرى بمعركة أحد ، وأخرى بمعركة الخندق ، وهناك آيات جامعة للذكرى بخصوص معارك الإسلام .
وكيف أنها دفاع محض ، وضرورة سلامة الدين والنفوس ودرء عدوان الذين كفروا ، وهذ الدفاع بأمر ومدد من عند الله ليصبح طريقاً للتوبة والإنابة ، إذ كانت الآيات تترى تهدي الناس إلى التوحيد ، وتبين خيبة وخسارة الذين يحاربون النبوة ، وتكون الذكرى في آية البحث من وجوه :
الأول : التذكير بواقعة بدر، وأن عدد جيش المشركين كان أضعاف عدد جيش المسلمين .
الثاني : مجئ المدد والعون من الله بتقليل عدد جيش المشركين برؤيا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فتلقاها المسلمون بالقبول والرضا .
الثالث : بيان قدرة الله عز وجل على إراءة النبي , وأي انسان الرؤيا التي يريد الله عز وجل , ومن مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]( ).
ولابد أن الرؤيا التي تأتي من عند الله عز وجل ذات منافع خاصة وعامة ، وفيه دلالة على أن رؤية الإنسان للأحلام في المنام حكمة ولطف من عند الله ، ولا يقدر عليه إلا هو سبحانه ، يخاطب بها العقل أثناء سباته .
والعقل جسم لطيف مدرك للجزئيات والكليات وهو آلة العلم ، جعله الله عز وجل مادة التمييز بين الأشياء ، وهو وسيلة التدبر والتفكر في خلق الله ، والقائد للجوارح والأركان نحو سبل النجاة في النشأتين.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أن الله عز وجل لما خلق العقل قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، فقال تعالى: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أكرم علي منك، بك اثيب وبك اعاقب، وبك آخذ وبك اعطي( ).
وهل تساهم الرؤيا في تنمية العقل ، وتصلحه للفصل , وحسن التمييز بين الأشياء ، الجواب نعم ، لبيان قانون وهو أن الله عز وجل لم يترك الإنسان وشأنه بعد أن خلقه وأوجده ، إنما يمده بأسباب الهداية والصلاح حتى في المنام، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ولبيان قانون، وهو اتصاف الخلافة من عند الله عز وجل بخصائص عظيمة تعجز عنها الخلائق مجتمعة.
ولا يختص هذا المدد بأهل الإيمان ، إذ يشمل الناس جميعاً البر والفاجر ، لتكون الرؤيا من رحمة الله عز وجل بالناس في الدنيا ، ونوع طريق لدرك الحقيقة ، وهي استشراق للمغيبات في مستقبل الإنسان .
وهل تحضر الرؤيا يوم القيامة كحجة وبرهان على الإنسان ، بحيث يقول الله عز وجل للإنسان ألم تر رؤيا الإنذار الفلانية فكيف تخالفها ، وتعمل المعصية .
والجواب أن القدر المتيقن بيان فضل الله عز وجل على الإنسان، وكشف الحقائق بما يجعل الكافر في ندامة وحسرة حتى في الآخرة , قال تعالى[فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( ).
نعم رؤيا الأنبياء حجة لأنها من الوحي لذا تفضل الله عز وجل وذكرها في القرآن .
وهل يحتاج الإنسان الرؤيا أم يستطيع الناس الحياة بغبطة ورضا وسعادة من غير الرؤيا ، الجواب هو الأول ، فصحيح أن إنتفاع الناس من الرؤيا من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، ولكن لهذا الإنتفاع موضوعية في استدامة الإيمان ، وتقريب الناس من منازل الطاعة لله ورسوله ، ولا نقصد بهذا الرؤيا أضغاث الأحلام التي هي كالوهم ، إذ يدرك الإنسان إنتفاء المصداق الواقعي لها ، وان كانت هذه الرؤيا لا تخلوا من منافع في بدن وصحة الإنسان وتصحيح وسلامة نواياه وتأتي الرؤيا للفقير والمحتاج والذي في ضنك وعسر، وضيق، أو في غبطة وسعادة، وفي التنزيل[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
ليكون من مصاديق العقل عند الإنسان التمييز بين الرؤيا الصادقة وأضغاث الأحلام ، وقد تأتي رؤيا لشخص ، ولكن الذي ينتفع منها غيره سواء كان هذا الغير هو موضوع الرؤيا أم لا .
فقد يرى الإنسان رؤيا فتروى لغيره فينتفع منها ، ومن أعظم منافع الرؤيا هو الدعاء ، فان كانت رؤيا بشارة فيسأل الإنسان الله سبحانه تثبيتها وتنجزها ، وإن كانت رؤيا إنذار فيسأل الله عز وجل محوها ، مع استحباب التصدق في الحالتين للتسليم بأن الرؤيا نعمة .
واذا كانت المصداق الواقعي لرؤيا الناس قابلة للمحو، فهل رؤيا الأنبياء تتحمل المحو أيضاً ، الجواب لا ، إذا كانت هذا الرؤيا من الوحي ، لذا جاء مصداق رؤيا النبي التي ذكرتها آية البحث حقاً ومصداقاً بآية قرآنية تتعلق بعالم الواقع والعلم ضرورة، والذي لا يستلزم واسطة للإستدلال وأستحضار الحجة بأن قلّل الله عز وجل عدد جيش المشركين في عيون المسلمين بقوله تعالى [وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ] ( ) .
لتثبيت قانون وهو أن رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحي من عند الله ، تجلى مصداقها كمعجزة بالمحسوس المخالف للواقع العملي .
وتقليل جيش المشركين في عيون المسلمين ليس خداعاً بصرياً إنما هو حقيقة بأن ينظر المسلمون لجيش المشركين وكأنهم قليلوا العدد لا يمثلون خطراً وضرراً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المؤمنين ، وهذا التقليل من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ) .
(ويقال إن حابس بن سعد الطائي هو الذي ولاه عمر بن الخطاب ناحية من نواحي الشام فرآى في المنام كأن الشمس والقمر يقتتلان، ومع كل واحد منهما كواكب فقال له عمر مع أيهما كنت قال مع القمر قال : لا تلي لي عملاً أبداً إذ كنت مع الآية الممحوة فقتل وهو مع معاوية بصفين.
وأما أهل العلم بالخبر فقالوا إن عمر دعا حابس بن سعد الطائي فقال إني أريد أن أوليك قضاء حمص فكيف أنت صانع قال أجتهد رأيي وأشاور جلسائي فقال انطلق فلم يمض إلا يسيراً حتى رجع فقال يا أمير المؤمنين إني رأيت رؤيا أحببت أن أقصها عليك قال هاتها قال رأيت كأن الشمس أقبلت من المشرق ومعها جمع عظيم وكأن القمر أقبل من المغرب ومعه جمع عظيم فقال له عمر مع أيهما كنت .
قال: مع القمر فقال كنت مع الآية الممحوة لا والله لا تعمل لي عملاً أبداً ورده فشهد صفين مع معاوية وكانت راية طيىء معه فقتل يومئذ وهو ختن عدي بن حاتم الطائي وخال ابنه زيد بن عدي وقتل زيد قاتله غدراً فأقسم أبوه عدي ليدفعنه إلى أوليائه فهرب إلى معاوية وخبره بتمامه مشهور عند أهل الأخبار) ( ).
تبين الآية قانوناً في الأخوة الإيمانية بين المسلمين وهي سلامتهم من الفشل والجبن والخصومة والتنازع حتى في أشد وأشق الأحوال عند ملاقاة جيش الذين كفروا .
ليكون من قياس الأولوية عدم الفشل والخصومة في حال السلم والحضر.
لقد حجب الله عز وجل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرؤيا التي تؤدي إلى الجبن والفشل ، وهي رؤيا زيادة وكثرة عدد جيش المشركين مما يدل على أن رؤيا قلتهم سبب لتجلي خصال الشجاعة والصبر والثبات عند المسلمين ، وتقدير الآية.
إذ يريكهم الله في منامك قليلاً كيلا تفشلوا وتجبنوا ) ولم يرد لفظ [لَفَشِلْتُمْ]في القرآن إلا في آية البحث ، كما ورد لفظ [فَشِلْتُمْ] في قصة معركة أحد بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ] ( ) .
فقد صرف الله عز وجل الفشل والجبن عن المسلمين في معركة بدر التي وقعت في السنة الثانية للهجرة .
أما في معركة أحد التي وقعت بعدها بثلاثة عشر شهراً فقد ورد ذكر طرو وقوع الفشل عند المسلمين ، ولكن باختيارهم وترك الرماة مواضعهم التي جعلهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيها ، قال تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ] ( ) .
إذا كانت الريح والغلبة للمسلمين في بداية المعركة ، ولكن مال الرماة المسلمين إلى الغنيمة عندما رأوا تقدم جيش المسلمين ، وظنوا تحقق النصر ، ومن الآيات أن هذا الفشل لم يحدث في معركة الإسلام الأولى بدر ، والتي تحقق فيها النصر للمسلمين فقويت شوكتهم وزاد إيمانهم ، وصار الفشل اللاحق أثناء معركة أحد أمراً عرضياً سرعان ما زال بذاته وأثره ، إذ اجتمع الصحابة حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان ، ورجع الذين فروا وانهزموا من المعركة ما عدا أفراد بعدد أصابع اليد ولا عبرة بالقليل النادر .
وهل لهذا الرجوع موضوعية في إختيار جيش المشركين الإنسحاب من المعركة في ذات اليوم الذي بدأت به ، الجواب نعم ، وهذا الرجوع واقية من الغزو واستئصال له ، فمن آيات الله في منعة المسلمين أن دفاعهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الملة والنفوس والأعراض طريق مبارك لتنزيه الأرض من الغزو والتعدي .
ومن الإعجاز في نظم آيات القرآن مجئ آية البحث عن رؤيا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتتعلق بحال مخصوص في معركة بدر بخلاف الواقع ، ثم جاءت الآية التالية لها بحصول ذات مصداق الرؤيا في الحاسة البصرية لعموم الصحابة بقوله تعالى [إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً] ( ) .
ومن الإعجاز أن قوله تعالى [وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ] تخفيف عن المسلمين , ومن أن الله عز وجل سلّم للمسلمين أمرهم حتى نصرهم على عدوهم ، ولم يأت قوله تعالى أعلاه بعد ذكر قلة عدد الأعداء في أبصار المسلمين ، إنما ورد بعد رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من الإعجاز في بركة وأثر هذه الرؤيا لأنها وحي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) أي أن رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق هذه الرحمة .
فحالما ذكر الله عز وجل رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءت البشارة بسلامة المسلمين لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أصحابه عنها ، وتلقوها بالتصديق ، فرزقهم الله عز وجل الرؤية البصرية لما رآه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المنام .
ليكون تصديق الواقع العام وعالم البصر لرؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق النصر في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ].
وقد أختتمت آية البحث بقوله تعالى[إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] لبيان قانون وهو صحيح أن المسلمين لم يفشلوا ويختلفوا لأن الله عز وجل وقاهم الجبن والشقاق، ولكن الله عز وجل يعلم ما يحدث لو أرى نبيه كثرة عدد المشركين في المنام فكيف اذا كانت هذه الرؤية بصرية من قبل المسلمين.
مفهوم المخالفة في الآية
وفيه مسائل :
الأولى : بيان المائز بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعامة الناس بأن الله عز وجل يري نبيه الكريم رؤيا مباركة تكون نوع طريق للنصر ، ويذكرها الله في القرآن لتبقى ضياءً للمؤمنين إلى يوم القيامة ، وهذه الرؤيا هي الوحيدة في القرآن من بين روى الأنبياء التي تخبر عن كون الله عز وجل هو الذي أرى نبيه الرؤيا فمثلاً ورد في إبراهيم في التنزيل [قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ] ( ).
وورد في يوسف عليه السلام قال [يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ] ( ) أما بالنسبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد أخبر القرآن بأن الله عز وجل هو الذي أراه الرؤيا كما ورد أيضاً في قوله تعالى [وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ] ( ) .
(عن سهل بن سعد قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القردة ، فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكاً حتى مات ، وأنزل الله [وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ]( ).
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة ، وأنزل الله في ذلك { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة }( ) يعني الحكم وولده) ( ).
الثانية : إن الله عز وجل على كل شئ قدير ، وهو القادر على أن يجعل عدد جيش الذين كفروا قليلاً في أصل زحفهم وهجومهم من مكة إلى المدينة ، بأن يجعل شطراً من الجيش يقعدون عن الخروج ، ولكنه سبحانه أقام الحجة عليهم في خروجهم ، وجعل معركة بدر موعظة للأجيال من وجوه :
الأول : أسباب الخروج، وعدم وجود سبب وجيه لها من جهة هجوم المشركين.
الثاني : أعداد الجيوش المشاركة في المعركة وأنتمائها البلدي والقبلي ، وقد فاز المسلمون بأن جيشهم لم يتألف بلحاظ القبيلة والبلدة إنما يتألف من المهاجرين والأنصار , وهم يحيطون بخاتم النبيين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالث : تقدم رؤيا النبي على بدء المعركة لتكون حرزاً للمسلمين ، فسواء أصر الذين كفروا على القتال ، وطلبوا المبارزة أو إنسحبوا من الميدان قبل نشوبها فأنهم قلة عند الله ورسوله، وفي أعين المسلمين .
وهل يبقون قلة في أعين أجيال الناس ، أم أن رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة بأوان المعركة ، إذ تبين فيما بعد حقيقة أن عددهم نحو ألف وهم ثلاثة أضعاف عدد جيش المسلمين .
المختار هو الثاني ، ليتجلى المدد والعون من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ساعة المعركة ، فاذا تجددت حالة اللقاء ، فقد ينعم الله عز وجل على المسلمين بتقليل عدد جيش المشركين , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
الرابع : بداية القتال بالتحدي والإصرار من قبل جيش المشركين على المبارزة والقتال ، وهلاك المشركين الثلاثة الذين أصروا على المبارزة مع أنهم من أشجع فرسان قريش .
فمن عادة الجيوش أن يتقدم الأبطال والفرسان للمبارزة لشحذ الهمم وبعث الخوف والفزع في قلوب العدو ، ولم يعلم كفار قريش أن الله عز وجل قد حصنّ قلوب المؤمنين من الخوف منهم ، قال تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) .
الخامس : دعوة المسلمين والناس للتدبر في وقائع معركة بدر ونتائجها ، وكيف أنها رحمة من عند الله للمسلمين ، ترى ماذا لو لم ير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا قلة عدد جيش المشركين .
الجواب لقد أخبر الله عز وجل عن هذه الرؤيا للدلالة على أنها نعمة وفضل وحكمة بالغة من عند الله ، وفي التنزيل [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ).
ولا أحد من الناس يكون في حسابه واعتقاده أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يرى رؤيا عشية معركة بدر بقلة عدد المشركين ، لتكون مقدمة وسبباً لثبات المؤمنين في منازل القتال , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وهل هي من عالم التصور الذهني أم أنها من الواقع المطابق ، الجواب أنها برزخ بين الأمرين ومسألة خاصة بأن الله عز وجل جعل الكثير قليلاً [لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً] ( ).
الثالثة : من إعجاز نظم آيات القرآن مجئ الرؤيا البصرية العامة في الآية التالية ومطابقة لرؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قلة عدد المشركين لمنع الفرقة والخلاف بخصوص رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يأتي من يقول صحيح أنها صادقة ، ولكنها مثل رؤى عامة الناس لأن القدر المتيقن من الوحي هو ما جاء به الملك .
فجاءت آية البحث لتخبر عن كون الرؤيا النبوية من مصاديق الوحي ، وتدل عليه وجوه :
الأول : إختصاص الرؤيا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : حفظ وإكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى في منامه .
الثالث : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وسوسة الشيطان حتى في المنام .
الرابع : عموم موضوع رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المذكورة في الآية ، فمن إعجاز الآية الإنتقال في لغة الخطاب من صيغة المفرد واختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بها بقوله تعالى [إِذْ يُرِيكَهُمْ]إلى عموم البدريين من المهاجرين والأنصار لقوله تعالى [لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ].
لبيان الإتحاد الموضوعي بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهة ملاقاة القوم المشركين في ميدان المعركة ، وهل يكون الخطاب في الآية أعلاه للبدريين بعرض واحد أم أن بعضهم يفشل ويجبن ، وبعضهم يتنازع مع غيره ، ولكن الصبغة العامة عدم تحقق الفشل لعدم الإلتفات للفرد القليل ، أو لأن الذي يفشل ويجبن ويتخاصم يعود إلى التسليم بمضامين الآية .
الجواب هو الأول ، إذ تنفي الآية الجبن والفشل والتنازع عن المسلمين في معركة بدر , قال تعالى[وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]( )، وهو الذي تؤكده السنة النبوية والأخبار المتواترة .
وهل قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قبل معركة بدر ببضعة شهور من أثر نفي الفشل والجبن من المسلمين فيها .
الجواب نعم ، فمن خصائص هذه المؤاخاة أمور :
الأول : تلقي المسلمين لما يقوله الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق .
الثاني : تسليم المسلمين بقانون من الإرادة التكوينية وهو أن رؤيا النبي كنبي من الوحي .
وقيد كنبي أعلاه يخرج الرؤيا الشخصية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما ليس من الوحي .
ومن الإعجاز في آية البحث نسبة رؤيا النبي في المقام إلى الله عز وجل وأنه هو الذي أراها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد يأتي الوحي بصبغة الإلهام كما في قوله تعالى[وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ]( )، وقوله تعالى[وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ]( ) .
ويأتي الوحي بالإلهام الغريزي للحيوان كما في قوله تعالى[وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ]( )، كما جاء الوحي بين الناس في القرآن بمعنيين متضادين :
الأول : ايحاء وإيماء زكريا لقومه كما في قوله تعالى[فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا]( ).
الثاني : إغواء الشياطين وأهل السوء بعضهم لبعض , قال تعالى[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا]( ).
وقد أكرم الله عز وجل الأنبياء بالوحي وبرؤية الملائكة , وشرّف النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بمجئ الرؤيا مدداَ وعوناً له وللمسلمين.
وفي يوم القيامة وعرصات الحساب هل تحضر رؤى الإنسان معه ، لتكون حجة عليه أم أنها تحضر كذكرى ليندم على تفريطه وعدم انتفاعه منها ، ولتكون من عمومات قوله تعالى [قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ]( ).
المختار هو حضور الرؤيا التي رزقها الله لكل بلد كبشارة أو إنذار لبيان عظيم رحمة الله بكل إنسان ، ولكنها لا تكون سبباً وموضوعاً للحساب والجزاء ، لأن الإنسان يحاسب على قوله وفعله وقد تقدم الكلام فيه، قال تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ) نعم وتحضر منافع الرؤيا والأعمال التي قام بها الإنسان بسبب الرؤيا سواء بالفعل أو الترك بلحاظ أن هذا الترك أمر وجودي لأنه عن قصد .
ولو رآى الإنسان رؤيا تخص غيره وأخبره بما فيه النفع والصلاح ، فهل فيه ثواب له.
الجواب نعم بقيد الإيمان ، وأن لم يعلم بها الذي تخصه لأن هذا الإخبار من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو مناسبة للدعاء للذات والغير بظهر الغيب.
ولما أخبر الله عز وجل الملائكة على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) احتجوا على قيام فريق من الناس بالإفساد في الأرض ، وسريان القتل وسفك الدماء بينهم ، فتفضل الله عز وجل بالرد عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ومن علم الله عز وجل في المقام أمور :
الأول : بعث الأنبياء والرسل .
الثاني : نزول الكتب السماوية على الأنبياء .
الثالث : بقاء القرآن سالماً من التحريف والتبديل والتغيير والنقص والزيادة إلى يوم القيامة , وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
الرابع: تفضل الله بالرؤيا الصادقة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورتها بلغة للنصر على الأعداء .
الخامس : إستئصال الغزو بدعوة الأنبياء إلى الله ، فصحيح أن الكفار حاربوا النبوة والتنزيل ، ولكن الله أخزاهم ، ومن جنوده سبحانه الرؤيا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن قتادة في قوله [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، قال: من كثرتهم( ).
وعن الأوزاعي قال : قال موسى عليه السلام : يا ربّ من معك في السماء؟
قال : ملائكتي،
قال : كم عددهم؟
قال : إثنا عشر سبطاً،
قال : كم عدة كل سبط؟
قال : عدد التراب( ).
وفي قوله تعالى [إِذْ يُرِيكَهُمْ] أطراف :
الأول : فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في هذه الرؤيا النبوية .
الثاني : رؤية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المنام لقلة عدد المشركين .
الثالث : موضوع الرؤيا وهم المشركون في الجهة الثانية من بدر ، وهل رآهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باشخاصهم ، فرآى مثلاً أبا جهل وأمية بن خلف ، وعتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وغيرهم أم رآهم بالعدد وعلى نحو الإجمال .
الجواب هو الثاني لقيد الكثرة والقلة في الآية الكريمة .
ويعود الضمير (هم) في [يُرِيكَهُمْ] إلى جيش المشركين في معركة بدر .
وهل رآى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رؤياه خيل المشركين، وإذا رآها فهل رآى المائتين التي جاءوا بها ، أم رآى خيلاً قليلة ، وقد يقال بتعلق القدر المتيقن بعدد المشركين وحده دون ذكر خيلهم واسلحتهم .
والمختار أن القلة في الرؤيا سور الموجبة الكلية الشامل لأفراد المشركين وخيلهم وإبلهم وأسلحتهم ومؤنهم ، وتلقى المسلمون الرؤية بالتصديق مما يدل على أنهم لا يطمعون بالغنائم إنما يريدون سلامة دينهم وإقامة الصلاة ، قال تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى] ( ).
الرابع : إنتفاع المسلمين من رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذا انتقلت الآية من الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الخطاب للمسلمين، بقوله تعالى[إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ ق كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ]( )، أي يا محمد لو أن الله عز وجل أراك عدد جيش المشركين كثيراً لفشلتم، وجبنتم أيها المسلمون.
الخامس : العلة الغائية من رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر، وأفرادها من اللامتناهي، وهي متجددة الى يوم القيامة.
قانون معجزة الرؤيا
لقد تفضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين برؤيا من الوحي لتثبيت أقدامهم وزيادة إيمانهم والعصمة من الخوف والفزع من جيش الذين كفروا ، وليقوم المسلمون في كل زمان بالشكر لله عز وجل على هذه الرؤيا التي هي من مفاتيح النصر في معركة بدر والذي غيّر مجرى التأريخ وأثبت قانوناً وهو حضور المعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول الملائكة لنصرته .
وجاءت آية البحث بقانون آخر في باب المعجزة ، وهو الرؤيا النبوية من جهات:
الأولى : أوان الرؤيا .
الثانية : قانون رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله .
الثالثة : قانون موضوع وتفاصيل الرؤيا النبوية .
الرابعة : قانون تلقي المسلمين رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق .
الخامسة : قانون المصداق الواقعي لرؤيا النبي .
السادسة : قانون أثر ومنافع رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا تؤخذ رؤيا النبي بذاتها فقط إنما تستقرأ منها المسائل والمنافع العظيمة ، وهو من أسرار تضمن القرآن لرؤيا إبراهيم ويوسف عليهما السلام , ومنها قوله تعالى [إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ] ( ).
وهل يختص موضوع رؤيا الأنبياء بهما ، الجواب لا ، إنما وردت رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورؤيا إبراهيم عليه السلام، ورؤى يوسف عليه السلام لبيان منزلة الرؤيا في منهاج النبوة ، وعمل الأنبياء والمؤمنين بها ، وقد انتفع أجيال المسلمين الإنتفاع الأمثل من الرؤيا التي ذكرها الله في القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) بأن صارت مواريث الأنبياء عندهم ، وأدركوا قانوناً وهو أن الله عز وجل جعل الرؤيا سلاحاً عند النبي ، ومن الأنبياء من كان وحيه رؤيا حق يراها ، ولا ينزل عليه كتاب من السماء ، ولا يكلمه الملك قبلاً أو من وراء حجاب ، فكانت الرؤيا هي الوحي الذي أكرمه الله به، ونال به مرتبة النبوة.
وتكون الرؤيا مقدمة للتنزيل , ومنها رؤيا يحيى , وخشيته من الله ومن أهوال يوم القيامة، وسياحته وإجتهاده في الورع ، ورد عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كان من زهد يحيى بن زكريا عليه السلام أنه أتى بيت المقدس فنظر إلى المجتهدين من الاحبار والرهبان عليهم مدارع الشعر، و برانس الصوف، وإذا هم قد خرقوا تراقيهم وسلكوا فيها السلاسل وشدوها إلى سواري المسجد، فلما نظر إلى ذلك أتى أمه .
فقال : يا أماه انسجي لي مدرعة من شعر وبرنسا من صوف حتى آتي بيت المقدس فأعبد الله مع الاحبار والرهبان، فقالت له أمه: حتى يأتي نبي الله وأؤامره في ذلك، فلما دخل زكريا عليه السلام أخبرته بمقالة يحيى، فقال له زكريا: يا بني ما يدعوك إلى هذا وإنما أنت صبي صغير؟ فقال له: يا أبه أما رأيت من هو أصغر سنا مني قد ذاق الموت ؟ .
قال: بلى، ثم قال لامه: انسجي له مدرعة من شعر، وبرنسا من صوف، ففعلت فتدرع المدرعة على بدنه، ووضع البرنس على رأسه، ثم أتى بيت المقدس فأقبل يعبد الله عز وجل مع الاحبار حتى أكلت مدرعة الشعر لحمه، فنظر ذات يوم إلى ما قد نحل من جسمه فبكى .
فأوحى الله عزوجل إليه: يا يحيى أتبكي مما قد نحل من جسمك ؟ وعزتي وجلالي لو اطلعت إلى النار اطلاعة لتدرعت مدرعة الحديد فضلا عن المنسوج، فبكى حتى أكلت الدموع لحم خديه، وبدا للناظرين أضراسه فبلغ ذلك أمه فدخلت عليه وأقبل زكريا عليه السلام واجتمع الاحبار والرهبان فأخبروه بذهاب لحم خديه، فقال: ما شعرت بذلك، فقال زكريا عليه السلام: يا بني ما يدعوك إلى هذا ؟ إنما سألت ربي أن يهبك لي لتقر بك عيني .
قال: أنت أمرتني بذلك يا أبه، قال: و متى ذلك يا بني ؟ قال: ألست القائل: إن بين الجنة والنار لعقبة لا يجوزها إلا البكاؤون من خشية الله ؟ قال: بلى، فجد واجتهد وشأنك غير شأني، فقام يحيى فنفض مدرعته فأخذته أمه .
فقالت: أتأذن لي يا بني أن أتخذ لك قطعتي لبود تواريان أضراسك وتنشفان دموعك ؟ فقال لها: شأنك، فاتخذت له قطعتي لبود تواريان أضراسه وتنشفان دموعه حتى ابتلتا من دموع عينيه فحسر عن ذراعيه، ثم أخذهما فعصرهما فتحدر الدموع من بين أصابعه، فنظر زكريا عليه السلام إلى ابنه وإلى دموع عينيه فرفع رأسه إلى السماء .
فقال: اللهم إن هذا ابني وهذه دموع عينيه وأنت أرحم الراحمين. وكان زكريا عليه السلام إذا أراد أن يعظ بني إسرائيل يلتفت يمينا وشمالا فإن رأى يحيى عليه السلام لم يذكر جنة ولا نارا، فجلس ذات يوم يعظ بني إسرائيل وأقبل يحيى قد لف رأسه بعباءة فجلس في غمار الناس والتفت زكريا عليه السلام يمينا وشمالا فلم ير يحيى فأنشأ يقول: حدثني حبيبي جبرئيل عليه السلام عن الله تبارك وتعالى أن في جهنم جبلا يقال له السكران، في أصل ذلك الجبل واد يقال له الغضبان لغضب الرحمن تبارك وتعالى، في ذلك الوادي جب قامته مائة عام، في ذلك الجب توابيت من نار، في تلك التوابيت صناديق من نار، وثياب من نار، وسلاسل من نار، وأغلال من نار .
فرفع يحيى عليه السلام رأسه فقال: واغفلتاه من السكران، ثم أقبل هائما على وجهه، فقام زكريا عليه السلام من مجلسه فدخل على أم يحيى فقال لها: يا أم يحيى قومي فاطلبي يحيى فإني قد تخوفت أن لا نراه إلا وقد ذاق الموت .
فقامت فخرجت في طلبه حتى مرت بفتيان من بني إسرائيل فقالوا لها: يا أم يحيى أين تريدين ؟ قالت: أريد أن أطلب ولدي يحيى، ذكرت النار بين يديه فهام على وجهه، فمضت أم يحيى والفتية معها حتى مرت براعي غنم فقالت له: يا راعي هل رأيت شابا من صفته كذا وكذا ؟ .
فقال لها: لعلك تطلبين يحيى بن زكريا ؟ .
قالت: نعم ذاك ولدي، ذكرت النار بين يديه فهام على وجهه( )، قال: إني تركته الساعة على عقبة ثنية كذا وكذا، ناقعا قدميه في الماء( )، رافعا بصره إلى السماء يقول: وعزتك مولاي لا ذقت بارد الشراب , حتى أنظر إلى منزلتي منك.
فأقبلت أمه فلما رأته أم يحيى دنت منه فأخذت برأسه فوضعته بين ثدييها وهي تناشده بالله أن ينطلق معها إلى المنزل فانطلق معها حتى أتى المنزل .
فقالت له أم يحيى: هل لك أن تخلع مدرعة الشعر وتلبس مدرعة الصوف فإنه ألين؟ ففعل، وطبخ له عدس فأكل واستوفى فنام فذهب به النوم فلم يقم لصلاته .
فنودي في منامه : يا يحيى بن زكريا أردت دارا خيرا من داري وجوارا خيرا من جواري ؟ .
فاستيقظ فقام فقال: يا رب أقلني عثرتي، إلهي فوعزتك لا أستظل بظل سوى بيت المقدس، وقال لامه: ناوليني مدرعة الشعر فقد علمت أنكما ستورداني المهالك ، فتقدمت أمه فدفعت إليه المدرعة و تعلقت به، فقال لها زكريا: يا أم يحيى دعيه فإن ولدي قد كشف له عن قناع قلبه ولن ينتفع بالعيش .
فقام يحيى عليه السلام فلبس مدرعته ووضع البرنس على رأسه، ثم أتى بيت المقدس فجعل يعبد الله عز وجل مع الاحبار حتى كان من أمره ما كان( ).
وورد (عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الرؤيا على ثلاثة : تخويف من الشيطان ليحزن به ابن آدم ، ومنه الأمر يحدث به نفسه في اليقظة فيراه في المنام ، ومنه جزء من ستة وأربعين جزءاً النبوّة) ( ).
ومعنى ست وأربعين هنا ، أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان في بدايات نبوته ، ولمدة ستة أشهر يرى الرؤيا فتأتي كفلق الصبح .
وقد وردت في القرآن رؤيا ملك مصر أيام يوسف عليه السلام وهل هو فرعون زمانه بلحاظ أن لفظ [فرعون] لقب لكل ملوك مصر في الأمم السابقة مثل قيصر ملك الروم وكسرى ملك فارس , الجواب إن ملك يوسف ليس من الفراعنة، إذ ورد قوله تعالى [وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ] ( ). وهل هو من قانون معجزة الرؤيا أم يختص مصداق المعجزة برؤيا الأنبياء ، الجواب هو الأول من جهات :
الأولى : نزول القرآن برؤيا الملك ، إذ صارت آية من القرآن لتكون معجزة عقلية وحسية .
الثانية : رجوع الملك والملأ في تأويل الرؤيا إلى النبي يوسف عليه السلام لبيان حاجة الناس إلى النبوة حتى في عالم الرؤيا .
الثالثة : إنتفاع الناس من رؤيا الملك وتأويل النبي يوسف لها .
وهل يمكن القول لولا تأويل يوسف عليه السلام للرؤيا لهلك الناس في مصر والسودان وما حولهما .
الجواب صحيح أن هذه الرؤيا وتأويلها سبب لإنقاذ الناس ، ولكن سبل الإنقاذ التي يتفضل بها الله عز وجل ليس لها حصر ، فلو لم تكن تلك الرؤيا لرزق الله عز وجل الناس غيرها من الأسباب ، وخرج يوسف عليه السلام من السجن بذات اليوم الذي استدعاه فيه الملك .
الرابعة : نجاة يوسف عليه السلام من السجن بفضل الله بتلك الرؤيا ، إذ أدرك الملك الحاجة إلى يوسف من جهات :
الأولى : تأويل الرؤيا .
الثانية : حفظ عرش الملك .
الثالثة : حسن تدبير شؤون المملكة ، وفي التنزيل وتصريف الأعمال في أيام الخصب والرخاء وأيام الجدب والضراء بحكمة ، [وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ] ( ).
وورد لفظ [الْمَلِكُ] للإنسان في القرآن لملوك الأرض في قصة يوسف وعلى نحو متكرر ، وذات شخص الملك في دعوته ليوسف مرتين الأولى لبيان تأويل الرؤيا كما في الآية أعلاه ، والأخرى لجعله مستشاراً عند الملك ، و[َقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ] ( ).
وطلب يوسف عليه السلام وزارة الأرض والمالية كما ورد في التنزيل [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] ( ).
ليكون من الإعجاز في الرؤيا صيرورتها سبباً لتولي النبي يوسف الوزارة في دولة شرك، ونجاة الناس بها، وهدايتهم الى الإيمان، وقد ذكر أن الملك في أيام يوسف مسلم، ويذكر القرآن ملوك مصر بلفظ فرعون وهو نوع ذم لأنه عنوان الظلم والتجبر والطاغوت، إلا بخصوص الملك أيام يوسف عليه السلام، وفي أواخر القرن التاسع عشر الميلادي تم فك رموز حجر رشيد ومعرفة الكتابة الهيروغلوفية .
وعثر على لوح مكتوب فيه خبر ونبوءة بتعرض مصر لسبع سنوات من الجفاف والجدب، وفيه مصداق لآيات القرآن بهذا الخصوص فتبين أن يوسف عليه السلام كان في أيام الملوك الرعاة الهكسوس الذين تغلبوا على الفراعنة، وبقوا في مصر إلى نحو سنة 1720 قبل الميلاد وقيل أنهم حكموا مصر نحو 430 سنة، وإنسحب الفراعنة الى الصعيد، وجعلوا مدينة طيبة عاصمة لهم وتزوجت نساء الفراعنة بعد حادثة الغرق بقوله تعالى[وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]( )، العمال والعبيد واشترطن عليهم أن لا يعقدوا أمراً إلا باذنهن، كما يذكره المقريزي في كتاب الخطط وفيه خزي إضافي لهم، وعبرة لمن يحارب الأنبياء.
قال تعالى[وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ]( )، قال ابن كثير : أي أهلك ذلك جميعه وسلبهم عزهم العزيز العريض في الدنيا وهلك الملك وحاشيته وأمراؤه وجنوده ولم يبق ببلد مصر سوى العامة والرعايا فذكر ابن عبدالحكم في تاريخ مصر أنه من ذلك الزمان تسلط نساء مصر على رجالها بسبب أن نساء الأمراء والكبراء تزوجن بمن دونهن من العامة فكانت لهن السطوة عليهم واستمرت هذه سنة نساء مصر إلى يومك هذا( ).
ولا دليل على بقاء السطوة للنساء بعد الإسلام عند عموم أهل مصر، فمن خصائص الأديان السماوية بيان وظيفة الزوج والزوجة، وقد انقطعت خصال آل فرعون بانقطاع حكمهم وزوال شأنهم وأثرهم , وجاء الإسلام بمشاورة المرأة , وقد أشارت ابنة شعيب عليه أن يستأجر موسى فأخذ بنصيحتها كما ورد في التنزيل [قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ] ( ) .
آيات الرؤيا
لقد جعل الله عز وجل القرآن[ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومنه عالم الرؤيا والتي تخالط كل إنسان في منامه ويقظته، إذ يرى الرؤيا في المنام ويعتني بها في اليقظة ، وأولاها الأنبياء عناية خاصة ونزلت بها الكتب السماوية لما فيها من الموعظة والعبرة، وهي ضياء ونفع عام وخاص .
ومن إعجاز القرآن مجيؤه بالرؤيا المتعددة من جهات :
الأولى : رؤيا الأنبياء السابقين .
الثانية : رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : رؤيا عامة الناس , ومنه ما ورد في قصة يوسف عليه السلام في القرآن [وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الرابعة : رؤيا الملوك , ولم يكتف القرآن بذكر الرؤيا بل يبين نفعها وتأويلها وأثرها , وفيه ترغيب للناس باستقراء الدروس والمواعظ من الرؤيا ، وآيات الرؤيا وتأويلها في القرآن هي :
الأولى : [إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ]( ).
الثانية : [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ).
الثالثة : [إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ] ( ).
الرابعة : [قَالَ يَابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) .
الخامسة : [وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( )بلحاظ أن الرؤيا وتأويلها من تأويل الأحاديث الذي تذكره الآية أعلاه .
السادسة : [وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
السابعة : [يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ]( ).
الثامنة :[ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ] ( ).
التاسعة : [قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ]( ).
العاشرة : [وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ]( ).
الحادية عشرة : [يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
الثانية عشرة : [قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ]( ).
الثالثة عشرة : [ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ]( ).
الرابعة عشرة : [ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ]( ).
الخامسة عشرة : [وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( ).
السادسة عشرة : [رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ]( ).
السابعة عشرة : [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ]( ).
الثامنة عشرة : [فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ]( ).
التاسعة عشرة : [وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ]( ).
العشرون : [قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ]( ).
الحادية والعشرون : [إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ]( ).
الثانية والعشرون :[ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ] ( ).
الثالثة والعشرون : [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
الرابعة والعشرون : [وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا]( ) .
(عن سهل بن سعد قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القردة ، فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكاً حتى مات ، وأنزل الله { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس }( ) .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عمر – أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة ، وأنزل الله في ذلك { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة } يعني الحكم وولده .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن يعلى بن مرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أريت بني أمية على منابر الأرض ، وسيتملكونكم ، فتجدونهم أرباب سوء واهتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك : فأنزل الله { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } .
وأخرج ابن مردويه ، عن الحسين بن علي عليهما السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصبح وهو مهموم ، فقيل : ما لك يا رسول الله؟ فقال : إني رأيت في المنام كأن بني أمية يتعاورون منبري هذا .
فقيل : يا رسول الله ، لا تهتهم فإنها دنيا تنالهم . فأنزل الله : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } .
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر ، عن سعيد بن المسيب قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني أمية على المنابر فساءه ذلك ، فأوحى الله إليه : إنما هي دنيا أعطوها ، فقرت عينه وهي قوله : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } يعني بلاء للناس .
وأخرج ابن مردويه ، عن عائشة : أنها قالت لمروان بن الحكم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لأبيك وجدك إنكم الشجرة الملعونة في القرآن.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه ، عن ابن عباس في قوله : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك } الآية . قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – أري أنه دخل مكة هو وأصحابه ، وهو يومئذ بالمدينة ، فسار إلى مكة قبل الأجل ، فرده المشركون ، فقال أناس قدْ رُدَّ وكان حدثنا أنه سيدخلها ، فكانت رجعته فتنتهم .
وأخرج ابن اسحق وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال أبو جهل لما ذكر رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم شجرة الزقوم تخويفاً لهم يا معشر قريش ، هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوّفكم بها محمد؟ قالوا : لا . قال : عجوة يثرب بالزبد – والله لئن استمكنا منها لنتزقمها تزقما . فأنزل الله : { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم }( ) وأنزل الله { والشجرة الملعونة في القرآن } الآية .) ( ).
ومن الإعجاز آيات الرؤيا في القرآن , وكل واحدة منها مدرسة عقائدية ومنها آية البحث التي تتفرع عنها المسائل والأحكام إذ أدرك المسلمون قانوناً وهو رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق وسبيل رشاد لهم , وللناس كافة , لأنها من رشحات النبوة .
عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال : صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفجر ذات يوم بغلس وكان يغلس ويسفر ويقول : ما بين هذين وقت لكيلا يختلف المؤمنون فصلّى بنا ذات يوم بغلس .
فلما قضى الصلاة التفت إلينا كأن وجهه ورقة مصحف ، فقال : أفيكم من رأى الليلة شيئاً؟
قلنا : لا يا رسول الله .
قال : لكني رأيت ملكين أتياني الليلة فأخذا بضبعي فانطلقا بي إلى السماء الدنيا .
فمررت بملك وأمامه آدمي وبيده صخرة فيضرب بهامة الآدمي فيقع دماغه جانباً وتقع الصخرة جانباً .
قلت : ما هذا؟
قالا لي : أمضه . فمضيت فإذا أنا بملك وأمامه آدمي وبيد الملك كلوب من حديد فيضعه في شدقه الأيمن فيشقه حتى ينتهي إلى أذنه ثم يأخذ في الأيسر فيلتئم الأيمن .
