معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 173

المقدمـــــــــــة
الحمد لله الذي تفضل وجعل [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ليكون الإمام بين الخلائق في الحمد لله فيتوجه الناس مجتمعين ومتفرقين لله عز وجل بالحمد له والثناء عليه في حال الرخاء والشدة والسعة والضيق ، ومن الإعجاز في أحكام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقوف المسلمين صفوفاً متراصة خمس مرات في اليوم للشكر له وتلاوة القرآن والدعاء والتضرع إليه بلحاظ كل من :
الأولى : نعمة الخلق .
الثانية : نعمة الخلافة في الأرض .
الثالثة : نعمة الهداية .
الرابعة : نعمة الإيمان وفعل الصالحات .
ومن الآيات أن الصلاة شاهد على الإيمان ، وهي عمل صالح .
(عن انس قال جاء رجل فاسرع المشي فانتهى إلى القوم وقد انبهر فقال حين قام إلى الصلاة الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه فلما قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة .
قال :من المتكلم ومن القائل فانه قد قال خيرا لم يقل بأسا .
قال : يا رسول الله انتهيت إلى الصف وقد انبهرت وحفزني النفس قال لقد رأيت اثني عشر ملكا يبتدرونها ايهم يرفعها ثم قال إذا جاء احدكم إلى الصلاة فليمش على هنية , ويصلي ما ادرك ويقضي ما سبقه) ( ).
الخامس : الشكر لله على نعمة النبوة وتوالي بعث الأنبياء وانزال الكتاب إلى أن انقطعت النبوة بمفارقة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى , وبعد أن عصم الله عز وجل القرآن من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
الحمد لله الذي جعل الحمد له سبحانه من أفضل وجوه الدعاء والذكر.
و(عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء { الحمد لله } ) ( ).
الحمد لله حمداً مباركاً زاكياً طيباً يطهر القلب ، ويمنع اللسان من الشطط ومن الغيبة والنميمة .
الحمد لله الذي جعل الحمد له سبحانه عنوان الإيمان ووسيلة الأخوة بين المؤمنين ، وهو بلحاظ قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ) على وجوه :
الأول : قول الحمد لله مقدمة للأخوة الإيمانية .
الثاني : الحمد لله من مصاديق الأخوة الإيمانية ، وشاهد عليها .
الثالث : الحمد لله من رشحات ومنافع الأخوة الإيمانية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ) إذ أن قول الحمد لله من مصاديق البر والصلاح ، وهو من وجوه التقوى والخشية من الله .
ومن اللطف الإلهي بالمسلمين والناس أن رطوبة اللسان بالحمد لله سر ديمومة الحياة لعامة الناس وإن جاءت به أمة منهم في كل زمان وكأنه على سبيل الكفاية بفضل من الله، وأنه تعالى يرضى من عباده بالقليل ، وهو من مصاديق ما ورد على لسان النبي يوسف واحتجاجه وهو في السجن [وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
وكأنه يقول أننا نتعاهد الحياة الدنيا بالإقامة على التوحيد ونبذ الشرك ، ومع هذا فاني ألبث في السجن ظلماً وجوراً ليتخذ من السجن محلاً للدعوة إلى الله .
ومن إعجاز القرآن إبتداء عدد من سور القرآن بالحمد لله ، وهي :
الأولى : سورة الفاتحة ، إذ تبدأ بعد آية البسملة بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) .
الثانية : سورة الأنعام ، وتبدأ بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ] ( ) .
الثالثة : سورة الكهف وأولها [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا] ( ).
الرابعة : سورة سبأ ، وأولها [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ] ( ).
الخامسة : سورة فاطر ، وأولها [الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
ويقع هذا الجزء من (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) وهو الثالث والسبعون بعد المائة في تفسير الآية (176) من سورة آل عمران والتي تبدأ بقوله تعالى [الم *اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ] ( ) .
الحمد لله حمداً زاكياً نامياً متجدداً نسأل الله تعالى عدم إنقطاعه في الحياة الدنيا ، وعند مفارقتنا لها ، من جهة ذات الحمد ونمائه ومضاعفته ، وصيرورته واقية من عذاب البرزخ ، فمن يتصل حمده لله وهو في القبر فان الله عز وجل يتفضل بجعل قبره روضة من رياض الجنة .
الحمد لله الذي لا رازق غيره فهو الذي يرزق الخلائق كلها من غير أن تنقص خزائنه شيئاً .
الحمد لله عدد ما خطت الأقلام في علوم التفسير والسنة وما أحصاه الكتاب والحفظة .
الحمد لله الذي هدى الناس للحمد له ليكون حاجباً ومانعاً من عذاب النار يوم القيامة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
ولم تقل الآية أعلاه : يا أيها الناس ، مع ورود هذا النداء عشرين مرة في القرآن ، لبيان موضوعية الإيمان وقصد القربة في فعل الصالحات , ومع أن النسبة بين الناس والذين آمنوا هي العموم والخصوص المطلق وأن الناس أكثر من الذين آمنوا ، فجاء النداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في القرآن أكثر من أربعة أضعاف نداء (يا أيها الناس) للدلالة على إكرام الله عز وجل للمؤمنين .
الحمد الله الذي تخافه الخلائق كلها، وتخشى بطشه مع علمها بأنه الرؤوف الرحيم ، وتخافه الملائكة مع أنهم عباد مسكنهم السماء ، ومطيعون لله عز وجل , قال تعالى [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
ومنهم من يتصل بالأنبياء تعليماً وتعضيداً ومواساة من كفار قومهم ، وللبشارة بالنصر , وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : بقي نوح في قومه ثلاث مائة سنة يدعوهم إلى الله فلم يجيبوه، فهم أن يدعو عليهم فوافاه عند طلوع الشمس اثنا عشر ألف قبيل من قبائل ملائكة سماء الدنيا وهم العظماء من الملائكة .
فقال لهم نوح : ما أنتم ؟ فقالوا: نحن اثنا عشر ألف قبيل من قبائل ملائكة السماء الدنيا وإن غلظ مسيرة سماء الدنيا خمسمائة عام ومن سماء الدنيا إلى الدنيا مسيرة خمسمائة عام، وخرجنا عند طلوع الشمس ووافيناك في هذا الوقت، فنسألك أن لا تدعو على قومك، قال نوح: أجلتهم ثلاثمائة سنة، فلما أتى عليهم ستمائة سنة ولم يؤمنوا هم أن
يدعو عليهم فوافاه اثنا عشر ألف قبيل من قبائل سماء الثانية فقال نوح: من أنتم ، قالوا نحن اثنا عشر ألف قبيل من قبائل ملائكة سماء الثانية، وغلظ سماء الثانية مسيرة خمسمائة عام، ومن سماء الثانية إلى سماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام، وغلظ سماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام، ومن السماء الدنيا إلى الدنيا مسيرة خمسمائة عام، خرجنا عند طلوع الشمس ووافيناك ضحوة، نسألك أن لا تدعو على قومك، فقال نوح: قد أجلتهم ثلاثمائة سنة، فلما أتى عليهم تسعمائة سنة ولم يؤمنوا هم أن يدعو عليهم فأنزل الله عز وجل : (إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ) ( ).
فقال نوح: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ” * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) ( ) فأمره الله عز وجل أن يغرس النخل فأقبل يغرس النخل فكان قومه يمرون به فيسخرون منه ويستهزؤون به ويقولون: شيخ قد أتى له تسعمائة سنة يغرس النخل، وكانوا يرمونه بالحجارة .
فلما أتى لذلك خمسون سنة وبلغ النخل واستحكم أمر بقطعه فسخروا منه، وقالوا: بلغ النخل مبلغه قطعه، إن هذا الشيخ قد خرف وبلغ منه الكبر وهو قوله: (” وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون ” ) ( ).
فأمره الله أن يتخذ السفينة وأمر جبرئيل أن ينزل عليه ويعلمه كيف يتخذها، فقدر طولها في الأرض ألفا ” ومائتي ذراع، وعرضها ثمان مائة ذراع، وطولها في السماء ثمانون ذراعا “، فقال: يا رب من يعينني على اتخاذها ؟ فأوحى الله إليه: ناد في قومك: من أعانني عليها ونجر منها شيئا ” صار ما ينجره ذهبا ” وفضة، فنادى نوح فيهم بذلك فأعانوه عليهم وكانوا يسخرون منه ويقولون: يتخذ سفينة في البر( ).
وعن عدي بن أرطأة( )، وهو يخطب على منبر المدائن قال: سمعت رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن لله تعالى ملائكة تُرعَد فرائصهم من خيفته، ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه إلا وقعت على ملك يصلي، وإن منهم ملائكة سجودًا منذ خلق الله السماوات والأرض لم يرفعوا رءوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وإن منهم ملائكة ركوعًا لم يرفعوا رءوسهم منذ خلق الله السماوات والأرض ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، فإذا رفعوا رءوسهم نظروا إلى وجه الله عز وجل، قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك” ( ).
الحمد لله الذي جعل القرآن أنيس النفوس وصارف الهمّ وضياء البصر ، ونور البصيرة ، وشفاء الدرن ، الحمد لله الذي جعل بكل حرف من القرآن عشر حسنات ، ونسأله تعالى أن يكون هذا الثواب مضاعفاً للقارئ والمستمع والسامع بلطف منه تعالى .
الحمد لله الذي جعل القرآن ذكرى لمن تذكر ، وتذكيراً لمن نسي ، وطارداً للغفلة والجهالة ، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( )، ولم يرد لفظ (لمن الغافلين) إلا في الآية أعلاه ، بينما ورد لفظ (من الغافلين) مرة أخرى في القرآن وهي أيضاً خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ]( )، لبيان انقطاع الغفلة عن المؤمنين بالتنزيل وصيرورة المسلمين يتلون كلام الله خمس مرات في اليوم ، وهم يدعون الناس جميعاً إلى السلم والوئام ، وسنن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الذي جعله الله منهاج الأنبياء وجهاداَ إيمانياً تتقوم به الحياة في الأرض .
الحمد لله الذي لا حول ولا قوة إلا به سبحانه ، والذي جعل الناس مجتمعين ومتفرقين محتاجين إليه في كل آن من آنات الحياة، ومن حكمة الله عز وجل وعظيم قدرته إن حاجة الإنسان إليه لا تنقطع بالموت بل تكون ما بعد الموت أكثر وأشد وأعظم ، ليكون الحمد له تعالى وعبادته ذخيرة لهذه الحاجات ، وأهوال القبر، وشدائد يوم الحساب ، قال تعالى[وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( ).
وعن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قال عشر كلمات عند كل صلاة غداة وجد الله عندهن مكفياً مجزياً : خمس للدنيا ، وخمس للآخرة : حسبي الله لديني ، حسبي الله لما أهمني ، حسبي الله لمن بغى عليّ ، حسبي الله لمن حسدني ، حسبي الله لمن كادني بسوء ، حسبي الله عند الموت ، حسبي الله عند المسألة في القبر ، حسبي الله عند الميزان ، حسبي الله عند الصراط ، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب( ).
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار الحمد والشكر له سبحانه ، والإقرار بعظيم النعم التي وهبها وتفضل بها على الناس .
فان قلت ورد في التنزيل قوله تعالى[وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ]( )، والجواب من جهات :
الأولى : بيان فضل وحلم الله عز وجل على الناس وإمهاله لهم .
الثانية : بعث العز والفخر في قلوب المؤمنين لأنهم من القليل الذين شهد لهم الله عز وجل بالشكر له سبحانه .
الثالثة : تعاهد المسلمين للشكر لله عز وجل عمارة للأرض ، وتضرع لدوام النعم فيها على الناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الرابعة : استحباب سجدة الشكر عند حدوث نعمة أو صرف ودفع نقمة وبلاء وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه أمر يسره – أو يسر به – خر ساجدا شكرا لله( ).
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالصلاة اليومية ، وكل جزء وركن منها له مقاصد سامية ، وفيه ثواب عظيم ، فعندما يرفع المصلي رأسه من الركوع يقول : سمع الله لمن حمده ) لبيان تسليم المسلمين بقانون من الإرادة التكوينية وهو سماع الله للذي يدعوه ، وإستجابته له ، وأنه تعالى يثيب على قول الحمد لله .
ومن معاني الصلاة : الدعاء , لتكون مظهر السؤال برداء التضرع والمسكنة الى الله تعالى في ساعة انقطاع عن الدنيا وزينتها .
الحمد لله الذي أطعمنا وأسقانا ، وجعل الشكر له ملازماً للعبادة وأمارات التقوى ، قال تعالى[وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ]( ).
الحمد لله على النعم الجلية الظاهرة كالصحة في البدن والأمن والرزق الكريم ، والنعمة الباطنة بصرف ومحو ضروب من البلاء ، والإبتلاء بما هو أذى ، ليكون الحمد واقية للعبد ، ومناسبة للدعاء والإستغفار والرجاء.
الحمد لله الذي يعين العباد على شكره تعالى ، ويمدهم بأسباب المواظبة على الشكر ، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين قال فيهم [وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ]( ).
وجاء هذا الجزء من (معالم الإيمان ) في تفسير قوله تعالى[وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( ).
ومن خصائص هذه الآية وجوه :
الأول : إبتداء الآية بحرف الواو الذي سيرد في الإعراب أنه حرف اسئتناف ، والمختار أنه جامع للعطف والإستئناف ، إذ أن هذه القسمة للعطف أو الإستئناف استقرائية ، ولابد من وجود صلة موضوعية بين الآية القرآنية والتي سبقتها ، وفي هذه الصلة ذخائر عقائدية ، ومسائل كلامية أعم من أن تستوعبها جميعاً كتب التفسير ، وقد أنعم الله عز وجل علينا ببيان بعض شذراتها في باب (في سياق الآيات) والذي صدرت فيه أجزاء متعددة( ).
الثاني : أداة النهي التي تحمل عادة على النهي والحرمة وليس على الكراهة إلا مع الدليل أو القرينة الصارفة إلى الكراهة .
الثالث : توجه النهي والخطاب الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ولا يحزنك) لبيان أن الله عز وجل يعلم ما في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويجعل موضوعه آية قرآنية لإصلاح قلوب المسلمين والمسلمات ، ويجعلهم يفكرون بما فيه نفعهم وصلاحهم ، وفيه نكتة وهي الشهادة من الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحتى الكيفية النفسانية التي هو عليها إنما تكون بالوحي ، وهو مأمور بجعل حاله من الفرح والحزن بما يحب ويرضى الله عز وجل.
وقد ورد الخطاب (قل) في القرآن أكثر من ثلاثمائة مرة ، وفيه تعليم من الله عز وجل له ، وهدايته لما يحب أن يقوله ويفعله ، ولبيان قانون وهو أن النبي محمداً مخاطَبُ وليس متكلماً من عند نفسه .
والخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قسمين :
القسم الأول : خاص بالنبي لا يشاركه فيه أحد ، كما في قوله تعالى[قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
ولا تمنع هذه الخصوصية من قيام المسلمين بالبشارة والإنذار في ذات مضامين الآية وتقديرها : يا أيها الذين آمنوا قولوا أن محمداً رسول الله إليكم جميعاً .
وكذا قوله تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( )، فهو خطاب خاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في لفظه وحكمه ، ولكنه يتوجه للمسلمين من جهات :
الأولى : التسليم بمضامين الآية وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بشر قد يمرض ويجرح في القتال ، وان الموت عاقبته في الدنيا قال تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( ).
إذ يفارق الى الرفيق الأعلى والإقامة بالجنة للنبوة والرسالة والوحي ، والصبر والجهاد في سبيل الله ، وفي التنزيل [عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا]( ) .
وعن عبد الله بن مسعود : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني لأقوم المقام المحمود . قيل : وما المقام المحمود.
قال : ذلك إذا جيء بكم حفاة عراة غرلاً ، فيكون أول من يكسى إبراهيم عليه السلام ، فيقول : اكسوا خليلي . فيؤتى بريطتين بيضاوين فيلبسهما ، ثم يقعد مستقبل العرش . ثم أوتَى بكسوة فألبسها فأقوم عن يمينه مقاماً لا يقومه أحد ، فيغبطني به الأولون والآخرون ، ثم يفتح نهر من الكوثر إلى الحوض( ).
الثانية : تنمية ملكة الإرتقاء في المعارف الإلهية عند المسلمين .
الثالثة : إصلاح المسلمين للإحتجاج على كفار قريش، وإعانتهم للصبر في ساحات الدفاع وعند الحصار في الخندق .
الرابعة : سلامة المسلمين من النفاق والإرتداد .
الخامسة: إقرار المسلمين بالتوحيد،وتنزههم عن الشرك الظاهر والخفي.
القسم الثاني : يأتي الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن بلفظ خاص ويشترك معه المسلمون عامة ، كما في قوله تعالى[قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
وهل ينتفع كفار قريش ونحوهم من الخطاب في الآية أعلاه ، أم أن إنتفاعهم منه ينحصر باحتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عليهم بسفاهة عقولهم بعبادتهم الأصنام .
المختار هو الأول ، وهو من أسرار توالي دخول الكفار في الإسلام ، ومن مفاهيم الآية وجوه :
أولاً : يا أيها الذين كفروا أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً.
ثانياً : يا أيها الذين كفروا كفوا عما تعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً .
ثالثاً : يا أيها الذين كفروا تدبروا في بطلان ما تعبدون من دون الله .
رابعاً : يا أيها الذين كفروا أتحاربون النبي والمؤمنين لانكم تعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله السميع العليم .
وهل لهذه الآيات وتعدد مفاهيم الخطاب فيها من أثر في معارك الإسلام الأولى ، الجواب نعم ، لأنها تثبت أقدام المؤمنين في منازل الهدى ، وتجعل الذين كفروا في حيرة وإرباك وتساؤل انكاري في ضلالتهم وكفرهم ، وفي التنزيل [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) .
وكل آية من القرآن سلاح عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في حال السلم والحرب ، ولا يعلم ما صرف الله عز وجل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً من الأذى والضرر بنزول آيات القرآن ، ومنه وجوه :
أولاً : دخول الناس الإسلام بادراك الإعجاز الذاتي للقرآن ، ومنه انفراده بمرتبة سامية في البلاغة التي أدهشت العرب الفصحاء ، وأبهرت العقول . قال تعالى[اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ]( ).
ثانياً : الإعجاز الغيري للقرآن بجذب القلوب إلى الإيمان ، وبعث النفرة من الكفر وعبادة الأوثان .
ومن إعجاز آيات القرآن استحضار الناس معالم الآخرة ومواطن الحساب والجزاء فيها , وبعث الشوق في نفوسهم لدخول الجنة والإحتراز من أسباب دخول النار .
ثالثاً : دعوة القرآن إلى الأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة وبيانه لقواعد في الفضائل ومحاسن السلوك،ويدل قوله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )على الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنن الرحمة والرأفة .
وحتى في الطلاق والإفتراق بين الزوجين تضمن القرآن التذكير بالمودة بين الزوجين وموضوعية الإحسان واللطف عند إيقاع الطلاق ، قال تعالى [وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ) .
وتأتي الآية من عدة كلمات يبيّن الله عز وجل فيها لزوم تعاهد الأخلاق الحميدة والتحلي بالتقوى وإجتناب العادات المذمومة إذ قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ]( .
رابعاً : نبذ القتال ، والثأر والوأد وسفك الدماء مطلقاً ، وما أن دخلوا في الإسلام حتى سادت مفاهيم الأخوة بينهم ، وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسعى لفرض الأمن,والاستقرار في المجتمعات،الجواب نعم.
بينما كان الذين كفروا يعثون في الأرض فساداً ، وهو من مصاديق نعتهم في آية البحث بأنهم [يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] ( ).
خامساً : ذكر آية البحث لطائفة من الناس يقابلون المعجزة بالجحود والدعوة إلى التوحيد بالصدود ، ويصرون على البقاء في منازل الهوى والشهوة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] ( ) .
سادساً : إنذار الذين كفروا لمسارعتهم في مسالك الضلالة ، واختيارهم الكذب والإفتراء ، قال تعالى [وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ]( ).
وفي الآية تأديب وإصلاح للمسلمين ، فلا يدخلهم الشك والريب عندما يرون بعض الوجهاء والرؤساء من الكفار يحاربون النبوة والتنزيل ، فهم لا يحاربونها عن شأن منهم ورفعة ، إنما عن جهل وغفلة ومسارعة في الكفر ، وكما كان رؤساء الكفر في مكة وجهاء في المجتمع مثل أبي جهل وأمية بن خلف ، فان رأس المنافقين في المدينة عبد الله بن أبي بن أبي سلول كان من رؤساء الخروج .
وكان على وشك أن يتوجهُ أهل المدينة ملكاً عليهم قبل قدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليها ، فصار حاسداً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومبغضاً للمهاجرين ، وتجلي حسده وعداوته للإسلام في الطريق إلى معركة أحد ، إذ إنسحب بثلاثمائة رجل أي ثلث جيش المسلمين يومئذ وسط الطريق إليها , وهو يقول (علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟)( ).
سابعاً : من المسلمات أن الناس والخلائق كلها لا تضر الله شيئاً ولو اجتمعت ، وكل ملك ورئيس يخاف على ملكه من حاشيته وأبنائه ومن عدوه ، ويبعد أو يبطش بالذي تظهر عنده علامات ريبة وأمارات على إرادته المكر به ، ولكن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يخش على نبوته ورسالته من أحد ، لأن الوحي هبة خاصة بالأنبياء لا تأتي إلى غيرهم وأخبر الله عز وجل في آية البحث عن عجز الذين كفروا الإضرار بالله في ملكه وسلطانه والوحي الذي يوحيه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الناس الإسلام .
ثامناً : تأكيد آية البحث لعالم الجزاء والثواب في الآخرة ، وحرمان الذين كفروا أنفسهم من النصيب والفضل فيه ،وهل الشفاعة في الآخرة من الحظ الذي تذكره آية البحث ، الجواب نعم ، إذ يتعذر على الذين كفروا وجود الشفيع لهم ، كما أنهم يتخلفون عن الشفاعة لغيرهم ، قال تعالى [يَوْمَئِذٍ لاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً] ( ) .
إذ تبين الآية شرطين للشفاعة في الآخرة هما :
الأول : الإذن من الله عز وجل للشفيع بأن يتكلم .
الثاني : قول الشفيع بالحق والصدق والإقرار بالتوحيد ، وقال تعالى [فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ]( ) لبيان حرمان الذين كفروا من النصيب في الآخرة من جهة قبح أعمالهم والتي لا تجلب لهم إلا الضرر ، ومن جهة إنعدام الشفيع لهم لإختيارهم الكفر , ومسارعتهم فيه .
تاسعاً : ولما أخبرت آية البحث عن عدم النصيب للذين كفروا في الآخرة ، فقد يقال أنهم يحرمون من النصيب فقط ، وهو منزلة وبرزخ بين الجزاء الحسن للمؤمنين , وبين العذاب للذين كفروا .
وأختتمت آية البحث بما يدفع هذا الوهم واللبس فقال تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ) فأبتدأت آية البحث بخطاب النهي اللطيف إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويلحق به المسلمون ، لتختتم بالوعيد والتخويف للذين كفروا بشدة واستدامة العقوبة على إختيار الكفر.
وذكرت آية البحث اسم الجلالة مرتين،كما أنه يرد فيها بصفة الضمير المستتر،والمعنى , وفيه زجر للذين كفروا عن التمادي لإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كما في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة،ومعركة الخندق في السنة الخامسة للهجرة
الحمد لله الذين أنزل القرآن[ هُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )، وغذاء للفكر والعقل والبدن , وكل آية منه نعمة سلاح وواقية في الدنيا والآخرة .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (اسباغ الوضوء شطر الايمان والحمد لله تملا الميزان والتسبيح التكبير يملا السماوات والارض والصلاة نور والزكاة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك)( ).
لقد تضمنت آيات القرآن الأمر والنهي والأحكام وما يحتاجه الناس في أمور الدين والدنيا ، وجاءت آية البحث لتخبر عن قانون من الإرادة التكوينية , وهو علم الله عز وجل بما في قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقلوب المسلمين وعلمه تعالى بأفعال الذين كفروا وانهم يسارعون في الضلالة ، ويؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسعون في الحيلولة دون إقامة شعائر الله ، وفي التنزيل [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ] ( ).
سبحان الله عدد خلقه وزنة عرشه ، ومداد كلماته ، سبحان الله وبحمده، سبحان الله بسعة الأرض والسماء ، وله الحمد في الآخرة والأولى.
وسيأتي في باب علم المناسبة أن قوله تعالى [لاَ يَحْزُنْكَ] ورد ست مرات في القرآن ، وكلها خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويستقرأ منها مصاديق من مسارعة الذين كفروا في منازل الكفر والضلالة ، ولم تكتف آية البحث بالنهي عن الحزن على الذين كفروا إنما بينت خيبتهم وخسارتهم وعجزهم عن صدّ الناس عن دخول الإسلام ، فيجلس بعض رؤساء الكفر في دار الندوة في مكة والتي بناها قصي بن كلاب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكما جاء في الجزء السابق وهو الثاني والسبعون بعد المائة في قراءة في ثلاث آيات من آيات الدفاع عن النبوة ،وهي :
الأولى :كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ.
الثانية : [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) ( ).
الثالثة : [وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ]( ) ( ).
وقيدناه بأنه قراءة وليس تفسيراً لأن تفسيرنا للآية القرآنية أعم وأوسع إنما جاءت هذه الأجزاء لإقامة الحجة بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يطلب القتال ، ولم يسع للغزو والهجوم ، وسيأتي التفسير مستقلا ووفق منهجيتنا إن شاء الله , وهو من اسرار الإكتفاء بالمعجزات العقلية والحسية التي خصه الله عز وجل بها ، وهل عدم غزو النبي للكفار معجزة له ، الجواب نعم بلحاظ وجوه :
الأول : بيان قانون وهو قيام الدعوة إلى الإسلام [بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) وعدم الحاجة إلى الغزو .
الثاني : عدم مقابلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الكفار بالمثل ، فقد قصدو غزو المدينة كما في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة إذ صاروا على بعد خمسة كيلو متر عنها , لولا أن خرج لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وحينما إنسحب جيش المشركين يومئذ إلى مكة ، وصاروا بالروحاء ، تلاوموا فيما بينهم (وهم يقولون: لا محمداً أصبتم، ولا الكواعب أردفتم، فبئس ما صنعتم! فهم مجمعون على الرجوع، ويقول قائلهم فيما بينهم: ما صنعنا شيئاً، أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، قبل أن يكون لهم وفرٌ والمتكلم بهذا عكرمة بن أبي جهل) ( ).
والمراد من الكواعب ، جمع كاعب وهي الشابة التي صار ثديها مثل الكعب ، ولم يتدل بسبب قوتها وحداثتها ونضارتها ، قال تعالى [إِنّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا *حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا* وَكَأْسًا دِهَاقًا] ( ) .
ويدل ذكر رؤساء جيش قريش الكواعب على تبييت النية على غزو المدينة واستباحتها لأن النساء اللائي يخرجن إلى المعركة مع المسلمين للسقي ومداواة الجرحى من كبار السن في الأعم الأغلب .
الثالث : لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو أهل مكة إلى الإسلام ، وكان يطوف في أشهر الحج بين مساكن القبائل التي تأتي للحج يعرض عليهم نفسه ، ويبين لهم نبوته ، ويطعن بعبادة الأوثان .
فان قلت لماذا قيدت أشهر الحج بالحرم ، الجواب من أشهر الحج ما هو ليس بشهر حرام ، وهو شهر شوال ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] ( ) ولكنه لا يمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الدعوة فيه إلى الإسلام ، وتلاوة آيات القرآن على أهل مكة والمعتمرين في جميع أيام السنة ، خاصة وأنه يؤدي الصلاة في المسجد الحرام ، وبما لم يعهده الناس من القيام والتلاوة ثم الركوع ثم السجود والتطامن وتعفير الجبين طاعة لله عز وجل ، وكان تصلي معه خديجة والإمام عليه عليهما السلام .
الرابع : أداء المسلمين الفرائض العبادية حرب على عبادة الأصنام ، ودعوة للتخلي عن نصرة رؤساء الكفر الذي يتخذونها آلهة , وهذا الأداء صبر وجهاد في سبيل الله .
الخامس : كل آية قرآنية تنزل من السماء تغزو قلوب الناس ، وتبعثهم على التفكر والتساؤل وتقربهم من منازل الهداية ، وهو من معاني اللطف الإلهي في نزول آيات القرآن على نحو النجوم والتدريج ، قال تعالى [وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً] ( ).