قلت : ما هذا؟
قالا : أمضه .
فمضيت فإذا أنا بنهر من دم يمور كمور المرجل , فيه قوم عراة على حافة النهر ملائكة بأيديهم مدرتان كلما طلع طالع قذفوه بمدرة فيقع في فيه ويسيل إلى أسفل ذلك النهر .
قلت : ما هذا؟ قالا : أمضه فمضيت فإذا أنا ببيت أسفله أضيق من أعلاه , فيه قوم عراة توقد من تحتهم النار أمسكت على أنفي من نتن ما أجد من ريحهم .
قلت : من هؤلاء؟ .
قالا : أمضه .
فمضيت فإذا أنا بتل أسود عليه قوم مخبلون تنفخ النار في أدبارهم فتخرج من أفواههم ومناخرهم وآذانهم وأعينهم .
قلت : ما هذا؟
قالا : أمضه ، فمضيت فإذا أنا بنار مطبقة موكل بها ملك لا يخرج منها شيء إلا أتبعه حتى يعيده فيها .
قلت : ما هذا؟
قالا لي : أمضه ، فمضيت فإذا أنا بروضة وإذا فيها شيخ جميل لا أجمل منه وإذا حوله الولدان وإذا شجرة ورقها كآذان الفيلة فصعدت ما شاء الله من تلك الشجرة وإذا أنا بمنازل لا أحسن منها من زمردة جوفاء وزبرجدة خضراء وياقوته حمراء .
قلت : ما هذا؟
قالا : أمضه .
فمضيت ، فإذا أنا بنهر عليه جسران من ذهب وفضة على حافتي النهر منازل لا منازل أحسن منها من درة جوفاء وياقوته حمراء وفيه قدحان وأباريق تطرد قلت : ما هذا؟ قالا لي : أنزل فنزلت فضربت بيدي إلى إناء منها فغرفت ثم شربت فإذا أحلى من عسل ، وأشد بياضاً من اللبن وألين من الزبد .
فقالا لي : أما صاحب الصخرة التي رأيت يضرب بها هامته فيقع دماغه جانباً وتقع الصخرة جانباً ، فأولئك الذين كانوا ينامون عن صلاة العشاء الآخرة ويصلون الصلاة لغير مواقيتها يضربون بها حتى يصيروا إلى النار .
وأما صاحب الكلوب الذي رأيت ملكاً موكلاً بيده كلوب( ) من حديد يشق شدقه الأيمن حتى ينتهي إلى أذنه ثم يأخذ في الأيسر فيلتئم الأيمن فأولئك الذين كانوا يمشون بين المؤمنين بالنميمة فيفسدون بينهم فهم يعذبون بها حتى يصيروا إلى النار .
وأما ملائكة بأيديهم مدرتان من النار كلما طلع طالع قذفوه بمدرة فتقع في فيه فينفتل إلى أسفل ذلك النهر فأولئك أكلة الربا يعذبون حتى يصيروا إلى النار .
وأما البيت الذي رأيت أسفله أضيق من أعلاه فيه قوم عراة تتوقد من تحتهم النار أمسكت على أنفك من نتن ما وجدت من ريحهم ، فأولئك الزناة وذلك نتن فروجهم يعذبون حتى يصيروا إلى النار .
وأما التل الأسود الذي رأيت عليه قوماً مخبلين تنفخ النار في أدبارهم فتخرج من أفواههم ومناخرهم وأعينهم وآذانهم فأولئك الذين يعملون عمل قوم لوط الفاعل والمفعول به ، فهم يعذبون حتى يصيروا إلى النار وأما النار المطبقة التي رأيت ملكاً موكلاً بها كلما خرج منها شيء أتبعه حتى يعيده فيها ، فتلك جهنم تفرق بين أهل الجنة وأهل النار ، وأما الروضة التي رأيت فتلك جنة المأوى .
وأما الشيخ الذي رأيت ومن حوله من الولدان فهو إبراهيم وهم بنوه . وأما الشجرة التي رأيت فطلعت إليها فيها منازل لا منازل أحسن منها من زمردة جوفاء وزبرجدة خضراء وياقوته حمراء فتلك منازل أهل عليين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً . وأما النهر فهو نهرك الذي أعطاك الله الكوثر ، وهذه منازلك وأهل بيتك . قال : فنوديت من فوقي يا محمد سل تُعْطه ، فارتعدت فرائصي ورجف فؤادي واضطرب كل عضو مني ولم أستطع أن أجيب شيئاً فأخذ أحد الملكين بيده اليمنى ، فوضعها في يدي والآخر يده اليمنى فوضعها بين كتفي فسكن ذلك مني .
ثم نوديت من فوقي : يا محمد سل تعط . قال : قلت : اللهم إني أسألك أن تثبت شفاعتي وأن تلحق بي أهل بيتي وأن ألقاك ولا ذنب لي قال : ثم ولي بي ونزلت عليه هذه الآية [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا]( ).
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فكما أعطيت هذه كذلك أعطانيها إن شاء الله تعالى( ).
بين رؤيا النبي محمد ص في بدر والتي في أحد
لقد أخبرت آية البحث عن رؤيا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص حال جيش المشركين ، وهل فيها بشارة النصر عليهم ، الجواب نعم ، فيمكن أن تكون هذه الرؤيا من رؤى البشارات ، وإزاحة للإنذار وأسباب التخويف إذ تبين الآية ما لو جعل الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يرى جيش المشركين في الرؤيا كثيراً فان الفشل والجبن والخور يصيب المسلمين ، وتحدث بينهم الخصومة .
وفيه شاهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يخفي رؤياه التي هي شعبة من الوحي عن أصحابه ، ولا يحرفها ولا يبدلها ، وتلك معجزة في منهاج النبوة بأن الرؤيا التي يراها النبي يقوم بالإخبار والتبليغ عنها بما هي ، وإن كان فيها أذى وضرر ، ولكن الله عز وجل هو الذي يتفضل ويمنع من هذا الأذى من الأصل ،ويجعل بدله أسباب الغبطة والسعادة .
وأخبرت الآية عن تحقق رؤيا القلة بصيغة المضارع [يُرِيكَهُمْ] ( ) بينما أخبرت عن منع رؤيا كثرة جنود المشركين بصيغة الماضي [وَلَوْ أَرَاكَهُمْ] ( )لبيان مسائل :
الأولى : لم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا فيها كثرة المشركين سواء في معركة بدر أو غيرها ، وقبل الهجرة أو بعدها .
الثانية : لا يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثرة جيش المشركين في معارك لاحقة .
الثالثة : موضوعية رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تحقيق النصر للمسلمين ، ولم يعلم المشركون بهذا السلاح وأثره إلى أن نزلت هذه الآيات ، وتدبر فيها الناس ، إذ أنها تتضمن الزجر عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن الله عز وجل ينصره بالملائكة وبالرؤيا وبالصحابة وبالريح وغيرها ، كما في معركة الخندق ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا] ( ) .
ومن الإعجاز في المقام أن المشركين زحفوا في معركة الخندق بعشرة آلاف رجل ، ومع هذا ذكرتهم الآية أعلاه بلفظ التنكير [جُنُودٌ] لأنه في مقام صدّهم ورجوعهم خائبين ، بينما تبين الآية التالية لها كثرتهم ، قال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ ] ( ).
وهل من موضوعية لرؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر في حال وجمع المسلمين في معركة الخندق ، الجواب نعم ، لما يترشح عنها من أسباب التخفيف .
ولم تقف مسألة تقليل عدد المشركين عند رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخباره المسلمين بها ، بل تفضل الله عز وجل وقلّل عدد المشركين في عيون البدريين عياناً وفي حال اليقظة وعند اللقاء لقوله تعالى في الآية التالية [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً] ( ) .
وفيه دعوة للمسلمين للتصديق برؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمطابقة الواقع لها ، وتكون هذه الرؤيا من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً]( ) بنصر المسلمين بعد قيام المشركين بالغزو ، وقطع دابر الغزو والنهب والسلب وصيرورة الحجة والبرهان والمعجزة من أبهى صيغ الدعوة إلى الله ، قال تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ]( ).
لقد جاءت قريش بخيلها وخيلائها إلى معركة بدر وهم عازمون على القتال يمنون أنفسهم بتحقيق النصر خاصة ، وقد بعثوا رجالاً ليطوفوا على جيش المسلمين.
فتأكدوا من قلة عددهم وعدم وجود مدد أو كمين لهم ، ولكن الله عز وجل تفضل بأن أرى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في المنام قلة عدد جيش المشركين ، ثم قلّل عددهم في عيون المهاجرين والأنصار الذين في الميدان .
وهل لرؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موضوعية في هذا التقليل ، الجواب نعم ، فمن خصائص رؤيا النبي انتفاع الناس منها ، وهو من أسرار توثيقها في القرآن ، ولا يعني هذا التقليل دعوة المسلمين لملاقاة الكفار في الميادين ، إنما جاءت هذه الرؤيا بعد إصرار الذين كفروا على القتال ، وتدعو الآية المسلمين للشكر لله عز وجل من جهات :
الأولى : شكر المسلمين الله عز وجل على رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقلة عدد جيش المشركين .
الثانية : إعانة ومدد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالرؤيا ، وتسليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عامة بأن هذه الرؤيا من الوحي، وكذا فاز إخبار النبي محمد عنها من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثالثة : تفضل الله عز وجل بعدم إراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جيش المشركين كثيراً .
ويحتمل قوله تعالى [لَوْ أَرَاكَهُمْ] وجهين :
الأول : رؤيا منام .
الثانية : رؤيا يقظة .
وكل وجه منهما ينقسم إلى وجهين :
الأول : رؤية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جيش المشركين بذات عددهم .
الثاني : رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمشركين بأكثر من عددهم ، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بعدم حصول هذه الرؤيا، وتلك آية في النبوة .
وفي قصة معركة أحد ، وعندما نزل ثلاثة آلاف من قريش وحلفائهم وأتباعهم عند جبل عينين ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة وعلى بعد نحو (6كم) من المسجد النبوي ، وخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقائهم ، قال لأصحابه (إنّي قَدْ رَأَيْت وَاَللّهِ خَيْرًا ، رَأَيْتُ بَقَرًا ، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثَلْمًا ، وَرَأَيْتُ أَنّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوّلْتُهَا الْمَدِينَةَ قَالَ ابن هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالَ رَأَيْت بَقَرًا لِي تُذْبَحُ .
قَالَ فَأَمّا الْبَقَرُ فَهِيَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي يُقْتَلُونَ وَأَمّا الثّلْمُ الّذِي رَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ، فَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُقْتَلُ ) ( ).
أي ورد الخبر بذكر البقر ، أما ما نقله ابن هشام عن بعض أهل العلم فانه ذكر تفصيلاً وهو أن البقر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها تذبح ، وأن رجلاً من أهل بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يُقتل.
وعن ابن عائذ أن الرؤيا كانت ليلة الجمعة أي عندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ، إذ أنه خرج يوم الجمعة بعد الصلاة ، ووقعت المعركة يوم السبت في النصف من شهر شوال ، وقيل كان السابع عشر من شوال .
وسميت في كتب السيرة والتأريخ غزوة أحد بما يتبادر إلى الأذهان بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي هجم وغزا , بينما المشركون هم الذين زحفوا نحو أربعمائة وخمسين كيلو متراً لإرادة القتال والجور والتعدي.
ولم يكتف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذكر رؤياه بل قام بتأويلها وقال (فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون) ( ).
وقبل أن يلبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمة القتال وهو في المدينة وبعد أن ألحّت عليه طائفة من أصحابه بالخروج خاصة أولئك الذين فاتتهم المشاركة في معركة بدر ، قال : (إنى رأيت أني في درع حصينة) ( ).
وعن أنس (مرفوعا قال: رأيت فيما يرى النائم كأنى مردف كبشا، وكأن ضبة سيفى انكسرت، فأولت أنى أقتل كبش القوم، وأولت كسر ضبة سيفى قتل رجل من عترتي. فقتل حمزة) ( ).
والمراد من الكبش في الرؤيا هو طلحة بن أبي طلحة حامل لواء المشركين الذي خرج من بين الصفين , وطلب المبارزة , وأخذ يتحدى الصحابة بأصرار , فبرز إليه الإمام علي عليه السلام فقتله .
وبين رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ورؤياه في معركة أحد عموم وخصوص من وجه ، فتضمنت كل واحدة منهما البشارة والإنذار ، وتضمنت رؤيا معركة بدر مقدمة للنصر بالإخبار عن قلة عدد جيش الذين كفروا بينما أخبرت رؤيا معركة أحد الإخبار عن وقوع الخسارة عند المسلمين ، وهو الذي حصل إذ قٌتل سبعون من المسلمين ، وأصابت الجراحات النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في وجهه ورأسه ، وكذا عمت الإصابة أهل البيت والصحابة .
ومن البشارة في رؤيا معركة أحد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وَرَأَيْت أَنّي أَدْخَلْت يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ) ( ).
ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما أخبر أصحابه برؤياه (قالوا: يا رسول الله، ماذا أولت رؤياك ؟ قال: ” أولت البقر الذى رأيت بقرا فينا وفى القوم، وكرهت ما رأيت بسيفي “.
ويقول رجال: كان الذى رآى بسيفه: الذى أصاب وجهه، فإن العدو أصاب وجهه يومئذ، وكسروا رباعيته ، وخرقوا شفته، يزعمون أن الذي رماه عتبة بن أبى وقاص، وكان البقر من قتل من المسلمين يومئذ.
وقال: أولت الكبش أنه كبش كتيبة العدو يقتله الله، وأولت الدرع الحصينة المدينة) ( ).
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيرجع إلى المدينة سالماً إذ كانت أهم غاية يتجاهر بها المشركون ويعلنون عنها كسبب لهجومهم هو قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان إعلانهم هذا معروفاً عند الناس.
رؤيا النبي حق
لقد تفضل الله عز وجل بالرؤيا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لتكون على وجوه :
الأول : إنها معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتنقسم معجزات الأنبياء الى قسمين :
أولاً : المعجزة الحسية التي تدرك بالحواس كالبصر والسمع ، مثل ناقة صالح عصا موسى عليه السلام ، وفي التنزيل[فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا]( ).
ثانياً : المعجزة العقلية التي تدرك بالعقل والتفكر والتدبر، وهو القرآن.
وهل معجزة رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القسم الأول أم الثاني أعلاه.
الجواب يمكن أن تكون قسيماً ثالثاً لهما فتقول:
ثالثاً : المعجزة الغيبية التي يخبر عنها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيصدقها المسلمون ، ويتجلى مصداقها الواقعي برؤية المسلمين لجيش الكافرين وكأن عددهم قليل، ثم صارت معجزة عقلية بنزول القرآن بذكرها وتوثيقها.
الثاني : نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرؤيا الخاصة وأثرها العام.
فمن الإعجاز في رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيامه بإخبار المسلمين بها، وبصيغة البشارة، ولما (أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بما رآى. فقالوا : رؤيا النبيّ حق، القوم قليل( ).
وعن عبد الله بن مسعود قال: لقد قللوا في أعيينا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين؟ قال : لا ، بل مائة ، حتى أخذنا رجلاً منهم فسألناه؟ قال : كنا ألفاً( ).
وقد يرى بعض الذين كفروا يومئذ الرؤيا فيأولها لما يشحذ همم أصحابه فترجع عليهم بالخزي وقَالَ أَبُو شُيَيْمٍ الْمُزَنِيّ – وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ – لَمّا نَفَرْنَا إلَى أَهْلِنَا مَعَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْن ٍ رَجَعَ بِنَا عُيَيْنَةُ فَلَمّا كَانَ دُونَ خَيْبَرَ عَرّسْنَا مِنْ اللّيْلِ فَفَزِعْنَا .
فَقَالَ عُيَيْنَةُ : أَبْشِرُوا إنّي أَرَى اللّيْلَةَ فِي النّوْمِ أَنّنِي أُعْطِيت ذَا الرّقَيْبَةِ جَبَلًا بِخَيْبَرَ قَدْ وَاَللّهِ أَخَذْتُ بِرَقَبَةِ مُحَمّدٍ فَلَمّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ قَدِمَ عُيَيْنَةُ فَوَجَدَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ فَتَحَ خَيْبَرَ .
فَقَالَ يَا مُحَمّدُ أَعْطِنِي مَا غَنِمْتَ مِنْ حُلَفَائِي فَإِنّي انْصَرَفْتُ عَنْكُ وَقَدْ فَرَغْنَا لَك .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَذَبْتَ وَلَكِنّ الصّيَاحَ الّذِي سَمِعْتَ نَفّرَكَ إلَى أَهْلِكَ ” .
قَالَ أَجْزِنِي : يَا مُحَمّدُ .
قَالَ ” لَك ذُو الرّقَيْبَةِ .
قَالَ وَمَا ذُو الرّقَيْبَةِ ؟ قَالَ الْجَبَلُ الّذِي رَأَيْتَ فِي النّوْمِ أَنّك أَخَذْته .
فَلَمّا رَجَعَ عُيَيْنَةُ إلَى أَهْلِهِ جَاءَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَك : إنّك تُوضِعُ فِي غَيْرِ شَيْءٍ وَاَللّهِ لَيَظْهَرَنّ مُحَمّدٌ عَلَى مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ( ).
الثالث : دعوة المسلمين للتدبر بعالم الرؤيا، وإيلاءها عناية خاصة، واستقراء المسائل منها، سواء على نحو القضية الشخصية أو العامة.
الرابع : تأكيد قانون تصديق الصحابة بما يقوله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الموجبة الكلية، فيصدقونه من وجوه :
الأول : الآيات القرآنية النازلة من عند الله سبحانه.
الثاني : الوحي.
الثالث : الحديث القدسي.
الرابع : الرؤيا التي يخبر عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : تفسير وتأويل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن.
السادس : عموم السنة القولية والفعلية.
السابع : الأوامر والنواهي التي يأتي بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
لقد نزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عالم اليقظة بواسطة الملك إذ تولى جبرئيل النزول بآيات القرآن، كما نزل بعض الملائكة الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمر مخصوص.
وعن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد.
فقال: لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل ابن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظَلَّتْني، فنظرت فإذا فيها جبريل، عليه السلام، فناداني.
فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك .
وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم”. قال: “فناداني مَلَك الجبال وسلم علي.
ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك إليك، لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين” ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا يشرك به شيئاً( ).
والمراد من الأخشب أي الجبل العظيم الخشن ، والأخشبان هما:
الأول : جبل أبي قبيس الذي يطل على البيت الحرام , وليس هو من أكبر جبال مكة ولكن له منزلة تأريخية، ومن حجره بنى إبراهيم عليه السلام البيت، وكان آهلاً بالسكان، وفي قمته مسجد يسمى مسجد بلال .
الثاني : جبل قُعَيقُعان , ويطل أيضاً على البيت الحرام من جهة الشمال والشمال الغربي , وله أسماء أخرى .
لقد عرض ملك الجبال على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عذاب واستئصال الذين كفروا ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلب امهالهم ودفع العذاب عنهم رجاء توبتهم وخروج ذرية صالحة منهم يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً.
وهو شاهد على أن النبي محمداً لا يرضى بالإبادة والقتل العشوائي والإغتيالات لأنها برزخ وحاجب دون خروج ذرية صالحة ومؤمنة.
فهل الرؤيا في قوله تعالى[إِذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ…] كانت من عند الله عز وجل من غير واسطة ملك، أم بواسطة جبرئيل أو من أحد الملائكة.
المختار هو الأول، فليس من واسطة بين الله عز وجل وروح نبيه، وأرواح العباد، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
قانون عصمة النبي
لقد تفضل الله عز وجل وأكرم أفراداً من عباده باختيارهم لأسمى مرتبة من مراتب الخلافة في الأرض وهم الأنبياء ، ومن العلماء من قيد الخلافة في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) أن الخلافة خاصة بالأنبياء .
والعصمة لغة هي الحفظ والوقاية، وفي الإصطلاح ملكة إجتناب المعاصي والزلل.
وإجماع المسلمين على عصمة الأنبياء والرسل في تحمل الرسالة والوحي والتبليغ ، قال تعالى [إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ]( )،
كما اتفقوا على عصمة الأنبياء من الكبائر منها:
الأول : الشرك بالله، وهذا الشرك أم الكبائر قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ).
الثاني : محاربة النبي وأهل الإيمان.
الثالث : عقوق الوالدين .
الرابع : أكل مال اليتيم .
الخامس : شهادة الزور .
السادس : الربا.
السابع : شرب الخمر .
الثامن : تكفير المسلم الذي ينطق بالشهادتين .
التاسع : النميمة والغيبة والإفتراء .
العاشر : الظلم والجور .
واختلف في عصمة الأنبياء من الصغائر، ونسب الى المشهور القول بجوازها عليهم، واستدل عليه بقوله تعالى[وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى]( ).
وهذه الآية لا تصلح دليلاً في المقام على عدم عصمة الأنبياء من الصغائر أو الكبائر، لأن أكل آدم من الشجرة وقع في الجنة وقبل هبوطه إلى الأرض، وعالم التكليف , ونسب الله الفعل إلى الشيطان , كما في التنزيل [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( ).
ولم يذكر القرآن معصية لآدم صغيرة أو كبيرة في الدنيا ، وقد يقال أن آدم متقدم في زمانه لا تذكر له معصية في الأرض في القرآن حتى مع حال وجودها.
الجواب قد ذكر القرآن معصية ولده قابيل وقيامه بقتل أخيه هابيل , قال تعالى[فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
واستدل بقوله تعالى[يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، ولكن الآية تدل على ترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأولى والمباح أو أنه همّ بهذا الترك، ليتطلع إلى أمر الله ونزول القرآن ليكون حجة في المقام له ولأزواجه.
كما ذكروا ما ورد حكاية عن موسى في التنزيل[قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ) وكان موسى يجيب الذي يستغيث به، ولا يرضى بظلم آل فرعون لبني إسرائيل، وبينما موسى عليه السلام يمشي في بعض أزقة المدينة إذا رأى رجلين يقتتلان أحدهما من آل فرعون والآخر من بني اسرائيل، فلما رأى الإسرائيلي موسى استغاث به، وذكر له أنه مظلوم وأن الفرعوني قد تناوله فقال موسى للفرعوني خله عنك وأتركه.
وكان الناس يعلمون من شدة وبطش موسى عليه السلام.
فقال الفرعوني: إنما أخذه ليحمل الحطب الى مطبخ أبيك، ثم قال موسى : لقد هممت أن أحمله عليه.
فركز موسى عليه السلام الرجل الفرعوني، وهو لا يريد قتله إذ أن الركز على وجوه محتملة:
الأولى : الضرب بجمع الكف .
الثانية : الضرب باطراف الأصابع .
الثالثة : الدفع بأطراف الأصابع .
الرابع : الدفع بالعصا من غير قصد الإدماء والقتل فمات الفرعوني ، ومع أنه كافر فقد لجأ موسى إلى الإستغفار لحال الكف عن القتال ، ولقانون إمتناع الأنبياء عن القتل .
ومن معاني العصمة المنع ، وقد منع الله عز وجل الذنـوب والمعاصي عن الأنبياء، حتى وأن تهيأت مقدماتها والتمكن منها ، وفي يوسف عليه السلام ورد قوله تعالى [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ) .
وحفظ الله عز وجل الأنبياء من الوقوع في الذنوب ليكون هذا الحفظ باعثاً للناس لتصديقهم والإنصات لهم ، وقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً بقوله [مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى]( ) لذا يحمل الضلال في قوله تعالى [وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى]( )على الضياع إذ أنه ضاع في صغره وضل وهو مع عمه في طريق الشام ضالاً عن طريق الهجرة .
أو إرادة حذف مضاف كما في قوله تعالى [وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ] ( ) أي وأسال أهل القرية ، وقيل وجدك ضالاً أي وحيداً على دينك ، فجذب القلوب وهدى الناس إلى الإسلام .
لقد رزق الله عز وجل الأنبياء العصمة والحكمة لتسود الأخلاق الحميدة في الأرض .
وقال (أبو بكر البيهقى، أخبرنا أبو سعد المالينى، أنبأنا أبو أحمد ابن عبد الحافظ، حدثنا إبراهيم بن أسباط، حدثنا عثمان بن أبى شيبة، حدثنا جرير، عن سفيان الثوري، عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشهد مع المشركين مشاهدهم قال: فسمع ملكين خلفه وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: كيف نقوم خلفه وإنما عهده باستلام الاصنام ؟ !.
قال: فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم.
فهو حديث أنكره غير واحد من الائمة ,حتى قال أحمد فيه: موضوع .
وقد حكى البيهقى عن بعضهم أن معناه أنه شهد مع من يستلم الاصنام، وذلك قبل قبل أن يوحى إليه) ( ).
والحديث ضعيف سنداً ودلالة ، وهو ضعيف بابن عقيل , وفيه إرسال ، وقد وردت الأحاديث بعصمة النبي من مسّ الأصنام , وكان يدعو قبل النبوة إلى هجرانها والتنزه عنها .
وعن اسامة بن زيد ، عن زيد بن حارثة قال : كان صنم من نحاس يقال له إساف ونائلة يتمسح به المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وطفت معه، فلما مررت مسحت به، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” لا تمسه “.
قال زيد: فطفنا فقلت في نفسي لامسنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” ألم تنه ” قال البيهقي: زاد غيره عن محمد بن عمرو بإسناده قال زيد: فو الذى أكرمه وأنزل عليه الكتاب، ما استلم صنما قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه وأنزل عليه) ( ).
ومن معاني قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ]( ) حاجة المسلمين لعصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من البطر والرياء وقيامهم بالإقتداء به ، والتقيد بها في آية البحث من النهي فعصمة الأنبياء من قبائح القول وقاذورات الأفعال رحمة بالناس جميعاً ، ودعوة لهم للهدى والإيمان ، وحجة على الذين كفروا الذين يصرون على الجحود والعناد والإقامة في مستنقع الضلالة ، وتحتمل العصمة بلحاظ قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وجوهاً :
الأول : عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الرحمة الواردة في الآية .
الثاني : عصمة الأنبياء من الرحمة في الآية أعلاه .
الثالث : لا موضوعية لعصمة الأنبياء في مسألة الرحمة في الآية أعلاه .
والصحيح هو الأول والثاني أعلاه ، وشاء الله عز وجل أن يحفظ عصمة وتنزيه الأنبياء في القرآن ليكون إماماً للناس في لزوم إكرامهم والتأسي بهم واتباع نهجهم .
الآية الرابعة عشرة
قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] ( ).
توجه الخطاب في هذه الآية إلى المسلمين وبصيغة النهي ، وإبتدأت الآية التي قبلها بقوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ) بالأمر بطاعة الله ورسوله على نحو الإطلاق في الموضوع والمكان والزمان ثم ينهى عن الخصومة والخلاف لأن فيه الضعف وذهاب الدولة ثم الأمر بالصبر والتحمل بالإخبار عن فضل الله ومدده وعونه للصابرين بقوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ) .
ودعت آية البحث المسلمين إلى التوقي عن محاكاة الذين كفروا في نبذ ومقاصد وسنخية الخروج إلى ميدان المعركة ، إذ خرج أبو جهل وأصحابه إلى معركة بدر وأصحابه بالقيان والدفوف .
والقيان : جمع قينة وهي الأَمة المملوكة سواء كانت مغنية أو غير مغنية .
لقد أراد الله عز وجل في آية البحث توثيق مقدمات معركة بدر من جهة إصلاح المسلمين للخروج في سبيل الله ، منقطعين إلى التسبيح والتهليل وذكر الله ، وعليهم سيماء التقوى والصلاح ، ولا ينوون الهجوم أو الغزو أو الإبتداء بالقتال .
بينما زحف المشركون بفخر وزهو وبغي ، ومن الدلائل عليه أن أبا سفيان رئيس القافلة التي خرجوا من أجل إنقاذها أرسل إليهم بأنها سلمت وصارت قريبة من مكة لا يخشى عليها وطلب منهم الرجوع إلى مكة .
فأبى أبو جهل وأصر على الوصول إلى ماء بدر ،وهو موسم وسوق من أسواق العرب أيام الحج ، وقال : وَاَللّهِ لَا نَرْجِعُ حَتّى نَرِدَ بَدْرًا( )، وذكر مسائل :
الأول : نقيم في بدر ثلاث ليال .
الثاني : ننحر الجزور .
الثالث : نطعم الطعام .
الرابع : نسقي الخمور .
الخامس : تعزف عليها القيان .
السادس : تسمع بمسيرنا العرب .
لبحث الهيبة في نفوسهم ،ولكن حلت المصيبة في ديارهم وصرخت النوائح في بيوتهم ، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وهل ينحصر موضوع آية البحث بخصوص الخروج ، ويكون تقديرها : ولا تكونوا في خروجكم كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ، الجواب لا ، لأصالة الإطلاق .
فيكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا وأنتم في المدينة كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول في الحضر والسفر .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا في السرايا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس.
الرابع : يا أيها الذين آمنوا اجتهدوا في طاعة الله والرسول ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس .
الخامس : كونوا ربانيين في خروجكم ، وفي التنزيل [مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ]( ).
السادس : تزينوا بالتقوى في خروجكم إذ أن التقوى واقية من التعدي والظلم، لذا (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ودع رجلا من أصحابه قال : زودك الله التقوى ، وغفر لك ذنبك ، ولقاك الخير حيث وجهت ( ).
السابع : إجتنبوا البدء بالقتال ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس .
الثامن : يا أيها الذين آمنوا تنزهوا عن التعدي فان الذين كفروا خرجوا بطراً ورئاء الناس ، وهو مقدمة للتعدي .
ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إصلاح النفوس وتثبيت السلم الإجتماعي ، وسيادة قوانين الشريعة والأخلاق التي تقوم على ضبط الحقوق والواجبات ، وإجتناب التعدي والظلم ، والنهي عن مؤاخذة الإنسان بذنب غيره ، قال تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( ).
وهل تختص الآية أعلاه بالقضية الشخصية وحال المفرد أم هي عامة ، الجواب هو الثاني لهداية المسلمين إلى مسألة وهي أن تعدي كفار قريش ليس علة للتعدي والغزو لغيرهم من الكفار .
ومن مصاديق تقيد المسلمين بهذا القانون أنهم يمرون في طريق الخروج من المدينة والعودة إليها على قبائل وقرى وأعراب من الذين كفروا ، ولم يتعرضوا لهم ولأنعامهم وأموالهم ، قال تعالى [وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ] ( ).
لقد أسس القرآن للأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة إلى يوم القيامة ، وكل آية منه تدعو إلى الصلاح وتدل في مفهومها على الأجر والثواب عليه ، كما جاءت الآيات بالبشارة بالثواب العظيم على الإيمان والعمل الصالح ، ومن الآيات ما جمعت بين الإخبار عن هداية الله عز وجل لهم للعمل الصالح واللبث الدائم في النعيم ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ] ( ) .
ولم يرد لفظ [بَطَرًا] في القرآن إلا في آية البحث والإخبار عن هيئة وحال الذين كفروا في خروجهم إلى معركة بدر ، ليكون من معاني هذا اللفظ وإنفراده في القرآن البشارة باستئصال هذا الخروج وأهله ، وأن المسلمين يرثون الجزيرة فلا يخرجون إلا وسيماء التقوى تتغشاهم ، ولا يصدرون إلا عن مقاماتها وهو من مصاديق الآية السابقة لها [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ] ( ).
فمن طاعة الله عز وجل الإمتناع عن حال البطر والرياء والزهو التي كان عليها الذين كفروا ، ومن خصائص الحياة الدنيا أن الناس فيها مأمورون بعبادة الله والخشية منه ، وهي مقدمة للوقوف بين يديه للحساب ، ولكن شطراً من الناس إختاروا الإنصياع للهوى ، وإتباع خطوات الشيطان في الجحود ، فكما امتنع إبليس عما أمره الله عز وجل من السجود لآدم ، كما ورد في التنزيل [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا]( ).
فبعث الله عز وجل النبي محمداً لإحياء شعائر الله وتثبيت عبادته في الأرض إلى يوم القيامة ، فحاربه كفار قريش أشد محاربة مع إتصافهم بأمور تملى عليه المبادرة إلى الإيمان وهي :
الأول : قريش مجاوروا البيت الحرام ، وهم سدنته ويقومون بعمارته وخدمة وفد الحاج .
الثاني : إتصاف قريش بالعمل بالتجارة واستحواذهم عليها في الجزيرة في الجملة وتبادل البضائع بين كل من :
أولاً : بين مكة والشام .
ثانياً : بين مكة واليمن .
ثالثاً : بين اليمن والشام .
رابعاً: التجارة مع الحبشة .
خامساً : وجود نوع تجارة بين قريش وبلاد فارس والهند .
الثالث : تجلي وترشح الآيات من البيت الحرام إذ أنه يدعو إلى الإيمان والتوحيد، ويسلم العرب جميعاً بأنه بيت الله، وضعه للناس أمناً ومحلاً للعبادة، ويكون من معاني وتقدير قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ]( )، وجوه :
الأول : لقد أكرم الله عز وجل الناس وجعل لهم بيتاً في الأرض يصلون اليه متى شاءوا.
الثاني : من يمنع الناس عن الوصول الى بيت الله والطواف به يستأصله الله وهو الذي وقع لكفار قريش إذ منعوا النبي محمداً وأصحابه من دخول الحرم.
الثالث : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة فلا يصح طرد أهله من جواره، وأرغامهم على الهجرة كما فعل كفار قريش بالمسلمين .
وبخصوص خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً من مكة ورد عن ابن عباس أنه قال: والله إني لأخرج منك وإني لاعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله وأكرمها على الله تعالى ولولا أن اهلك اخرجوني منك ما خرجت منك( ).
الرابع : ان أول بيت وضع للناس للذي ببكة فتعاهدوه بالحج والعمرة.
الخامس : إن أول بيت وضع للرحمة والرأفة بين الناس للذي ببكة.
السادس : إن أول بيت لصلاح وهداية للذي ببكة.
السابع : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة فليس فيه أذى أو شر على أحد من الناس.
الثامن : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً ، فلا تخرج منه الجيوش للغزو والنهب.
العاشر : إن أول بيت وضع للناس ينتفعون منه جميعاً للذي ببكة.
الحادي عشر : يا أيها الناس إن أول بيت وضع لكم في الأرض للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين.
ولم يرد لفظ بكة في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان تعدد أسماء مكة ، وهذا التعدد من إكرامها والدعوة إلى الحج، واعلان التوحيد في أرجائها.
الثاني عشر : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة فلا يصح نصب الأوثان فيه ،ولا في غيره من بقاع الأرض .
فمن مصاديق قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ]( ) ، حراسة الأرض من الأصنام وعبادتها، ليبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتستأصل عبادة الأوثان في الأرض وإلى يوم القيامة ليكون من معانيه وجوه :
الأول : ان أول بين وضع للناس لتبدأ الحياة الإنسانية في الأرض بمعالم وسنن التوحيد.
الثاني : ان أول بين وضع للناس للذي ببكة ليكون واقية من شيوع الكفر وسيادة مفاهيم الضلالة.
الثالث : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ليكون حجة على الذين كفروا، لذا قال الله تعالى[فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ]( ).
الثالث عشر : ان أول بيت وضعه الله للناس ولا يقدر على وضع بيت في الأرض لعامة الناس إلا الله عز وجل، لذا فمن إعجاز الآية مجيؤها بصيغة المبني للمجهول.
إذ تتضمن الآية أطرافاً :
الأول : تفضل الله بوضع البيت.
الثاني : البيت الحرام.
الثالث : موضع البيت .
الرابع : الذين وضع لهم البيت وهم الناس جميعاً.
فكل إنسان ومن أيام أبينا آدم هو موضوع له البيت، وهل كان وضع البيت بالكاف والنون، وعمومات قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الرابع عشر : ان أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً، ومن بركات البيت تفضل الله بالأشهر الحرم وحرمة القتال والقتل فيها، وفيه نفع للناس جميعاً، قال تعالى[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
ومن مصاديق البطر والرياء في خروج قريش في قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ] ( ) خروجهم عن إصرار على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى أن مسألة البطر والتبختر والزهو لا تختص بذات الخروج وساعته بل بمقدماته والحال العامة لقريش من الإقامة على الكفر والتمسك بمفاهيمه مع أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كشفت لهم قبحها ولزوم التخلي عنها من جهات :
الأولى : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن على أهل مكة وما فيها من لغة الإنذار والوعيد وذم الكفر والكافرين .
الثانية : توالي المعجزات الحسية والعقلية على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي معجزة انشقاق القمر قال الله تعالى[اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ]( ).
الثالثة : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رجال قريش وعامة الناس إلى ديانة التوحيد ، وفرائض الإسلام .
وليس من حصر لضروب وكيفية وأوان دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم إذ أنها في كل ساعة من ساعات النهار وشطر من الليل ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على الصلاة في المسجد الحرام ، ولم تعهد قريش والناس هذه الصلاة ، ويكثر السؤال والتدبر في معانيها ودلالاتها .
ليكون من الإعجاز في الأمر من الله عز وجل لإبراهيم وإسماعيل [أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ) أن تأتي القبائل وأهل مكة يطوفون بالبيت الحرام ، فيرون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قائماً يصلي فيسألون الناس ويستفهمون منه , وينصتون له في قراءته ودعائه ودعوته .
وهل في لفظ [طَهِّرَا] أعلاه البشارة بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الضرر والقتل وهو في مكة مع وجود أمة تستجيب لدعوته ، الجواب نعم ، فان قلت قد تعرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأذى وهو في البيت الحرام .
الجواب هذا صحيح وهو لا يتعارض مع المعنى العام لسلامته .
وقام مرة عقبة بن أبي مُعيط بخنق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بردائه وكاد يقتله ، كما القى عليه سلا( ) جزور ، وكان أحد بيوت مكة ذبح جزوراً والقوا بعض أحشائها .
وفي اليوم التالي وبينما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في المسجد الحرام قال أبو جهل : أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه على ظهر محمد غذا سجد ، وكان عبد الله بن مسعود حاضراً حينئذ يشهد ما وقع ، ولكنه يخشى من بطش قريش ، وقد أفرطوا في إيذائه ، وقال : (فانبعث أشقى القوم فجاء به فوضعه بين كتفيه وثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساجدا وضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك فانطلق منطلق إلى فاطمة وهي جويرية فأقبلت تسعى حتى ألقته عنه وأقبلت عليهم تسبهم .
فلما قضى النبي صلاته قال : اللهم عليك بقريش ثلاثا ثم سمى اللهم عليك بعمرو بن هشام يعني أبا جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة ابن أبي معيط وعمارة بن الوليد قال ابن مسعود فلقد رأيتهم صرعى يوم بدر) ( ) .
ومن منافع صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في البيت الحرام قبل الهجرة مسائل :
الأولى : بيان موضوعية الصلاة في الإسلام وأحكامه.
الثانية : تقوم الدعوة النبوية بعبادة الله عز وجل.
الثالثة : بيان قانون وهو أن الصلاة ليست بدعاً، إنما هي منهاج الأنبياء.
وفي دعاء ابراهيم ورد في التنزيل[رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ]( ).
ليكون من معاني الآية أعلاه سؤال إبراهيم الله عز وجل بأن يصلي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في البيت الحرام وأن يتفضل الله عز وجل بحفظه وسلامته أثناء الصلاة.
الرابعة : بيان أن الصلاة ركن من أركان الإسلام يتقوم به، ولا يصح الإنتماء له من غير الصلاة لله عز وجل .
وعن ابن عباس قال: أَنّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ قَدِمُوا عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ ” مِمّنْ الْقَوْمُ ؟ ” فَقَالُوا : مِنْ رَبِيعَةَ . فَقَالَ ” مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى ” .
فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَك هَذَا الْحَيّ مِنْ كُفّارِ مُضَرَ وَإِنّا لَا نَصِلُ إلَيْك إلّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نَأْخُذُ بِهِ وَنَأْمُرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَنَدْخُلُ بِهِ الْجَنّةَ .
فَقَالَ ” آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ .
آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللّهِ وَحْدَهُ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللّهِ ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ وَإِقَامُ الصّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُعْطُوا الْخُمُسَ مِنْ الْمَغْنَمِ .
وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ الدّبّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالنّقِيرِ وَالْمُزَفّتِ فَاحْفَظُوهُنّ وَادْعُوا إلَيْهِنّ مَنْ وَرَاءَكُمْ( )، وتسمى الصلاة الركن الثاني في الإسلام بعد الشهادتين.
الخامسة : تأكيد شاهد يومي على إحياء عبادة الله في الأرض بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة : منع الغلو بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن الآيات إقتران أدائه الصلاة بالمعجزات العقلية والحسية التي تجري على يديه .
السابعة : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين والمسلمات الى أداء الصلاة، فمن لم يستطع أن يصليها في البيت الحرام من خشية القوم الكافرين فيؤديها خفية في بيته، فالصلاة لا تترك بحال سواء صلاة الفريضة أو النافلة وجاء عن أم حبيبة زوج النبي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : من صلى اثنتي عشرة سجدة تطوعا بنى الله له بيتا في الجنة( ).
الثامنة : بيان الصلة الدائمة بين العبد وبين ربه بأداء الصلاة.
التاسعة : دلالة صلاة النبي محمد في البيت الحرام في مفهومها على الضلالة في نصب الأصنام فيه، ولزوم إزالتها.
العاشرة : تثبيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمعالم الإيمان في مكة بأدائه صلاة الإسلام في البيت الحرام، لتكون مقدمة للهجرة، بأن يهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
وتبقى الصلاة وأداء من بقى من المسلمين في مكة لها أرثاً كريماً في البيت، وشاهداً في الشاخص المبارك على التوحيد.
الحادية عشرة : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الثواب وجني الحسنات في أداء الصلاة اليومية.
الثانية عشرة : صيرورة وفود القبائل والأمصار إلى مكة رسلاً الى قومهم ينقلون لهم صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكيفيتها فلا يختص المجئ الى مكة برجال القبائل بل يأتي الناس من اليمن والطائف والمدينة والعراق والشام والحبشة وغيرها.
وقال ابن عباس : أول من صلى علي.
وقال جابر بن عبد الله: بُعث النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يوم الاثنين وصلى علي يوم الثلاثاء ، وورد مثله عن أنس مرفوعاً( ).
وقال زيد بن أرقم: أول من أسلم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي.
وقال عفيف الكندي: كنت أمرأً تاجراً فقدمت مكة أيام الحج فأتيت العباس، فبينا نحن عنده إذ خرج رجلٌ فقام تجاه الكعبة يصلي، ثم خرجت امرأة تصلي معه، ثم خرج غلام فقال يصلي معه. فقلت: يا عباس ما هذا الدين .
فقال: هذا محمد بن عبد الله ابن أخي، زعم أن الله أرسله وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة آمنت به، وهذا الغلام علي بن أبي طالب آمن به، وأيم الله ما أعلم على ظهر الأرض أحداً على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة ! قال عفيف: ليتني كنت رابعاً( ).
الثالثة عشرة : صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في البيت الحرام كل يوم شاهد على أنه لا يحمل سيفاً وسلاحاً ، وأنه لا يريد القتال، ولا الغزو .
وحتى بعد أن تم الفتح ورد عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة( ) .
وتستثنى حال الحاجة , والإحتراز , والدفاع , والضرورة , وتثبيت الأمن .
الرابعة عشرة : في الصلاة تلاوة لسورة الفاتحة وآيات القرآن , وسورة الفاتحة مكية، ونزلت أول سور القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بدايات البعثة كما في سورة العلق والفاتحة وغيرها( ).
الخامسة عشرة : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسنخية الفعل العبادي في المسجد النبوي وهو العبادة.
السادسة عشرة : إرادة بعث السكينة في النفوس بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يبغي في رسالته الا إحياء سنة إبراهيم باقامة الصلاة.
السابعة عشرة : إظهار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصبر بأداء الصلاة، فقد كان الكفار يتبعون الهوى بعدم التقيد بضابطة عبادية والصلاة سواء في النهار أو الليل، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات، ومعها يقف بين يدي الله عز وجل في الصلاة، قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ) .
وهل أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة وكيفيتها معجزة له ، الجواب نعم .
الثامنة عشرة : تحدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكفار قريش بالصلاة، وإخبارهم بالقول والعمل أنهم لا يقدرون على الحيلولة بين المسلمين وبين عبادتهم لله عز وجل.
التاسعة عشرة : دعوة المسلمين والمسلمات والذين يدخلون الإسلام لاحقاً لتعاهد الصلاة، والحفاظ عليها في شتى الأحوال، إذ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يؤديها وهو في حال أذى من الذين كفروا.
العشرون : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكيفية الصلاة وأنها على أجزاء :
الأول : الوضوء الطهارة مقدمة واجبة للصلاة ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثاني : النية والتكبير.
الثالث : القيام والقراءة.
الرابع : الركوع ثم القيام منه، في آية عبادية إعجازية ، فلا يتوجه المصلي إلى السجود من الركوع مباشرة بل يكون القيام بعد الركوع ركناً فيها.
الخامس : السجود والتطامن على الأرض، ومما يتصف به السجود هو تكراره مرتين في كل ركعة.
السادس : تعدد ركعات الصلاة، والتباين في عددها بين الصلوات الخمس.
السابع : تعيين وقت مخصوص لكل صلاة بلحاظ الآيات الكونية الثابتة والتي تطل على كل بقعة في الأرض كالفجر، والزوال، والغروب، قال تعالى[أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
لقد كان رجال ونساء قريش من ذرية إبراهيم الخليل الذي جاهد في بناء صرح التوحيد ومحاربة الطاغوت ، كما قام ببناء البيت الحرام ، ولم يكتف ببنائه ، إنما قام بدعوة الناس لعمارته وحجه والطواف به ، كما في قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ).
ولم يرد لفظ [أَذِّنْ] و[بِالْحَجِّ] إلا في الآية أعلاه لبيان حصر الحج ببيت الله وفيها وعد كريم من قوله تعالى بوفود الحجاج من كل صوب وحدب ، وهل في الآية أعلاه بشارة بالبعثة النبوية ومجيء الحجاج من جميع أقطار الأرض .
الجواب نعم ، ليكون من معاني الواو في [وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ] الإستئناف ، وتقدير الآية : وعلى كل ضامر يأتين بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كل فج عميق .
وفيه بشارة فتح مكة ، واستقبال البيت الحرام لحجاجه المسلمين من كل بلد ، وهو خال من الأوثان والأصنام ومفاهيم الشرك والضلالة .
وتدل الآية أعلاه على إنشغال المسلمين في جميع أنحاء العالم بأداء الفرائض والعناية بها ، وشيوع روح الـتآخي بينهم بلحاظ الإتحاد في أداء الحج على نحو الفرض مرة واحدة في العمر أو على نحو الإستحباب في الحج المتعدد ، وفي أداء العمرة ، وفيه بيان لقانون وهو :
حب وعشق المسلمين لحج بيته الحرام حرب على الغزو والإرهاب .
وإن قلت قد جاءت الآية أعلاه بقوله تعالى [وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ] والمراد من الضامر هنا البعير وغيره من الرواحل المهزولة التي أنهكها السفر ، والفج العميق أي الطريق البعيد ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ] ( ) .
قال الشاعر :
إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة … يمد بها في السير أشعث شاحب( ).
والشاحب هو الذي تغير لونه بسبب عارض مثل المرض أو السفر ،ومنه حديث (بن الأَكْوَعِ رآني رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم شاحِباً شاكياً وفي حديث ابن مسعود يَلْقَى شَيْطانُ الكافِرِ شَيطانَ المؤْمِن شاحِباً) ( ).
والجواب ان لفظ الضامر أعم من أن ينحصر بالبعير ، وهو عنوان راحلة ووسيلة السفر حسب الزمان .
ومن الإعجاز أن سائق السيارة والقطار والسفينة وقائد الطائرة يصل إلى أماكن الحج تعباً أجهده السفر خاصة مع مضاعفة رحلات السفر في موسم الحج بفضل من الله عز وجل وذات الواسطة الناقلة تكون قد قطعت مسافات خلاف المألوف والمتعارف لها طيلة أيام السنة .
وتتجلى فيه شواهد عديدة في موسم الحج وتتأخر بعض الرحلات الجوية والبحرية والبرية بسبب الزحام في مصداق متجدد للآية القرآنية أعلاه في كل عام مع بذل الجهات المختصة الوسع في توفير أسباب النقل والراحة لوفد الحاج
وقال تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا] ( )
لبيان وجوب الخلق الحميد والدعوة إلى الله عز وجل ، فمن الحسن المذكور في الآية أعلاه قول لا إله إلا الله ، والأمر به وبيان إعجاز القرآن وصدق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والجدال بالحكمة والموعظة ، وتجلي مكارم الأخلاق في القول والعمل .
ومن أظهر موارد القول الحسن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبصيغ اللين والرفق ، وقد أمر الله عز وجل موسى وهارون بالرفق وترك الغلظة في دعوة هارون إلى التوحيد ، وحثه على ترك إدعاء الربوبية الذي لا يؤدي إلا إلى هلاكه وزوال ملكه ، قال تعالى [فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] ( ).
ومن معاني آية البحث البشارة بزوال سلطان كفار قريش ، ولزوم الإستعداد لمراتب العز والرفعة والحكم بالتقوى والصلاح ، قال تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ]( ).
ويكون من وجوه تقدير الآية :
الأول : سينعم الله عز وجل عليكم بالفتح ، فلا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس .
الثاني : ان تم لكم فتح مكة فلا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً.
الثالث : لقد أختتمت الآية السابقة بحث المسلمين على الصبر ليكون من معاني تقدير آية البحث :يا أيها الذين آمنوا إن الله عز وجل يعلم ما يفعل الظالمون .
الرابع : من خصائص الصابرين التحلي بالتنزه عن التعدي والظلم .
لقد أراد الله عز وجل تأديب المسلمين ببيان خصال الذين كفروا المذمومة ، ودعوة المسلمين إلى عدم اقتفاء أثرهم ، وفيه شاهد على حاجة الناس لنزول القرآن ، وبيان السنة النبوية لأحكامه، ومن خصائص [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) تلقي المسلمين النهي عن محاكاة الذين كفروا ، وتقيدهم بأحكام وسنن هذا النهي .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوصي أمراء وأفراد السرايا بعدم البدء بقتال ، إنما يأمرهم بالدعوة إلى التوحيد ، وهو الأسوة الكريمة لهم ، إذ كان ينادي بين الصفين وقبل بدء القتال (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ).
وهذا النداء شعار التوحيد الذي كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينادي به في مكة وفي موسم الحج .
وكان ينادي في سوق مكة (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)وأبو لهب يرميه من ورائه بالحجارة حتى يدمى كعبيه ( ) .
ولما سمع أفراد جيش المشركين يوم بدر وكان عددهم زهاء ألف هذا النداء من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تذكروه ، وأدركوا أنهم يحاربون الحق ، ويدافعون عن الباطل ، ومن خصائص العقل الإنساني إدراك قانون قبح الباطل وخسارته ولو بعد حين ، وفي التنزيل [كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ] ( ) .
وتبين آية البحث عدم إنحصار الصراع في معركة بدر بالجانب العقائدي ، إنما يشمل كيفية الخروج والتباين والتضاد بين الفريقين ، بين أهل الحق والتقوى وبين عبدة الأوثان .
ومن حق المسلمين أن يفتخروا بأن جعلهم الله عز وجل من أهل الحق بمحاربتهم لكفار قريش وعبادة الأصنام ، وأمتناعهم عن التعدي والنهب والسلب .
وقد يبدو للناس في هذه الزمان أن محاربة الوثنية ومفاهيم الشرك أمر سهل لأن هذه المفاهيم جلية في زيفها وبطلانها ، ولكن هذا الجلاء لم يتحقق إلا ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودفاعه وأهل بيته وأصحابه عن ملة التوحيد وعن أنفسهم كمؤمنين ، لتكون صفة الإيمان باباً للثواب العظيم لأنهم يدافعون عنها وعن الحاملين لها ، ومن أسرار قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أمور :
الأول : بعث الصحابي على حفظ حقوق إخوته .
الثاني : دفاع الصحابي عن أصحابه إنما هو دفاع عن الإيمان وأهله .
الثالث : التخلي عن الدنيا وزينتها من أجل الدفاع عن المتقين ، وتكون الصلات بينهم في الدنيا مقدمة ومرآة للأخوة بينهم في الآخرة ، قال تعالى [الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ] ( ).
الرابع : جني الصحابة الثواب العظيم من الأخوة الإيمانية ، وما يترشح عنها .
الخامس : المؤاخاة بين الصحابة عوض وبدل عن أخوتهم النسبية من الكفار الذين أصروا على محاربتهم لتكون هذه المؤاخاة مقدمة لملاقاة المشركين في معركة بدر وأحد , وإن كانوا إخوانهم وأبناء عشيرتهم .
فلقد كان المسلمون حديثي عهد بأيام الجاهلية وكما أن العصبية القبلية تصاحب الإنسان إلى مدة مديدة وقد لا يتخلص منها على نحو دفعي حتى في هذا الزمان فتجده يحمل جنسية البلد ذي حضارة مدنية ليس للقبلية فيها مقام معتد به ، ومع هذا تجده يحن للقبلية ويميل إليها على نحو الأفراد .
فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قطع القبلية الضارة بالمؤاخاة الإيمانية وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فلم يحارب الإسلام القبيلة والوطنية والقومية والجماعات والفرق التي لا تفسد في الأرض ولا تسفك الدماء ، وإنما حارب الوثنية والقبلية التي تذب وتدافع عنها .
تلك القبلية التي جعلت كفار قريش يخرجون إلى معركة بدر بطراً وزهواً وفخراً ، وهذا الفخر عرض زائل ، وهو من وجوه :
الأول : كثرة رجال قريش وابنائهم وأتباعهم وعبيدهم في مقابل قلة عدد المسلمين .
الثاني : تحالف قريش مع عدة قبائل يقطنون حول مكة .
الثالث : حاجة القبائل للوفود إلى مكة لأداء حج البيت والعمرة.
الرابع : حال الأمن في البيت الحرام بالقياس إلى الطرق والأماكن التي تحيط بها ، وفي إقامة الحجة على قريش وتذكيرهم بالنعم الإلهية عليهم ، قال تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ] ( ).
الخامس : كثرة أموال كفار قريش ، وحال الرغد وحسن المعيشة التي هم عليها .
السادس : الصلات العامة مع الدول الكبرى آنذاك , والوصول إلى الملأ وأركان الحكم في الدولة الرومانية والفارسية .
السابع : هيبة القبائل لقريش وإكرامهم لرجالاتها حتى أنهم يتدخلون لفك الخصومة والنزاعات بينها .
الثامن : وجود فرسان شجعان من بين رجال قريش ، ومعروفين بالبسالة والبطولة .
وظنوا ليس من أكفاء شجعان لهم في صفوف المسلمين فأنعم الله عز وجل على الإمام علي عليه السلام وحمزة وعدد كثير من الصحابة بالشجاعة والبسالة وحب الشهادة , وتحدي الكافرين وسط الميدان ، ونزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ) لتتضمن الآية أموراً :
الأول : البشارة للمسلمين .
الثاني : الوعد بنصر المسلمين .
الثالث : زجر المنافقين ومنعهم من بث الأراجيف والصدود عن الدفاع الواجب عن النبوة والتنزيل , وورد في ذم المنافقين [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الرابع : الإنذار والوعيد للذين كفروا من قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : اسقاط ما في أيدي المشركين ، ومنعهم من المناجاة بكثرة عددهم ، فحتى لو كان عدد المسلمين معشار عدد الكافرين فان النصر حليف المسلمين بقيد تحليهم بالصبر ، ومن مصاديق الصبر أداء الفرائض العبادية ، والإمتناع عن الغزو والقتل العشوائي والتعدي والظلم .
وبينما ذكر القرآن خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المدينة بأمر من عند الله عز وجل بقوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( ) ( ) فان المشركين خرجوا عتواً وطغياناً يملأهم الغرور فنفذ إليهم الشيطان وتمثل لهم بهيئة سراقة بن مالك ، وكانوا يخشون من قومه وهم بنو كنانة أن يغيروا على مكة في غيابهم ، فقال لهم [وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ] ( ) من قومي ووعدهم بالغلبة لإستدارجهم .
ولما رآى جبرئيلَ والملائكة حضروا المعركة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنهزم إبليس ، فنادى رجال قريش وراءه وهم يظنون أنه سراقة وعليه أن لا يخذلهم في تلك الساعة واللقاء ، فقال كما ورد حكاية عنه في التنزيل [وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ] ( ) وقال تعالى [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ]( ) ترى ماذا زيّن لهم الشيطان ، فيه وجوه :
الأول : الخروج للقتال وإرادة الغزو والتعدي .
الثاني : الإعراض عن دعوة إجتناب القتال .
الثالث : الإمتناع عن التدبر في معجزات النبوة .
الرابع : الإصرار على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : المناجاة بالباطل ، والظن بأن الغلبة تكون لهم .
السادس : إيذاء المؤمنين والمؤمنات في مكة .
السابع : رفض رجال قريش الإستجابة لدعوة أبي سفيان بالرجوع من الجحفة بعد سلامة قافلتهم , وإنتفاء سبب الخروج واستمرار المسير .
الثامن : عبادة المشركين للأوثان والتوسل والتقرب بها إلى الله .
لقد ابتدأت آية البحث بالخطاب ونهي المسلمين عن محاكاة الذين كفروا في أفعال مخصوصة تتعلق بمعركة بدر .
وورد قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا] تسع مرات في القرآن وباستثناء وروده بخصوص إنذار شعيب عليه السلام لقومه [أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِينَ] ( ).
فقد جاءت الآيات الأخرى في تأديب وهداية وإصلاح المسلمين بنهيهم عن مسالك القوم الكافرين .
وكما جاءت آية البحث بخصوص معركة بدر ، فقد ورد بخصوص معركة أحد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] ( ) لبيان قبح منع المؤمنين من الدفاع عن المدينة عندما صار جيش الذين كفروا يبعد عنها بخمس كيلو مترات عند جبل أحد.
فصحيح أن المسلمين قدموا يومئذ سبعين شهيداً ، واصيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالجراحات الشديدة إلا أن جيش الكفار رجع خائباً ، لم يحقق بغيته ، إذ أنهم أرادوا الثأر ، لما نالهم في معركة بدر ، وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومنع توالي نزول آيات القرآن ، ولم يعلموا أن هذا التوالي هو من أهم أسباب حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ) لأن الله عز وجل أراد نزول تمام القرآن بمدة ثلاث وعشرين سنة فترة التنزيل .
وهل قول الكفار والمنافقين بخصوص الشهداء [لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا] ( ) صحيح ، الجواب إنها دعوة لا أصل له ، لأن كفار قريش زحفوا ليجعلوا المسلمين بين قتيل وأسير ، فيدخلون المدينة ويستبيحونها وينهبون الأموال ويسبون النساء والأطفال .
وحتى على فرض أن مراد المنافقين من لفظ [عِنْدَنَا] هو ذات سنخيتهم من النفاق والرياء فان المشركين عند غزوهم لا يميزون بينهم .
لقد قدم شهداء أحد أنفسهم قرباناً لحفظ الملة والمدينة من الغزو والإستباحة ، وبعثوا اليأس في نفوس الذين كفروا كما ثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة ليؤكد لهم أنهم لن ينالوا نصراً أبداً ، فقد كان عدد جيش المشركين نحو أربعة أضعاف عدد جيش المسلمين ، وكان النصر حليف المسلمين في بداية المعركة ، لولا ترك الرماة لمواضعهم يومئذ .
لقد تضمنت آية البحث خصالاً مذمومة للذين كفروا وهي :
الأولى :الخروج من الديار بغير حق ، لقد كانت قريش تخرج للتجارة فلم يأت في القرآن والسنة ذم لهم على هذا الخروج ، بل ذكر القرآن أنه رحمة بهم ونعمة من عند الله عز وجل عليهم ، كما في قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) .
لقد أخرجت قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من الصحابة من ديارهم من مكة مهاجرين بدينهم ، ثم ما لبثت قريش أن خرجت خلفهم لقتالهم ، ويدل في مفهومه على نعمة الله عز وجل على المسلمين بأن خرجوا فراراً خائفين من مكة ليصبحوا بعد أقل من سنتين جيشاً قادراً على الصبر في الميدان وإلحاق الهزيمة بالعتاة الذين أخرجوهم من ديارهم ، ثم غزوهم في دار الغربة .
الثانية : خروج جيش قريش من مكة بجعجعة السلاح ، والمناجاة بقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار ، وبالقاء القصائد الشعرية ، ودق طبول الحرب .
ويملي جوار البيت الحرام على أهله إجتناب الغزو والإفساد في الأرض وسفك الدماء ، فمن مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في إحتجاجه على الملائكة عندما قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) تفضله بجعل البيت الحرام أمنا للناس ، ومن مصاديق هذا الأمن عدم إيذاء مجاوريه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم خروجهم لقتاله ، قال تعالى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى] ( ) .
ولم يرد لفظ [وَأَمْنًا] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، ومن معاني الأمن عدم خروج أهله ومجاوريه منه بالسلاح لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وإمتناعهم عن الغزو والنهب والوأد والسرقة والربا وعبادة الأوثان .
لقد أراد الله عز وجل لقريش حفظ حنيفية إبراهيم ، ليكون هذا الحفظ مقدمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنهم تمادوا في الغي والغرور ، فاستكبروا واستنكفوا من السجود لله عز وجل ثم جهزوا الجيوش خلال ثلاثة أيام لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بحجة أنهم تعرضوا لقافلة أبي سفيان.
لقد كانت قريش تحضر في دار الندوة ويستحضرون تأريخ العرب ، وينشدون الأشعار التي قيلت في المعارك والحروب ، وحال السلم والإجارة وقصائد المدح والذم ، وأخبار الأمم ، كما كانوا يسمعون من القبائل والعرب ، ويختلطون بالروم وفارس وأهل الحبشة لذا كانوا على مرتبة من معرفة التأريخ ، فحينما أرادوا قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أوجدوا سبباً واختلقوا حجة وذريعة ، وقالوا لأهل مكة أنه وأصحابه يريدون سلب أموالكم والإستيلاء على القوافل ، وقطع أرزاقكم ، وقيل (فلما سمع أبو سفيان بمسير النبيّ صلى الله عليه وسلم استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكّة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم ويخبرهم أن محمداً قد عرض لعيرهم وأصحابه .
وخرج ضمضم سريعاً إلى مكّة وخرج الشيطان معه في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فأتى مكّة فقال : إنّ محمداً وأصحابه قد عرضوا لعيركم ف [لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ] ( ).
فغضب أهل مكّة وانتدبوا وتنادوا لا يتخلف عنا أحد إلاّ هدمنا داره واستبحناه ( )، أي أن التحريض على معركة بدر صدر من الشيطان ورؤوس الكفر والضلالة .
وقد فضح الله عز وجل زيف هذه الدعوى بأن بعث لهم أبو سفيان وهم في الجحفة لم يبتعدوا كثيراً عن مكة يخبرهم بأن القافلة قد سلمت ، وهي قريبة من مكة فارجعوا ، ورجع بنو زهرة ورجال من بني هاشم ، ولكن رؤساء قريش أصروا على الخروج بحجة الوصول إلى بدر للإقامة فيه ثلاثة أيام وإطعام العرب وسماع الأغاني ، وحينما وصلوا هناك أصروا على القتال والحرب ، وهذا القتال مكروه وقبيح بذاته ، فكيف وهو حرب على النبوة والحق ، وقتال لإغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعلموا أن الملائكة يحيطون به ويحفظونه بأمر من عند الله عز وجل .
الثالثة : صبغة وحال الذين كفروا عند الخروج إذ أنهم كانوا في بطر وفخر وغرور ، ومن أسباب هذا البطر الغنى وكثرة المال وعدم تسخيره في طاعة الله , وامتناعهم عن شكر الله عز وجل عليه.
وهل يختص نهي الله للمسلمين عن التشبه بالكفار في خروجهم بمعركة بدر أم أنه عام ومطلق .
الجواب هو الثاني إذ تبين الآية بالدلالة التضمنية على أن المسلمين سيكثر عددهم وتنمو وتزداد أموالهم فيجب ألا يخرجوا بطراً مثلما خرج الذين كفروا ، ويجب ألا يختاروا الظلم والتعدي عند الدفاع ، ولو شاء الله عز وجل لابتلى كفار قريش بالجوع والفاقة فلم يخرجوا للقتال ، ولكنه أبى إلا إكرام مجاوري البيت الحرام بالمال والثراء ، ودعاهم إلى عبادته لتكون واقعة بدر من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
ولم يكن مجاوروا البيت كلهم كفاراً إنما كانت أمة منهم مؤمنين بالله ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم المهاجرون إلى الحبشة وإلى المدينة ، ومنهم من بقى باسلامه في مكة .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمره الذي يدخل الإسلام لا يتركه ولا يرتد عنه ، وفي كل يوم يدخل أفراد رجالاً ونساءً من أهل مكة الإسلام ، وهل هذا الدخول من أسباب استعجال كفار قريش بقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر لجهالتهم ، الجواب نعم، لذا نعت الله عز وجل خروجهم بأنه بطر ومراءاة للناس .
لقد أراد الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم استئصال الخروج بطراً وفخراً ومراءاة للناس ، لبيان أن المسلمين لا يخرجون إلا للدفاع وبلباس التقوى والدعوة إلى الهدى والصلاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] ( ) .
فمن الأمر بالمعروف الحث على عدم الخروج من غير علة وضرورة دفاعية ، ومن مصاديق النهي عن المنكر المناجاة في الإمتناع عن الخروج بطراً وزهواً إذ كان كفار قريش يتباهون في خروجهم بأمور :
الأول : كثرة العدد والأبناء والأنصار والأتباع فتفضل الله بتوالي وسرعة دخول أبنائهم الإسلام .
الثاني : وفرة الأموال والخيل والإبل .
الثالث : الشجاعة والفروسية وإختيار القتال من جهة الزمان والمكان والكيفية .
وهل كان تقدم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد للمبارزة يوم بدر وأصرارهم على لقاء رجال من بني هاشم من البطر والرياء ، الجواب نعم ، لبيان أن صفة البطر والرياء عامة تتغشى جيش المشركين وهي خاصة بلحاظ تمادي الأفراد منهم بالغي والعتو واتباع نزغ الشيطان ، قال تعالى [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] ( ).
لبيان أن الإمتناع عن الصلاة مقدمة للرذيلة والغي واتباع الهوى.
الرابع : الشأن الرفيع لقريش بين القبائل ، وعند الدول آنذاك .
لقد أرادوا الحفاظ على هذا الشأن بقتال النبوة والتنزيل ، ولم يعلموا أن هذا القتال يفقدهم الشأن ، ويجعلهم الأخسرين في النشأتين .
الخامس : حاجة القبائل لقريش من وجوه :
أولاً : حج بيت الله الحرام , وتوافد القبائل في كل موسم إلى مكة .
ثانياً : أداء العرب مناسك العمرة طيلة أيام السنة .
ثالثاً : إقتراض أفراد من القبائل المال من قريش ، وكان الربا شائعاً عندهم ، وكيفيته أن تقوم قريش بتسليف المال إلى عام مثلاً وعند عجز المدين يضاعف المبلغ أو تجعل عليه زيادة مقدرة ، فنزلت آيات متعددة بتحريم الربا ، وزجر قريش عنه ، ومنه [قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ) ، ومنه قوله تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً .
رابعاً : منزلة قريش بين القبائل ، وقيامهم بحل الخصومات والمنازعات بينهم ، وبذل الأموال أحياناً في الصلح والوئام .
ووقعت حرب الفجار (43-33 قبل الهجرة )بين قبائل قيس عيلان ومنهم هوازن وغطفان وسليم وثقيف ومحارب , وبين كنانة ومنهم قريش وسميت حرب الفجار لإستحلال الطرفين القتل وسفك الدماء في الأشهر الحرم، ولقطعهم صلات الرحم ، وكانت أربعة أيام وهي :
الأول : يوم شمطة .
الثاني : يوم العبلاء عند عكاظ .
الثالث : يوم الشرب ، وهو أشدها وأمرها ، وهو الذي حضره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمره عشرون سنة , إذ قال (كنت أنبل على أعمامي) ( ) أي أصدّ عنهم نبل العدو عندما يرمونهم بها .
الرابع : يوم الحريرة عند نخلة ، وتواعدوا للقتال في العام التالي عند عكاظ ، وحضر الفريقان في الموعد للقتال ولا يعني اليوم في المقام هو المدة المحصورة بين طلوع الفجر الى مغيب الشمس إنما المراد مدة قتال مستمرة متتالية وان استغرقت أشهراً .
فركب عتبة بن ربيعة وكان صغيراً جمله وتقدم بين الصفين من غير أذن من حرب بن أمية الذي كان عتبة بن ربيعة يتيماً في حجره، وهم ينظرون إلى هذا الصبي ماذا يريد أن يفعل (فنادى : يا معشر مضر علام تقاتلون) ( ).
أي انكم أبناء عمومة واحدة فأسالوا أنفسكم هل من سبب وجيه لقتالكم .
فلم يتجاهل الفريق المقابل كلامه لما فيه من العقلانية ، ولكنهم حينما جاءهم النبي منادياً بين الفريقين (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) أعرضوا وشهروا السيوف بقصد قتله ورموا النبال عليه وعلى أصحابه المؤمنين .
وعندما سمعت هوازن كلام عتبة مع صغره قالوا له : (ما تدعو إليه)( )،
أي إذا لم يكن القتال هو الحل بينهما ، فما عندك .
(قال : الصلح ) ( ) .
ومن أسرار تفضل الله عز وجل بنفخ الروح في آدم ، وخلافة الإنسان في الأرض الميل العام الى الصلح ، وحتى الذي لا يرضى به حمية وعصبية وطلباً للثأر مثلاً فانه يلجأ إليه ويختاره ، وقد يختلف في بنوده وشرائطه .
ولا بأس ببيان قانون في علوم القرآن اسمه (قانون الصلح) وتوثيق الأمم المتحدة ورجال السلام لتأريخ الصلح بين الدول والقبائل والأمم وكيف أنه خير محض ونفع سواء الصلح الذي يتعقب الحرب والقتال أم الصلح الذي يأتي ابتداءً قبل وقوع القتال وهو من مصاديق قانون[وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
قالت هوازن : وكيف يكون الصلح ؟
أرادوا أن يسمعوا منه ما يعرضه من البدل والعوض أو الشروط .
فذكر عتبة ثلاثة أمور تتضمن كلها التنازل المطلق من قبل قريش وكنانة وهي :
الأول : أداء قريش ديات قتلى هوازن ، وكل دية مائة ناقة ، مما يدل على كثرة الإبل في الجزيرة آنذاك ، وهو الذي تجلى في غنائم المسلمين من هوازن يوم حنين عندما أصرت هوازن على الهجوم والغزو، وكان عدد الإبل وحدها يومئذ أربعة وعشرين ألف بعير.
أي أن عتبة عرض دفع قومه لديات قتلى الخصم .
الثاني : عفونا عن دماء قتلانا فلا نريد دية أو عوض لمن قُتل منا ، فرضيت هوازن وحلفاؤها وقالوا ، وكيف ذاك ؟
أي أنك صبي تعرض شروط الصلح وليست أكبرهم أو رئيس القوم ، وكان عتبة يتيماً في حجر حرب بن أمية ،وأرد أن يخرج معهم فضربه حرب وزجره ، ولكن خرج من غير إذنه ، وخفية عنه ، فلم يشعر حرب إلا وعتبة بين الصفين ينادي (يا معشر مضر علام تفانون) ( ).
لقد أرادت هوازن كيفية لضمان هذا الصلح ، مع سماع ما يدل على رضى رجالات قريش به .
الثالث : أجابهم عتبة قائلاً : ندفع إليكم رهناً منا ، أي نجعل عندكم رجالاً من أبنائنا ، يكونون نوع رهن عندكم حتى ندفع لكم ديات قتلاكم ، قالوا ومن لنا بهذا ؟
قال : أنا ، فرأوا أمراً عجيباً : صبي بين الصفين يتعهد بديات وشروط كالجبال ولم يستخفوا به، ومنهم من ظنّ أنه خرج باذن قومه .
قالوا : ومن أنت ؟
قال : أنا عتبة بن ربيعة .
فرضيت هوازن , ويظهر أنه معروف عندهم بنسبه , ودفعت كنانة وقريش إلى هوازن أربعين رجلاً رهينة منهم حكيم بن حزام ، فلما رأت هوازن ومن معها الرهن في أيديهم عفوا عن الدماء وأطلقوا الرهن وأنطوت صفحة حرب الفجار .
وقالوا : لم يسدّ ويترأس من قريش مملق فقير غير أبي طالب ، وعتبة فانهما سادا بغير مال قال تعالى[تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ]( )، وتدل الآية أعلاه على اتيان الله عز وجل الجاه والشأن لمن يشاء من باب الأولوية القطعية لأن الملك أعلى مرتبة من الجاه .
وجاء الإسلام ليؤسس للإجارة وعمومها ، وقبولها من أضعف المسلمين ، وان كن عبداً أو أمة ، وفيه رحمة بالناس ، ومنهم الكفار وهو واقية من إشاعة سفك الدماء مع تجلي منافع هذه الإجارة وصيرورتها سبباً لهداية الناس .
ومنها إجارة زينب بنت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لزوجها في مكة أبي العاص , ذكر ابن إسحاق ان أبا العاص أقام بمكة على كفره واستمرت زينب عند أبيها بالمدينة، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص في تجارة لقريش، فلما قفل من الشام لقيته سرية فأخذوا ما معه وأعجزهم هربا، وجاء تحت الليل إلى زوجته زينب فاستجار بها فأجارته.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الصبح وكبر وكبر الناس صرخت من صفة النساء: أيها الناس أجرت أبا العاص بن الربيع فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس فقال: ” أيها الناس هل سمعتم الذى سمعت ؟ ” قالوا: نعم.
قال: ” أما والذى نفس محمد بيده ما علمت بشئ حتى سمعت ما سمعتم، وإنه يجير على المسلمين أدناهم “.
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنته زينب فقال: ” أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له ” قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثهم على رد ما كان معه، فردوه بأسره لا يفقد منه شيئا.
فأخذه أبو العاص فرجع به إلى مكة، فأعطى كل إنسان ما كان له ثم قال: يا معشر قريش، هل بقى لاحد منكم عندي مال لم يأخذه ؟ .
قالوا: لا فجزاك الله خيرا , فقد وجدناك وفيا كريما.
قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعني عن الاسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت.
ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ).
وإذ آوى أبو طالب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وذبّ عنه ، فان عتبة غوى وأخذته حمية الجاهلية وطلب المبارزة يوم بدر لنفسه وأخيه وابنه الوليد ، مع أن ابنه الآخر أبا حذيفة مؤمن يقف إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ , وذكر أنه سأل مبارزة أبيه ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهاه ومنعه .
لقد تنازلت قريش عن دماء قتلاهم وعرضوا دفع ديات قتلى خصمهم ، ولم يكن قتالهم إلا بالباطل ، ومن نزغ الشيطان ، فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لهدايتهم إلى جادة الصواب ، ونشر مفاهيم الأخوة والمودة وأسباب الأمن بينهم ، إذ صاروا تحت لواء الإسلام متكاتفين ، قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ) .
وهل يمكن القول أن العرب كانوا في طريق الإنقراض والفناء والإنصهار في الأمم الأخرى لولا بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم كانوا يتقاتلون بينهم ، ويأدون البنات ، وهذا الوأد وحده سبب لقلة النسل ، الجواب يلزم التحقيق والدليل في المقام ، والأصل عدم الإنقراض لأن الله عز وجل جعل الناس أمماً وحفظ تلك الأمم بفضل منه تعالى ، نعم ببعثته النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علا شأن العرب ، وعاشوا بأمن وسعادة ، وتكاثروا وانتشروا في الأمصار لذا جاءت آية البحث مقدمة وتحذيراً من الظلم والتعدي وكثير من الأمم لم يبعث لها نبي وتعرضت للغزو المتكرر ، ولكنها بقيت وحافظت على شأنها الخاص مع الإقرار بالتداخل بين الأمم وانقراض بعضها .
ويطلق لفظ الأمة على الجماعة والطائفة ، قال تعالى [قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
لقد خرج جيش الذين كفروا إلى معركة بدر بطراً وهم فرحون ، وقال الله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ] ( ) .
(عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله يحب كل قلب حزين) ( ).
لقد كان كفار قريش بجمعهم وكثرة جيشهم وفرحوا برؤية قبائل العرب لقوتهم وشدة بأسهم ، وتناقل أمر هذا الجيش عند الناس سواء قبائل العرب أو الدول العظمى آنذاك ، وكانوا يرجون أموراً :
الأول : زيادة هيبة قريش .
الثاني : سلامة قوافل قريش ، وعدم تجرأ أفراد القبائل عليها ، فقد أدرك رجال قريش أن تكرار الأخبار بأن النبي محمداً وأصحابه سيتعرضون لقوافل قريش سبب في إغواء القبائل بها ، فأرادوا زجرهم عن الهجوم والإغارة على قوافلهم .
الثالث : منع مسلمي مكة من الهجوم على المدينة لأن قريشاً تشيع أنباء بأنهم سيؤسرون الذين هاجروا إليها فابتلاهم الله عز وجل ووقع سبعون منهم أسرى بأيدي المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) .
الرابع : إظهار قريش سيادتهم في الجزيرة ، وخروجهم بالجيوش في أطرافها .
الخامس : صدّ القبائل عن دخول الإسلام وعن عقد الصلح والموادعة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ليكون من معاني ومصاديق قوله تعالى [وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] ( ) في آية البحث وجوه :
الأول : قيام المشركين بمحاولة منع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أداء الصلاة في المسجد الحرام ، وإيذائه أثناءها ، وفي التنزيل [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى *عَبْدًا إِذَا صَلَّى] ( ).
الثاني : إفتراء المشركين على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسخرية منه ، وفي التنزيل [وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ] ( ) لإرادة المشركين صدّ الناس عن الإستماع والإنصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والتدبر في معجزاته .
الثالث : إيذاء وتعذيب المسلمين الأوائل الذين في مكة .
الرابع : تحريض القبائل في الجزيرة على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : ذات الخروج إلى معركة بدر صدّ عن سبيل الله .
السادس : منع المشركين لأنفسهم من دخول الإسلام ، ويمكن أن نسميه (الصدّ الذاتي) ومنه صد الذين نافقوا لأنفسهم عن الإنصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بما جاء به، وتصديقه , قال تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا]( )، والصّد في المقام نوع مفاعلة بين أطراف :
الأول : الصاد ، وهو الذي يصد نفسه وغيره.
الثاني : ذات الصد والمنع ، وهو على شعب :
الأولى : كيفية الصد .
الثانية : موضوع الصد .
الثالثة : الغاية من الصدّ.
الرابعة : كم ومقدار الصدّ.
الخامسة : علة وأسباب الصدّ.
الثالث : المصدود.
لينطبق على وجوه أخرى :
أولاً : صدّ المشرك أصحابه عن سبيل الله .
ثانياً : منع المشرك نفسه من الإيمان .
ثالثاً : حمل المشرك عياله على الإقامة على الكفر والشرك كرهاً.
رابعاً : سعي المشرك في إكراه غلمانه وعبيده على البقاء على الكفر والإمتناع عن التدبر في معجزات النبوة .
ومن الآيات خيبة المشركين وعجزهم عن تحقيق مآربهم في أي من الوجوه أعلاه ، وهو من مصاديق قوله تعالى فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ لتكون مصاديق الخيبة المذكورة في الآية أعلاه على وجوه :
الأول :خيبة الذين كفروا في بداية المعركة بقتل حملة لوائهم واحداً بعد الآخر، وهم من أشجع فرسانهم .
الثاني : هزيمة الذين كفروا في بدايات معركة أحد ، قال تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( ).
الثالث : الخيبة في معركة أحد بالعجز عن قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : خيبة الكفار من أسر المهاجرين والأنصار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : كشف زيف دعوى قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد فقد أشاع ابن قمئة أنه قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن الآيات أن النبي لم يغادر ميدان المعركة لبيان تجلي مصداق لقوله تعالى [فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، بثبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وفيه تأكيد قانون وهو لابد من وجود مصداق في عالم الفعل والواقع للآية القرآنية ، وأمتثال أمة من الناس لما فيها من الأوامر وأجتنابهم لما نهى الله عز وجل عنه .
ولم يرد لفظ(اثبتوا) في القرآن إلا في الآية أعلاه للدلالة على قانون وهو قلة معارك المسلمين من جهات :
الأولى : ثبات المسلمين سبب لإمتناع المشركين عن تكرار الهجوم على المسلمين .
الثانية : دلالة الأمر بالثبات على عدم الهجوم والغزو .
الثالثة : الثبات من مصاديق الدفاع، فجاءت الآية أعلاه ليكون واجباً عينياً على المؤمنين في الميدان وليس واجباً كفائياً، كما في قوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( ) إذ جاءت الآية أعلاه بصيغة الجمع للأمر الى كل مسلم ومسلمة بلزوم أداء الصلاة.