حرر في 11 حزيران 2018
26 شهر رمضان 1439

قوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] الآية 176.
الإعراب واللغة
[يَحْزُنْكَ] بفتح أو ضم الياء من يحزنك ، وقرء يسرعون ، بدل يسارعون، والأصل هو ما مرسوم في المصاحف .
الواو : حرف استئناف , وعطف .
لا : ناهية جازمة ، وتفيد النهي والكف عن الفعل ، وهي التي تدخل على الفعل المضارع , وتفيد خطاب الغير والطرف الآخر في الغالب ليكف ويمتنع عن قول أو فعل ، كما في قوله تعالى [قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا] ( )إذ تتكرر في الآية (لا) النافية مرتين .
وهي بخلاف (لا) النافية للجنس التي تنفي حدوث الفعل الواقع بعدها ، وتدخل على الفعل المضارع الذي يكون فعله ضمير المتكلم أو المتكلمين ، والغائب كما في قوله تعالى بخصوص إبراهيم وموعظته لأبيه [إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا] ( ) إذ تكررت (لا) النافية في الآية ثلاث مرات .
يحزنك : فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه السكون .
الكاف : ضمير مفعول به .
الذين : اسم موصول مبني في محل رفع فاعل .
يسارعون : فعل مضارع مرفوع ، والواو : فاعل .
في الكفر : جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ضمير [يسارعون].
إنهم :إن : حرف مشبه بالفعل .
الضمير (هم) اسم (إن) في محل نصب .
لن يضروا الله شيئاً .
لن : حرف نفي ونصب واستقبال .
يضروا : فعل مضارع منصوب وعلامة نصبه حذف النون .
الواو : فاعل .
لفظ الجلالة مفعول به منصوب .
شيئاً : مفعول مطلق مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
يريد الله : يريد : فعل مضارع مرفوع ، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
اسم الجلالة : فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره .
ألا يجعل لهم حظاً :
ألا : كلمة مؤلفة من حرفين أدغم أحدهما في الآخر.
الأول : أن المصدرية الناصبة للفعل .
الثاني : لا الزائدة ، وتفيد تأكيد النفي .
يجعل : فعل مضارع منصوب ، والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو ) .
لهم : اللام : حرف جر ، هم : ضمير في محل جر متعلق بـ (يجعل ).
حظاً : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة المشددة على آخره .
في الآخرة : جار ومجرور متعلق بمحذوف نعت ل (حظاًً ) .
ولهم عذاب عظيم : الواو : حرف عطف .
لهم : جار ومجرور .
عذاب : مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
عظيم : نعت لعذاب مرفوع مثله .
والمصدر المؤول [ألا يجعل ] في محل نصب مفعول به ، وجملة [لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ…] لا محل لها استئنافية ، وجملة [يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ…] لا محل لها صلة الموصول [الَّذِينَ].
والحزن هو حال انقباض النفس .
وهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وأشده الكرب .
وورد في يعقوب النبي وحزنه على فقد يوسف عليه السلام قوله تعالى [وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ] ( ) وفيه دعوة للأبناء للبر بآبائهم ، وعدم إيذائهم بالغياب والإنقطاع عنهم ، وهل فيه دعوة للحكام والقضاة والملوك بالرأفة والرفق بالأبناء في الأحكام رعاية وعناية بآبائهم .
الجواب نعم .
وإذا كانت الآية أعلاه قد ذكرت الأب فهل حزن الأم على ابنها أشد أم أخف منه ، الجواب هو الأول ، إلا أن يقال بأن يعقوب حزن على يوسف لوراثته مقام النبوة .
وهو لا يمنع من شدة حزن الأم على ابنها ، وهل يمكن أن تدخل على بعض القوانين الوضعية في دول العالم مواد تفيد تخفيف الحكم عن الأبناء مع حياة الآباء والأمهات والحزن والكآبة التي تلحق بهم بسبب سجن الأبناء .
الجواب نعم ، وهل يقيد بشرط بر الابن لهما ، وعدم عقوقه ، الجواب لا ، لأن ذات التخفيف عنه بسبب والديه دعوة له لبرهما ، وإدراك نفعهما له وبركة حياتهما عليه أي يخفف الحكم عن الأبناء لمقام الآباء والأمهات وللرأفة بهم ، فان كان الابن لم يحفظ في سلوكه والديه ، وأرتكب ما يستوجب العقوبة ، فانها لا تلغى ولكن تخفف بقدر ونسبة بسبب الوالدين , وبما يراه المشرع والقاضي , وفي الآية حث للأبناء على عدم الغياب والإنقطاع الطويل عن آبائهم .
ولعله من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
وقيل (والهَمُّ : الحُزْنُ، أهَمَّني الأمْرُ) ( ).
ولكن النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه , وبين الحزن والخوف عموم وخصوص من وجه أيضاً ، فمادة الإلتقاء إنقباض النفس والكدورة ، أما مادة الإفتراق فان الحزن على أمر قد مضى، والخوف الخشية من أمر مكروه متوقع ، وقد أخبرت آية البحث عن الحزن بصيغة المضارع.
والمسارعة : المعاجلة ، وعدم الإبطاء.
والمسارعة إلى الشئ : المبادرة إليه ، وهو على شعبتين :
الأولى : المسارعة إلى الخير , وهو أمر محمود وحسن ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ) .
الثانية : المسارعة إلى الشر ، وما لا ينبغي ، ومنه ما ورد في آية البحث من مسارعة المشركين في منازل الكفر .
ومن سنن الدنيا وقوانين عمارة الناس للحياة فيها أن مسارعة المؤمنين في الخيرات حاضرة ومتجددة في كل زمان وهي كالشجرة المثمرة [تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ]( )، أما المسارعة في الكفر فلا تؤدي إلا إلى خزي وخسارة أصحابها في الدنيا والآخرة .
ومن إعجاز آية البحث مجئ النهي عن الحزن على الذين كفروا ، وليس على مسارعتهم في الكفر وحدها لبيان قانون وهو أن ذات الكفر والتلبس به مصيبة عظمى ، وكما نزل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحزن على الذين كفروا لما في إختيارهم الكفر من الإضرار بأنفسهم والناس عامة .
والحزن : الأسى والإنكسار في الوجه ، والوجد والأسف ، وفي التنزيل بخصوص يعقوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ]( ).
ويترشح الحزن عن المصيبة والمكروه الماضي أو الحاضر ويقال حزن يحزن حزناً .
( حزن الحُزْنُ والحَزَنُ مَعْرُوفان، حَزْنَني يَحْزُنُني حُزْناً، فأنا مَحْزُوْنٌ، وهو حازِنٌ. وأحْزَنَني يُحْزِنُني، فأنا مُحْزَنٌ، وهو مُحْزِنٌ، وحُزَانَةُ الرَّجُلِ مَنْ يَتَحَزَّنُ بأمْرِه، وفي قَلبي عليك حَزَانَةٌ أي حُزْنٌ والمُحْتَزِنُ البَكِيُّ الحَزِيْنُ. ورَجُلٌ مَحْزُوْنٌ، ولا يُقال حَزَنَه الأمْرُ ؛ عند قَوْمٍ، بل يُقال أحْزَنَه الأمْرُ ؛ في المعنى، ويقولون يَحْزُنُه.
قال ابن الأعرابيِّ ومحمَّدُ بن حَبيب: الحُزْنُ: ما ثَبَتَ في القَلْبِ فلم يُسْلَ، والحَزَنُ – بفَتْحَتَيْن – : ما سَلاه صاحِبُ المُصِيْبَةِ. وقال الحَسَنُ لابْنِه: لقد شَغَلَني الحُزْنُ عليكَ عن الحُزْنِ لك( ).
وبين الحزن والكآبة عموم وخصوص مطلق ، فالكآبة أشد , وقيل تظهر الكآبة على الوجه ، أم الحزن فيكون نازلاً في القلب ، ولا يظهر على الوجه الا ما يكون مضمراً في الباطن .
والشئ ما يصدق عليه أنه يُعلم بالذات أو العرض ، وما يستحضر بالوجود الذهني وما يخبر عنه سواء كان حسياً أو معنوياً .
ويطلق لفظ الشئ على المذكر والمؤنث ، وفي التنزيل [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] ( ) لبيان عظمة الخالق سبحانه ، وهل من معانيه أن الخلائق لا تضره تعالى ، الجواب نعم ، فهو وحده الذي يفعل ما يشاء ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
في سياق الآيات
الصلة بين آية البحث والآيات المجاورة على شعبتين :
الشعبة الأولى : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة السابقة ، وهي على وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تضمنت الآية السابقة من جهة الخبر والإنشاء أقساماً :
الأول : الإبتداء بالجملة الخبرية إذ ابتدأت آية البحث بأداة الحصر (إنما) وهي كافة ومكفوفة .
إذ أنها تتألف من كلمتين وهما .
الأولى : (إن) حرف توكيد .
الثانية : (ما) وهي كفت (إن) عن العمل ولكنها تجعل توكيد (إن) أكثر وأبين وغالباً ما تأتي في الإنكار والجحد .
الثاني : بعد الشيطان عن المسلمين والناس , لقوله تعالى[ذَلِكُمْ] ودلالة هذا البعد على ضعف أثر الشيطان ووهنه , قال تعالى[إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا]( ).
الثالث : إخبار الآية عن فتنة الشيطان وإخافته للذين كفروا بقوله تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) لبيان وقوع صرعى نتيجة مكائد الشيطان ، وكل آية من القرآن برزخ دون هذا الوقوع ، وهي سبب لكشف عداوة الشيطان للناس وهزيمته في ميدان السلوك الإنساني العام .
وفي هذا التخويف أطراف :
الأول : أولياء الشيطان .
الثاني : حال الخوف عند الذين كفروا .
الثالث : أسباب وموضوع التخويف .
الرابع : كيفية التخويف .
الخامس : الشيطان الذي يقوم بتخويف أوليائه .
ترى مم يخوف الشيطان أولياءه ، الجواب من وجوه :
الأول : إنه يخوفهم الفقر والفاقة ليبعثهم على إرتكاب الحرام ، وأكل المال بالباطل ، وليصدهم عن الإحسان والكرم ، قال تعالى[الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثاني : يخوف الشيطان أولياءه من الإيمان وأداء الفرائض والعبادات .
الثالث : يخوف الشيطان الذين كفروا من فوات المعصية ، وإحتمال عدم تكرار مناسبتها .
الرابع : يوسوس الشيطان للكفار بحب المال ، وعدم إخراج الزكاة والحقوق الشرعية .
الخامس : يخوف الشيطان أولياءه من بطش الطاغوت وسلطان الكفر إن خرجوا عن طاعة الذين ظلموا ، ويسعى لحجبهم عن التدبر بالآيات الكونية والمعجزات ، ليكون همهم طاعة الطاغوت في تعديه وظلمه وإصراره على محاربة النبوة والقرآن ، وفي التنزيل [الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا] ( ).
والأصل في الولاية المحبة والقربة ، والولاية ضد العداوة ، وكل من الولاية والعداوة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة من القوة والضعف ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ] ( ) .
لبيان سور الموجبة الكلية مثل : كل ، جميع ، ومن الآيات صدق المحبة والولاية والمودة لأهل الإيمان ، ولا يجمعوا نقيضه من العداوة ، ولو على أدنى مراتبه ، وعلى نحو السالبة الجزئية في بعض الأحيان ، أو عدد من الأشخاص ونحوه من أفراد سور الموجبة الجزئية في الدلالة على ثبوت المحمول لبعض أفراد الموضوع ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا]( ).
ترى ما هي النسبة بين أولياء الشيطان الذين ذكرتهم الآية السابقة وبين عامة الذين كفروا ، الجواب فيه وجوه :
الأول : إرادة التساوي بينهما .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الذين كفروا أعم من أولياء الشيطان .
الثانية : أولياء الشيطان أعم من الذين كفروا بلحاظ أن نعت أولياء الشيطان خاص برؤساء الكفر ، والذين يتمادون في المعصية .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
الرابع : التفصيل بلحاظ تعدد معاني الولاية ، فانها تشمل المودة والإتباع والإنقياد والنصرة والنيابة .
والمختار هو الأول فالذين كفروا هم أولياء الشيطان ، نعم هذه الولاية من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في الميل إلى المعصية واتباع الشيطان وأشدها تجهيز الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
المسألة الثانية :ورد لفظ [يُخَوِّفُ] مرتين في القرآن واحدة في بيان شدة عذاب الذين كفروا وخسرانهم في النشأتين ، قال تعالى [لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ] ( )وأخرى في آية السياق بقوله تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ] ( ) .
لبيان مسائل :
الأولى : تلقي المؤمنين التخويف من عند الله وامتناعهم عن تخويف الشيطان .
الثانية : إقامة الله سبحانه الحجة على الناس بأنه يخوفهم بالحق والبراهين والحجج , بينما يخوفهم الشيطان بالوهم , قال تعالى[وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا]( ) .
ولم يرد لفظ (نخوفهم) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
الثالثة : تلقي الذين كفروا التخويف من عند الله ، فمن إعجاز الآية أعلاه من سورة الزمر ذكرها متعلق التخويف للناس جميعاً بلحاظ أنهم عباد الله واقترنت الآية وما فيها من التخويف ومصداقه بالأمر بالتقوى والخشية من الله عز وجل ، قال تعالى[وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ]( ).
وتحتمل الصلة بين الآيتين بخصوص الذين كفروا وجوهاً :
الأول : إرادة إجتماع الضدين عند الذين كفروا التخويف من الله والتخويف من الشيطان .
الثاني : جحود الذين كفروا بالتخويف النازل من عند الله ، وعنايتهم بتخويف الشيطان لهم .
الثالث : التفصيل , فمرة يلتفت الذين كفروا إلى تخويف الله لهم وأخرى ينقادون إلى إغواء وتخويف الشيطان .
والمختار هو الأول ، فان تخويف الشيطان للذين كفروا لا يرتقي إلى مرتبة البرزخ والمانع لتخويف الله عز وجل لهم ، فلابد أن يصل تخويف الله عز وجل للناس جميعاً .
ومن الآيات في المقام تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني ليستمع الذين كفروا إلى آية البحث ومضامين آيات القرآن الأخرى وما فيها من الإنذار للذين كفروا .
وهل يمكن تأسيس قانون وهو (كل آية قرآنية تخويف للذين كفروا) الجواب نعم من وجوه :
الأول : منطوق الآية القرآنية .
الثاني : أسباب نزول الآية القرآنية .
الثالث : مفهوم الآية القرآنية ، فحتى لو كانت الآية بشارة للمؤمنين مثل [وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا]( )، فأنها تدل في مفهومها على حرمان الذين كفروا من الفضل والنعمة الإضافية من عند الله عز وجل .
ولا يختص هذا الفضل بالدنيا ، إنما هو أكبر وأعظم في الآخرة .
الرابع : دلالات الآية القرآنية ، ومن معاني الجمع بين آية البحث وآية السياق على وجوه :
الأولى : يا أيها النبي إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه .
الثانية : يا أيها النبي لا يحزنك تخويف الشيطان وأوليائه .
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا ذلكم الشيطان يخوف أولياءه بلحاظ إلحاق المسلمين بالخطاب الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آية البحث ، لتكون الصلة بين آية البحث وآية السياق مدرسة عقائدية للمسلمين ، تتضمن مسائل :
الأولى : بيان حال الذين كفروا .
الثانية : عدم حزن المسلمين على الذين كفروا وتخويف الشيطان لهم .
الثالثة : فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بأن يصلح لهم نفوسهم ويمنعهم من الحزن والكدورة على الذين كفروا الذين إختاروا ولاية واتباع الشيطان . وفي هذا الإصلاح وجوه :
الأول : إنه مقدمة ونوع طريق لأداء المسلمين لعباداتهم .
الثاني : دعوة المسلمين للعناية بأنفسهم والثبات في منازل الإيمان .
الثالث : بيان قانون وهو التنافي والتضاد بين الإيمان وولاية الشيطان ، ليشكر المسلمون الله عز وجل على نعمة الإيمان ، قال تعالى[أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ]( ) وقال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ]( ).
الرابع : ترغيب الناس جميعاً بالإيمان بالذات والأثر والنفع المترشح عنه ، إذ يدرك معه الناس أنه وقاية من إغواء وإزلال الشيطان لهم ، وتحريضه أولياءه على اتباع الهوى والإنقياد للنفس الشهوية والغضبية .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الإيمان بضع وسبعون باباً، أدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وأعلاها شهادة أن لا إله إلاّ الله ( ).
وتلبس كفار قريش بالإنقياد للهوى من أسباب محاربتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإصرارهم على غزو المدينة مرة بعد أخرى كما في معركة أحد ومعركة الخندق .
فان قلت وهل كان المشركون يرومون غزو المدينة في معركة بدر ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تصدوا لهم عند ماء بدر .
الجواب لا يبعد هذا ولو أنه يبدو لهم , لقد خرج المشركون لنجدة قافلة أبي سفيان القادمة من الشام والمحملة بالبضائع والتجارات وفيها ذهب وفضة ، وعندما وردهم كتاب أبي سفيان في الجحفة بأن القافلة قد سلمت وانها على مشارف مكة وسألهم العودة لإنتفاء موضوع الخروج .
أصر أبو جهل وأمية بن خلف وعدد قليل من رؤسائهم على الاستمرار في المسير حتى بلوغ ماء بدر , ويبعد عن مكة نحو ثلاثمائة كيلو متر مما يدل على الظاهر أنهم لا يريدون غزو المدينة ، إلا أنه لا يمنع من استحداث هذه النية عندهم بعد الوصول الى ماء بدر لحال الغرور والعتو التي يتصفون بها.
والمختار أن نية غزو المدينة المنورة تبلورت عند كفار قريش واستحضروها من وجوه:
الأول : كثرة قتلى المشركين في معركة بدر .
الثاني : وقوع سبعين أسيراً من المشركين بأيدي المسلمين ودفع قريش الأموال الطائلة بدلاً وعوضاً لفكاكهم ، وعندما استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في اسرى معركة بدر بعد انقضائها كان عبد الله بن رواحة ممن اشار عليه ، فقال : يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه ، ثم أضرمه عليهم ناراً( ) .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأخذ بهذا الرأي أبداً ، واختار أموراً :
أولا : جلب الأسرى , وعددهم سبعون الى المدينة المنورة .
ثانيا : العناية بالأسرى ، وهذه العناية بأمر وتنزيل من عند الله عز وجل قال سبحانه [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا]( ).
ثالثا : رؤية الأسرى لعبادات المسلمين ، والنظام الإجتماعي العام للمسلمين الذي يتقوم بالصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وفيه ترغيب لهم بالإسلام .
رابعا : قبول البدل والعوض من الأسرى .
خامسا : عدم انحصار البدل بالمال ، فقد قام عدد منهم بتعليم صبيان المدينة القراءة والكتابة , كل واحد يعلم عشرة من الصبيان ويطلق سراحه وكأنه هذا العدد تحديد لطلاب الصف الواحد في المدارس الإبتدائية إلا مع الحاجة والضرورة للزيادة في عددهم.
الثالث : توالي خروج شباب قريش مهاجرين إلى المدينة .
وبخصوص نبوة موسى عليه السلام فان فرعون وجنوده لما كانوا يقتلون كل مولود يولد لبني إسرائيل في مصر ، قال له الملأ من قومه لم يبق من بني إسرائيل إلا كبار السن الذين لا يقدرون على أداء الأعمال التي يقومون بها من الزراعة والمهن والبناء ، فاستحدث نظاماً جديداً وهو أن يذبح المواليد منهم في عام ، ويترك الذين يولدون في العام التالي .
أما بالنسبة لكفار قريش فحينما رأوا شطراً من أبنائهم وشبان مكة يغادرون إلى المدينة عزموا على غزوها وعلى قتلهم أو جلبهم أسرى إلى مكة لوقف واستئصال الهجرة إلى المدينة ، ولم يعلموا أن [يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ]( ).
فتفضل الله عز وجل وابتلاهم بضروب متعددة من البلاء ، قال تعالى [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] ( ) .
الرابع : خشية كفار قريش على طرق تجارتها ، وهذه الطرق متعددة من جهات :
الأولى : بين مكة والشام .
الثانية : بين مكة واليمن .
الثالثة : بين مكة والحبشة .
الرابعة : بين مكة والمدينة .
الخامسة : بين مكة ومواضع متعددة من جزيرة العرب.
السادسة : بين مكة وملوك الحيرة ، وبلاد فارس .
وعقد أهل مكة اتفاقيات وعهود مع القبائل التي تمر بها تجارتهم ، وجاء توثيق تآلفهم للقبائل وميلهم للسلم في القرآن بقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ *إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ).
وتودد رجال قريش إلى القبائل وتدخلوا في الإصلاح بينها , وبذلوا الأموال في هذا الصلح لأن بقاء حالة الحرب ونزعة العدوان بين القبائل سبب لإغراء بعضهم للسطو على تجارة قريش ، وكذا في حالات الحروب والقتال والفوضى يحدث النهب والسلب ، نعم كانوا يقرضون أفراد القبائل بالربا وأخذ الزيادة على رأس المال ، فجاء الإسلام بتحريم الربا , قال تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
وكان عند قريش أموال طائلة ، فمثلاً كان لأبي أحيحة ثلاثون ألف دينار ذهب في قافلة أبي سفيان وحدها , والتي كانت سبب معركة بدر ، وبعد هزيمة كفار قريش في معركة بدر سخروا أموال هذه القافلة في الإعداد لمعركة أحد ، والإنفاق على الجنود والقبائل التي آزرت كفار قريش ، وخرجت معهم إلى المعركة ، وكان عبد الله بن جدعان والوليد بن المغيرة المخزومي وغيرهما يملكون الأموال الطائلة .
وبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لإستدامة نعمة المال هذه عليهم , بشرط الإيمان وصيرورتهم في حال عز ورفعة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
وإبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو لأمارة عطف الآية على الآية السابقة مع التعدد والإتحاد في صيغة الخطاب بينهما ، إذ أختتمت الآية السابقة بالخطاب الموجه للمسلمين والمسلمات بقوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : الآية واقية من مفاهيم الكفر والضلالة .
الثانية : إرادة الحرب على النفاق وإبطان المنافق الكفر في ذات الوقت الذي يظهر فيه الإسلام ، ويقف مع المسلمين في صفوف الصلاة ، ولكن ما أن تحين فرصة للإضرار بالإسلام فانه لا يتوانى أو يبطئ فيها ، لتكون خاتمة الآية السابقة من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ) .
الثالثة : تفقه المسلمين في الدين ، بتنمية ملكة الإيمان عندهم ، وعن علي بن الحسين زين العابدين قال : حدثنا أبي سيد شباب أهل الجنة قال : حدثنا أبي سيد الأوصياء قال : حدثنا محمّد سيد الأنبياء قال : الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول واتباع الرسول ( ).
فمن إعجاز خاتمة الآية السابقة مجيؤها بصيغة الجملة الشرطية لتكون في معناها جملة خبرية بلحاظ كبرى كلية وهي أن المسلمين يخافون الله عز وجل ، وسئل الإمام علي عليه السلام عن التقوى فقال: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل( ).
ويكون من معاني الآية وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين يخافون الله مؤمنون .
الصغرى : المسلمون يخافون الله.
النتيجة : المسلمون مؤمنون.
وهل يختص الخطاب في خاتمة الآية السابقة بالرجال دون النساء من المسلمين ، الجواب لا ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : صيغة المفرد للمسلم المذكر ، وخافني ان كنت مؤمناً .
الثاني : صيغة الجمع المذكر وهي المرسومة في الآية : وخافون ان كنتم مؤمنين .
الثالث : صيغة المفرد المؤنث : وخافيني ان كنت مؤمنة .
الرابع : صيغة جمع المؤنث : وخافنّي إن كنتن مؤمنات .
الرابعة : تقدير آية السياق( ) بلحاظ خاتمتها على وجوه :
الأول : إنما ذلكم الشيطان إن كنتم مؤمنين ، ومن معاني اسم الإشارة (ذلكم) الإبعاد والذم والتبكيت للشيطان المشار إليه ، ومن معاني البعد في المقام أمور :
أولاً : البشارة بابتعاد الشيطان عن الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (عن ابن عباس قال : كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون إلى الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا ، فأما الكلمة فتكون حقا , وأما ما زادوا فيها فيكون باطلا .
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما منعوا مقاعدهم فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك .
فقال لهم ابليس : ما هذا الأمر إلا من أمر قد حدث في الأرض ! فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما يصلي بن جبلين – اراه قال بمكة – فاتوه فأخبروه فقال : هذا الحدث الذي حدث في الأرض]( ).
وهو من مصاديق ما ورد في التنزيل [وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا] ( ).
ثانياً : يدل أصل تسمية الشيطان على البعد لأنه مأخوذ من شطن أي بعد (شطنتِ الدّارُ شُطُوناً، إذا بعُدت، وأكثر ما يقال: نوى شطون، ونيّةٌ شطُون.
والشَّيطانُ: فيعال من شطن، أي: بعد. ويقال: شيطن الرَّجلُ، وتشيطن، إذا صار كالشَّيطان، وفعل فعله، قال رؤبة:
وفي أخاديد السِّياط المُشَّنِ شافٍ لبغي الكلبِ المُشيطنِ) ( ).
لتأتي آية البحث بالإخبار عن بعد ونأي الشيطان وصيرورته أكثر بعداً عن المسلمين لتلبسهم بالإيمان وتحليهم بالتقوى والصلاح .
ثالثاً : إرادة التباعد والفصل بين المؤمنين وأتباع الشيطان في الآخرة ، إذ يساق المؤمنون إلى دار النعيم , ويؤخذ الذين كفروا مكبلين بالقيود إلى نار الجحيم ، وفي التنزيل [وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ] ( ).
وقد تقدم أنه لم يرد لفظ [سِيقَ] في القرآن إلا مرتين ، مع بيان موضوع هذا السوق للدلالة على قانون ، وهو أن السوق لا يحدث إلا مرة واحدة فليس بعد الموت إلا الحساب والجزاء ولا بعد دخول الجنة والنار من خروج وسوق آخر .
نعم قد يخرج بعض أهل النار بفضل من عند الله ، والأصل هو خلود أهل النار فيها ، ولكن أهل الجنة لا يغادرونها .
وقال أحمد : حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا سلام -يعني ابن مسكين -عن أبي ظلال، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه -عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن عبدًا في جهنم لينادي ألف سنة: يا حنان، يا منان. فيقول الله لجبريل: اذهب فآتني بعبدي هذا. فينطلق جبريل فيجد أهل النار مُنكبين يبكون، فيرجع إلى ربه عز وجل فيخبره، فيقول الله عز وجل: آتني به فإنه في مكان كذا وكذا. فيجيء به فيوقفه على ربه عز وجل، فيقول له: يا عبدي، كيف وجدت مكانك ومقيلك؟ فيقول: يا رب شر مكان، شر مقيل. فيقول: ردوا عبدي. فيقول: يا رب، ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيها! فيقول: دعوا عبدي( ).
وقيل الحديث ضعيف سنداً لأن في رجاله أبا ظلال وهو هلال بن أبي هلال ، وهو ضعيف وقال ابن حبان : يروي عن أنس ما ليس من حديثه ، وقال ابن الجوزي : هذا حديث ليس بصحيح ( ).
وجاءت آيات القرآن والسنة النبوية بذكر خلود أهل الجنة في النعيم .
رابعاً : دعوة المسلمين والمسلمات لتعاهد الآيات وفيه طرد للشيطان من حياتهم الخاصة والعامة .
خامساً : تلاوة المسلمين لآيات القرآن حرز من الشيطان ، وباعث للنفرة منه ومن خطواته ، ليكون من الإعجاز وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات من القرآن في الصلاة اليومية الواجبة .
وهل يمكن القول أنه كلما يتلو المسلم من القرآن يبتعد عنه الشيطان أكثر.
الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
سادساً : من الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن ذكره لبعد الشيطان ، وشدة عداوته للناس مجتمعين ومتفرقين ، وتحذير المسلمين منه ، وبيان قبح فعله ليكون كل مسلم متفقهاً بخصوص الحذر من الشيطان ، متوقياً منه بسلاح الإيمان ، وآيات القرآن ، مما يجعل الشيطان يعجز عن الوسوسة لهم .
سابعاً : من إكرام الإنسان بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) إبتعاد ذات الإنسان عن الشيطان ، فيقع البعد من جهتين :
الأولى : إبتعاد وفرار ذات الشيطان .
الثانية : إبتعاد الإنسان عن إغواء الشيطان وإجتنابه .
ثامناً : تسلح المسلمين بسلاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليتعاونوا فيما بينهم لطرد الشيطان عنهم وعن غيرهم من عموم الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وهو من مصاديق عموم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ) بتقريب وهو أن الأجيال المتعاقبة من أمته يحترزون من الشيطان ويمدون يد العون للناس جميعاً للإمتناع عن وسوسته ، وعدم الإصغاء لخدعه ومصائده .
تاسعاً : لجوء المسلمين إلى الدعاء ومطلق الذكر وقراءة القرآن ، والتدبر في معاني آياته وكلماته ، فانها حصن حصين ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قال لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة) ( ).
ومن نعم الله على المسلمين والناس أن منافع قراءة القرآن أعم من أن تختص بدفع شرور الشيطان ، إنما هي مجلبة للخير وباب للفيض والبركة .
الثاني : من ضروب ووجوه تقدير الآية : الشيطان يخوف أولياءه إن كنتم مؤمنين) بلحاظ أن الشيطان يزيد من حيله ومصائده مع إجتهاد المسلمين في سبل الإيمان ، وتعاهدهم للفرائض.
ويغيظ نزول كل آية من القرآن الشيطان وأعوانه وجنوده ، لذا فان كلاً من آية البحث وآية السياق والجمع بينهما حرب على الشيطان والفسوق والفجور.
ومن معاني قوله تعالى [إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) بعث المسلمين للتحلي بمبادئ الإيمان والإخلاص في طاعة الله ورسوله ، وهذا الإخلاص من مصاديق الخشية والخوف من الله الذي ذكرته آية السياق بقوله تعالى [وَخَافُونِي] ( ).
الثالث : تبين آية السياق ثلاثة وجوه من الخوف :
الأول : خوف المسلمين من الله عز وجل .
الثاني : خوف الذين كفروا من الشيطان .
ومن الآيات تقييد علة وموضوع الخوف بأنهم أولياؤه أي أن خوفهم من الشيطان ثم باختيارهم ، وعن أثر وتأثير الشيطان عليهم ، وهو من مصاديق ما ورد في التنزيل حكاية عن إحتجاج الشيطان على الذين كفروا يوم القيامة وبعد أن ينتهي الحساب [وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) وذكر انه ينصب منبر من نار لابليس في النار فيقوم خطيباً على أهل النار .
الثالث : نهي المسلمين عن الخوف من الذين كفروا بقوله تعالى [فَلاَ تَخَافُوهُمْ] ( ) ليكون من إعجاز آية السياق أمور:
الأول : عدم تخويف المسلمين من الشيطان مع مجئ آيات أخرى بذات الموضوع .
الثاني : لزوم أخد الحائطة من أولياء الشيطان فان هذه الولاية شر وضرر على أهلها ومن يخاف منهم .
الثالث : بيان التباين والتضاد بين المؤمنين والذين كفروا .
الرابع : فلا تخافوهم إن كنتم مؤمنين .
لقد تضمنت آية السياق النهي عن الخوف من الذين كفروا ، ثم أمرت بالخوف من الله عز وجل لبعث المسلمين للإستعداد للدفاع عن النبوة والتنزيل في معارك الإسلام الأولى التي فرضها الذين كفروا فرضاً ، ودخلها المسلمون مكرهين ومضطرين بلحاظ أن الدفاع عن النفس والعرض والمال واجب ، ولاجتناب الظلم والبطش فكيف وان المهاجرين والأنصار يدافعون عن النبوة والتنزيل ، وتثبيت أحكام التوحيد وشريعة السماء في الأرض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) ليكون من مصاديق قوله تعالى [فَلاَ تَخَافُوهُمْ] ( ) وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تخافوا أولياء الشيطان .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تخافوا من تهديد ووعيد الذين كفروا.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا تخافوا من لقاء الجمعين في معركة بدر .
ومن الآيات أن الله عز وجل نهى المسلمين عن الخوف من الذين كفروا وضمن لهم النصر في معركة بدر .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لا تخافوا الذين كفروا فان الله ينزل ملائكة مدداً وعوناً لكم ، ولا ترضى الملائكة برؤية المسلمين وهم يخافون من الذين كفروا .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا لا تخافوا من يخوفه الشيطان .
السادس : يا أيها المهاجرون والأنصار لا تخافوا قريشاً ومن والاهم .
السابع : يا أيها المؤمنون [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( )، فانه واقية من الخوف من أولياء الشيطان .
الثامن : يا أيها المؤمنون لا تخافوا من المنافقين وما يبثونه من الأراجيف.
التاسع : بيان قانون ثابت في الحياة الدنيا ، وهو أن المؤمنين لا يخافون من وعيد وتخويف أولياء الشيطان ،وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
العاشر : تأكيد قانون وهو عدم إجتماع خوفين متضادين في قلب المؤمن ، إذ أنه لا يخاف إلا من الله عز وجل ، أما الكافر فانه يخاف من الله , ويخاف من الشيطان ، وعدم الخوف من الشيطان واوليائه مقدمة لدخول الجنان .
الحادي عشر : فلا تخافوا الشيطان , وأدعوا الله خوفاً وطمعاً .
الثاني عشر : من رحمة الله بالناس توجه النهي للمسلمين بقوله [فَلاَ تَخَافُوهُمْ]( ).
الثالث عشر : فلا تخافوا لأن عدم الخوف منهم سكينة وهو فرع السكينة ، وهل يلزم الدور بين مصداقي السكينة أعلاه ، الجواب لا ، للتباين الجهتي ولأن شآبيب وأفراد السكينة كثيرة ومتصلة .
الرابع عشر : فلا تخافوهم ، والإمتناع عن الخوف من الذين كفروا موعظة وتحذير لهم ، فمتى ما أدرك الذين كفروا أن المؤمنين لا يخافون منهم، فانهم يعتبرون ويكفون عن محاربة النبوة والتنزيل .
ومن إعجاز القرآن عدم ورود الألفاظ الآتية في القرآن إلا في آية البحث وهي :
الأول : تخافوهم .
الثاني : خافوني .
الثالث: ذلكم الشيطان .
ولم تترك آية السياق المسلمين من غير خوف ، ولكنها أمرتهم بالخوف الذي فيه سعادة الدنيا والآخرة (عن الحسن البصري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال ربكم عز وجل : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ، ولا أجمع له أمنين ، فإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ، وإذا أمني في الدنيا أخفته يوم القيامة) ( ).
المسألة الثالثة : لقد ذكرت آية السياق ثلاث مفردات من مادة الخوف ، وتتضمن وجوهاً :
الأول : ضلالة الذين كفروا بإخافة الشيطان لهم .
الثاني : نهي المسلمين عن الخوف من الشيطان .
الثالث : وجوب خوف المسلمين من الله .
وهل يخاف الذين كفروا من الشيطان حينما يخوفهم ، الجواب نعم ، ولكن هذا الخوف من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب مختلفة قوة وضعفاً كْما أن الله عز وجل لطيف بالعباد يقربهم إلى منازل الطاعة ويدفع عن قلوبهم الخوف والفزع من الشيطان وما يخافون منه ، وهل ينتفع الكفار من آية البحث في المقام , الجواب نعم فهي طريق إلى التوبة وكاشف للناس جميعاً عنى قبح الخوف من الشيطان ، ولزوم التنزه عنه .
ومن إعجاز آية البحث إبتداؤها بالجملة الخبرية [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ] ( ) وهو قانون من علم الغيب لا يعلم به إلا الله عز وجل من جهات :
الأولى : بعد وطرد الشيطان , فينزل الله عز وجل القرآن ويخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين , مع إبتعاد وطرد الشيطان عنهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى] ( ).
الثانية : حصر البعد بالشيطان بقوله تعالى [ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ] ( ) لإقامة الحجة على الذين كفروا ، فمع بعد وطرد الشيطان فلماذا يخافون منه .
الثالثة : تخويف الشيطان للذين كفروا ، فهذا التخويف لا يعلمه إلا الله ، ويحتمل هذا التخويف وجوهاً :
الأول : التخويف العام للكافرين .
الثاني : تخويف كل كافر على نحو مستقل .
الثالث : تخويف الكفار بحسب الأمور التي يميلون إليها ، فاذا مال الكافر إلى الإيمان خوفه الشيطان من أداء الفرائض والواجبات ، وإذا أراد الإنفاق في الخيرات خوّفه من الفقر والفاقة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه الثلاثة .
الرابعة : ولاية واتباع الذين كفروا للشيطان وانقيادهم له .
وهل المراد من الشيطان في الآية إبليس على نحو التعيين ، الجواب لا ، فالآية أعم ، وبين الشيطان وابليس عموم وخصوص مطلق ، والمراد من الشيطان في الإصطلاح هو كل متمرد من الجن والإنس والدواب ، وقد يطلق لفظ الشيطان ويراد منه خصوص إبليس بلحاظ القرينة والموضوع ، كما في قوله تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( ) .
وتقدير الآية فازلهما إبليس .
وإبليس مشتق من أبلس أي يئس وانقطع وسكت .
والمراد أنه أبلس من رحمة الله أي يئس منها في الدنيا والآخرة .
ومن وجوه تعدد الشياطين قوله تعالى [أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي] ( ) وقال تعالى [شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا] ( ) .
والمختار أن الأصل في لفظ الشيطان في القرآن هو ابليس إلا أن يراد معنى آخر ، ينصرف إليه ، قال تعالى [فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى] ( ).
ترى ما المراد من قوله [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ..] ( ) فيه وجوه:
الأول : ذلكم الشيطان يخوف أولياءه مع بعده عنهم ، وعدم وجود سلطان له عليهم ، ولكنهم مالوا إلى التمرد والزيغ والجحود فصار يخوفهم من الحق والحقائق .
الثاني : ذلكم الشيطان يخوف أولياءه من التدبر في المعجزة النبوية .
الثالث : ذلكم الشيطان يخوف أولياءه من مكارم الأخلاق والصفات الحميدة ، ويوحى إليهم بأنها ضعف وتفريط وسبب للخسارة .
الرابع : ذلكم الشيطان يخوف أولياءه من فوات اللهو .
الخامس : ذلكم الشيطان يخوف أولياءه من الفقر والفاقة .
السادس : ذلكم الشيطان يخوف أولياءه من ترك الشك والجدال .
السابع : ذلكم الشيطان يخوف أولياءه من الإستماع للمسلمين والميل إليهم .
الثامن : ذلكم الشيطان يخوف أولياءه وهم الذين كفروا الذين آثروا الغي على الرشد ، والجحود على الهداية , قال تعالى [تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( )، ومن الإعجاز في الآية أعلاه ذكر الآية لولايتهم في زمان تنزيل القرآن .
التاسع : ذلكم الشيطان يخوف أولياءه من الإصغاء للقرآن وتلاوته ، فمن خصائص تلاوة آيات القرآن والإستماع إليها أنها تطرد الشيطان ، وتجعله خاسئاً ذليلاً .
وعن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان يفرمن البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة) ( ).
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية قراءة كل مسلم ومسلمة آيات القرآن خمس مرات في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني جهرة واخفاتاً , ليكون من منافعها بلحاظ آية السياق وجوه :
الأول : عصمة المسلمين عن زيغ الشيطان ، قال تعالى [وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا] ( ).
الثاني : إبتعاد الشيطان عن الناس عامة , لأن آيات القرآن تصدح في الآفاق ،وترددها الجبال والبحار ، فكما تفضل الله عز وجل وأوصل ذرات التراب التي رماها النبي محمد صلى عليه وآله وسلم يوم بدر إلى كل فرد من المشركين [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
فان الله عز وجل ينقل تلاوة المسلمين والمسلمات للقرآن في الصلاة إلى كل أرجاء الأرض لمحاصرة وطرد ولجم إبليس خمس مرات في اليوم ، ومن الإعجاز أن هذه الخمسة تستوعب أوقات الليل والنهار كلها للتباين الزماني في أداء أهل الأمصار الصلاة فما يكون زوالاً في بلد فانه يقارب الغروب أو العشاء أو الفجر عند أمم , وأمصار أخرى , وحينما أخبر الله عز وجل الملائكة بقوله [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ( ) أحتجوا وقالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) .
وهل كان الملائكة يعلمون بأن إبليس سينزل إلى الأرض ويغوي الإنسان ويجعله يفسد في الأرض ويسفك الدم الحرام ، الجواب لا ، لأنه كان مع الملائكة وهم يظنون أنه ملك مثلهم ، ولم يعلموا أنه من الجن إلا حينما أمرهم الله عز وجل بالسجود لآدم وإمتناع إبليس عن هذا السجود ، وجاء هذا الأمر من عند الله عز وجل بعد الإخبار أعلاه ، والإحتجاج أو الإستفهام من الملائكة ، قال تعالى [وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ]( ).
لقد أجاب الله عز وجل على الملائكة بالحجة المستديمة والمتجددة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) وهذا التجدد في ذات الحجة والبرهان من وجوه :
الأولى : يعلم الله عز وجل ما كان مما لم يحط به الملائكة علماً .
الثانية : يعلم الله عز وجل في كل آن ما يعجز الملائكة عن كهنه وأسبابه وغاياته الحميدة .
الثالثة : يعلم الله عز وجل ما في نفوس الملائكة والإنس والجن ، بينما يعلم الملائكة الظاهر .
الرابعة : يعلم الله عز وجل بفضله ببعثه الأنبياء ، وهداية الناس للصلاح وإنحسار الفساد .
الخامسة : يعلم الله عز وجل بأن الدنيا وخلافة الإنسان في الأرض مزرعة للآخرة ، وأن الصالحين يثابون بالنعيم الدائم ، وأما المفسدون فأنهم يلقون العذاب الأليم ، ويعلم بأن الملائكة يقومون بالعناية بأهل الجنة ، ويتولون عذاب أهل النار .
(عن السدي قال : لما نزلت [عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ] ( )، قال رجل من قريش يدعى أبا الأشدين : يا معشر قريش لا يهولنكم التسعة عشر ، أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة وبمنكبي الأيسر التسعة ، فأنزل الله { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة })( ).
ومن الإعجاز في ذكر القرآن إحتجاج الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( ) لإرادة عموم الذين يفسدون في الأرض ، وقد يدخل معهم إبليس في خسارة وأن لم تكن الملائكة تعلم بأنه من الجن ، وأنه سوف يهبط إلى الأرض , ويقوم باغواء ذرية آدم .
ليكون من معاني سؤال الملائكة إرادة رحمة الله بالناس بسلامتهم من الفساد وأسبابه , وصيرورة فعلهم كفعل الملائكة بالإنقطاع للتسبيح والتهليل ، إذ أن تمام الآية هو [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فقد كان إبليس مع الملائكة وكان عابداً ناسكاً ، ولم يضر الملائكة ، ولم يغوهم لأنه لا يقدر على هذا الإغواء لعصمة الملائكة ولصدور المعصية الإبتدائية الأولى من إبليس بامتناعه عن السجود لآدم .
الثالث : يأس الشيطان من إغواء المؤمنين لإستجابتهم لأمر الله عز وجل بقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ) وأداء كل واحد منهم ذكراً أو أنثى الصلاة خمس مرات في اليوم إبتداء من سن التكليف إلى أن تفارق روحه جسده ، بينما أمر الله عز وجل إبليس بالسجود لآدم مرة واحدة فأبى واستكبر .
الرابع : النقص المتصل والمستمر بعدد أولياء الشيطان ، ففي كل يوم يخرج نفر منهم إلى رياض التوبة والمغفرة ببركة أداء المسلمين الصلاة .
الخامس : الصلاة من بواعث الحياة بقانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وأكثر ما يخاف الشيطان من هذا القانون الذي جعله الله واجباً على المسلمين ، وهل أداء الصلاة منه .
الجواب نعم , فهي دعوة إلى الصلاح وتذكير بأداء الواجب , ونهي عن ترك الصلاة , وعن فعل المعاصي التي تتنافى معها ، قال تعالى [وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) .
السادس : في الصلاة تحد وقهر للشيطان ، وحث للناس جميعاً على عدم الخشية من الشيطان .
لقد امتنع الشيطان عن السجود لآدم طاعة لله عز وجل ، بينما يقوم كل مسلم ومسلمة بالسجود لله عز وجل أربعاً وثلاثين مرة في الصلاة اليومية الواجبة بلحاظ سجودين في كل ركعة ، بالإضافة إلى السجود في الصلاة النافلة وغيرها ، وعن (ربيعة بن كعب الاسلمي قال كنت آتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بوضوئه وبحاجته فقال سلني ، قلت : مرافقتك في الجنة.
قال : أو غير ذلك قلت هو ذاك قال فأعني على نفسك بكثرة السجود) ( ) .
السابع : تضمنت آية السياق النهي عن الخوف من أولياء الشيطان ، وجاء الأمر إلى المسلمين بالخوف من الله , والذي يحمل على الوجوب لقوله تعالى [فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي] ( ) .
ويؤكد المسلم في كل يوم طاعته لله عز وجل بالعمل بمضامين آية السياق بلحاظ أن أداء الصلاة مصداق للخوف والخشية من الله عز وجل ، وهو شاهد على الإمتناع عن الخوف من الشيطان وأوليائه .
الثامن:أختتمت آية السياق بالجملة الشرطية [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، لتكون الصلاة تأكيداً يومياً على تعاهد المسلمين والمسلمات للإيمان ، وحرزاً من وسوسة الشيطان وشاهداً على حصانة قلوب المسلمين منها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ) .
الوجه الثاني : المفردة الثانية لمادة (الخوف) في آية البحث [فَلاَ تَخَافُوهُمْ]( )، وفيه أطراف :
أولاً : عدم خوف المسلمين من أولياء الشيطان .
ثانياً : ذات الخوف وجوداً وعدماً .
لبيان قانون وهو أن إمتناع المسلمين عن الخوف من الذين كفروا ليس أمراً عدمياً , إنما هو أمر وجودي فيكون بذاته صلاحاً ، ويترتب عليه الأجر والثواب .
ثالثاً : الذين تنهى الآية عن الخوف منهم ، وهم الذين كفروا ، لبيان أنهم يخافون الشيطان ولا يخاف منهم أحد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ] ( ) ويكون تخويف الشيطان لأوليائه بلحاظ الزمان على وجوه :
الأول : التخويف من الماضي المنصرم ، ووقائع حدثت وانصرفت أيامها، والأصل التباين بين الحزن والخوف في متعلق أفراد الزمان الطولية ، وأن الحزن والأسى على ما فات ، والخوف والخشية من أمر متوقع الحدوث ، ولكن الشيطان يخوف أولياءه من أمور انقضت ، وليس لها أثر في المستقبل ، وهو من الوسواس الذي يجب تركه .
الثاني : التخويف في الزمن الحاضر والحال ، وهل هذا التخويف له مصداق وسبب واقعي وجيه ، الجواب لا ، انما يريد الشيطان صدّ الإنسان عن فعل الخير وعمل الصالحات .
الثالث : تخويف الشيطان من قادم الأيام والوقائع التي يصور للإنسان أنها تقع له كشدائد وما هو إلا كالسراب لرحمة الله بالناس جميعاً في الدنيا وصرف أسباب البلاء عنهم بفضل منه سبحانه ، وفي التنزيل [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
ومن الإعجاز الغيري للقرآن مجيؤه بالعلم ، وبعثه على التعلم والتحصيل والإرتقاء في سلم المعارف ، قال تعالى [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ] ( )، ومتعلق عدم الخوف من الذين كفروا على وجوه , وتقديره :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تخافوا من تهديد وتخويف الذين كفروا .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تخافوا من الذين كفروا على المؤمنين الذين في ناحيتهم ، كما في الذين آمنوا في مكة ولم يغادروها ويهاجروا إلى المدينة عن إضطرار وإكراه .
الثالث: يا أيها الذين آمنوا لا تخافوا من الذين كفروا عند التقاء الجمعين.
وكان الذين كفروا يظهرون الإصرار على القتال ومحاربة الإسلام ويظهرون جعجعة السلاح ، ويتباهون بكثرة الخيول ، ويصرون على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
فابتدأت آية البحث بنهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن على الذين كفروا ممن يسارع في مستنقع الكفر , ومن مصاديق هذه المسارعة تجهيز الجيوش لقتال المسلمين .
فان قلت إن المسارعة أمر عرضي في ذات الموضوع ، والجواب تتعدد ضروب المسارعة ، وإذ تضمنت آية البحث ذم الذين كفروا لمسارعتهم في الكفر ، فقد جاءت آيات قرآنية بالثناء على المسلمين لمسارعتهم في رضوان الله وسعيهم في الخيرات ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لا تخافوا الذين كفروا على أنفسكم وأهليكم إن الله هو الكفيل وبيده مقاليد الأمور ، وفي التنزيل [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ).
فان قلت قد سقط سبعون شهيداً من المسلمين في معركة أحد ، والجواب جاءت آية السياق لمنع ترتب الخوف عند المسلمين على هذا القتل من جهات:
الأولى : كان النصر في بدايات المعركة حليف المسلمين بقوله [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ] ( ) وتبين الآية أعلاه أموراً بخصوص معركة أحد منها :
أولاً : وعد الله عز وجل للمسلمين بالنصر والغلبة على الذين كفروا .
ثانياً : إصابة الذين كفروا بالخوف والفزع .
ثالثاً : سقوط حملة لواء المشركين على التوالي بمرآى ومسمع من الصفين .
ليكون من معاني قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) وجوه :
أولاً : يوم التقى الجمعان ليروا إصرار حملة لواء المشركين على المبارزة.
ثانياً : يوم التقى الجمعان ليروا كيف أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ينادي بين الصفين (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).
ثالثاً : يوم التقى الجمعان جمع المؤمنين , وجمع الذين كفروا .
رابعاً : يوم التقى الجمعان ليروا إصرار الذين كفروا على القتال ، ونقلهم إلى أهليهم والناس عامة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يبدأ قتالاً ، وأن المسلمين يكرهون القتال .
خامساً : يوم التقى الجمعان ليروا سقوط حملة لواء المشركين بالتتابع واحداً بعد آخر ، لأنه لواء ضلالة وراية باطل .
سادساً : يوم التقى الجمعان ليروا آيات نزول الملائكة وبراهين آيات التنزيل ، ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فتدخل طائفة من الناس الإسلام سواء من جيش الذين كفروا أو ممن خلفهم وغيرهم .
سابعاً : يوم التقى الجمعان ليغادر الشهداء السبعون إلى حضرة القدس والخلود في النعيم ، وتهلك طائفة من المشركين ، ويكون مصيرهم إلى النار ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، أي أنهم قتلوا ، وهم يتصفون بأمور تقودهم إلى النار وهي :
الأول : التلبس بالكفر .
الثاني :الخوف من الشيطان والإنقياد لأوامره .
الثالث : قطع المشركين نحو أربعمائة كيلو متر لقتال ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد.
الرابع : إشهار السيوف ضد النبي والمؤمنين في معركة أحد .
الخامس : قتل الله عز وجل لعدد من الذين كفروا في معركة أحد، وتقدير وتفسير الآية أعلاه [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ) ليقتل الله اثنين وعشرين من المشركين يوم أحد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ] ( ) .
ونزلت الآية أعلاه في معركة بدر لتكون الآية أعلاه من سورة آل عمران وقطع الله للذين كفروا في مصاديق قتل الله للذين كفروا ، وأن هذه المعجزة باقية ومستديمة في كل مرة يهاجم الذين كفروا المدينة المنورة ، وفي التنزيل [وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا] ( ).
ومن وجوه التشابه بين معركة بدر وأحد تكرار لفظ [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) بخصوص الواقعتين , ففي معركة بدر قال تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) .
لبيان قانون وهو مع إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء عشية وصباح يوم بدر وتوجهه بالشكر لله عز وجل بعد تحقق النصر فان الآية أعلاه تؤكد على قانون وهو نزول آيات القرآن في ذات يوم معركة بدر ، ووجوب الإيمان بها كأوامر ونواهي وأحكام ، إذ تنقضي المعركة في ساعات ، ولكن آيات التنزيل تبقى إماماً حاضرا للمسلمين إلى يوم القيامة .
كما نزل ذات إلتقاء الجمعين بخصوص معركة أحد بقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
وكما نسب الله عز وجل قتل الذين كفروا في معركة بدر إلى نفسه ، فكذا هو الذي قتل طائفة من الذين كفروا في معركة أحد ، ليبين قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ) الضرر الفادح الذي لحق جمع المشركين بقتل اثنين وعشرين منهم مع أنهم كانوا ثلاثة آلاف وجاءوا بعد تدريب وتمرين واستعداد وتهيئ للقتال استمر لسنة كاملة .
وحتى في معركة بدر فان الآية التي أخبرت عن قتل الله لسبعين من المشركين أخبرت بأن الذين بقوا من جيش الكفار تضرروا كثيراً ولحقهم الخزي أيضاً بنسبة رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبضة من تراب في وجوههم وقوله (شاهت الوجوه ) ( ) فان الله عز وجل نسب هذه الرمية له سبحانه وتمام الآية هو [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
(عن مكحول قال : لما كرَّ علي وحمزة على شيبة بن ربيعة ، غضب المشركون وقالوا : اثنان بواحد؟! فاشتغل القتال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم إنك أمرتني بالقتال ووعدتني النصر ولا خلف لوعدك ، وأخذ قبضة من حصى فرمى بها في وجوههم فانهزموا بإذن الله تعالى ، فذلك قوله { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ) ( ).
وتبين الآية أعلاه قانوناً وهو أن خسارة المسلمين في معركة أحد لم تكن عن خوف من الشيطان وأوليائه ، وليس عن قوة وشجاعة من الذين كفروا ، إنما تمت باذن الله عز وجل لتكون موعظة وعبرة للمسلمين والمسلمات وفضحاً للمنافقين ، ومناسبة للأجر والثواب للمؤمنين وإكراماً للشهداء بخلود في النعيم ونزل في شهداء أحد قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).
ثامناً : يوم التقى الجمعان لينقلب المؤمنون إلى المدينة [بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ] ( )، ويعود الذين كفروا إلى مكة بالذل والخزي والهوان .
تاسعاً : يوم التقى الجمعان ، جمع يسارعون في الإيمان , ورجاء المغفرة ، وجمع يسارعون في الكفر .
الوجه الثالث : قوله تعالى [وَخَافُونِي] جاءت آية السياق بقانون من الإرادة التكوينية وهو وجوب الخوف من الله ، وهذا الخوف ليس فزعاً ورعباً إنما هو حب وإخلاص في العبادة وشوق لفضل الله ، وهو خوف مقصرين ومذنبين خاشعين سائلين بمسكنة من الله العادل الحكيم .
وهل الخوف من الله واجب أو هو مستحب .
المختار هو دلالة الأمر على الوجوب إلا مع القرينة الصارفة إلى الندب والإستحباب ، وهي معدومة في المقام .
وقد تعددت الآيات التي تدل على لزوم الخشية والخوف من الله منها :
الأولى : آية السياق وقوله تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
الثانية : [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ).
الثالثة : [وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ] ( ).
الرابعة : [فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي]( ).
الخامسة : آيات التخويف والوعيد سواء بخصوص الدنيا أم الآخرة منها قوله تعالى [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ]( ).
والخوف من الله هدى ونور يقذفه الله عز وجل في قلب العبد ونعمة من وجوه :
الأول : انه امتثال لأمر الله عز وجل .
الثاني : الخوف من الله نور ، وكاشف وبرزخ دون الخوف من الشيطان وأوليائه , وفي التنزيل [اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) .
وكأن في آية البحث تقديم وتأخير ، ومعناها على وجوه :
أولاً : وخافوني ولا تخافون أولياء الشيطان .
ثانياً : وخافوني فلا يقربكم الخوف من أولياء الشيطان .
ثالثاً: وخافوني ولكم الأمن من الخوف من أولياء الشيطان .
الثالث : تفضل الله عز وجل بالنعم على الذين يخافونه ويجعلهم يرثون الأرض ليؤدوا عباداتهم بطمأنينة وسكينة ، قال تعالى [وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ] ( ) .
وفي مرسلة الحسن البصري (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال الله تبارك وتعالى : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين ، فمن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة) ( ).
الرابع : الخوف من الله باب للأجر والثواب، قال تعالى [وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ] ( ).
وتضمنت آية السياق نهي المسلمين عن الخوف من أولياء الشيطان فهل يشمل النهي غير المسلمين ، الجواب نعم ، فانه يشمل ذات الكفار وأولياء الشيطان ببعثهم على أمور :
أولاً : عدم الخوف من الطواغيت .
ثانياً : لزوم التبرأ والعزوف والإعراض عن رؤساء الضلالة ، قبل أن يقع هذا التبرأ قهراً في عالم الآخرة يوم لا يجدي لهم نفعاً ، وفي التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ] ( ) لبيان مصداق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) لتأكيد انكشاف الأعمال وحضورها مع أصحابها يوم القيامة ، وصيرورة الكفر والضلالة وزراً يقود إلى النار .
ثالثاً : دعوة الذين كفروا لعدم طاعة بعضهم بعضاً ، ومنعهم من المناجاة في نصرة وإعانة الظالمين الذين يقودونهم في مسالك الضلالة .
رابعاً : بعث النفرة في نفوس الذين كفروا من إتباع الشيطان وعبادة الأوثان .
خامساً : حث الناس جميعاً على الدعوة للتخلي عن اتباع الشيطان ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) .
وأيهما أشد وأكثر ضرراً إتباع خطوات الشيطان أو توليه الذي تذكره آية السياق بقوله تعالى [ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ] ( ) .
الجواب هو الثاني لذا فانهم يشملهم النداء العام في الآية أعلاه ، ومن الإعجاز فيها إبتداؤها بالأمر بالأكل من الطيبات ، وما تخرجه الأرض من خزائنها ، ليكون الإمتناع عن اتباع ومحاكاة الشيطان من الشكر لله عز وجل.
وإذ تضمنت آية السياق نهي المسلمين عن الخوف من الشيطان فهل يخاف الشيطان من المؤمنين ، الجواب نعم ، فانه يخشاهم على نفسه وأوليائه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا] ( ).
ومن أسباب ضعف كيد الشيطان خوف وخشية المؤمنين من الله عز وجل ، لذا فان قوله تعالى [خَافُونِي] ( ) طرد للشيطان ووسوسته عن النفوس والمجتمعات , وتنزيه المنتديات من القبائح والرذائل ، وقد تفضل الله عز وجل وجعل النفوس تنفر منها لتكون هذه النفرة واقية من الشيطان ، وسبيلاً للهداية والصلاح ، وبرزخاً دون الغشاوة التي يحاول الشيطان وجنوده أن يجعلوها على أبصار الذين يتبعونهم ، لتكون واقية وفاضحة لمكائد الشيطان وأسباب الغشاوة وكاشفة لقوانين وهي :
الأول : قانون وجود الشيطان كحقيقة , وترتب الأثر المحدود على فعله القبيح .
الثاني : قانون إنحصار إضرار الشيطان بالذين يتبعونه ، وفي خطاب توبيخ وتبكيت للشيطان ، قال تعالى [إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ] ( ).
الثالث : قبح ولاية الشيطان ، ومن معاني ولاية الشيطان في آية السياق مسائل :
الأولى : اتباع الهوى .
الثانية : محاكاة ابليس في معصيته وامتناعه عن السجود لآدم عليه السلام مع أن هذا السجود بأمر من الله وتكرمة لآدم , قال تعالى [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] ( ).
وهل هذا السجود مقدمة لنزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار في معركة بدر , ومعركة أحد , وحنين ، الجواب نعم .
الثالثة : تولي الشيطان والإنقياد له ولأوامره ، قال تعالى [إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ] ( ) والمراد من السلطان هنا التأثير والإغترار وأسباب الإغواء ، وقال مجاهد (سلطانه أي حجته) ( ) .
والمختار أنه ليس للشيطان من حجة إنما المراد ما يعرض لأوليائه من الخطرات والميل إلى الكبائر ، وتزيين المعصية والتراخي والتسويف في فعل الصالحات , قال تعالى[وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا]( )، وتفضل الله عز وجل على المسلمين بالحصانة والعصمة منها بأمور :
أولاً : الإستعاذة من الشيطان .
ثانياً : تلاوة آيات القرآن ، وكل فرد منها يطرد شبح الشيطان .
ثالثاً : الجامع بين الإستعاذة وتلاوة القرآن كما في قوله تعالى [وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
وهل آية البحث من الأمر الثاني أو الثالث أعلاه ، المختار هو الأخير إذ تتضمن التحذير من الشيطان وهي آية قرآنية ، وهذا التحذير نوع إستعاذة .
الرابع : قانون ترتب الخوف من الشيطان على ولايته وإتباعه وهو وفق القياس البرهاني :
الكبرى : من يتولى الشيطان يخاف منه .
الصغرى : الذين كفروا يتولون الشيطان .
النتيجة : الذين كفروا يخافون من الشيطان .
الخامس : قانون بعد الشيطان عن رحمة الله وعن الناس ، فان قيل كيف يكون تأثيره على الكفار ، الجواب فيما تتضمنه آية السياق بأنهم هم الذي يتخذونه ولياً ، ويعملون على شاكلته ، ويحاكونه في فعل المعاصي ، فيكون من معاني ولاية الشيطان أمور :
أولاً : التشابه بالفعل ، ومن إعجاز القرآن نهي المسلمين عن محاكاة الذين كفروا في قبح القول والفعل، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ]( ).
ثانياً : المحاكاة والتقليد للذين كفروا في الفعل المذموم .
ثالثاً : الإتباع بذات النهج .
رابعاً : غلبة الحسد والكبر والزهو .
السادس : قانون وجود أولياء للشيطان بين الناس وذكرهم في آية البحث تحذير للمسلمين منهم ، ودعوة لإتخاذ الحيطة والحذر منهم .
وجاء القرآن بالإخبار عن نعمة ولاية الله ، والغبطة والعز بهذه الولاية ، قال تعالى [أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ).
إذ تبين هذه الآيات صفات أولياء الله , وتعدهم بالبشارة ومصداقها في الدنيا والآخرة ، وتبعث السكينة في نفوسهم ونفوس الناس جميعاً بأن وعد الله حق ولابد أن تقع هذه البشارات ويدخل أولياء الله الجنة ، جزاء وثوابا من الله سبحانه .
السابع : قانون صبر وعدم خوف المؤمنين من الذين كفروا مطلقاً أي في كل من :
أولاً : حال السلم ، قال تعالى[وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ) .
ثانياً : عند الجدال والإحتجاج .
ثالثاً : مقدمات القتال .
رابعا : عند التقاء الصفين .
وقد تفضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وجعلهم لا يقاتلون إلا دفاعاً ودفعاً لذات القتال .
ليكون قتالهم حجة على الذين كفروا وفضحاً لهم في ولايتهم للشيطان.
وفيه مسائل :
الأولى : ترغيب الناس بالإيمان .
الثانية : كشف قانون من الإرادة التكوينية في الفضل والنعمة التي يفوز بها المؤمنون .
الثالثة : دعوة الناس للتوبة والإنابة ، وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوّابون( ) .
الرابعة : حث الذين كفروا للإنتقال من جبّ الكفر إلى مقامات الإيمان.
الخامسة : التعريض والتوبيخ بالذين كفروا الذين حرموا أنفسهم من نعمة ولاية الله باختيارهم ولاية الشيطان .
وقد يعد الأمير والسلطان الإنسان بهدية وصلة , ولكنه ينكص عن عمد أو قصور أو نسيان ، ولكن الله عز وجل يفي بوعده , وفي التنزيل [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) فلذا جاءت الآية أعلاه بقوله تعالى[لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ]( ).
المسألة الرابعة : بعد أن ذكرت آية السياق وهي الآية السابقة إخافة الشيطان للذين كفروا ونهت المسلمين عن الخوف منهم ، إذ انهم يخافون من عدو واهن بعيد منهم ليس له سلطان عليهم إلا الوسوسة والإنقياد له.
وإبتدأت آية البحث بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن على الذين كفروا لإختيارهم الكفر ومسارعتهم فيه لأنهم يستحقون الإزدراء والبغض والذم لسوء إختيارهم وظلمهم لأنفسهم بما ينتظرهم من العذاب الأليم .
ومن معاني الجمع بين الآيتين تذكير المسلمين بلزوم شكرهم لله عز وجل على نعمة إنقلاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة سالمين من معركة أحد ومن حمراء الأسد .
وهذا الإنقلاب فرع نعمة هداية المهاجرين والأنصار إلى الإسلام وإنشاء صرح التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس ليشع نور الإيمان في أرجاء الجزيرة وينحسر الكفر ومفاهيمه .
فيكون من معاني آية البحث التذكير بنعمة وجود أمة من المؤمنين تحيط بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقاتل دونه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الشعبة الثانية : الصلة بين آية البحث والآيات المجاورة التالية ، وفيها وجوه :
الوجه الأول : صلة آية البحث بالآية التالية وهو قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) وفيه مسائل:
المسألة الأولى : بينما جاءت آية البحث بصيغة الإنشاء والخطاب ذي صبغة النهي الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عادت لغة الخطاب في آية السياق إلى ذات صيغة الجملة الخبرية التي وردت في الآيات المجاورة لآية البحث والتي تقدمتها في نظم القرآن .
وإذ كان هناك نوع تباين في صيغة لغة الخطاب في الآيتين بين الإنشاء والخبر ، فهل من صلة في الموضوع بين الآيتين ، الجواب نعم ، إذ أختتمت آية البحث بذم الذين كفروا وبيان سوء عاقبتهم وما ينتظرهم من العذاب ، وكذا بالنسبة للآية بعد التالية لتكون هذه الآيات من آيات الإنذار للذين كفروا .
وهل فيها بشارة للذين آمنوا ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : النهي الوارد في آية البحث لتنزيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن الحزن والأسى بسبب سوء إختيار وفعل الذين كفروا فانهم لم يكتفوا بالتلبس بالكفر ، إنما صاروا يسارعون في مستنقعه ليأكلوا المال الحرام ، ويظلموا أنفسهم والناس ويحشدوا الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثانية : سلامة المسلمين من أضرار مسارعة الذين كفروا في الضلالة والغواية ، لذا تضمنت آية البحث وعداً من الله عز وجل بأنهم [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا]( ).
لقد قابل كفار قريش التنزيل بالتكذيب ، فمثلاً كان النضر بن الحارث تاجراً يذهب بتجارته إلى الحيرة وفارس فيسمع السجع ، وأخبار ملوك العجم وغيرهم من الأمم المختلفة ، ويجالس اليهود والنصارى ويسمعهم (فرآهم يقرأون التوارة والإنجيل ويركعون ويسجدون،فجاء مكّة فوجد محمداً يقرأ القرآن ويصلّي. فقال النضر : قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا {إِنْ هَذَآ إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِين َ}( ) أخبار الأُمم الماضية وأعمارهم ( )، وقتل النضر يوم بدر .
الثالثة : إبتلاء الذين كفروا بسبب مسارعتهم بالكفر ، وبيان خسارتهم في النشأتين إذ أن الكفر قبيح بذاته ، وتترشح عنه الأضرار لتتغشى الكفار مجتمعين ومتفرقين .
لقد إبتدأت آية السياق بأداة التوكيد (إن) لبيان قانون من الإرادة التكوينية وهو أن كل فرد من مضامين آية السياق قانون قائم بذاته ، يستلزم الوقوف والتدبر فيه والإنتفاع من معاني ودلالات الآية القرآنية لإصلاح النفوس والمجتمعات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ…] ( )وهي :
الأول : قانون شراء الذين كفروا الكفر والضلالة .
الثاني : بذل الذين كفروا أغلى شئ في الحياة الدنيا وهو الإيمان لقاء أقبح وأسوء وأكبر الكبائر وهو الكفر .
وعن (عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أحدثكم بأكبر الكبائر ، قالوا : بلى ، قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، قال : وجلس وكان متكئا ، قال : وشهادة الزور ، وقول الزور ، فما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولها حتى قلنا : ليته سكت) ( ).
الثالث : عجز الذين كفروا عن الإضرار بأهل الإيمان والصلاح ، وقد تجلى هذا العجز بتخلفهم عن الإضرار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ,وفي طريق هجرته إلى المدينة وصيرورة المهاجرين والأنصار أخوة .
(وأخرج الحاكم والبيهقي عن صهيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : رأيت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرة فإما ان تكون هجر وإما ان تكون يثرب قال وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر وكنت قد هممت بالخروج معه فصدني فتيان من قريش فجعلت ليلتي تلك أقوم لا أقعد فقالوا قد شغله الله عنكم ببطنه ولم اكن شاكيا فناموا فلحقني منهم ناس بعدما سرت بريدا ليردوني فقلت لهم هل لكم أن أعطيكم أواقي من ذهب وتخلوا سبيلي ففعلوا فسقتهم إلى مكة فقلت احفروا تحت اسكفة الباب فإن تحتها الأواقي .
وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قباء قبل ان يتحول منها فلما رآني .
قال : يا أبا يحيى ربح البيع ثلاثا فقلت يا رسول الله ما سبقني إليك احد وما أخبرك إلا جبرئيل عليه السلام) ( ) .
والمراد من البيع في الحديث شراء صهيب هجرته بالذهب , والمال الكثير .
المسألة الثانية : تتضمن كل من الآيتين ذماً للذين كفروا إذ أنهم اختاروا الضلالة والفسوق ، وجاءت آية السياق للإخبار بأن الذين كفروا اشتروا الضلالة وبذلوا الوقت والمال والجهد من أجل إختيار منازل الكفر مع ما فيها من الأذى والضرر على الذات والغير .
وبين [الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ] الذي تذكرهم آية السياق وبين [الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] ( ) الذين تذكرهم آية البحث عموم وخصوص مطلق ، فالذين اشتروا الكفر هم الأعم والأكثر ، فقد يكون الإنسان كافراً , ولكنه لا يسارع في الكفر والضلالة .
وذكرت كل من الآيتين اشتراكهما في أمور :
الأول : التلبس بالكفر ، جمع الكفار بين اتباع الهوى والإمتناع عن التصديق بالحق والتنزيل .
ومن الفقهاء من يناقش أقسام الكفار من جهة اباحة أو صيانة دمائهم وأعراضهم وأموالهم ، ولكن كلاً من آية البحث وآية السياق تتحدث عن ترك الحزن على الذين يسارعون في الكفر مما يدل بالدلالة التضمنية على عدم إرادة قتلهم والبطش بهم ، وهم أشد أقسام الكفار ، نعم إذا وصل الأمر إلى قيامهم بالهجوم كما في معركة بدر وأحد والخندق فيجب الدفاع ، وحتى دفاع المسلمين فانه لم يكن دفاعاً تاماً كما في معركة الخندق ، إذ أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفاية أذاهم وشرهم ،وقال الله تعالى بخصوص هذه الواقعة [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
وكان بإمكان المسلمين القيام بشن هجمات مباغتة على معسكر الذين كفروا حول المدينة سواء من جهة الخندق أو من جهات أخرى ، خاصة وان الأنصار يعلمون الطرق حول المدينة , وكيفية الإضرار بالذين حولها من الكفار ، ولو هجموا يهجمون بصبغة الإيمان التي يترشح عنها الإخلاص والتفاني في مرضاة الله .
الثاني : ترك الكفار لواجب الهداية والإيمان ، وأسباب الصلاح ، وليس من حصر لأسباب هذا الوجوب ، وكلها قريبة من الإنسان في يومه وليله وبدنه وعيشه وصلاته بالناس الخاصة والعامة ، قال تعالى [أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ] ( ).
الثالث : عدم إضرار الكفار بالمؤمنين ، وبعبادة الله عز وجل ومن إعجاز نظم وسياق آيات القرآن تكرار قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا]( )، والذي ورد ثلاث مرات في القرآن , فقد ورد في آية البحث والآية التي تليها , وهي آية السشياق .
وجاءت الآية الثالثة بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ] ( ).
الرابع : إرادة الأمن للمؤمنين من شرور الذين كفروا إذ تتضمن كل من الآيتين الوعد الكريم من عند الله عز وجل بأنه لا يصل ضرر من الذين كفروا لأهل الإيمان .
فان قلت قد سقط أربعة عشر شهيداً في معركة بدر ، وسبعون شهيداً في معركة أحد ، والجواب هذا صحيح ، ولكن الله تفضل وكتب الخلود في النعيم لهؤلاء الشهداء ، قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] ( ).
المسألة الثالثة : ترى لماذا تكرر لفظ [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( ) في آية البحث والآية التالية لها ثم لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة أخرى ، الجواب من وجوه :
الأول : إفادة توكيد قانون عجز الذين كفروا عن الإضرار بالله عز وجل في ملكه وفي سلطانه وعظيم قدرته .
الثاني : بيان سلامة المؤمنين من الحاق الضرر بهم من قبل المشركين ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
الثالث : تسلية ومواساة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الرابع : بيان قانون وهو خيبة الذين كفروا في هجومهم على المدينة المنورة وأنهم كلما هجموا لن يقدروا على الوصول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتله بلحاظ أن من أهم ضروب الإضرار بالمؤمنين تعرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأذى والضرر .
الخامس : بعث السكينة في نفوس المسلمين بخصوص عموم الناس ومن وجوه عدم إضرار الكفار بالمؤمنين سلامة الناس من تحريض الذين كفروا على المؤمنين سواء في حال الحرب أو السلم ، وبيان قانون وهو أن سعي الذين كفروا بين الناس في الإفتراء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكذيب المعجزات لن يغير من حقيقة رجحان كفة المؤمنين وتجلي سلطان معجزات النبوة على القلوب , وإصغاء الناس لآيات القرآن.
السادس : بيان قانون جامع بين عدم إضرار الذين كفروا بالله والمؤمنين وبين صيرورتهم في نار الآخرة لإصرارهم على الكفر والجحود ، قال تعالى[وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ]( ).
ومن الإعجاز وضروب التخويف في نظم هذه الآيات ورود لفظ (عذاب) في آية البحث والآيتين اللتين بعدها مع التباين في صفة العذاب :
عذاب عظيم .
عذاب أليم .
عذاب مهين .
السابع : البشارة للمؤمنين بأن مظاهرة وتآزر الذين كفروا في ميادين الكفر لن يضر المؤمنين أبداً .
الثامن : بيان القبح الذاتي والغيري للكفر والجحود .
التاسع : دلالة الآية في مفهومها على أن الكفر محاولة للإضرار بالله في ملكه ، وفي الإضرار بالمؤمنين .
العاشر : الإخبار عن عجز الذين كفروا وخيبتهم وذهاب عملهم هباء ، قال تعالى [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ]( ).
الحادي عشر : بين موضوع الآية التالية وآية البحث عموم وخصوص مطلق ، فتشمل الآية التالية عموم الذين كفروا ، أما آية البحث فتخص الذين يسارعون في الكفر ، وهما مما إذا إجتمعا إفترقا وإذا افترقا اجتمعا.
فمن خصائص الذين كفروا التمادي في الكفر إلى ان تدركهم التوبة بفضل الله ، أو يموتوا على الكفر ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ).
نعم يشمل موضوع المسارعة بالكفر المنافقين الذين يبطنون الكفر والفاسقين ، قال تعالى ٍ[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ]( ).
وسيأتي مزيد كلام في باب (علم المناسبة ) ( ).
لقد كانت وظائف رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عظيمة ومتوالية ،إذ أنه يبني صرح الإيمان للأجيال المتعاقبة في سنين قليلة ومعدودة.
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : ولا يحزنك الذين اشتروا الكفر بالإيمان.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء ويتلطف الله عز وجل للعباد بآيات التكوين وبراهين الربوبية المطلقة ، ويرضى منهم بالقليل .
وجعل الله عز وجل الشيطان وأعوانه بعيدين عن الناس كما تدل عليه الآية السابقة [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ] ( ) .
ومع بعده وقبح فعله فان طائفة من الناس تنصت له وتنقاد إليه وتتبع خطواته ، ليكون من وجوه إبتلاء المؤمنين إنشغالهم بالذين كفروا وأذاهم من جهات :
الأولى : الصبر على الضرر الذي يأتي من الذين كفروا .
الثانية : دعوة الناس للهداية والإيمان .
الثالثة : بذل الوسع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابعة : تعاهد الإيمان وأداء الفرائض العبادية .
الخامسة : الإنفاق في سبيل الله ، وإعانة الفقراء وإصلاح النفوس بالتقوى ، وعن عبد الله بن عمر قال : جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني أريد هذه الناحية الحج قال : فمشى معه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا غلام ، زودك الله التقوى ، ووجهك الخير ، وكفاك الهم .
فلما رجع الغلام سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فرفع رأسه إليه ، وقال : يا غلام ، قبل الله حجك ، وكفّر ذنبك ، وأخلف نفقتك( ).
السادسة : الدفاع عن النبوة والتنزيل .
وجاءت آية السياق لبعث السكينة في نفوس المؤمنين من جهات :
الأولى : تأكيد قبح إختيار الذين كفروا وضلالتهم في السعي لشراء التلبس بالكفر والفجور والذي لا يجلب لهم إلا الضرر في النشأتين .
الثانية : تفريط الذين كفروا بأعز شئ في الحياة الدنيا ، وهو الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر .
وإذ وردت الآية بقوله تعالى [الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ] ( ) فهل يصح القول في الثناء على المؤمنين : الذين اشتروا الإيمان بالكفر ، الجواب لا .
لأن الإيمان واجب على كل إنسان ذكراً أو أنثى ، حراً أو عبداً ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ومن اللطف الإلهي والذخائر القدسية في الآية إعلاه الجمع بين الجن والأنس بعلة الخلق وهي عبادتهم لله عز وجل ولم تذكر الآية الملائكة فهل تختلف علة خلقهم , المختار لا ، ولكن الآية أعلاه ذكرت وجوه الإبتلاء في الدنيا فيما يخص الجن والإنس على نحو الخصوص ، ولزوم طاعتهم لله عز وجل والتنزه التام عن الشرك والفسوق .
ويبين قوله تعالى [الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ] ( ) أن الكفر أمر وجودي سلبي وليس عدمياً ، ولكن الذي يختاره ينفق بتهور وإسراف أعز ما عنده ، ويعرض نفسه للعذاب في الآخرة .
الثالثة: إخبار آية البحث والسياق عن قانون مشترك وهو عجز الذين كفروا عن الإضرار بالمؤمنين وسنن التقوى في الأرض , وتبين غضب الله عز وجل على الذين كفروا .
وتدل الآية في مفهومها على الوعيد للذين كفروا ، قال تعالى [فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ] ( ) .
المسألة الخامسة : أخبرت آية البحث عن الذين يسارعون في الكفر ، وأخبرت آية السياق عن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لبيان قبح كل منهما ، والمسارعة في الكفر أشد قبحاً وضرراً من شراء الكفر ، لأن المسارعة تأتي بعد الشراء والتلبس في الكفر ، لبيان بعض أسباب عدم الحزن والأسى على الذين كفروا .
وهل الأمر للرسول بعدم الحزن على الذين كفروا مقدمة لبطش الله عز وجل بهم ، وأنه سبحانه لا يعذب الذين يحزن عليهم رسوله ، الجواب لا دليل عليه ، إذ أن مقتضى مضامين آية البحث يفيد أن الله عز وجل أعدّ لهم عذاباً اليماً في الآخرة ، قال تعالى[سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ] ( )، والإستغفار أعلى رتبة من الحزن ، ومع هذا فان المنافقين لم ينتفعوا منه في سبل الهداية .
ومن معاني الجمع بين الآيتين دعوة الكفار إلى عدم المسارعة في منازل الكفر ، لما في هذه المسارعة من الإضرار منها :
الأول :مضاعفة الذنوب والمعاصي .
الثاني : ذات المسارعة فعل آثم يترتب عليه سخط الله .
الثالث : سعي الذين كفروا للإضرار بالمؤمنين ، وعن الإمام علي عليه السلام : أنصح الناس وأعلمهم بالله أشد الناس حبا وتعظيما لحرمة أهل لا إله إلا الله( ) .
الرابع : محاولة رؤساء الكفر والمقيمين عليه إغراء وإغواء الناس ، فتلك المسارعة باب للفتنة والإفتتان .