ومن الآيات أن النبي محمداً لم يكن وحده في الثبات في الميدان بل ثبت معه نفر من أهل البيت والصحابة بعد أن سقط سبعون شهيداً ، وهذا الثبات من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
وقيل أن ابن قمئة قتل مصعب بن عمير فظنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان ينادي دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا ورمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وجرحه في وجهه وسالت الدماء منه ، وقال (خذها و أنا ابن قمئة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : أقماك الله عز و جل قال ابن جابر : انصرف ابن قمئة من ذلك اليوم إلى أهله فخرج إلى غنمه فوافاها على ذروة جبل فأخذ فيها يعترضها ويشد عليه تيسها فنطحه نطحة أرداه من شاهقة الجبل فتقطع) ( ).
وفي قوله تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( )، ورد أن الشيطان صاح يوم أحد قتل محمد( ).
لقد نادى ابن قمئة بين الصفين بعد أن رمى النبي محمداً بحجر وسال الدم من وجهه، قتلت محمداً، فانسحب عدد من المسلمين، وقال بعض المنافقين : نبعث إلى عبد الله بن أبي بن أبي سلول , وهو رأس النفاق لطلب الأمان من أبي سفيان، وقيل أن بعض المنافقين اعلن ردته حينئذ صراحة ، وقد نزل القرآن بشدة عذاب المنافقين، قال تعالى[فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا]( )
السادس : ظهور الخيبة على الذين كفروا في طريق العودة من معركة أحد فما أن ساروا مسافة حتى تلاوموا بينهم وقالوا بأنهم لم يقتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولم يأسروا طائفة من المسلمين، ولم يسبوا نساء منهم، وعزموا على الرجوع فبعث الله عز وجل الخوف في نفوسهم، وبلغهم أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بجيوش من أصحابه لمحاربتهم فاختار الإستمرار في المسير الى مكة بأسى وحزن، وصحيح أن النبي محمداً خرج خلفهم ولكن لم يكن معه إلا مائتان ونيف من المهاجرين والأنصار يحملون معهم جراحاتهم.
السابع : خيبة المشركين لفقدهم اثنين وعشرين من فرسانهم ورجالاتهم في معركة أحد، ومنهم:
الأول : طلحة بن أبي طلحة ، واسم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى ( ) بن عثمان بن عبد الدار، وقتل أبي طلحة هذا الإمام علي عليه السلام.
الثاني : أبو سعيد بن أبي طلحة، قتله الإمام علي عليه السلام ويقال قتله سعد بن أبي وقاص.
الثالث : عثمان بن أبي طلحة ، قتله حمزة بن عبد المطلب.
الرابع : مسافع بن طلحة ، قتله عاصم بن ثابث.
الخامس : الجلاس بن طلحة.
السادس : كلاب بن طلحة.
السابع : الحارث بن طلحة.
الثامن : صؤاب ، غلام حبشي لبني أبي طلحة .
التاسع : ارطأة بن عبد شرحبيل.
العاشر : أبو يزيد بن عمير من بني عبد الدار.
الحادي عشر : القاسط بن شريح بن هاشم بن عبد مناف( ).
الثاني عشر : أبو الحكم بن الأخنس بن شريق الثقفي، وهو حليف لبني زهرة قتله الإمام علي عليه السلام، وأنصرف بنو زهرة في الطريق إلى معركة بدر , ولم يشتركوا في بدر إذ أخذوا بمشورة الأخنس بن شريق نفسه، وأبو الحكم هذا هو الذي قتل عبد الله بن جحش يوم أحد .
وكان عبد الله قد قاتل يومئذ حتى(انقطع سيفه، فاعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرجون نخلة، فصار في يده سيفاً يقال ان قائمه منه وكان يسمى العرجون ولم يزل يتناقل حتى بيع من بغا التركي بمائتي دينار( )، ودفن عبد الله مع حمزة بن عبد المطلب في قبر واحد.
وكان بغا التركي من غلمان المعتصم العباسي ,وقد بلغ عمره نيفاً وتسعين سنة وهو يباشر( من الحروب ما لم يباشره أحد، فما أصابته جراحة قط، وتقلّد ابنُه موسى بن بُغَا ما كان يتقلّده، وضم إليه أصحابه، وجعلت له قيادته، وكان بُغَا دَيِّناً من بين الأتراك، وكان من غلمان المعتصم، يشهد الحروب العظام، ويباشرها بنفسه، فيخرج منها سالماً، ويقول: الأجل جوشن بُغَا يرى رسول اللّه في الحلم
ولم يكن يلبس على بدنه شيئاً من الحديد، فعذل في ذلك، فقال: رأيت في نومي النبيَّ صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من أصحابه فقال لي: يا بُغَا، أحسنت إلى رجل من أمتي فدعا لك بدعوات استجيبت له فيك .
فقلت: يا رسول اللّه ومَنْ ذلك الرجل؟ قال: الذي خَفَصته من السباع، فقلت: يا رسول اللّه، سَلْ ربك أن يطيل عمري، فرفع يديه نحو السماء وقال: اللّهم أطِلْ عمره، وأتم أجله، فقلت: يا رسول اللّه، خمس وتسعون سنة، فقال رجل كان بين يديه: ويُوَقّى من الآفات .
فقلت للرجل: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، فاستيقظت من نومي، وأنا أقول: علي بن أبي طالب.
قصة له مع طالبي وكان بُغَا كثير التعطف والبر للطالبيين، فقيل له: من كان ذلك. الرجل الذي خلصته من السباع. قال: كان أتى المعتصم برجل قد رمي ببدعة، فجرت بينهم في الليل مخاطبة في خلوة، فقال لي المعتصم: خذه فألقه إلى السباع، فأتيت بالرجل إلى السباع لألقيه إليها وأنا مُغْتَاظ عليه .
فسمعته يقول: اللهم إنك تعلم ما تكلمت إلا فيك، ولم أرد بذلك غيرك، وتقرباً إليك بطاعتك، وإقامة الحق على من خالفك، أفتسلمني؟ .
قال: فارتعدْتُ وداخلتني له رِقًة، وملئ قلبي له رعباً، فجذبته عن طرف بركة السباع، وقد كدت أن أَزُجَّ به فيها، وأتيت به حجرتي فأخفيته فيها، وأتيت المعتصم فقال: هيه، قلت: ألقيته، قال: فما سمعته يقول؟ قلت: أنا عجمي وهو يتكلم بكلام عربي ما أدري ما يقول، وقد كان الرجل أغْلَظَ، فلما كان في السحر قلت للرجل: قد فتحت الأبواب وأنا مخرجك مع رجال الحرس، وقد آثرتك على نفسي، ووَقَيْتكَ بروحي، فاجْهَدْ ألاَّ تظهر في أيام المعتصم، قال: نعم، فما خبرك.
قال: هجم رجل من عماله في بلدنا على ارتكاب المكاره والفُجُور وإماتة الحق ونَصْر الباطل، فسَرَى ذلك إلى فساد الشريعة، وهَدْم التوحيد، فلم أجد عليه ناصراً، فوثبت عليه في ليلة فقتلته؟ لأن جرمه كان يستحق به في الشريعة. أن يفعل به ذلك( ).
الثالث عشر : عبد الله بن حميد بن زهير من بني أسد بن عبد العزّى، قتله الإمام علي عليه السلام.
الرابع عشر : سِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى – وَاسم عَبْدِ الْعُزّى : عَمْرُو بْنُ نَضْلَةَ بْنِ غُبْشَانَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ مَلَكَانِ بْنِ أَفْصَى – حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ خُزَاعَةَ ، قَتَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ .
الخامس عشر : هِشَامُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، قَتَلَه ُ قُزْمَانُ.
السادس عشر : الْوَلِيدُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، قَتَلَهُ قُزْمَانُ ,
السابع عشر : أَبُو أُمَيّةَ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ .
الثامن عشر : خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ حَلِيفٌ لَهُمْ قَتَلَهُ قُزْمَانُ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ .
التاسع عشر : عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ ، وَهُوَ أَبُو عَزّةَ قَتَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَبْرًا.
العشرون : أُبَيّ بْنُ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ ، قَتَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِيَدِهِ .
الحادي والعشرون : عُبَيْدَةُ بْنُ جَابِرٍ قتله عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ( ).
الثاني العشرون : شَيْبَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْمُضَرّبِ قَتَلَهُمَا قُزْمَانُ .
الثامن : خيبة المشركين لأنهم لم يحققوا ثأرهم من خسارتهم وهزيمتهم في معركة بدر.
لقد كانت قريش على بصيرة بأيام العرب، يتذاكرون المعارك التي وقعت فيما بين القبائل العربية , وما بين العرب والفرس، أو العرب والروم، وما بين الدول الكبرى، ويدل عليه قوله تعالى [الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ]( )، إذ كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم.
أما المسلمون فكانوا يحبون النصر للروم لأنهم أهل كتاب، وعلى دين النصرانية، مما يدل على معرفة قريش وأهل الجزيرة بأحوال الأمم، وماهية الصلات بين الدول الكبرى خاصة وأن قريشاً أهل تجارة ، وتجوب قوافلهم الجزيرة، وتقطع البراري لتصل الى اليمن والشام ومصر والحبشة .
ومن المتعارف والظاهر أن أي حرب تؤثر سلباً على طرق التجارة سواء في الأزمنة السابقة أو الزمن الحاضر، فلابد أن يتابع التجار الأحوال والسرب والأمن في الطريق , وتكون الحروب سبباً لإضرار الخلايا النائمة من السراق وقطاع الطرق بالمصالح الخاصة والعامة ، لذا فان النبي محمداً لم يغز أحداً ولم ينشر أسباب القتال والحرب , كما أن القرآن والسنة يهذبان عالم الأفعال .
فلما ذكرت مسألة القتال بين فارس والروم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة قال: سيغلب وينتصر الروم، فقام أبو بكر بنقل كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المشركين فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا . فجعل بينهم أجلاً خمس سنين ، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : الا جعلته أراه قال : دون العشر فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله { الم غلبت الروم }( ) فغلبت ، ثم غلبت بعد . يقول الله { لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله }( ) قال سفيان : سمعت أنهم قد ظهروا عليهم يوم بدر، عن ابن عباس( ).
التاسع : ندامة كفار قريش على الإستعداد لمعركة أحد لمدة عام ، وانفاق الأموال الطائلة من غير أن يحققوا أي غاية سعوا إليها.
العاشر : إقامة الحجة على الذين كفروا، فهم الذي قاموا بغزو المسلمين في بلدهم، ومع هذا رجعوا خائبين، لبيان مصداق من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، أن من وجوه الحجة حال الحسرة والخيبة عند الذين كفروا بسوء ما كسبت أيديهم.
الحادي عشر : خيبة الذين كفروا بسبب سخرية أهل مكة والقبائل بهم لتعديهم وظلمهم ورجوعهم خاسرين نادمين ،وفي التنزيل [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ]( ).
ومن بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة الناس في حال تدبر في الوقائع، واستقراء معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام ، وفي التنزيل[وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( ).
الثاني عشر : خيبة الذين كفروا عند رجوعهم إلى مكة حيث تلقاهم أهلها بالسخرية والتبكيت والتوبيخ لأن أخبار عجزهم عن تحقيق نصر في المعركة قد بلغ مكة والقرى التي حولها قبل دخول جيش المشركين لها.
ومن خصائص الجيش المنكسر والذي لم يحقق غايته التباطئ في المشئ وكيفية الإنسحاب.
الثالث عشر : لما عاد المشركون الى مكة وجدوا أهلها على حال غير التي غادروها بها مع قصر المدة التي فارقوها فيها من جهات:
الأولى : إظهار المسلمين فيها إسلامهم، وتلاوتهم آيات القرآن وفيه غيظ وكبت للذين كفروا من أهل مكة وغيرها، فقد ظنوا انحسار معالم الإيمان في مكة بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وكبار أصحابه ولكن عدد المسلمين في مكة صار في إزدياد وإطراد.
الثانية : دخول طائفة من أهل مكة في الإسلام.
الثالثة : دخول الإسلام إلى بيوت رؤساء الكفر، ومنهم من قتل في معركة أحد، فيرجع أصحابه من المشركين ويتوجهون ليعزوا أبناءه فيجدونهم قد دخلوا الإسلام، ويوجهون اللوم لرؤساء الكفر على إخراجه معهم.
الرابعة : حال الركود الاقتصادي في مكة ، وقلة البيع لإنشغال الناس بالقتال ومقدماته وتسخير الإبل والمؤون له ، وغياب الرجال عن مكة .
الرابع عشر : إصابة الذين كفروا بالخيبة لمراتب العز التي بلغها المسلمون بثبات دولتهم في وجه هجوم وغزو الذين كفروا ، ففي كل مرة يغزو فيها المشركون المدينة المنورة ويرجعون خائبين يزداد المسلمون قوة وعزاً ومنعة .
الخامس عشر : خيبة الذين كفروا لإدراك الناس لقبح إفترائهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى التنزيل ، فلقد نعتوا النبي محمداً بالجنون ، ولاقوا آيات القرآن بالإستخفاف والسخرية .
وفي التنزيل [أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ] ( ) إذ اجتمعت قريش قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة في دار الندوة المطلة على البيت الحرام .
وقالوا : أوثقوه وأحبسوه حتى يهلك مثلما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة .
ليتوجه عامة الناس إلى التدبر في آيات القرآن والتسليم بنزولها من عند الله مع السخط على كفار قريش لمحاولتهم إضلال الناس ، وهو الذي يتجلى في قوله تعالى في آية البحث [وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] ( ).
فلابد أن الناس يدركون هذا الصدّ وقبحه مع توجيه اللوم والذم للذين يقومون به ، وهو من أسرار التضايف بين العقل والنبوة ، ومخاطبة النبوة للعقل واستجابة العقل لآياتها ، وهما مجتمعان ومتفرقان يمنعان من القتل العشوائي وسفك الدماء بغير حق واشاعة الفساد .
وهل خروج قريش لغزو المسلمين من الأرهاب وزراعته ، الجواب نعم ، وهو أمر جلي وظاهر ، فجاءت آيات القرآن ببيان قبحه وتحذير الناس منه ومن ذات سنخيته.
ومن الإعجاز في السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه ترك المشركين في معركة أحد يزحفون حتى أشرفوا على المدينة بخيلهم وخيلائهم ، وصارت أخبار جموعهم وتهديدهم تصل إلى أزقتها ، عندها خرج إليهم للدفاع لتشهد أجيال الناس بأن المشركين هم المعتدون الغازون مع إنتفاء سبب هذا الغزو والهجوم ، وفي التنزيل [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
ترى ماذا لو لم يهجم المشركون في معركة أحد، الجواب فيه السلامة من القتل والإقتتال وزهوق الأرواح وخسارة الأموال .
وتحتمل الخيبة التي أصيب بها المشركون وجوهاً :
الأول : أنها خيبة واحدة تتصف بالبقاء .
الثاني : أنها خيبة واحدة مع عرض زائل .
الثالث : إنها خيبة متجددة ، ولها مصاديق مستحدثة وباستثناء الوجه الثاني أعلاه فان الوجوه الأخرى من مصاديق الخيبة ، ليكون من معاني تقدير الآية [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) وجوهاً :
الأول : فينقلبوا خائبين حال الرجوع إلى مكة .
الثاني : فينقلبوا خائبين في الطريق إلى مكة إذ كثر بينهم التلاوم .
الثالث : فينقلبوا خائبين عند دخولهم مكة .
الرابع : فينقلبوا خائبين وكذا جزاء الذين يغزون المؤمنين .
الخامس : فينقلبوا خائبين لأن الخيبة عاقبة الفساد والغزو بغير حق .
السادس : فينقلبوا خائبين إنذار لهم من العودة إلى القتال مرة أخرى .
السابع : فينقلبوا خائبين .
وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة جزاء الذين كفروا بالخيبة .
الثامن : فينقلبوا خائبين ، وكذا جزاء الذين يحاربون النبوة والتنزيل ، ولم تتعظ قريش من هذه الآية التي نزلت في معركة أحد ، إذ زحفوا بعدها بسنتين في معركة الأحزاب ، فكانت ذات العاقبة بانتظارهم وهي الخيبة والحسرة والندامة ، وكذا لم تتعظ هوازن وثقيف من الآية أعلاه وعاقبة كفار قريش إذ جمعت هوازن وثقيف الجموع الكبيرة ليهجموا بغتة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عند خروجهم من مكة بعد الفتح متوجهين إلى المدينة المنورة قال تعالى [إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا]( ).
لقد إبتدأت آية البحث بنهي المسلمين عن محاكاة الظالمين يوم معركة بدر بقوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ] ( ) ويحتمل موضوع النهي وجوهاً :
الأول : النهي عن البطر والفخر عند الخروج فلابد أن يخرج المسلمون بلباس التقوى ، ويتغشاهم الخشوع لله عز وجل ، وفيه واقية من الظلم والتعدي وإتلاف المزروعات والمواشي .
الثاني : المنع من الرياء الذي هو قبيح ، وفي بعض الأخبار أنه محبط للعمل (عن أبي سعد بن أبي فضالة الأنصاري – وكان من الصحابة – : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا جمع الله الأوّلين والآخرين ليوم لا ريب فيه ، نادى منادٍ : من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً ، فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك) ( ) وكان خروج المشركين عداوة لله ورسوله ومراءاة للناس ، فهو قبيح بذاته ، وهو شعبة من الكفر والجحود وهو غير الرياء المنهي عنه في العبادة كما لو صلى المسلم ليرى الناس حسن صلاته ، وليس بقصد القربة إلى الله عز وجل.
لقد اتخذ مشركوا قريش من الرياء والسمعة نوع وسيلة وسبب لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وجاءت آية البحث لتنهى المسلمين عن الرياء مطلقاً سواء في الخروج أو في عمل الصالحات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأراد الله عز وجل للمسلمين أن يكون عملهم خالصاً لوجهه سبحانه .
الثالث : تضمنت الآية النهي عن التشبه بالذين كفروا بالذات والفعل ، وتقدير الآية : لا تكونوا كالكفار الذي خرجوا من ديارهم ) إذ تذكر الآية المسلمين بأن خروجهم من مكة كان في سبيل الله وهجرة إلى رضوانه ، وفي النبي لوط ورد في التنزيل [إِنِّي مهاجر إِلَى رَبِّي] ( ) ولم يرد لفظ [مهاجر] في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان أن هجرته لم تكن هجرة دفاع ، ولم يطلبه القوم الكافرون ليقتلوه .
أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد هاجر لإرادة قريش قتله في فراشه فأمره الله عز وجل بالهجرة في تلك الليلة ، وهو من أبهى مصاديق الصبر والتحمل والرضا بأمر الله ,فجهزت قريش الجيوش العظيمة لقتاله وقتله وهو بعيد عنهم في المدينة .
لقد توجهت آية البحث بالخطاب إلى المسلمين لحب الله عز وجل لهم ، وبيان قانون التباين والتضاد بينهم وبين الذين كفروا ، وإرادة دعوة الذين كفروا والناس جميعاً إلى منازل الإيمان ، ومن معاني قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ] ( ) إدراك الذين كفروا لما هم عليه من الضلالة في مناجاتهم بالباطل والإقامة على نهج الضلالة .
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية تلاوة كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) لبيان تنزههم عن محاكاة الذين كفروا في القول والفعل مع إعلان المسلمين الخضوع والخشوع لله عز وجل وإقرارهم بالحاجة إلى رحمته ودوام فضله ، وعندما يدرك الفرد والجماعة النقص والضعف والحاجة إلى الله فأنهم يمتنعون عن البطر والرياء وفي التنزيل[يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ]( ).
ولم يعلم الذين كفروا أن أجيال المسلمين المتعاقبة اتعظوا منهم ، وتقيدوا بأحكام آية البحث بالإمتناع عن محاكاتهم في بطرهم وفخرهم وريائهم ليتوارث المسلمون سيماء الزهد والصلاح ، ويجتنبوا الزهو والغرور والفخر الذي قد يتفرع عند الظلم وعدم إنصاف الغير .
الرابع : موضوع ومسائل النهي الوارد في آية البحث أعم من البطر والرياء ، إذ جاء مطلقاً لبيان المائز الذي يتصف به المؤمنون ، وتزيينهم الأرض بخصال الإيمان وحسن السمت ، وتعاهدهم عبادة الله وأداء المناسك .
لقد خرج الذين كفروا من مكة ومن جوار البيت الحرام لمحاربة النبوة والتنزيل ، وهو من مصاديق البطر والرياء .
ومن الإعجاز في نظم هذه الآيات مجئ آية البحث معطوفة على آيتين تتضمن كل منهما النداء التشريفي للمسلمين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] مع جملة من الأوامر وهي :
الأول : الثبات عند لقاء فئة من المشركين بقوله تعالى [إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا] ( ) ولم تقل الآية فاهجموا وأغزوا واقتلوا ، إنما أمر الله المسلمين بالثبات لينزجر الذين كفروا عن القتال والهجوم ، فلو ثبت كل فريق من الجمعين في محله وموضعه يقع قتال .
وتدل الآية على عصمة المسلمين من غلبة النفس الغضبية والشهوية فلا يطمعون بالعدو ويهجمون عليه، إنما يثبتون في مواضعهم وهم في تكبير وتسبيح ودعوة للناس للتهليل وقول لا إله إلا الله.
وهل يصح تقدير الآية : واثبتوا وأرموا العدو بالسهام الجواب : لا دليل عليه والأصل عدم الأمر بالرمي .
الثاني : تهيئة أذهان المسلمين إلى لقاء العدو ، وما يجب عليهم من الثبات، وليكون قوله تعالى [إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً] ( ) من وجوه العمل بقوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] ( ) .
بتقريب أنه متى ما لقيتم الذين كفروا فانكم قد تهيئتم للقاء وأعددتم له العدة .
الثالث : بيان الآية لقانون وهو أن الذين يلاقيهم المسلمون إنما هم فئة من الكفار ، وهل في الآية زجر ونهي عن قتال المسلمين فيما بينهم , الجواب نعم .
الرابع : من إعجاز الآية أنها ذكرت العدو الذي يلاقي المسلمين بصفة (الفئة ) وهي الطائفة من الناس ( والجمع فئات وفئون ) ( ) .
وقد يرد هذا اللفظ بعنوان المدد والعون والفرقة الكامنة والمقيمة خلف الجيش للرجوع إليها عند الفرار أو الإنسحاب ، إذ تكون في موضع وحال تقدر معه على دفع الذين يطاردون أفراد الجيش ، ففي الآية بشارة لقلة وضعف رجال العدو .
فان قلت لقد كان عدد جيش المشركين في كل من معركة بدر وأحد والخندق ثلاثة أضعاف جيش المسلمين أو أكثر ، والجواب هذا صحيح ، ولكن الآية تدل على عدم موضوعية كثرتهم هذه ، وعدم ترتب الأثر عليها ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ] ( ) بالإضافة إلى كثرة عدد جيش المسلمين بالمدد الملكوتي .
ومن الآيات أن الملك الواحد إذا نزل من السماء فانه قادر على إبادة كل أفراد العدو الكفار فكيف وقد أخبر الله عز وجل عن نزول ملائكة أكثر من عدد جيش المشركين أو مساوِ له سواء في معركة بدر بقوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) وكان عدد المشركين بين التسعمائة إلى الألف .
أو في معركة أحد قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ) وكان جيش المشركين نحو ثلاثة آلاف .
الخامس : لقد ورد قوله تعالى [فَاثْبُتُوا] فهل يختص بالمسلمين الذين في الميدان ، الجواب لا ، إنما يشمل كلاً من :
أولاً : عموم المسلمين الذين لم يخرجوا في الكتائب والسرايا .
ثانياً : المسلمات , وصحيح أن القتال ساقط عن النساء ، ولكن ثبات المؤمنات في منازل الإيمان عون للمدافعين ، كما يفيد حث المؤمنين على الثبات ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
ثالثاً : مسلموا مكة والقبائل الذين دخلوا الإسلام ولم يهاجروا ، إذ يجب عليهم الثبات في مقامات الإيمان .
فمن إعجاز الآية أنها لم تقيد الثبات بلحاظ موضع القتال ، إذ قال الله تعالى [فَاثْبُتُوا]ويكون تقديره على وجوه :
أولاً : واثبتوا في منازل الإيمان .
ثانياً : ثبات المسلمين في ميدان القتال .
ثالثاً : إرادة عدم الهجوم ومطادرة العدو والغزو ، فان آيات القرآن هي التي تلاحقهم وتطاردهم .
رابعاً : اثبتوا في أداء الصلاة والفرائض في أوقاتها .
وهل منه قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلى) ( ) ، الجواب نعم.
خامساً : ثبات المؤمنين في أيام الفتن ، وتقدير الآية : يا أيها المهاجرون والأنصار أثبتوا في ميدان المعركة , ويا أيها الذين آمنوا في الأجيال المتعاقبة إلى يوم القيامة أثبتوا على الإيمان .
سادساً : ثبات المسلمين في آخر الزمان عند خروج الدجال ونحوه من أسباب الفتن (عن النوّاس بن سَمْعان قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدجال ذات غداة، فخفَّض فيه ورَفَّع، حتى ظنناه في طائفة النخل( ) .
فلما رحلنا إليه عرف ذلك فينا .
فقال: “ما شأنكم؟” .
قلنا: يا رسول الله، ذكرت الدجال غداة فخفَّضت فيه ورفَّعت حتى ظنناه في طائفة النخل .
فقال: غير الدجال أخْوَفُني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حَجيجه دونكم، وإن يَخْرُجْ ولست فيكم فامرؤ حَجيجُ نفسه، والله خليفتي على كل مسلم:
إنه شابٌّ قَططُ عينه طافية، كأني أشبهه بعبد العزى بن قَطَن، من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارجُ خَلَّة بين الشام والعراق، فعاثَ يمينًا وعاثَ شمالا. يا عباد الله، فاثبتوا”:
قلنا: يا رسول الله، وما لَبْثَتَه في الأرض؟
قال: “أربعين يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم”)( ).
سابعاً : يا أيها الذين آمنوا لقد ثبت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في ميدان القتال فاثبتوا أنتم على الإيمان ولا ترتدوا عن الإسلام ، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا]( ).
ثامناً : اثبتوا بذكر الله ، فصحيح أن الآية عطفت الأمر بالذكر على الأمر بالثبات إلا أنه لا يمنع من التداخل بينهما، وصيرورة كل فرد منهما مقدمة للآخر .
لقد تقابل المسلمون مع المشركين في معركة بدر ومعركة أحد ومعركة الخندق ، ويحتمل جهات :
الأولى : انه من تقابل الضدين وهما صفتان وجوديتان قد يتعاقبان على موضع واحد، ولكنهما لا يجتمعان كالبياض والسواد.
الثانية : إنه من تقابل النقيضين أي اللذان لا يجتمعان في محل وزمان واحد، ولا يرتفعان كالوجود والعدم، والحياة والموت ، والنهار والليل.
الثالثة : انه من التغاير والتباين.
الرابعة : إنه من الملكة وعدمها، مثل حاسة البصر والعمى .
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق التباين بين أهل الإيمان والذين يقابلونهم من الكفار .
ومن الآيات أن أهل الحق يمتنعون عن القتال والغزو، والذين كفروا يصرون على القتال واتباع خطوات الشيطان فينزل بهم الجزاء الإبتدائي العاجل بالخسارة والهزيمة، قال تعالى[وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا]( ).
لقد وردت مادة أخرج في القرآن , كما في قوله تعالى [الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] ( ) [وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) .
لبيان أن المشركين لم يكتفوا باخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من ديارهم من مكة ، بل خرجوا خلفهم لقتالهم وهم في حال بطر وزهو وعتو فتفضل الله عز وجل وانتقم منهم في معركة بدر ، ثم نزلت آية البحث .
وهل فيها تحذير للمسلمين من إخراج الناس من ديارهم بغير حق ، الجواب نعم ، ومن معانيه نسبة الديار لهم ، فمع أن مشركي قريش كفار وظالمون ، إلا أن الآية أخبرت عن عائدية الديار والبيوت لهم بقوله تعالى [مِنْ دِيَارِهِمْ] ، وفيه دعوة للمسلمين لتعاهد الملكية الخاصة والحقوق الفردية لعموم الناس وأهل الملل، ولا يصح الإستيلاء عليها حتى مع جناية صاحبها .
نعم من مصاديق الشكر لله عز وجل عدم الخروج من الديار بطراً وظلماً وتعدياً ، فجاءت آية البحث ليتعظ المسلمون من قبيح فعل المشركين ويجتنبوه وإلى يوم القيامة ليعيش أهل الأرض بأمن وأمان بعيداً عن الخشية من الغزو والهجوم عليهم .
وهذا الأمن مناسبة للتفكر في الآيات الكونية ، وهو مقدمة لأداء الفرائض والعبادات ، وفي التنزيل [كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
وتبين آية البحث إقامة الحجة على الذين كفروا من جهات :
الأولى : نهي المسلمين عن محاكاة الذين كفروا والتشبه بهم، إذ يدل هذا النهي في مفهومه على ذم الذين كفروا .
الثانية : جحود الذين كفروا بنعمة الديار والتملك والسكن وكون هذا السكن بجوار البيت الحرام ، فالأصل عدم مفارقته إلا لأمر وجيه ومصلحة خاصة أو عامة بينما ترك الذين كفروا الجوار للحرب على ذات البيت ، إذ يحاربونه وهم بجواره بعبادتهم للأوثان ، ويحاربونه عند مغادرته لقتال النبي والمؤمنين .
ولم يرد لفظ [يُحَارِبُونَ] في القرآن إلا مرة واحدة بقوله تعالى [إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا]( ).
وفيه بشارة بانقطاع محاربة النبوة من قبل المشركين للعقوبة التي تنتظرهم ، ومن مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) إدراك التوبة لأغلب هؤلاء الذين حاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ودخولهم الإسلام ، وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعطائهم الغنائم ، وبعث بعضهم أمراء في السرايا لبيان مصداق عملي حسن وقبول إسلامهم ، وللمنع من نعتهم بأوصاف تتعلق بالكفر وأيامه .
ليجمع خروج الذين كفروا من مكة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين أمور :
الأول : محاربة الله عز وجل في ذات ترك مكة عتواً وبطراً ، وفي إرادة وقف نزول آيات القرآن بمحاولة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الحرب على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته وشخصه وأهل بيته وأصحابه وأمته ، إذ أن خروج المشركين إلى معركة أحد حرب على المسلمين من وجوه :
أولاً : الشهداء الذين يقيمون في ظل عرش الله ، قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] ( ).
ثانياً : الصحابة من المهاجرين والأنصار .
ثالثاً : الأجيال اللاحقة من المسلمين .
الثالث : إرادة الكفار الفساد في الأرض وهو على أقسام :
أولاً : الفساد بالبقاء على عبادة الأوثان ، ونصبها في البيت الحرام .
ثانياً : الفساد في الإنفاق بالباطل ، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
ثالثا ً : منع الناس من دخول الإسلام فساد عام .
رابعاً : الفساد في محاربة النبوة والتنزيل .
خامساً : الإفتراء على النبوة والتنزيل .
ومن معاني البطر في آية البحث وجوه :
الأول : الجحود بالربوبية ، والإمتناع عن إتباع الحنيفية التي توارثها أهل مكة من أيام إبراهيم عليه السلام ومن الحجج في المقام بقاء البيت الحرام شامخاً يدعو الناس للإيمان، وتعاهد العرب له بالحج والعمرة .
الثاني : إنكار الكفار لنبوة محمد ، وتلقيها بالإستهزاء والسخرية والإفتراء على النبوة والتنزيل بدل تلقيها بالتصديق والإيمان ، قال تعالى [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ) .
الثالث : سوء تصرف الكفار بالأموال ، فالأصل أن الإنسان إذا كثر ماله يقوم بالشكر لله سبحانه ويخرج الزكاة والصدقات ، ولكن الذين كفروا سخروا أموالهم الكثيرة في محاربة النبوة والتنزيل .
الرابع : بطر النعمة والفرح الزائد ، والفخر ، وإيذاء العمال والرعاة والعبيد .
الخامس : المرح والزهو ، وعدم الإلتفات إلى قانون وهو أن الحياة الدنيا مزرعة للآخرة ، وتتقوم بالعبادة ولا تدوم النعم إلا بالشكر لله وتعاهد الفرائض والعبادات ، قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
السادس : يأتي البطر أحياناً بمعنى النفرة والكراهية لشئ لا يستلزم الكراهة ، ومن الآيات أن كل ما في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمر يبعث على الغبطة والسعادة .
لقد كان مشركوا مكة يمتنعون عن سماع الآيات والحجج التي تدعو إلى عبادة الله وإلى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الإمتناع من البطر والزهو والإستكبار .
السابع : من معاني البطر الطغيان ، وقد خرج مشركوا مكة إلى معركة بدر عن غرور وطغيان وعتو , ويرون طائفة من المسلمين مستضعفين ، وكانوا عمالاً وعبيداً عندهم ، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
مفهوم الموافقة في الآية
في الآية مسائل :
الأولى : لقد تجلى لطف ورحمة الله بالمسلمين والناس في القرآن ، وما فيه من الأوامر والنواهي ، وفي منهاج تفسيرنا هذا أفردنا باباً في تفسير كل آية اسمه : الآية لطف , واللطف هو البر والرفق والمداراة ، ويشمل اللطف من الله عز وجل وجوهاً :
الأول : الفضل والإحسان، ويقال (وألْطَفَهُ بكذا، أي بَرَّهُ به)( ).
الثاني : التوفيق .
الثالث : الوقاية من السيئات .
الرابع : الرأفة .
الخامس : تقريب العباد وإلى عمل الصالحات وإبعادهم عن فعل المعصية .
وكل آية قرآنية لطف من وجوه :
الأول : الآية القرآنية لطف في نزولها .
الثاني : الآية لطف في ذاتها ومضامينها القدسية .
الثالث : تجلي اللطف في تلاوة النبي والمسلمين للآية القرآنية .
الرابع : الآية القرآنية لطف في غاياتها والمقاصد السامية منها .
الثانية : بيان التباين بين المسلمين والذين كفروا في الفعل وغايته والمقصد منه ، فيخرج الذين كفروا من ديارهم بقصد الغزو والظلم والتعدي ، ويهاجر المسلمون من ديارهم مستضعفين مظلومين مهاجرين ، ثم خرجوا في سبيل الله في الكتائب والسرايا تحت لواء النبوة ، ليكتب الله عز وجل لهم النصر سواء بالدفاع , أو من غير قتال ، وفي التنزيل [فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ] ( ).
الثالثة : تفضل الله بالإخبار عن قبح حال البطر والزهو والغرور , وفي التنزيل[لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ]( ).
وهل حال البطر قبيحة بذاتها أم باضافتها للكفر والجحود ، الجواب كلاهما قبيح سواء اجتمعا أم افترقا ، وتدل عليه آية البحث بلحاظ أن المسلمين يحرصون على إسلامهم وإيمانهم قربة إلى الله , ويترشح عنه وجوب عدم خرزجهم بحال بطر وفخر .
الرابعة : لقد أراد الله عز وجل للمسلمين تعاهد مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) ومن خصائص خير أمة التنزه عن البطر والرياء سواء في الحل أو الترحال , وفي الإقامة أو السفر ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا في حال بطر ورياء للناس .
وهل يختص النهي في آية البحث بما ورد فيها من الخروج عن بطر ورياء الناس ، الجواب لا ، فان الآية أعم في موضوعها ودلالتها ومفهومها .
فمن خصائص آية البحث تنمية ملكة الأخلاق الحميدة عند المسلمين ، وصيرورة أعمالهم مناراً وضياءً يهدي الناس إلى سبل التقوى والصلاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) .
وهل يمكن القول بتقدير الآية أعلاه : إهدنا والناس إلى الصراط المستقيم ، الجواب نعم ، وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله ومسلم على نهج الأنبياء السابقين يدعو الله عز وجل أن يهدي الناس إلى سبل الإيمان ، وهو من الشواهد على إجتنابه الغزو .
وفي معركة أحد كسر المشركون رباعية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشجوا وجهه وسالت الدماء منه ولم تنقطع حتى حرقت فاطمة عليها السلام حصيراً ووضعته في الجرح ، فشقّ على أصحابه ،وقالوا : يا رسول الله أدع عليهم , فقال : (اني لم أبعث لعانا ولكني بعثت داعيا ورحمة اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون)( ).
الخامس : ذم الذين كفروا لخروجهم في الصدّ عن سبيل الله، لنهي الناس عن إعانتهم ونصرتهم والخروج معهم، وعن محاربة الإسلام والنبوة والتنزيل .
ومن معاني الرأفة والرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التخفيف عن المسلمين والناس , وتتضمن كل آية من القرآن التخفيف واللطف والرأفة من عند الله عز وجل بالمسلمين والناس جميعاً.
السادس : لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً للناس جميعاً، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
وجاءت آية البحث بالبشارة والإنذار، ومن وجوه البشارة فيها تفضل الله بمخاطبة المسلمين بصفة الإيمان وهدايتهم الى حسن السمت والسيرة، واختتمت الآية ببيان أن الله عز وجل محيط وعالم بما يفعل القوم الكافرون، وجاء الإنذار في آية البحث من وجوه :
الأول : نهي المسلمين عن محاكاة القوم الكافرين في غيهم وتعديهم وظلمهم وما يتفرع عنه من اتباع الهوى، والإصرار على المعصية، والتخلف عن التدبير.
الثاني : دعوة المسلمين لأخذ الحيطة والحذر من الكافرين في خروجهم وهجومهم وغزوهم .
وبين الغزو والخروج عموم وخصوص مطلق، فالخروج أعم، فيخرج المسلمون في السرايا من المدينة للدعوة الى الله، وتأمين الطرق، وبعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا، ويخرج الذين كفروا من ديارهم للتعدي والظلم والغزو .
الثالث : الإنذار من البطر والفخر والزهو، والبطر هو مجاوزة الحد في الفرح وشدة المرح، وقد بَطِرَ بالكسر يَبْطَرُ. وأَبْطَرَهُ المالُ( )، وقيل أن البطر(خروج عن الإستقامة والاستواء) ( )، وقد ورد قوله تعالى[لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ]( )، ولم تقل الآية(لا تبطر) لأن البطر أشد من الفرح وهو هنا الأشَر , فيدخل البطر في النهي الوارد في الآية من باب الأولوية .
وقد ورد قوله تعالى[وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ]( )، أي فاضت عليهم النعم فاستخفوا بها ولم يشكروا الله عليها، والذين كفروا أشد من أهل القرى الذين ذكرتهم الآية أعلاه .
لأن تلك القرى بطرت في قراها وجحدت بأنعم الله، أما كفار قريش فقد بطروا بالنعم وإتخذوا الأصنام آلهة، ثم ساروا إلى محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وهم يعلمون أن بعثته رحمة بهم، وسبب لدوام النعم ومضاعفتها عليهم، وكما أنه لم يرد لفظ(بطر) في القرآن إلا مرة واحدة، فكذا بالنسبة للفظ(بطرت) في دلالة على انقطاع البطر بفضل الله عز وجل من جهات :
الأولى : بعثة الأنبياء , ودعوتهم إلى إجتناب البطر .
الثانية : نزول الكتب السماوية واختتامها بالقرآن الذي جعله الله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومنه ذم البطر والأشر وبيان سوء عاقبته.
الثالثة : هلاك القوم البطرين الذين يتمادون في الغي، وليكون من مفاهيم الآية أعلاه هلاك كفار قريش لأنهم بطروا في معيشتهم ، ولبطرهم أصروا على الخروج لمحاربة النبوة والتنزيل .
لقد أخبرت الآية أعلاه عن صيرورة منازل البطرين خرائب وأطلالاً، لم يعمر منها إلا قليلاً من جهة الزمان والسكن، وقد لا يسكنها إلا المسافر في الطريق لتكون موعظة وعبرة، أما مساكن قريش فانها من نعمة جوار البيت الحرام المستديمة , فلم تهجر إنما سكنها أهلها المؤمنون، وفي استدامة هذا السكن دعاء لإبراهيم وكأنه يقصد استثناء جوار البيت من الهجران والهلال.
وسأل الله عز وجل الأمن فيه ليكون هذا الأمن عاماً يشمل المجاورين وعمار البيت , ففي التنزيل[وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( )، لبيان أن بطر وجحود القوم الظالمين من مجاوري البيت لا يعود بالضرر إلا على شخص صاحبه .
وقد تفضل الله عز وجل بتسمية مكة بـ[الْبَلَدِ الأَمِينِ]( )، ومن معانيه استدامة صفة البلد فيها ، ومنها عدم جواز إتخاذها محلاً لمحاربة النبوة والتنزيل ، وتجهيز الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابعة : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا اشكروا الله عز وجل على امتناعكم عن محاكاة الذين كفروا ، لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وابتلاء ، واختار شطر من الناس الكفر والضلالة ، فصار من وجوه الإمتحان والإختبار الصراع بين الإيمان والكفر ، وهذا الصراع من مصاديق احتجاج الملائكة عندما أخبرهم الله عز وجل بجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) بأن الإنسان [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) .
وتفضل الله عز وجل بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) فايقن الملائكة [قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) وأنه سيحانه هو الذي أحاط علماً بكل الأمور والوقائع , ومنه تفضل الله بعصمة الأنبياء وتنزههم من النقائص ، ونصره لهم وللمؤمنين ، وتفضله تعالى بنزول ذات الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
ليكون من شكر المسلمين لله عز وجل على نزول الملائكة الإمتناع عن محاكاة الذين كفروا والتشبه بهم , وهل في الآية بشارة دخول الإسلام ديار الذين خرجوا منها بطراً لمحاربة النبي والتنزيل .
الجواب لا دليل عليه في هذه الآية ، نعم تتضمن الآية الإنذار للذين كفروا من أن خروجهم بطراً قد يؤدي إلى عدم عودتهم إليها للتيه , والضلالة في الفعل وفي الطريق .
والرياء هو فعل عمل بقصد رؤية الناس له ليمتدحوه أو لغرض وغاية دنيوية وكسب ودهم ورضاهم .
ولا يختص الرياء بفعل الصالحات ، إذ تبين الآية أن الكافر يرائي الناس بفعل الباطل والصد عن سبيل الله ، ولا يرجو كفار قريش من خروجهم فعل عمل صالح ولكنهم قصدوا مراءاة الناس لغايات دنيوية.
الثامنة : بيان قانون وهو مجئ بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحرب على البطر والفخر والتباهي بغير حق ، لقد أبى الله عز وجل إلا أن يكون ملك السموات الأرض له وحده سبحانه ، وفي التنزيل [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
وهو سبحانه لا يحب البطر والتبختر والزهو من منازل الكفر والضلالة والعتو ، وقد أفرط بعض الطواغيت في العتو ، وتجاهروا بالجحود فأخزاهم وأهلكهم الله سبحانه , وجاءت آية البحث لإنذار الذين كفروا من قريش ، وهذا الإنذار من وجوه :
الأول : التحذير من الخروج من مكة إلى معركة بدر لمحاربة النبوة ، والتنزيل , ولو بقى المشركون في ديارهم لما قُتل منهم سبعون ، ولا أسر سبعون في معركة بدر وحدها , ولحقهم الخزي إلى يوم القيامة .
الثاني : إنذار المسلمين من محاكاة الذين كفروا في البطر والرياء، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا إذا خرجتم أخرجوا دفاعاً وليس بطراً.
ثانياً : اعلموا أن البطر مناقض للإيمان.
ثالثاً : يا أيها الناس اجتنبوا البطر والفخر والزهو فانهما برزخ دون ذكر الله سبحانه.
الثالث : بيان قانون وهو أن البطر والفخر يضر بأصحابه ، إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار عبادة ، وتلازم العبادة حال الخشوع , والخضوع لله سبحانه .
لذا تفضل الله عز وجل وجعل الصلاة ركن العبادة ومظهرها المصاحب لوجود الإنسان في الأرض ، وتتقوم بالركوع والسجود إلى الله عز وجل ، وفي مريم ورد قوله تعالى [يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( ) لبيان أن الصلاة والركوع والسجود منهاج الأنبياء والأولياء والمؤمنين والمؤمنات في الأمم المتعاقبة (عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فاطمة سيدة نساء العالمين بعد مريم ابنة عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة ابنة خويلد) ( ).
وقدمت الآية أعلاه السجود على الركوع ، وفيه وجوه :
الأول : كان من شرع زكريا والأنبياء في زمانه تقديم السجود على الركوع.
الثاني : عدم دلالة الواو على الترتيب ، والمراد أداء الفعل العبادي والركوع والسجود .
الثالث : إرادة فرد السجود لغة على نحو مستقل ، ومنه الخضوع والتطامن .
الرابع : المقصود السجود استحباباً وشكراً وتقرباً إلى الله عز وجل ، وبيان شرف كل من السجود والركوع ، وقد بينت الآية الحسن الذاتي للصلاة مع جماعة المؤمنين , وفي أوقاتها المخصوصة , بقوله تعالى [وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( ) .
وتبين الآية أعلاه تنزه سادة المؤمنين عن البطر والفخر والرياء لأن السجود والركوع ضده ، ولا يجتمع الضدان ، ويسمى الرياء (الشرك الأصغر ) لما فيه من قصد إرضاء الناس .
(عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الشرك الخفي ، أن يقوم الرجل يصلي لمكان رجل .
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي ، عن شداد بن أوس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أخاف على أمتي الشرك والشهوة الخفية .
قلت : أتشرك أمتك من بعدك؟ .
قال : نعم ، أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً ، ولكن يراؤون الناس بأعمالهم . قلت : يا رسول الله ، فالشهوة الخفية؟
قال : يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه ويواقع شهوته) ( ).
ويحتمل المراد من الصيام في الحديث أعلاه وجوهاً :
الأول : الصيام الواجب بالأصل ، وهو صيام شهر رمضان ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الثاني : الصيام الواجب بالعرض مثل صيام النذر ، وصوم الكفارة مثل كفارة قتل الخطأ، وكفارة اليمين، قال تعالى[لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ]( ).
الثالث : صيام التطوع مثل صيام يوم الاثنين والخميس، وصيام أيام البيض وهي اليوم الثالث عشر , والرابع عشر , والخامس عشر من كل شهر .
الرابع : الصيام المكروه مثل صوم المريض .
الخامس : الصوم المحرم ، والذي لا يصح به التقرب إلى الله ، كصوم يوم عيد الفطر ، وهو الأول من شوال ، ويوم عيد الأضحى وهو العاشر من ذي الحجة .
الثامنة : بيان آية البحث لمنهاج الذين كفروا وأنهم يصدون الناس عن الإيمان ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم] ( ) .
وجاءت آية البحث والآية أعلاه بصيغة الفعل المضارع الذي لا يختص بحال وزمان محدود ، من الحال والإستقبال ، إنما يفيد الإستدامة في الفعل .
وتبين آية أخرى مصداقاً من هذا الحصر بقوله تعالى [هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ] ( ) وهل في خروج الذين كفروا بطراً من مصاديق صدّ المسلمين عن البيت الحرام ، الجواب نعم ، خاصة وان إرادة القتال والقتل فرع البطر والزهو المقرون بالكفر.
لقد أراد كفار قريش في خروجهم إعاقة دخول الناس الإسلام ، ومنع الحديث عن إزاحة الأصنام من البيت الحرام .
فصحيح أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هاجر من مكة إلى المدينة ، لكن رشحات النبوة ومعالم الإيمان ظلت باقية فيها , مع وجود طائفة من المسلمين والمسلمات في مكة لم يغادروها ، ولم يهاجروا منها ، ومنهم المستضعفون والمستضعفات الذين يعجزون من الهجرة ، فتجدها عبداً أو أمة عند كافر مثل أبي جهل وأمية بن خلف ، ويتلقى منهم العذاب ولكنه لم ينتقم ولم يقتل أحد الكفار غيلة ويهاجر ، ولم يدس السم له في طعامه .
وسيأتي في الجزء التالي قانون ( استدامة الإيمان في مكة ) ( ).
وكان مسلموا مكة منقطعين إلى الذكر وتلاوة القرآن ، ويتحلون بالصبر الإيماني ، وهذا القيد منا لبيان أن الصبر قد يكون حالة نفسانية ، وصبرا على الباطل وفيه , فلابد من قيد الإيمان وقصد القربة إلى الله في الصبر ، لذا ورد قوله تعالى [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ]( ).
(عن ابن عباس قال : لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهاجر إلى المدينة ، قال لأصحابه : تفرقوا عني ، فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ، ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل ، فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض ، فالحقوا بي .
فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت ، فأصبحوا بمكة فأخذهم المشركون وأبو جهل ، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى ، فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه ، فإذا ألبسوها إياه قال : أحد . . أحد . . وأما خباب ، فجعلوا يجرونه في الشوك ، وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقيةً .
وأما الجارية ، فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قلبها حتى قتلها ، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار ، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم ، واشتد على عمار الذي كان تكلم به .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت : أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا؟
قال : لا . قال : وأنزل الله { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}( )( ).
التاسعة : من خصائص آية البحث أنها تتضمن عطف الفعل المضارع [وَيَصُدُّونَ] ( ) على الفعل الماضي [خَرَجُوا] ( )، لبيان أن خروج الذين كفروا من ديارهم بالباطل أمر عرضي ومقطوع ، وان تكرر هذا الخروج في بدر وأحد والخندق وغيرها ، أمّا صدّهم عن سبيل الله وسعيهم في الناس لمنعهم من دخول الإسلام ومن التدبر في معجزات النبوة فهو مستمر ومتعدد ومتصل .
فتضمنت الآية إنذاراً لهم ، ودعوة لهم للتوبة والإنابة ، ويجتمع هذا الإنذار والدعوة في خاتمة الآية بقوله تعالى [وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] ( ) .
وجاءت خاتمة الآية بصيغة الغائب لتكون حجة للمسلمين وقوة ومنعة لهم ، ويكون من معاني خاتمة الآية وجوه :
الأول :يا أيها الذين كفروا إن الله محيط وعالم بأنهم يخرجونكم من دياركم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : يا أيها الذين كفروا اشكروا الله عز وجل أن جعل لكم دياراً بجوار البيت الحرام ، حيث الأمن والأمان والسعة في الرزق .
الثالث : يا أيها الذين كفروا اهجروا البطر وشدة المرح والاستخفاف بالمؤمنين ، فمن بطر المشركين في خروجهم إلى معركة بدر قولهم عندما تقابل الفريقان (أن المسلمين أكلة رأس ) أي يشبعهم رأس شاة واحدة( ).
لبيان أنهم قلة وأنه لم تمض ساعة حتى يقضون عليهم ويقتلون أو يأسرون النبي محمد صلى اله عليه وآله وسلم .
الرابع : بيان قانون وهو أن مراءاة الناس أمر قبيح ، ومنهي عنه ، وأنه لا يجلب للذين كفروا إلا الأذى والضرر .
مفهوم المخالفة في الآية
وفيه مسائل :
الأولى : بيان قانون وهو عدم خروج المسلمين إلى الكتائب والسرايا في حال بطر لإفادة النهي عنه في الآية في مستقبل الأيام ، وآية البحث مدنية ، وكان المسلمون في مكة في حال استضعاف وكثير منهم يخفي إسلامه ، وحينما هاجروا إلى المدينة لم تكن هجرة قتال , إنما هو هروب بالدين والملة والنفوس .
وبعد الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الكتائب والسرايا فأراد الله عز وجل لهم استدامة التحلي بلباس التقوى .
الثانية : دعوة الذين كفروا إلى التخلي عن حال الزهو والرياء التي يتصفون بها ، وهذا التخلي مقدمة لدخولهم الإسلام ، وهو من إعجاز القرآن ومعاني الرحمة في آياته بأن يتضمن اللوم للذين كفروا على سوء الملكة ، والذي يدل في مفهومه على حثهم على التخلص منها ، وفي التنزيل [إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ] ( ).
(عن ثابت بن قيس بن شماس قال : ذكر الكبر عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا] ( ).
فقال رجل من القوم : والله يا رسول الله ، إن ثيابي لتغسل ، فيعجبني بياضها ، ويعجبني علاقة سوطي ، وشراك نعلي .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس ذاك من الكبر ، إنما الكبر : أن تسفه الحق وتغمص الناس) ( ).
الثالثة : لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس ، ومن مصاديق الرحمة تنمية ملكة العبادة والتقوى عند الناس ، وتنزيه الأرض من الأخلاق المذمومة ، ومنها البطر والزهو .
لقد جاء القرآن بالأوامر والنواهي ، ومقدمات هذه الأوامر والنواهي ، ومنافعها لعامة الناس في النشأتين .
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً ناقصاَ من عالم الإمكان ، تلازمه الحاجة في الليل والنهار ، وعند اليقظة والمنام ، وفي حال الإنفراد والإجتماع مع الغير .
وهل حاجة الإنسان عند الإجتماع مع غيره أكثر أم أن حاجته منفرداً هي الأكثر ، الجواب هو أن حاجته كثيرة ومتصلة في كل الأحوال ، فجاءت آية البحث لمخاطبة المسلمين مجتمعين ومتفرقين بصيغة النهي .
وفيه ثناء على المسلمين ، لما تدل عليه بالدلالة التضمنية على استجابتهم وامتثالهم لأمر الله عز وجل , وتقدير مفهوم المخالفة لقوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ] ( ) على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا كونوا منزهين عن البطر .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حسن سمته ، وفي الثناء عليه ، قال الله [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
ومن مصاديق ووجوه الخلق العظيم في عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الفخر والعجب والرياء ، وفيه شاهد على حاجة المسلمين والناس لعصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا تخرجوا من دياركم إلا بالحق ، ليكون هذا الخروج من مصاديق قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الرابع : يا أيها الذين آمنوا اشكروا الله عز وجل على صيرورتكم ذوي دبار وشأن ولكم بلدة بصيغة الإيمان ، فلا أحد يظن أن مكة التي فيها بيت الله ، وهي موطن الأنبياء ، وفيها ذرية ابراهيم خليل الله يخرج منها الكفار لمحاربة النبوة ، وأن يثرب تصبح حصناً للنبوة والتنزيل .
ولا يخرج منها المؤمنون إلا بالحق وتمر الأيام والسنين ليدخلها المؤمنون بالحق زائرين مهللين مسبحين مع الإجتهاد في أداء الصلاة ومحاكاة الرسول فيها ، والسلام عليه في ضريحه المبارك ، ليكون من معاني مفهوم المخالفة : يا أيها الذين آمنوا اخرجوا من دياركم بالحق للحج وزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل يشمل هذا النداء أهل مكة ، الجواب نعم ، فانهم مأمورون بحج البيت وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسلام عليه ، ومن الآيات أن مناسك الحج لا تنحصر بالطواف بالبيت الحرام والصلاة عند مقام ابراهيم والسعي بين الصفا والمروة .
الرابعة : إبتدأت آية البحث بالخطاب للمسلمين [لاَ تَكُونُوا] ومن مفاهيم المخالفة فيه (كونوا ) وهو على وجوه :
الأول : كونوا دائماَ على منهاج الإيمان .
الثاني : كونوا مقيمي الصلاة ومؤدي الزكاة .
الثالث : كونوا من عباد الله المخلصين ، وورد حكاية عن ابليس في التنزيل [قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ] ( ).
الرابع : كونوا دعاة إلى الله عز وجل ويترشح عن هذه الدعوة الخضوع والخشوع كما أنها تترشح عنهما .
الخامس : كونوا من الصابرين لأن الصبر حصانة من البطر والزهو والفخر .
وهل تدل الآية على الدعوة لعدم الخروج ، الجواب لا ،إنما هي حث على الخروج ولكن بحلة الإيمان والدفاع ومقدماته والتنزه عن البطر والرياء ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ] ( ) وليس من ملازمة بين النفير والخروج من جهة وبين القتال والدفاع ، وأكثر خروج كتائب وسرايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيها قتال ، فكان يخرج هو وأصحابه ويرجعون من غير أن يلقوا كيداً .
وقد تكون هناك موعدة مع الكفار للقاء والقتال فيخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيصرف الله القتال .
ففي معركة أحد وعندما أراد المشركون الإنسحاب نادى أبو سفيان مخاطباً النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه (موعدكم بدر حيثُ قتلتم أصحابنا. فقال محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “عَسَى”. فانطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لموعِده حتى نزل بدرًا، فوافقوا السوق فيها وابتاعوا) ( ).
ولكن أبا سفيان والمشركين تخلفوا عن الحضور لأن الله عز وجل ملأ قلوبهم بالخوف والفزع .
وسميت غزوة بدر الصغرى ، وعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يلقوا قتالاً وسميت غزوة مع أنها تتصف بأمور :
الأول : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تحد ووعيد من القوم المشركين ، ولو لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الموعد لحضر المشركون وتدل عليه آية البحث [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ] ( ).
ويبين قول أبي سفيان أعلاه عدم إختصاص بطر ورياء الذين كفروا بخروجهم في ذات المعركة انما يشمل وجوهاً :
أولاً : ذات خروج المشركين للقتال .
ثانياً : التهديد والموعدة بلقاء آخر للقتال .
ثالثاً : قيام المشركين بتخويف المؤمنين ، وهذا التخويف من البطر والإستخفاف بقوة المسلمين .
الآية الخامسة عشرة
قوله تعالى [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ).
لقد جاءت الآية أعلاه بعد آيات تدعو إلى السلم ، وتتضمن الإنذار والوعيد للذين كفروا ، إذ ورد قبل خمس آيات قوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] ( ) أي إذا مال المشركون إلى الصلح فصالحوهم وأمضوا المعاهدة معهم ، مع أن كفتكم راجحة بالتوكل على الله في الأمور الظاهرة والخفية .
وورد في كتب التفسير أن الآية أعلاه منسوخة بآية السيف ، وورد عن عكرمة والحسن البصري أن الآية منسوخة بقوله تعالى [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] ( ) .
وذكروا أن نحو مائة وأربع وعشرين آية منسوخة بآية السيف والمختار أنها غير منسوخة .
ولا دليل على نسخ آية السيف لمعشار العدد المذكور أعلاه ، فالخطاب في الآية أعلاه باق إلى يوم القيامة ، ولا يختص موضوعها بسبب النزول في بني قريظة ز
وتقديره : يا أيها الذين آمنوا أن جنحوا للسلم غي أي زمان ومكان فاجنحوا لها . وتقيد الآية أعلاه الجزية بالذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر .
لقد جعل الله رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة عامة تتغشى الناس في الدنيا ، وتصاحبهم بركاتها في الآخرة ، فتتغشى المؤمنين ، وتنتفع منها أفواج من أهل المحشر بالشفاعة أو بالمسامحة والموادعة مع المؤمنين في الدنيا والذب عنهم ، وتهيئة أسباب الأمن ومقدمات العبادة لهم.
ونفى الطبري ما ذهب إليه قتادة من كون الآية منسوخة ، (قال أبو جعفر: فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله، من أن هذه الآية منسوخة، فقولٌ لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل.
وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه. فأما ما كان بخلاف ذلك، فغير كائنٍ ناسخا.
وقول الله في براءة [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( )، غير نافٍ حكمُه حكمَ قوله [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( )، لأن قوله:(وإن جنحوا للسلم)، إنما عني به بنو قريظة، وكانوا يهودًا أهلَ كتاب، وقد أذن الله جل ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحربَ( ).
وإذا كان يصح تقدير الآية بصيغة الجمع في خطاب المؤمنين فهل يصح تقديرها بصيغة المفرد بالنسبة للطرف الآخر ، وتقدير الآية على شعبتين :
الأولى : وإن جنح للسلم فاجنح لها .
الثانية : وان جنح للسلم فاجنحوا لها .
الجواب نعم ، فقد يكون الأمر والنهي عند المشركين بيد طاغوت كما في فرعون ، أو عند ملك مفوض ، كما في بلقيس والملأ من قومها ، كما ورد في التنزيل [قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ] ( ) .
ومن الإعجاز في القرآن أن لفظ [وَالأَمْرُ إِلَيْكِ] لم يرد فيه إلا في الآية أعلاه مع أن مقاليد الأمور كلها بيد الله .
كما ورد في التنزيل [أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] ( ) لبيان مسألة وهي أن الأمور كلها بيد الله بمشيئته وعظيم قدرته وسلطانه ، وليس بتفويض من أحد ، إنما الكل مخلوق له سبحانه , والأمر بيده ، وهذا الخلق من مصاديق الأمر ، ليكون بينهما عموم وخصوص مطلق , فالأمر أعم وأوسع .
وتفضل الله عز وجل وخاطب في آية البحث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالمبادرة إلى السلم والصلح والمعاهدة والتراخي حالما يميل المشركون أو أهل الكتاب إليه ، وفيه دعوة للصحابة إلى الحلم والأناة والصبر ، وعدم المناجاة بالقتال .
وبعد معركة بدر أخذت الأخبار تصل إلى المدينة المنورة بأن قريشاً يعدون العدة للهجوم عليها ، وإرادتهم قتل المسلمين ، كما كان الركبان ينقلون طواف قريش على القبائل لتحريضهم مع دفع الأموال لهم .
ورغبت طائفة من المسلمين بلقائهم من جهات :
الأولى : إرادة الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن سواء التي نزلت أو التي لم تنزل بعد خاصة وأن الأنصار تعهدوا بالحفاظ على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو عندهم في المدينة .
ففي بيعة العقبة الثانية قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنصار من الأوس والخزرج (أبايعكم على ان تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم , فأخذ البراء بن معرور بيده .
ثم قال نعم والذى بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه نساءنا ازرنا( ).
فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر .
فاعترض القول – والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – أبو الهيثم بن التيهان فقال :
يا رسول الله ان بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها يعني اليهود ، فهل عسيت ان نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا .
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم انا منكم , وأنتم مني أحارب من حاربتم , وأسالم من سالمتم) ( ).
فطلب منهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حينئذ أن يخرجوا من بينهم اثني عشر نقيباً يكونون كالرؤساء على قومهم ، فأختاروا من بينهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس .
الثانية : من الصحابة من فاته حضور معركة بدر إذ خرج النبي وأصحابه يومئذ وهم لا يقصدون القتال أو لقاء جيش المشركين خاصة وأن هذا الجيش اجتمع بنفير ثلاثة أيام فقط .
وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المدينة قبل تلك الأيام ولم ينوا القتال ، وهو من أسباب ترجيح كفة قريش من جهة العدد والعدة والسلاح والمؤون ، ولكن الله عز وجل تفضل بنزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وكان بعض الصحابة خاصة من الشباب حينما تصل المدينة أخبار تجهيز قريش لمعركة أحد يقولون: ليت لنا يوماً مثل يوم بدر ، فنزل قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
ويتجلى التباين بين معركة بدر التي دخلها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون من غير استعداد لها , وفي بعض الأخبار لم يكن عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ سيف ، ومعركة أحد التي أطل فيها جيش المشركين على المدينة .
بعد إستعداد قريش لها ثلاثة عشر شهراً بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
الثالثة : قصد الأجر والثواب في الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، ووردت الآيات بالإخبار أن هذا الدفاع في سبيل الله وإرادة قصد القربة وتثبيت أركان عبادة الله في الأرض إلى يوم القيامة ، وفي التنزيل [مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الرابعة : إرادة الشكر لله عز وجل على النصر في معركة بدر ، وتجدد هذه النعمة في معركة لاحقة إختارها الذين كفروا بأنفسهم ، وسعوا إليها بأقدامهم وأموالهم ورواحلهم ، ليكون إختيارهم حجة عليهم , وطريقاً إلى الهلاك والذل والخزي ، ثم العذاب الأليم في الآخرة للذين كفروا من قريش على أمور :
الأول : تلبس الكفار بالشرك بالله عز وجل , وفي وصية لقمان لابنه ورد في التنزيل [يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( ).
الثاني : جحود الكفار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها ومنها لغة الإنذار والوعيد في القرآن، وتذكيره بما أصاب الذين كفروا من الأمم السابقة من العذاب قال تعالى[وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ]( ).
الثالث : صدّ الكفار للناس عن دخول الإسلام ، ومنع ذويهم وأهليهم من الإنصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإختلاط بالمسلمين.
وهل كان لهذا المنع أثر ، الجواب نعم ، ولكنه بخلاف ما كان يرمي اليه المشركون ، إذ صارت الأسر والعوائل في مكة حريصة على التدبر في معجزات النبوة ، وترشح عنه دخول طائفة منهم الإسلام .
فيأتي المشرك من السفر أو من غزو المسلمين ليفاجئ بأن أبناءه أو طائفة منهم قد دخلوا الإسلام , قال تعالى[وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الخامسة : تجلي حاجة المسلمين إلى الدفاع والصبر لأمور :
الأول : توالي صدور التهديد والوعيد من قبل كفار قريش .
الثاني : إجهار كفار قريش بارادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالث : بلوغ الأخبار للمدينة بأن كفار قريش يعدون العدة لغزوها .
الرابع : طواف كفار قريش على القبائل التي تحيط بمكة والتي تحيط بالمدينة لتحشيدهم في هجوم قريش على المدينة .
وقد جاءت بعض القبائل معهم في معركة أحد ، إذ خرجت معهم قبائل الأحباش وكنانة وأهل تهامة .
وأنفقت قريش أموال قافلة أبي سفيان ، وقدرها خمسون ألف دينار على معركة أحد ومقدماتها والرواحل والأسلحة ، والدينار مثقال ذهب عيار ثمان عشرة حبة , إذ خرجوا بثلاثة آلاف رجل ومعهم (700) درع ، وثلاثة آلاف بعير و(200) فرس ، وركبت النساء على (15) ناقة لتحريض الرجال على القتال ، وندب قتلاهم في معركة بدر.
ولم يخرج معهم العباس بن عبد المطلب , وعقيل بن أبي طالب وبقيا في مكة ، وكان المسلمون أسروهما في معركة بدر .
وهل كان المسلمون يسيطرون على طريق القوافل بين الشام ومكة بعد معركة بدر ، كي يكون سبباً لمناجاة قريش فيما بينهم على القتال لتعلق الأمر بالأرزاق ، الجواب لا .
فبعد معركة بدر إتجه المسلمون إلى شكر الله عز وجل بأداء الفرائض والتفقه في الدين ، والتدبر في آيات القرآن ومعانيها ودلالاتها ، وهو من مصاديق التقوى والشكر لله في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) لبيان أن النصر في معركة بدر طريق للتقوى والخشية من الله ، وليس للهجوم والغزو ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وللإخبار عن قانون وهو أن الله عز وجل يصلح عمل المسلمين ، ويهديهم إلى سبل الهدى والرشاد ، ويمنعهم من البطش والظلم والإنشغال بالغزو .
فمعجزات النبوة وعدم وجود المانع من بلوغها للناس علة تامة للهدى والصلاح ، وهو الذي جاء من أجله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً للناس ، لذا كان ينادي في ميدان المعركة (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) ليكون مفهوم الموافقة والمخالفة فيه على وجوه :
الأول : الأولوية القطعية في جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين هي للدعوة إلى التوحيد .
الثاني : النداء بكلمة التوحيد جهاد ، ويتجلى بوضوح في ساحة المعركة ، إذ ينادي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع قيام المشركين برمي السهام والنبال ، لتصل كلمة التوحيد إلى أسماع الكافرين ، فترميهم بالشلل والوهن.
ليكون من مفاهيم نداء التوحيد إضعاف العدو .
الثالث : بعد إلتقاء الجمعين للقتال يعود كل فريق إلى بلده ويرجع من حيث جاء ، ليحمل أفراد جيش الذين كفروا نداء التوحيد في أذهانهم ، ويكون مصاحباً لهم ، وهو التحفة التي يخبرون بها أهليهم ومن خلفهم ، ليدخل الإيمان القلوب ، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]( ) .
لقد قام كفار قريش بجمع الجيوش العظيمة لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرجعت هذه الجيوش بأمور :
أولاً : كلمة التوحيد .
ثانياً : تجلي الأخلاق الحميدة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
ثالثاً : الرجوع بحقيقة تتكرر في كل معركة وهي إبتداء الذين كفروا بالقتال ، قال تعالى[كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا]( ).
رابعاً : نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مع قلة عددهم وأسلحتهم بالنسبة لكثرة جيش الذين كفروا ، لبيان قانون وهو ترشح النصر في المعركة عن مشيئة الله، وليس عن المرجحات المادية .
خامساً : سماع أفراد جيش الذين كفروا لآيات القرآن ، ورؤيتهم لمعجزات حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وكل آية وكل معجزة دعوة لهم للإسلام ، وبعث للنفرة في نفوسهم من مفاهيم الكفر والضلالة .
الرابع : من مفاهيم نداء التوحيد حث الناس على نبذ عبادة الأصنام ، وتأكيد سفاهة الذين يتعلقون بها ويتزلفون لها ، وفيه تخفيف عن المسلمين بلحاظ أن ذات نداء التوحيد داعية ودعوة للإيمان، وهو من مصاديق قوله تعالى[الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ] ( ).
وفيه دعوة للتدبر في سوء عاقبة الذين ينقادون إليها ، ومنه خروجهم لقتال الرسول الذي بعثه الله عز وجل لصلاحهم .
ومن مصاديق الرحمة في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) تنزيه المجتمعات من عبادة الأصنام ، ومن الأمور الإبتلائية أوان وزمان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الأصنام تحيط بالبيت الحرام ، ولكل قبيلة صنم ، كما يتخذ الأفراد أصناماً شخصية لهم .
الخامس : بيان قبح الشرك ومفاهيم الضلالة ، وهل كان نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكلمة التوحيد بين الصفين من عنده، أم هو بأمر من عند الله سبحانه .
الجواب هو الثاني إذ تفضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمور :
الأول : الوحي ، وعن عبادة بن الصامت قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك , وترمَّد وجهه ( ) .
الثاني : نزول آيات القرآن ، قال تعالى[فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ]( )، ليكون من مصاديق بيان التنزيل نداء التوحيد، ومن إعجاز اللفظ القرآني أنه لم يأت لفظ (بيانه) في القرآن إلا مرة واحدة في الآية أعلاه.
الثالث : حضور جبرئيل عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الشدائد والمسائل التي تستلزم حضوره .
الرابع : مصاحبة أمر الله عز وجل بطاعته وطاعة رسوله للمسلمين في حال الرخاء والشدة بقوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) و[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) لبيان مسألة وهي أن المسلمين يتلقون فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمناداة بين الفريقين بالرضا ، وفيه مسائل :
الأولى : يبعث نداء الإيمان السكينة في قلوب المسلمين .
الثانية : في قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمناداة بكلمة التوحيد دعوة للمسلمين لمحاكاة وتجديد الدعوة بها في كل مناسبة ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) .
الثالثة : حث المسلمين على الصبر عند اللقاء ، وعدم الإبتداء بالهجوم أو الرمي مما كان يبعث الغيظ في قلوب المشركين ، فيتعجلون بالرمي وطلب المبارزة أو الهجوم ، فتقوم الحجة عليهم ، لينزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وفي التنزيل [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
الرابعة : لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ بالقتال ولو كان كل من الفريقين لا يبدأ بالقتال لا يقع هذا القتال ، ولعاد المشركون إلى بلادهم ، وصاروا يتدبرون في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن رؤساء الشرك إلتفتوا إلى هذا الأمر فارادوا أن تسيل الدماء بين الفريقين ، وتشتد وتستديم العداوة ، وهو من مصاديق الجمع بين الفساد والقتل ، والمراد من إحتجاج الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) أي أن المشركين إختاروا الفساد بالإصرار على القتال وسفكوا الدماء بقتل الشهداء من المسلمين ، وقاموا بتحريض الناس عليهم ، ليكون من مصاديق احتجاج الله عز وجل عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في المقام أمور :
أولاً : فضح مفاهيم الكفر وبيان قبحها الذاتي .
ثانياً : عجز الذين كفروا عن صدّ الناس عن الإسلام ، وفي التنزيل[أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ الْمَكِيدُونَ]( ).
ثالثاً : سقوط رؤساء الكفر أنفسهم في أول معارك الإسلام ، فقد أصر أبو جهل وأمية بن خلف على الزحف نحو بدر .
وعندما التقى الجيشان هناك ، كانت هناك فرص متعددة لمنع وقوع القتال ، منها مناداة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكلمة التوحيد ، ولكن أبا جهل وأمية أشعلا نار الحرب والفتنة فكانا من المقتولين يومئذ ، وقتل أبو جهل على يد عبد الله بن مسعود في رواية ، وقتل أمية بن خلف على يد بلال بن رباح الحبشي لشدة ما كان يؤذيه ويعذبه في مكة ، ولم يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتله .
ومن معاني عدم النسخ في الآية إبتداء الآية بظرف الزمان [الآنَ]والمراد منه الحال .
ولو تردد الأمر بين إستدامة هذا التخفيف أو قطعه فالأصل هو الأول من وجوه :
الأول : التخفيف نعمة من عند الله عز وجل ، والأصل في النعمة الإلهية أن ينتفع منها الحاضر والغائب ، والحي والميت مع استدامتها وبقائها، وزيادتها ومضاعفتها .
الثاني : أصل الإستصحاب والذي يعني في الإصطلاح استصحاب موضوع في الزمن الحاضر لثبوته في الزمن الماضي .
أو نفيه في الزمن الحاضر والمستقبل لإنتفائه وعدمه في الزمن الماضي القريب ، وتبعية الحكم للموضوع ، فقوله تعالى [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ] ( ) دليل على استصحاب التخفيف إلى يوم القيامة لتلاوة المسلمين لهذه الآية في كل زمان ، وهو من أسرار طراوة الآية القرآنية ، وحضور معناها في كل زمان .
ومن الإعجاز في الآية العموم في التخفيف وشموله للمسلمين لأصالة العموم مع عدم ورود تخصيص متصل أو منفصل .
وهل في الآية نسخ ، الجواب نعم , لما فيها من التخفيف إذ أخبرت الآية السابقة عن كون العشرين من المومنين يغلبون المائتين , أي بنسبة الواحد ضد العشرة بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ) .
ثم جاءت هذه الآية بالتخفيف في مقابلة الواحد من المسلمين للاثنين من الذين كفروا مع بقاء ذات صفتهم من الجهالة بسبل النفع في النشأتين , وعدم الفقاهة.
الثالث : مصاديق الواقع العملي وعالم الثبوت من الشواهد العقلية بالتخفيف عن المسلمين من جهات :
الأولى : التباعد الزماني بين معارك الإسلام اللاحقة ، وبين معركة بدر ومعركة أحد ثلاثة عشر شهراً , وبين معركة أحد والخندق نحو سنتين على المشهور.
الثانية : قلة القتال والمواجهة في المعارك اللاحقة ، ففي معركة بدر وأحد كانت المبارزة ولمعان السيوف ، والرمي بالقوس والسهام والحجارة بينما في معركة الخندق كان الحصار الطويل .
ومن الإعجاز في المقام أن قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ورد ثلاث مرات في القرآن وبخصوص معركة بدر وأحد ( ).
الثالثة : عدم وقوع قتال في أكثر الكتائب التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والسرايا التي بعثها ، وأرسل فيها الصحابة ، وهو من الشواهد على إجتنابه القتال وأمره أصحابه بالصبر ، ودفع أسباب ومقدمات القتال البعيدة والقريبة ، وسيأتي مزيد كلام في الجزء التالي وهو الثاني والسبعون بعد المائة في قانون (عودة النبي ص إلى المدينة بلا قتال ).
الرابعة : من أسباب التخفيف عن المسلمين ضعف ووهن للذين كفروا بدخول الأفراد والجماعات في الإسلام ، وتناقل الناس لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : تعاقب نزول آيات القرآن ، ويبعث هذا التعاقب المسلمين على الصبر والرضا بفضل الله ، كما أن نزول كل آية يستلزم من المسلمين أموراً :
أولاً : التلاوة الواعية، والتدبر في معاني الآية، والتفكر في دلالاتها، واستقراء المسائل من الصلة بين الآيات، وفي التنزيل [قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ]( ) .
ثانياً : لحاظ الصلة بين الآية النازلة وآيات القرآن الأخرى .
ثالثاً : شكر المسلمين لله عز وجل على نزول آيات القرآن وتواليها , وكل آية تنزل من السماء نعمة عظمى على المسلمين وأهل الأرض ، وهذا النزول من مصاديق قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
رابعاً : معرفة أسباب نزول الآية ، والناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه.
خامساً : لحاظ التخفيف المترشح عن نزول آيات القرآن .
سادساً : الرضا والغنى عند المسلمين بنزول آيات القرآن ، وإتخاذهم لها إماماً ، وفي التنزيل [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
السادسة : الإنتفاع اليومي المتجدد من نصر الله عز وجل للمسلمين في معركة بدر ، فقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) حاضر في منهاج المسلمين بحسن التوكل على الله في الملمات .
وتقدير الآية : ولقد نصركم الله ببدر على القوم المعتدين وسينصركم عليهم إن عادوا إلى الإعتداء والهجوم .
السابعة : لجوء المسلمين إلى أداء الفرائض والعبادات ، وحرصهم على صلاة الجماعة , وصيرورتها واقية من الخوف والفزع والجزع ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ] ( ) وجوه :
الأول : واستعينوا بالصبر والصلاة لضبط النفوس ، والإمتناع عن الغزو والقتال .
الثاني : يسعى الذين كفروا لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاستعينوا بالصبر والصلاة فأنها واقية وحفظ له ولكم .
الثالث : سيغزوكم الذين كفروا في عقر داركم فاستعينوا بالصبر والصلاة ولا تقابلوهم بالغزو لبيان أن سلاح الصبر كاف لتفرق جيش الذين كفروا لإقتران الصبر بالمعجزة , وهل ذات صبر النبي والمسلمين معجزة، الجواب نعم .
الرابع : استعينوا بالصبر والصلاة فان الإسلام سيدخل قرى الذين كفروا ، ويحول المؤمنين من أبنائهم دون غزوهم .
الخامس : استعينوا بالصبر والصلاة ففيها تخفيف عنكم .
السادس : اشكروا الله على النعمة في قوله [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
السابع : استعينوا بالصبر والصلاة وهي خير من الغزو والهجوم ، وأعظم نفعاً وأثراً .
الثامن : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ، وفيه حجة على الذين كفروا .
التاسع : استعينوا بالصبر والصلاة ليكفيكم الله القوم الكافرين ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) .
العاشر : استعينوا بالصبر والصلاة , ولا تفروا عند غزو الكفار لكم .
الرابع : تزايد عدد المسلمين كل شهر وكل اسبوع بل كل يوم ، وفيه تخفيف عن المسلمين وبشارة الفتح ، وذات دخول الإنسان الإسلام فتح وهداية وترغيب للناس بالإيمان ، وسنن التوحيد .
ومن الإعجاز في المقام أن دخول أي فرد للإسلام تخفيف من جهات :
الأولى : كثرة عدد المسلمين .
الثانية : النقص في عدد المشركين .
الثالثة : صيرورة السلاح والراحلة الشخصية للذي يدخل الإسلام عدة وقوة للمسلمين , ومن مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] ( ).
الرابعة : التخفيف النفسي عن المسلمين والناس ، لأن هذا الدخول شاهد على الإقرار بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : التخفيف عن المسلمين في التبليغ , ونقل أخبار السنة النبوية القولية والفعلية .
السادسة : تجلي النفع الخاص والعام في إحتجاج المسلمين وإتيانهم البراهين التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فدخول كل فرد الإسلام حجة وشاهد على صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وليكون من معاني قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ) أن التبليغ سبب لدخول الناس الإسلام ، وهذا الدخول مقدمة ونوع طريق لعصمة وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الشرور , من وجوه :
أولاً : إنتفاء الخشية والضرر من الذي يدخل الإسلام .
ثانياً : تغشي مفاهيم الأخوة الإيمانية للذي يدخل الإسلام .
ثالثاً : صيرورة الذي ينتقل من منازل الكفر إلى الإيمان من جند الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
وهل يمكن القول أن كل خروج للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الكتائب والسرايا تخفيف عن المسلمين ، الجواب نعم ,وهو من وجوه :
الأول : كل خروج في السرايا دعوة إلى الله عز وجل .
الثاني : في الكتائب والسرايا تعظيم لشعائر الله ، وحث على الخضوع والخشوع لله سبحانه .
الثالث : سرايا المسلمين مناسبة لإقامة الصلاة في الآفاق ، والطرق العامة بين البلدات والقرى .
الرابع : سرايا السلام حرب على الوثنية والأصنام .
الخامس : بعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا ومنعهم من الهجوم على المدينة المنورة .
السادس : في السرايا ترغيب للناس في الإسلام ، وبعث للثقة في نفوسهم باختيارهم سبل الهدى ، وفي التنزيل [مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ] ( ).
السابع : في تعدد سرايا المسلمين زجر للذين كفروا عن محاربة الإسلام ، والهجوم على المدينة .
ومن الإعجاز ومصاديق الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم الملازمة بين خروج السرايا وبين القتال وترجع أكثر السرايا من غير قتال( ) .
لبيان قانون وهو أن الجهد والعناء الذي يبذله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سبب للتخفيف عنهم وواقية من القتال وسفك الدماء ، فيخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد مرور سنة على هجرته إلى المدينة إلى قرية الأبواء قرب ودان والتي تبعد عن المدينة (170) كم وقيل أكثر وهو أول خروج له من المدينة ومعه ستون راكباً من المهاجرين خاصة ، وقيل هي أول غزوة له ، وذكرت في الغاية من هذه الغزوة وجوه :
الأول : ارادة إعتراض عير لقريش قال ابن حزم (ثُمّ غَزَا بِنَفْسِهِ غَزْوَةَ الْأَبْوَاءِ ، وَيُقَالُ لَهَا : وَدّانَ ، وَهِيَ أَوّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا بِنَفْسِهِ وَكَانَتْ فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مُهَاجَرِهِ وَحَمَلَ لِوَاءَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَكَانَ أَبْيَضَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ ، وَخَرَجَ فِي الْمُهَاجِرِينَ خَاصّةً يَعْتَرِضُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ ، فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا) ( ).