الصلة بين خاتمتي الآيتين
من إعجاز نظم آيات القرآن إختتام الآيتين بالوعيد للذين كفروا ، وما ينتظرهم من العذاب الأليم ، وهو على شعبتين :
الأولى : العذاب العظيم للذين يسارعون في الكفر كما في آية البحث .
الثانية : العذاب الأليم للذين اشتروا الكفر بالإيمان , والنسبة بين العذابين عموم وخصوص من وجه ، إذ يتعلق العذاب العظيم بصفة وماهية العذاب وأنه شديد ، ولا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، فلو عذّب إنسان إنساناً فلابد أن ينتهي هذا العذاب بانقطاع أو غياب أحد الأطراف أو أكثر ، وهذه الأطراف هي :
الأول : الذي يقوم بالتعذيب .
الثاني : التعذيب .
الثالث : وسيلة التعذيب .
الرابع : ألم العذاب .
الخامس : الذي يقع عليه العذاب .
أما بالنسبة لعذاب الكافرين في الآخرة فانه من اللامتناهي ، وليس له انقطاع إلا أن يشاء الله ، فمن معاني صفة العظيم للعذاب أمور :
الأول : صدور الأمر من عند الله بالعذاب للذين غادروا الدنيا على الكفر والضلالة ، فان قلت وان انقطعوا عن المسارعة في الكفر قبل وفاتهم من غير أن يغادروا منازل الكفر فهل يشملهم العذاب العظيم أم يخفف عنهم ، المختار هو الأول .
الثاني : لا يقدر على العذاب في الآخرة إلا الله عز وجل ،وفي التنزيل [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ) .
الثالث : جاءت الإنذارات في الدنيا على لسان الأنبياء وفي الكتب السماوية ، إذ أخبرت عن شدة عذاب الذين كفروا في الآخرة ، قال تعالى [قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ] ( ).
الرابع : بيان قانون وهو عدم قدرة الإنسان على تحمل العذاب , وشدته في الآخرة .
وهل يتعلق نعت [عَظِيمٍ] في الآية أعلاه باليوم الآخر أم بالعذاب ، الجواب هو الأول ، وهو الظاهر من اللفظ ونظم الآية ، ويدل عليه قوله تعالى [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ] ( ).
ومن بديع صنع الله عز وجل أن الدنيا مرآة للآخرة وتأتي وقائع وحوادث فيها تكون مثالاً صغيراً على وقائع يوم القيامة وما فيها من النعيم للمؤمنين والعذاب الأليم للكافرين .
ومن ضروب هذه الأمثلة إنذار النبي شعيب عليه السلام لقومه وإعراضهم عن نبوته وعن الإنذارات فنزل بهم العذاب ، قال تعالى [فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ]( ).
الوجه الثاني : صلة آية البحث بقوله تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( )وفيه مسائل :
المسألة الأولى : جاءت آية السياق بصيغة الجملة الخبرية وذكر حال الذين كفروا بما يفيد ذمهم وتوبيخهم وإنذارهم ، بينما وردت آية البحث لإكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات .
وهل يمكن إنشاء قانون وهو : كل خطاب وأمر ونهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن هو تشريف وإكرام للمسلمين ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
بلحاظ كبرى كلية وهي أن كل خطاب وأمر أو نهي من عند الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو تشريف له وللمسلمين ، وهو منهاج عمل في الحياة الدنيا إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
فكل فعل ومصداق للصراط المستقيم واقية من إتباع الشيطان ،ومن الإعجاز في القرآن كثرة الأوامر والنواهي والأحكام فيه لأنه دستور الحياة ومدرسة المعارف الجامعة التي تتضمن التهذيب ونشر معالم الإيمان وتبعث الناس على إنتهاج السلم والموادعة ونبذ الحرب والقتال .
ومن صفات الحياة الدنيا وموارد الرزق فيها أنها تستوعب الناس كلهم ، وفيها فضل وزيادة ، وهي موعظة فلم يأخذ أحد من الناس معه إلى الآخرة منها شيئاً إلا العمل الصالح ، وهذا العمل خاص وعام ، أما الخاص فيتعلق بالأفراد والأشخاص ، وأما العام فانه يشمل الجماعات والطوائف والملل ، فجاء القرآن حجة في تهذيب الأخلاق ونشر معاني الرأفة والرحمة .
وهل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) دعوة للمسلمين للإقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ونشر شآبيب الرحمة فيما بينهم وبين الناس ، الجواب نعم لقوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ). .
المسألة الثانية : إبتدأت كل من الآيتين بأمور :
الأول : حرف الإستئناف الواو .
الثاني : أداة النهي والجزم (لا).
الثالث : الفعل المضارع بعد أداة النهي مع التباين في موضوعه ، إذ توجه النهي والفعل المضارع في آية البحث إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما ينفع المسلمين والناس جميعاً ، وتوجه النهي في آية السياق إلى الذين كفروا .
وهل واو الإستئناف والنهي بـ(لا) في الآيتين بمرتبة واحدة .
المختار لا ، لورود الواو في أول آية البحث بالإنتقال من ذكر المؤمنين بقوله تعالى [إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] إلى الإستئناف بتوجه الخطاب والنهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينما أختتمت الآية السابقة لآية السياق بذم الذين كفروا وإنذارهم بالعذاب الأخروي ، لأن (لا) الواردة في آية البحث صريحة جلية في النهي .
أما (لا ) في آية السياق فانها تتجلى في الجمع بين الآيتين بالتباين في لغة الخطاب الموجه إلى أهل الإيمان وما فيه من الوعد الكريم ومقدمات الصلاح والإستقامة ، والخطاب الموجه إلى الذين كفروا وما فيه من الإنذار والتخويف والوعيد بالإضافة إلى أن (لا) في آية السياق أقرب إلى صيغة النفي بلحاظ الفعل (يحسبن) الذي يتضمن معنى الخبر أيضاً فلم تقل الآية (لا تحسبن ).
ومن مصاديق آية البحث أنها وسيلة مباركة لدفع الحزن عن الذين آمنوا وهو من شكر الله عز وجل لهم على إيمانهم , قال تعالى [مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا] ( ) .
المسألة الثالثة : تبعث آية البحث على التفقه في الدين ، وتجعل آية السياق المسلم يرتقي في سلم المعارف الإلهية ويدرك أن النعم الدنيوية التي تأتي إلى الذين كفروا إنما هي استدراج لهم , وسبب لإرتكابهم الآثام ، وحجة عليهم في إزالة النعم التي عندهم ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( )، ويكون هذا الإملاء على وجوه :
الأول : الصحة والعافية .
الثاني : طول الأعمار .
الثالث : كثرة الأموال ، إذ كانت قريش تتصف عن قبائل الجزيرة بامتهان التجارة وكثرة الأموال ، وإقراض أفراد وشيوخ القبائل بالربا والفائدة وشراء الثمار والحبوب بالسلف والآجل ، حتى إذا نشبت معركة بدر سخروا هذه الأموال لمحاربة الإسلام .
الرابع :الجاه والشأن بين القبائل .
الخامس : معرفة الوزراء والوجهاء في الدول الكبرى لرجال من قريش ، إذ كانوا يرتادون بلاد الشام وفارس ، ويزورون البلاط ويأخذون معهم الهدايا .
السادس : كثرة الأولاد والأزواج .
السابع : وجود الغلمان والعبيد في خدمة كفار قريش .
الثامن : رحلات رجال قريش بين الشام واليمن لأغراض التجارة والكسب مع إختيارهم لأوان الرحلة بما يجعلهم سعداء فيها ، إذ كانوا يسافرون في الصيف إلى الشام حيث لطافة الجو ، ويضربون في الأرض شتاءً إلى اليمن للدفئ هناك ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( ).
ومن الإعجاز في المقام أن اللام في [لِإِيلاَفِ] لام التعليل لبيان إتصالها بخاتمة سورة الفيل وفضل الله على قريش بأن أهلك أبرهة وأصحاب الفيل لتزاول قريش التجارة ، وتتعاهد معاني الألفة فيما بينهم ، والإنقطاع إلى العبادة وذكر الله وعدم الإنشغال بالحرب والقتال .
ليكون هذا الإنقطاع والسلم المجتمعي مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتدبر في المعجزات التي جاء بها من عند الله عز وجل .
المسألة الرابعة : لقد تضمنت آية السياق ما يدل على وجود النعم عند الذين كفروا ، وقد يخشى المسلمون على أنفسهم من تسخير الكفار لهذه النعم ضد الإسلام والمسلمين ، فتفضل الله عز وجل وأخبر في آية البحث بأنهم [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( ) أي لن يضروا الإيمان وثباته في الأرض ، ولا يستطيعون الإضرار بالنبي محمد أو منع دخول الناس الإسلام .
ثم جاءت آية السياق لتبعث السكينة في قلوب المسلمين من جهات :
الأولى : ما عند الذين كفروا من النعم هي من عند الله عز وجل وبفضله على الناس في الحياة الدنيا ، قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( ) .
الثانية : من عظيم قدرة وسلطان الله عز وجل أنه قادر على رفع النعم عن الذين كفروا , فمن قوانين الإرادة التكوينية في الحياة الدنيا أن الشكر يديم ويزيد النعم ، وأن الكفر يجعلها تنفر وتبتعد ، وفي التنزيل[وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ]( ).
الثالثة : ما عند الذين كفروا من النعم إبتلاء وامتحان وإنذار لهم .
الرابعة : بيان التباين بين النعم التي تأتي للمؤمنين فانها تأتي لطفاً , وجزاء عاجلاً لشكرهم لله عز وجل ، وثنائهم عليه وتحليهم بلباس التقوى ، وبين النعم التي تأتي للذين كفروا فانها باب لسخط الله عليهم في النشأتين ، قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ]( )، لذا تضمنت آية البحث تحذير الذين كفروا من المسارعة في الكفر , ومسالك الضلالة .
لقد أبى الله عز وجل إلا أن يجعل الحياة الدنيا دار الإحسان والرحمة منه سبحانه ، وتتجلى مصاديق توالي النعم والبركة على الناس من السماء والأرض ، في كل زمان ومكان ، وهو من عمومات قوله تعالى[كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ]( )، بتقريب أن الفرح في المقام بفضل الله تعالى .
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى إلى فراشه , قال الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم من لا كافي له ولا مؤوي( ) .
ولكن الذين كفروا يجحدون بهذه النعم بصدودهم عن مبادئ التوحيد وسنن التقوى ، فجاءت آية البحث لنهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن عليهم ثم جاءت آية السياق لبيان مصداق وسبب من أسباب عدم الحزن عليهم ، وهو أن الله عز وجل يملي لهم ليس لنفعهم ومصلحتهم إنما المدار في النفع والمصلحة على عالم الآخرة والتزود لها ، وإتخاذ أيام الحياة الدنيا وما فيها من النعم حرثاً للآخرة بعمل الصالحات بقصد القربة إلى الله عز وجل ، وعدم تسخيرها في المعاصي ، وصدّ الناس عن الإيمان , قال تعالى[وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
المسألة الخامسة : يفيد الجمع بين الآيتين بيان الأضرار العامة للكفر وإختيار طائفة من الناس له .
وجاء لفظ [نملي ] مرتين في آية السياق ، ولم يأت في آية قرآنية أخرى وفيه نوع تخويف ووعيد للذين كفروا ، ويدل الإملاء للكافرين بالدلالة التضمنية على إمهال الله عز وجل لهم من جهات :
الأولى : عدم الإنتقام من الكفار بانخرام أعمارهم ، ومن ضروب الإبتلاء في الحياة الدنيا عدم الملازمة بين التلبس بالكفر والموت الحاضر ، إنما يبقى الكافر لأحد أمور :
الأول : إدراك التوبة له .
الثاني : ولادة مولود له يكون مؤمناً صالحاً .
الثالث : زيادة آثام الكافر وإقامة الحجة عليه .
وهذه الأمور والأسباب من مصاديق أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يحزن على الذين كفروا ،(عن أبي الدرداء قال : ما من مؤمن إلا الموت خير له ، وما من كافر إلا الموت خير له . فمن لم يصدقني فإن الله يقول { وما عند الله خير للأبرار } ( ){ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين })( ).
الثانية : حلم الله عز وجل على الكفار إذ أنهم يبتكرون الصيغ والأفعال الضارة بالنبوة والتنزيل ، ومع هذا فان الله عز وجل يعدهم بالعافية والمال والجاه ، وهل هذا الإمهال والإملاء مستديم ، الجواب لا ، فانه منقطع بدليل آية السياق التي تتضمن الإخبار بأن الإملاء والزيادة للذين كفروا إنما هو لزيادة آثامهم وذنوبهم .
الثالثة : مجئ آية السياق بالإنذار للذين كفروا ، ومتعلق هذا الإنذار في النشأتين ، بكثرة وتراكم المعاصي التي يرتكبها الكافرون في الدنيا ، وسوء عاقبتهم في الآخرة , للملازمة بين ماهية الأعمال في الدنيا وسنخية الجزاء في الآخرة .
الرابعة : من خصائص الحياة الدنيا قصر أيامها وسرعة تواليها ، ويدرك الإنسان مع تقدمه في العمر أن اليوم الذي هو فيه يشبه أمسه وأن غده لا يختلف عنه إلا بالعمل الصالح وإكتساب الحسنات ،وإدخارها [لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ] ( ).
ولم يرد لفظ [َتشْخَصُ] في القرآن إلا في الآية أعلاه لأنه أمر لا يحدث إلا يوم القيامة .
المسألة السادسة : من معاني الجمع بين الآيتين لزوم تدبر المسلمين في النواهي الواردة في القرآن ، فقد يتبادر إلى الذهن دلالة النهي على المنع عن المعصية والآثام ، ولكن من النهي ما يكون لطفاً وتنزيهاً وحباً من عند الله عز وجل لأنبيائه وللمؤمنين ، ومنه قوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] ( ) إذ تبعث الآية السكينة في نفوس المسلمين من جهات :
الأولى : فضل الله عز وجل في ذكر الكيفية النفسانية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بما يجعلهم في سعادة دائمة ، وتغمرهم الغبطة بفضل الله.
الثانية : بيان لطف وحب الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : شكر المسلمين لله عز وجل للتنزه عن الكفر ، ومن الآيات أن الله عز وجل لم ينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن على ما يصيب المؤمنين .
وعند العودة من معركة أحد سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكاء نساء الأنصار على أزواجهن , والنياحة على قتلاهن (فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ” لكن حمزة لا بواكي له) ( ).
ترى هل في آية السياق نهي , الجواب نعم من جهات :
الأولى : نهي الذين كفروا عن البطر والزهو .
الثانية : إنذار الذين كفروا من الإغترار بزينة الدنيا وكثرة المال والولد .
الثالثة : من معاني النهي في آية السياق زجر وتوبيخ الذين كفروا على إختيارهم الكفر والضلالة ، لوصف آية السياق لهم بالذين كفروا ، ليكون هذا الوصف حجة عليهم في الدارين ، وجاءت الآية التالية بالإخبار عن كون لذين كفروا اشتروا الكفر شراء مع أنه ضلالة وفسق ، فيكون من مصاديق النهي في آية السياق النهي عن السعي لشراء الكفر سواء بالمال أو الجهد أو ترك وهجران منازل الإيمان .
الرابعة : نهي الذين كفروا عن إتخاذ النعم والفضل من الله وسيلة وطريقاً لإرتكاب المعاصي .
المسألة السابعة : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار رحمة للناس جميعاً ، ينتفع من خزائن الأرض والسماء البر والفاجر ، لتكون اختباراً للناس ، وتفضل سبحانه وملأ الدنيا بالبراهين التي تنير للناس سبل الهداية ، وتقودهم إلى الإيمان .
ليكون من معاني تلاوة كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) التدبر في الآيات الكونية ، واتخاذها موعظة وعبرة وتذكرة بعالم الآخرة .
ومن إعجاز آية البحث أن كل كلمة فيها تدعو إلى الإيمان باليوم الآخر ، وتدعو إلى التصديق بعالم الحساب من جهات :
الأولى : من معاني الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه الذي يدعو للإيمان بالله واليوم الآخر .
وعن بعض علماء السير أن قوم بلقيس كانوا يقتتلون فيما بينهم فأخذت تنهاهم فلا يطيعونها ، ويدرك الملك ان قتال طوائف المملكة فيما بينهم ضعف لها ، وسبب في طمع الممالك وحتى القبائل بهم وبأموالهم وسلطانهم ، ويدل عليه ما ورد في التنزيل حكاية عن بلقيس نفسها [قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ] ( ).
ومن الإعجاز القرآني عدم ورود لفظ الملوك في القرآن إلا في الآية أعلاه وبلغة الذم إستثناء الملك الصالح ، لبيان أن الرياسة والسلطان والملك الدنيوي أمر زائل ، ولا شأن له عند الله عز وجل إلى أنه سبب لطول الوقوف بين يدي الله للحساب بينما يذكر القرآن المسلمين والمؤمنين ويذكر المسلمات والمؤمنات بصيغ الثناء والمدح .
فاعتزلتهم وذهبت إلى قصرها ، وقد تقدم بيان ولادتها ونشأتها وكيفية توليها كرسي المملكة( ) ، ولما إزدادت الخصومة بينهم وصار القتال يتجدد بينهم جاءوا إليها وسألوها أن ترجع إلى كرسي الحكم ، فأبت عليهم (فقالوا : لترجعن أو لنقتلك) ( ) فاشترطت عليهم أن يطيعوها ، فاجابوها إليه ، فجاءت إلى واديهم وكان في ايام نزول المطر يجري فيه السيل مسيرة ثلاثة أيام أي أنه يكون بحيرة كبيرة وطويلة تمتد لعشرات الأميال ، فأمرت بنظام ري دقيق لحفظ الماء ، وأنشأت سداً وجعلت له اثني عشر مخرجاً على عدد أفخاذ القوم , فانقطعت الخصومة بينهم ، وأينعت الثمار ، وكثرت الحبوب ، وأزدهرت التجارة وعمرت الأسواق ، وتمر المرأة بين الأشجار ، وعلى رأسها مكتل فيمتلأ من الثمار من غير أن تقوم بقطع أو جني بعضها .
(ولم يكن يرى في بلدهم حية ولا عقرب ولا بعوضة ولا ذباب ولا برغوث، وتمر العرب ببلدهم وفي ثيابهم القمل , فتموت القمل لطيب هوائها، وقيل لهم: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) ( ).
أي هذه بلدة طيبة ولم تكن سبخة ولا فيها مما يؤذي، وكانت ثلاث عشرة قرية، فبعث الله إليهم ثلاثة عشر نبياً فكذبوا الرسل، ولم يقروا بنعم الله، فأرسل الله عليهم سيل العرم والعرم , بعث الله سبحانه جرذاً فنقبه من أسفله وأغرق به جناتهم، وخربت به أرضهم، فتبددوا في البلاد فصارت العرب تتمثل في الفرقة بسبأ) ( ).
الثانية : لقد تضمنت آية البحث ذم الذين كفروا , ومن مصاديق كفرهم انكارهم لليوم الآخر وعالم الحساب ، فيجب على كل مسلم الإيمان باليوم الآخر بلحاظ أنه المصير الحتمي للوجود الإنساني ، فبعد عالم القبر يأتي البعث والنشور والحشر ومواطن الحساب والميزان والحوض والصراط والشفاعة , ثم سوق الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلى الجنة ، وسوق الذين كفروا إلى النار ، قال تعالى [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابن السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ]( ).
الثالثة : ورد في آية البحث قوله تعالى [إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( )وفي عدم إضرارهم هذا كون الملك كله يوم القيامة لله تعالى ، إذ يقف الذين كفروا بين يديه صاغرين للحساب ليس لهم خيار في فعل ، قال تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ).
الرابعة : من إعجاز آية البحث دلالتها على ذم الذين كفروا وتذكيرهم والناس جميعاً باليوم الآخر وعالم الحساب .
الخامسة : تبين آية البحث أن عالم الآخرة عالم النصيب والأجر والثواب ، ويتبادر إلى الأذهان أن من يكفر به ليس له فيه نصيب .
المسألة الثامنة : لقد ذكرت آية البحث الذين كفروا بلفظ [الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر] ( ) أما الآية التالية فذكرتهم بعنوان [الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ] ( )وأما آية السياق فذكرتهم بعنوان [الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، ومن الإعجاز أن هذه الآيات بدأت بآية البحث التي تخاطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وتتضمن نهيه عن الحزن الذين كفروا من جهات :
الأولى : إختيار الذين كفروا الجحود والصدود عن الحق .
الثاني : مسارعة الذين كفروا في مسالك الكفر .
الثالث : حرمان الذين كفروا من الكفر من النصيب في الآخرة .
الرابع : استحقاق الذين كفروا للعذاب الأليم في الآخرة .
الخامس : شراء الذين كفروا الكفر والجحود بأغلى ثمن ، وما لا يباع أصلاً وهو الإيمان .
السادس : تكرار آيات السياق لنزول العذاب الأليم في الآخرة بالذين كفروا ، إذ أختتمت آية البحث والآيتين التاليتين بذكر هذا العذاب .
السابع : الإملاء وتيسير النعم من الله للذين كفروا في الدنيا .
الثامن : حرمان الذين كفروا من التنعم بما رزقهم الله في الدنيا ، فان قلت إنهم في الظاهر يسخرون تلك النعم لأنفسهم , والجواب لا.
أما الآية التي بعدها فذكرت المؤمنين ، قال تعالى [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ] ( ) .
وتقدير الجمع بين آية البحث والسياق على وجوه :
الأول : لا يحزنك يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين كفروا ، لبيان أن النسبة بين الذين كفروا والذين يسارعون في الكفر عموم وخصوص مطلق ، وكل منهم يحزنون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , وهل يصح تقدير الآية : ولا يحزنك الذي يسارع في الكفر ، الجواب نعم ، لعمومات قوله تعالى [وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] ( ).
الثاني : لا يحزنك مسارعة الذين كفروا في الضلالة ، لقد كانت الأخبار تصل من مكة بعد معركة بدر بأن المشركين يعدون الجيوش العظيمة للهجوم على المدينة وأنهم لن يرضوا إلا بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهو أمر يحزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فتضمنت الآية نهيه عن الحزن , وبينت أسباب عدم الحزن على الذين كفروا بما يدل على ضلالتهم وخسارتهم بنهي النبي عن الحزن عليهم مع تجهيزهم الجيوش لقتاله , ومن معاني النهي هذا البشارة بالأمن والسلامة منهم .
الثالث : لا يحزنك إضرار الذين كفروا بأنفسهم وظلمهم لها ، فقد قمت بالتبليغ والإنذار والوعد والوعيد ، ومن خصائص الأنبياء والرسل تبليغ الرسالة بتمامها من جهات :
الأولى : أصل الرسالة .
الثانية : الوحي والتنزيل .
الثالثة : صدق النبوة والرسالة .
الرابعة : الإجتهاد والجهاد من النبي في سبيل الله ، وتنزه الأنبياء عن القعود والكسل والتردد والتسويف .
الخامسة : تحلي النبي بالصبر في الدعوة إلى الله ، وفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالح ورد في التنزيل [وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ] ( ) وفي النبي هود ورد في التنزيل ،وفي شعيب ورد في التنزيل [فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ]( ).
الرابع : لا يحزنك حرمان الذين كفروا من الحظ والنصيب في الآخرة فمع سعة رحمة الله في الآخرة ومضاعفته الحسنات للناس ، وفتحه باب الشفاعة ، فان المشركين حرموا أنفسهم من هذه النعم ، قال تعالى [وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى]( ).
وجاءت الآيات ببيان التباين بين رضوان الله وبين عقوبة الذين كفروا ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ) .
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ومنه ذكر أحوال الناس في الآخرة ، وأن الملاك والفيصل فيها الإيمان ، فمن آمن بالله ورسوله وملائكته يفوز بالسعادة في الآخرة ، ومن يغادر الدنيا على الكفر ويحرم نفسه من التوبة يكون مصيره إلى النار .
(عن أنس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وإذا أحب الله عبده لم يضره ذنب ، ثم تلا { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } ( )قيل : يا رسول الله وما علامة التوبة؟ قال : الندامة) ( ).
وهناك نوع حديث يتناقله بعض الناس أن من ترك فريضة صلاة متعمداً ولم يقضها ويصليها فيما بعد حتى مات وغادر الدنيا فانه يصليها على بلاط جهنم وهي تلسعه بلهيبها .
ولا أصل لهذا القول ، وهو ليس بحديث لأن الآخرة دار حساب بلا عمل ، قال تعالى [يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ] ( ) وإذا دخل العبد الإسلام فلا يضره ما فاته من الصلاة أو الزكاة ، ليس عليه إلا الإستقبال ، وأن كان الكفار مكلفين بالفروع كتكليفهم بالأصول , وإذا ترك الصلاة متعمداً ليوم أو شهر أو سنة أو أكثر فمشهور المسلمين ليس عليه قضاؤها إنما يكفي التوبة منه ، قال تعالى [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) .
والمختار أن المسلم عليه قضاء ما فاته من الصلاة والزكاة ،ويوصي بهما لمن بعده مع لزوم الإستغفار ، ويجوز الأستئجار عنه ، ولكن بعد وفاته وصلاته في حياته أداء وقضاء هو الأولى والأفضل والأكثر ثواباً ، قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] ( ) .
ومن صفات الله عز وجل أنه جابر العثرات فهو الذي يقيل عثرات الناس وهفواتهم , ويحول دون السقوط في الخطيئة , وهو الذي يغفر الزلات , ويتجاوز عن السيئات ويمهل العباد ولا يؤاخذهم بها .
ومن أسماء الله (الجبار) وهو القوي الذي يجبر الكسر والخسارة والسقوط ، ويجعل الإنسان يتدارك أمور حياته مستقبلاً الآخرة بغبطة .
وهل يصح وصف الإنسان الذي يساعد الآخرين ويقيل عثراتهم بأنه (جابر العثرات) الجواب لا ، لأن هذه الوصف يختص به الله عز وجل .
ولأن من مصاديق الحقيقة دون المجاز الإطراد والتبادر وصحة الحمل .
والمراد من الإطراد استدامة الفعل حقيقة في كل الأحوال والمناسبات ، ولا يقدر على هذه الإستدامة إلى الله عز وجل .
وهل تختص إقالة العثرة في أيام الحياة الدنيا وأمورها ، الجواب لا .
ووردت نصوص في استحباب إقالة عثرات الناس ، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (من أقال نادما بيعته ، أقاله الله عز وجل عثرته يوم القيامة) ( ).
ولم يختص الحديث بالبائع أو المشتري بأنه مسلم أو مؤمن إنما يحمل الكلام على إطلاقه لأصالة العموم فيشمل كل بيع ولأي إنسان مهما كانت ملته ، لبيان حسن الخلق والرفق الذي يتصف به المسلمون ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
وعن ثابت البناني (قال : تعبد رجل سبعين سنة ، فكان يقول في دعائه : رب اجزني بعملي فادخل الجنة ، فمكث فيها سبعين عاماً ، فلما وفت قيل له : اخرج قد استوفيت عملك . أي شيء كان في الدنيا أوثق في نفسه ، فلم يجد شيئاً أوثق في نفسه مما دعا الله سبحانه ، فأقبل يقول في دعائه : رب سمعتك وأنا في الدنيا ، وأنت تقيل العثرات فأقل اليوم عثرتي . فترك في الجنة) ( ).
وثابت بن اسلم البناني مولاهم البصري توفى نحو سنة 124 للهجرة ، وهو من الطبقة الرابعة من طبقات رواة الحديث ، وثابت ثقة إلا أنه كان يقص القصص .
وعن أحمد أن ثابتاً اختلط ،وفي الدعاء : يا راحم العبرات يا مقيل العثرات يا ساتر العورات .
المسألة الخامسة : من مفاهيم الجمع بين آية البحث وآية السياق ذم وتوبيخ الذين كفروا ، فمن إعجاز القرآن تضمن الخطاب القرآني الموجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمراً أو نهياً أو بيان حكم توبيخ الذين كفروا كما في آية البحث ، وكذا تأتي الآية ببيان حال الذين كفروا , وفيه ذم وتوبيخ لهم .
فان قلت كيف تتضمن آية البحث ذم وتوبيخ الذين كفروا ، الجواب من وجوه :
الأول : تبكيت وتعيير الذين كفروا لتخلفهم عن الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن الآيات إفراد قريش وعشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآيات تدعوهم إلى الإيمان على نحو التعيين منها قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ) .
وإن كان إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، ومن خصائص الآية القرآنية أن المدار في معناها على عموم المعنى , وليس على سبب النزول .
وقد جاءت الآيات القرآنية التي تتضمن الإخبار بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بشير ونذير للناس جميعاً , وفي التنزيل[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ]( ).
وكان اعمام وعمات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الشواهد من السنة النبوية بلحاظ تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية أعلاه أنه جمع بني هاشم وأقام لهم مأدبة من فخذ شاة مع كثرة عددهم إذ كان مجموعهم نحو أربعين رجلاً ، وكان فيهم عمه أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب .
وأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطعة من اللحم فشقها باسنانه ثم القاها في نواحي الصفحة ثم قال : كلوا بسم الله ، فأكلوا ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا علي اسقهم فسقاهم اللبن من إناء صغير ولكنه كفاهم جميعاً .
وفيه آية حسية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم , وعندما أراد أن يتكلم بدعوتهم إلى الإسلام قال عمه أبو لهب (لقد سحركم صاحبكم . فتفرق القوم ولم يكلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .) ( ).
وهل قول أبي طالب (لقد سحركم صاحبكم ) من المسارعة في الكفر التي تذكرها آية البحث , الجواب نعم ، ومن الشواهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لن تحزنه مسارعة أبي لهب في الكفر ، وتسببه بفضّ ونقض الإجتماع الذي هو رسالة في التبليغ والإنذار .
وفي اليوم التالي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي (يا علي ان هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول ، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فعد لنا بمثل الذي صنعت بالأمس من الطعام والشراب ثم اجمعهم لي) ( ) ففعل الإمام على عليه السلام ما قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعاهم وجمعهم للوليمة التي هي بذاتها معجزة من جهات :
الأولى : إختصاص أعمام وذوي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بانذار خاص في القرآن والسنة .
الثانية : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة أعمامه وبني هاشم عامة حالما نزل جبرئيل بقوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ).
الثالثة : إقتران الإنذار النبوي بوليمة ، وفيه إكرام إضافي لأهل البيت .
الرابعة : تقدم الوليمة على كلمات الإنذار النبوية ودعوة بني هاشم لقول كلمة التوحيد والتصديق بالنبوة .
الخامسة : تجلي معجزة حسية حاضرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي كفاية الطعام القليل للجمع الكثير .
السادسة : عدم غضب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قول أبي لهب ، وعدم توبيخه أو ذمه ، ولم يكن غليظا معه ، بل أظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصبر والتحمل على ما قال من كلمات تدل على الجحود ورمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسحر ، وفي التنزيل [أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ] ( ) مع أن أبا طالب وحمزة عمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاضران الدعوة وكان ينصتان لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وأولاد عبد المطلب :
الأول : عبد الله وهو أصغرهم ، ويكنى أبا أحمد وأبا محمد وأبا قثم وقال ابن الرومي :
(وكم أب قد علا بابن ذرى شرفٍ … كما علا برسول الله عدنان) ( ).
الثاني : أبو طالب واسمه عبد مناف , وولد لأبي طالب :
أولاً : طالب .
ثانياً : عقيل .
ثالثاً : جعفر .
رابعاً : الإمام علي عليه السلام .
وكان بين ولادة كل واحد والآخر من أولاد أبي طالب عشر سنين( ) .
الثالث : الزبير ،وأمهم فاطمة بنت عمرو المخزومية .
الرابع : العباس .
الخامس : ضرار أمهما نتيلة العمرية .
السادس : حمزة .
السابع : المقوم ، وأمهما هالة بنت وهب .
الثامن : أبو لهب وهو عبد العزى أمه لبنى الخزاعية .
التاسع : الحارث أمه صفية من بني عامر بن صعصعة .
العاشر : الغيداق أمه ممنعة واسمه حجل .
وست نسوة وهن :
الأولى : صفية بن عبد المطلب أم الزبير بن العوام .
الثانية : أم حكيم البيضاء .
الثالثة : عاتكة .
الرابعة : أميمة .
الخامسة : أروى .
السادسة : وبرة .
وقيل أن عبد المطلب (أول من خضب بالوسمة، وهو السواد، لأن الشيب أسرع إليه) ( ).
وكان نديم عبد المطلب حرب بن أمية ، وكان لعبد المطلب جار يهودي اسمه أذينة وله مال كثير يتجر به ، فأغاظ أمره حرب بن أمية ، كيف تكون له تجارة واسعة في مكة , وهو على صلة طيبة مع عبد المطلب ، فأغرى حرب به فتياناً من قريش ليقتلوه ويستحوذوا على ماله ظلماً (فقتله عامر بن عبد مناف بن عبد الدار وصخر بن عمرو ابن كعب التيمي جد أبي بكر، فلم يعرف عبد المطلب قاتليه، فلم يزل يبحث حتى عرفهما) ( ).
فطلبهما فاستجارا بحرب بن أمية لأنه الذي أغراهما بقتل أذينة ، ولأن حرباً هو نديم عبد المطلب ، فجاء عبد المطلب ووجه اللوم والتبكيت إلى حرب بن أمية وطلب منه تسليم القتلة فاخفاهما ، وتغالظا في القول ، وقيل تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة ، فلم يدخل بينهما .
(فجعل بينهما نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، فقال لحرب: يا أبا عمرو، أتنافر رجلاً هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك لامة، وأكثر منك ولداً، وأجزل منك صفداً، وأطول منك مذوداً !. فنفره عليه. فقال حرب: إن من انتكاث الزمان أن جعلناك حكماً) ( ).
(فأنشأ نفيل يقول: البسيط
ليهنىء قوماً في الناس سابقة … حمل المئين وسبق ما لهم ورع
أعطاهم الله نوراً يستضاء به … إذا الكواكب أخطا نوءها النجع
وهم عروق الثرى منهم أرومتنا … ما جادى اليوم في تربائهم ضرع
ما إن ينال البلى أركان منزلهم … ولا يحل بأعلى نيقهم صدع
أولاد شيبة أهل المجد قد علمت … عليا معد إذا ما هزهز الورع
وهبت الريح بالصراد فانطلقت … تزجى جهاماً سريعاً سيره ملع
وشيبة الحمد نور يستضاء به … إذا تخطا إلى المشبوبة الفزع
وراحت الشول جدباً في مراتعها … حول الفنيق رسيلاً ما له تبع
يا حرب ما بلغت مسعاتكم هبعاً … تسقي الحجيج وماذا يحمل الهبع؟
أبو كما واحد والفرع بينكما … منه الخشاش ومنه الناضر الينع
فاعرف لقوم هم الأرباب فوقكم … لا يدركنك شر ماله دفع
هم الربى من قريش في أرومتها … والمطعمون إذا ما مسها القشع
وقال في ذلك الأرقم بن نضلة بن هاشم يذكر منافرة هاشم وأمية من الطويل
وقبلك ما أردى أمية هاشم … فأورده عمرو إلى شر مورد
فيا حرب قد جاريت غير مقصر … شآك إلى الغابات طلاع انجد
قال: فأراد حرب بن أمية إخراج بني عدي بن كعب من مكة فاجتمعت لذلك بنو عبد شمس بن عبد مناف وبنو نوفل بن عبد مناف وغضب لعبد المطلب بنو هاشم وبنو المطلب وبنو زهرة وغضبت بنو سهم لبني عدي لأنهم من الأحلاف فمنعوهم، فلما رأى ذلك حرب بن أمية كف عنهم) ( ).
ولكن حينما أرادت قريش قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الفراش لم ينصره بيت من بيوت قريش إذ تواطأوا على قتله فنزل جبرئيل وأمره بالهجرة إلى المدينة في ذات الليلة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) .
لقد كانت منزلة عبد المطلب في قريش رفيعة مع كثرة ماله ، وكذا بالنسبة لأبي طالب , وهي أمور تدعو قريشا إلى الإمتناع عن إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتله خاصة وأنه لم يأت إلا بدعوة الحق والصدق ، وهم يسلمون جميعاً بأن الذي جاء به هو ذات الحنيفية التي جاء بها إبراهيم الخليل ، قال تعالى [وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ]( ).
الوجه الثالث : من الشعبة الثانية : صلة آية البحث بقوله تعالى [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت آية البحث بالنهي من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يتعلق بالحال النفسية , ولزوم عدم الحزن على تمادي الذين كفروا بالسفاهة والضلالة .
وإبتدأت آية السياق بصيغة الجملة الخبرية لبيان قانون في الفصل والتمييز بين المسلمين من جهة صدق العقيدة ، والإخلاص في الطاعة لله ورسوله ، والتقيد بآداب وسنن التقوى ، إذ يتوجه الخطاب في الآية إلى المسلمين والمسلمات بما يبعثهم على أخذ الحائطة للدين .
لقد أقامت آية البحث الحجة على الذين كفروا من وجوه :
الأول : إختيار الذين كفروا الجحود والضلالة .
الثاني : قبح بقاء الذين كفروا في مقامات الكفر .
الثالث : مسارعة الذين كفروا بالكفر بالتعدي والظلم , وتجهيز الجيوش على الإسلام والنبوة والتنزيل .
الرابع : عجز الذين كفروا عن الإضرار بملك الله وبالإيمان وسننه في الأرض ، لتدل الآية على سخط الله عز وجل عليهم لإنشغالهم بما يجلب الضرر لهم في النشأتين .
الخامس : حرمان الذين كفروا من معاني الرحمة والعفو والمغفرة في الآخرة .
السادس : الوعيد للذين كفروا بالنار وشدة العذاب .
أما آية السياق فانها تضمنت وجوهاً :
الأول : الشهادة من الله للمسلمين ببلوغ مرتبة وصفة المؤمنين .
الثاني : إختبار عموم المسلمين للفصل بين المؤمن والمنافق ، وبيان قانون وهو ترتب أداء الواجبات العبادية على دخول الإسلام .
الثالث : دعوة المسلمين للتحلي بالصبر واتخاذه منهاجاً في اتيان الفرائض ، وفي إجتناب المعاصي ( عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الصبر ثلاثة : فصبر على المصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر على المعصية ) ( ).
الرابع : بيان قانون وهو أن الدنيا دار امتحان وإختبار ، ولا ينقطعان فيها الى أن يغادرها الإنسان ، نعم بالدعاء والمسألة يخفف الله عز وجل عن المؤمنين ضروب الإبتلاء ، ويصرف عنهم أسباب الفشل والخور ، ويتفضل عليهم باقالة العثرة وسحائب المغفرة .
ومن معاني الجمع بين آية البحث والسياق أن الله عز وجل بيّن التضاد بين المؤمنين والذين كفروا ، وأن المؤمنين في حال امتحان تنزيه وإصلاح أما الذين كفروا فذكرتهم آية البحث بما يفيد سخط الله عليهم وإنذارهم .
المسألة الثانية : لقد إبتدأت آية البحث بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن على الذين كفروا ، وجاءت آية السياق لتتضمن نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن على المنافقين الذين يفشلون في الصبر وتحمل الأذى في سبيل الله .
ولم يكن في مكة قبل الهجرة منافقون ، ولكن بعد أن هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وقويت شوكة الإسلام ، صارت طائفة من أهلها تظهر الإيمان وتبطن الكفر ، فجاءت آية السياق بقانون وهو إبتلاء وامتحان الصحابة بما يكشف صدق الإيمان ، وإخلاص النية ، ويفضح الذين كفروا .
ومن وجوه هذا الإبتلاء زحف ثلاثة آلاف رجل من أهل مكة والقرى التي حولها لقتال النبي والمسلمين ، فخرج لهم وأهل بيته وأصحابه في ألف رجل ، فرجع رؤوس النفاق بثلاثمائة منهم ، ليكون هذا الأمر من أبهى مصاديق التمييز بين :
الأول : المؤمن .
الثاني : المنافق .
الثالث : الكافر .
وهل إنسحب كل المنافقين من وسط الطريق إلى معركة أحد ، ليكونوا كالطيور التي تميل إلى الجهة التي يميل إليها بعضهم كيلا يفقدوا حال الجماعة ، الجواب لا .
المسألة الثالثة : تنبأ آية البحث عن خسارة وخيبة الذين كفروا ، وعجزهم عن تحقيق غاياتهم الخبيثة من الحرب ، وقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيّنت آية السياق إمتحان المسلمين من عند الله بما يحقق الفصل والتمييز بين المؤمنين والمنافقين والذين كفروا , قال تعالى [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ] ( ).
وهل يأتي البلاء للمؤمنين بعرض ومرتبة واحدة لامتحان الذين يبطنون الكفر أو يظهرونه ، الجواب لا ، لذا لم تذكر آية السياق امتحان المؤمنين ولكنها تقول [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ] ( ) أي لا يبقون على حال التداخل وعدم معرفتهم بالمنافقين الذين بين ظهرانيهم والذين يظهرون الإيمان بالنبوة والتنزيل ، ولكنهم يخفون كفرهم ، ولكن تأتي أمور ابتلائية تكشف عن المنافقين منها هجوم الذين كفروا على المدينة ولزوم الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وعن أنفسهم , وعوائلهم .
وفي معركة الخندق وعندما اشتد حصار قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في المدينة أظهر المنافقون الريب والشك والخوف الشديد من الذين كفروا ، كما ورد في التنزيل [وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا]( )فقولهم هذا من وجوه كشف الله عز وجل للمنافقين وعدم إبقاء صفوف المؤمنين جامعة لهم وللمنافقين ، وصبر عليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يوبخهم ، فلجأوا إلى أخرى ولكنها تكشف نفاقهم إذ صاروا يستأذنون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم للذهاب إلى أهليهم بحجة أن بيوتهم خارج المدينة وأنهم يخشون من هجوم العدو عليها ، قال تعالى [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ).
وهل إدعاء المنافقين الخوف على بيوتهم ونسائهم وذراريهم من السلب والنهب والأسر يحزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب نعم ، لأن هذا الإدعاء لا أصل له .
وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحزن عند استئذانهم , الجواب نعم ليكون الحزن في المقام على وجوه :
الأول : الحزن على المنافقين بتركهم الخندق .
الثاني : الحزن على النقص الحاصل في عدد المسلمين المرابطين خلف الخندق مع كثرة جيوش المشركين الذين يحيطون به .
الثالث : مخالفة قول المنافقين [بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ] ( ) للواقع والصدق ، ومن الإعجاز قطع دابر الجدال في المقام ومنع الدفاع عن هؤلاء المنافقين إلى يوم القيامة بقوله تعالى [وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ) ويفرح المشركون الذين يحيطون بالمدينة بمكر وخبث المنافقين من مثل متعب بن قشير وأصحابه .
الرابع : حرمان المنافقين أنفسهم من ثواب المرابطة .
وجاءت آية السياق للإخبار عن كون خبث وكذب المنافقين سبباً لكشفهم والتمييز بين المؤمنين وبينهم ، فقد أرسل الله عز وجل ريح الصبا لتقلع خيم الذين كفروا وتقلب قدورهم ، وتملأ قلوبهم رعباً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) .
ويتناجى الذين كفروا بالإنسحاب والإنهزام ، وتعود الحياة في المدينة وما حولها بهية طيبة ، وليس للمنافقين الذين تركوا المرابطة إلا الخزي والحسرة ، ومن الآيات أن بيوتهم لم يصبها أذى ، ولم يتعرض لها المشركون في آية حفظ من الله عز وجل للمسلمين وعوائلهم وذراريهم, وفيه حجة على الذين كفروا والمنافقين .
المسألة الرابعة : لقد جاءت آية البحث بالنهي عن الحزن على الذين كفروا وتهافتهم في الرذائل لتأتي هذه الآية وتخبر عن إبتلاء آخر وهو وجود منافقين وأناس لا يعدو الإسلام حناجرهم ، فيبتليهم الله عز وجل لبيان ماهيتهم ومراتب إيمانهم ، ويكون هذا الإبتلاء رحمة مركبة ومتعددة من جهات :
الأولى : توفيق المؤمنين بالثبات على الإيمان .
الثانية : كشف المنافقين ، وزيف ادعاءاتهم .
الثالثة : بعث الوهن والضعف في صفوف الذين كفروا بخذلان وتخاذل المنافقين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ]( ) .
الرابعة : سعي وجهاد المؤمنين للغلبة على النفس الشهوية , وعلى الكسل والخمول .
الخامسة : الفصل والتمييز بين المؤمنين والكافرين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] ( ).
وهل ينحصر التمييز بين المؤمنين والمنافقين بسوح الدفاع فمثلاً سار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد , ومعه ألف من أصحابه كما في قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
وفي الطريق إنخزل عبد الله بن أبي بن أبي سلول بثلاثمائة منهم ، فهناك مسألتان :
الأولى : هل هؤلاء الثلاثمائة كلهم منافقون .
الثانية : هل الذين استمروا في المسير مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد كلهم مؤمنون .
أما الأولى فالجواب هم أما منافقون أو يلحقون بهم لإتحاد فعلهم في تنقيح المناط , وانقيادهم لهم عندما أظهروا أضغانهم وحسدهم وبغضهم للنبوة .
وهل أدركت التوبة شطراً منهم ، الجواب نعم ، فالنفاق عرض غير مستقر ، وكل آية من آيات القرآن تهدم ركناً أو تسقط لبنة منه ، خاصة الآيات التي تتضمن ذم النفاق والمنافقين .
لقد كان فعل المنافقين ظاهراً في العبادات والمعاملات ، وفحوى الكلام.
ويأتي الذم لهم كأفراد وأشخاص ، وليس كمذاهب وطوائف تجمعها ضابطة فقهية خاصة بها .
أما المسألة الثانية فالجواب نعم ، فهم مؤمنون إلا من خرج بالدليل ، وظهر منه في ميدان المعركة ما يثبت نفاقه وشكه وخداعه وقد فضحهم الله عز وجل بقوله بخصوص معركة أحد [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ ] ( ) .
لقد إبتدأت معركة أحد بنصر عظيم للمسلمين , وترك أكثر الرماة مواضعهم التي جعلهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكد عليهم بلزوم عدم مفارقتها ، وأخبرهم بأن سهامهم في الغنائم محفوظة .
(عن البراء قال جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد , وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير ووضعهم موضعا وقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم قال فأنا والله رأيت النساء يشددن على الجبل , وقد بدت أسوقهن وخلا خيلهن رافعات ثيابهن .
فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون , وقال عبد الله بن جبير , أفنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم .
فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين) ( ).
المسألة الخامسة : من أسباب نزول آية السياق إرادة تحدي قريش ، والإجابة على شكهم وجدالهم بالمغالطة (قالت قريش : يا محمد تزعم أن من خالفك فهو في النار، والله عليه غضبان وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله عنه راض، فأخبرنا من يؤمن بك ومن لا يؤمن بك؟
فأنزل الله تعالى هذه الآية) ( ).
وإذ تتجلى في آية البحث الجهة التي يتوجه لها الخطاب والنهي لإرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعلى [وَلاَ يَحْزُنْكَ] ( ) فان آية السياق تحتمل وجوهاً :
الأول : توجه الخطاب للمسلمين .
الثاني : عموم الخطاب وأنه يشمل المسلمين والمنافقين .
الثالث : إرادة المسلمين والمنافقين والكفار ، وهو قول ابن عباس .
وتقدير آية السياق بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر فان الله عز وجل يميز الخبيث من الطيب .
الثاني : ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر فان المؤمنين مخلصون ناصرون لك .
الثالث : بيان خصال الإيمان , وصفات المؤمنين وهم الذين آمنوا بالله ورسله ويخشون الله في السر والعلانية.
المسألة السادسة : من معاني الجمع بين الآيتين إنكشاف حال المنافقين والذين ظلموا أنفسهم بالجحود والضلالة بالإمتحان والإبتلاء ، ومن مصاديقه إصرار الذين كفروا على الزحف نحو المدينة للقتال والقتل والغزو والنهب مما يلزم المؤمنين الدفاع وصدّ هجوم الذين كفروا ، أما المنافقون فانهم إختاروا القعود من غير عذر .
وهل الهجوم والدفاع وحده ملاك التمييز ، الجواب لا ، ففي كل يوم مسائل إبتلائية منها :
الأول : أداء المسلمين الصلاة اليومية ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ) ويتكاسل المنافقون عن أدائها في أوقاتها ، وعن المواظبة على حضور الجماعة في المسجد النبوي بامامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ يبادر المؤمن إلى الأمر بالمعروف وإلى التقيد به , وتلقيه من غيره بالقبول والرضا .
بخلاف المنافق فانه يمتنع عن الأمر بالمعروف ، ولا ينزجر عند نهيه عن المعصية ، قال تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ] ( ) .
الثالثة : تخلف المنافقين عن أداء الزكاة ، وعن الإنفاق في سبيل الله ، وإعانة الفقراء .
الرابعة : قعود الذين نافقوا عن الدفاع وسعيهم في صدّ المسلمين عن الخروج للدفاع .
المسألة السابعة : من وجوه تقدير الجمع بين آيتي البحث والسياق : يا أيها النبي ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، لبيان أن الفعل والتمييز يكشف أناساً مقيمين على النفاق ، كما كان ابليس بين الملائكة وهم يظنون أنه منهم ، فلما أمرهم الله عز وجل بالسجود لآدم سجد الملائكة كلهم إلا إبليس امتنع عن السجود ، قال تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ]( ).
ومن أضرار الحزن الشديد إنكسار القلب وظهور الكدورة على عالم الأفعال وضعف الجسم وجهاز المناعة عن مقاومة ودفع الأمراض والبكتريا ويؤدي إلى أمراض القلب ، وقد يسبب قرحة المعدة وارتفاع ضغط الدم والسكرى .
فجاءت آية البحث لصيرورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في منعة ومناعة .
المسألة الثامنة : ورد في آية السياق [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ]( )، لبيان أن المسلمين لا يستطيعون معرفة ما في قلوب الناس من الإيمان أو الكفر ، ومن إرادة المودة لهم أو الكراهة والخصومة ، ولا يعلم المسلمون هل تقع معركة بينهم وبين الذين كفروا في الأجل القريب أو البعيد أو لا تقع ، ومن الذي سيدخل الإسلام من الذين كفروا ، فتفضل الله عز وجل بالإمتحان والإختبار ، وفي الآية نهي عن رمي إنسان بالنفاق من غير حجة ودليل وفيصل في المقام .
وهل تنقطع أفراد وكيفية التمييز بين المؤمنين والذين كفروا , الجواب لا ، فهي متعددة لوجوه :
الأول : صيرورة الناس على بينة ومعرفة بالأحوال العامة بلحاظ الإيمان أو الكفر .
الثاني : إستدامة وتجدد معاني الأخوة الإيمانية بين المسلمين .
الثالث : ذم وتوبيخ الذين كفروا والمنافقين ، ودعوتهم للتوبة والإنابة .
الرابع : بقاء المسلمين في حذر وحيطة وطرد الغفلة عنهم .
المسألة التاسعة : من معاني آية السياق تفقه المسلمين في الدين , وإدراكهم للزوم الهداية والإيمان ، وفيه الثواب والأجر العظيم .
ومن إختيار وتفضيل الله للرسل الذي تذكره آية السياق فضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنزول آية البحث لنهيه عن الحزن على الذين كفروا ومسارعتهم في الكفر.
ومن وجوه ومعاني الإختيار في قوله تعالى [يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ] ( ) أي يستخلصه لنفسه ، ويعلمه تأويل الحديث ، ويدفع عنه الأذى والكدورة وكشف المنافقين له ، لتكون آية البحث شاهداً على أن الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ممن إجتباه الله عز وجل لنفسه ، بأن يتلطف عليه فيدفع عنه الحزن والأسى على الذين كفروا .
المسألة العاشرة : لقد أختتمت آية البحث بالوعيد بالعذاب الشديد والمتصل للذين كفروا ، أما آية السياق فأختتمت بالثناء على المؤمنين والوعد لهم بالأجر والثواب الجزيل .
ومن الآيات وصف آية السياق لعذاب الذين كفروا بأنه عظيم ، ووصفت آية السياق الثواب للمؤمنين بانه عظيم ، وفيه ترغيب للناس جميعاً بالإيمان والعمل الصالح , وزجر عن الكفر والمسارعة فيه.