الثاني : يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً وبني ضمرة ،قاله ابن إسحاق( ).
الثالث : ارادة غزوة قريش .
ولم يثبت أي من هذه الوجوه ، إذ رجع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدما وادع بن ضمرة ورئيسهم مخشي بن عمرو ( ).
وتضمنت هذه الموادعة مسائل :
الأولى : لا يغزو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بني ضمرة وهم لا يغزونه .
الثانية : لا يكثر بنو ضمرة الجمع على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فلو جاء كفار قريش لغزو المدينة ولقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فيجب على بني ضمرة أن لا يخرجوا معهم ، وتضمن العقد عدم إكثار بني ضمرة الجمع على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليشمل من باب الأولوية القطعية عدم إشتراك بني ضمرة في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وعدم القيام بأسر المسلمين .
وفيه بعث للطمأنينة في نفوس المسلمين وعامة أهل المدينة، ومنهم اليهود بالأمن من بعض أطراف المدينة والقبائل المحيطة بها وهو من مصاديق قوله تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
الثالث : لزوم امتناع بني ضمرة عن اعانة أي عدو يريد غزو المدينة أو الإضرار بالمسلمين ، وبين الإعانة والغزو عموم وخصوص مطلق ، فموضوع الإعانة أعم ، ويشمل المدد بالرجال والسلاح والمال ، ونقل الأخبار ونصب العيون وغيره.
الرابع : نصرة بني ضمرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ونصرة خصوص المؤمنين والصلحاء من بني ضمرة ، فهو لا ينصر الظالم ، والعقد ليس مسوغاً لنصرة أرباب الباطل ،وفيه علم ومنهج إصلاحي وأخلاقي جديد يدخل الجزيرة ، إذ كان بعضهم ينصر بعضاً بالحق والباطل .
وفي التنزيل [إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا] ( ) .
ولم يرد لفظ [حَمِيَّةَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ولمرتين وإقترانها بالجاهلية ليكون من معاني هذا الإنفراد البشارة بانقطاع العصبية وحمية الجاهلية ، وإبتداء حكم الشريعة وسيادة العدل والإنصاف .
وهل كتب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً وعقداً تحريرياً مع بني ضمرة ، الجواب نعم ، وفيه تأكيد واقرار برسالته .
وفيه (بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ لِبَنِي ضَمْرَةَ فَإِنّهُمْ آمِنُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَنّ لَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ رَامَهُمْ إلّا أَنْ يُحَارِبُوا فِي دِينِ اللّهِ مَا بَلّ بَحْرٌ صُوفَةً ، وَإِنّ النّبِيّ إذَا دَعَاهُمْ لِنَصْرِهِ أَجَابُوهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ ، وَلَهُمْ النّصْرُ عَلَى مَنْ بَرّ مِنْهُمْ وَاتّقَى) ( ) وفيه مسائل :
الأولى : إبتداء الكتاب بالبسملة ، ويدل بالدلالة التضمنية على تسليم بني ضمرة بآيات القرآن بلحاظ أن البسملة منها ، وأنهم كانوا يكتبون باسمك اللهم ، وعن قتادة في قوله تعالى[وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ] ( ) .
قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حين صالح قريشاً ، كتب في الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم . فقالت قريش : أما الرحمن فلا نعرفه ، وكان أهل الجاهلية يكتبون : باسمك اللهم . فقال أصحابه : دعنا نقاتلهم . قال : لا ، ولكن اكتبوا كما يريدون ( ) .
وكان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى الأبواء في السنة الثانية للهجرة ، وصلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجاهد لتثبيت آيات القرآن وسنن التوحيد في الأرض، وأن كفار قريش كانوا مصرين على الجحود ، والجدال والمغالطة ونقض العهود ، فصار فتح مكة حاجة ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
الثانية : صدور الكتاب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصبغة الأمان لهم ، وفيه شاهد على بلوغ المسلمين حال قوة وعزة ومنعة من الله ، فصارت القبائل والكفار تخشى منهم .
وظاهر ذكر الأمان أنه كان بامكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم غزو بني ضمرة أو حملهم على الإسلام وهجران الكفر وتهديدهم وتخويفهم ، ولكنه بعث الطمأنينة في نفوسهم بالموادعة .
وهذه الخشية ليست من الغزو والهجوم إنما هي بسبب إقامة شطر من القبائل على الكفر .
وسرعان ما اطمأنوا له لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يدعون إلى الله من غير قتال ولا يريدون إلا الصلاح قال تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]( ).
الثالثة :بيان تنزه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عن الطمع في أموال الناس ، وأن كانوا كفاراً ما داموا لا يعتدون على المسلمين، ولا يعينون عليهم .
الرابعة : دلالة كتاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا على ميل بني ضمرة إلى الإسلام , وتدبرهم في آيات الله ، وهل كان للطلعة البهية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في لقائه مع وفد بني ضمرة وحديثه معهم موضوعية في عقد الموادعة هذا ، الجواب نعم ، وهو من أسرار قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) .
وصحيح أن العقد تم مع رئيس بني ضمرة إلا أنه ليس من اعتراض أو احتجاج أو سؤال انكاري من بعض الأفراد منهم ، إنما سبق هذا العقد وتعقبه دخول طائفة منهم الإسلام .
الخامسة :المراد من (مَا بَلّ بَحْرٌ صُوفَةً) أي في البحر صوف على هيئة الصوف الحيواني ، ويطفوا على سطح البحر ، وهو يبقى دائماً في بلل لأن ماء البحر لا ينقطع دلالة على التأييد في المعاهدة .
وفي أمثال العرب (لا أفعله ما وَسقت عَيْني الماءَ؛ أي حملت، وما ذرفت عَيْني الماء، ولا أفعله ما أرزمَت أُمُّ حائل؛ أي حَنَّتْ في إثْرِ ولدها، ولا أفعله ما أن في السماء نجْماً؛ أي ما كان في السماء نجم، وما عنَّ في السماء نجم، أي: ما عرض.
وما أن في الفرات قطرة؛ أي ما كان في الفرات قَطْرة، ولا أفعله حتى يؤوب القارِظ العَنَزى، وحتى يؤوب المُنَخَّل، وحتى يحِنُّ الضّب في أثَر الإبل الصادرة.
وما دعا اللّه داع،وما حج للّه راكب، ولا أفعله ما أن السماء سماء، وما دام للزيت عاصر، وما اختلفت الدِّرة والجرَّة؛ واختلافهما أن الدِّرَّة تسفل والجرَّة تعلو، وما اختلف الملَوان والفتيان ، والعصران ، والجديدان والأجدّان؛ يعني الليل والنهار، ولا أفعله ما سَمر ابنا سمير، ولا أفعله سَجيس عُجيس، وسجيس الأوْجَس؛ وكله أي آخر الدهر، ولا أفعله ما غَبا غُبيس؛ أي ما أظلم الليل، ولا أفعله ما حنَّت النِّيب، وما أطّت الإبل، وما غرد راكب، وما غرَّد الحمام، وما بلَّ بحر صُوفة، ولا أفعله أُخْرى الليالي، وأُخْرى المَنُون، أي آخر الدهر، ولا أفعله يد الدهر، وقفا الدهر، وحَيْرِيّ دَهْرٍ، ولا أفعله سميَر الليالي، ولا أفعله ما لألأت الفُور؛ أي الظباء، ولا أفعله حتى تبيض جَوْنة القار، ولا أفعله حتى يَرِد الضب، والضب لا يشرب ماء أبداً.) ( ).
وكان مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه إلى الأبواء ستون , وكلهم من المهاجرين ورجعوا إلى المدينة راضين بهذه الموادعة ، ولم يروموا قتالاً أو غزواً .
وهذه الموادعة من مصاديق التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين قبل نزول قوله تعالى في أول آية البحث [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ]( ).
بلحاظ كبرى كلية وهي أن موضوع التخفيف أعم من أن ينحصر بمسألة القتال , إنما يشمل أموراً :
الأول : التبليغ .
الثاني : الوقاية والسلامة من القوم الظالمين .
الثالث : دفع الآفات والمصائب عن المسلمين ، وفي التنزيل [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] ( ).
الرابع : إنشغال الذين كفروا بأنفسهم ، وصرف أذاهم عن المؤمنين ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
الخامس : تفضل الله عز وجل على المسلمين بالصبر ، والتحلي بتحمل الأذى برضا .
السادس : ذات الهجرة من مكة إلى المدينة تخفيف من جهات :
الأولى : الهجرة تخفيف عن المؤمنين الذين هاجروا .
الثانية : التخفيف عن المسلمين والمسلمات الذين بقوا في مكة ، وعلمهم بتيسير طريق الهجرة ، وهل مال كفار قريش للتخفيف عنهم خشية إختيارهم الهجرة والإنضمام إلى المهاجرين والأنصار في المدينة ، الجواب نعم .
الثالثة : التخفيف عن الأنصار بقدوم المهاجرين إلى المدينة والأخوة الإيمانية والتعاضد والتعاون بينهم ، والعزم على الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن أنفسهم .
الرابعة : في هجرة النبي محمد صلى الله وأهل بيته وأصحابه تخفيف عن الناس جميعاً من جهات :
الأولى : الهجرة مقدمة لهداية الناس .
الثانية : في الهجرة سلامة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم
الثالثة :استدامة التنزيل (أتى ابن عباس علبة بن الأسود ، أو نافع بن الحكم فقال له : يا ابن عباس إني أقرأ آيات من كتاب الله أخشى أن يكون قد دخلني منها شيء .
قال ابن عباس : ولم ذلك؟ قال : لأني أسمع الله يقول : { إنا أنزلناه في ليلة القدر }( ) ويقول : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين } ( )ويقول في آية أخرى : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن }( ) وقد نزل في الشهور كلها شوال وغيره .
قال ابن عباس : ويلك إن جملة القرآن أنزل من السماء في ليلة القدر إلى [بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ]( )، يقول : إلى سماء الدنيا فنزل به جبريل في ليلة منه وهي ليلة القدر المباركة ، وفي رمضان ، ثم نزل به على محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة الآية والآيتين والأكثر) ( ).
الرابعة : في الهجرة استعداد للدفاع , وصدّ ودفع للمشركين في غزوهم وهجومهم ، ولو لم يهاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة هل كان مشركوا قريش يقصدون الأوس والخزرج لمحاربتهم بسبب إيمانهم .
الجواب نعم ، فقد أصر كفار قريش على إرادة تثبيت عبادة الأصنام واستدامة محاربة الإسلام ، ولو هجموا لكان الكفار والمنافقون عوناً لهم على المؤمنين مع قلتهم ، ولكن الله عز وجل تفضل بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليزداد عدد المسلمين من الأوس والخزرج ويدخل الإسلام كل بيت من بيوتهم ، ويعلن كبراؤهم دخول الإسلام .
الخامسة : ابتداء إنقطاع الغزو والهجوم بين القبائل ومن أقسى وأبغض المفاهيم التي تسود وتحكم هي العشائرية والقبلية والتعصب الأعمى لها , ونصرة القبيلة للفرد منهم ظالماً أو مظلوماً .
وتمادى بعضهم في البغي والعدوان خاصة مع القبائل التي يراها أضعف من قبيلته ومع الأفراد والناس الذين ليس لهم قبيلة أو أنهم ابتعدوا عن قبائلهم أو نفوا منها .
فجاء الإسلام لبناء صرح التكافؤ بين الناس إلى يوم القيامة ، ونزل القرآن بالنداء العام للناس في عشرين آية ، منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] ( ).
وتبين الآية الصبغة الإنسانية لآيات القرآن ودعوة المسلمين إلى نبذ الكراهية وأسباب العداوة مع عموم أهل الملل والنحل ، وحثهم على إختيار الموادعة والصلح وحسن المعاملة , ودعوة الناس للإيمان بالحجة والبرهان .
وورد عن الإمام علي عليه السلام (الناس صنفان : أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)( ).
وفيه دعوة للتواصل والتسامح بين المسلمين والناس ، والإمتناع عن الإرهاب والقتل العشوائي ، وإيجاد الأسباب الواهية له والتي ما أنزل الله بها من سلطان .
لقد كان الشيطان يغوي الذين يتبعون خطواته باشاعة الفساد والقتل في الأرض ، وإن لم يكن بالقبلية والعشائرية والمناطقية فبأسباب وذرائع أخرى , فتفضل الله عز وجل على الناس بالأنبياء والكتب السماوية لتهذيب السلوك العام ، وبعث النفرة في النفوس من إرتكاب السيئات ، وهذا الفضل من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة عندما احتجوا على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) فمن علم الله عز وجل بعثة الأنبياء وتعاقبهم , وإختتام النبوة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل يختص التخفيف في آية البحث بالعدد والتقابل فيه ، الجواب لا ، إنما يشمل التخفيف في آية البحث البشارة بكثرة المسلمين ، فقد خرج المسلمون إلى معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة وعددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وخرجوا إلى معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة وعددهم ألف ، وإنخزل منهم ثلاثمائة وسط الطريق بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
ليبقى نحو سبعمائة من المؤمنين يواجهون ثلاثة آلاف من المشركين أي بنسبة أقل من الربع أما من جهة الرواحل والأسلحة فالفارق أكبر وأشد وأمرّ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ( ).
وهل كان جيش المشركين الكبير هذا كله من المتطوعين ومن رجال القبائل الذين تلبسوا بالكفر، وإتخذوه بلغة ورداءً لمحاربة النبوة والتنزيل .
الجواب لا، إذ كان ثلثا هذا الجيش أي الفان من مجموع الجيش مستأجرين للقتال، وفي قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ) .
قال سعيد بن جبير: نزلت في أبي سفيان بن حرب ، استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من بني كنانة يقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى من استجاش من العرب ، فأنزل الله هذه الآية ، وهم الذين قال فيهم كعب بن مالك :
(قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يُجِيبُ هُبَيْرَةَ بْنَ أَبِي وَهْبٍ أَيْضًا :
أَلَا هَلْ أَتَى غَسّانَ عَنّا وَدُونَهُمْ … مِنْ الْأَرْضِ خَرْقٌ سَيْرُهُ مُتَنَعْنِعُ
صَحَارٍ وَأَعْلَامٌ كَأَنّ قَتَامَهَا … مِنْ الْبُعْدِ نَقْعٌ هَامِدٌ مُتَقَطّعُ
تَظَلّ بِهِ الْبُزّلُ العَرامِيس رُزّحَا … وَيَخْلُو بِهِ غَيْثُ السّنِينَ فَيُمْرِعُ
بِهِ جِيَفُ الْحَسْرَى يَلُوحُ صَلِيبُهَا … كَمَا لَاحَ كَتّانُ التّجَارِ الْمُوَضّعُ
بِهِ الْعَيْنُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً … وَبَيْضُ نَعَامٍ قَيْضُهُ يَتَقَلّعُ
مُجَالَدُنَا عَنْ دِينِنَا كُلّ فَخْمَةٍ … مُذَرّبَةٍ فِيهَا الْقَوَانِسُ تَلْمَعُ
وَكُلّ صَمُوتٍ فِي الصّوَانِ كَأَنّهَا … إذَا لُبِسَتْ تَهْىٌ مِنْ الْمَاءِمُتْرَعُ
وَلَكِنْ بِبَدْرٍ سَائِلُوا مَنْ لَقِيُتمُ … مِنْ النّاسِ وَالْأَنْبَاءُ بِالْغَيْبِ تَنْفَعُ
وَإِنّا بِأَرْضِ الْخَوْفِ لَوْ كَانَ أَهْلُهَا .سِوَانَا لَقَدْ أَجْلَوْا بِلَيْلٍ فَأَقْشَعُوا
إذَا جَاءَ مِنّا رَاكِبٌ كَانَ قَوْلُهُ .أَعِدّوا لِمَا يُزْجِي ابن حَرْبٍ وَيَجْمَعُ
فَمَهْمَا يُهِمّ النّاسَ مِمّا يَكِيدُنَا … فَنَحْنُ لَهُ مِنْ سَائِرِ النّاسِ أَوْسَعُ
فَلَوْ غَيْرُنَا كَانَتْ جَمِيعًا تَكِيدُهُ البرية … قد أعطوا يداً وَتَوَزّعُوا
نُجَالِدُ لَا تَبْقَى عَلَيْنَا قَبِيلَةٌ … مِنْ النّاسِ إلّا أَنْ يَهَابُوا وَيَفْظُعُوا
وَلَمّا ابْتَنَوْا بِالْعَرْض ِ قَالَ سَرَاتُنَا . عَلَامَ إذَا لَمْ تَمْنَعْ الْعِرْضَ نَزْرَعُ
وَفِينَا رَسُولُ اللّهِ نَتْبَعُ أَمْرَهُ … إذَا قَالَ فِينَا الْقَوْلَ لَا نَتَطَلّعُ
تَدَلّى عَلَيْهِ الرّوحُ مِنْ عِنْدِ رَبّهِ … يُنَزّلُ مِنْ جَوّ السّمَاءِ وَيُرْفَعُ
نُشَاوِرُهُ فِيمَا نُرِيدُ وَقَصْرُنَا … إذَا مَا اشْتَهَى أَنّا نُطِيعُ وَنَسْمَعُ
وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ لَمّا بَدَوْا لَنَا.ذَرُوا عَنْكُمْ هَوْلَ الْمَنِيّاتِ وَاطْمَعُوا
وَكُونُوا كَمَنْ يَشْرِي الْحَيَاةَ تَقَرّبًا … إلَى مَلِكٍ يُحْيَا لَدَيْهِ وَيُرْجَعُ
وَلَكِنْ خُذُوا أَسْيَافَكُمْ وَتَوَكّلُوا … عَلَى اللّهِ إنّ الْأَمْرَ لِلّهِ أَجْمَعُ
فَسِرْنَا إلَيْهِمْ جَهْرَةً فِي رِحَالهِمْ … ضُحَيّا عَلَيْنَا الْبِيضُ لَا نَتَخَشّعُ
بِمَلْمُومَةٍ فِيهَا السّنَوّرُ وَالْقَنَا … إذَا ضَرَبُوا أَقْدَامَهَا لَا تَوَرّعُ
فَجِئْنَا إلَى مَوْجٍ مِنْ الْبَحْرِ وَسْطَهُ … أَحَابِيشُ مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقَنّعُ
ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَنَحْنُ نَصِيّةٌ … ثَلَاثُ مِئِينٍ إنْ كَثُرْنَا وَأَرْبَعُ
نُغَاوِرهُمْ تَجْرِي الْمَنِيّةُ بَيْنَنَا … نُشَارِعُهُمْ حَوْضَ الْمَنَايَا وَنَشْرَعُ
تَهَادَى قِسِيّ النّبْعِ فِينَا وَفِيّهُمْ … وَمَا هُوَ إلّا الْيَثْرِبِيّ الْمُقَطّعُ
وَمَنْجُوفَةٌ حَمِيّةٌ صَاعِدِيّةٌ … يُذَرّ عَلَيْهَا السّمّ سَاعَةَ تُصْنَعُ
تَصُوبُ بِأَبْدَانِ الرّجَالِ وَتَارَةً … تَمُرّ بِأَعْرَاضِ الْبِصَارِ تَقَعْقَعُ
وَخَيْلٌ تَرَاهَا بِالْفَضَاءِ كَأَنّهَا … جَرَادٌ صَبًا فِي قَرّةٍ يَتَرَيّعُ
فَلَمّا تَلَاقَيْنَا وَدَارَتْ بِنَا الرّحَى … وَلَيْسَ لِأَمْرٍ حَمّهُ اللّه مَدْفَعُ
ضَرَبْنَاهُمْ حَتّى تَرَكْنَا سَرَاتَهُمْ … كَأَنّهُمْ بِالْقَاعِ خُشْبٌ مُصَرّعُ
لَدُنْ غُدْوَةً حَتّى اسْتَفَقْنَا عَشِيّةً … كَأَنّ ذَكَانَا حَرّ نَارٍ تَلَفّعُ
وَرَاحُوا سِرَاعًا مُوجِفِينَ كَأَنّهُمْ . جَهَامٌ هَرَاقَتْ مَاءَهُ الرّيحُ مُقْلَعُ
وَرُحْنَا وَأُخْرَانَا بِطَاءٌ كَأَنّنَا … أُسُودٌ عَلَى لَحْمٍ بِبِيشَةَ ظُلّعُ
فَنِلْنَا وَنَالَ الْقَوْمُ مِنّا وَرُبّمَا … فَعَلْنَا وَلَكِنْ مَا لَدَى اللّهِ أَوْسَعُ
وَدَارَتْ رَحَانَا وَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ .وَقَدْ جُعِلُوا كُلّ مِنْ الشّرّ يَشْبَعُ
وَنَحْنُ أُنَاسٌ لَا نَرَى الْقَتْلَ سُبّةً .عَلَى كُلّ مَنْ يَحْمِي الذّمَارَ وَيَمْنَعُ
جِلَادٌ عَلَى رَيْبِ الْحَوَادِثِ لَا نَرَى .عَلَى هَالِكٍ عَيْنًا لَنَا الدّهْرَ تَدْمَعُ
بَنُو الْحَرْبِ لَا نَعْيَا بِشَيْءٍ نَقُولُهُ .وَلَا نَحْنُ مِمّا جَرّتْ الْحَرْبُ نَجْزَعُ
بَنُو الْحَرْبِ إنْ نَظْفَرْ فَلَسْنَا بِفُحّشٍ … وَلَا نَحْنُ مِنْ أَظْفَارِهَا نَتَوَجّعُ
وَكُنّا شِهَابًا يُتّقَى النّاسُ حَرّهُ … وَيَفْرُجُ عَنْهُ مَنْ يَلِيهِ وَيَسْفَعُ
فَخَرْتَ عَلَيّ ابن الزّبَعْرَى وَقَدْ سَرَى.لَكُمْ طَلَبٌ مِنْ آخِرِ اللّيْلِ مُتْبَعُ
فَسَلْ عَنْك فِي عُلْيَا مَعَدّ وَغَيْرِهَا.مِنْ النّاسِ مَنْ أَخْزَى مَقَامًا وَأَشْنَعُ
وَمَنْ هُوَ لَمْ تَتْرُكْ لَهُ الْحَرْبُ مَفْخَرًا … وَمَنْ خَدّهُ يَوْمَ الْكَرِيهَةِ أَضْرَعُشَدَدْنَا بِحَوْلِ اللّهِ وَالنّصْرِ شَدّةً . عَلَيْكُمْ وَأَطْرَافُ الْأَسِنّةِ سُرّعُ
تَكُرّ الْقَنَا فِيكُمْ كَأَنّ فُرُوعَهَا … عَزَالِي مَزَادٍ مَاؤُهَا يَتَهَزّعُ
عَمَدْنَا إلَى أَهْلِ اللّوَاءِ وَمَنْ يَطِرْ .بِذِكْرِ اللّوَاءِ فَهُوَ فِي الْحَمْدِ أَسْرَعُ
فَخَانُوا وَقَدْ أَعْطَوْا يَدًا وَتَخَاذَلُوا . أَبَى اللّهُ إلّا أَمْرَهُ وَهُوَ أَصْنَعُ( ).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحكم بن عتيبة في قوله [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
قال: نزلت في أبي سفيان ، أنفق على مشركي قريش يوم أحد أربعين أوقية من ذهب ، وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالاً من ذهب ( ).
ولا تعارض بين الخبرين أعلاه لإتحاد الموضوع في تنقيح المناط، وهذا الإستئجار مع ما فيه من بذل الأموال الطائلة فهو من أسباب إنسحاب جيش المشركين في نفس يوم المعركة مع ظهور جيش المشركين في بعض جولات القتال.
وهل من موضوعية لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس في مكة وطوافه على القبائل في منازلهم في مواطن الحج ومناسكه في إمتناع حيش المشركين عن القتال وإطالة مدته .
الجواب نعم، فقد بلغت دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى التوحيد، ووجوب إمتناع الناس جميعاً عن الشرك وعبادة الأوثان القبائل والأمصار , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( )، والذي تدعوه قريش للخروج يتدبر في الأمر ويدرك أنه على ضلالة في هذا الخروج وإن سار مع جيش قريش، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ]( )، لتكون دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس الى الإسلام قبل الهجرة من مصاديق التخفيف عنهم بعد الهجرة، وقوله تعالى[الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا]( ).
إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرجو اسلام أهل مكة وتعضيدهم له من جهات :
الأولى :تجلي معجزات النبوة على يديه .
الثانية : إرث النبوة في مكة إذ تتوارث الأجيال قصة بناء إبراهيم للبيت كما في قوله تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ) وندائه بالحج.
الثالثة : صلة قريش مع بلاد الروم واليمن وأهل المدينة ومنهم اليهود , وصيرورة هذه الصلة مناسبة لمعرفة معجزات الأنبياء، وتصديق الناس بها.
الرابعة : قريش هم عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهله، وكانوا يثقون به ويسمونه الصادق الأمين، للزوم إستصحاب هذه الثقة في التصديق بنبوته، ولا تصل إليها النوبة فمن خصائص المعجزة أنها تجذب الناس للتصديق بها، وتبطل المغالطة والجدال.
الخامسة : توارث الأخبار بين الناس عن معجزات الأنبياء، وقراءة بعض الناس للتوراة والأنجيل، ومن العرب من صار يهودياً أو نصرانياً.
السادسة : كل آية من القرآن تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة لقريش والناس جميعاً للإيمان.
السابعة : موضوعية جوار البيت الحرام في تلقي وقبول الإيمان .
الثامنة : عدم مغادرة حنيفية إبراهيم مكة والمناسك فيها ، فمن الآيات وجود بقايا للحنيفية الإبراهمية في مكة وقريش من ذرية إبراهيم .
التاسعة : إطلاع رجال قريش على أخبار النبوة في الجملة والوقائع والأحداث ، وإدراكهم لقانون حتمية نصر النبي الذي يبعثه الله ، وفي التنزيل [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
العاشرة : تجلي إعجاز آيات القرآن مع أهلية رجال ونساء قريش لتمييز ومعرفة دلائل الإعجاز فيها .
الحادية عشرة : توالي المعجزات الحسية على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم وقيل أنها تزيد على الف ومائتي معجزة منها آية الإسراء بالنبي صلى الله عليه وآله سلم من مكة إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السماء ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] ( ).
ومنها تسبيح الجبال الصم معه ، وحنين الجذع له عند إبداله بالمنبر ، وتسبيح الحصى وهي في يده المباركة , ونبع الماء من بين أصابعه بما جعل المسلمين يشربون ويتوضأون منه ، ومن الدلائل عليها أمور :
الأول : تواتر الأخبار بهذه المعجزات .
الثاني : تسليم الناس بها ، ودخول طائفة منهم الإسلام لرؤيتهم هذه الآيات .
الثالث : توالي المعجزات بفضل من عند الله عز وجل .
الرابع : إصابة الذين كفروا بالوهن والضعف مع توالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : تعضيد التنزيل لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكون القرآن هو المعجزة الكبرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي تتجدد في كل زمان وإلى يوم القيامة لا يمنع من الحجة والإحتجاج بالمعجزات الحسية له ، وأثرها وعظيم نفعها .
ولما دخلت طائفة من الناس الإسلام وصارت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حديث المنتديات والركبان مع الميل لمعجزاته والذي يدل بالدلالة التضمنية على توجه بعض رؤساء قريش إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم:
الأول : عتبة بن ربيعة.
الثاني : شيبة بن ربيعة بن عبد شمس.
الثالث : أبو جهل بن هشام
الرابع : أمية بن خلف .
وكل واحد من هؤلاء الأربعة قتل في معركة بدر.
الخامس : أبو سفيان بن حرب .
وعدد آخر من وجهاء قريش وسألوه أن يطلب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يكف عنهم ، ويدع لهم دينهم ولا يطعن بالأصنام، أو يسفه أحلامهم ، ويذم عبادتها سواء من قبلهم أو من قبل آبائهم ، إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكشف لهم حقيقة وهي أن وراثتهم لعبادتها خطأ وضلالة تقود إلى النار، قال تعالى[وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
فبعث أبو طالب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحضورهم وأخبره بما يريدون وما جاءوا من أجله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم “
فقال أبو جهل: نعم وأبيك وعشر كلمات.
قال: ” تقولون لا إله إلا الله.
وتخلعون ما تعبدون من دونه “.
فصفقوا بأيديهم.
ثم قالوا: يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلهاً واحدا ؟ إن أمرك لعجب.
قال: ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه.
ثم تفرقوا.) ( ).
ومن خصائص معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور :
الأول : إصابة عدد المشركين بالنقص وتفرق وإرباك مجتمعهم وظهور الخلاف والخصومة في منتدياتهم ، وحينما جاءهم رسول أبي سفيان رئيس قافلتهم القادمة من الشام يخبرهم وينذرهم فيها بتعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لها ثارت حمية بعض رؤساء الكفر ، وصاروا يحرضون الناس على الخروج للقتال للحفاظ على أموالهم ، خاصة وأن لكل بيت من قريش تجارة في هذه القافلة التي قوامها ألف بعير .
وجهزوا في ثلاثة أيام جيشاً من ألف رجل وكان ضمضم رسول ابي سفيان يلح عليهم بالخروج فهو لم يكتف بتبليغ رسالة أبي سفيان .
وخرجوا متوجهين للذب عن القافلة وقتال الذي تعرض أو يتعرض لها، ولقد امتنع عدد من وجهاء قريش عن الخروج في هذه القافلة مع الحمية والحماس الذي صاحبها وإدعاء السبب الموجب والمقتضي لها .
وممن أراد القعود وعدم الخروج أمية بن خلف، (وكان شيخاً جليلاً جسيماً ثقيلاً)( ).
زكان قد توعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتله، ورد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه بأن توعده بالقتل ، فأدرك صدق كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لا ينطق إلا بالحق ، فخشي أمية من القتل حال الخروج إلى بدر.
فأتاه عقبة بن أبي معيط الذي كان من أشد الناس عداوة وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ومع عقبة مجمرة يحملها وفيها نار وجمر ووضعها بين يدي أمية بن خلف وقال (يا ابا على استجمر فانما انت من النساء) ( ).
فقال أمية قبحك الله ، وقبح ما جئت به ، ثم تجهز أمية ، وقُتل في معركة بدر ، كما تخلف أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذي نزلت سورة من القرآن في ذمه وزوجته لشدة إيذائه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة بعوض وهو أربعة آلاف درهم كانت لأبي لهب وأفلس وعجز عن ردها فأستاجره بها بأن يخرج بدلاً عنه .
ولكن نفير ودعوة كفار قريش موجهة للعاصي بن هشام بنفسه أيضاً .
وهناك عدد آخر من كفار قريش تخلفوا وأرسل كل واحد منهم بدلاً عنه , وقتل العاصي بن هشام يوم بدر ، وذكر أن الذي قتله عمر بن الخطاب، وهو خال عمر .
ومن إعجاز القرآن أنه لم يرد لفظ [خَفَّفَ] في فيه إلا في آية البحث لبيان تفضيل المسلمين بالتخفيف من عند الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) وهل يعني هذا اختصاص التخفيف بهم من بين المسلمين والمؤمنين من أهل الملل الأخرى .
الجواب لا ، إذ تبين الآية قانوناً وهو الملازمة بين الإيمان والتخفيف فيؤمن الناس بالله عز وجل فيرزقهم التخفيف ، ليكون نوع سبيل لأداء الواجبات العبادية ، وهل هذا التخفيف من مصاديق [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) الجواب نعم ، كما أنه من مقدمات الهداية إلى الصراط وأسباب الثبات في مناهج الصراط القويم .
لقد تفضل الله عز وجل على المسلمين بالتخفيف وأخبرهم في آية البحث بهذا التخفيف بلحاظ أمور :
الأول : التخفيف نعمة من عند الله ، ولا يقدر عليها غيره سبحانه ولا يستطيع غيره حجب أو منع النعم التي يتفضل بها .
الثاني : إخبار آية البحث عن تخفيف الله عز وجل عن المسلمين دعوة لهم للشكر له سبحانه على هذه النعمة ، وهذا الشكر بلغة لإستدامة هذا التخفيف وزيادته كماً وكيفاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
الثالث : بعث المسلمين على الدعاء وسؤال الله عز وجل التخفيف عنهم في ذات موضوع الدفاع الذي تذكره آية البحث ، وفي غيره .
ومن خصائص النبوة ملازمة التخفيف من الله عز وجل لها ، ومنه النسخ في آيات القرآن ، ويمكن تسمية الحياة الدنيا (دار التخفيف ) إذ يخفف الله عز وجل من وجوه :
الأول : التخفيف عن الناس كافة .
الثاني : التخفيف عن المؤمنين خاصة ، قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
الثالث : التخفيف عن الشخص الواحد من الناس ذكراً كان أو أنثى ، مسلماً أو كتابياً أو كافراً ، فمن مصاديق خلافة الإنسان في الأرض تخفيف الله عز وجل عنه .
وهل تشترك الملائكة بالتخفيف عن الناس ، الجواب نعم، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فمن علم الله عز وجل أنه سبحانه يخفف عن الناس ويكون هذا التخفيف طريقاً إلى التوبة والإنابة , وينزل الملائكة بأمر من الله لإعانة المسلمين والناس في التخفيف عنهم ويستبشر الملائكة بهذا التخفيف ، ويرجون إنتفاع الناس منه الإنتفاع الأمثل ، فيأتي التخفيف عن المسلمين لتتغشى بركاته كل الناس ، ومنه صيرورة نصر مائة من المسلمين على مائتين من المشركين , وكف الذين كفروا عن قتال النبي والمسلمين .
الرابع : من مصاديق التخفيف المحو وصرف البلاء , ودفع النقم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) .
لقد ابتدأت آية البحث بقوله تعالى [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا]( ) وقد يتبادر إلى الذهن أن النسبة بينهما هي التساوي ، وأن التخفيف المقصود في الآية يخص ذات القتال وعدد المسلمين الذين يقاتلون المشركين .
ولكن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، وتقدير الآية : الآن خفف الله عنكم في السلم والحرب وأمور الحياة وعلم ان فيكم ضعفاً …) ليكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : الآن خفف الله عنكم ، والتخفيف بيد الله عز وجل .
الثاني : لا يقدر على التخفيف عن المؤمنين والناس إلا الله عز وجل ،وفيه دعوة لطاعته وعبادته .
الثالث : الآن خفف الله عنكم ، ومن خصائص الحياة الدنيا أنها دار التخفيف عن المؤمنين ، وهل يختص التخفيف في الدنيا بالمؤمنين ، الجواب لا ، بل يعم الناس جميعاً ، وهو من مصاديق رحمة الله في الدنيا للناس جميعاً واثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، ويمكن تسمية الحياة الدنيا بأنها (دار التخفيف) .
وهل التخفيف في الآخرة أكثر أم أقل منه في الدنيا , الجواب هو الأول، ولكنه يختص بالمؤمنين ، وفي التنزيل[وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
الرابع : الآن خفف الله عنكم فاشكروا له سبحانه نعمة التخفيف .
وهل التخفيف في المقام من الكلي المتؤاطئ الذي يكون على مرتبة واحدة أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، الجواب هو الثاني ، لذا فان الشكر لله عز وجل على نعمة التخفيف يزيد منه كماً وكيفاً وزماناً وموضوعاً ومحمولاً ونفعاً.
ولو قالت الآية (وعلم فيكم ضعفاً فخفف عنكم ) لعلمنا بان الضعف الذي عند المسلمين علة وسبب للتخفيف عنهم ، ولكن الآية ابتدأت بالبشارة بالتخفيف ، ثم أخبرت عن علم الله عز وجل بحال الضعف الذي عند المسلمين , لبيان قانون وهو أن التخفيف رحمة وفضل من عند الله سبحانه .
ويحتمل هذا الضعف في زمانه وجوهاً :
الأول : مصاحبة اضعف للمسلمين من بداية الإسلام .
الثاني : إرادة الضعف بخصوص القتال وميدان المعركة .
الثالث : يؤدي الإنشغال بالعبادة وأداء الفرائض إلى الضعف .
الرابع : طرو الضعف على المسلمين لكثرة هجوم وغزو الذين كفروا لهم ، وتقدير الآية : الآن خفف الله عنكم , والآن علم فيكم ضعفاً ) ولا يعني هذا التقدير أن الله لم يكن يعلم بأن المسلمين سيكونون في حال ضعف إنما المراد موضوع الضعف .
والمختار هو الثاني ،والمراد منه ليس الوهن ، إنما قلة العدد ، كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) والمراد من الذلة في الآية وجوه :
الأول : قلة عدد جيش المسلمين بالنسبة إلى جيش المشركين يوم بدر .
الثاني : النقص في أسلحة المسلمين من جهة السيوف والرماح والنبال والدروع ، وكان عدد منهم لا يحملون إلا العصي .
الثالث : قلة الرواحل والخيل التي مع المسلمين ، وكانوا يتناوبون في الطريق كل ثلاثة على بعير واحد ، وهذا التناوب والمشي سبب للضعف ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا]( ) ولبيان قانون وهو أن الضعف الذي نزل بالمسلمين إنما هو بسبب جهادهم وبذلهم الجهد والوسع في سبيل الله ، فبينما وصل مشركوا قريش إلى ميدان معركة بدر راكبين على الرواحل وينحرون الإبل كل يوم في الطريق ، وكأنهم في نزهة ، وصل المسلمون إليه منهكين ، فتفضل الله عز وجل عليهم بالتخفيف مدداً منه سبحانه ، ويحتمل هذا المدد بلحاظ مسألة نزول الملائكة عونا ومدداً لنصرة المسلمين وجوهاً :
الأول : المدد بالتخفيف العام سابق في زمانه لمدد الملائكة .
الثاني : الإقتران بين التخفيف وأداء المدد ، إذ جاءا في زمان واحد .
الثالث : تقدم نزول الملائكة على نزول التخفيف .
والمختار هو الأول ، ليكون هذا التخفيف مناسبة لإجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالدعاء والإلحاح بسؤال النصرة من عند الله ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
إذ أن الإستغاثة مصداق للإلحاح في الدعاء ، والتوسل فيه ، وهو من رشحات التخفيف عن المسلمين بسبب ضعفهم ، وتفضل الله عز وجل بقبول القليل واليسير من الدعاء , والشكر والثناء عليه سبحانه .
الجواب نعم ، وذات الضعف في سبيل الله نوع مسألة وشكاية لله سبحانه ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ) أي أن صيرورة المسلمين في حال ضعف واستضعاف سبب لنزول أسباب العز والرفعة والشأن لهم ، وإزاحة الذين كفروا من مقامات السلطنة والحكم لأنهم طغوا فيه ، وعملوا بما يناقض سنن خلافة الإنسان في الأرض.
ويدل قوله تعالى [وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا]( ) على حقيقة وهي عجز المسلمين عن الهجوم والغزو لأن الضعيف لا يغزو ، ولا يقاتلون إلا عند الحاجة والضرورة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
ليكون في الآية دليل قرآني على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يغزوا قرية أو مدينة ، لأن الضعف يتغشاهم ولأن الكفار كانوا آنذاك كثيرين ، وأضعاف عدد السلمين فلم يكونوا بنسبة الإثنين إلى الواحد كما في قوله تعالى [فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ] ( ) .
فان قلت يختلف الأمر عندما صار عدد المسلمين كثيراً ، فيقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالغزو ، الجواب تبين آية البحث عدم إختلاف الأمر وأن المسلمين يجتنبون الغزو حتى مع كثرتهم لقوله تعالى [وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ]( ) .
وقيدت الآية حال المسلمين بالصبر وهناك نوع تضاد بينه وبين الغزو ، فصحيح أن الصبر في القتال حاجة وطريق إلى النصر ، ولكنه برزخ دون الغزو والهجوم ، فمن مصاديق الصبر في المقام وقوله تعالى [مِائَةٌ صَابِرَةٌ] أمور :
الأول : الدعوة إلى الله قبل بدأ القتال .
الثاني : سؤال الموادعة والصلح والتفرق ، بدل لمعان السيوف .
الثالث : المناداة بكلمة التوحيد بين الصفين ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأمر أمراء السرايا بدعوة العدو الى كلمة التوحيد والترغيب بها ، وصيرورتها مانعاً من القتال , والنطق بها بين الصفين برزخ دون القتال , وفي التنزيل[كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً]( ) ، أي بالتقيد بسنن التوحيد .
الرابع : إجتناب المسلمين الدعوة إلى المبارزة مع وجود فرسان وشجعان بينهم وتمدهم الملائكة ويفوزون بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالنصر ويعلمون أنهم على حق وأن القتيل منهم يروح إلى الجنة والنعيم الدائم ، بل أنهم يمتنعون عن إجابة الذي يدعو إلى المبارزة من المشركين ، ويترددون في البروز له إلا بعد إنعدام رجاء إنصرافه واتعاظه ، ولإقامة الحجة عليه ، ففي معركة أحد، تقدم حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة ووقف بين الصفين ونادى: أَنَا قَاصِمٌ مَنْ يُبَارِزُ بِرَازًا ( )، فسمعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة.