إجتماع قريش في دار الندوة
ومن وجوه الإبتلاء في الدنيا مجئ الشيطان بهيئة رجل وقور من نجد إلى دار الندوة في مكة عندما إجتمعت قريش للنظر في أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أظهر دعوته وأعلن نبوته ، ودخلت طائفة من آل البيت وأهل مكة الإسلام .
وتوالى نزول آيات القرآن المكية ، وكل آية تحذر الذين كفروا من الإقامة على الكفر ، وتتوعدهم بالعذاب في النار ، ومنه قوله تعالى [وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ]( ).
لقد كان اجتماع قريش في دار الندوة في يوم يسمى (يوم الزحمة )كما ورد عن ابن عباس في رواية ابن اسحاق عنه( ) ، وكان من العرف العام عند قريش أن لا يحضر إجتماعهم إلا من بلغ أربعين سنة من العمر ، ويستثنون بعض الشباب ممن امتاز برجاحة العقل وحسن المنطق والتدبير ليكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الأولى بحضور هذا الإجتماع خاصة وأن إجماع قريش على تسميته (الصادق الأمين) .
فجاء إبليس إلى دار الندوة بهيئة شيخ جليل من نجد ، ووقف على بابها كأنه يريد الإستئذان بالدخول ، فقالوا : من الشيخ ؟
قال : شيخ من أهل نجد سمع ما اجتمعتم من أجله أي بخصوص الذي يقومون بفعله أزاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته .
وقال إني حضرت لأسمع ما تقولون ، وعسى أن يكون عندي رأي ونصح تأخذون به أو تنتفعون منه .
فأذنوا له بالدخول و(قالوا : أجل فادخل) ( )، فدخل ليجتمع بأشراف ووجوه قريش ومنهم :
الأول : عتبة بن ربيعة ، وهو من أول القتلى من المشركين يوم بدر .
الثاني : شيبة بن ربيعة ، والذي قتل يوم بدر إذ برز الأخوان أعلاه مع الوليد بن ربيعة ،وطلبوا النزال والمبارزة ، وعندما برز لهم ثلاثة من الأنصار وعرّفوا أنفسهم لهم أبوا أن يبارزوهم وسألوا الأكفاء من بني هاشم بقصد أنهم لو قتلوهم أو بعضاً منهم فان الأمر يؤذي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويبعث الحنق والقنوط عند بني هاشم سواء الذين في المدينة أو الذين بقوا في مكة خاصة وأن بني هاشم الذين رافقوا المهاجرين في الخروج إلى معركة بدر خرجوا بالإكراه .
وعندما تبادلوا الشعر أثنى افراد من بني هاشم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأعادوا مقالة وثناء أبي طالب عليه .
وكانت قريش تخشى منهم ، وتخاف إن نشب القتال يكون بنو هاشم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قال ابن إسحاق: ومضى القوم، وكانت بين طالب بن أبي طالب – وكان في القوم – وبين بعض قريش محاورة، فقالوا: والله، لقد عرفنا يا بني هاشم – وإن خرجتم معنا – أَن هواكم لَمَعَ محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
وقال طالب بن أبي طالب شعراً :
(لاهم إما يغزون طالب … في عصبة محالف محارب
في مقنب من هذه المقانب … فليكن المسلوب غير السالب
وليكن المغلوب غير الغالب) ( ).
وقد عاد طالب بن أبي طالب وبنو زهرة قبل نشوب المعركة ، وكذا بنو عدي لم يدخلوا المعركة .
ولم يصل طالب إلى مكة ولم يكن مع القتلى أو الأسرى .
الثالث : أبو سفيان بن حرب واسمه صخر (63 ق.هـ -30 هـ ) ولد في مكة قبل عام الفيل بعشر سنوات ، وأسلم يوم الفتح وهو من المؤلفة قلوبهم إذ خصهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعطايا من الغنائم يوم حنين ، فاعطاه مائة ناقة ، وكذا ابنه معاوية قال تعالى[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
وأم جميل أروى بنت حرب زوجة أبي لهب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي أخت أبي سفيان وقد ورد ذكرها في القرآن بصيغة الذم ، قال تعالى [وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ*فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ] ( ) .
وابنته أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان وتكنى أم حبيبة ، واشتهرت بكنيتها دون اسمها نسبة لابنتها التي ولدتها من عبيد الله بن جحش الذي مات في الحبشة مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتضايق أو يغار من تسمية زوجته باسم ابنتها ، وكان يرعى أبناء أزواجه من أزواجهم الشهداء وغيرهم.
ويلتقي نسبها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند عبد مناف ، وأمها صفية بنت أبي العاص عمة عثمان بن عفان ، فهي أخت معاوية لأبيه وقيل كان لها شأن في الوقائع بعد مقتل عثمان وأنها طلبت بعد مقتل عثمان ثيابه الملطخة بدمه ، وقامت بارسالها إلى أخيها معاوية بن أبي سفيان في الشام ، وأنه لما قتل محمد بن أبي بكر غدراً في مصر قامت بارسال كبش مشوي إلى أخته عائشة تشفياً بموت أخيها .
ولا دليل على هذه الأخبار ، والأصل عدمها إذ فازت بتسمية (أم المؤمنين ) كما أنها اعتزلت الفتنة .
الرابع : طعيمة بن عدي الذي حضر معركة بدر ، وقتل الصحابي صفوان بن بيضاء ، ثم قتله حمزة بن عبد المطلب ، وقد أسلم أولاده .
الخامس : جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وهو نسابة وعلامة ، قال له عمر يوماً (يا جبير، ممن كان النعمان بن المنذر؟ فقال: كان النعمان من أشلاء قنص بن معد بن عدنان، يعني من بقايا قنص) ( ).
وأتى جبير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد معركة بدر يكلمه في الأسرى وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بأصحابه صلاة المغرب ، فسمعه جبير يقرأ [إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ] ( ) .
وعن الزهري أن جبير بن مطعم قال (سمعته يقرأ : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون. فكاد قلبي يطير فلما فرغ من صلاته كلمته في أسارى بدر فقال : ” لو كان الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم شفعناه) ( ).
وأبو مطعم بن عدي من أشراف قريش , وكان رئيس بني نوفل في حرب الفجار وكان له بعض الصفات الحسنة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وهي :
أولاً : أجار مطعم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما رجع من الطائف بعد أن آذاه أهلها ، وكان هذا الأذى سبباً في تحريض كفار قريش عليه .
ثانياً : قام مطعم بنقض وشق وتمزيق صحيفة المقاطعة لبني هاشم التي كتبتها قريش في حصارهم في شعب أبي طالب .
ثالثاً : لم يظهر مطعم العداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يدخل الإسلام .
رابعاً : امتنع مطعم عن الإضرار بالمسلمين ، وإيذاء أي فرد منهم سواء كان حراً أو عبداً .
ومدحه أبو طالب في قصيدة :
أمطعِم لم أخذُلك في يوم نجدة … ولا معظم عند الأمور الجلائل
أمطعم إن القوم ساموك خطة … وإني متى أوكل فلست بوائل
ومن غلمان مطعم بن عدي وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب , وعمي مطعم في آخر أيامه ومات بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقبل واقعة بدر بنحو سبعة أشهر( ) وعمره بضع وتسعون سنة .
ورثاه حسان بن ثابت لخصوص إجارته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال :
فلو كان مجد يخلد اليوم واحداً … من الناس أنجى مجده اليوم مطعما
أجرت رسول الله منهم فأصبحوا … عبيدك ( )ما لبى ملب وأحرما( ).
السادس : الحارث بن عمرو بن نوفل ، والذي قتل في معركة بدر ، قتله خبيب بن عدي ، وابتاع ابناؤه خبيباً وقتلوه، وقد تقدمت قصته، وطلب خبيب من كفار قريش الصلاة ركعتين قبل أن يقتلوه فاذنوا له ، ثم قال : لولا أن يروا أن ما بي من جزع من الموت لزدت. فكان أول من صلى ركعتين عند القتل هو، ثم قال: اللهم أحصهم عدداً , وأقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً ” ثم قال:
فلست أبالي حين أقتل مسلماً … على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ … يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله( ).
السابع : النضر بن الحارث بن كلدة ، وكان شديد العداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قتله الإمام علي عليه السلام يوم بدر.
وكانت ابنته قتيلة شاعرة ، ولما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وعلمت قتيلة بموت أبيها كتبت شعراً في رثاء أبيها ونوع عتاب بصيغة إكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنها لم تسلم يومئذ وقالت :
يا راكبا إن الأثيل مظنة … من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ به ميتا فإن تحية … ما إن تزال بها النجائب تخفق
مني إليه وعبرة مسفوحة … جادت بواكفها وأخرى تخنق
هل يسمعن النضر إن ناديته … بل كيف تسمع ميتا لا ينطق
ظلت سيوف بني أبيه( ) تنوشه … لله أرحام هناك تشقق
صبرا يقاد إلى المنية متعبا … رسف المقيد وهو عان موثق
أمحمد ولدتك صنو نجيبة … من قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما … من الفتى وهو المغيظ المحنق
النضر أقرب من أسرت قرابة … وأحقهم إن كان عتق يعتق( ).
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم شعرها بكى وقال : لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لعفوت عنه .
(قال الزبير: وسمعت بعض أهل العلم يغمز أبياتها هذه، ويذكر أنها مصنوعة) ( ).
الثامن : أبو البختري بن هشام ، واسمه العاص بن هشام ، قتل يوم بدر كافراً ، قتله المجذر بن زياد البلوي .
وأسلم ابنه الأسود بن أبي البختري يوم الفتح وصحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان وجيهاً في قريش (وكان ابنه سعيد بن الأسود جميلاً فقالت فيه امرأة:
ألا ليتني أشري وشاحي ودملجي … بنظرة عين من سعيد بن أسود( ).
التاسع : زمعة بن الأسود بن المطلب ، قتل يوم بدر كافراً ،هو وأخوه عقيل ، وابنه الحارث بن زمعة ، وهو من أزواد الركب الثلاثة الذين إذا سافر معهم شخص أو جماعة يتحملون مؤونتهم في السفر ، وهؤلاء الثلاثة هم :
أولاً : مسافر بن أبي عمرو بن أمية .
ثانياً : زمعة بن الأسود بن المطلب .
ثالثاً : أبو أمية عبد الله بن أبي أمية المخزومي ، وهو أشهرهم بهذا الكرم ، وكان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وذكر أن قوله تعالى [وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا* أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ] ( ) نزلت فيه ، ثم ما لبث أن خرج مهاجراً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح .
فلقيه وهو متوجه إلى فتح مكة فأعرض عنه النبي أكثر من مرة إلى أن دخل على أخته لأبيه أم سلمة ، وسألها أن تشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشفعها وأسلم وأحسن إسلامه.
عن أم سلمة قالت: دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها مخنث، وعندها أخوها عبد الله بن أبي أمية , والمخنث يقول لعبد الله: يا عبد الله بن أبي أمية إن فتح الله عليكم الطائف غدًا، فعليك بابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. قال: فسمعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لأم سلمة: “لا يدخلن هذا عليك”)( ) .
وفي رواية لا يدخلن هؤلاء عليكم أي المخنثون على النساء , والمخنث هو الذي في كلامه وسلوكه وفي قوله لين وينكسر في مشيته كالنساء ، وهو على قسمين :
الأول : ما كان اللين في أصل الخلقة ، ولا لوم عليه ، ولكن عليه أن يتغلب على هذه الأخلاق .
الثاني : الذي يتشبه بالنساء تصنعاً وعن قصد وتكلف ، وهو فعل قبيح ومنهي عنه ، وقيل كان المخنثون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة : مانع ، وهدم ، وهيت .
وابنة غيلان من أجمل نساء ثقيف ، وكان أبوها غيلان من رؤساء ثقيف ، وكان تحته عشر نسوة ، وعند اسلامه أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يختار أربعة منهن ، وعاش إلى أواخر أيام عمر .
ومنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخول المخنث على النساء بعد أن سمع كلامه وكان قبلها يدخل على النساء لعمومات قوله تعالى [أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ] ( )، لولا كلامه الذي دلّ على أنه يلتفت الى مفاتن النساء , والأربة الحاجة والشهوة والذي لا يلتفت إلى أحوال النساء عن عنة أو تخنيث في أصل الخلقة .
العاشر : حكيم بن حزام وهو ابن أخت خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من وجوه قريش ، ولد قبل عام الفيل باثني عشرة سنة ، ولم يسلم إلا عام الفتح ، وتوفى بالمدينة سنة أربع وخمسين وهو ابن مائة وعشرين سنة .
وكانت دار الندوة بيده (قال مصعب بن عبد الله: جاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام، فباعها بعد من معاوية بن أبي سفيان بمئة ألف درهم، فقال له عبد الله بن الزبير: بعت مكرمة قريش ؟ .
فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى يا ابن أخي، إني اشتريت بها داراً في الجنة، أشهدك أني قد جعلتها في سبيل الله.
وفي حديث آخر بمعناه: فتصدق بالمئة الألف درهم على المساكين.) ( ).
الحادي عشر : أبو جهل بن هشام ، وهو عمرو بن هشام وكان أبوه هشام بن المغيرة سيد بني مخزوم من كنانة في حرب الفجار ضد قبائل قيس عيلان .
وكان اسمه أبا الحكم ، وقيل دخل دار الندوة وعمره خمس وعشرون سنة .
ولما بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أظهر العداوة الشديدة له والمقترنة بالجهالة ، وأبو جهل هو صاحب الرأي ( بأن يأخذوا من كل قبيلة شاباً جليداً ويحملون السيوف الصارمة ليضربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضربة رجل واحد ، فيقتلوه ولا يستطيع بنو عبد مناف حرب قريش كلها فيرضون بالدية والعقل( ).
وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا جهل ، وقيل أن عمه الوليد بن المغيرة هو الذي سمّاه بهذا الاسم لسرعة غضبه وامتناعه عن الحلم والأناة ، لتكون هذه التسمية تحذيراً لقريش والناس من الإنصات له يوم بدر ، عندما أصرّ على القتال , وفي الطريق إلى المعركة وحينما وصل كتاب أبي سفيان بسلامة القافلة تعالت الأصوات في معسكر قريش بالرجوع إلى مكة لإنتفاء موضوع وعنوان الخروج والقتال ، ولكن أبا جهل أصرّ على المضي والتقدم حتى بلوغ ماء بدر ، والإقامة فيه ثلاثة أيام لإرسال رسالة إلى العرب عن قوة ومنعة قريش فاشار الأخنس بن شريق على بني زهرة بالرجوع ، فاطاعوه ، ولم يحضر زهري معركة بدر ، وكان عددهم ثلاثمائة رجل ، وكان اسمه أبي بن شريق ، فسمي الأخنس لأنه اخنس ببني زهرة( ).
وقيل أنه رجع ببني زهرة عندما تراءى الجمعان وأدرك أن المعركة واقعة لا محالة بسبب إصرار أبي جهل وجماعته , وكان الأخنس إنفرد يوماً بأبي جهل وهم في مكة .
فقال: يا أبا الحكم، أترى أن محمداً يكذب؟ فقال أبو جهل: كيف يكذب على الله، وقد كنا نسميه الأمين؛ لأنه ما كذب قط، ولكن إذا اجتمعت في بني عبد مناف: السقاية، والرفادة، والحجابة، والمشورة، ثم تكون فيهم النبوة، فأي شيء بقي لنا) ( ).
وكان أبو جهل في معركة بدر محاطاً بالأتباع والغلمان ويتعذر الوصول إليه فتطوع معاذ بن عمرو بن الجموح لقتله وهو شاب من الأمصار ولأنه سمع الكثير عن إيذاء أبي جهل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات ، وقتله سمية أم عمار ، تحت التعذيب , وهل هو من مقدمات ومصاديق قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، الجواب نعم ، فصحيح أن الآية أعلاه نزلت في واقعة أحد إلا أنه لا يمنع من تحقق مصاديقها قبل هذه المعركة .
فنفذ إليه من بينهم فأصابه وأسقطه أرضاً وتركه وفيه رمق ، وعندما انتهت المعركة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من يلتمس ابا جهل أي هل هو في القتلى ، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر عن مقتله قبل بدء المعركة ، ليكون هذا الإخبار زاجراً للذين كفروا عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم قال يوم بدر : ” من ينظر ما صنع أبو جهل ” فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد . وصح أيضا عن ابن مسعود أنه وجده يومئذ وبه رمق فأجهز عليه وأخذ سيفه فنفله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إياه ولمعاذ ابن عفراء) ( ).
الثاني عشر : نُبَيه بضم النون وفتح الباء بن الحجاج بن عامر السهمي كان هو وأخوه منبه من وجوه قريش وأمهما أروى بنت عميلة.
وكان الأعشى مداحاً لهم قال:
(لله در بني الحجاج إذ ندبوا … لا يشتكي فعلهم ضيف ولا جار
إن يكسبوا يطعموا من فضل كسبهم … وأوفياء بعقد الجار أحرار) ( ).
وقال الأعشى في مدح نبيه :
(إن نبيهاً أبا الرزام أفضلهم … حلماً وأجودهم، والجود تفضيل
ليس لفعل نبيه إن مضى خلف … ولا لقول أبي الرزام تبديل
ثقف كلقمان، عدل في حكومته … سيف إذا قام وسط القوم مسلول
وإن بيت نبيه منهج فلج … مخضر بالندى ما عاش مأهول
من لا يعر ولا يؤذي عشيرته … ولا نداه عن المعتر معدول) ( ).
وكان نبيه نديماً للنضر بن الحارث وقتلا يوم بدر كافرين ، وبنت نبيه بن الحجاج أم عبد الله بن عمرو بن العاص (وكانت تلطف برسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاها ذات يوم فقال: ” كيف أنت يا أم عبد الله؟ ” قالت: بخير. وعبد الله رجل قد ترك الدنيا… الحديث.) ( ).
قتل نبُيه وأخوه منبه في معركة بدر كافرين والذي قتل نبيه هو حمزة بن عبد المطلب ، وقيل اشترك معه في قتله سعد بن أبي وقاص .
الثالث عشر : منبه بن الحجاج ، وكان من أشراف قريش .
وللأعشى شعر في رثائهما بعد قتلهما مشركين .
وكان منبه شاعراً ، وتحكي بعض قصائده فقره ونقص ماله ، إذ سألتاه زوجتاه الطلاق .
(تلك عرساي تنطقان بهجر … وتقولان قول زور وهتر
تسألاني الطلاق أن رأتاني … قل مالي، قد جئتماني بنكر
فلعلي أن يكثر المال عندي … ويخلى من المغارم ظهري
ويرى أعبد لنا وجياد … ومناصيف من ولائد عشر
ويكأن من يكن لن نشب يحب … ب ومن يفتقر يعش عيش ضر
ويجنب يسر الأمور ولكن … ذوي المال حضر كل يسر) ( ).
ونسب الجاحظ قريباً من هذه الأبيات إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل( ) .
وقتل منبه يوم بدر كافراً قتله أبو اليسر أخو بني سلمة ، وقتل الإمام علي عليه السلام ابنه العاصي وتكرر في واقعة بدر قتل الابن مع أبيه من الكفار يومئذ ، والظاهر أن الابن يذب ويدافع عن أبيه ، فيقتل دونه والأولى طاعة الله ورسوله ، وتقدمها على بر الوالد إن كان كافراً محارباً لله ورسوله ، قال تعالى [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ) .
الرابع عشر : أمية بن خَلَف ، وكان شديداً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحينما علمت قريش بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعجزت عن قتله ليلة المبيت ارسلوا في كل جهة يتبعون أثره ، وجعلوا مائة بعير لمن يرده عليهم وانتهى جماعة منهم إلى فم الغار ، وكانت العنكبوت قد ضربت على بابه .
قال قائل منهم: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: ما أربكم في الغار؟ إن عليه لعنكبوتاً أبعد من ميلاد محمد) ( ).
وكان أمية بن خلف يعذب بلالاً في مكة ويريه الأذى والمكروه ، وكان يتجنب الخروج إلى بدر ، وأجمع على القعود وهو شيخ جسيم ، ولأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رد عليه تهديده ووعيده وشدة ايذائه له بأن اكتفى بتوعده بقتله إن وجده خارج الحرم ، ولكن عقبة بن أبي معيط جاء بمجمرة فيها نار إلى أمية وعيّره بأنه كالمرأة في قعوده ( )، فخرج معهم ، وقتله بلال وجماعة يوم بدر ، وقيل قتله خبيب بن يساف ، والاول أصح ، وقتل يومئذ معه ابنه علي ، وبه كان يكنى قتله عمار بن ياسر ، وابنه الآخر صفوان جاء مع جيش المشركين في معركة أحد ، ومرّ على الصحابي خارجة بن زيد وقد أخذته الرماة ، وفيه بضعة عشر جرحاً ، فعرفه صفوان فاجهز عليه وقتله ومثّل به ، وقال (هذا ممن أغرى بأبي علي يوم بدر)( )، يريد أنه أغرى بأبيه أمية بن خلف ، وهو الذي اشترى الصحابي زيد بن الدثنة في السنة الرابعة فقتله.
وكان صفوان من أشراف قريش وكانت بيده الأيسار أي الأزلام وهرب صفوان بن أمية يوم فتح مكة .
وجاء توثيق فراره بلحاظ أنه من فرسان وشجعان قريش على لسان شاعر يعتذر لزوجته ويبين لها أنه إذ فرّ وانهزم صفوان وعكرمة بن أبي جهل فمن باب الأولوية أن يفر وهو الذي قام باعداد سلاحه عندما سمع بقرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ، وظن أنه قادم مثل قدومه في عمرة القضاء من غير أسلحة ، وقال حسان بن قيس لامراته :
(إني لأرجو أن يخدمك الله منهم فإنك محتاجة إلى خادم فخرج فلما أبصرهم انصرف حتى أتى بيته فقال: أغلقي الباب فقالت له: ويحك فأين الخادم ؟ وأقبلت تلومه فقال :
وأنت لو شهدت يوم الخندمة … إذ فر صفوان وفر عكرمة
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة … يقطعن كل ساعد وجمجمه
ضربا فلا تسمع إلا غمغمه … لم تنطقي باللوم أدنى كلمه) ( ).
ثم رجع صفوان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشهد معه حنيناً والطائف ، وهو كافر والحق بالمؤلفة قلوبهم ثم أسلم وامرأته اسلمت قبله يوم الفتح ، وأقرا على نكاحهما .
وعن الإمام الباقر عليه السلام كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يناديه : يا أبا أمية ) ( ) مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يحمل ضغائن على الأبناء بسبب إيذاء آبائهم الكفار له ، ولا يمتنع عن أن يخاطب الابن بكنيته التي قد تذكر بأبيه أبا أمية مع أن اباه أمية بن خلف من أكثر الكفار إيذاءًً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكما قتل أمية في معركة بدر فان أخاه أبي بن خلف قتله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد بالخدش بالرمح بعد أن أصر على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم يكن هؤلاء الأربعة عشر من وجوه قريش هم الذين حضروا الإجتماع في دار الندوة وحدهم بل حضر غيرهم ممن هو ليس من قريش ، كما دخل عليهم إبليس بهيئة رجل من نجد , والذي أنصت لآرائهم وما يمكرون به وأخذ يخطئهم فيما يقولون ليدفعهم إلى العزم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يزال في مكة لم يهاجر بعد .
وهل هذا الإجتماع من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ] ( ) الجواب نعم ليكون من إعجاز هذه الآية بلحاظ المصداق العملي نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كيد الشيطان وأعوانه .
واستعرض رجالات قريش أموراً :
الأول : إعلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه نبي ورسول من عند الله ، وفي التنزيل [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ) .
الثاني : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتوحيد ومحاربته للأصنام وعبادتها ، ونهيه عن إتخاذها وسائط , فهي لا تنفع ولا تضر.
الثالث : تسفيه أحلام قريش ، وذم آبائهم الذين غادروا الدنيا على عبادة الأصنام .
الرابع : دخول طائفة من أهل مكة الإسلام .
الخامس: امتناع الذين دخلوا الإسلام عن تركه ، وعن الإرتداد حتى مع التعذيب الشديد .
السادس : إتصاف الذين دخلوا الإسلام بخصوصية وهي إجتماع الضدين من جهة الحال والهيئة , فتجد فيهم الغني والفقير، والشريف وغيره، والحر والعبد يلتقون في صفوف الصلاة بشوق ومعاني الأخوة الإيمانية.
السابع : دخول النساء في الإسلام مع علمهن بنهي قريش وتعذيبهم للذين أسلموا ذكوراً كانوا أو أناثاً .
الثامن : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القبائل في موسم الحج إلى الإسلام وإلى التوحيد إذ كان يطوف عليهم في منازلهم في منى ، وكان لكل قبيلة منزل مخصوص كل عام ، وهو يردد قولوا (لا إله إلا الله تفلحوا).
وعن جمع من المؤرخين (قَالُوا : أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِمَكّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ مِنْ أَوّلِ نُبُوّتِهِ مُسْتَخْفِيًا ثُمّ أَعْلَنَ فِي الرّابِعَةِ فَدَعَا النّاسَ إلَى الْإِسْلَامِ عَشْرَ سِنِينَ يُوَافِي الْمَوْسِمَ كُلّ عَامٍ يَتّبِعُ الْحَاجّ فِي مَنَازِلِهِمْ وَفِي الْمَوَاسم بِعُكَاظٍ وَمَجَنّةَ وَذِي الْمَجَاز ِ, يَدْعُوهُمْ إلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ حَتّى يُبَلّغْ رِسَالَاتِ رَبّهِ وَلَهُمْ الْجَنّةُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَلَا يُجِيبُهُ حَتّى إنّهُ لَيَسْأَلُ عَنْ الْقَبَائِلِ وَمَنَازِلِهَا قَبِيلَةً قَبِيلَةً وَيَقُولُ يَا أَيّهَا النّاسُ.
قُولُوا : لَا إلَهَ إلَا اللّهُ تُفْلِحُوا وَتَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَبَ وَتَذِلّ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ فَإِذَا آمَنْتُمْ كُنْتُمْ مُلُوكًا فِي الْجَنّةِ.
وَأَبُو لَهَب ٍ وَرَاءَهُ يَقُولُ لَا تُطِيعُوهُ فَإِنّهُ صَابِئٌ كَذّابٌ , فَيَرُدّونَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَقْبَحَ الرّدّ وَيُؤْذُونَهُ وَيَقُولُونَ أُسْرَتُك وَعَشِيرَتُكَ أَعْلَمُ بِكَ حَيْثُ لَمْ يَتّبِعُوك وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ وَيَقُولُ اللّهُمّ لَوْ شِئْتَ لَمْ يَكُونُوا هَكَذَا) ( ).
ولا يعلم منافع دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه للقبائل في موسم الحج إلا الله عز وجل وهي على وجوه :
الأول : بيان وظائف النبوة في التبليغ ، وعدم الملازمة بين التبليغ والأمن أو بينه وبين الهجرة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ) لتأكيد الملازمة بين بدايات الوحي وبين قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبشارة والإنذار ، وكل آية من القرآن هي بشارة وإنذار.
الثاني : تهيئة أذهان الناس لدخول الإسلام ، فليس كل دعوة من نبي إلى فرد أو جماعة تؤدي في الحال إلى دخولهم الإسلام .
الثالث : قيام رجال القبائل بنقل أنباء ومعجزات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهليهم وقبائلهم ، فيدخل أناس الإسلام وهم لم يروا النبي محمداً ، ولم يسمعوا منه ، وهو من المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الرابع : دعوة الناس للسؤال عن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتفكر فيها .
الخامس: بعث الشوق في النفوس للإنصات للقرآن ، والتدبر في آياته .
ولم يكتف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنداء التوحيد بل كان يزور القبائل في منازلها في منى ، وفي أسواق موسم الحج مثل سوق عكاظ ومجنة ويتلو عليهم القرآن ويدعوهم للإسلام ، ويطلب منهم أن يكتموا عليه ، وهذا الكتمان ليس للخشية من كفار قريش وحده ، بل لإشراك القبائل في دعوته , وحثهم على الميل إلى كفة الإيمان .
وهل كان إجتماع قريش في دار الندوة الذي حضره إبليس هو الوحيد الذي عقدوه لمواجهة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام ، الجواب لا ، إذ تكررت إجتماعاتهم وتشاورهم في كل من :
أولا : عند البيت الحرام خاصة عند رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي ، قال أبو رافع قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم أول يوم الاثنين وصلت خديجة رضى الله عنها آخر يوم الاثنين وصلى على يوم الثلاثاء من الغد( ).
ثانياً : دار الندوة ، والتي بناها جدّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو قصي بن كلاب.
ثالثاً : في بعض دور كبار رجالات قريش .
رابعاً : حال السفر والسير في قوافل التجارة سواء إلى الشام أو إلى اليمن .
خامساً : عند بلوغ قريش دخول جماعة الإسلام دفعة .
سادساً : حال الجدال مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
سابعاً : عند سماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو آيات القرآن ، وما فيها من الإنذار والتخويف والوعيد ، قال تعالى [وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا] ( ).
السادس : سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقبائل أن يؤوه، ويذبوا عنه ، ويكفوه وآيات التنزيل شر كفار قريش فان قلت إن الله عز وجل هو الذي أراد نزول آيات القرآن إلى أن يتم نزولها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره من الناس فلابد أن يحفظه ، ويجعل آيات القرآن تصل إلى الناس لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] ( ) .
الجواب دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه للقبائل من مقدمات التبليغ والحفظ وإرادة الثواب للذين يستجيبون لطلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من أظهر الندم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونصره على التخلف عن ايوائه .
وجاءت الآية أعلاه بصيغة الماضي لبيان مصاحبة التبليغ للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى حين مفارقته الدنيا ، وهو لا يتعارض مع المعنى الخاص للآية أعلاه من جهة أسباب النزول .
(عن عدي بن ثابت عن البراء قال : لما نزلنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع كنّا بغدير خم فنادى إن الصلاة جامعة وكسح رسول اللّه عليه الصلاة والسلام تحت شجرتين وأخذ بيد علي،
فقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا : بلى يا رسول اللّه،
قال : ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟
قالوا : بلى يا رسول اللّه،
قال : هذا مولى من أنا مولاه , اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه.
قال : فلقيه عمر فقال : هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة) ( ).
والمدار على عموم المعنى وليس على أسباب النزول وأن تعددت .
السابع :إقامة الحجة على الناس عند دعوة كفار قريش لهم بالخروج لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربته للإمتناع عن الإستجابة لهذه الدعوة ، ليكون نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتوحيد في شعاب مكة أيام موسم الحج من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) خاصة وأن قريشاً عجلوا بالقتال وتلاحم الفريقين لأنهم أدركوا قانوناً وهو إزدياد عدد المسلمين باطراد ، فارادوا التعجيل بالإجهاز على النبوة والصحابة الأوائل من المهاجرين والأنصار ، فتقدمت دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقبائل ، لتكون واقية وحرزاً من نصرتهم لكفار قريش.
ومن الآيات في المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعوهم إلى التوحيد ، وهو سور الموجبة الكلية الذي تؤمن به كل الأديان السماوية ، والذي تتقوم به الحنيفية الإبراهيمية وبقاؤها ، بمعنى أن هذا البقاء هو الآخر يتقوم بمبادئ التوحيد .
ومن الإعجاز قيام إبراهيم وإسماعيل ببناء البيت الحرام لقوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ) .
الثامن : تثبيت مفاهيم التوحيد في الأرض ، لتكون عبادة الأصنام عرضاً زائلاً يدرك عامة الناس زيفه وبطلانه ، حتى إذا ما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم سلّم , أدرك عامة الناس سفاهة الذين يتقربون إلى الأوثان ، ومن معاني دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القبائل سبق هذا التسليم .
الوجه الثاني : صلة آية البحث بقوله تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] ( ) وفيه مسائل:
المسألة الأولى : جاءت آية السياق بصيغة الجملة الخبرية التي تتضمن المدح والثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار الذين خرجوا معه إلى حمراء الأسد ، وهم مثقلون بالجراحات الشديدة مع الإخبار برجوعهم إلى المدينة سالمين بفضل ونعمة من عند الله عز وجل .
وابتدأت الآية بحرف العطف الفاء الذي يفيد التعقيب وعدم الإبطاء ، وبيان قانون وهو ليس من فترة بين خروجهم من المدينة وعودتهم في حساب الأعمار والتأريخ ، وبقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ثلاثة أيام في حمراء الأسد والتي كانت تبعد عن المدينة نحو اثني عشر كيلو متراً ، وإذا ما قلنا أن كلاً من الذهاب من المدينة والإياب إليها استغرق يوماً واحداً ، فتكون المدة المستغرقة للخروج إلى حمراء الأسد خمسة أيام ، ويسمى هذا الخروج في كتب السيرة والتأريخ غزوة حمراء الأسد .
والمختار عدم صدق اسم الغزوة عليها من وجوه :
الأول : خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لملاحقة جيش الذين كفروا الذين قاتلوه في معركة أحد وبعد وصول أنباء عن عزمهم الرجوع والكرة مرة أخرى على المدينة ، وهذه العودة ليس للقتال وحده، ولكن لإرادة غزو المدينة .
الثاني : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المدينة لحمراء الأسد فرع معركة أحد التي هي إنما غزوة من قبل المشركين للمدينة وأهلها .
الثالث : كان الخروج الى حمراء الأسد طاعة لله عز وجل فكتب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين السلامة في هذه الخروج قال سبحانه بخصوصه [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ…]( ).
الرابع : كان عدد المسلمين الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائتين ونيف وهو أقل من ربع عدد جيش المشركين وكأنه من مصاديق قوله تعالى [إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ).
وليكون من مصاديق الغلبة التي تذكرها الآية أعلاه أن جيش المشركين مع كثرته عجل بالسير نحو مكة هرباً حالما سمع بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الجرحى .
وهل يمكن احتساب هذا الهروب أمارة على عدم تحقيق كفار قريش النصر في معركة أحد وعلى عدم هزيمة المسلمين فيها , الجواب نعم .
ومن الآيات أن قائد الجيش أبو سفيان بن حرب هو نفسه الذي كان رئيساً للقافلة التي كانت سبباً لغزو المشركين للمدينة فعجل سير القافلة وغير مسارها إلى مكة لتنجو من تعرض المسلمين لها ، وان لم يثبت هذا التعرض ، وكذا كان قائد الجيش في معركة أحد هو أبو سفيان على ما هو شائع .
وتعقب النبي المشركين فعجل جيشهم الخطى .
ليتضاد هذا الفعل مع دعواهم النصر في معركة أحد ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ظاهر يومئذ بين درعين للوقاية والإحتراز .
وقامت هند بنت ربيعة زوجة أبي سفيان وصواحبها بالتمثيل بأجساد الشهداء ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] ( ) مواساة المسلمين والمسلمات على فعل المشركات هذا وتمثيلهن بالشهداء ، إذ جدعن الأنوف والآذان وصنعن منها قلائد ، وقامت هند ببقر بطن حمزة بن عبد المطلب ولاكتها ولم تسغها، وضرب زوجها أبو سفيان شدق حمزة بطرف الرمح , قال ابن اسحاق : وكان الحليس بن زيان أخو بنى الحارث بن عبد مناة – وهو يومئذ سيد الاحابيش – مر بأبى سفيان وهو يضرب في شدق حمزة بن عبدالمطلب بزج الرمح ويقول: ذق عقق ! فقال الحليس: يا بنى كنانة، هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما ، فقال: ويحك اكتمها عنى فإنها كانت زلة ( ).
وقد صعد أبو سفيان الجبل (وصرخ بأعلى صوته: الحرب سجال، يوم بيوم بدر، أعل هبل، أي ظهر دينك، ولما انصرف أبو سفيان ومن معه، نادى إِنَّ موعدكم بدراً العام القابل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لواحد قل: ” هو بيننا وبينكم ” . ثم سار المشركون إِلى مكة) ( ).
وإذ ذكرت آية البحث إنقلاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة بعز وفخر وتشريف من عند الله بالسلامة ونزول آية السياق ، فان الذين كفروا انقلبوا من معركة أحد بالكبت والذل والخزي ، بدليل قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
فان قلت قد خسر المسلمون سبعين قتيلاً بينما لم يفقد المشركون , يومئذ إلا اثنين وعشرين كما عن ابن اسحاق( )، فهل يحق للذين كفروا التفاخر بهذا التباين ، الجواب لا ، من وجوه :
الأول : كان المشركون يهددون ويتوعدون لأكثر من سنة ، فمن حين انقضاء معركة بدر وهم في طريق العودة منها إلى مكة خططوا للإنتقام والبطش وإعادة الكرة بالهجوم والغزو حتى إذا ما وصلوا إلى مكة واجتمعوا مع الذين تخلفوا عن المعركة من اشرافها قرروا ما يأتي :
أولا : إبقاء التجارة والبضائع التي في قافلة أبي سفيان على حالها من غير أن تفرق على أهلها ، ثم سألوهم لجعلها في نفقة القتال في معركة أحد ، فرضوا بالأمر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ] ( ).
ولم تكن تلك البضائع قليلة بل كانت كثيرة وذات قيمة إذ كان مجموع عير القافلة ألف بعير ، وكان في البضاعة الذهب والفضة .
وفيه شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد الغزو في معركة أحد ، وأن المشركين هم الذين سعوا وبذلوا الأموال وعطلوا أعمالهم من أجل معركة أحد ، نعم يصدق عليها غزوة بالنسبة لقيام المشركين بها ، أما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فكانوا في حال دفاع ، ولم يستعدوا لهذا الدفاع بشراء الأسلحة والدروع والمؤن ، والتدريب اليومي المستمر ، كما حال الجيوش في هذا الزمان إذ يتعاهدون التدريب اليومي على فنون وأسلحة القتال .
وكان إنشغال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالفرائض وتثبيت معالم الإيمان وأحكام الحلال والحرام ، ليكون هذا التباين في الإستعداد لمعركة أحد من عمومات قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
ثانياً : منع أهل مكة من البكاء على قتلى معركة بدر ليلاً للزجر عن أسباب تثبيط العزائم وخشية إظهار أهل مكة الإستياء من قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإعلانهم لقانون وهو عجز الكفار عن الوصول إليه ، لأن الله عز وجل معه ، قال تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ]( )، لبيان أن الله هو الذي يعيده سالماً إلى المدينة .
ثالثاً : الطواف على القبائل المحيطة بمكة لنصرة قريش في حربها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن أكثر هذه القبائل تربطها مع أهل مكة أحلاف وعهود ، وكانت قريش تحتاج هذه المواثيق والأحلاف لضمان سلامة طريق تجارتها ، كما تحتاجها القبائل لدخولها المستمر إلى مكة للحج والعمرة والتسوق ، ولمنزلة قريش عند العرب.
رابعاً : الإغداق على الشعراء وإلقاء القصائد الحماسية التي تبعث الحمية والرغبة في القتال ، والقصائد التي تتضمن التعريض بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ومنهم من صار ينظم القصائد التي تشبب بنساء المسلمين .
خامساً : التمرين على القتال ، والتهيئ للقاء المسلمين .
سادساً : شراء الخيل والرواحل والسيوف والرماح للقتال
سابعاً : الإغراء والوعد للعبيد والشعراء والغلمان إذا ما قاتلوا المسلمين ، كما في وعد ابنة الحارث بن نوفل لوحشي بن حرب إذ قالت له : إن أبي قتل يوم بدر، فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فأنت حر؛ إن قتلت محمداً أو حمزة أو علي بن أبي طالب( ).
الثاني : لا يحق لكفار قريش التفاخر بقلة قتلاهم في معركة أحد بالقياس إلى قتلى المسلمين السبعين ، لأمور :
أولاً : كثرة جيش المشركين ، وقلة عدد المسلمين، والمتبادر أنه مع الكثرة في العدد والعدة والسلاح يأتي النصر والغلبة ، ولكن الذي وقع في معارك الإسلام الأولى بخلافه.
ثانياً : لقد خرج المشركون من مكة إلى معركة أحد وهم يتوعدون ، ويتعهدون بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أو جلبهم أسرى إلى مكة خصوصاً المهاجرين منهم ، فغادروا بالخيبة والخسران .
ثالثاً : من وجوه الإحتجاج على المشركين قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، وهل من مصداق لهذه الخيبة في الواقع العملي ، الجواب نعم لبيان قانون وهو يدرك الناس جميعاً هذه الخيبة حتى ذات الكفار أنفسهم ، فلا يعلم حال الخزي والقنوط التي دخلوا فيها مكة عند عودتهم من معركة أحد إلا الله عز وجل ، إذ ظهر التلاوم بينهم وهم في الطريق وعند الروحاء وقالوا : لا محمداً أصبتم، ولا الكواعب( )، أردفتم، فبئس ما صنعتم( ).
الثالث : عجز مشركي قريش عن تحقيق أي غاية من غاياتهم الخبيثة لبيان قانون من فضل الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً ، واشراقة من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، فمن الإطلاق في ملك الله عز وجل للسموات والأرض جعل الكفار عاجزين عن بلوغ أغراضهم وغاياتهم التي لا ترمي إلا الى بقاء وإشاعة مفاهيم الكفر والضلالة ، ليكون عجزهم هذا مقدمة ونوع طريق لتعاهد عبادة الناس لله عز وجل في الأرض ، قال تعالى[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
المسألة الثانية : لقد إبتدأت آية البحث بنهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن على الذين كفروا وتضمنت آية السياق وجوهاً ومعاني من مصاديق عدم الحزن على الذين كفروا منها إخبار آية السياق عن إنقلاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من حمراء الأسد سالمين الى المدينة ، لتدل الآية بالدلالة التضمنية على أمور :
أولاً : انقلاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سالمين من معركة بدر .
ثانياً : صبغة الأمن والدعة لحياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المدينة المنورة بين معركة بدر وأحد ، وكل إنسان يدرك أن قريشاً لن يسكتوا على خسارتهم والذل الذي لحقهم في معركة بدر ، ولم تؤد هذه الحقيقة إلى دبيب الحزن والخوف في قلوب النبي وأصحابه الذين كانوا منقطعين الى ذكر الله ، ومتعاهدين للتوكل عليه في حال الرخاء والشدة ، والسراء والضراء.
ثالثاً : سلامة نفوس ومجتمعات المسلمين من الخوف أو الفزع من الذين كفروا من مصاديق النعمة التي ذكرها الله في آية السياق بقوله تعالى[فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ]( ).
رابعاً : انقلاب وعودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من معركة أحد سالمين ، فان قلت قد رجعوا والجراحات تتغشاهم ، الجواب هذا صحيح ، وهو لا يتعارض مع السلامة من الموت والقتل ، ويدل على السلامة هذه خروجهم الى حمراء الأسد في اليوم التالي لمعركة أحد ، ونزل قوله تعالى[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ) .
وفي قوله تعالى[لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا] قيل يعني احسنوا بطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأجابوه الى الغزو واتقوا معصيته( )، ولكن ليس من غزو في خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد ، ولم يقصدوا بلدة أو قبيلة أنما خرجوا لإشعار كفار قريش بصبر وبمنعة المسلمين وان كثرة عدد الشهداء منهم ، وشدة الجراحات عندهم لم تمنعهم من الخروج خلف العدو في اليوم التالي.
خامساً : عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من حمراء الأسد سالمين لم يلقوا قتالاً ، وهو نعمة عظمى من وجوه :
أولاً : تجلي مصداق لقانون يحكم الحياة الدنيا , وهو أن عودة الجيش من غير قتال نعمة عظمى عليهم وعلى غيرهم ، وهو الذين يتجلى من مفهوم قوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( )،.
فكما في معاني قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) إذ أن في القصاص نجاة وسلامة من وجوه :
الأول : نجاة الذي ينوي القتل .
الثاني : سلامة الذي يراد قتله ، فمتى ما علم الذي يريد القتل أنه يقاد بالمقتول فانه يتجنب القتل حتى ولو خفية لخشية إنكشاف أمره ، قال تعالى [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ] ( ).
الثالث : من الحياة التي تذكرها الآية أعلاه السكينة ودفع الحزن عن أهل القاتل والذي ينوي قتله ، فكما تحزن أسرة وأهل المقتول فان أسرة وأهل الذي يشرع بالقتل يحزنون عليه سواء سُجن أو قُتل أو بقي هارباً وحياة السكينة والدعة تطيل العمر ، وهي برزخ دون كثرة الأمراض ، والفتن فتفضل الله عز وجل ودفع هذا الحزن عن الناس .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ]( )، الجواب نعم والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، إذ أن موضوع القتل أعم من ساحة لمعان السيوف .
ومن معاني [الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] قيام المشركين بقتل طائفة من المهاجرين والأنصار في معارك الإسلام الأولى بدر ، أحد ، الخندق ، حنين ، وغيرها من الوقائع ، وقتل الكفار بعض سرايا القراء الذين مروا على ديارهم في طريقهم للتبليغ ، كما في سرية تعليم القرآن في صفر من السنة الرابعة للهجرة وعددهم ستة , على قول , وقتلتهم عضل والقارة .
وكما في سرية بئر معونة ، إذ قتل (38) من الصحابة غدراً وسيأتي في الأجزاء التالية بيان هذا الوقائع تفصيلاً وكيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً.
الرابع : المراد من الحياة الإيمان والصلاح , قال تعالى [أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ]( )، ففي حكم القصاص صلاح النفوس ، ومانع من الخوف والفزع أو الإنشغال بالفتن والعداوات .
ومنع القتل والإقتتال سبب لعمارة الأرض بصلاة الجماعة ، ووقوف المسلمين في صفوف متراصة متآخين ليس في قلوب بعضهم غلّ على بعضهم الآخر .
الخامس : من معاني الحياة في المقام العلم والتحصيل ، والنفقة في الدين.
السادس : القدرة والعمل والسعي والضرب في الأرض للكسب ، إذ أن القتل يؤدي الى الثارات فقد كان العرب ينتظرون أشهر الحرم كي يدخلوا الأسواق ويسافروا في الأرض .
فكل أفراد قبيلة يخشون قتلهم بسبب ثأر لقبيلة أخرى مع أن القاتل معروف ، فجاء الإسلام بحصر القصاص بشخص القاتل , وقال تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( ) ، وليعم السلام أرجاء الجزيرة في الأشهر الحرم وغيرها من أشهر السنة .
السابع : من معاني قوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ]( )، عفو ولي المقتول عن القاتل ، أو تبدل الدية منه ، وقال تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ).
الثامن : إنحصار القصاص بالقتل العمد فليس في قتل الخطأ قصاص , إنما فيه الدية بينما كان بعض المشركين يثأر حتى في القتل الخطأ .
التاسع : من الحياة التوالد والتكاثر ، فالذي لا يقتل يتزوج ويولد له في الغالب .
العاشر : من معاني الحياة البقاء ، ففي حكم القصاص والتخويف به إستدامة للإسلام وعمارة المسلمين الأرض بالعبادة ، وعدم إنخرام حياة بعضهم بالقتل .
لقد حارب المشركون من قريش وحلفاؤهم وأتباعهم النبوة والتنزيل وكانت هذه المحاربة متعاقبة وسريعة ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ]( ).
فيحزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشدة محاربتهم له ، وإنتفاء أسبابه ومناجاة الذين كفروا بقتاله وإرادة قتله ، فجاءت آية البحث للبشارة بسلامته من القتل .
الحادي عشر : من معاني الحياة في آية القصاص أعلاه الأجر والثواب والسعادة في الآخرة بالإقامة في الجنة .
وقال بشر بن الحارث : رأيت علياً في المنام فقلت : يا أمير المؤمنين قل لي شيئا ينفعني الله به قال : ما أحسن عطف الأغنياء على الفقراء رغبة في ثواب الله تعالى وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بوعود الله فقلت : يا أمير المؤمن زدني فولى وهو يقول :
( قد كنت ميتا فصرت حيا … وعن قليل تصير ميتا)
( فاخرب بدار الفناء بيتا … وابن بدار البقاء بيتا)( ).
وتجلت مسارعة الذين كفروا في المقام من وجوه :
الأول : ذات الإقامة على الكفر من المسارعة فيه .
الثاني : تسخير كفار قريش أموالهم التي في قافلة أبي سفيان وغيرها لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وامتناعهم عن إعانة الفقراء من المسارعة في الكفر .
وعن عبد الرحمن السليماني مولى عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتّى يفرغ منها ثم ردّوا عليه بوقار ولين أو بذل يسير أو بردَ جميل فإنّه قد يأتيكم مَنْ ليس بأنس ولا جان ينظرون كيف صنيعتكم فيما خوّلكم الله عزّ وجلّ ( ).
وذكر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصة ثلاثة أملى الله عز وجل لهم بالمال الوفير مع شفائهم من عاهاتهم ثم امتحنهم إذ قال : إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص ( )، وأقرع وأعمى فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال أي شيء أحب إليك فقال لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس قال فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا .
قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال الإبل – أو قال البقر – شك إسحاق- إلا أن الأبرص أو الأقرع قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر – قال فأعطي ناقة عشراء ( )، قال بارك الله لك فيها .
قال فأتى الأقرع فقال أي شيء أحب إليك قال شعر حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس قال فمسحه فذهب عنه قال فأعطي شعرا حسنا.
قال فأي المال أحب إليك قال البقر فأعطي بقرة حاملا قال بارك الله لك .
فيها قال فأتى الأعمى فقال أي شيء أحب إليك قال أن يرد الله بصري فأبصر به الناس قال فمسحه فرد الله إليه بصره قال : فأي المال أحب إليك قال الغنم فأعطي شاة والدا فأنتج هذان وولد هذا .
قال فكان لهذا واد من الإبل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم قال ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته ( )، فقال رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله وبك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري .
فقال له الحقوق كثيرة .
فقال له كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله فقال : إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر .
فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت .
قال وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا ورد عليه مثل ما رد على هذا فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت .
قال وأتى الأعمى في صورته وهيئته ( ).
فقال رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري.
فقال قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم شيئا أخذته لله فقال أمسك مالك فإما ابتليتم فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك( ).
أي أن الملك الذي نزل من السماء مسح على كل من الأبرص والأقرع والأعمى فأذهب الله عنهم تلك العاهات ، وكثرت أموالهم ، فعاد الملك الى كل واحد منهم بذات الهيئة التي كانوا عليها، فجاء الملك بهيئة الأبرص للذي كان أبرص وبهيئة الأقرع لمن كان أقرع , وسألهما الصدقة فامتنعا وأنكرا كونهما على ما هو عليه من البرص والقرع ، فأعادهما الله إلى هيئتهما السابقة وحال الفقر التي كانا عليها لقول الملك (فصيرك الله إلى ما كنت) .
أما الأعمى فلم يسأل الملك وهو بهيئة الأعمى المسكين عن البينة بأنه ابن سبيل يستحق الصدقة ، ولم يكتف باعطائه شاة واحدة بحسب سؤاله ، إنما قال له خذ ما شئت ، فأخبره الملك بنجاحه في هذا الإبتلاء .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الإمتحان واختبار ويزداد الإنسان بالإيمان بصيرة ، وتسهل عليه الأمور ، وملمات المسائل ، ويميل شوقاً الى مساعدة الفقراء والمساكين ، وتنفر نفسه من الظلم ، قال تعالى[مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
ثانياً : نزول آيات قرآنية توثق هذه عودة وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من خروجهم إلى حمراء الأسد وهل منها آية البحث والسياق ، الجواب نعم .
وهذه الآيات هي [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] ( ).
وتقدير هذه الآيات على وجوه :
أولاً : [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ] ونداء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الخروج إلى حمراء الأسد .
ثانياً : الذين استجابوا لله والرسول ) مع شدة جراحاتهم .
ثالثاً : الذين استجابوا لله والرسول ) مع كثرة جيوش الذين كفروا ووعيدهم وتهديدهم بالرجوع والإنقضاض على المسلمين .
رابعاً : الذين استجابوا لله والرسول لإدراكهم وجوب هذه الإستجابة.
خامساً : الذين استجابوا لله والرسول للتسليم بالملازمة بين طاعة الله وطاعة الرسول وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يناد بالخروج إلى حمراء الأسد مع شدة جراحاتهم وأهل بيته وأصحابه إلا بالوحي من عند الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] ( ).
سادساً : الذين استجابوا لله والرسول لا يخافون من أولياء الشيطان .
سابعاً : الذين استجابوا لله والرسول يخافون من الله عز وجل .
ثامناً : الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح لا يخافون أولياء الشيطان ، إنما يخافون الله عز وجل .
المسألة الثالثة : لقد أخبرت آية السياق عن إنقلاب وعودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه إلى المدينة بنعمة ولطف وفضل من الله عز وجل ، وقد يتأسى ويحزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الذين كفروا لضلالتهم وإصرارهم على الجحود بالمعجزات فنزلت آية البحث لتمنع من الحزن عليهم ، وتدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة إلى العمل بأحكام الشريعة [وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ] ( ).
ولما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد من غير خوف من جيش الذين كفروا فمن باب الأولوية أنهم لا يخافون عند إنقلابهم وعودتهم إلى المدينة .
ليكون من مصاديق النعمة من الله في قوله تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ] ( )أمور :
الأول : نزول آية السياق والبحث .
الثاني : إخبار الآية السابقة عن قيام الشيطان بتخويف الذين كفروا عن بعد ، وهل منه الإرتقاء العلمي في تسيير الأشياء بواسطة محرك عن بعد وما يسمى (Remote) أو (Remote Control) أي التحكم البعيد ، الجواب لا ، لأن هذا التحكم أمر علمي حسي يتقوم بالأثر والتأثير ، أما أوامر الشيطان فلا أثر أو تأثير حسي أو وجداني لها .
الثالث : الخروج من المدينة والعودة إليها من غير خوف من الذين كفروا.
الرابع : السلامة والنجاة من وقوع قتال بين المؤمنين والذين كفروا .
الخامس : من إعجاز آية السياق مجيؤها بالسلامة العامة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بقوله تعالى [لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ] ( ) والمراد أمور :
أولاً : السلامة من القتال .
ثانياً : عدم مضاعفة الجراحات وآلامها بسبب السفر خاصة وأن بعضهم كان محمولاً على الراحلة .
ثالثاً : النجاة من هجوم ومباغتة رجال القبائل .
رابعاً : الوقاية من النفاق .
خامساً : سلامة المدينة وأهلها من شرور القوم الظالمين والمنافقين ، وتقدير الآية : لم يمسسهم سوء بأهليهم وبيوتهم .
لقد سعى المنافقون لقعود الصحابة وعدم الخروج إلى معركة أحد ، ولما لحقت المسلمين خسارة فادحة فيها ، وقتل سبعون منهم ، وكثرت الجراحات في عموم المهاجرين والأنصار إزدادت أراجيف المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، كما ورد في التنزيل[الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
فتفضل الله عز وجل وأخبر عن خيبة الذين نافقوا بأن رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سالمين .
سادساً : نجاة المسلمين من الهزيمة في معركة أحد ، التي لم يقصدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون ، ولم يسعوا إليها ، إنما كانوا في حال دفاع عن النبوة والتنزيل والمدينة وأهلها من المؤمنين والمنافقين وأهل الكتاب , والذين بقوا على كفرهم من أهلها .
لدفع الذين كفروا من قريش وحلفائهم واتباعهم عن استباحتها ، وورد حكاية عن بلقيس ملكة سبأ في التنزيل [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً] ( ).
وتدل الآية أعلاه على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليس ملكاً لأنه إذا دخل قرية جعل أهلها أعزة ودفع عنهم الذل في النشأتين بدخولهم الإسلام ، ليكون من مصاديق آية السياق مصاحبة النعمة والفضل الإلهي للمسلمين في عودتهم من ميدان القتال .
ومن الإعجاز أن بين النعمة والفضل في العودة من هذه المعارك والكتائب عموماً وخصوصاً من وجه ، فهناك نعم تتغشى المسلمين في كل مرة يعودون فيها إلى المدينة ، وهناك نعم خاصة بالعودة من كل معركة منها.
وهل إنقطعت تلك النعم بانقضاء أوان وأثر تلك المعارك ، الجواب لا ، إذ تبقى هذه النعم مصاحبة للمسلمين إلى يوم القيامة ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : فانقلبوا من معركة بدر بنعمة عليهم ، وعلى التابعين وأجيال المسلمين إلى يوم القيامة ، وهو الأمر الذي تتجلى بركاته في كل زمان ، ومن الإعجاز مجئ القرآن بالإخبار عن نصر المسلمين في تلك المعركة ونزول الملائكة لنصرة المسلمين فيها ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ) مع بيان السنة النبوية وأحاديث الصحابة عن وقائع المعركة .
الثاني : فانقلبوا من معركة أحد بنعمة من الله وفضل ، فان قلت قد ذكرت آية السياق [لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ] ( ) بينما فقد المسلمون سبعين شهيداً وكثرت جراحاتهم في معركة أحد ، والجواب لا مانع من التفكيك في مضامين آية السياق ، كما أنه ليس من ملازمة ونوع تشابه بين الجراحات والسوء لأن الجراحات نعمة من جهة أنها شاهد على صدق الإيمان ، وهي باب للأجر والثواب .
الثالث : فانقلبوا من حمراء الأسد بنعمة من الله وفضل .
وهذا الإنقلاب هو موضوع آية السياق .
ليكون من معاني وتقدير الآية : فانقلبوا ثم انقلبوا ثم انقلبوا بنعمة من الله وفضل ).
لبيان التباين والتضاد بين المسلمين والذين كفروا في حالات :
الأول : خروج المسلمين من المدينة بقصد الدعوة الى الله ، والدفاع عند الحاجة قربة الى الله عز وجل ، وزحف المشركين ، وقطعهم المسافات الطويلة للغزو والظلم والتعدي ، قال تعالى[كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الثاني : التباين في القصد إلى القتال والغاية منه ، إذ يتناجى المسلمون بطاعة الله عز وجل ، والصبر طلباً لرضوانه ، بينما يتناجى الذين كفروا بالباطل ومحاولة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : القدوم إلى المعركة , إذ يأتيها المشركون بنية الإنتقام والبطش والإصرار على القتال ، بينما يأتيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون والأنصار بنية الدفاع ورجاء دفع المعركة ، وترك السيوف في أغمادها ، وهو من مفاهيم قوله تعالى [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ] ( ) إذ تدل الآية أعلاه على أمور :
الأول : كراهة المسلمين للقتال ، وإن كان دفاعاً .
الثاني : رجاء المسلمين صرف القتال .
الثالث : لا تدل الآية أعلاه على قصد المسلمين الإستيلاء على قافلة أبي سفيان ، فالقدر المتيقن منها هو المودة والرغبة في أخذ أموال القافلة عوضاً وبدلاً لبيوت وأموال المسلمين التي أخذها منهم مشركوا مكة .
ومن الإعجاز أن الآية لم تذكر القافلة إنما ذكرتها بصفة [غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ] ( ) أي العير المحملة بالبضائع ، والتي ليس فيها سلاح (والشّوكة من قولهم: رجل ذو شَوكة، أي حديد السِّلاح وشاكي السِّلاح وشائك السِّلاح، فأما قول العامّة: شاكُّ السِّلاح فخطأ( )، ويكون أيضاً من معانيها أمور :
الأول : الغنيمة .
الثاني : المال .
الثالث : العير والتي معها أربعون رجلاً.
المسـألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : على وجوه :
الأول : فانقلب المؤمنون بنعمة من الله وفضل ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) وكأن الآية تخاطب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وتقول له ، ما دمت قد عدت أنت وأصحابك من حمراء الأسد فلا تحزن على الذين كفروا وإصرارهم على القتال ، لأن هذا الإصرار لا يضر الإيمان وأهله ، وفي التنزيل [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
الثاني : فانقلبتم بنعمة من الله وفضل كيلا تحزن على الذين كفروا .
الثالث : ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر فانهم انقلبوا بالخزي والذل والخسران ، وورد بخصوص رجوع المشركين من معركة أحد إلى مكة [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
ومن معاني صيغة المضارع في الآية أعلاه تكرار الخيبة عند الذين كفروا من جهات :
الأولى : فينقلبوا عن معركة أحد خائبين كما انقلبوا من معركة بدر.
الثانية : فينقلبوا من حمراء الأسد خائبين .
فان قلت لم يقاتل المشركون في حمراء الأسد كما أن هذا الإنقلاب في طول وذات الإنقلاب والعودة من معركة أحد ، والجواب هذا صحيح ، ولكن المشركين همّوا وهم في طريق العودة إلى مكة بالرجوع إلى المدينة للإجهاز على المسلمين ولكنهم سمعوا بقدوم النبي وأصحابه لقتالهم فانهزموا مع كثرتهم وأنهم أكثر من أربعة أضعاف المسلمين الذين خرجوا إلى حمراء الأسد .
الثالثة : فينقلبوا خائبين من المعارك اللاحقة ، وفي التنزيل [وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا] ( ).
الرابع : لقد اتبع المؤمنون رضوان الله فلا يحزنك الذين يسارعون في الكفر .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء ، ولما هبط ابليس مع آدم وحواء ، إبتدأ الإبتلاء والإفتتان الذي يواجه بأمور :
الأول : العقل الذي جعله الله عز وجل نعمة عند الإنسان وآلة للتمييز بين الحق والباطل .
الثاني : تفضل الله عز وجل ببعث الأنبياء والرسل من عند الله إلى الناس من بين ظهرانيهم ، ومن ذات جنسهم لدعوتهم إلى سبل الهداية والإيمان ، وفي خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ).
الثالث : الآيات الكونية الثابتة والطارئة الي تدعو الناس إلى التفكر في بديع صنع الله عز وجل ،وعن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ينادي مناد يوم القيامة أين أولوا الألباب.
قالوا : أي أولي الألباب تريد، قال [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، عقد لهم لواء فاتبع القوم لواءهم وقال لهم : ادخلوها خالدين) ( ).
وفي الوقت الذي تكون فيه الآيات الكونية حسية وجلية , كالشمس وجريانها ، والقمر وإبتدائه بهيئة الهلال والخيط النوراني الرفيع ثم أخذه بالزيادة إلى أن يصبح بدراً ، ثم يرميه الله بالنقصان إلى أن يختفي عند ليالي المحاق ، لبيان أنه ليس إلهاً ولا تصح عبادة الناس له ، إنما سخره الله عز وجل لنفعهم في أمور الدين والدنيا ، وفي التنزيل [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ] ( ).
وجاءت آية أخرى لبيان وظيفة الهلال في فريضة الصيام بقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ) .
وهل يقوم الشيطان بتخويف أوليائه من الآيات الكونية ، الجواب نعم ليعبدوها ويتخذوها وسائط للتقرب إلى الله عز وجل ، ويمتنعوا عن التدبر فيها وأسرارها ومنافعها ، وبخصوص إبراهيم ورد في التنزيل [فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ] ( ) .
إذ أراد إبراهيم جذب قومه إلى الإيمان والإقرار بالتوحيد والتسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل عن طريق النظر والإستدلال والبرهان الإني وهو إتخاذ المعلول وسيلة لمعرفة العلة ، فتدل الكواكب كمعلول على عظيم قدرة الله ، وبديع صنعه .
والحركة والانتقال والبزوغ والأفول والإستتار أمور تدل على عالم الإمكان والحدوث ، وهي منقادة لقوانين الألوهية المطلقة لله عز وجل .
ومن الآيات في التباين بين إنقلاب المسلمين إلى المدينة وانقلاب الذين كفروا إلى مكة وجوه :
الأول : انقلاب المهاجرين والأنصار مع مصاحبة النعمة الإلهية لهم ، بينما إنقلب الذين كفروا بالخيبة .
الثاني : انقلاب المهاجرين والأنصار برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو نعمة عظمى .
(عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ ، قَالَ مَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِامرأة مِنْ بَنِي دِينَارٍ ، وَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا وَأَبُوهَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِأُحُدٍ فَلَمّا نُعُوا لَهَا ، قَالَتْ فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ .
قَالُوا : خَيْرًا يَا أُمّ فُلَانٍ هُوَ بِحَمْدِ اللّهِ كَمَا تُحِبّينَ قَالَتْ أَرُونِيهِ حَتّى أَنْظُرَ إلَيْهِ ؟ قَالَ فَأُشِيرَ لَهَا إلَيْهِ حَتّى إذَا رَأَتْهُ قَالَتْ : كُلّ مُصِيبَةٍ بَعْدَك جَلَلٌ تُرِيدُ صَغِيرَةً) ( ).
الثالث : انقلاب المهاجرين والأنصار بالأجر والثواب وإنقلاب الذين كفروا بالإثم والوزر الثقيل .
الرابع : انقلب المهاجرون والأنصار ليواظبوا على الصلاة اليومية ، وانقلب الذين كفروا لعبادة الأصنام .
الخامس : انقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه شاكرين لله عز وجل ، وهم يسترجعون لما ألمّ بهم من المصيبة وقتل سبعين شهيداً منهم حمزة بن عبد المطلب عمّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
السادس : رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة مع بشارة الفتح ، ورجع الذين كفروا من معركة أحد إلى مكة وهم عاجزون عن إعادة القتال في ذات السنة .
المسألة الخامسة : لقد تضمنت آية السياق الفيوضات والبركة التي جاءت للمسلمين في معركة أحد وبعدها وهي :
الأول : العودة إلى المدينة ، فقوله تعالى [فَانْقَلَبُوا] ( ) نعمة عظمى ، إذ كان الكفار يتوعدون ويهددون بالإجهاز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وجاءوا بالجيوش العظيمة مع الأسلحة والرواحل والخيل ، ووقف نحو سبعمائة من المؤمنين في مقابل ثلاثة آلاف رجل من المشركين .
وقيدت الآية عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة بأنه بنعمة وفضل من الله لبيان أن هذا الإنقلاب والعودة لا يتحققان إلا بفضل وحرز ولطف من الله عز وجل .
لقد انسحب المشركون من معركة أحد ، وفي الطريق تلاوموا فيما بينهم ، كيف نرجع إلى مكة من غير أن نحقق أي غاية من الغايات التي جئنا من أجلها ، وكانوا يسعون لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنع دخول الناس في الإسلام وأدائهم الصلاة.
وهل هذا التلاوم من مصاديق النعمة التي تذكرها آية السياق أم أن القدر المتيقن منها هو ما صاحب المسلمين في عودتهم وانصرافهم من معركة أحد ، الجواب هو الثاني ، وتقدير آية السياق على وجوه :
الأول : فانقلبوا بنعمة من الله عليهم .
الثاني : فانقلبوا بنعمة من الله بخزي الذين كفروا وإنصرافهم إلى مكة بخيبة وخسارة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) .
الثالث : فانقلبوا بنعمة من الله بانصراف الذين كفروا إلى مكة من غير رجعة .
الثانية : لقد ذكرت آية السياق نعمة الله التي صاحبت عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى المدينة من معركة أحد .
وهل تختص مصاديق هذه النعمة بالعودة إلى المدينة ، الجواب لا ، فموضوعها أكبر وأعظم وأكثر .
فيتحقق إنقلاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالوصول إلى المدينة ، ولكن النعمة والفضل اللذين تذكرهما آية السياق باقيان ومتجددان ، ولا يختصان بموضوع الإنقلاب لبيان قانون وهو أن كلاً من النعمة والفضل المذكوران بقوله تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ..] ( ) هبة مستحدثة من عند الله عز وجل وجزاء منه على أمور :
الأول : التحلي بالإيمان .
الثاني : الصبر على الأذى والجوع والعوز .
الثالث : هجرة المهاجرين إلى المدينة وإيواء الأنصار لهم .
الرابع : الخروج إلى معركة أحد عند قدوم جيوش الذين كفروا حال العلم بصيرورتهم على مشارف المدينة ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
الخامس : خوض القتال والدفاع ضد الذين كفروا في معركة أحد .
السادس : سقوط سبعين شهيداً من المسلمين في معركة أحد ، ليكون هذا السقوط سبباً للثواب العاجل للمدافعين الأحياء بعودتهم سالمين مع إنتقال شهداء أحد إلى الحياة الأبدية .
عن ابن عباس قال : قتل تميم بن الحمام ببدر , وفيه وفي غيره نزلت[وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ]( ) ( ).
الثالثة : لو اكتفت آية السياق بذكر نعمة الله في مصاحبتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في عودتهم إلى المدينة لكان فيه فضل عظيم ، ولعجز المسلمون في أجيالهم المتعاقبة عن إحصاء هذه النعمة ، ولكن الله تعالى تفضل وذكر مع النعمة فضلاً منه سبحانه ، ولم تقل الآية : فانقلبوا بنعمة وفضل من الله .
لبيان التعدد والتباين بين النعمة والفضل من الله في الموضوع والسنخية والأثر المترتب على كل منهما ، وفيه فتح ونصر.
وقيل من وجوه الفرق بين النعمة والفضل أن النعمة بالنسبة لجهة العبد وأن الله عز وجل ينعم على بعض خلقه فتكون حياتهم ناعمة .
أما الفضل فهو بلحاظ المتفضل وما عنده من شئ فاضل مستغن عنه , ولكن النعمة أيضا من جهة المنعم , خصوصا وان نعم الله لا يقدر عليها إلا هو سبحانه.
وبالنسبة لفضل الله فهو النعمة التي تأتي زيادة ونافلة لعباده من غير استحقاق منهم ، فكأن النعمة التي تذكرها آية السياق من الجزاء العاجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عند عودتهم من حمراء الأسد ، ليتوالى الفضل عليهم وعلى المسلمين إلى يوم القيامة ، وهل آية السياق من النعمة أم من الفضل على الذين تذكرهم ذات الآية ، المختار أنها منهما معاً ، وهو من خزائن فضل الله اللامتناهية في القرآن التي تطل على المسلمين ، وهي بذاتها فضل ويترشح عنها الفضل إلى يوم القيامة ، وفي التنزيل [وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ).
المسألة السادسة : من معاني الجمع بين آية البحث وآية السياق دعوة الناس للإيمان بلحاظ التباين بين حال المسلمين وحال الكافرين في معركة أحد وبعدها .
فمع خسارة المسلمين في معركة أحد خسارة جسيمة بفقد سبعين من الصحابة ، وإصابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه بالجراحات الشديدة وحلت بهم هذه المصيبة بعد النصر المبين لهم في معركة بدر والأصل عند الناس الإستصحاب فهو دليل عقلي قبل أن يكون من مفردات علم الأصول ، ويكون من مقدمات معركة أحد على وجوه :
الأول : استصحاب المسلمين نصرهم في معركة أحد ، ويدل عليه قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ) .
الثاني : استصحاب الذين كفروا الخسارة والهزيمة كتلك التي وقعت في معركة بدر ، نعم إلتفتوا إلى ما عندهم من الخطأ والخلل والعجلة في النفير فاحترزوا بأمور :
أولاً : طول المدة التي تجهزوا فيها للقتال , فبينما نفروا لمعركة بدر بثلاثة أيام بسبب مجئ ضمضم بن عمرو رسولاً من أبي سفيان يخبر قريشاً بأن قافلتهم تتعرض للإستيلاء من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وكأن أبي سفيان يريد إبراء ذمته وأنه غير مسؤول عما تتعرض له القافلة وأحمالها .
ثانياً : إنفاق الأموال الطائلة على الإستعداد لمعركة أحد والقيام ببذل الأموال لرؤساء القبائل المحيطة بمكة ، والشعراء وعامة الفرسان وتأمين مؤونة عوائلهم عند غيابهم في الخروج إلى المعركة الذي يستغرق أكثر من شهر ذهاباً وإياباً مع الوعد بالعناية بعوائلهم إن قتلوا في المعركة فمثلاً جاء صفوان بن أمية إلى الشاعر أبي عزة الجمحي واسمه عمرو بن عبد الله ، وقال له : يَا أَبَا عَزّةَ إنّك امْرُؤٌ شَاعِرٌ ، فَأُعِنّا بِلِسَانِك ، فَاخْرُجْ مَعَنَا( )
فاعتذر إليه أبو عزة وبيّن له موضوع إعتذاره ، وهو ليس إيمانه أو ميله للإسلام وإقراره بالمعجزات التي رآها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنه وقع أسيراً بأيدي المسلمين في معركة بدر فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يمّن عليه ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرف فقره وفاقته وكثرة عياله .
فأطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم سراحه ، وفكه من الأسر من غير بدل أو عوض .
نعم أخذ عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يظاهر عليه أحداً( )
ومن الذين منّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بلا بدل وعوض يوم بدر :
الأول : المطلب بن حنطب .
الثاني : صبغي بن أبي رفاعة .
وحينما سمع أبو عزة الشاعر قول صفوان بن أمية ودعوته له لنصرة قريش قال : إن محمداً قد منّ علي فلا أريد أن أظاهر عليه.
وألح عليه صفوان ووعده بالمال الوفير في حال رجوعه سالماً ، أما إذا قتل ، فانه يضم بنات أبي عزة إلى بناته يكون حالهن مثل حال بنات صفوان في اليسر والعسر .
وحينما سمع أبو عزة هذا العرض ، خرج في تهامة يحرض بني كنانة على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقصائد الشعر منها :
إيهًا بَنِي عَبْدِ مَنَاةَ الرّزّام( ) … أَنْتُمْ حُمَاةٌ وَأَبُوكُمْ حَامْ
لَا تَعْدُونِي نَصّرَكُمْ بَعْدَ الْعَامِ … لَا تُسْلِمُونِي لَا يَحِلّ إسْلَامْ( )
ثم خرج أبو عزة مع جيش المشركين إلى معركة أحد خلافاً للعهد الذي قطعه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يظاهر عليه أحداً ، وكان شرطاً لفكاكه من الأسر .
ونزلت قريش منازلها بجوار جبل أحد يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة في العشرة الثانية من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقائهم بعد أن صلى صلاة الجمعة ، فاصبح بالشعب صباح يوم السبت النصف من شهر شوال في السنة الثالثة للهجرة ، أي مع كثرة جيوش الذين كفروا فانهم كانوا في استراحة ثلاثة أيام ، واختاروا المنزل الملائم لهم في الكر والفر ، بينما وصل كثير من المسلمين إلى جبل أحد مشياً على الأقدام ، ودخلوا المعركة في ذات اليوم ، فتفضل الله عز وجل عليهم بالمدد من الملائكة .
وعندما خرج النبي في اليوم التالي إلى حمراء الأسد جاء المسلمون في طريقهم بأبي عزة الجمحي ويظهر أنه أضل طريقه عندما إنهزم من المعركة لما لاحت بشارات النصر للمسلمين في بدايات المعركة وهو فزع لخيانته للعهد الذي قطعه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فاعاد كلمته الأولى في بدر بأنه صاحب عيال وفقير وسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يمنّ عليه مرة أخرى .
فقال له :أين ما أعطيتني من العهد والميثاق ؟
(لَا تَمْسَحْ عَارِضَيْك بِمَكّةَ بَعْدَهَا وَتَقُول : خَدَعْت مُحَمّدًا مَرّتَيْنِ اضْرِبْ عُنُقَهُ يَا زُبَيْرُ . فَضَرَبَ عُنُقَهُ) ( ).
ومنهم من قال بضعف الحديث لأنه مرسل ، كما أن ابن هشام ذكره من غير اسناد ، ولكن أوصل اسناده البيهقي ،وقيل فيه وهن لان الواقدي ضعيف ، ولكن الحديث ذكر بطرق أخرى .
وقيل لم يقتل أبو عزة يومئذ وأنه كبر وأسن فظهر فيه البرص ، وكانت قريش تتجنب الإقتراب من الأبرص خشية العدوى فامتنعوا عن مواكلته ومجالسته ، فكبر عليه ، وقال : الموت أهون من هذا ، وأخذ حديدة وصعد إلى جبل حراء يريد قتل نفسه ، فطعن بها بطنه فضعفت يده :
(وَقَالَ ابن جُعْدُبَةَ فَمَارَتْ الْحَدِيدَةُ وَقَالَ الضّحّاكُ : بَيْنَ الْجِلْدِ وَالصّفَاقِ فَسَالَ مِنْهُ أَصْفَرُ فَبَرِئَ فَقَالَ
اللّهُمّ رَبّ وَائِلٍ وَنَهْدِ … وَالتّهِمَاتِ وَالْجِبَالِ الْجُرْدِ
وَرَبّ مَنْ يَرْعَى بِأَرْضِ نَجِدْ … أَصْبَحْت عَبْدًا لَك وَابن عَبْدِ
أَبَرّأَتْنِي مِنْ وَضَحٍ بِجِلْدِ … مِنْ بَعْدَ مَا طَعَنْت فِي مَعَدّي) ( ).
ثالثاً : الطواف على القبائل وتحريضها على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلبية رغائب شيوخها والوعد لهم بالمال والمقام والشأن .
رابعاً : منع المسلمين من الهجرة إلى المدينة ، وجعل رجال حول مكة يلقون القبض على الذين يريدون الهجرة ليعيدوهم إلى مكة مع الإيذاء .
خامساً : إقتناء السيوف والدروع ، وتنشيط صناعتها وإصلاحها .
سادساً : كثرة التهديد والوعيد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وايصال الرسائل إلى المهاجرين والأنصار إذ طلبت قريش من المهاجرين العودة إلى مكة ، وطلبت من الأنصار التوقف عن إيواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين مع التهديد بالقتل والغزو والتخريب لا لشئ إلا لأنهم [قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا] ( ).
ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه تدعو الناس إلى الإيمان وتبعث النفرة في النفوس من الكفر وآثاره في الدنيا والآخرة .
ومن مصاديق وجوب الإيمان باليوم الآخر إدراك سوء عاقبة الذين كفروا وإقامتهم في النار ، ومن وجوه التباين بين حال المسلمين والذين كفروا في معركة أحد بلحاظ آية السياق وآية البحث والجمع بينهما وجوه :
الأول : رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة إلى المدينة وفيه دليل حسي وتأريخي على عجز الذين كفروا عن تحقيق غاياتهم من معركة أحد .
الثاني : ذهاب الأموال الطائلة التي انفقها الذين كفروا في معركة أحد هدراً .
الثالث: تجلي إيمان الأنصار وعوائلهم بعد معركة أحد فمع كثرة الشهداء الذين سقطوا منهم في معركة أحد ، وعددهم ستة وستون من مجموع سبعين شهيداً ، والأربعة الآخرون من المهاجرين فان أهل المدينة استقبلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عند عودته من معركة أحد سالماً بالغبطة والشكر لله عز وجل على سلامته .
وهذه السلامة من مصاديق النعمة العامة في قوله تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ] ( ) وتقديره على وجوه :
أولاً : فانقلب النبي محمد صلى الله عيه وآله وسلم بنعمة من الله .
ثانياً : فانقلب المهاجرون بسلامة النبي من القتل .
ثالثاً : فانقلب الأنصار بحفظ سلامة .
رابعاً : فانقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل المدينة بسلامته من القتل .
الرابع : انقلاب الذين كفروا إلى مكة بالكبت والخزي .
الخامس : ظهور التلاوم بين رؤساء جيش الذين كفروا على إنسحابهم من معركة أحد من غير أن يبلغوا ويحققوا الغايات التي جاءوا من أجلها ، وتناسوا مسألة وهي أن عامة أفراد جيشهم لا يريدون قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وتجلت هذه الحقيقة بانهزام الجيش العرمرم مع بدايات المعركة ، وقتل حملة لواء المشركين المتتابعين وسقوط اللواء لولا أن حملته امرأة منهم , قال تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
لقد أدرك أبو سفيان ورؤساء جيش المشركين الآخرين أن أفراد القبائل وأهل مكة الذين جاءوا معهم ليسوا على استعداد للقتال والقتل ، وله أسباب وهي :
الأول : تجلي معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورتها حديث الركبان ، وبلوغها الأمصار .
الثاني : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة الناس قبل الهجرة إلى الإسلام .
الثالث : طواف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وفود القبائل في موسم الحج سواء في منازلهم المؤقتة في الحج أو في الأسواق الخاصة بالموسم ، وهذا الطواف على أقسام :
الأول : عام بأن ينادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس : قولوا لا إله إلا الله تفلحوا )ليسمعه أهل الموسم جميعاً ، وعن ربيعة بن عباد من بني الديل، وكان جاهليًا فأسلم -قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: “يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا” والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحولُ ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب. يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب ( ).
الثاني : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن بين أهل الموسم ، فبعد أن كان الشعراء يتبارون بقصائدهم والقبائل تفخر بمناقبها ، جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أوسط وأشرف بيوتات مكة وهو يتلو القرآن ويظهر عبوديته لله ويدعو الناس إلى نبذ الأصنام ، وهو يذكرهم بنداء إبراهيم إلى التوحيد , وفي خطاب لإبراهيم قال الله [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ) .
ولتكون دعوة النبي إبراهيم عليه السلام الناس للحج مقدمة لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم للإسلام وفي ذات البقعة المباركة وهي مكة.
الثالث : ذهاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى القبائل في منازلها وبيان حقيقة وهي أنه رسول الله ويجب التصديق بنبوته ثم يتلو عليه آيات القرآن ويسألهم نصرته ، وإيواءه من شرور كفار قريش فان أبوا فانه يطلب منهم أن يكتموا أمره.
ترى لماذا لم تتعرض له قريش حينئذ ، الجواب إن دعوته هذه في الأشهر الحرم ، وهي :
الأول : شهر ذي القعدة .
الثاني : شهر ذي الحجة .
الثالث : شهر محرم إذ يتخلف بعض الحجاج عن أيام الحج في مكة لأيام من محرم .
ولم يكن عدم تعرض المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو السالبة الكلية انما كانوا يكذبونه ويدعون القبائل إلى عدم التصديق به ، وكانوا يجعلون رجالاً على مداخل مكة لمنع الناس من دخول الإسلام .
المسألة السابعة : هل يشمل قوله تعالى [فَانْقَلَبُوا] النبي محمداً ، أم أنه هو النعمة التي انقلب بها المهاجرون والأنصار ، الجواب لا تعارض بين الأمرين ، بلحاظ أن النعمة في المقام أعم وهي باقية إلى يوم القيامة .
ومن وجوه تقدير الآية : فانقلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنعمة من الله وفضل .
فان قلت قد عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة من معركة أحد مثقلاً بالجراحات الشديدة بينما تقول آية السياق [لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ] ( )، والجواب هذا صحيح ، وهناك مسألتان :
الأولى : موضوع الآية هو عودة النبي وأصحابه من حمراء الأسد ، وعدم وقوع قتال فيها .
ولو وقع قتال فلا يعلم نتيجته إلا الله لقلة عدد المسلمين وكثرة جراحاتهم ، نعم يتفضل الله عز وجل بالملائكة مدداً وعوناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهذا المدد من رشحات نزول جبرئيل من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي لمعركة أحد بالخروج خلف جيش الكفار أي حينما أمر الله عز وجل النبي وأصحابه بالخروج فانه سبحانه يضمن السلامة والغلبة والنصر للمؤمنين لذا إبتدأت آية البحث بحرف العطف الفاء [فَانْقَلَبُوا].
وذكر أَنّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْب ٍ لَمّا انْصَرَفَ يَوْمَ أُحُدٍ ، أَرَادَ الرّجُوعَ إلَى الْمَدِينَةِ ، لِيَسْتَأْصِلَ بَقِيّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ : لَا تَفْعَلُوا ، فَإِنّ الْقَوْمَ قَدْ حَرِبُوا ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قِتَالٌ غَيْرُ الّذِي كَانَ فَارْجِعُوا ، فَرَجَعُوا . فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ حِينَ بَلَغَهُ أَنّهُمْ هَمّوا بِالرّجْعَةِ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سُوّمَتْ لَهُمْ حِجَارَةٌ لَوْ صُبّحُوا بِهَا لَكَانُوا كَأَمْسِ الذّاهِبِ) ( ).
الثانية : القدر المتيقن من السلامة من السوء في آية السياق هو عدم وقوع القتلى والجرحى ، وشرور القتال والمطاردة والحصار ، وقد سلم المسلمون منه .
ثالثاً : بيان نعمة من عند الله ، وهي إستمرار قريش بالإنسحاب إلى مكة حتى حينما علموا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج باصحابه لمطاردتهم ، فالأصل هو أن الجيش الكبير حينما يسمع بالجيش القليل المثقل بالجراحات قد خرج في طلبهم فانه يكرّ عليهم ويكيد لهم ، لتكون مواصلة جيش المشركين الإنسحاب إلى مكة من مصاديق النعمة والفضل اللذين تذكرهما آية السياق .
ترى لماذا وردت آية السياق بصيغة الغائب [فَانْقَلَبُوا][ لَمْ يَمْسَسْهُمْ][ وَاتَّبَعُوا] ولم تقل (فانقلبتم) (لم يمسسكم سوء)(واتبعتم) الجواب من جهات:
الأولى : بيان قانون وهو أن القرآن نزل لكل الأجيال ويتصف بكونه حي وحاضر في كل زمان ويبين للناس الوقائع لتكون حاضرة في الواقع الذهني والواقعي .
الثانية : بيان قانون وهو عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة من حمراء الأسد فضل على كل المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
الثالثة : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حمراء الأسد من غير أن يلقى قتالاً ، وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من عبد ينعم الله عليه بنعمة إلاَّ كان { الحمد } أفضل منها ( ).
الرابعة : بيان قانون في منهاج النبوة وهو خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب وعودته من غير أن يخوض قتالاً , أو يغزو قرية أو بلدة .
الخامسة : مجئ الآية بصيغة الجملة الخبرية دعوة للمسلمين للصبر والثبات في منازل الإيمان .
السادسة : تحدي الذين كفروا وجعلهم عاجزين عن تكذيب مضامين الخبر في الآية القرآنية، وفي التنزيل [وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ]( ).
ومن خصائص الجملة الخبرية أنها تحتمل الصدق والكذب إلا بالنسبة للخبر القرآني فانه لا يحتمل إلا الصدق والحق ، ويتصف بآية إعجازية وهي عجز الناس عن إدراك مصاديق ومنافع الخبر القرآني ، فلا يمكن للناس وإن اجتمعوا معرفة وإحصاء أفراد النعمة والفضل الذي عاد به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حمراء الأسد ، ومنه آية السياق وآية البحث وفيه صفاتهما والبركة التي تترشح عنهما وعن تلاوتهما في كل زمان.
السابعة : لحاظ الآية السابقة لآية السياق ، وهو قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ] ( ).
إذ ذكرت الآية أعلاه ثلاثة فرق وأقسام من الناس وهم :
الأول : متعلق الاسم الموصول [الَّذِينَ] والمراد المسلمون من المهاجرين والأنصار الذين عادوا من معركة حمراء الأسد .
الثاني : الناس الذين قالوا ، وهم أهل القرى ممن حول المدينة والركبان الذين اشفقوا على المؤمنين ، فقد رأوا كثرة جيش المشركين وخيلهم وخيلائهم خاصة وأنهم لم يفقدوا من الثلاثة آلاف مجموع جيشهم سوى اثنين وعشرين ، ولم يستول المسلمون على شطر من خيلهم وإبلهم ، فعادت معهم ليستعدوا للكرة من جديد على المدينة.
وهو من مصاديق إملاء الله عز وجل لهم واستدراجهم كما ورد في الآية بعد التالية [الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ]( ).
ورآى الناس قلة عدد المسلمين وكثرة جراحاتهم وتباطأهم في السير فخشوا وأشفقوا عليهم ، ولكن لم ينصروهم لبيان أن الإسلام آنذاك غريب ، ومع هذا تم النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ] ( ) فمن أبهى معاني النعمة سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مع قلتهم من بطش الجيش العرمرم للمشركين .
الثالث : الناس الذين جمعوا الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بقوله تعالى [إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ] ( ) والمراد جيش المشركين برئاسة أبي سفيان العائدون من معركة أحد وهم في الطريق إلى مكة ، فان قلت إذا كانوا عائدين ومنقلبين إلى مكة فما المقصود [قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ] الجواب هو عزم جيش الذين كفروا على إعادة الكرة للهجوم على المدينة أو للنزول في ذات موقع معركة أحد .
وقد صرف الله عز وجل عن المسلمين الضرر لذا حينما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة التاسعة للهجرة من تبوك وبدا له ولأصحابه جبل أحد قال (هذا جبل يحبّنا ونحبّه) ( ).
ومن إعجاز آية السياق جمع كلمة واحدة فيها للفرق الثلاثة بقوله تعالى [فَاخْشَوْهُمْ] أي أن الناس من القسم الثاني أعلاه هم الذين طلبوا من المسلمين الخشية والحذر والحيطة من المشركين ، وتقدير هذه الكلمة الجامعة : قال أهل القرى يا أيها الذين آمنوا اخشوا جيش الذين كفروا .
ثم ينقطع موضوع هؤلاء الناس لتختص باقي كلمات وخاتمة آية السياق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وبيان صدق إيمانهم واخلاصهم وتفانيهم في طاعة الله ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
إذ تبين الآية كيفية وأثر تلقي المؤمنين للتحذير والإنذار من جيوش الذين كفروا من وجوه :
الأول : زيادة إيمان المهاجرين والأنصار ، وتحليهم بالصبر ، وتسليمهم بقانون من الإرادة التكوينية وهو أن الله عز وجل ناصرهم .
الثاني : سلامة المهاجرين والأنصار من الوهن والضعف والخوف من الذين كفروا وجيوشهم .ليكون من زيادة الإيمان الإستجابة لقوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( )، في عدم القعود والتكاسل وفي الكيفية النفسانية بالسلامة من الحزن وقدمت الآية أعلاه عدم الوهن والضعف على السلامة من الحزن لأن إجتناب الوهن من أسباب صرف الحزن وبين الحزن والذين تذكره الآية أعلاه والحزن الذي ذكرته آية البحث عموم وخصوص مطلق ، إذ توجهت الآية أعلاه بالخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات جميعاً وبعدم الحزن مطلقاً عن أي سبب كان ، أما آية البحث فانها خصت الحزن الذي يتعلق بمسارعة الذين كفروا في الضلالة .
الثالث : من زيادة الإيمان المناجاة بطاعة الله والرسول ، والإستجابة للنفير للدفاع ، ومنها إجتناب الغزو والبطش والنهب .
الرابع : تأتي زيادة الإيمان من أسباب ووجوه متعددة ، وأخبرت آية البحث عن مجيئها بتلقي التحذير من كثرة جيش الذين كفروا.
ومن الآيات حمل المسلمين هذا التحذير على محمل الجد وعدم الشك فيه من جهات :
الأولى : إصرار الذين كفروا على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الثانية : رؤية النبي وأصحابه كثرة جيش الذين كفروا في معركة أحد ، وليس بين تحذير الناس للمسلمين كما في آية السياق وبين معركة أحد إلا يومين أو ثلاثة ،إذ وقعت معركة أحد في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
وخرج النبي وأصحابه إلى حمراء الأسد في اليوم التالي ، وهل كانت حمراء الأسد غاية لخروجهم ، الجواب لا ، إذ كان موضوع الخروج إشعار جيش المشركين ومن خلفهم بثبات المهاجرين والأنصار على الإيمان ، وصدق طاعتهم لله والرسول ، وفي التنزيل [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ) لتبين آية السياق امتثال المسلمين لما في الآية أعلاه من الأوامر وعددها أربعة وهي :
أولاً : طاعة الله .
ثانياً : طاعة الرسول .
ولم تقل الآية أعلاه أطيعوا الله والرسول ، مع أن هذه الصيغة وردت في آيات أخرى( ) لبيان طاعة الرسول فيما يأمر به من السنة النبوية التي هي شعبة من الوحي ، ويدل عليه قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
إذ ذكرت الآية أعلاه طاعة الله باقامة الصلاة وإيتاء الزكاة كما أمرت بطاعة الرسول فيما يأمر به ، ومنه الخروج إلى حمراء الأسد للدفاع والمرابطة المؤقتة .
ومن الآيات في المقام أنه ليس بين إنقضاء معركة أحد وبين خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد إلا أقل من يوم وليلته ، فاثنى الله عز وجل عليهم لإستجابتهم لنداء التغيير , وكتب لهم السلامة فيه.
كما وردت آية أخرى بالتفصيل أيضاً في طاعة الله وطاعة الرسول بقوله تعالى [قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ] ( ) أي أن الله عز وجل يأمر نبيه الكريم بالأمر للمسلمين بطاعة الله وطاعته .
وليكون من معاني (قل) في الآية أعلاه (قولوا) إلحاق المسلمين والمسلمات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الخطاب أعلاه ، وهو من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عند المنكر ومشاركة المسلمات فيه ، ولتكون هذه الطاعة برزخاً دون الخلاف والخصومة بين المسلمين ، ومن عمومات قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ) .
ثالثاً : أخذ المسلمين الحيطة والحذر في عالم الدنيا ، وليس من حصر لضروب ومكاره السيئات والمعاصي التي يجب أن يحذر منها المسلمون ، ولابد من الحذر من عالم الحساب في الآخرة ، والإستعداد له ، قال تعالى [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ).
رابعاً : وجوب علم المسلمين والمسلمات بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه التبليغ والبشارة والإنذار وتلاوة آيات القرآن التي تنزل من عند الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : إخبار آية البحث عن مسارعة الذين كفروا بالكفر والجحود ومن ضروب هذه المسارعة التعدي والظلم والجحود وغزو المدينة .
المسألة الثامنة : من معاني الجمع بين آية البحث والآيتين السابقتين لها بيان التباين والتضاد بين النعمة التي عليها المؤمنون في عودتهم بأمان إلى المدينة من حمراء الأسد ، وبين حال الذين كفروا باختيارهم ولاية الشيطان التي لا تجلب لهم إلا الأذى والضرر في الدنيا والآخرة ، لتدعو آية البحث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الشكر لله عز وجل على كل من :
الأول : نعمة العودة بسلام إلى المدينة .
الثاني : النجاة من ولاية الشيطان .
الثالث : خسارة الذين كفروا بانقيادهم للشيطان .
فمن إعجاز نظم هذه الآيات الثلاثة انها إبتدأت بذكر عظيم فضل الله على النبي والمؤمنين ثم بينت سوء عمل الذين كفروا وتعاونهم على القبيح والمنكر بلحاظ مجئ الآية السابقة بصيغة الجمع في [ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ] ( ) ثم جاءت آية البحث لبعث السكينة في نفس النبي والمسلمين بوقايتهم من الحزن والحسرة على الذين ظلموا أنفسهم باختيارهم الكفر.
لتكون آية البحث من مصاديق قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ] ( ).
ولم تكتف آية البحث بالنهي عن الحزن على الذين كفروا إنما أخبرت عن عدم إضرارهم بالله وملكه وولاية المؤمنين له ، وتعاقب نزول آيات كلامه إلى الأرض والذي يدل بالدلالة التضمنية على سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل .
المسألة التاسعة : ابتدأت آية السياق بذكر ولاية الذين كفروا للشيطان وتخويفه لهم ، ويحتمل هذا التخويف وجوهاً :
الأول : تخويف الذين كفروا مجتمعين .
الثاني : تخويف خصوص كبار ورؤساء الذين كفروا لذا قيدته الآية بذكر الولاية للشيطان .
الثالث : تخويف الشيطان لكل فرد اتخذ الشيطان ولياً على نحو مستقل .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، خاصة مع التباين والكيفية النفسانية والرغائب ، ومع إتحاد وتشابه الكفار في الجحود ، قال تعالى[وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( ).
ومن إعجاز نظم القرآن تعقب آية البحث لمسألة ولاية الذين كفروا للشيطان وتخويفه لهم لتخبر آية البحث عن أمور :
الأول : مسارعة الذين كفروا بمسالك الكفر والضلالة ، وهل هو من ولاية الشيطان .
الجواب نعم ، وسيأتي في باب التفسير بعض مصاديق مسارعتهم في الكفر .
الثاني : عجز الذين كفروا عن الإضرار بالإيمان وأهله فقد أبى الله عز وجل إلا أن تكون الدنيا وعاءً مكانياً وزمانياً لعبادته وذكره وتلاوة آيات التنزيل وإظهار التذلل والخشوع لله عز وجل ، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً]( ).
الثالث : إحباط عمل الذين كفروا , وحرمانهم من الشأن والنفع في الدار الآخرة .
صلة آية البحث بقوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : جاءت آية السياق بصيغة الجملة الخبرية وابتدأت بقوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ] وتتعلق واو الجماعة فيها بشهداء بدر وأحد الذين قتلوا وهم في حال دفاع عن النبوة والتنزيل .
وورد لفظ [يَسْتَبْشِرُونَ] ست مرات في القرآن أربع منها تفيد الثناء والجزاء ، وهي :
الأولى : ما ورد في الآية السابقة لآية السياق وهو قوله تعالى [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ] ( ) .
الثانية : آية السياق : يستبشرون بنعمة من الله وفضل .
الثالثة : قوله تعالى [وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ] ( ) .
الرابعة : بيان فرح وغبطة الناس بالمطر إذا أصاب أرضهم وبلادهم بعد أن كانوا في حال قريب من القنوط واليأس لبعد عهدهم بالمطر ، قال تعالى [فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ] ( ) لبيان فضل الله عز وجل بتحول الناس من حال الغم إلى الغبطة والرضا ولم يقع هذا التحول إلا ببركة نازلة من السماء ، وفيه شاهد على ضعف وعجز الإنسان عن تحقيق حاجاته ورغائبه .
وجاءت آيتان من آيات [يَسْتَبْشِرُونَ] في ذم الذين كفروا ، وبيان سوء فعلهم ، والآيتان هما :
الأولى : [وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ] ( ).
الثانية : جاءت في ذم قوم لوط بقوله تعالى [وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ] ( ).
كما يمكن تقسيم هذه الآيات تقسيماً استقرائياً آخر إلى قسمين :
الأول : الآيات التي تتعلق بالحياة الدنيا .
الثاني : الآيات التي تخص عالم الآخرة .
وتنفرد آية السياق والآية السابقة لها باختصاصهما بعالم الآخرة بخصوص الإستبشار أما موضوعه فهو على قسمين ، إذ يدل قوله تعالى [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ] ( )على غبطة وسعادة الشهداء بأصحابهم الذين لا زالوا في الدنيا لثباتهم على الإيمان وعدم مغادرتهم الدنيا إلا بلباس التقوى ، قال تعالى [وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ) .
وفيه مسائل :
الأولى : بيان الصلة الكريمة بين أهل الدنيا وأهل الآخرة ، وفوز المؤمنين بهذه النعمة .
الثانية :تغشي حال الغبطة والسعادة للشهداء وهم عند الله عز وجل .
الثالثة : تقديم استبشار وسعادة الشهداء بالمؤمنين الذين لم يلحقوا بهم على غبطتهم وسعادتهم بالنعم التي عندهم .
الرابعة : تمني الشهداء مشاركة المؤمنين في النعم التي عندهم .
وفي قصة إيمان حبيب النجار ، وقوله تعالى [وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ] ( ) أن شمعون من بينهم أحيا بنت ملك انطاكية من قبرها فآمن له حبيب النجار ، وترك تجارته وأنهم قتلوا ، وقتل معهم حبيب ، فلما عرج بروحه إلى الجنة قال [يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ] ( ).
الخامسة : إطلاع الشهداء الذين بحضرة القدس على بعض أحوال الناس في الدنيا ، وإذا ما نشبت معركة فهل يطلعون على وقائعها ، فمثلاً بالنسبة لشهداء معركة بدر التي جرت في شهر رمضان من السنة الثانية وعددهم اربعة عشر شهيداً وهم :
الأول : عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف.
الثاني : عمير بن أبي وقاص، أخو سعد بن أبي وقاص، قتل يومئذ وله ستة عشر عاماً.
الثالث : ذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي، حليف بني زهرة.
الرابع : عاقل بن البكير الليثي، حليف بني عدي بن كعب.
الخامس : مهجع، مولى عمر بن الخطاب.
السادس : صفوان بن بيضاء، من بني الحارث بن فهر.
فهؤلاء ستة من المهاجرين.
ومن الأنصار، ثم من الأوس:
السابع : سعد بن خثيمة بن عمرة بن عوف.
الثامن : مبشر بن عبد المنذر بن زنبر فهم أيضاً رجلان.
من بني الحارث بن الخزرج:
التاسع : يزيد بن الحارث، وهو ابن فسحم بن الحارث بن الخزرج.
ومن بني سلمة:
العاشر : عمير بن الحمام.
ومن بني حبيب بن عبد حارثة:
الحادي عشر : رافع بن المعلا
الثاني عشر : حارثة بن سراقة.
الثالث عشر : عوف
الرابع عشر : معوذ، ابنا عفراء.
فهم ستة من الخزرج. فالجميع أربعة عشر رجلاً( ).
حدثني يونس بن محمد الظفري قال: أراني أبي أربعة قبور بسير شعب من مضيف الصفراء فقال: هؤلاء من شهداء بدر من المسلمين. وثلاثة بالدبة أسفل من العين المستعجلة. وأراني قبر عبيدة بن الحارث بذات أجدال بالمضيق أسفل من الجدول. وحدثني يونس بن محمد، عن معاذ بن رفاعة أن معاذ بن ماعص جرح ببدر فمات من جرحه بالمدينة. وعبيد بن السكن، اشتكى فمات حي قدم( ).
وهل يطلع شهداء بدر وهم أحياء عند الله عز وجل على وقائع معركة أحد عند نشوبها في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، الأقرب لا ، إلا أن يشاء الله , ولكن شهداء المعركة يلحقون بهم فيسألونهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن إخوانهم الذين بقوا في الدنيا.
وهذا السؤال من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، وفيه بيان إعجاز إضافي للآية أعلاه وهو إن موضوعها أعم من أن يختص بالحياة الدنيا ، إنما يشمل عالم الآخرة ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول :إنما الشهداء أخوة المؤمنين الأحياء ، ويدل على هذه الأخوة استبشارهم بثباتهم في مقامات الإيمان .
الثاني : إنما الشهداء أخوة المؤمنين الأحياء لإستبشارهم بقدومهم اللاحق عليهم .
الثالث : المؤمنون الأحياء أخوة للشهداء بتلاوة آيات القرآن التي تبين أموراً :
أولاً : صدق إيمان الشهداء (قال مسلم بن الوليد من البسيط:
يَجودُ بالنَّفس إنْ ضَنّ الجَوادُ بها .. والجُودُ بِالنفس أقْصى غايةِ الجودِ) ( ).
ثانياً : خروج الشهداء مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب وخروجهم في السرايا التي يبعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : عدم رجوع شهداء أحد مع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول من وسط الطريق إلى معركة أحد ، فمع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعد المسلمين بالنصر إذا صبروا فان عبد الله بن أبي قام بتحريض جيش المسلمين خاصة الأنصار على الرجوع .
وقال (والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا ، فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق وأهل الريب ، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام من بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم , عندما حضرهم عدوهم . قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولكن لا نرى أن يكون قتال) ( ).
وهل استبشر الذين رجعوا مع رأس النفاق بسلامتهم من القتل حينما رجعوا إلى المدينة ، الجواب لا ، لأنه رجوع تخاذل وجبن عن الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن الأنفس والأموال وأهل المدينة وشأنهم بالإضافة إلى أنه خلاف شرط النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أهل بيعة العقبة من الدفاع عنه وحفظه والذب عنه .
وإن قيل هذا الشرط خاص بأهل العقبة ، الجواب لا ، إنما هو عام بالنسبة للذين اسلموا على ذات البيعة من الأنصار .
ومما يجعلهم في حال ندم إحتجاج عبد الله بن عمرو عليهم عندما همّوا بالرجوع , وهو أبو جابر بن عبد الله الأنصاري ، وهذا الإحتجاج من جهات :
الأولى : قيام عبد الله بن عمرو بتذكير المنافقين الذين رجعوا من وسط الطريق بالله عز وجل لبيان أن خروجهم دفاع محض ، إذ قال لهم (يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم) ( ).
ويدل هذا التذكير على سيادة مفاهيم الإيمان بين المسلمين في المدينة ، وأن الصلاة تصلح النفوس ، والتذكير بالله أمر حسن ونافع حتى مع المنافقين.
الثانية :الدلالة على كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع عن أنفسهم وعن النبوة .
الثالثة : بيان حقيقة وهي أن إنسحاب المنافقين سبب للنقص في جيش المسلمين .
الرابعة : إقرار الذين انسحبوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشهادتهم له بالرسالة ، إذ خاطبهم عبد الله بن عمرو بن حرام بقوله : يا قوم ، ولم يردوا عليه إلا بالإنهزام والمغالطة بالظن بعدم وقوع قتال يومئذ.
الخامسة : استنهض عبد الله بن عمرو الهمم بتذكيرهم بقومهم والمراد الأوس والخزرج ذكوراً وأناثاً إذ قال لهم : أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم( )، وفيه شاهد على أن المشركين يريدون استباحة المدينة .
السادسة : نعت عبد الله بن عمرو جيش الذين كفروا بأنهم العدو بقوله (حضر من عدوهم).
لبيان أن عداوة كفار قريش لا تختص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما تشمل أهل المدينة من الأوس والخزرج .
السابعة : بيان حقيقة وهي أن هزيمة المسلمين في معركة أحد ضرر على أهل المدينة ، فدفعها الله عز وجل عنهم ، وهل هذا الدفع نصر للنبي والمسلمين الجواب نعم ، بلحاظ أن معنى النصر أعم من الظفر والغلبة.
الثامنة : حاجة المسلمين لتكثير السواد والدفاع لجعل الذين كفروا ينصرفون عن القتال ، وفي التنزيل [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( ).
التاسعة : بيان استقرار الإيمان في نفوس الصحابة وتوكلهم على الله في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، وأنهم يعلمون بأن قتالاً سيقع .
العاشرة : ثبات المهاجرين والأنصار وعزمهم على التوجه للقاء العدو وانما إنخزل ثلث الجيش .
المسألة الثانية : تتضمن آية البحث توجه النهي من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يحزن على الذين كفروا وتماديهم في الغي ، وجاءت آية السياق مواساة له ، وتخفيفاً عنه , وعن المؤمنين ، وسلامة لهم من الحزن المتعدد في موضوعه ومسالكه .
فالأصل هو أن الحزن على الأخوة والأصحاب الذين قتلوا أشد وأمر فجاءت آية السياق بالإخبار ، عن كونهم في حال استبشار وسعادة للنعم التي تتغشاهم وهم عند الله عز وجل .
وفيه دعوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للإستبشار بحالهم.
وليكون من معاني الجمع بين الآيتين دفع الحزن والكآبة والأسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن المسلمين ، فمع أنهم كانوا في حال حرب وقتال مع الذين كفروا ، يتوالى نزول الآيات التي تدفع عنهم الحزن وآيات تعصمهم من الكفر والخشية من الذين كفروا ، كما ورد في الآية السابقة بقوله تعالى [فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي] ( ) .
قانون خوف المؤمنين من الله
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً تلازمه الحاجة حتى في أقل الأشياء ، لتكون تذكيراً متصلاً ومتجدداً له يدعوه للهداية والتبصر في أسرار الحياة وماهيتها كمزرعة للحاجة إلى رحمة الله عز وجل ، وهذا الخوف مقدمة للأمن من الخوف الأعظم من الله يوم القيامة ، قال تعالى في الثناء على المؤمنين وبشارتهم [لاَ يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن أنه لم يرد لفظ الفزع فيه إلا في الآية أعلاه ، لبيان أنه ليس له شبيه ومثيل في الدنيا ، وأنه أكبر مما يرد في التصور الذهني من مصاديق الخوف والفزع ، ولم يرد الله عز وجل من الناس إلا الخوف منه بصيغة الإيمان لقوله تعالى [وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) ويحتمل المفهوم وجوهاً :
الأول : الذين كفروا لا يخافون من الله تقدست أسماؤه .
الثاني : لا يرضى الله عز وجل من الذين كفروا إجتماع الخوف منه ، وولاية الشيطان (وعن أبي سعيد بن أبي فضالة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، ينادي مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك”)( ).
الثالث : لا ينتفع الذين كفروا من خوفهم من الله .
والمختار هو الثاني والثالث ، فليس من إنسان إلا وهو يخاف من الله عز وجل ، ولكن ولاية الشيطان غشاوة وحاجب دون الإيمان والإنقطاع إلى الخوف من الله .
وهذا الخوف من الكلي المشكك ، قال تعالى [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] ( ) وتبين الآية ان الخوف من الله عز وجل من أسباب ورشحات الإيمان من غير تعارض بين الأمرين ، فمن معاني ومصاديق الخوف من الله عز وجل أمور :
الأول : الحرص على أداء الواجبات العبادية والتقيد بأوقاتها ومقدماتها وشرائطها كالصلاة ، وإخراج الزكاة وتعاهد الصيام كزكاة للأبدان.
الثاني : عدم الإستهانة بالذنب وان كان صغيراً ، إذ لا صغيرة مع الإصرار ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا كبيرة مع الإستغفار ولا صغيرة مع الإصرار( ) .
الثالث : الإكثار من ذكر الله لأن هذا الذكر لجوء إليه سبحانه واستجارة به ، وهو باب للأمن في النشأتين ، وواقية من المعاصي ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَخَافُونِي] أي أكثروا من ذكري وان قيل أن ذكر الله سبب للخوف منه .
الجواب هذا صحيح وليس من تعارض بينهما ولا يلزم الدور للتباين الجهتي والأثر والتأثير المتبادل .
الرابع : أداء حقوق العباد ، وإجتناب بخس الناس حقوقهم ، والإمتناع عن الظلم .
الخامس : المسارعة في عمل الصالحات وإقتناء الحسنات ، قال تعالى [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] ( ).
السادس : الإكثار من الإستغفار سواء بخصوص ذنب مخصوص أو مطلقاً ، فذات الإستغفار خوف وخشية من الله عز وجل وهو أمن .
السابع : الإمتناع عن الغيبة والنميمة ونحوها من الأخلاق المذمومة .
الثامن : من مصاديق الخوف من الله حبه تعالى ورجاء رحمته وعفوه والشوق إلى لقائه ، وقد تفضل الله عز وجل بالصلاة واجباً عينياً على كل مسلم ومسلمة خمس مرات في اليوم ليكون مصداقاً للوقوف بين يديه ويصير طلباً للأمن عند الوقوف بيد يدي الله سبحانه [فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ]( ).
التاسع : التفكر في بديع صنع الله وعظيم قدرته والتسليم بـ[إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) .
العاشر : من شرائط الإيمان الإقرار بعالم البعث واليوم الآخر ، وهو باب للخوف من الله عز وجل وحضور الأعمال وشهادة الأركان والجوارح على الإنسان , قال تعالى [يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ]( ) .
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان وجعله [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وزوده بسلاح الخوف منه تعالى ليكون هذا السلاح من شرائط ومقدمات خلافته في الأرض ، وتكون به استدامة الحياة الدنيا ، وهو سبيل صلاح ، وهو من مصاديق ما ورد في التنزيل [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) ليكون الخوف من الله على وجوه :
أولاً : أنه مقدمة للصراط المستقيم واتباع الصالحات ، وفي التنزيل [فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ]( ).
ثانياً : الخوف من الله صراط مستقيم ، والذي يخشى الله عز وجل يكون على جادة الصواب (عن أبي وائل قال قال عبد الله خط لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما خطا وخطه لنا عاصم فقال هذا
سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمين الخط وعن شماله فقال هذه السبل وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم تلا هذه الآية * (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) ( )( ).
ثالثاً : الخوف من الله بلغة ووسيلة للعبور على الصراط يوم القيامة .

بحث منطقي
لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالخوف منه بقوله تعالى [وَخَافُونِي] لغايات حميدة ونفع يخصهم ويخشى الناس جميعاً الله عز وجل، إذ أنه تعالى [غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( )وعن خوفهم منه ، ولكن هذا الخوف خير محض لهم ، فهو سعادة وطمأنينة لهم وسبيل لغفران الذنوب وباب لتفريج الهموم والكرب ، وهو من مصاديق التقوى وثمرة من ثمار العلم ، وهو خلق حسن ، وكيفية نفسانية حميدة , وشاهد على الإيمان بلحاظ البرهان اللمي .
والمراد من اللمي ، مصدر صناعي مأخوذ من كلمة (لمّ) للإستدلال بالعلة على المعلول ، كما لو أصبح المسلم صائماً لأنه رآى هلال شهر رمضان ، والإيمان علة للخوف من الله لذا أختتمت آية السياق بقوله تعالى [وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) ويكون وفق القياس البرهاني :
الكبرى : كل مؤمن يخاف الله .
الصغرى : المسلمون مؤمنون .
النتيجة : المسلمون يخافون الله .
ويستدل على البرهان اللمي في كتب المنطق وعلى نحو متكرر بتمدد الحديدة بالحرارة فيقال هذه الحديدة ارتفعت حرارتها فهي متمددة، فتكون النتيجة : هذه الحديدة متمددة .
ولكن الإستدلال بآيات القرآن وصيرورة موضوعها هو المثل في العلوم المختلفة من عمومات قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
بلحاظ أن الحد الأوسط في القياس هو العمدة لأنه الرابطة بين الحد الأكبر والأصغر والذي يقود إلى (المطلوب ) واليقين بنسبة الأكبر إلى الأصغر ، لذا يسمى الحد الأوسط بأنه واسطة في الإثبات ، وقد يكون علة لثبوت الأكبر للأصغر ، وقد لا يكون واسطة في الثبوت .
أما البرهان الإني فان الإنية مصدر صناعي مأخوذ من كلمة (إن) المشبه بالفعل الذي يفيد الوجود والثبوت ، وهو استدلال من المعلول على العلة ، فحينما يصبح المسلم صائماً نعلم أن اليوم من أيام شهر رمضان لقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ).
فيكون المعلول واسطة في الإثبات ودليلاً للعلم بالعلة ، وعلى هذا فخوف الإنسان من الله عز وجل شاهد على إيمانه ، ويكون وفق القياس البرهاني :
الكبرى : الذين يخافون الله مؤمنون .
الصغرى : المسلمون يخافون الله .
النتيجة : المسلمون مؤمنون .
فان قلت إذا كان المسلمون مؤمنين فلماذا جاءت خاتمة آية السياق بصيغة الجملة الشرطية .