ومن أصول القتال خروج فارس لملاقاته أو أن آمر الجيش يأمر أحدهم بالخروج إلى الذي يطلب المبارزة ، وهذا الذي يؤمر قد يستجيب للأمر أو يعتذر ويمتنع ، والأكثر هو الإستجابة للأمر ، أما بالنسبة لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المقام فهو واجب فلابد من الإستجابة له ، لقوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) .
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ثلاثة من كبار أهل البيت : الإمام علي عليه السلام وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بالخروج عندما أصر عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة على المبارزة بقيد أن يكون المبارزون من بني هاشم ، وبعد أن تطوع ثلاثة شباب من الأنصار لمبارزتهم وأبى عتبة وأخوه وابنه منازلتهم ، وكان هذا الأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإستجابة أهل البيت له سبباً لنصر المسلمين في معركة بدر .
لقد كان جواب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحامل لواء المشركين وقومه : قولوا لا اله إلا الله تفلحوا) ولكنه أصر على المبارزة وأراد منع عامة جيش المشركين من سماع هذا النداء المبارك والتدبر فيه، إذ يسعى لجذب انتباههم للمبارزة ونتيجتها.
وعندما أدرك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يخرج منهم أحد لمبارزته نادى: يَا أَصْحَابَ مُحَمّدٍ زَعَمْتُمْ أَنّ قَتْلَاكُمْ فِي الْجَنّةِ وَأَنّ قَتْلَانَا فِي النّارِ كَذَبْتُمْ وَاَللّاتِي لَوْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ حَقّا لَخَرَجَ إلَيّ بَعْضُكُمْ( ).
وهل قوله هذا من الشجاعة أم من التهور ، الجواب إنه من الجحود والتهور والعناد ، وفيه ضلالة وعمى .
حينئذ برز إليه من بين المهاجرين والأنصار الإمام علي عليه السلام ، فاختلفا ضربتين ، فضربه الإمام علي فقتله وعندما ضربه وأنصرف عنه ، ولم يجهز عليه ، قال المسلمون له : أفلا أجهزت عليه ؟
فقال : إنه استقبلني بعورته فعطفتني عنه الرحم وعرفت أن الله عز وجل قد قتله( )، وفيه مسائل:
الأولى : لم يقابل المسلمون المشركين الغزاة بهجوم مباغت ونحوه، إنما تحلوا بالصبر.
الثانية : تمادي الذين كفروا بالغي، وإظهارهم العتو ، فعندما استمر ابن أبي طلحة في تحديه للمسلمين لم يطلب منه رؤساء جيشه وأصحابه الرجوع إلى الصف إنما كانوا يتفاخرون في خروجه للمبارزة ، وفي التنزيل [وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ]( ).
الثالثة : تجلي أبهى معاني الصبر على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، إذ يبرز حامل لواء المشركين، ويتحداهم، ويكذّبهم ويسخر منهم، وهم صابرون يرجون رجوعه.
الرابعة : تنجز معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتل الذي تحدى المسلمين واستخف بهم، ونال منهم.
الخامسة : في قتل حامل لواء المشركين زاجر لهم عن القتال، ودعوة لهم للإمتناع عن طلب المبارزة ، ولكن اخوة طلحة وابنه حذوا حذوه ، وطلبوا المبارزة فقتلوا جميعاً، ثم تقدم عبدهم صوّاب وحمل اللواء فقتل هو الآخر ليكون فيه شاهد على أن المشركين لم ينتصروا في معركة أحد ، إذ تلحق مبارزة حملة لواء المشركين وقتلهم الخزي بهم إلى يوم القيامة .
لقد حمل صواب اللواء وهو حبشي ، لأنه غلام لبني طلحة ويلحق بهم وقد قاتل باللواء وقطعت يداه ، فبرك على اللواء وأخذه بصدره وعنقه في ترغيب وحث لكفار قريش ليقاتلوا دونه .
( وهو يقول : اللهم هل أعزرت يعني اللهم هل أعذرت( ).
وإتخذ حسان بن ثابت من حمل العبد للواء قريش وقطع بديه مادة لتعييرهم فقال :
فخرتم باللواء وشر فخرٍ … لواءٌ حين رد إلى صواب
جعلتم فخركم فيها لعبدٍ … من الأم من وطى عفر التراب
ظنتم والسفيه له ظنونٌ … وما إن ذاك من أمر الصواب
بأن جلادنا يوم التقينا … بمكة بيعكم حمر العياب
أقر العين أن عصبت يداه … وما إن تعصبان على خضاب
وعن أبي كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا حبان ابن علي، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، قال: لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب الألوية، أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من مشركي قريش، فقال لعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم؛ ففرق جمعهم، وقتل عمرو بن عبد الله الجمحي.
قال: ثم أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعةً من مشركي قريش، فقال لعلي: احمل عليهم، فحمل عليهم ففرق جماعتهم؛ وقتل شيبة بن مالك أحد بنى عامر بن لؤي، فقال جبريل: يا رسول الله، إن هذه للمواساة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه مني وأنا منه، فقال جبريل: وأنا منكما، قال: فسمعوا صوتا:
لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي( ).
وهناك مسائل :
الأولى : هل يمكن أن تعاد وقائع معركة بدر وأحد في المحشر يوم القيامة، ويرى الناس وقائعهما ومصاديق نصر الله عز وجل للمسلمين بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، وان هذه الإعادة من مصاديق قوله تعالى[الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ).
الثانية : لا تعاد وقائع معركة بدر وأحد لأن يوم القيامة عالم حساب وجزاء .
الثالثة : لو سأل أهل الجنان الله عز وجل برؤية وقائع معركة بدر وأحد ونحوها مثلما جرت في الدنيا فان الله عز وجل يتفضل عليهم برؤيتها وبما هو أرفع وأدق من التصوير الوثائقي في هذا الزمان .
والمختار هو الأولى والثالثة أعلاه والعلم عند الله.
وكان الضعف في معارك الإسلام الأولى ظاهراً على المسلمين من جهات :
الأولى : غزو المشركين لبلدهم وإشراف جيوشهم على المدينة ، وعن الإمام علي عليه السلام (فما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا( ) واجترأ عليهم عدوهم.
ولكن وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المسلمين ونزول القرآن واقية من الذلة وسبب لمجئ النصر من عند الله عز وجل.
وعندما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه يسيرون خارج المدينة كان يسأل الركبان والأعراب عن أخبار قريش وسألوا رجلاً من الأعراب فلم يجدوا عنده خبراً.
ثم جاء الخبر إلى النبي محمد بأن قريشاً قد خرجوا للقتال والغزو بحجة منع عيرهم عندئذ أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بمسير قريش ، وكيف أنهم يرومون القتال ثم استشارهم ، قال تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( ) فتكلموا وأحسنوا .
(قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض لما أمر الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى اذهب انت وربك [فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ]( )، ولكن اذهب انت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرا ودعا له بخير ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشيروا علي، فذكر ابن عقبة وابن عائذ ان عمر قال يا رسول الله انها قريش وعزها والله ما ذلت منذ عزت ولا آمنت منذ كفرت والله لتقاتلنك فاتهب لذلك أهبته وأعدد لذلك عدته)( ).
الثانية : كثرة عدد جيش المشركين إذ كانوا ثلاثة آلاف رجل ولابد أن معسكراتهم وخيمهم تنتشر حول جبل أحد وعينين، إذ تكون كل قبيلة في ناحية ولم تشهد المدينة مثل هذا العدد من المهاجمين، وليس له موضوع، ولكن الله عز وجل تفضل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بنعمة السكينة وسلاح الصبر، والدعاء وهو التخفيف والمدد , ومن مصاديق قوله تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
وهذه الإستعانة في طول الإستعانة بالله وفرع منها، لذا أوجب الله عز وجل على كل مسلم ومسلمة قراءة [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، في الصلاة اليومية، ومن قبل أن تجري وقائع معركة بدر وأحد، لتكون هذه القراءة حصانة للمسلمين، وعصمة لهم من الهزيمة والإنكسار في المعركة، وإعلان المسلمين لعبادتهم لله عز وجل وإستعانتهم به وحده سبحانه شاهد على أنهم لم يتخذوا الغزو والبطش أو اشاعة القتل وسيلة وبلغة أو غاية وهدفاً، وتبعث الإستعانة بالله على نشر شآبيب الرحمة والصلاح.
الثالثة : قلة عدد الإبل والخيل مع المسلمين إذ كان معهم سبعون بعيراً وفرس واحدة ،وقيل فرسان ، أما المشركون فمعهم مائة فرس وأعداد كثيرة من الإبل ، فقد وصل أكثر المسلمين إلى ميدان المعركة سيراً على الأقدام ، وكان بعضهم يتناوب مع غيره من الصحابة في ركوب الإبل مما يؤدي إلى الإجهاد والعناء الذي يوثر سلباً على المقاتل والجيش في ميدان المعركة ، ولم يكن عندهم سيوف ودروع كافية لأنهم لم يقصدوا القتال أو الغزو ، ولكن كانت معهم آيات القرآن ، وكل آية خزينة ودرع للصدور ، ومناسبة للدعاء لسؤال الله النصرة والمدد .
وقد تجلت معاني النقص في عدد وعدة المسلمين في معركة بدر بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) وسيأتي مزيد كلام في قانون : رجحان كفة الإيمان.
وعن ابن عباس قال (لما نزل [إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا]( )، فكتب عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ، وأن لا يفر عشرون من مائتين ، ثم نزلت [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ]( )، فكتب أن لا يفر مائة من مائتين قال سفيان : وقال ابن شبرمة: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا ، إن كانا رجلين أمرهما وإن كانا ثلاثة فهو في سعة من تركهم) ( ).
ومن الإعجاز في الآية إقتران الوعد من الله عز وجل بأمره إلى المسلمين ، فحينما يأمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بتحريض المؤمنين على القتال فانه وعدهم بالنصر ، وإن كانوا معشار المشركين ، نعم في الآية قيد وشرط على المسلمين التقيد به وهو الصبر وبينه وبين عدم الفرار عموم وخصوص مطلق .
(عن عبادة بن الصامت قال : قال رجل :يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال : الصبر والسماحة . قال : أريد أفضل من ذلك . قال : لا تتهم الله في شيء من قضائه) ( ) .
وعن الإمام علي عليه السلام (الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، إذا قطع الرأس نتن باقي الجسد ، ولا إيمان لمن لا صبر له) ( )، والصبر لغة الحبس والمنع والكف .
ومن مصاديق وفضل الصبر أمور :
الأول : الصبر في العبادة وأداء الفرائض .
الثاني : الصبر على ضنك العيش مع الإيمان .
الثالث : الصبر عن معصية الله .
الرابع : الصبر الحسن الخالي من الجزع والشكوى، قال تعالى[فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً]( ).
الخامس : الصبر المقرون بالتسبيح والدعاء لتقريب الفرج ، ودفع الأذى ومحو الكربات .
السادس : الصبر عن ملذات الدنيا ، حباً لله عز وجل وشوقاً للقائه , وفي التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ]( ) .
ويتبادر إلى الذهن أنه مع الإيمان يأتي الرزق الوفير لأن خزائن السموات والأرض بيد الله وفضله على المؤمنين عظيم ، والله [هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] ( ) وهذا التبادر حق وصدق .
ولكن الصبر طريق إلى هذا الرزق ، وتقريب لزمانه .
ومن قوانين القرآن والسنة : ( قانون البشارة) وهذا القانون ينشطر إلى قوانين كثيرة منها قانون البشارة بالرزق الكريم ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ] ( ) وفي معركة الخندق ومع حال الضراء التي يعيشها المسلمون وحصار عشرة آلاف رجل من مشركي قريش وحلفائهم من القبائل للمدينة ، كما قال الله تعالى [هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا]( ).
ونزلت البشارة من الله ، قال تعالى [وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا] ( ) ولم تمر ثلاث سنوات حتى تم فتح مكة ، كما اقترنت البشارة يومئذ بالبركة .
إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يحفرون الخندق حول المدينة وهو بحال فاقة وجوع شديد ، وكانوا يشدون الحجارة على بطونهم (فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: هل دللتم على رجل يطعمنا أكلة ؟ قال رجل: نعم.
قال: أما لا ، فتقدم فدلنا عليه.
فانطلقوا إلى بيت الرجل، فإذا هو في الخندق يعالج نصيبه منه، فأرسلت امرأته أن جئ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أتانا.
فجاء الرجل يسعى وقال: بأبي وأمي ، وله معزة.
ومعها جديها فوثب إليها فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الجدى من ورائها فذبح الجدي) ( ).
لقد أراد صاحب المنزل أن يذبح المعزة كي تكفي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين حضروا معه ولآداب الضيافة ، والشرف العظيم الذي نزل عليه بدخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيته والأكل من طعامه.
وخفّف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه وأشار عليه بأن يكتفي بذبح الجدي ، وهل هذا التخفيف من عمومات قوله تعالى [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ]( ) الجواب نعم ، ومن أسرار التخفيف في المقام مسائل :
الأولى : تجلي المعجزة بكفاية الطعام القليل للجمع الكثير من المسلمين .
الثانية : في هذا التخفيف تقوية لعزائم المسلمين ، وتثبيت لإيمانهم.
الثالثة : التخفيف عن المسلمين بازاحة أسباب ضيق الصدر عنهم بسبب محاصرة عشرة آلاف من المشركين لهم .
الرابعة : بيان قانون وهو مصاحبة المعجزة للنبي والمؤمنين في حال الرخاء والشدة ، والسراء والضراء .
الخامسة : وضوح قانون وهو أن المعجزة مادة لصبر المؤمنين ، وهو من الإعجاز الغيري للمعجزة وبيان قانون وهو أن دلائل المعجزة أعم من أن تختص بحال مخصوص كالقتال , نعم الحاجة إليها من الكلي المشكك .
السادسة : ذهاب الجوع عن المسلمين أيام حفر الخندق مقدمة لصرف شر الذين كفروا ، ولم تمر الليالي حتى إنسحب المشركون، بمعجزة من عند الله عز وجل، وهو الذي يتجلى بقوله تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
لقد استجاب صاحب المنزل لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واكتفى بذبح الجدي مع قلة ما فيه من اللحم .
وقامت امرأته الى طحين قليل، فعجتنه ثم خبزته لتجد القدر قد نضج فيه اللحم فثردت القصعة، ثم قُدم الطعام الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , وعددهم حينئذ عشرة ، فبادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أمور متلازمة هي :
الأول : وضع اصبعه الشريف في الطعام.
الثاني : التلفظ بذكر الله بقول (بسم الله).
الثالث : الدعاء فبعد أن ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم اسم الله، لجأ الى الدعاء ، وقال : اللهم بارك فيها.
ثم توجه الى أصحابه وقال : اطعموا( )، أي كلوا على بركة الله.
وكان مقدار ما أكلوه ثلث القصعة التي بين أيديهم مع قلتها وحينما شبعوا سرّحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمرهم بالإنصراف وطلب منهم أن يذهبوا إلى مواضعهم في المرابطة خلف الخندق , وأمرهم بأن يبعثوا عشرة آخرين بعدتهم ، فحضروا وأكلوا حتى شبعوا .
ثم قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر اسم الله على المائدة، وعلى أهل المنزل ودعا لهم وسار وأصحابه هؤلاء الى الخندق، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم اذهبوا بنا إلى سلمان.
وإذا بسلمان يعالج صخرة في الخندق يريد أن يكسرها هو وأصحابه فلا يستطيعون، عندئذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعوني فاكون أول من ضربها( ).
فقال : بسم الله، فضربها فوقعت فلقة ثلثها.
فقال: الله أكبر قصور الشام ورب الكعبة، أي البشارة بدخول الإسلام إلى مدن الشام.
ثم ضربها ضربة أخرى فوقعت فلقة ، فقال: الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة.
ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إنى لابصر قصر المدائن الابيض، ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله فقطع بقية الحجر فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إنى لابصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة( ).
فقال عندها المنافقون: نحن نخندق على أنفسنا وهو يعدنا قصور فارس والروم( ).
مفهوم الموافقة في الآية
وفيه مسائل :
الأولى : حاجة المسلمين والناس إلى التخفيف والفضل من عند الله عز وجل ليفوز المسلمون بالتخفيف المناسب لقلتهم وضعفهم كبشر قال تعالى[وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
الثانية : التخفيف من الله رحمة بالمؤمنين وبلغة لثباتهم في مقامات الهدى والإيمان .
الثالثة : في التخفيف عن المسلمين برزخ دون استحواذ النفس الغضبية والشهوية عليهم .
الرابعة : التخفيف مناسبة للإجتهاد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخامسة : التخفيف إحسان وسبيل لنشر الإحسان والمودة بين المسلمين والناس جميعاً .
السادسة : مع التخفيف يدرك المسلمون عدم الحاجة إلى الغزو والسلب والنهب .
السابعة : ترى هل من علة للتخفيف بقوله تعالى[الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ]( )، ففيه وجوه :
الأول : التخفيف نعمة وفضل ابتدائي من عند الله عز وجل .
الثاني : هناك علة وسبب للتخفيف , وهو جزاء وشكر من الله عز وجل للمسلمين .
الثالث : التخفيف بلغة لإصلاح المسلمين لمستقبل الأيام .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية .
الثامنة : إذا أعطى الله عز وجل فانه يعطي بالأتم والأكمل ، وجاءت الآية بصيغة الجمع ( خفف الله عنكم ) ، ليكون التخفيف على وجوه :
الأول : التخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : التخفيف عن المهاجرين .
الثالث : التخفيف عن الأنصار .
الرابع : التخفيف عن المؤمنين في ميدان القتال ، ومن مصاديق التخفيف إشغال الكافرين بأنفسهم ، وحينما أخبر الله عز وجل عن قتله للذين كفروا بقوله تعالى[فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ]( )، فانه من التخفيف عن المؤمنين ، ومن مصاديف ظرف الزمان (الآن) في الآية وتقدير الجمع بين الآيتين الآن خفف الله عنكم فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ، ليكون هذا التخفيف من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الخامس : التخفيف عن المسلمين بالكاف والنون , لدلالة (الآن) على الفورية , وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
التاسعة : ترى ماذا لو لم يخفف الله عز وجل عن المؤمنين الجواب فيه حرج عليهم ، وقد وعدهم الله عز وجل برفع الحرج عنهم , قال سبحانه [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( )، لبيان أن التخفيف مصداق ورشحة من قانون نفي الحرج في الدين .
العاشرة : في الآية ترغيب للناس بدخول الإسلام إذ تميل النفوس بالفطرة إلى التخفيف وعدم التشديد .
الحادية عشرة : هل يختص التخفيف عن المسلمين بحال القتال، الجواب لا ، إنما هو قانون شامل لحياة المسلمين والناس إلى يوم القيامة ، خاصة وأن القتال أمر عرضي ومؤقت ، وقد ينصرف القتال عن المسلمين من وجوه :
الأول : إمتناع تحقق شرائط وأسباب القتال .
الثاني : محو ودفع الله عز وجل القتال وأن إجتمعت أسبابه ، لبيان قانون وهو أن المحو الذي ورد في قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، نعمة متجددة على الناس .
الثالث : محو استدامة القتال ، وإن بدأ ونشبت المعركة ، وهو الذي تجلى في معركة أحد ، فمع أن الجولة كانت للمشركين فقد ولوا منهزمين ، وأكتفى أبو سفيان بالموعدة للقاء في العام التالي إذ (إنّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْقَابِلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِرَجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ قُلْ نَعَمْ هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدٌ)( ).
وحضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الموعد في بدر وتخلف أبو سفيان وقريش عن الموعد عندما حان أوانه ، في خزي إضافي لهم ، وقد كان إختيار أبي سفيان لبدر خطأ وضلالة لأن الموضع شهد قتل سبعين من صناديدهم وتم فيه أسر سبعين آخرين ، مما يكون سببا لبعث الفزع في نفوس المشركين , مع القنوط والعزوف عن الخروج .
مفهوم المخالفة في الآية
وفيه مسائل :
الأولى : تدل الآية على سبق عدم التخفيف ومعه تحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ضروبا من كيد ومكر الذين كفروا ، وأنتصر المسلمون في معركة بدر مع قلة عددهم وعدتهم ، لتكون سلامتهم ونصرهم بعد معركة بدر من باب الأولوية القطعية للتخفيف عنهم من عند الله .
الثانية : تبين الآية إكرام الله للمسلمين بالتخفيف عنهم ، وفيه إنذار للذين كفروا , وزجر لهم عن التعدي على المسلمين .
الثالثة : لقد أخبرت آية البحث عن حال الضعف عند المسلمين ، وهل فيه دعوة للدعاء والمسألة لتدارك هذا الضعف ، الجواب نعم ، وإن كانت آية البحث تدل على تفضل الله بهذا التدارك .
الرابعة : البشارة للمسلمين بكثرة عدوهم بقوله تعالى[وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ]( )، وفي هذه البشارة وكثرة المسلمين بين يوم وآخر شاهد على صدق نبوته ، وتسليم الناس بالمعجزات التي جاء به .
الخامسة : أختتمت الآية بقوله تعالى[َاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] لبيان الزيادة في التخفيف من عند الله عن المسلمين بتحليهم بالصبر ، قال تعالى[وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
التخفيف عن أهل الصفة
كان المسلمون يوم بدر في حال ضعف ونقص في العدد والعدة ، ثم رزقهم الله أموراً :
الأول : الكثرة في العدد .
الثاني : الثبات في منازل الإيمان .
الثالث : السكينة العامة بعد النصر في معركة بدر وأحد .
الرابع : زيادة عدد المسلمين وتوسعة المسجد النبوي وبناء الصفة مجاورة له ومن منافعها :
الأول : إيواء فقراء المسلمين .
الثاني : تعاهد المهاجرين الجدد .
الثالث : حضور المهاجرين الصلاة في أوقاتها الخمسة .
الرابعة : اتقان المسلمين الصلاة لأدائهم لها بامامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : رؤية المسلمين الجدد كيف ينزل الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن هذه الكيفية معجزة حسية تصاحب المعجزة العقلية .
السادسة : توجه المسلمين بالسؤال الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابعة : تفقه المسلمين في الدين ، وانقطاع أهل الصفة للعبادة لسكنهم بجوار المسجد وكأنهم في حال اعتكاف .
الثامنة : اختلاط الوافدين الجدد مع المهاجرين والأنصار من غير تباين , ومن معاني قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) انتفاء التفاخر والزهو والرياء بين الصحابة ، وكان أهل الصفة أخلاطاً من قبائل شتى .
التاسعة : تجلي معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الصفة , وكان يجري لكل رجلين منهم مُداً من التمر في كل يوم أي يشتركان بثلاثة أرباع الكيلو غرام ، واشتكى أحدهم من دوام أكل التمر كل يوم , وقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: التمر أحرق بطوننا .
فلم يغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أنصت له ، وأمّله خيراً ، وزفّ له ولأخوانه من أهل الصفة وغيرهم البشارة العظمى ، والسعادة القريبة ، إذ صعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنبر (فخطب فقال لو وجدت خبزاً ولحماً لأطعمتكموه أما إنكم توشكون أن تدركوا ذلك أن يراح عليكم بالجفان وتسترون بيوتكم كما تستر الكعبة ، وكانت الكعبة تستر بثياب بيض تحمل من اليمن( ).
ومن قبل شكى بنو اسرائيل إلى موسى تكرار طعام المن والسلوى كل يوم في البرية ( وبلاد التيه : ما بين بيت المقدس إلى قنسرين ، وهي اثنا عشر فرسخاً في ثمانية فراسخ( ).
واشتهوا طعامهم في مصر كما في قوله تعالى[وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ]( ) ( )، وقد تقدم بيانه .
ومن معجزاته بين أهل الصفة : إطعام العدد الكثير بالطعام القليل ، وعن أبي هريرة قال : قال خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة فقال أدع لي أصحابي يعني أهل الصفة فجعلت أتبعهم رجلا رجلا فأوقظهم حتى جمعتهم فجئنا باب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأستاذنا فأذن لنا فوضع لنا صحفة فيها صنيع من شعير ووضع عليها يده وقال خذوا باسم الله فأكلنا منها ما شئنا قال ثم رفعنا أيدينا وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين وضعت الصحفة والذي نفس محمد بيده ما أمسى في آل محمد طعام ليس شيئا ترونه وقيل لأبي هريرة فيما بعد : قدركم هي حين فرغتم قال مثلها حين وضعت إلا أن فيها أثر الأصابع( ).
وفي قوله تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً]( )، قال ابن عباس : نزلت في علي بن أبي طالب كانت معه أربعة دراهم فأنفق في الليل درهما وفي النهار درهما ودرهما في السر ودرهما في العلانية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ .
قال : أن أستوجب على الله ما وعدني فقال: ألا إن لك ذلك. فنزلت الآية. وتابع ابن عباس مجاهد وابن النائب ومقاتل .
وروي عنه أيضا أنها نزلت في علي وعبد الرحمن بن عوف. حمل علي إلى أهل الصفة وسق تمر ليلا وحمل إليهم عبد الرحمن دراهم كثيرة نهارا( ).
العاشرة : انتفاء أسباب الثأر والغضاضة بين المسلمين ، ونسخ الخلافات القبلية أو التفاخر بالقبيلة بينهم ، قال تعالى[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
وليس من عدد خاص دائم لأهل الصفة ، فقد يزيدون أو ينقصون ، حسب توافد المسلمين إلى المدينة ، ويبلغ عددهم أحياناً سبعين ولكن قد يزيدون فيصلون إلى ثلاثمائة ، بحسب أمور منها :
الأول : الزواج والإنتقال الى بيت الزوجية .
الثاني : السفر والضرب في الأرض .
الثالث : الرجوع إلى القرية والبلد للتبليغ .
الرابع : الإنتقال الى سكن مخصوص .
الخامس : الموت ومفارقة الحياة على الإسلام .
وكان عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي يُعلم أهل الصفة القرآن والكتابة ، وأهدى أحد أهل الصفة قوسه لعبادة بن الصامت لأنه كان يعلمهم القرآن مما يدل على صدق إيمانهم وغبطتهم بتعلم القرآن والكتابة وأنهم أسلموا طلباً للعلم وليس للغزو والقتل والدمار .
وهل قبل عبادة الهدية الجواب لا ، إذ ورد عنه أنه ( قال : علّمت أُناساً من أهل الصُّفَّة: الكتاب والقرآن، فأهدى إليّ رجل منهم قوساً، فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه .
فأتيته فقلت: يا رسول الله، أهدى رجل إليّ قوساً ممن كنت أعلّمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله؟ قال : إن كنت تحب أن تُطوّق بطوق من نار فاقبلها( ).
وكان سعد بن عبادة يُعشي كل ليلة ثمانين من أهل الصفة ( ).
وأهل الصفة هم فقراء المهاجرين , ومنهم :
الأول : أبو ذر الغفاري .
الثاني : أبو هريرة حيث نسب نفسه إليهم.
الثالث : واثلة بن الأسقع ، أسلم والنبي يتجهز لتبوك ، وقيل خدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث سنين ، و( أخذ القراءة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توفي سنة خمس وثمانين وله ثمان وتسعون سنة( ).
الرابع : قيس بن طهفة الغفاري، إذ نسب نفسه إليهم.
الخامس : كعب بن مالك الأنصاري.
السادس : سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي.
السابع : سلمان الفارسي .
الثامن : أسماء بنت حارثة بن سعيد الأسلمي.
التاسع : حازم بن حرملة.
العاشر : حارثة بن النعمان الأنصاري النجاري.
الحادي عشر : حذيفة بن أسيد أبو سريحة الأنصاري.
الثاني عشر : حذيفة بن اليمان , وهو من المهاجرين حالف الأنصار فعد في جملتهم.
الثالث عشر : جارية بن جميل بن شبة بن قرط.
الرابع عشر : جعيل بن سراقة الضمري.
الخامس عشر : ربيعة بن كعب ، قال ابن عبد البر : ربيعة بن كعب بن مالك بن يعمر الأسلمي، أبو فراس معدود في أهل المدينة وكان من أهل الصفة وكان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، وصحبه قديماً وعمر بعده ، مات بعد الحرة سنة ثلاث وستين( ).
السادس عشر : رفاعة بن لبابة الأنصاري، وقيل اسمه بشير بن عبد المنذر من بني عمرو بن عوف.
السابع عشر : عبد الله ذو البجادين.
الثامن عشر : دكين بن سعيد المزني وقيل الخثعمي.
التاسع عشر : خبيب بن يساف بن عنبة.
العشرون : خريم بن أوس الطائي.
الحادي والعشرون : خريم بن فاتك الأسدي.
الثاني والعشرون : خنيس بن حذافة السهمي.
الثالث والعشرون : خباب بن الأرت.
الرابع والعشرون : الحكم بن عمير الثمالي.
الخامس والعشرون : حرملة بن أياس، وقيل هو حرملة بن عبد الله العنبري.
السادس والعشرون : زيد بن الخطاب.
السابع والعشرون : عبد الله بن مسعود.
الثامن والعشرون : الطفاوي الدوسي.
التاسع والعشرون : طلحة بن عمرو النضري( ).
الثلاثون : صفوان بين بيضاء الفهري.
الحادي والثلاثون : صهيب بن سنان الرومي.
الثاني والثلاثون : شداد بن أسيد.
الثالث والثلاثون : شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
الرابع والثلاثون : السائب بن خلاد.
الخامس والثلاثون : سالم بن عمير من الأوس من بني ثعلبة بن عمرو بن عوف.
السادس والثلاثون : سالم بن عبيد الأشجعي( ).
السابع والثلاثون : سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
الثامن والثلاثون : سالم مولى أبي حذيفة.
التاسع والثلاثون : أبو رزين.
الأربعون : أسماء بن حارثة بن هند .
الحادي والأربعون : هند بن حارثة بن هند .
الثاني والأربعون : الأغر المزني.
الثالث والأربعون : بلال بن رباح.
الرابع والأربعون : البراء بن مالك الأنصاري.
الخامس والأربعون : ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
السادس والأربعون : ثابت بن وديعة الأنصاري.
السابع والأربعون : ثقيف بن عمرو بن شميط الأسدي.
الثامن والأربعون : سعد بن مالك أبو سعيد الخدري.
التاسع والأربعون : العرباض بن سارية ، سكن الشام ومات بها سنة خمس وسبعين للهجرة ( ).
الخمسون : غرفة الأزدي.
الحادي والخمسون : عبد الرحمن بن قرط.
الثاني والخمسون : عباد بن خالد الغفاري.
قانون جهاد النفس
لقد نزل القرآن بتهذيب النفس وإصلاح المجتمعات، وبه جاءت السنة النبوية، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : بعثت لاتمم مكارم الأخلاق( ).
وعن جابر قال : قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوم غزاة فقال : قدمتم خير مقدم قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر مجاهدة العبد هواه ( ).
فبين النبي قانوناً وهو أن جهاد النفس هو الجهاد الأعم والأكبر من الدفاع، ومن وجوه جهاد النفس :
الأول : الإمتناع عن اتباع الهوى ، والانقياد له ، وسمي الهوى لأنه يهوي بصاحبه في النار ، و(عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خط خطوطاً وخط خطاً منها ناحية فقال : «تدرون ما هذا؟ هذا مثل ابن آدم ومثل التمني ، وذلك الخط الأمل بينما هو يتمنى إذ جاءه الموت( ).
الثاني : المنع من الظلم والتعدي والفتك.
الثالث : من جهاد النفس تنمية ملكة الصبر .
الرابع : الإقامة على العبادات، وتعاهد الفرائض.
الخامس : من جهاد النفس وقايتها من إغواء الشيطان وتحصينها بالإستعاذة وجعل البسملة فاتحة للفعل، مع الثناء على الله وطرد الشك والوهم.
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل الأعمال أحمزها( ).
السادس : التنزه عن الرياء والزهو والغرور، وقد ذم الله عز وجل الذين كفروا بقوله [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ]( ).
ويحتمل جهاد النفس وجوهاً :
أولاً : إنه أمر باطني لا يطلع عليه إلا الله، وان كان أمراً وجودياً كما في الصوم والإمساك عن الأكل.
ثانياً : إنه أمر ظاهر يدركه الغير بالحواس .
ثالثاً : السور الجامع للأمر الظاهر والخفي.
والمختار هو الثالث، إذ يظهر جهاد النفس على اللسان، وفي عالم الأفعال، وعلى الجوارح.
السابع : نهي النفس والجوارح عن الشهوات والمحرمات، قال تعالى[وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى]( ).
الثامن : القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحلي المسلم بما يأمر به، ويجتنب ما ينهى عنه.
التاسع : التحلي بالإيمان، وإظهار اليقين والتصديق ببعثة الأنبياء.
العاشر : صيرورة الباطن وما تضمره النفس من الإيمان موافقاً للظاهر، وفيه تنزه عن النفاق.
الحادي عشر : تعاهد سلامة القلب.
الثاني عشر : كظم الغيظ، ورد الغضب ، قال تعالى[وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثالث عشر : إجتناب حب الدنيا، واللهث وراء زينتها.
الرابع عشر : الإمتناع عن الخصال المذمومة كالشره والطمع، والبخل والتي فيها ظلم للنفس وهي مقدمة لظلم الغير.
الخامس عشر : الحب في الله , والبغض في الله.
السادس عشر : التحلي بالحلم والحياء والعفة والصلاح , وحفظ الأمانة والعهد.
وقيل للحسن البصري : أي الجهاد أفضل. قال: جهادك هواك.
لقد نفخ الله عز وجل من روحه في آدم وجعله [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لتكون الدنيا مزرعة للآخرة ، إذ يأتي الإبتلاء والإمتحان للإنسان تارة على نحو تدريجي وأخرى على نحو دفعي، فيبدأ الإنسان من نفسه يمنعها من نية السوء، ومن الهمّ بالقبيح والمنكر.
ليشمل المعنى الإصطلاحي للجهاد بذل الوسع من أجل إصلاح النفوس، ونشر الفضائل، وإرشاد الناس الى سبل الهدى، لذا تفضل الله عز وجل على المسلمين والمسلمات بتلاوة كل واحد منهم على نحو الوجوب العيني سبع عشرة مرة قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) في القراءة في الصلاة .
ليتحلى المسلم بالعلم وهو شجرة ثمرتها العمل السليم، وقيل العلم مع العمل، والرواية مع الدراية ، ومن جهاد النفس طرد الغفلة، وعدم الميل الى الجاهل والأخذ منه.
لقد تفضل الله عز وجل ونفخ في آدم من روحه كما ورد في التنزيل [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) لتبقى نفس الإنسان منجذبة إلى الآيات الكونية وبديع صنع الله والتدبر في حكمته ، وإدراك قانون وهو وجوب طاعته تعالى ، وحبس النفس عن المعاصي والشهوات .
ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم محاربة الكفر ومفاهيم الضلالة لتكون مجاهدة النفس بالتنزيل والسنة النبوية ، وضياء الهدى الذي تبعثه الرسالات السماوية ، فبدل من أن يقوم الناس بمحاربة النبوة فانهم يتفكرون في معجزاتها , ويحرصون على هدم الصدّ عن سبيل الله ، لتكون مجاهدة النفس على وجوه :
الأول : مجاهدة النفس الغضبية والشهوية ، وفي التنزيل [إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] ( )، ومن مصاديق التخفيف في الدنيا عن الناس جيعاً في المقام مسائل :
الأولى : إنقطاع الشهوة بأدائها وموضوعها فحالما يزول موضوعها يشكر الإنسان الله عز وجل على عدم إرتكابها.
الثانية : صرف الله عز وجل للأكثر من مسائل الهوى وتفضله تعالى بالمنع من اتباعه .
الثالثة : إدراك الإنسان قبح إتباع الهوى ، وما من شخص انقاد للأماني والشهوات إلا وندم على فعله.
الرابعة : تفضل الله عز وجل بجعل باب التوبة مفتوحاً لمن اتبع الهوى مع البشارة العظمى على هذه التوبة , قال تعالى[وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى]( ).
الخامسة : إجتناب اتباع الهوى برزخ دون الغزو والفتك وإشاعة القتل ، ومن أسباب محاربة قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انقيادهم للهوى والعصبية.
السادسة : الملازمة بين الجهالة واتباع الهوى .
الثاني : تعاون وتعاضد المؤمنين في إصلاح الفرد ، وهو من رشحات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالث : يبين اخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن كون الجهاد الأكبر هو جهاد النفس والكسب على العيال والعناية بهم قانوناً وهو تقدم حبس النفس عن الهوى على القتال والغزو ، وأن النفس إذا صلحت فانها تؤثر على الغير ، وتجذب الناس إلى الصلاح والهدى , والإنشغال بصلاح النفس سبب لإجتناب الهجوم والغزو .
وهذا الإنشغال من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الرابع : الأمر بالمعروف والعمل به ، والنهي عن المنكر ، واجتناب الفعل القبيح .
الخامس : حمل النفس على طاعة الله .
أنواع الأسلحة أيام النبوة
قيل أصل اشتقاق كلمة السيف من ساف ماله أي هلك ، وجمع السيف ،أسياف وسيوف وأسيف .
ومن السلاح السهم والنبل والنشابة , وهي أقرب ما تكون كالأسماء المترادفة لشئ واحد ، وكانت في الأصل تستعمل لصيد الحيوانات ثم أتخذت سلاحاً في قتال البشر بعضهم بعضاً ويسمى الذي يستعملها الرامي .
والسهم عود صلب منحوت من الشجر طوله نحو ذراع , ويتألف من ثلاثة أجزاء :
الأول : رأس السهم ، ويصنع من المعدن في الغالب .
الثاني : النصل وهو حديدة السهم .
الثالث : الثلم .
وللسهم ريشتان كالزعانف في الإتجاه المعاكس لرميه ليصعب إخراجه إذا إخترق البدن .
ويرمى من القوس وهو عود صلب يحنى طرفاه بقوة ويربط بينهما وتر من الجلد أو يؤخذ من العصب الذي في عنق البعير ويسمون هذا الوتر الذراع ويتخذونه وحدة للقياس ، وفي التنزيل [فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى] ( ) أي قدر ذراعين.
ولبيان قرب القوس من الوتر .
والقاب : المقدار ويقاس بالقوس كذراع .
ولانه في متناول الإنسان يحمله كسلاح فيتخذه ايضاً وحدة للقياس ، وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (لقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها) ( ).
وفي الآية أعلاه ورد عن أنس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما أسري بي إلى السماء قربني الله تعالى حتى كان بيني وبينه كقاب قوسين أو أدنى لا بل أدنى ، وعلمني المسميات .
قال : يا محمد ، قلت : لبيك يا رب .
قال : هل غمك أن جعلتك آخر النبيين؟ قلت : يا رب ، لا . قال : فهل غم أمتك أن جعلتهم آخر الأمم؟.
قلت : يا رب لا .
قال : أبلغ أمتك مني السلام ، وأخبرهم أني جعلتهم آخر الأمم ، لأفضح الأمم عندهم ، ولا أفضحهم عند الأمم) ( ).
وعن ابن عباس في قوله تعالى [ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى] ( ) قال : هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم دنا فتدلى إلى ربه عز وجل ،وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل (عن عائشة قالت : كان أول شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه رأى في منامه جبريل بأجياد ثم خرج لبعض حاجته .
فصرخ به جبريل يا محمد يا محمد ، فنظر يميناً وشمالاً فلم ير شيئاً ثلاثاً ، ثم رفع بصره فإذا هو ثانٍ إحدى رجليه على الأخرى على أفق السماء ، فقال : يا محمد جبريل يسكنه فهرب النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل في الناس فنظر فلم ير شيئاً ، ثم خرج من الناس فنظر فرآه فذلك قول الله { والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى } إلى قوله { ثم دنا فتدلى }( ) يعني جبريل إلى محمد { فكان قاب قوسين أو أدنى }( ) جبريل إلى عبد ربه)( ).
والظاهر ان بعض رجال الحديث ذكره بالمعنى أو صار جمع من بعض رواة الحديث بين أمرين :
الأول : بداية الوحي ، وكان رؤيا صادقة يراها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في ابراهيم عليه السلام ، إذ ورد بخصوصه في التنزيل [قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ]( ).
الثاني : حديث الإسراء ، وهو رحلة وسياحة ملكوتية تمت باليقظة وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أسري به ببدنه وروحه ، ويدل على ما نذهب إليه إخبار عائشة بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رآى جبرئيل عند سدرة المنتهى ، ولكنه لم ير الله عز وجل .