بحث نحوي
تنقسم أدوات الشرط إلى قسمين :
الأول : أدوات الشرط الجازمة ، وهي التي تجزم فعلين يسمى الأول فعل الشرط ، ويسمى الثاني جواب الشرط ، وهي الأدوات المبهمة التي تفيد العموم مثل [أي ] وهي أكثر أدوات الشرط إبهاماً بلحاظ ترتب معناها على المضاف إليه .
و(متى) والمراد منه الوقت المبهم .
وتحتمل الوجود والعدم ، لذا تكون جازمة مثل : متى تسمع الأذان صل ِ.
و(من) وهو اسم شرط مبهم يفيد العموم ، لذا يكون جازماً وفي قوله تعالى [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) وقال تعالى في ذم الشرك[وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا] ( ).
ومنها (إن) وتستعمل في المعاني التي تحتمل الوقوع , والمبهمة والنادرة ، وتأتي للبعث على الفعل كما لو قلت إن تدرس تنجح ، والتقدير بالصفة أو العكس ،كما تأتي للأمر التعليقي والذي لم يحن أوانه بعد .
وجاءت آية البحث بقوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] لبعث المسلمين على التقيد بصفة الإيمان.
ومنها مهما ، وهي مبهمة جازمة تقول : مهما تدرس أدرس وفي التنزيل[وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني : أدوات الشرط غير الجازمة مثل : إذا التي تفيد الوقوع كما في قوله تعالى [فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا] ( ) ويفارق الإبهام (إذا) فتكون غير جازمة ومثل: لو ، لولا ، كلما .
وبين المسلمين والمؤمنين عموم وخصوص مطلق فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس ، ويدل عليه قوله تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ) فشرط الإيمان هو دخوله القلب ليطرد هذا الدخول الميل لإتباع الشيطان والشهوات منه .
ومع الإيمان يأتي الخوف والخشية من الله عز وجل .
ومن أسرار مجئ (إن) في آية البحث دون (إذا) فلم تقل الآية (إذا كنتم مؤمنين ) بيان مسألة وهي أن الخطاب فيها أعم من أن يختص بالمؤمنين فيشمل عامة المسلمين ، وهل يشمل الإنذار المنافقين ، الجواب نعم في دعوة لهم وتحذير من خوفهم من الشيطان وأوليائه.

إعجاز الآية الذاتي
أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] في خطاب موجه إلى أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
ومن إعجاز القرآن أنه حتى إذا كان للآية سبب خاص لنزولها فان المدار على عموم المعنى والدلالة ثم ابتدأت آية البحث بحرف العطف الواو ، ثم الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمتضمن النهي المقرون باللطف والفضل من عند الله .
وهل يصح استقراء تقدير صيغة الجمع في آية البحث بلحاظ العطف في أولها ويكون تقديرها : ولا يحزنكم الذين يسارعون في الكفر ، الجواب نعم ، وهو من إعجاز الخطاب القرآني من وجوه :
الأول : قابلية ومناسبة الخطاب الشخصي في القرآن للغة العموم .
الثاني : إمكان تقدير الخطاب العام بالصفة الشخصية ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ] ( ) يكون من وجوه تقدير الآية : يا أيها الذي آمن اتق الله وابتغ إليه الوسيلة ) وهناك مسألتان :
الأولى : هل يدرك المسلم هذا المعنى وتلقيه الخطاب والأمر على نحو القضية الشخصية.
الثانية : هل يكون هذا التقدير في طول صيغة العموم .
أما الأولى فنعم ، وهو من إعجاز القرآن ومصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) لبيان فهم وتدبر المسلم بكلام الله عز وجل .
وأما الثانية , فالجواب أيضاً بنعم إذ يبقى الأصل هو صيغة العموم التي في النص القرآني ، وتكون صيغة المفرد الشخصية على نحو التقدير النافع ، وهو يتبادر إلى ذهن الإنسان بلحاظ إقراره بأنه مكلف مستقل .
ترى لماذا لم تقل آية البحث (ولا يحزنكم) خاصة وإن الآية معطوفة على خاتمة الآية السابقة وصيغة العموم فيها [إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] الجواب من جهات :
الأولى : بيان المنزلة الرفيعة والرفعة التي يتصف بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : الإخبار عن قانون وهو علم الله عز وجل بما في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإصلاحه له بدفع أسباب الحزن والكدورة عنه .
الثالث : لو جاء الخطاب بلغة العموم لقال بعضهم ليس كل المسلمين يحزنون على الذين كفروا باصرارهم على الكفر ، فقد لا يلتفت بعضهم لهذه المسألة .
الرابعة : حصانة الآية القرآنية من أراجيف المنافقين والمنافقات ، فلا يقول أحدهم أني لم أحزن على الذين كفروا .
وتبين آية البحث مصداقاً لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) بعناية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالناس جميعاً وحزنه بسبب مسارعة الذين كفروا في منازل الكفر والضلالة من جهات :
الأولى : وجود طائفة من الناس يصرون على الكفر مع تجلي معجزات النبوة والتنزيل .
الثانية : الأصل في سنخية البشر وما عندهم من نعمة العقل هو الإيمان بالآيات الكونية والمعجزات النبوية ، ولكن الذين كفروا اتبعوا أهواءهم وأصروا على الجحود .
الثالثة : من مسارعة الذين كفروا في الكفر مناجاتهم بمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتحشيد الجيوش ضده والطواف بين القبائل لجمع الجنود لقتاله , فقد كانوا يطوفون للفتنة والإفتتان.
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها) ( ).
وتحتمل الآية وجهين :
الأول : النهي الإبتدائي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن على الذين كفروا أي أن هذا الحزن لم يقع أصلاً فاراد الله عز وجل التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : حدوث الحزن في نفس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الذين يسارعون في الكفر سواء من قريش أو غيرهم .
فجاءت الآية لقطع هذا الحزن ، وظاهر صيغة المضارع في الآية هو الأول ، فلم تقل الآية (لم حزنت عليهم ) ليكون من معاني الآية الكريمة أن البلاء سيشتد على الذين كفروا لقيامهم بتحشيد وتسيير الجيوش لمحاربة النبوة والتنزيل ، ليكون من وجوه تقدير الآية :
الأول : إن الله عز وجل سيبطش بالذين كفروا فلا تحزن عليهم .
الثاني : ستسقط طائفة من الذين كفروا قتلى ، ويغادرون الدنيا على كفرهم فلا تحزن عليهم ،وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرجو دخول قومه الإسلام .
الثالث : البشارة بالفتح القريب وصيرورة الذين كفروا أذلة .
والمختار أن أكثر القبائل التي آذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد قريش هم هوازن ثقيف كما في معركة حنين ، وإيذائهم المسلمين وإمتناعهم في الحصن ، ولكنه لم يدع عليهم ، إنما سأل الله عز وجل لهم الهداية والصلاح ، (قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين انصرف عن الطائف على دحنا حتى نزل الجعرانة( )، فيمن معه من المسلمين ومعه من هوازن سبى كثير، وقد قال له رجل من أصحابه يوم ظعن عن ثقيف: يا رسول الله ادع عليهم.
فقال: ” اللهم اهد ثقيفا وائت بهم “.)( ).
ومن خصائص النهي في آية البحث إقترانه بالمواساة واللطف من عند الله ، وبيان علة عدم الحزن على الذين كفروا فلن يأت النهي وحده إنما جاء مع البيان والتعليل الذي يطرد الحزن على الذين كفروا من النفوس .
وتبين آية البحث أن موضوع حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الذين كفروا أعم من أن يختص بأشخاصهم واختيارهم الإفتراء والبهتان على منهاج النبوة ومعجزاتها ، إنما يشمل الإخبار والوعد من الله عز وجل بأنهم لا يقدرون على الإضرار بملة التوحيد في الأرض .
فحينما يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون تعاون المشركين في محاربة النبوة ، وبذلهم الأموال الطائلة لقتال المهاجرين والأنصار ، وإعدادهم للجيوش وشرائهم للخيل والرواحل وزحفهم إلى المدينة فانهم يخافون على أنفسهم وأهليهم وعلى عبادتهم وفرائضهم ، وفي التنزيل في موسى عليه السلام حينما رآى حبال وعصي سحرة فرعون تتحرك بمكر خشي موسى على نفسه من تلك الحيات لنفرة الإنسان بطبعه من الحية ، ولخشيته من كون عصاه لا تلقف عصيهم وتبطل سحرهم ، قال تعالى [فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى] ( ).
وجاءت آية البحث لإكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمرتبة سامية وهي دفع الحزن عنه الذي قد يأتيه بسبب الذين كفروا , وغزوهم بلاد الإسلام وإصرارهم على الفساد وسفك الدماء .
ومن إعجاز آية البحث أنها تبين قانوناً من وفي عالم الآخرة وهو حرمان الذين كفروا من الحظ والنصيب فيها ، لتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن المؤمنين لهم حظ ونصيب في الآخرة .
ولم يرد لفظ [حَظًّا]في القرآن إلا في ثلاث آيات منه ، إذ ورد في آيتين متجاورتين من سورة المائدة ، قال تعالى [وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ] ( ) .
لتبين الآية قانوناً وهو أن الكفر حاجز وبرزخ دون الحظ والنصيب في الآخرة .
لتكون الآية إنذاراً من الكفر ، واخباراً عن قبحه وضرره في النشأتين ، وهل للحظ أو عدمه في الآخرة من أثر في الحياة الدنيا .
الجواب نعم ، والحظ في الدنيا امتحان وابتلاء ، أما في الآخرة فهو جزاء وثواب من عند الله ، وفي التنزيل [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ).
ترى ما هي النسبة بين الحسنة التي تذكرها الآية أعلاه وبين الحظ في الآخرة ، فيه وجوه :
الأول : إرادة التساوي بين الحسنة والحظ ، والحظ هو النصيب من الأمر النافع .
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء , وأخرى للإفتراق بين الحسنة والحظ في الآخرة .
الثالث : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الحسنة أعم من الحظ .
الثانية : الحظ أعم من الحسنة .
الرابع : نسبة التباين ، فهناك فرق واختلاف في الموضوع أو السنخية بين الحسنة والحظ لبيان سعة فضل الله عز وجل على المؤمنين .
والمختار هو الثاني أعلاه .
وتبين آية البحث حرمان الذين كفروا من النصيب في الآخرة مجتمعين ومتفرقين ، وأنهم لن يضروا الله ، في كفرهم وفي مسارعتهم فيه بالإضافة إلى استحقاقهم العذاب الأليم في الآخرة .
لقد حرم الذين كفروا أنفسهم من حلاوة الإيمان ، ومن المسارعة في أداء الفرائض والعبادات ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
فأبتدأت آية البحث بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يحزن على الذين كفروا ، وهو توبيخ اضافي لهم بأن بدأت الآية بالخطاب والإكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشهادة له بالنبوة ومواساته ثم ذكرت حال الذين كفروا بما يتضمن البؤس والشقاء في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فيسوء أفعالهم وارتكابهم المعاصي ، وأما في الآخرة فللجزاء والعقاب الأليم لهم من عند الله عز وجل .
ويمكن تسمية آية البحث (ولا يحزنك)ولم يرد في القرآن هذا اللفظ وباضافة واو الجماعة إلا في آية البحث وآية أخرى بقوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ).
ولم تقل الآية (يسارعون إلى الكفر ) أنما أخبرت بحرف الجر [في الكفر]لبيان الظرفية ، وأن الذين كفروا تلبسوا بالكفر ، ولم يكتفوا بالإقامة فيه بل تمادوا بالجحود والضلالة .
كما في قوله تعالى [وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا] ( ) ، ولم تقل الآية (وارزقهم منها ) للحث على الكسب والسعي في نماء المال ، وعدم ابقائه للنفقة وحدها إذ تأتي عليه ، بينما ورد في قسمة التركة بحرف الجر (من) بعد الآية أعلاه بثلاث آيات كما في قوله تعالى [وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا] ( ) للتباين الموضوعي وأن التركة توزع على الورثة ، وكل واحد منهم يأخذ حصته وسهمه .
إعجاز الآية الغيري
إبتدأت آية البحث بحرف الإستئناف من الواو لبيان إتصال وتجدد وجود كفار في الجزيرة ،وهل تختص الآية بالذين يحاربون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويكون تقدير الآية : ولا يحزنك الذين يحاربون ) أم أن موضوع الآية أعم ، الجواب هو الثاني ، بلحاظ مسائل :
الأولى : ذات الكفر وتلبس طائفة من قريش وغيرهم به .
الثانية : المسارعة في الكفر ، قال تعالى [وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ]( ).
الثالثة : المناجاة والتعاون بين الذين كفروا في مسالك الكفر والجحود .
الرابعة : شراء الذين كفروا الكفر بأنفسهم وأموالهم .
الخامسة : إضرار الذين كفروا بأنفسهم .
السادسة : محاربة الذين كفروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابعة : ما ينتظر الذين كفروا من العذاب الأليم .
ومن إعجاز الآية بيانها لحال المشركين وتماديهم في الغي ، وفيه دعوة للناس للإبتعاد عنهم ، وعدم الإصغاء إليهم ، لقد كانت العرب تكرم قريشاً ، وتجعل لهم شأناً بينهم لجوارهم البيت وخدمتهم له ولزواره ، ولكثرة أموالهم وتسخيرهم بعضها في إعانة الناس وإقراضهم .
فجاءت آية البحث لتخبر الناس عن الموضوع الأهم في معرفة أحوال الناس وهو الإيمان والصلاح لذا قالت الآية بعد التالية [حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ] ( ).
ومن معاني قياس الأولوية في مفهوم الموافقة وهو اقتضاء الحكم في الفرع سريانه على الأصل وعلى ما هو أشد وأقوى منه ، كما في قوله تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه] ( ) فما أن يعمل الكثير من الصالحات يراها في الآخرة كالجبال ليس لذاتها إنما لنمائها وزيادتها بفضل من الله عز وجل ، فاذا كانت آية البحث تنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن على الذين كفروا ، فانها تنهاه والمسلمين أمور بالأولوية في تقدير الآية :
الأول : لا تخف الذين يسارعون في الكفر .
الثاني : لا تخف سعي الذين كفروا في الإعداد لقتالكم .
الثالث : لا يحزنك إبتداء الذين كفروا بالقتال في معركة أحد .
الرابع : لا يحزنك إحاطة عشرة آلاف رجل من المشركين المدينة في حصار ومعركة الخندق ، ويدل على عدم الحزن في المقام ، قوله تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا] ( ).
إذ أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بقدوم جيش المشركين ، وصيرورته والصحابة في حصار شديد ، لتهيئة أذهانهم ، والإستعداد له بالصبر والدعاء.
وذكر أن الوعد هو قوله تعالى عز وجل [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] ( ).
وقيل يتجلى الوعد الذي تذكره الآية من سورة الأحزاب بقوله تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ]( ) وأنه (فلما مسهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله } فتأول المؤمنون ذلك فلم يزدهم إلا إيماناً وتسليماً ) ( ).
الخامس : لا يحزنك إصرار الذين كفروا على الكفر والأفعال التي تترشح عنه فقد تفضل الله عز وجل وأخبر عن العذاب الأليم الذي ينتظرهم .
السادس : لا تظهر للمؤمنين حزناً على الذين كفروا , ومسارعتهم في الضلالة ، وقيامهم بمحاربة النبوة والتنزيل مع أن كلاً منهما حق وصدق .
وتبين الآية حقيقة وهي أن الكفار يحاربون الله بدليل قوله تعالى [إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ).
وتحتمل مضامين الآية أعلاه تحقق العقوبة من جهات :
الأولى : الجمع بين أمور وهي :
الأول : الكفر .
الثاني : محاربة الله .
الثالث : محاربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : السعي في الأرض بالفساد .
الثانية : تحقق أي فعل من الأفعال القبيحة أعلاه ، ولا يلزم تحققها جميعاً حتى يتنجز العقاب الشديد الذي تذكره الآية أعلاه .
الثالثة : التفصيل ،وتارة يكون فعل واحد منها يستحق هذه العقوبة وتارة الجمع بين اثنين أو أكثر منها .
والمختار هو الجهة الأولى أعلاه لدرء الحدود بالشبهات ولان النبي محمداً نبي الرحمة ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
وقد اختلف النحاة في واو العطف على قولين :
الأول : ارادة مطلق الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه ، وهو مشهور النحاة ، وقال أبو علي الفارسي : أجمع نحاة البصرة والكوفة على إفادتها الجمع المطلق .
الثاني : الترتيب ، وان المعطوف مرتباً ويأتي بعد المعطوف عليه ، كما لو قلنا بقول ثالث قسيم لهذين القولين وهو التفصيل فقد تكون لمطلق الجمع أو تكون للترتيب .
وهل يصح قول رابع وهو الأصل في واو العطف أنها لمطلق الجمع ، وقد يرد استثناء بالبينة والقرينة ، الجواب لا .
وتبين الآية للأجيال المتعاقبة وجود طائفة من الناس يسارعون في الكفر في أيام النبوة والتنزيل , والأصل في تلك الأيام التصديق بالمعجزات ، ومن الحجج في المقام إنعدام الحاجب والبرزخ بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والناس عامة والمسلم الكتابي والكافر ، وفيه مسائل :
الأولى : حفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإغتيال ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ).
الثانية : إطلاع الناس على معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية ، فقد ينزل عليه الوحي بحضور نفر وجماعة من المسلمين ومعهم من غيرهم من أهل الملل ، فيرون حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثقل التنزيل ، قال تعالى [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] ( ).
وما أن ينفصل عنه الوحي حتى يتلو الآية أو الآيات التي نزلت عليه بما يبهر الحاضرين ، وما لا يخطر على بالهم من علم الغيب ، وعلوم اللغة وذخائر البلاغة ، وكنوز المعرفة وأحكام الشريعة .
وهل تحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوطأة الوحي والتنزيل وعجز الجبال عن حمله كما تدل الآية أعلاه من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً] ( ).
والجواب المراد من الظلوم الجهول هو الذي يتخلف عن اتيان الفرائض والذي يميل إلى الشهوات (عن ابن عباس في قوله { إنا عرضنا الأمانة}( ) الآية . قال : الامانة الفرائض ، عرضها الله على السموات والأرض والجبال إن أدُّوها أثابهم ، وإن ضيعوها عذبهم ، فكرهوا ذلك واشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيماً لدين الله أن لا يقوموا بها ، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها . وهو قوله { وحملها الإِنسان إنه كان ظلوماً جهولاً }( ) يعني غراً بأمر الله) ( ).
وتحتمل مسارعة الذين كفروا في الكفر والذي تذكره آية البحث بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : إنها من ظلم الإنسان لنفسه .
الثاني : إنها من الجهالة وقوله تعالى [جَهُولاً] .
الثالث : إنه أمر آخر ليس من الظلم أو الجهل .
والصحيح هو الأول والثاني معاً ، ليكون من معاني آية البحث أن الذين كفروا تخلفوا عن وظائف الأمانة وتعمدوا الإعراض عنها ، وعدم التقيد بواجبات وسنن الخلافة في الأرض فأمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعدم الحزن عليهم وأخبره عن شدة عذابهم في الآخرة .
ومن مفاهيم آية البحث دعوة وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم للشكر لله عز وجل على دخول المهاجرين والأنصار في الإسلام ، وصيرورتهم أمة مؤمنة قادرة على محاربة وصدّ الذي كفروا في هجومهم على المدينة ، ومنعهم من مقاصدهم الخبيثة بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستئصال الإسلام ، قال تعالى[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ…]( ).
الآية سلاح
تبعث آية البحث على الرضا والطمأنينة والتفاؤل لأن الله عز وجل يعلم ما في الصدور ويصلح حال المسلمين ، ويجعلهم في سعادة دائمة لإحراز كنز الإيمان والتسليم بدلائل النبوة , وتمنع من الميل إلى الذين كفروا والتواطئ معهم ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ) وآية البحث مادة وموضوع للإحتجاج على الذين كفروا من جهات :
الأولى : حصانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الحزن على الذين كفروا سواء في أقوالهم وأفعالهم المبغوضة أو في الأذى الذي يلحقهم بمحاربة الإسلام , ومنه قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
لقد أراد الله عز وجل بآية البحث خلو قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الحزن والأسى على موضوع لا يستحق هذا الحزن إذ أدرك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسؤولياته أزاء الناس جميعاً في أيصال رسالة التبليغ والدعوة إلى الله , وكانت المعجزات تترى بين يديه ، فيحزن على صدود الذين كفروا وتجهيزهم الجيوش لمحاربته .
ويحزن على الذين أظهروا النفاق ، فيأتون إلى المسجد ويؤدون الصلاة اليومية ، ويخرج عدد منهم إلى ميدان الدفاع مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتابته ، وفي السرايا التي يبعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن ما أن ينزل بهم بلاء ويتعرض المسلمون للأذى حتى يظهر هؤلاء المنافقون الريب والشك بالنبوة ويظهرون الأسف على تحمل المؤمنين المشقة والأذى في جنب الله , ومنه ما جاء في التنزيل حكاية عنهم [وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ] ( ).
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحزن عليهم وعلى سوء مكرهم ، وقبح أفعالهم خاصة وأنهم سمعوا آيات القرآن ورأوا المعجزات ، فجاءت آية البحث تمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحزن عليهم ثم بينت أسباب عدم الحزن هذا .
ومن معاني السلاح في آية البحث والإنتفاع منها سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من الحزن على إمعان الذين كفروا بالكفر وجفائهم وإبطان المنافقين الكفر، وفي التنزيل [وَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ).
الثانية : بيان الآية لرأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالناس من مقامات النبوة ، وحزنه على الذين اختاروا الضلالة مع أن طرق الهداية مضيئة بأنوار البراهين في الآيات الكونية وآيات التنزيل ، قال تعالى [يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] ( ).
الثالثة : إخبار الآية عن مسارعة الذين كفروا في ميادين الكفر بالقول والفعل المنفرد والمتحد ، ومن معاني صيغة الجمع في الآية[يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] ( ) قيامهم بأعمال جماعية مشتركة تتعلق بالكفر منها هجومهم في معركة بدر ثم تجنيد الجيوش في معركة أحد والخندق .
الرابعة : ذم الذين كفروا لتعدد وتكرار أسباب وصيغ مسارعتهم في الكفر والضلالة ،وتحتمل آية البحث وجوهاً :
الأول : مسارعة الذين كفروا بالكفر قبل نزول الآية .
الثاني : مسارعة الذين كفروا بالكفر أوان نزول الآية .
الثالث : مسارعة الذين كفروا بالكفر بعد نزول آية البحث .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية وهو من مصاديق مجئ الآية بحرف الجر (في) الذي يفيد الظرفية وبقوله تعالى [يُسَارِعُونَ ] ( ).
الخامسة : بيان الآية لعدم إضرار الذين كفروا بالله عز وجل وملكه والنبوة وأصل الإيمان .

مفهوم الآية
في الآية مسائل :
الأولى : تبين الآية علم الله عز وجل بما في صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الخلجات وعلامات الحزن أو الفرح وأسباب هذا الحزن ، وهو من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ) وقد تبدو أمارات الحزن على الإنسان بانقباض وعبوس في وجهه ، أو في نبرة كلامه .
وقد يتوصل العلم الحديث إلى إكتشاف تبدل حال القلب عند الفرح والحزن ، إنبساطا وانقباضا , ولكن أسباب كل منهما الخفية كما وكيفا لا يعلمها إلا الله عز وجل ، لذا ذكرت الآية موضوع الحزن عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسببه وهو مسارعة الذين كفروا بالكفر وعنادهم ، وتجاهرهم بمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام .
الثانية : من مفاهيم الآية رحمة الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إزاحة الحزن المكروه عنه ، ودفع أسبابه ، وليس من حصر لطرق وصيغ هذا الدفع ، ومنها بيان قانون إكرام ولطف الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليعلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيزدادوا إيماناً .
وهل طرد الحزن على الكفار عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من مصاديق قوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
وتحذر الآية الذين كفروا من تماديهم في الضلالة ، فلما كان الله عز وجل يعلم بما في صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه يعلم ما يفعل الناس من الأفعال الظاهرية ، فان قلت قد يراد من قوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ] صدور القول والفعل الذي يدل على الحزن عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والجواب هذا صحيح ولكنه فرع الحزن الكامن في النفس .
لبيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً بأن لا تظهر معاني الحزن على الذين كفروا في قول وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : من مفاهيم آية البحث أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حريص على هداية الناس جميعاً ، وعلى دخول الذين كفروا الإسلام ، قال تعالى [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] ( ) وهل يتعارض هذا الحرص مع النهي الوارد في الآية ، الجواب لا ، للتباين بين الحرص والحزن .
الرابعة : بيان آية البحث لقانون من الإرادة التكوينية ، وهو عجز الذين كفروا عن الإضرار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، لقد كان المشركون يشيعون بأنهم يقتلون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم واستأجروا من يأتي للمدينة ويدخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقتله ، فجاءت آية البحث بالبشارة بسلامة النبي والتنزيل من كيد ومكر الذين كفروا ، وفي التنزيل [وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ] ( ).
ومن الشواهد إشاعة المشركين يوم معركة أحد بأنهم قتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : تحدي آية البحث للذين كفروا بأن تجهيزهم الجيوش العظيمة وإنفاقهم الأموال الطائلة عليها لخصوص محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لن يضر الإسلام واستدامة عقيدة التوحيد في الأرض ، والآية وعيد للكفار ، أي مهما عملتم فان فجر الإسلام يبزغ في الجزيرة ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] ( ).
السادسة : بيان الآية لحال فريق من الناس ، وهم الذين كفروا ويسارعون في الكفر ، وهذه المسارعة هي من أهم أفراد وعلة الحزن الذي نهت عنه الآية .
السابعة : بعث الغبطة والسعادة في نفس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإيمان المهاجرين والأنصار ودعوته ليشكر الله عز وجل على هذه النعمة وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشكر الله والمؤمنين ، ويشكر من يقضي له مسألة .
وعن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي قال : أن النبي صلى الله عليه وآله سلم استسلف منه حين غزا حنينا ثلاثين أو أربعين ألفا فلما انصرف قضاها إياه ثم قال بارك الله لك في أهلك ومالك إنما جزاء السلف الوفاء والحمد( ) .
ولم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم حنيناً إنما كان يسير في الطريق عائداً من مكة بعد فتحها ، فانقّضت عليهم هوازن وثقيف فعندما سمع مالك بن عوف النضري رئيس هوازن بفتح مكة بآية ومعجزة حسية من عند الله ، مع قلة مقاومة وقتال من المشركين لم يتعظ , ولكنه جهز جيشاً عظيماً لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم تلتفت هوازن وثقيف الى قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بدأ فتح مكة بالعفو عن أهلها , وقال لهم : أذهبوا ، فانتم الطلقاء ) .
أما الذين فروا من مكة عند دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعث إليهم الأمان ، وأمهلهم أربعة أشهر منهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل .
وعن جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المهاجرون بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة ، والطلقاء من قريش ، والعتقاء من ثقيف ، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة( ).
وهناك قبائل من هوازن لم تخرج لحرب النبي في حنين منهم كعب وكلاب ، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا بعض الأفخاذ , لقد غرّ رؤساء هوازن كثرة إنتصاراتهم في الجاهلية ، وهم الذين اختاروا موضع معركة حنين بوادي أوطاس ، وعندما سألهم دريد بن الصمة وهو فارس شجاع وكان رئيسهم ولكنه أصيب بالعمى وبلغ عمره مائة عام .
عندما نزلوا : بأى واد أنتم , قالوا بأوطاس , قال نعم محل الخيل لاحزن ضرس ولا سهل دهس ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء .
قالوا : ساق مالك بن عوف النضرى مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم.
قال أين مالك , قيل هذا مالك , ودعي له , فقال : يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الايام ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء .
قال : سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم قال ولم قال أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم , فانقض به ثم قال راعي ضأن والله وهل يرع المنهزم شئ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك ( ).
فمن أسباب عدم الحزن على الذين كفروا توالي دخول الناس في الإسلام ، وتناقص عدد الذين كفروا ، وصيرورة مسارعة الذين كفروا بالكفر كالسراب ، ليس له أثر وتأثير .
الثامنة : يدل حصر النهي عن الحزن بمسارعة الذين كفروا بمنازل الكفر، فهل تدل آية البحث في مفهومها على جواز الحزن على غيرها كالخسارة في المعركة وسقوط الشهداء .
الجواب نعم ، وفيه الأجر والثواب ، ولم يأت القرآن بالأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحزن ، إنما تتضمن القرآن البشارة بانتفاء الخوف عن المؤمنين يوم القيامة ، وفي حديث الغار ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى صاحبه عن الحزن مع بيان العلة كما ورد في التنزيل [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
التاسعة : البشارة للمؤمنين بأن لهم حظاً ونصيباً في الآخرة ومنه سلامتهم من الحزن والخوف ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) لتكون سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحزن في الدنيا مرآة لنجاة المؤمنين منه يوم القيامة .
ومع قلة كلمات الآية جاء وسطها وآخرها كالعلة للنهي الوارد في أولها ، كما يأتي بيانه في باب (الصلة بين أول وآخر الآية) ( ).
العاشرة : إختتام آية البحث بالإنذار والوعيد للذين كفروا ، والإخبار عما ينتظرهم من العذاب الأليم يوم القيامة ، وهو من مصاديق الإنذار في الآية أعلاه ، وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإنذار .
وهل تدل الآية في مفهومها على البشارة ، الجواب نعم من وجوه :
الأول : البشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتنزه عن الحزن على الذين كفروا .
الثاني : البشارة للمؤمنين لحسن إختيارهم وعصمتهم من الكفر ومن المسارعة فيه .
الثالث : البشارة للتائبين من الكفار عامة ومن محاكاة وإتباع الذين يسارعون في الكفر.
وهذه البشارة تبعث الناس على التوبة لما فيها من النفع الخاص والعام في النشأتين .
العاشرة : قد يسأل بعضهم لماذا لم يمنع الله الذي كفروا من المسارعة في مسالكه ، مع أن قلوب العباد بيده يقلبها كيف يشاء ، والجواب جعل الله الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء ، وتفضل وأخبر الناس بواسطة الأنبياء والكتب السماوية النازلة عليه بأن الموت أمر حتمي على الناس ، وهو بداية حياة أخرى ملاكها الحساب والجزاء وأن المسارعة في الكفر سبب للحرمان من النصيب ومن العفو والمغفرة يوم القيامة ، قال تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ) .
ولم يرد لفظ[نَخْتِمُ] في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان أن الناس في الدنيا يتكلمون بما يشاءون وتكتب الملائكة أقوالهم وأفعالهم ليأتوا يومئذ بسجلاتهم ، وليس هي الشاهد الوحيد على الذين كفروا والذين يبادرون إلى إنكار الذنوب مثلما أخبرت آية البحث بأنهم يسارعون في الكفر .
(عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يجيئون يوم القيامة على أفواههم الفدام وإنّ أول ما يتكلم من الآدميين فخذه وكفه) ( ).
والفدام يوضع على الفم لغلقه ، والفدام الذي يشد على فم الإبريق لتصفية الماء الذي فيه .
لقد أراد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغبطة والسعادة بفضله ، وتعاهد شكره لله عز وجل بتجلي النعم الظاهرة والباطنة ، وهو على أقسام :
الأول : النعم الشخصية .
الثاني : النعم في أهل البيت .
الثالث : فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمهاجرين والأنصار .
الرابع : تزايد عدد المسلمين والنقص في عدد الكفار .
الخامس : شيوع معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس ، وصيرورتها حجة عليهم ، وزاجراً عن نصرة كفار قريش في حربهم على الإسلام ، وسعيهم المتكرر لغزو المدينة .
السادس : توالي نزول آيات القرآن ، وموضوعية كل آية في بناء صرح الإيمان وشأنها في أسباب النزول وهداية الناس للعمل بمضامينها ، ويحتمل توالي نزول القرآن وجوهاً :
الأول : إنه معجزة عقلية .
الثاني : إنه معجزة حسية .
الثالث : إنه معجزة عقلية حسية .
الرابع : إنه ليس معجزة .
والصحيح هو الثالث أعلاه ، قال تعالى[ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ]( ).
السابع : إتصال الوحي ، وعدم إنقطاعه عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وبين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق ، فكل آية من القرآن من الوحي ، والوحي أعم ، ومنه الحديث القدسي الذي ينزل بمعناه دون اللفظ المعين فيصوغه النبي ليكون المائز الجلي بين القرآن والحديث القدسي من إعجاز القرآن.
الثامن : سلامة المدينة وعصمتها من غزو الذين كفروا مع سعيهم الحثيث بخيلهم وخيلائهم وعتوهم لإرادة غزوها .
والأصل أن الحزن ضده الفرح ، ولكن ضده في المقام أعم إذ يشمل السكينة والصبر والرضا بحكم الله عز وجل ، إذ كان المشركون يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، ويصدون الناس عن الإسلام ، فتفضل الله عز وجل وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم الحزن عليهم ليكون بشارة بالسلامة من أذاهم وضررهم ، قال تعالى[وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ]( ).
وتتعدد مصاديق وأسباب الحزن على الذين كفروا في عنادهم وتحشيدهم الجيوش وقتالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وإرادتهم غزو المدينة وسبي نسائها .
ليكون قوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ]نوع أمان ووعد من عند الله عز وجل بأن مسارعتهم بالكفر لن تضر الإسلام ، قال تعالى [وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً] ( ) إذ عصم الله عز وجل النبي محمداً من الميل إلى الذين كفروا ، وبقي متعاهداً لذم آلهتهم ، ولم يداهنهم في ملة الضلالة التي هم عليها .
ومن مفهوم الموافقة في آية البحث ندب النبي والمسلمين إلى الحيطة والحذر من الذين كفروا وأنهم قد يباغتونهم في الهجوم ، وهو من دلالات مجئ الآية بصيغة المضارع [يَحْزُنْكَ][ يُسَارِعُونَ][ لَنْ يَضُرُّوا][ أَلاَّ يَجْعَلَ] إلى جانب الوعيد الأخروي الذي جاء في الآية متعدداً من جهتين :
الأولى : إنعدام الحظ والنصيب للذين كفروا في الآخرة .
الثانية : العذاب الأليم للكفار الذين يسارعون في الكفر بالخلود في الجحيم ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا] ( ).
ومن مفاهيم الموافقة في الآية الإخبار عن عالم الآخرة والجزاء فيه ، وأن الدنيا مزرعة ودار عمل ، وأختتمت آية البحث بزجر الذين كفروا عن المسارعة في الكفر ، وذمهم ودعوتهم للتوبة والإنابة .

إفاضات الآية
إبتدأت الآية بالخطاب من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبصيغة النهي الذي يتضمن إكرامه وتوبيخ الذين كفروا ، وأنهم لا يستحقون الحزن عليهم مع قبح الذي يفعلون .
ومن الذين كفروا من رؤساء قريش عشيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاء النهي عن الحزن عليهم لبيان أن المدار في الصلات والفرح والحزن على الإيمان ، فالمؤمن لا يحزن على الكفر الذي يتمادى في الغي ، ويصر على الضلالة .
لقد ورد في التنزيل [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ] ( ) وصحيح أن موضوع الآية أعلاه هو القتال ، وصيرورة العدد القليل من المؤمنين يغلبون العدد الكبير في معارك الإسلام الأولى إلا أنه لا يمنع من العموم في التخفيف لقانون الإطلاق في النعم الإلهية ، وتبعث الآية المسلمين إلى المسارعة في ميادين الإيمان وأداء الفرائض والعبادات.
وهل تنفع مسارعة المسلمين في سبل الهداية وإتيان الصالحات في منع الذين كفروا من المسارعة في الكفر والضلالة ، الجواب نعم ، لذا وردت آيات القرآن والسنة النبوية بالحث على المسارعة في مسالك الخير والصلاح في وصف المؤمنين [أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ] ( ) .
وتدعو آية البحث المسلمين والناس جميعاً إلى التدبر في مضامينها ، ومعرفة الطرق والكيفيات والوسائل التي يسارع فيها الكفار بما فيه الإضرار بالنفس والغير .
ومنها ما يبينه قوله تعالى [وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ).
وتذكر آية البحث بعالم الآخرة ، ومراتب الناس فيها ، وذم الذين اتبعوا الهوى وقست قلوبهم وارتكبوا المعاصي ، وإختاروا الغفلة والتغافل عن المعجزات النبوية ، وذكرت آية البحث عالم الآخرة من جهات :
الأولى : مفهوم قوله تعالى [الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] ( ) على أن الكفر طريق إلى النار .
الثانية : عدم إضرار الذين كفروا في دين الله والمؤمنين وفي ملك الله عز وجل في الدنيا والآخرة ، وهو من مصاديق ما ورد في آية البحث [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( ).
الثالثة : ذكر الآية للآخرة ، وحرمان الذين كفروا من النصيب فيها .
الرابعة : شدة عذاب الذين كفروا في الآخرة .
وهل يمكن إنشاء قانون وهو (كل آية من القرآن تذكر بالآخرة سواء في منطوقها أو مفهومها ) الجواب نعم ، وهو من الشواهد على نزول القرآن من عند الله عز وجل ، وبعث المسلمين للعمل للآخرة ، وزجر الذين كفروا عن المسارعة في الكفر ، ومنع الناس من إعانتهم والركون إليهم من أجل توبتهم وصلاحهم .
ويتلو المسلمون آية البحث في الصلاة وخارجها للثبات في منازل الإيمان ، وبيان التضاد بينهم وبين الذين كفروا .

الآية لطف
ابتدات الآية بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمتضمن النهي عن موضوع يتعلق بالكيفية النفسانية ويخص الحزن على قوم لسوء إختيارهم الكفر والضلالة .
وهل لأنهم لا يستحقون الحزن عليهم ، أم أن ذات الكفر الذي يتلبس به الإنسان يجب أن لا يحزن عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون ، الجواب هما معاً ، فقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل للتمييز بين الحق والباطل، ولإتباع الهدى وإجتناب الضلالة ، لذا جاء القرآن بمخاطبة أرباب العقول والإلباب كما في قوله تعالى [قُلْ لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) .
ومن أسرار الحياة الدنيا أن الحزن والسرور وسيلة للتقرب إلى الله عز وجل إذا كان كل منهما في موضعه وبقصد القربة إلى الله ، فيحزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فقد صحابي في ميدان المعركة , كما بكى على ولده ابراهيم (وقال : ” القلب يجزع ، والعين تدمع ، ولا نقول ما يسخط الرب ، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون) ( ) .
وقد حزن يعقوب على ابنه يوسف ، كما ورد في التنزيل [وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ]( ) مما يدل على أن الحزن له مراتب متعددة في ذاته ومدته ، إذ طال حزن يعقوب مع كثرة بكائه فذهب بصره ، فجاءت آية البحث لتنهى النبي صلى اله عليه وآله وسلم والمسلمين عن مطلق مراتب الحزن على الذين كفروا من جهات :
الأول : إختيار الكفر .
الثاني : مقابلة المعجزات والآيات بالبقاء على الكفر .
الثالث : المسارعة في الكفر .
وهل يشمل المقام عدم الحزن على هلاك وقتل الكافر ، وهو على كفره ، الجواب نعم بلحاظ أن المسارعة في الكفر سبب لسخط الله وتعجيل الإنتقام من الكفر , وسيأتي بعد آيتين وفق نظم القرآن [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ).
ومنهم من أثنى على حال الحزن وقال أنه مانع من التفرق في أودية الغفلة وأنه من أوصاف السلوك ).
ولكن الله عز وجل أراد للمؤمنين الغبطة والتنعم بالخيرات ومصاديق فضله المتتالية والمتعاقبة ، وفي آية من علم الغيب وبيان أحوال أهل الجنة ، قال تعالى [وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور] ( ) .
ولم يرد لفظ [أَذْهَبَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه وأخبرت آية البحث بحرمان الذي كفروا من النصيب في الآخرة ليكون من معاني آية البحث : يا أيها النبي لا تحزن على حرمان الكفار من الحظ والنصيب في الآخرة ، فلا يأتيهم ثناء ولا شآبيب رحمة وصحائف مغفرة .