(عن الشعبي قال : لقي ابن عباس كعباً بعرفة فسأله عن شيء فكّبر حتى جاوبته الجبال ، فقال ابن عباس : إنا بنو هاشم نزعم أن نقول : إن محمداً قد رأى ربه مرتين .
فقال كعب : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد عليهما السلام ، فرأى محمد ربه مرتين وكلم موسى مرتين . قال مسروق : فدخلت على عائشة فقلت : هل رأى محمد ربه .
فقالت : لقد تكلمت بشيء وقف له شعري قلت : رويداً ثم قرأت [لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى]( )، قالت : أين يذهب بك إنما هو جبريل من أخبرك أن محمداً رأى ربه أو كتم شيئاً مما أمر به أو يعلم الخمس التي قال الله[إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ]( )، فقد أعظم الفرية .
ولكنه رأى جبريل لم يره في صورته إلا مرتين مرة عند سدرة المنتهى ، ومرة عند أجياد له ستمائة جناح قد سد الأفق) ( ).
ويدل الحديث أعلاه على أنه حتى رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجبرئيل عليه السلام في جياد كانت رؤيا حقيقة ويقظة ، وفي قوله تعالى [قَابَ قَوْسَيْنِ] ( ) بيان وإخبار عن أنواع الأسلحة في أيام النبوة ، ودعوة للناس لإجتناب الإبادة الجماعية وأسلحة الدمار سواء الكلي أو الجزئي ، وإرادة هلاك أهل بلد أو بلدة أو دين أو عرق مخصوص ، وظهر هذا إصطلاح أسلحة الدمار سنة (1944) ميلادية أواخر مصيبة ومأساة الحرب العالمية الثانية ، لتعقد سنة (1948)ميلادية اتفاقية دولية تحرم وتعاقب على جريمة الإبادة الجماعية (CPPCG).
ومن الأسلحة أيام النبوة وما قبلها وما بعدها السيف ، وهو أهم سلاح عند العرب ، ويحرص الفرد منهم على ملازمة سيفه له وعدم مفارقته له .
وجاءت الأشعار بذكر السيف والتفاخر به ، وبيان الحاجة إليه في القتال، وأكثر العرب من أسماء السيف لبيان أهميته وحضوره في الوجود الذهني وتعدد أنواعه ووظائفه ، وذكروا له أكثر من مائة اسم منها :
الأول : الصمصام ، وهو السيف الصارم والقاطع الذي لا ينثني( ) ، وقد يقال الصمصامة ، وقد تسمى بعض السيوف بالصمصام لموافقتها لمعناه اللغوي .
الثاني : البارق ، والجمع البارقة ، لما للسيف من لمعان كالبرق وفي المرسل (عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً قال : يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال : كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) ( ).
الثالث : الزالق وهو السيف الذي يسهل على حامله إخراجه من غمده.
الرابع : الذكر : وهو السيف المصنوع من مادة صلبة .
الخامس : النصل .
السادس : الإبريق ، وهو شديد البريق .
السابع : أغلف إذا كان في غلافه وغمده .
الثامن : أنيث : الذي يتخذ من حديد غير ذكر .
التاسع : الباتر : أي الحاد القاطع .
العاشر : البتار : وقيل كان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيف بهذا الاسم ( ).
الحادي عشر : البصروي ذي النسوب إلى مدينة بُصرى ، قال الشاعر (صفائح بصرى أخلصتها قيونها … ومطروداً من نسج داود محكما) ( ).
الثاني عشر : الحسام أي القاطع .
الثالث عشر : الخشيب أي الثقيل .
الرابع عشر : الخشوف أي الماضي.
الخامس عشر : الرسوب وهو الذي يغيب في الموضع الذي يضرب فيه .
السادس عشر : المفقر : وهو السيف الذي في متنه حزوز .
السابع عشر : الدائر : وهو السيف الذي له عهد في القتال .
وغيرها من الأسماء ، وللميل للشجاعة يطنب العرب في أسماء السيف مع أن المسمى واحد في موضوعه .
وإن كانت بعض هذه الأسماء خاصة بوصف معين للسيف وللفصل والتمييز بينه وبين غيره من السيوف ، وقد كثرت وتعددت الأسلحة في هذا الزمان .
ومن الآيات بعد الهجرة أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما كان يخرج في الكتائب .
وقد خرج إلى معركة بدر وليس معه سيف ، مما يدل على أن السيف ليس له موضوعية في سنته صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يدعو أو يرّغب المسلمين فيه .
ولم يرد في القرآن ذكر لاسم السيف ، أو ثناء على حامله وكيفية استعماله ، لبيان أن الإسلام دين الرحمة والسلم العام ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
لتكون الحياة الدنيا دار الهداية والرشاد ومزرعة الآخرة ، وطريق الإقامة الدائمة في الجنان .
ان عدم ذكر القرآن للفظ السيف وأنواع الأسلحة شاهد على عدم موضوعيتها في نشر مبادئ الإسلام وأحكام الشريعة ، ودليل على أن الله عز وجل يدفع عن المسلمين سيوف القوم الكافرين .
ولم يكن عند المسلمين في معارك الإسلام الأولى معشار ما عند الكفار الذين يحاربونهم من العدة والسلاح والمؤن والمال .
ولكن الله عز وجل أظهر ونصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عليهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] ( ) .
بحث أصولي الفرق بين الثبوت والإثبات
الثبوت هو التنجز في العالم الخارجي مثل الحج إلى البيت الحرام قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) ويكون من عالم الثبوت في الآية أعلاه وجوه :
الأول : البيت الحرام ، ودلالة الآية على تعيينه وموضعه ، والقرآن يفسر بعضه بعضاَ , قال تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )، وهل يدل تعدد اسم مكة وتسميتها بكة على احتمال استحداث وإنشاء أسماء أخرى لها في قادم الأحقاب ، الجواب لا.
الثاني : حج البيت .
الثالث : الأمر بحج البيت .
الرابع : أوان الحج .
الخامس : أداء المسلمين لفريضة الحج .
السادس : الإستطاعة كشرط في أداء الحج .
السابع : إطلالة هلال ذي الحج لقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ] ( ) ، القرآن كلام الله ، الإنسان ناطق .
ومن عالم الإثبات التعرف على الحج وحضوره في الوجود الذهني .
أما الإثبات فهو تجلي الأمر والتعرف عليه , وأمر يخطر في الوجود الذهني ، كما في الهلال ، فاطلالة الهلال أمر ثبوت والشهادة عليه إثبات مع إختلاف في طريقة وكيفية الإثبات ، وهو من عمومات العلم بالشئ فرع الشئ المعلوم ، بلحاظ أن العلم به متأخر عنه إلا بالنسبة لعلم الله عز وجل فانه سبحانه [أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا] ( ) وهو يعلم الأشياء والوقائع قبل أن تقع ، وعلم الإنسان بوجود البحر الأبيض المتوسط ، وما يخطر بذهنه من صورته هو الإثبات ، أما موضوع العلم والمعرفة , ووجود البحر الأبيض فهو الثبوت .
وبالنسبة للوقائع التأريخية مثل معركة بدر فوقوعها من عالم الثبوت وتصورها من عالم الإثبات ، وبواسطة الآية القرآنية [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) والآيات الأخرى إلى جانب السنة النبوية والأخبار .
وهل ما يرد في الآية القرآنية من عالم الثبوت أم الإثبات كما في قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ).
المختار أن من عالم الثبوت بلحاظ ان الآية القرآنية حق وصدق وكذا ما يرد في قول المعصوم ، الجواب أنه من عالم الثبوت فلا تقبل الجملة الخبرية في القرآن إلا الصدق والثبوت .
وهناك واسطة للثبوت وواسطة للإثبات ، والواسطة هي السبب والمقتضي ، فالنار واسطة الإحراق ، وواسطة وجوب صوم شهر رمضان إطلالة هلال شهر رمضان ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ).
أما واسطة الإثبات فهي وسيلة التعرف والمعرفة بعد عدم العلم أو الجهل ، ومنها مقدمات البرهان والمقدمة الكبرى , والمقدمة الصغرى هما سبب للمعرفة (النتيجة ) .
مثال للقياس البرهاني :
الكبرى : كل آية بين الدفتين قرآن .
الصغرى : آية الكرسي بين الدفتين .
النتيجة : آية الكرسي قرآن .
وهذه النتيجة هي الإثبات ، ومقدمات البرهان (الكبرى والصغرى ) واسطة الإثبات ، وآية الكرسي هي [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ]( ).
وما لا يقع ويوجد في عالم الثبوت لا يمكن القطع به في عالم الإثبات .
وقد تكون الواسطة في العروض ، وهو مجئ سبب عرضي طارئ .
وقيل أن عالم الثبوت هو نفس الأمر في علم الله عز وجل ومشيئته كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( ) والمصلحة فيها .
ومن مصاديق عالم الثبوت ما لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم أما عالم الإثبات فانه يعني الأدلة الظاهرية ، وإنما نستقرأ ما في عالم الثبوت من خلال الظواهر التي في عالم الإثبات ، وهو كالتلازم بين الحق والواجب ، والملازمة بين الظاهر والباطن ، أو في المتضايفين كالأبوة والبنوة , والعلة والمعلول .
ولا دليل على حصر واختصاص عالم الثبوت بعالم المشيئة ، نعم لا يعلم الغيب إلا الله عز وجل , ومن الغيب عالم الثبوت والإثبات .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مشرعاً ومبلغاً ، وبه جاء القرآن منه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] ( ) وبالنسبة للتشريع ففيه آيات منها قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) وهو من مقام الإثبات إنما الإثبات فرع الثبوت .
والنسبة بين المتناقضين والمتضادين هي العموم والخصوص من وجه فمادة الإلتقاء عدم الإجتماع بينهما ، ومادة الإفتراق أن المتناقضين لا يمكن أن يرتفعا معاً كالليل والنهار ، والصحة والمرض ، والأشهر الحل والأشهر الحرم ، والصيام والإفطار واليابسة والمياه ، والحياة والموت ، قال تعالى [خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ] ( ).
وهل الذكر والأنثى من المتناقضين أم أنه ينخرم بالخنثى , الجواب لا ينخرم إذ لا عبرة بالقليل النادر .
أما المتضادان فقد يرتفعان مثل الأبيض والأسود , والكرم والبخل .
وفد قريش لأبي طالب
لقد توجه أشراف قريش نحو أبي طالب عم النبي , وحدثوه في دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام , ومنهم كل من :
الأول : عتبة بن ربيعة .
الثاني : شيبة بن ربيعة .
الثالث : أبو سفيان بن حرب بن أمية.
الرابع : أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة من بني مخزوم، وكان يكنى أبا الحكم فكناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابا جهل، فذهبت بين الناس .
و( روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنه قال: من قال لأبي جهل ” أبو الحكم ” ، فقد أخطأ خطيئة يستغفر الله منها.
وروي عنه أنه قال: لكل أمة فرعون، وفرعون هذه الأمة أبو جهل( ).
ومن أسرار هذه الكناية المستحدثة مسائل :
الأولى : بيان قبح فعل أبي جهل، وشدة عداوته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : فيه دليل على الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ تدل هذه الكناية بالدلالة التضمنية على أن أبا جهل لا يدخل الإسلام، وأنه يموت كافراً، وقد قتل في معركة بدر.
الثالثة : تحذير الناس من أبي جهل، فقد كان من أشد الكفار على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويجتهد في إيذائه والمسلمين بيده، ويأمر بايذائهم وتعذيبهم .
وكان أبو جهل ممن يتولى الإشراف على حصار قريش لأهل البيت في شعب أبي طالب وقال ابن اسحق: وقد كان أبو جهل فيما يذكرون لقى حكيم ابن حزام ومعه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة وهى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشعب فتعلق به.
وقال : أتذهب بالطعام إلى بني هاشم .
فقال له أبو البخترى : طعام كان لعمته عنده افتمنعه ان يأتيها بطعامها خل سبيل الرجل.
فأبى ابو جهل حتى نال احدهما من صاحبه فأخذ ابو البختري لحى بعير فضربه به فشجه ووطئه وطئا شديدا ( ).
الرابعة : كناية عمرو بن هشام بأبي جهل زجر للناس من الإنصات له، واتباعه، وإنقاص لشأنه بين الناس.
الخامسة : تهيئة أذهان الناس لسوء عاقبة أبي جهل ليكون قتله في معركة بدر بعد إصراره على القتال فيها موعظة وعبرة.
السادسة : التخفيف عن المسلمين والناس بمعرفة رؤساء الكفر، والإحتراز منهم [وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا] ( ).
السابعة : موضوعية السنة النبوية القولية في إصلاح المجتمعات، ودعوة الناس إلى الإيمان.
الثامنة : زجر رؤساء الكفر عن التمادي في التعدي على المسلمين، وعن الإصرار على القتال، فمن معاني نعت أبي جهل ، أنه جاهل مكروه وتنفر النفوس منه .
ومن الإعجاز في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المدح والثناء في قوله وفعله أكثر من الذم والتقبيح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )وسيأتي في الجزء التالي وهو الثاني والسبعون بعد المائة قانون الفخر في القراءة في آية [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
فبعد كناية ومناداة الناس لأبي جهل بأبي الحكم وما فيها من إنقاص الشأن صاروا ينادونه ويسمونه في مجالسهم أبا جهل لبيان أنه إختار الجهل ويدعو إليه، مما يلزم الحذر منه والإمتناع عن طاعته، لتكون هذه الكناية من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية لأنها تحذير لقريش وغيرهم من الإنصات له في منعه لهم عن دخول الإسلام، ومن الخروج معه إلى معركة بدر التي لقى فيها حتفه.
التاسعة : دعوة المسلمين للثبات في منازل الإيمان، والتحلي بالصبر، وعدم مقابلة تعدي الكفار إلا بالحكمة وإقامة البرهان، وعن ابن عباس في قوله: { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى }( ) قال أبو جهل بن هشام حيث رمى رسول الله بالسلا على ظهره وهو ساجد لله عز وجل .
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى }( ) قال : نزلت في عدوّ الله أبي جهل ، وذلك أنه قال : لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن على عنقه ، فأنزل الله [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى]( )، قال : محمداً { أرأيت إن كذب وتولى }( ) يعني بذلك أبا جهل { فليدع ناديه }( ) قال : قومه وحيه { سندع الزبانية }( ) قال : الزبانية في كلام العرب الشرط ( ).
الخامس : أبو البختري العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى.
السادس : الأسود بن عبد المطلب بن أسد.
السابع : الوليد بن المغيرة.
الثامن : عمارة بن الوليد بن المغيرة , وهو الذي عرضت قريش دفعه لأبي طالب مقابل أخذهم النبي ليقتلوه.
التاسع : الوليد بن الوليد بن المغيرة، والذي رثته أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت:
مثل الوليد بن الوليد … أبي الوليد كفى العشيرة( ).
ودخل فيما بعد ابنه على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو غلام فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما اسمك يا غلام ، وفيه شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل الناس كبيرهم وصغيرهم عن اسمائهم وهو نوع إكرام لهم .
فقال : الوليد بن الوليد بن الوليد بن المغيرة، فقال: ” لقد كادت بنو مخزوم أن تجعل الوليد ربا. ولكن أنت عبد الله ( ).
فكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكرار اسم الوليد ، ولم يكتف بهذه الكراهة ، إنما اختار اسماً للغلام من أسماء العبودية لله عز وجل .
العاشر : نبيه بن الحجاج بن حذيفة بن عامر القرشي السهيمي، قتل يوم بدر كافراً.
الحادي عشر : منبه بن الحجاج بن حذيفة بن عامر بن سعد القرشي السهمي، قتل في معركة أحد كافراً.
الثاني عشر : العاص بن وائل السهمي، وهو أبو عمر بن العاص من النابغة، التي (بيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل، فولدت له، فأنجبت( ).
وهل كان مجئ قريش لأبي طالب متحداً ومرة واحدة أم أنه متعدد ، الجواب هو الثاني وآخر مرة جاءوا له بذات أمر النبي صلى الله عليه آله وسلم والسعي لمنعه من تبليغ الرسالة ،وهو على فراش الموت.
فقد كانت تمشي الوفود له لتطلب منه أموراً:
الأول : سؤاله امتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الدعوة الى الله.
الثاني : الشكوى من شتم وذم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصنام قريش.
الثالث : تسفيه النبي لاحلام قريش، وكسر هيبتهم بين القبائل لبيان قبح عبادة الأصنام، والإصرار على ترك عبادة الرحمن.
الرابع : تعريض وشتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآباء قريش الصلبيين بمغادرتهم الدنيا على عبادة الأصنام، [قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ]( ) .
ليكون من معاني الآية أعلاه وتحمل آباء الكافرين أوزاراً وآثاماً بسبب تركهم عبادة الأوثان إرثاً قبيحاً، وأن شتمهم دعوة للناس للتخلي عن هذا الإرث والنفرة منه، وبيان سوء عاقبة الذي فارق الدنيا عليه.
الخامس : دعوة أهل مكة والقبائل إلى الإسلام.
السادس : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة آيات القرآن جهرة، ليتناقلها الركبان، ويتدبر الناس في مضامينها، فمن الإعجاز في النبوة أن آياتها أعم من أن تختص بشخص النبي أو مكانه أو زمانه , قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
السابع : امتعاض وغيظ قريش لقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأداء الصلاة في البيت الحرام، ومعه خديجة والإمام علي عليهما السلام، مع كثرة سجوده .
فيأتي المعتمرون ووفد الحاج وغيرهم ليروا حاله من التطامن والخضوع والخشوع لله عز وجل، وحينما يسألون يأتيهم الجواب هذا محمد بن عبد الله من بني هاشم وهو أصحابه المسلمون يقولون أنه نبي آخر زمان، وأن دعوته موجهة للناس جميعاً بلحاظ أنها مصداق لقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثامن : تخيير أبي طالب بين كف النبي محمد عن قريش أو التخلية بينهم وبينه ، مع أن النبي لا يريد لقريش إلا الخير والفلاح ، فمن خصائص الإيمان ملازمة الفلاح له .
ورد أبو طالب وفد قريش بقول رقيق، وكلام جميل، ولكنهم عادوا مرة أخرى بلهجة أشد وقالوا: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن اخيك فلم تنهه عنا ، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين( ).
ولما سمعهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتف بالإمتناع عن الإستجابة لقولهم، إنما أمرهم بقول كلمة التوحيد(لا إله إلا الله) وأخبرهم بأن فيها عزاً لهم في النشأتين. وقالوا له: سلنا غير هذه.
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها، لبيان استحالة ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة الى التوحيد، فغضبوا وتوعدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزل قوله تعالى[وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ]( ).
وقال الزمخشري : وروي أنهم اجتمعوا إلى أبي طالب وأرادوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوءاً . فقال :
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بِجَمْعِهِم … حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا
فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ … وَابْشِرْ بِذَاكَ وَقَرَّ مِنْهُ عُيُونَا
وَدَعَوتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ نَاصِحٌ … وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أَمِينَا
وَعَرَضْتُ دِيناً لاَ مَحَالَةَ أَنَّهُ … مِنْ خَيْرِ أَدْيانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا( ).
وعند وفاة أبي طالب اشتد أذى قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يقابلهم إلا بالصبر والحلم والحكمة وإقامة البرهان، فقد كان صبره أمراً وجودياً، وحجة عليهم , وبياناً من السنة النبوية الفعلية للخلق الحميد الذي يتصف به , وشاهداً تأريخياً على استحقاق نزول العذاب بهم، ودليلاً على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يرغب بالقتال ولا يسعى إليه , وأنه يتحمل الأذى والضرر من غير أن يرفع يداً أو يشهر سلاحاً ، وفي التنزيل[فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ]( ).
حتى عزموا على الإجهاز عليه في فراشه فنزل جبرئيل بالإذن له بالهجرة إلى المدينة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
العدد: 900/18
التاريخ: 28/4/2018
م/بيان بخصوص عريضة شخصيات فرنسية رفيعة حول القرآن
نشرت صحيفة (باريزيان الفرنسية) يوم الأحد الماضي عريضة وقعها نحو ثلاثـمائة من الشخصيات الفرنسية الرفيعة تدعو الى مراجعة بعض الآيات القرآنية بل وتجاوزها لأنها تدعو إلى قتل وتعذيب اليهود والمسيحيين بظنهم حتى لا يتمكن أي شخص من الركون الى نص مقدس لإرتكاب جرائمه.
وأوجه الإمتنان والشكر للسادة الكرام الذي وقعوا هذه العريضة بصفتي أكبر علماء الإسلام في علوم القرآن فقد صدرت مائة وستة وستون جزءَ من تفسيري للقرآن ولا زلت في بداياته وكلها استنباط واستقراء من ذات الآيات , الى جانب كتبي الفقهية والأصولية ، بينما لم يتجاوز تفسير القرآن في تأريخ الإسلام ثلاثين جزء لأي من علماء الإسلام في الأزمنة السابقة.
وأود إخبارهم بأمرين :
الأول : تدل هذه العريضة على إعجاز القرآن لأنه خال من معاداة السامية.
خاصة وأن عنوان العريضة هو(ضد معاداة السامية الجديدة) وقد نزل القرآن قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، فليس من صلة بين القرآن وهذه المعاداة على فرض وجودها , كما أننا نستنكرها وندعو عموم المسلمين والمسلمات إلى الإبتعاد والتنزه عنها، ونحث على لزوم تعاهد سنن وقوانين المواطنة الفرنسية وعموم بلدان العالم التي يقطنونها.
الثاني : تتضمن الأجزاء التي صدرت من تفسيري للقرآن قوانين تدل على أن القرآن لا يدعو إلى قتل أي انسان، وجاءت الأجزاء 159-160-161-163-164-165-166، وهي على موقعنا (www.marjaiaa.com) بقانون في عنوانه الخارجي(لم يغز النبي محمد أحداً) إنما كان بحال دفاع واضطرار للقتال، وكان مشركوا قريش هم الذي يغزون ويهجمون على المدينة، وكان لا يبدأ قتالاً , وكان يأمر أمراء السرايا بعدم البدء بقتال، وعندما يلتقي الجمعان يكون نداؤه (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) .
وقد صاحب هذا الشعار النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من أول أيام بعثته عن ربيعة بن عباد الديلي وَكَانَ جَاهِلِيًّا أَسْلَمَ فَقَالَ
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَرَ عَيْنِي بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا وَيَدْخُلُ فِي فِجَاجِهَا وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ عَلَيْهِ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَقُولُ شَيْئًا وَهُوَ لَا يَسْكُتُ يَقُولُ أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا إِلَّا أَنَّ وَرَاءَهُ رَجُلًا أَحْوَلَ وَضِيءَ الْوَجْهِ ذَا غَدِيرَتَيْنِ يَقُولُ إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَذْكُرُ النُّبُوَّةَ قُلْتُ مَنْ هَذَا الَّذِي يُكَذِّبُهُ قَالُوا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ
قُلْتُ إِنَّكَ كُنْتَ يَوْمَئِذٍ صَغِيرًا قَالَ لَا وَاللَّهِ إِنِّي يَوْمَئِذٍ لَأَعْقِلُ( ).
وليس في هذا النداء معاداة للسامية ولا دعوة لهذه المعاداة ، وهو ثابت في كل المصادر التأريخية، ولم يقل لهم (وقولوا أن محمداً رسول الله) ليدل بالدلالة التضمنية على أن النبي محمداً لم يحارب اليهود والنصارى فهم أهل كتاب منزل،كما صبر على المنافقين, إنما كانت معاركه مع كفار قريش الذين يعبدون الأصنام والذين أرادوا إغتياله في فراشه في مكة فخرج منها ليلاً مضطراً ومعه أبو بكر , وليس معهما سيف وسلاح في طريق الهجرة وطوله أكثر من (400كم) .
وخرج خلفه رجال قريش يطلبونه ووضعوا الجعل على قتله أو القبض عليه، وبات في فراشه الإمام علي عليه السلام، وحين وصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى المدينة وقّّع معاهدة وموادعة مع يهود المدينة، وشهد لهم بأنهم مؤمنون وينصارون النبي محمداً وفي تلك المعاهدة (وَإِنّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ وَإِنّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَإِنّ الْجَارَ كَالنّفْسِ غَيْرَ مُضَارّ وَلَا آثِمٌ وَإِنّهُ لَا تُجَـــارُ حُرْمَةٌ إلّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا ، وَإِنّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ وَإِنّهُ لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا . وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ .
وَإِذَا دُعُوا إلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ فَإِنّهُمْ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ وَإِنّهُمْ إذَا دُعُوا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إلّا مَنْ حَارَبَ فِي الدّينِ عَلَى كُلّ أُنَاسٍ حِصّتُهُمْ مِنْ جَانِبِهِمْ الّذِي قِبَلَهُمْ وَإِنّ يَهُودَ الْأَوْسِ ، مَوَالِيَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ عَلَى مِثْلِ مَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ . مَعَ الْبِرّ الْمَحْضِ ؟ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ .
لَا يَكْسِبُ كَاسِبٌ إلّا عَلَى نَفْسِهِ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَصْدَقِ مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ وَإِنّهُ لَا يَحُولُ هَذَا الْكِتَابُ دُونَ ظَالِمٍ وَآثِمٍ وَإِنّهُ مَنْ خَرَجَ آمِنٌ وَمَنْ قَعَدَ آمِنٌ بِالْمَدِينَةِ ، إلّا مَنْ ظَلَمَ أَوْ أَثِمَ وَإِنّ اللّهَ جَارٌ لِمَنْ بَرّ وَاتّقَى ، وَمُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ).
وعندما قدم وفد نصارى نجران الى المدينة في السنة التاسعة للهجرة، وتسمى سنة الوفود ، وكانوا ستين راكباً التقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجده بعد صلاة العصر.
فحانت صلاتهم فصلوها في مسجده فأراد الناس منعهم، فقال : دعوهم فاستقبلوا المشرق وصلوا صلاتهم( ).
وكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للوفد كتاب أمان وفيه (بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا مَا كَتَبَ مُحَمّدٌ النّبِيّ رَسُولُ اللّهِ لِنَجْرَانَ إذْ كَانَ عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ فِي كُلّ ثَمَرَةٍ وَفِي كُلّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَوْدَاءَ وَرَقِيقٍ فَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَ ذَلِكَ كُلّهُ عَلَى أَلْفَيْ حُلّةٍ فِي كُلّ رَجَبٍ أَلْفُ حُلّةٍ .
وَفِي كُلّ صَفَرٍ أَلْفُ حُلّةٍ وَكُلّ حُلّةٍ أُوقِيّةٌ مَا زَادَتْ عَلَى الْخَرَاجِ أَوْ نَقَصَتْ عَلَى الْأَوَاقِيِ فَبِحِسَابٍ وَمَا قَضَوْا مِنْ دُرُوعٍ أَوْ خَيْلٍ أَوْ رِكَابٍ أَوْ عَرَضٍ أُخِذَ مِنْهُمْ بِحِسَابٍ وَعَلَى نَجْرَانَ مُثْوَاةُ رُسُلِي وَمَتّعْتهمْ بِهَا عِشْرِينَ فَدُونَهُ .
وَلَا يُحْبَسُ رَسُولٌ فَوْقَ شَهْرٍ وَعَلَيْهِمْ عَارِيَةٌ ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ فَرَسًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا إذَا كَانَ كَيْدٌ بِالْيَمَنِ وَمَغْدَرَةٌ وَمَا هَلَكَ مِمّا أَعَارُوا رَسُولِي مِنْ دُرُوعٍ أَوْ خَيْلٍ أَوْ رِكَابٍ فَهُوَ ضَمَانٌ عَلَى رَسُولِي حَتّى يُؤَدّيَهُ إلَيْهِمْ .
وَلِنَجْرَانَ وَحَسْبُهَا جِوَارُ اللّهِ وَذِمّةُ مُحَمّدٍ النّبِيّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمِلّتِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ وَتَبَعِهِمْ وَأَنْ لَا يُغَيّرُوا مِمّا كَانُوا عَلَيْهِ وَلَا يُغَيّرُ حَقّ مِنْ حُقُوقِهِمْ وَلَا مِلّتِهِمْ وَلَا يُغَيّرُ أُسْقُفٌ مِنْ أُسْقُفِيّتِهِ وَلَا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيّتِهِ وَلَا وَافِهٍ ( )، عَنْ وَفَهِيّتِهِ وَكُلّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ رِيبَةٌ وَلَا دَمُ جَاهِلِيّةٍ وَلَا يُحْشَرُونَ وَلَا يُعْشَرُونَ وَلَا يَطَأُ أَرْضَهُمْ جَيْشٌ وَمَنْ سَأَلَ مِنْهُمْ حَقّا فَبَيْنَهُمْ النّصْفُ غَيْرَ ظَالِمِينَ وَلَا مَظْلُومِينَ)
ولما قبض الأسقف الكتاب استاذن بالإنصراف هو والوفد الذين معه ونزل قوله تعالى[وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ] ( ).
ولم يحتج الأسقف وأصحابه على تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة في أمر الكتاب أعلاه، بينما احتج ممثل قريش سهيل بن عمرو في صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة , إذ اعترض على البسملة وأراد أن يُكتب باسمك اللهم، كما قال للنبي لو أعلم أنك رسول الله ماخالفتك واتبعتك،أفترغب عن اسمك واسم ابيك محمد عبد الله، أكتب اسمك واسم ابيك.
ان معاهدة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع يهود المدينة وكتابه إلى وفد نصارى نجران مصداق لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، ومضامين الآية أعلاه باقية إلى يوم القيامة ، كما أن القرآن خال من التناقض والتعارض والتزاحم بين آياته ، فهو لا يدعو إلى القتل وسفك الدماء.
وقد بينت وذكرت في تفسيري للقرآن (معالم الإيمان) آلاف الشواهد والمصاديق والقوانين التي تدل على أنه لا يدعو إلى القتل أو إشاعته , ويقول كثير من علماء التفسير أن آية السيف نسخت مائة آية ومنهم من أوصلها إلى (124) آية , والمختار أن آية السيف لم تنسخ هذه الآيات
خاصة وأن لفظ السيف غير موجود في القرآن وعدم وجوده مع كونه سلاح تلك الأزمنة شاهد على أن القرآن دين الرحمة والمودة علماً بأنه لا يمكن ولا يجوز تغيير أو تبديل أو حذف أي حرف من القرآن ، وما بين الدفتين شاهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت بالقتل ولم يسع إليه.
والقرآن والسنة النبوية ضد معاداة السامية، وتدل هذه العريضة الكريمة والتي هي بعنوان (ضد معاداة السامية الجديدة) على إعجاز القرآن في كل زمان لأن آياته ضد معاداة السامية أمس واليوم وإلى يوم القيامة .
ونزلت آيات القتال في خصوص حال الدفاع ، وقد دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معركة بدر وليس معه سيف ، وكان يرجو عند التقاء الصفين إنصراف المشركين عن القتال.
ويدعو القرآن للألفة والمودة والمحبة , ولنبذ الكراهية والإرهاب والقتل العشوائي في عموم الأرض، وهو الذي بيّناه بالتفصيل في أجزاء تفسيرنا للقرآن، والذي نطبعه على نفقتنا الخاصة بمشقة متزايدة مع تعتيم إعلامي في الوقت الذي تنتفع منه دول وشعوب العالم أجمع.
أدعو الى ترجمة هذا البيان الى اللغة الإنكليزية والفرنسية واللغات العالمية , أرجو جعله وثيقة في الأمم المتحدة، وأدعو الى ترجمة تفسيري للغات العالمية، ومستعد لعقد ندوة وحوارات مع السادة الكرام الذين وقعوا تلك العريضة ونحوهم لرفع اللبس ، الذي يترشح عن فعل متطرف لقراءة خاطئة من قبل الذين تغلب عليهم النفس السبعية .
وليعلم الناس أن القرآن جاء بعبادة الله وأداء الفرائض ، ونشر الفضيلة والأخلاق الحميدة , وهو حامل لواء السلام والرفق والصفح , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ( )، وقال تعالى [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ ] ( ) ، وليأخذوا علوم القرآن من ذات آيات القرآن ودلالاتها من السنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن تفسيرنا للقرآن، وأقوال العلماء الذين بلغوا مراتب الإستنباط في علوم القرآن والسنة بما يؤكد أن كل كلمة في القرآن حاجة للناس في محاربة الإرهاب، وهو من بركات قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
وقد أطلعت على رد وكيل إحدى المؤسسات الدينية العريقة بقوله : لا لتجميد حرف من القرآن، فليفهم هؤلاء كتاب الله فهماً صحيحاً، أما اذا اعتمدوا على فهمهم المغلوط، فليذهبوا بفهمهم ومطالبتهم إلى الجحيم)
وصحيح أنه لا يمكن تجميد حرف من القرآن، ولكن ما هكذا تورد يا سعد الأبل، ويضرب هذا المثل لمن قصّر في العمل، أو تكلف أمراً لا يحسنه.
فأصدرنا هذا البيان لكشف حقائق من القرآن, والتعاون الفكري والعقائدي للسلم المجتمعي الذي تدعو إليه كلمات وآيات القرآن , والكتب السماوية الأخرى لإزالة أسباب الكدورة .
ثم ليتفضلوا ويذكروا الآيات القرآنية التي تعادي السامية لنبين لهم خلافه خاصة وأن القرآن يفسر بعضه بعضاًً , وهو الذي أسميناه قانون التفسير الذاتي، مع حاجة كل آية إلى أختها في البيان والتأويل.
ويمكن إنشاء قانون وهو : كل آية من القرآن حرب على الإرهاب ، وتدعو إلى نبذه سواء في منطوقها أو مفهومها أو بالجمع بينها وبين غيرها من آيات القرآن، وهو الذي يتجلى بوضوح في سِفر تفسيرنا للقرآن .
وندعو لقراءة الناس والمؤسسات التربوية والإعلامية لآيات القرآن بصبغة الرأفة وصفحات الرحمة والمودة بين الناس ، قال تعالى [وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ).
إمساكية شهر رمضان ــ 1439هـ
((مدينة بغداد صانها الله من الفساد))
شهر رمضان اليوم التاريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
1 الخميس 17/5 3:27 5:01 11:58 7:13
2 الجمعة 18/5 3:26 5:01 11:58 7:13
3 السبت 19/5 3:25 5:00 11:58 7:14
4 الأحد 20/5 3:24 4:59 11:58 7:15
5 الإثنين 21/5 3:23 4:59 11:58 7:16
6 الثلاثاء 22/5 3:22 4:58 11:58 7:16
7 الأربعاء 23/5 3:22 4:58 11:58 7:17
8 الخميس 24/5 3:21 4:57 11:58 7:18
9 الجمعة 25/5 3:20 4:57 11:59 7:18
10 السبت 26/5 3:20 4:56 11:59 7:19
11 الأحد 27/5 3:19 4:56 11:59 7:20
12 الإثنين 28/5 3:18 4:56 11:59 7:20
13 الثلاثاء 29/5 3:18 4:55 11:59 7:21
14 الأربعاء 30/5 3:17 4:55 11:59 7:21
15 الخميس 31/5 3:17 4:55 11:59 7:22
1- يكون يوم الخميس 17/5/2018 أول أيام شهر رمضان، ويبقى الهلال ساعة بعد الغروب.
2- لا أصل للإحتياط بالإمساك قبل الأذان بسبع أو عشر دقائق، وقد يلحق بالتشديد على النفس، ويمتنع السحور بطلوع الفجر الصادق وعليه الكتاب والسنة، فيجوز شرب الماء قبله ولو بدقيقة، قال تعالى[كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ].
يستحب الإستهلال، ولا تثبت رؤية الهلال إلا بشاهدين عدلين.
شهر رمضان اليوم التاريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
16 الجمعة 1/6 3:16 4:54 11:59 7:22
17 السبت 2/6 3:16 4:54 12:00 7:23
18 الأحد 3/6 3:15 4:54 12:00 7:24
19 الإثنين 4/6 3:15 4:54 12:00 7:24
20 الثلاثاء 5/6 3:15 4:54 12:00 7:25
21 الأربعاء 6/6 3:14 4:53 12:00 7:25
22 الخميس 7/6 3:14 4:53 12:00 7:26
23 الجمعة 8/6 3:14 4:53 12:00 7:26
24 السبت 9/6 3:13 4:53 12:00 7:27
25 الأحد 10/6 3:13 4:53 12:00 7:27
26 الإثنين 11/6 3:13 4:53 12:00 7:28
27 الثلاثاء 12/6 3:13 4:53 12:00 7:28
28 الأربعاء 13/6 3:13 4:53 12:01 7:29
29 الخميس 14/6 3:13 4:53 12:01 7:29
1- يرجح أن يكون يوم الجمعة 15/6/ 2018 أول أيام عيد الفطر المبارك ويبقى الهلال بعد الغروب ليلته (37) دقيقة بعد الغروب، وإرتفاعه عن الأفق(6) درجات و(49) دقيقة ونسبة القسم المنار منه 1،12 وقد يرى بصعوبة.
صدرت مائة وسبعة وستون جزءً من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) في تفسير سورة البقرة وشطر من آل عمران وهي معروضة على موقعنا WWW.MARJAIAA.COM، والأجزاء السبعة الأخيرة من هذا السٍفر بقانون(لم يغزُ النبي(ص) أحداً ) وكلها تأويل وإستنباط لم يشهد له التأريخ مثيلاً، ونطبعه والحمد لله على نفقتنا الخاصة، مع أنه من أفضل موارد الخمس والحقوق الشرعية[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].
إمساكية شهر رمضان ــ 1439هـ(مدينة النجف الأشرف وضواحيها)
شهر رمضان اليوم التأريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
1 الخميس 17/5 3:30 5:04 11:59 7:11
2 الجمعة 18/5 3:29 5:04 11:59 7:11
3 السبت 19/5 3:28 5:03 11:59 7:12
4 الأحد 20/5 3:27 5:02 11:59 7:13
5 الإثنين 21/5 3:26 5:02 11:59 7:14
6 الثلاثاء 22/5 3:26 5:01 11:59 7:14
7 الأربعاء 23/5 3:25 5:01 11:59 7:15
8 الخميس 24/5 3:24 5:00 11:59 7:16
9 الجمعة 25/5 3:23 5:00 12:00 7:16
10 السبت 26/5 3:23 4:59 12:00 7:17
11 الأحد 27/5 3:22 4:59 12:00 7:18
12 الإثنين 28/5 3:21 4:59 12:00 7:18
13 الثلاثاء 29/5 3:21 4:58 12:00 7:19
14 الأربعاء 30/5 3:20 4:58 12:00 7:19
15 الخميس 31/5 3:20 4:58 12:00 7:20
3- يكون يوم الخميس 17/5/2018 أول أيام شهر رمضان، ويبقى الهلال ساعة بعد الغروب.
4- لا أصل للإحتياط بالإمساك قبل الأذان بسبع أو عشر دقائق، وقد يلحق بالتشديد على النفس، ويمتنع السحور بطلوع الفجر الصادق وعليه الكتاب والسنة، فيجوز شرب الماء قبله ولو بدقيقة، قال تعالى[كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ].
5- يستحب الإستهلال، ولا تثبت رؤية الهلال إلا بشاهدين عدلين.
شهر رمضان اليوم التأريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
16 الجمعة 1/6 3:19 4:57 12:00 7:21
17 السبت 2/6 3:19 4:57 12:01 7:21
18 الأحد 3/6 3:18 4:57 12:01 7:22
19 الإثنين 4/6 3:18 4:57 12:01 7:22
20 الثلاثاء 5/6 3:18 4:57 12:01 7:23
21 الأربعاء 6/6 3:17 4:56 12:01 7:23
22 الخميس 7/6 3:17 4:56 12:02 7:24
23 الجمعة 8/6 3:17 4:56 12:02 7:24
24 السبت 9/6 3:16 4:56 12:02 7:25
25 الأحد 10/6 3:16 4:56 12:02 7:25
26 الإثنين 11/6 3:16 4:56 12:02 7:26
27 الثلاثاء 12/6 3:16 4:56 12:02 7:26
28 الأربعاء 13/6 3:16 4:56 12:03 7:27
29 الخميس 14/6 3:16 4:56 12:03 7:27
2- يرجح أن يكون يوم الجمعة 15/6/ 2018 أول أيام عيد الفطر المبارك ويبقى الهلال بعد الغروب ليلته (37) دقيقة بعد الغروب، وإرتفاعه عن الأفق(6) درجات و(49) دقيقة ونسبة القسم المنار منه 1،12 وقد يرى بصعوبة.
3- صدرت مائة وسبعة وستون جزءً من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) في تفسير سورة البقرة وشطر من آل عمران وهي معروضة على موقعنا WWW.MARJAIAA.COM، والأجزاء السبعة الأخيرة من هذا السٍفر بقانون(لم يغزُ النبي(ص) أحداً ) وكلها تأويل وإستنباط لم يشهد له التأريخ مثيلاً، ونطبعه والحمد لله على نفقتنا الخاصة، مع أنه من أفضل موارد الخمس والحقوق الشرعية[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].