الآية بشارة
لقد جعل الله عز وجل القرآن كتاب البشارة للمؤمنين ، والإنذار للذين كفروا ، ومن خصائص النفس الانسانية أنها تميل إلى البشارة وما فيه الغبطة والبهجة ، وتنقبض من الإنذار ، فتفضل الله عز وجل بآية البحث لصرف الناس عن الكفر ، ودعوة الكفار إلى الإمتناع عن المسارعة فيه ، وعن التعدي والإثم .
وجاء في الثناء على المتقين قوله تعالى [لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ] ( ).
وهل في آية البحث بشارة ، الجواب نعم ،من وجوه :
الأول : البشارة بصيرورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لا يحزنون على الذين كفروا ، ولو لم تنزل آية البحث لوجدت المسلمين يبذلون الوسع بخصوص الذين كفروا والطمع في إصلاحهم ، ولا تتعارض آية البحث مع هذا الجهد والجهاد ، ولكنها تخبر بأن الكفار يسارعون في الكفر في ذات الوقت الذي يسعى المؤمنون فيه لإصلاحهم ، مما يلزم عدم الحزن والأسى عليهم .
فلا تعارض بين أمر المسلمين للذين كفروا بالهداية والتوبة وبين عدم الحزن عليهم ، وفي التنزيل [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ]( ).
الثاني : التخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدم الحزن على الذين كفروا .
الثالث : كشف وفضح مسارعة الذين كفروا بمنازل الكفر , فمتى ما أدرك الإنسان أن عمله القبيح مكشوف فانه يتردد في تكراره وقد يمتنع عنه .
الرابع : عدم إضرار الذين كفروا بمقالة وقانون التوحيد والآيات الكونية المقدّرة وآيات وأحكام الشريعة .
الخامس : دلالة آية البحث في مفهومها على فوز المؤمنين بالنصيب والثواب العظيم ، قال تعالى [مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ] ( ).
ومن إعجاز القرآن اتصاف بشارته بالعموم ومجئ الإنذار لإرادة الخصوص ، فجاءت آية البحث بالإنذار من وجهين :
الأول : إنذار الذين كفروا .
الثاني : إنذارالذين يسارعون في الكفر .
وبين الوجهين عموم وخصوص مطلق ، فالذين كفروا هم الأعم .
وهل يمكن القول بأن النسبة بينهما التساوي , فكل كافر هو يسارع في الكفر ، ولكن الآية أرادت بيان قبح فعل للذين كفروا .
المختار لا ، فصحيح أن الكفر شرك وضلالة ويؤدي إلى النار ، ولكن الذين يسارعون في الكفر شطر وطائفة من عموم الذين كفروا ، ليكون من معاني آية البحث ، ولا يحزنك الذين كفروا ولا الذين يسارعون في الكفر منهم بلحاظ أن أصل هذه المسارعة هو الكفر .
فقد جاء المشركون بثلاثة آلاف رجل إلى معركة أحد ، وفيه مسألتان :
الأولى : تخلف وامتناع كثير من الذين كفروا عن الخروج لمحاربة المسلمين خاصة مع بقاء صدى وأثر معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة بين أهل مكة ، فقد هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذاته وشخصه الكريم ، ولكن معجزاته الحسية والآيات والسور التي انزلت عليه في مكة باقية بين ظهراني أهلها ، وهي مجتمعة ومتفرقة تمنع الناس عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل هذه المحاربة أظهر مصاديق المسارعة في الكفر ، الجواب نعم ، ليكون من إعجاز آية البحث زجر الذين كفروا عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهو الذي تجلى في صلح الحديبية وفتح مكة ، فبعد أن حضر عشرة آلاف رجل من الكفار في معركة الخندق وأشرفوا على المدينة يريدون القتال والغزو واستباحة المدينة ليعطوا للمنافقين فيها مادة لإعلان السخط والإستياء من مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين إليها ، ودخول أغلب الأوس والخزرج في الإسلام خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ألف وأربعمائة من أصحابه لأداء العمرة ، فكان صلح الحديبية ليفتح باب أداء العمرة وبأمان للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
الثانية : تجلي قانون وهو خيبة الذين كفروا بعد كل معركة لهم ضد النبوة والتنزيل ، ولا تختص هذه الخيبة بالذين خرجوا منهم للقتال ، إنما تشمل الذين وراءهم من الكفار رجالاً ونساءً ، وهل تلحق الخيبة المنافقين ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً] ( ).
الآية إنذار
لقد أختصت هذه الآية بذم الذين كفروا بواسطة نهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن عليهم مع أنه بعث بالسماحة والرحمة ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وهل في آية البحث رحمة للذين كفروا مع مجيئها بالوعيد لهم بالعذاب بالنار ، الجواب نعم ، من وجوه :
الأول : خطاب الآية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يحزن على الذين كفروا ، وهذا النهي من سخط الله على الذين كفروا .
الثاني : زجر الذين كفروا عن المسارعة في الكفر ، إذ كشف الله عز وجل في هذه الآية الظاهر والخفي من قبائح فعل الذين كفروا ، وفي ذمهم ورد قوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ]( ) .
الثالث : تدعو آية البحث الذين كفروا للتدبر في حال المؤمنين وما هم عليه من القناعة والزهد والرضا بأمر الله عز وجل ، فقد كان المهاجرون في حال فقر ومنهم أهل الصفة الذين يسكنون في ظلة بجوار المسجد يرجون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإخوانهم خصوصاً الأنصار إطعامهم .
بينما كان كفار قريش في حال استقرار ، ورغد عيش ومع هذا فهم يسارعون في الكفر فنزلت آية البحث للمنع من الحزن عليهم لإفراطهم وطغيانهم وجحودهم بالنعم ، ومنها نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ] ( ) .
وآية البحث إنذار من وجوه :
الأول : الإنذار للذين كفروا ودعوتهم للنجاة من مستنقع الضلالة .
الثاني : الإنذار والتخويف للكفار الذين يسارعون في الكفر ، وتحذيرهم وتخويفهم من العقاب الأخروي .
الثالث : تنبيه الناس جميعاً بلزوم عدم مغادرة الدنيا على الكفر ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ] ( ).
الرابع : حرمان الذين كفروا من حزن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليهم في الدنيا والآخرة ، وهل يدل قوله تعالى [وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ]( ) على عدم شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآخرة للذين كفروا ، الجواب لا دليل عليه ، ويستفاد عدم الشفاعة هذا من آيات أخرى.
وعن (زيْدُ بن أرْقَم ، عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ؛ أنه قال : ” مَنْ قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُخْلِصاً دَخَلَ الجَنَّةَ ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا إخْلاَصُهَا؟ قَالَ : أَنْ تَحْجِزَهُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ “)( ).
الخامس : انذار الذين كفروا من المسارعة في الكفر ، وهل منه بروز بعض المشركين إلى القتال في بدر وأحد والخندق ، وطلبهم من المسلمين النزال ، الجواب نعم ، ومنه إبتداء الذين كفروا بالقتال ، ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم البدء بالقتال ، وأنه كان يأمر أمراء السرايا بعدم البدء به .
ولا عبرة بالقليل النادر من مداهمة المشركين الذين يرومون غزو المدينة وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ففي معركة أحد برز حامل لواء المشركين وطلب المبارزة ، فامتنع المسلمون عن الخروج له ، ولم يبرز له أحد فنادى بأعلى صوته (فَقَالَ يَا أَصْحَابَ مُحَمّدٍ زَعَمْتُمْ أَنّ قَتْلَاكُمْ فِي الْجَنّةِ وَأَنّ قَتْلَانَا فِي النّارِ كَذَبْتُمْ وَاَللّاتِي لَوْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ حَقّا..) ( ) ليبعث الحماسة في صفوف المشركين ، وإرادة بعث الشك والحيرة والخوف في قلوب المسلمين .
السادس : توبيخ وزجر الذين كفروا بسعيهم للإضرار بحضور الإيمان في النفوس والمجتمعات فأبى الله عز وجل إلا أن تكون أمة من الناس تتبع النبي ولا يضرهم سعي الذين كفروا لإرتدادهم والإضرار بهم .
السابع : إنذار الذين كفروا من الحرمان من نعم الآخرة (عن سلمان قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السموات والأرض ، كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض ، فأهبط منها رحمة إلى الأرض ، فيها تراحم الخلائق ، وبها تعطف الوالدة على ولدها ، وبها يشرب الطير والوحوش من الماء ، وبها تعيش الخلائق ، فإذا كان يوم القيامة انتزعها من خلقه ثم أفاضها على المتقين ، وزاد تسعاً وتسعين رحمة ، ثم قرأ { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون}( )( ).
الآية موعظة
لقد تفضل الله عز وجل وسمّى القرآن بياناً وموعظة ، قال سبحانه [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ) وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : القرآن جملة واحدة بيان وهدى وموعظة .
الثاني : كل سورة هي بيان وهدى وموعظة .
الثالث : كل آية من القرآن بيان وهدى وموعظة.
الرابع : التفصيل فبعض آيات القرآن بين ولبعضها هدىّ وبعضها موعظة .
الخامس : الصلة بين كل آيتين من القرآن بيان وهدى وموعظة .
وباستثناء الوجه الرابع أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق الآية أعلاه ، ومن إعجاز القرآن أن الموعظة في الآية القرآنية متعددة ويترشح عنها الخشوع لله عز وجل وابتدأت آية البحث بنهي موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل هذا النهي متوجه له بصفة النبوة والرسالة أم الصفة الشخصية كونه يتعلق بالكيفية النفسانية ، الجواب هو الأول لتكون الآية موعظة للمسلمين والناس ، كما يلحق المسلمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النهي وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا يحزنكم الذين كفروا يسارعون في الكفر ) وهل يشمل موضوع الآية المنافقين ويكون تقدير الآية : ولا يحزنك الذين يسارعون في النفاق ) الجواب نعم ، وإن كان المنافقون يلحقون بالكفار في مواطن عديدة كما أنهم يكونون في العذاب الشديد يوم القيامة ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا] ( ).
ومن معاني الموعظة في آية البحث مسائل :
الأولى : علم الله عز وجل بما في القلوب ، وحال الفرح والحزن عند الإنسان ، وشدة أو قلة الفرح والحزن مع اسبابه ومدة بقائه عند الإنسان ، قال تعالى[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( )، فجاءت آية البحث لدفع ورفع الحزن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بسبب عنت وظلم وجور الذين كفروا ، ومن معاني مسارعتهم في الكفر بلحاظ القتال وجوه :
الأول : مبادرة كفار قريش للخروج لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حالما جاءهم ضمضم بن عمرو رسول أبي سفيان يخبرهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قد يتعرضون للقافلة التي كانت تتألف من ألف بعير ، فتناجت قريش بنجدة القافلة ، ولكن حينما أرسل لهم أبو سفيان رسالة ثانية تنسخ الأولى ، ويخبرهم فيها بسلام القافلة وأنها أشرفت على الدخول إلى مكة ، وطلب منهم أن يرجعوا لإنتفاء الموضوع ، ولكن بعض رؤسائهم أبوا الرجوع كم تقدم بيانه ، ومن الموعظة في الحياة الدنيا كثرة الإنذارات وأسباب الإنصراف عن المعصية والإثم عسى أن يتعظ المنفرد والمتعدد من المسلمين بل هي تشمل الناس جميعاً ، وهو من مصاديق رحمة الله بالناس ، وخلافة الإنسان في الأرض ، وعمومات قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ومن فضل الله ان الإنسان كلما اقترب من إرتكاب المعصية إزدادت الإنذارات كماً وكيفاً ، وهل منه قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ) بخصوص النبي يوسف عليه السلام ، أم أنه معصوم ، ولا تصل النوبة إلى حاجته إلى لإنذارات ،والمختار هو الأول ، إذ ينتفع البر والفاجر من البرهان الذي يأتي من عند الله ، وينفع البرهان في الآية أعلاه امرأة العزيز في الكف عن مراودة يوسف عليه السلام ، ولا يعلم مقدار وكثرة إنتفاع أجيال الناس من الآية أعلاه في الإنزجار عن مقدمات الفاحشة إلا الله وهو من مصاديق قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
والمختار أن يوسف لم يهم بارتكاب المعصية بمعنى لم يأت ببعض المقدمات لها ، وتقدير الآية : ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهّم بها).
الثاني : من أبهى المواعظ في ميدان المعركة نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفين وقبل بدء القتال مخاطباً المشركين (قولوا لا إلا إ الله تفلحوا).
ترى من هم الذين ينتفعون من هذا النداء بتلك المناسبة ، فيه وجوه :
أولاً : المهاجرون والأنصار بتثبيت الإيمان في صدورهم وإدراك لزوم الدفاع عن عقيدة التوحيد في الأرض عند إصرار الذين كفروا على القتال قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا]( ).
ثانياً : في مناداة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنداء التوحيد بين الصفين موعظة وعبرة لجيش الذين كفروا وزاجر عن القتال ، وتأكيد قبح محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين لم يرموا سهماً ، ولم يبرزوا للقتال .
ثالثاً : لا ينحصر أثر نداء الإيمان بساحة المعركة ، بل يشمل الناس من وراء الفريقين ، إذ يخبرون عن بدايات المعركة وما جرى فيها ، وأنت ترى توثيق العرب للقصائد والأشعار التي قيلت والتفاخر في المعارك فجاء نداء التوحيد أمراً مستحدثاً مثلما أنه يجري يومئذ على لسان نبي هو خاتم المرسلين ، ليكون التباين جلياً بين نداء التوحيد وبين أشهار المشركين لسيفهم والتي تأت إلا بالخزي لهم ، قال تعالى[وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
رابعاً : انتفاع أهل مكة والقرى التي حولها من نداء التوحيد ، وفيه تذكير لهم بأيام دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو في مكة فنداء التوحيد الجامع المشترك بين الملل السماوية ، وقوام الدعوة الإسلامية ، قبل وبعد الهجرة وهو باق بين الناس إلى يوم القيامة .
خامساً : زجر الناس عن إعانة كفار قريش بالمال والسلاح ، وحثهم على عدم الخروج معهم وإن بذلوا الأموال ، ليكون نداء التوحيد سبباً للنقص في أموال قريش الذين صاروا يبذلون الأموال الطائلة للقبائل والأشخاص للخروج معهم أي أن نداء التوحيد أثقل كاهل كفار قريش ،وجعل فريقاً من الناس يعرضون عنهم ،وفريقاً لا يرضون باعانتهم إلا بشروط وأموال طائلة .
سادساً : يبعث نداء التوحيد في ساحة المعركة الخلاف والفرقة وأسباب النفرة بين أفراد جيش المشركين ، قال تعالى[بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا]( ).
سابعاً : نداء التوحيد موعظة سواء نادى به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو المسلمون أو غيرهم ، وفي سوح المعركة أو خارجها ، وكذا تلاوة آية البحث ، وما فيها من وضع الحزن والكدورة عن المسلمين بسبب إمتناع الذين كفروا عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل مناداة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقول (قولوا لا إله إلا الله) بين الصفين صرف للحزن على الذين كفروا عنه ، الجواب نعم .

الآية رحمة
ليس من حد لرحمة الله بالعباد ، وهذه الرحمة أكبر من إحاطة العقول بها ، وهي وحدها من الأفراد التي يصدق عليها [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) فرحمة الله عز وجل بكل إنسان أعم من أن تحصى فكيف وأن رحمته تعالى تتغشى الناس في كل زمان ومكان ، وفي الليل والنهار ، قال تعالى [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (كان رجلان من بني إسرائيل متواخيين ، أحدهما مجتهد في العبادة ، والآخر مذنب ، فأبصر المجتهد المذنب على ذنب ، فقال له : أقصر ، فقال له : خلني وربي ، قال : وكان يعيد ذلك عليه ، ويقول : خلني وربي ، حتى وجده يوما على ذنب ، فاستعظمه ، فقال : ويحك أقصر قال : خلني وربي ، أبعثت علي رقيبا ؟ فقال : والله لا يغفر الله لك أبدا ، أو قال : لا يدخلك الله الجنة أبدا ، فبعث إليهما ملك فقبض أرواحهما ، فاجتمعا عنده جل وعلا ، فقال ربنا للمجتهد : أكنت عالما ؟ أم كنت قادرا على ما في يدي ؟ أم تحظر رحمتي على عبدي ؟ اذهب إلى الجنة يريد المذنب , وقال للآخر : اذهبوا به إلى النار) ( ).
وبلحاظ آية البحث فانها تدعو المسلمين إلى عدم الحزن والأسى على الذين كفروا ، كما أنها تنذر الذين كفروا , وتحثهم على التوبة والإنابة ، فتأتي الآية لإنذار قوم وتكون رحمة بهم وبالمسلمين من جهات :
الأولى : تفقه المسلمين في الدين وإرتقاؤهم في سلم المعارف الإلهية .
الثانية : حاجة النفس الإنسانية إلى الإنذار ، إذ أن الإنسان مخلوق ومن عالم الإمكان والذي تصاحبه الحاجة في كل آن ومكان ، ومن حاجات النفس الإنسانية توجيه الإنذار ، وتلقي الإنذار ، ويتجليان مجتمعين ومتفرقين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالثة : من خصائص الإنذار السماوي مصاحبته للناس في كل زمان ، فحينما ينزل الإنذار من السماء ، فانه لا يفارق الأرض إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار أداء المسلمين وأهل الملل السماوية السابقة الصلاة وتلاوتهم للتنزيل ، وليس من نبي إلا وأنذر قومه ، ليكون هذا الإنذار رحمة لهم جميعاً ،فهو موعظة للمؤمنين ، وتبكيت للمكذبين الضالين ، وتحذر من خسارتهم ، قال تعالى [قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ] ( ).
الرابعة : منع الآية من الحزن على الذين كفروا رحمة بالمسلمين ، وتوبيخ للكافرين وإخبار لهم بسوء فعلهم ، وهل تمنع آية البحث الذين كفروا من الإسراع في الكفر والتمادي فيه ، من جهة الكم والكيف ، الجواب نعم ، وهي وسيلة سماوية مباركة للهداية والإيمان ، وسبب لإنزجار طائفة من الذين كفروا عن الكفر والضلالة .

الحاجة لآية البحث
إبتدأت الآية بالخطاب والنهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ] ويكون تقدير الآية على وجهين :
الأول : يا أيها النبي لا يحزنك .
الثاني : يا أيها الرسول لا يحزنك.
وكلاهما صحيح إلا أن الثاني الأقرب من جهات :
الأولى : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الرسل الخمسة أولي العزم ، وبين النبي والرسول عموم وخصوص مطلق ، فكل رسول هو نبي ، وليس العكس .
الثانية : ورود آية أخرى بذات المعنى بالخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ) .
الثالثة : إرادة الفرد الأعم من الكفار .
الرابعة : لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً ، فنهاه الله عن الحزن على الذين كفروا للموعظة والعبرة ، وتطرد آية البحث الحزن والكدورة عن نفس النبي والمؤمنين ، بازاحة ثقل الحزن على مسارعة الذين كفروا بالغي والضلالة .
ومن معاني الحاجة إلى آية البحث منع إستيلاء الحزن على قلوب المسلمين بسبب الذين كفروا خاصة وأن كانوا من ذويهم وأبناء عمومتهم ، فتجد مثلاً مهاجراً يقاتل تحت لواء النبوة ، ويقاتل أبوه أو أخوه في جيش المشركين.
وفي يوم بدر دعا الصحابي حذيفة بن عتبة أباه إلى البراز فمنعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الدعوة ،وفيه تقول هند بن عتبة زوجة أبي سفيان :
(فما شكرت أبا رباك من صغر … حتى شببت شبابا غير محجون
الأحول الأثعل( ) المشؤوم طائره ..أبو حذيفة شر الناس في الدين) ( ).
وهل تدل معارك الإسلام الأولى على عدم إضرار الذين كفروا بدين الله وبالمؤمنين ، الجواب نعم ، وهو من أخير الناس ، وقد هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين ، وقد شارك في كتائب الدفاع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستشهد هو ومولاه سالم يوم اليمامة سنة أحدى عشرة (وعمره ست وخمسون سنة ) ( ).
ومن المقاصد السامية لآية البحث منع الذين كفروا من التتابع في غزو المسلمين وعجزهم عن جمع الأعوان والجنود لهذا التكرار في الغزو ، وهو الذي تجلى بالتباين الزماني بين كل معركة وأخرى في بدايات الإسلام .

علم المناسبة
ورد لفظ [لاَ يَحْزُنْكَ] ست مرات في القرآن ، وكلها خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبصيغة النهي وأم أدواته (لا) فلم يرد لفظ [يَحْزُنْكَ] على نحو الإيجاب بعدم وجود (لا) معه في القرآن ، إن إنحصار لفظ [لاَ يَحْزُنْكَ] التعدد بالخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نوع تشريف وإكرام له ، وهل فيه دعوة للمسلمين إلى عدم التسبب بحزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأخبار الذين كفروا ومسارعتهم في الكفر ، الجواب لا ، فقد يجب إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أفعال الكفار ،وتفضل الله عز وجل وصرف عنه الحزن في المقام ، فان قلت أنما نهت الآية النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن ، والجواب هذا صحيح ، ولكن من خصائص الأنبياء الإمتثال لأمر الله عز وجل ، وهذا الإمتثال أفراد العصمة التي يتصفون بها .
وتبين آيات [لاَ يَحْزُنْكَ] مصاديق مسارعة الذين كفروا في الضلالة , والنسبة بين الفرح والحزن هي التضاد والتناقض في الذات والسبب ، ومن خصائص الحزن أنه يستمر لمدة أطول عند الإنسان بلحاظ كثرة التفكير به ، وقد يؤدي إلى الإكتئاب والى الفتور في السعي والعمل ، لذا تفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنهيه عن الحزن ، ليكون هذا النهي من مصاديق قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ).
وسميت السنة العاشرة للبعثة النبوية عام الحزن ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينئذ هاجر من مكة ، إذ توفى في شهر رجب منها أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذي كان له كهفاً ومأوى وقيل توفى في شهر رمضان وتوفت بعده بثلاثة أيام خديجة عليها السلام ، إذ اشتد الحزن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ صار كفار قريش يتجرأون عليه ، وينالون منه فخرج إلى الطائف مهاجراً ليلاً فلاقى الأذى من أهلها وهو سبب آخر للحزن فتفضل الله عز وجل عليه بالهجرة إلى المدينة ، فيأتي الحزن والأسى من تجهيز المشركين الجيوش لقتاله ، فأنعم الله عز وجل عليه بنهيه عن الحزن عليهم ، لأنه سبحانه قادر على إزالة ومحو أسباب الحزن بالنصر على المشركين ، وهدايتهم للإسلام ، فمن قوانين النبوة تعقب الفرح بالحزن ، قال تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
النعم التي تذكرها آية البحث
تبدأ آية البحث بنهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن ، وهو نعمة عظيمة من جهة ذات المنع ، وموضوع الحزن المنهي عنه ، وهو مسارعة الذين كفروا ، ليكون في الآية نوع وعيد للذين كفروا بأن مسارعتهم في الكفر لن تنفعهم ولن تجلب لهم إلا الخسارة في النشأتين إن توجه النداء والخطاب من عند الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله [لاَ يَحْزُنْكَ]نعمة على المسلمين والناس جميعاً ، وفيه تصديق لنبوته وإخبار عن علم الله عز وجل بما في قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل تدل الآية على علم الله عز وجل بما في قلوب الناس جميعاً ، أم أن هذا الإطلاق يستفاد من آيات أخرى ، الجواب هو الأول لوصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن بأنه بشر بقوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ] ( ) فيعلم الله عز وجل بما في قلوب البشر جميعاً ، لتكون الآية نعمة على كل المسلمين ، وتخفيفاً عنهم , ونهياً عن الحزن بخصوص الذين كفروا .
وهل في إخبار الآية عن مسارعة الذين كفروا بالكفر نعمة ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : أخذ المسلمين الحيطة والحذر من الذين كفروا .
الثانية : معرفة المسلمين والناس لصيغ المسارعة في الكفر ، وزجر الذين كفروا عنها ، وبيان أضرارها عليهم .
الثالثة : تنبيه الذين كفروا إلى قبيح فعلهم وسوء عملهم ، قال تعالى[قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الرابعة : بعث الناس على النفرة من الذين كفروا , وتجعلهم الآية يمتنعون عن الإنصات للذين كفروا ، ومن الناس من يدافع عن فعله وإختياره ولو بالمغالطة ، فنزلت آية البحث لتدعو الناس إلى جدال الذين كفروا والإحتجاج عليهم .
وكما أن نهي الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن على الذين كفروا نعمة عظمى فان إخبار آية البحث عن عدم إضرار الذين كفروا بدين الله بشارة ونعمة ، وباعث للمسلمين لأداء الفرائض والسنن , وسبب لبعث السكينة في نفوسهم ، وفي التنزيل[فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
وتدعو آية البحث في مفهومها المسلمين للشكر لله عز وجل لأنه سبحانه يجعل لهم حظاً ونصيباً في الآخرة ، بلحاظ تقييد الآية الحرمان منه بالكفر والمسارعة فيه ، وهو وفق القياس البرهاني :
الكبرى : الكفار ليس لهم حظ في الآخرة .
الصغرى : الذين يسارعون في الكفر كفار .
النتيجة : الذين يسارعون في الكفر ليس لهم حظ في الآخرة .
وفي موضوع هذا التكرار بيان لقانون وهو أن مقادير الأمور في الدنيا والآخرة بيد الله عز وجل وحده.
مفهوم الموافقة
في الآية مسائل :
الأولى : بيان قانون وهو عصمة مقام النبوة من الحزن على الذين كفروا لإختيارهم الكفر، وإنهماكهم في إرتكاب المعاصي ، إذ أنهم ظلموا أنفسهم.
الثانية : تأكيد لطف ورأفة الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وعنايتهم بهم وبيان الموضوع الذي يستحق الفرح والذي يستحق الحزن عندهم ، وما يجب أن يتنزهوا عن الفرح أو الحزن فيه.
ومن الإعجاز ورود هذا المعنى في آيتين بين موضوعهما تباين ، قال تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( )، ووردت آية أخرى بالنهي عن الفرح الذي هو نوع بطر , قال تعالى في قارون [لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ]( ).
الثالثة : من مفاهيم الموافقة عدم الحزن على الذين يقاتلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لأن هذا القتال أشد ضروب المسارعة في الكفر .
الرابعة : تذكير آية البحث بعالم الآخرة , ووقوف الناس بين يدي الله للحساب ولزوم الإستعداد له بالعمل الصالح .
الخامسة : بيان الآية لسوء عاقبة الذين كفروا , وحرمانهم من فضل الله في الآخرة وأسباب الشفاعة والمغفرة .
السادسة : الأجر والثواب على عدم الحزن على الذين كفروا وتماديهم في الغي .
السابعة : دعوة النبي محمد للشكر لله عز وجل على نعمة إحاطة المهاجرين والأنصار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأدائهم الواجبات العبادية بشوق واتقان ليكونوا لبنة بناء صرح دولة الإسلام.
الثامنة : إنذار الناس جميعاً من الميل إلى الذين كفروا واتباعهم في تعديهم وسعيهم في غزو المدينة وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أختتمت آية البحث بالإخبار عن العذاب العظيم الذي ينتظر الذين كفروا .
مفهوم المخالفة
إبتدأت آية البحث بالنهي عن الحزن , وهذا النهي موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتلحق به الأمة , ليدل في مفهومه على دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للشكر لله عز وجل على ظهور الإسلام ، وعجز الذين كفروا عن الإضرار به ، وتتضمن الإخبار بأن المشركين لن يمتنعوا عن المسارعة في مفاهيم الكفر والضلالة ، وهذه المسارعة في مفاهيم الكفر والضلالة ، وهذه المسارعة حجة عليهم ، وسبب لإبتلائهم وسخط الله عليهم في النشأتين ، فان قلت : قد أخبرت آية البحث عن عذابهم في الآخرة ، فما هي مصاديق سخط الله عليهم في الدنيا ، الجواب من وجوه :
الأول : نزول آية البحث وإفادتها نهي المسلمين عن الحزن عليهم .
الثاني : تسخير الذين كفروا أموالهم في محاربة النبي والمسلمين حجة عليهم .
الثالث : خيبة الذين كفروا من مسارعتهم في الكفر ، وعدم تحقيقهم أي غاية من الغايات الخبيثة التي سعوا إليها .
الرابع : مفاهيم آية البحث الثناء على المؤمنين الذين أنجاهم الله عز وجل من الضلالة ، ومن الإنقياد إلى الذين كفروا أو اتباعهم خطوات الشيطان .
ومن مفهوم المخالفة لآية البحث البشارة للمؤمنين بالنجاة من العذاب في الآخرة ، وبأن لهم الأجر والثواب على هدايتهم وصلاحهم ، ودفاعهم عن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن التنزيل .
وتجعل آية البحث عالم الآخرة حاضراً في الوجود الذهني للناس ، وفيه دعوة لهم للتدبر فيه والسعي إلى نيل الحظ والنصيب بالعفو والمغفرة والإقامة الدائمة في الجنة .
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث بالحرف (الواو) وصحيح أنه للاستئناف لكنه لا يمنع من كونه للعطف ، وما هو معروف هو وحدة النسق في آيات القرآن ، وأن كل آية منه تتصل بالآية السابقة , والآية اللاحقة في المضمون والدلالة والأثر.
ومن إعجاز القرآن أن هذا الإتصال يقفز إلى الوجود الذهني للقارئ والسامع ، نعم هو عند القارئ في المصحف أبين وأوضح في الجملة .
لقد أخبرت الآيات السابقة عن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد بجراحاتهم البليغة ، وفيه مسائل :
الأولى : كان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد بالوحي , وتبليغ جبرئيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وظاهر بعض علماء التفسير أن الأمر بالخروج من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما بلغه عزم جيش المشركين على العودة للقتال .
قال الزمخشري (أنّ أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة ، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان .
وقال : لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال ، وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر ، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا) ( ).
لقد بينت الآيات السابقة كيف بدا لجيش المشركين العودة للقتال ، فخرج صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في طلبهم وقيام الناس بتحذير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المشركين فازدادوا إيماناً من جهات :
الأول : مجئ جبرئيل بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وأخبر بأن المشركين بالروحاء التي تبعد عن المدينة نحو عشرين كيلو متراً من جهة جنوبها .
الثاني: خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه إلى حمراء الأسد مع كثرة جراحاته ، ولم يختر البقاء مع أزواجه خاصة وأنه رجع في اليوم السابق من معركة أحد ، وقضى نفر من الصحابة الليل في حراسته خشية مداهمة سرية من المشركين له .
الثالث : تجلي برهان في السنة الدفاعية ، وهو أن نيفاً ومائتين من الصحابة أكثرهم جرحى يطاردون جيشاً من المشركين قوامه ثلاثة آلاف رجل قد امتلأت نفوسهم بالحسد والبغض والكراهية وإرادة الإنتقام .
الرابع : لما أخبرت الآية السابقة عن تخويف الشيطان لأوليائه نهت المسلمين عن الخوف من الذين كفروا , ليكون عدم الخوف منهم أمراً يسيراً على المسلمين لأن الكفار هم في حال من الخوف من الشيطان الذي يدعوهم لما فيه الذلة .
وبعد أن قالت الآية السابقة (لاتخافوهم) أمرت المسلمين بالخوف من الله من غير فاصلة بآية أو بكلمة بينهما إذ قال الله تعالى[فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي]( )، لبيان أن الخوف من الشيطان ضرر وفيه أثم ، أما الخوف من الله فهو نعمة ورحمة وتخفيف ، فجاءت آية البحث بالنهي عن الحزن على الذين اتخذوا الشيطان ولياً ، ليتصف المسلمون بخصال وهي :
الأول : عدم الخوف من الشيطان وتخلفه عن إخافتهم .
الثاني : حزن المسلمين لمسارعة الذين كفروا الى الضلالة مع تجلي الآيات الكونية.
الثالث : الخشية والخوف من الله عز وجل شاهد على الإيمان قال تعالى[فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي]( ).
الرابع : عدم الخوف من الذين يسارعون في الكفر , ومن معاني الجمع بين آية البحث والآية السابقة : يا أيها الذين آمنوا لا تخافوا الذين كفروا ولا يحزنكم مسارعتهم في الكفر .
وهل من صلة بين خوف الكافرين من الشيطان ومسارعتهم في الكفر، الجواب نعم لأن وسوسة وإغواء الشيطان يسبب الإرباك ، وطغيان الغفلة عند الكافر لتبدأ آية البحث بالنهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن على الذين كفروا فيكون هذا النهي الموجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين باعثاً لليأس والأسى في قلوب الذين كفروا ، وهو من أسباب أصابتهم بالخيبة في معركة أحد بقوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
وتبين آية البحث إرتقاء المسلمين في مراتب الفقاهة إذ يدرك المسلمون مصاديق وأضرار مسارعة الذين كفروا بالكفر ، وكيف أنهم يسعون للإضرار بهم وبحلة وملة التوحيد في الأرض .
وبعد أن نهت الآية عن الحزن على الذين كفروا أخبرت بأنهم لن يضروا الله شيئاً لبعث السكينة في نفوس المسلمين , ومنع الخلاف والتلاوة بينهم .
وأخبرت آية البحث عن إرادة الله عز وجل حرمان الذين كفروا من النفع والثواب في عالم الآخرة .
وهل هذا الحرمان من الإرادة التكوينية أو الشرعية , الجواب هو الثاني ، ولبيان إختصاص الله عز وجل بالإرادة المطلقة وأنه ليس بمجبور أو مضطر ، وهو سبحانه لا يهم ولا يفكر وإرادته تعالى الفعل , وفي التنزيل [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، وعن الإمام الرضا عليه السلام قال: إن الله المبدأ الواحد الكائن الاول، لم يزل واحدا لا شئ معه، فردا لا ثاني معه، لا معلوما ولا مجهولا، ولا محكما ولا متشابها، ولا مذكورا ولا منسيا، ولا شيئا يقع عليه اسم شئ من الاشياء ولا من وقت كان ولا إلى وقت يكون، ولا بشئ قام، ولا إلى شئ يقوم، ولا إلى شئ استند، ولا في شئ استكن، وذلك كله قبل الخلق إذ لا شئ غيره، وما أوقعت عليه من الكل فهي صفات محدثة، وترجمة يفهم بها من فهم. واعلم أن الابداع والمشية والارادة معناها واحد ( ).
وأختتمت آية البحث بالإخبار عن شدة عذاب الذين يسارعون في الكفر، ويتناجون بمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والتنزيل ويكون من وجوه تقدير آية البحث :
الأول : يا أيها النبي لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر .
الثاني : لا يحزنك الذين لن يضروا الله شيئاً .
الثالث : لا يحزنك الذين لا يجعل الله لهم حظاً في الآخرة .
الرابع : لا يحزنك الذين لهم عذاب عظيم .
وهل يتعلق موضوع النهي بأشخاص الذين كفروا أم بافعالهم وخصوص مسارعتهم في الكفر ، الجواب لا تعارض بينهما ، وكلها من مصاديق الآية .
وتقدير الجمع بين مضامين آية البحث على وجوه :
الأول : ولا يحزنك الذين كفروا ، واصرارهم على الكفر لأن هذا الإصرار مقدمة للمسارعة في الكفر، وهو ذاته نوع مسارعة فيه.
الثاني : ولا يحزنك إنهم من يضروا الله شيئاً ، ودلالة الآية على عنادهم وظلمهم وتعديهم ، وإرتكابهم الآثام بخلاف ما أمرهم الله عز وجل من وجوب العبادة والصلاح .
الثالث : يا أيها الرسول لا يحزنك ألا يجعل الله للذين كفروا حظا في الآخرة ، جزاء وعقوبة .
الرابع : يا أيها النبي لا يحزنك العذاب العظيم في الآخرة للذين كفروا .
وتبين الآية أن المشيئة في الدنيا والآخرة لله عز وجل وأن الذين كفروا لن يستطيعوا تغيير الحقائق ومجريات الأمور في الدنيا .
أسباب النزول
وذكرت وجوه في المراد من الذي كفروا المذكورين في آية البحث:
الأول : هؤلاء قوم ، أسلموا ثم ارتدوا خوفاً من المشركين ( ).
الثاني : عموم الكفار ، ومسارعتهم في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : أنهم أهل كتاب لم يؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : هم كفار قريش ، قاله الضحاك .
الخامس : هم المنافقون .
والمختار أن الآية عامة في الذين كفروا ممن يصر على الجحود ، ويظاهر على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويصم سمعه ويغمض بصره عن المعجزات والدلالات التي تقود الإنسان إلى الهداية ، قال تعالى [كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا]( ).
لذا يقوم كل مسلم ومسلمة بتلاوة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) على نحو الوجوب العيني للسلامة والأمن من الإرتداد .

من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : تفضل الله عز وجل باكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعصمته من الحزن على الذين كفروا لبيان قانون لعامة المسلمين ، لأن الذين يسارعون في الكفر إتصفوا بأمور تستلزم عدم الحزن عليهم ، وهي :
الأول : ترك الكفار الواجب وهو الإيمان .
الثاني : إنفاق المال وهجران الإيمان من أجل المسارعة في الكفر والضلالة .
الثالث : قيام الذين كفروا بمحاربة النبوة والتنزيل .
الرابع : تبين الآية صفة طائفة من الناس إختاروا الجحود والمسارعة في الكفر ، وهو خروج كفار قريش إلى معركة بدر ، ومعركة أحد من هذه المسارعة .
الجواب نعم ، لتكون الآية مواساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وبشارة عجز الكفار من هزيمة المسلمين في المعركة .
وليكون من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( )نزول قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) وفيه شاهد على فضل الله عز وجل في تنجز مصداق عظيم لمضامين الآية القرآنية ، فحالما أخبر القرآن بأن الذين يسارعون في الكفر [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( ).
وتجلى المصداق بنصر المسلمين في معركة بدر وبعدها بثلاثة عشر شهراً رجع كفار قريش إلى مكة من معركة أحد ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
الثانية : بيان حقيقة وهي قيام طائفة من الذين كفروا بالمسارعة في مسالكه والمناجاة بالباطل لأن قوله تعالى [الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] ( ) يتضمن وجوهاً :
الأول : مسارعة الفرد الواحد من الكفار في الضلالة ، وإرتكاب المعاصي والسيئات .
الثاني : مسارعة الجماعة والطائفة من الذين كفروا في طرق الضلالة والغواية .
الثالث : التسابق بين جماعة من الذين كفروا بالكفر والتجاهر به وتجهيز الجيوش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
فمن إعجاز آية البحث الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يتضمن التخفيف عن نفسه ، وعن المؤمنين بأن يجتنب الحزن والأسى على الذين كفروا .
الثالثة : بيان آية البحث لعلة النهي عن الحزن على سوء فعل الذين كفروا وقيامهم بخطى سريعة في ميدان الكفر والضلالة ، ومنها التجاهر بالكفر والإمتناع عن الإيمان بالرسالة ومعجزات النبوة .
وتتجلى هذه العلة بقوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ] ( ) لبيان خسارة الذين كفروا في النشأتين .

التفسير
قوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ]
يحزنك : بضم الياء وكسر الزاي ، ومنهم من قرأ (يسرعون في الكفر)( )، والصحيح ما مرسوم في المصاحف [يُسَارِعُونَ] وعليه إجماع القراء.
ويحتمل دفع الحزن عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وجهين :
الأول : إنه مطلوب بذاته .
الثاني : إنه مطلوب لغيره .
ولا تعارض بين الوجهين ، وكلاهما من مصاديق الآية الكريمة ، وتجتهد الدول والمؤسسات العلمية والإجتماعية بدفع الكآبة عن الناس سواء الخاصة أو العامة ، وتنفق الأموال على العيادات والعقاقير والعلاجات ووسائل الترفيه .
لتأتي آية البحث من بضع كلمات لتدفع الحزن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وهو من إعجاز الآية القرآنية الذاتي والغيري ، ومنه أن منافع الآية متعددة في كل زمان وأنها خالية من الأعراض الجانبية .
وتنعدم معها الإضرار المصاحبة وهو من إعجاز تلاوة المسلمين آيات القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني ، لتكون كل آية وتلاوتها سكينة لهم .
ولما قال الله عز وجل [وَلاَ يَحْزُنْكَ]فلا يقف الأمر عند النهي ، إنما يتفضل الله عز وجل بهداية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى سبل الإمتناع عن الحزن بسبب الذين كفروا ومسارعتهم في مسالك الضلالة ، وهذا الإمتناع فضل من عند الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وهل يمكن القول بتقدير الآية (لا تحزن وسنجعلك لا تحزن ) الجواب نعم ، لبيان نعمة الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى في الكيفية النفسانية وإصلاحها عند عموم المسلمين ، إذ أن استيلاء الحزن على الفرد والجماعة باعث على الكآبة وضعف الهمة وقلة الأمل .
ترى لماذا لا يحزن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الذين كفروا وهل من منافع لعدم الحزن هذا ، الجواب نعم ، فحينما نهى الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين عن الحزن على الذين كفروا فانه تعالى يريد لهم الغبطة في الدنيا والإنقطاع للشكر له سبحانه ، وعدم الإنشغال بالذين كفروا والسعي لمنعهم من المسارعة في الكفر ، قال تعالى [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] ( ).
وقد ورد في الإصطلاح أن الحزن يتعلق بما مضى من الأذى والضرر بخلاف الخوف ، وهو الذي يتعلق بالخشية مما يقع من الأذى والبلاء والمصائب ، وجاءت آية البحث لتبين أن الحزن قد يسري ويتجدد حتى في الزمن الحاضر والمستقبل بدليل صيغة الفعل المضارع .
المسألة الثالثة : لقد ذكرت آية السياق أموراً :
الأول : نعمة الله .
الثاني : فضل الله .
الثالث : الأجر والثواب من عند الله ، وأنه سبحانه [لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وصحيح أن موضوع آية السياق يتعلق بشهداء بدر وأحد، ولكن هل يثاب المؤمنون على عدم الحزن على الذين كفروا .
ويكون تقدير خاتمة آية السياق بلحاظ آية البحث ، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين لا يحزنون على الذين كفروا .
الجواب نعم ، لبيان أن الأجر لا يختص بالمؤمن الذي يموت والذي يقتل في سبيل الله ، إنما يشمل المؤمنين الأحياء سواء في إمتثالهم للأوامر الإلهية ، أو إجتنابهم لما نهى الله عز وجل عنه .
إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة وتكون الحياة للمؤمن أحسن من الموت الحال والإنخرام .
ويدل عليه ما تقدم في الآية السابقة التي ذكرت النعمة والفضل من الله للمؤمنين الذين عادوا من حمراء الأسد من غير قتال بقوله تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ] ( ) وفيه وجوه :
الأول : لقد رزق الله الشهداء الاستبشار بنعمة وفضل من الله بينما انقلب الذين عادوا من حمراء الأسد بنعمة وفضل من الله ، أي أن كلاً من النعمة والفضل حاضران معهم ، مصاحبان لهم ، وليس فقط الإستبشار بهما .
الثاني : من إعجاز القرآن أنه لم يرد لفظ [بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] في القرآن إلا في هاتين الآيتين (171-174) من سورة آل عمران .
الثالث : من فضل الله عز وجل أن النعمة والفضل اللذين رزقهما الله الشهداء يشاركهم في موضوعهما المؤمنون في الدنيا لموضوع الإستبشار بهما ولأنهما نعمة مدخرة للمؤمنين في الآخرة ، أما النعمة والفضل في الدنيا فانهما مناسبة لجني الحسنات .
وتكون ذات النعمة والفضل اللذين ورد ذكرهما في قوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ] ( ) في انتظارهم في الآخرة.
المسألة الرابعة : أختتمت آية السياق بالبشارة والوعد الكريم من عند الله عز وجل بقوله تعالى [وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : إن الله عز وجل هو المجازي والمثيب على الصالحات .
الثانية : لا يقدر على الجزاء والثواب إلا الله سبحانه .
الثالثة : للإيمان وحسن الإنقياد ثواب مستقل بذاته ، فلم تختتم الآية بالقول ، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين يعلمون الصالحات ، لبيان قانون وهو أن الإيمان بالله ورسوله له ثواب عظيم ، وهو لا يتعارض مع إبتداء الآية التالية لآية السياق بقوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ] ( ) بلحاظ أن موضوع الإستجابة خاص وله ثواب إضافي .
ومن إعجاز القرآن أنه لم يرد لفظ [أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) إلا في آية السياق ، وقد ورد قوله تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] ( ) ثلاث مرات .
وهل الإيمان وحده إحسان أم لابد من فعل الصالحات وأعمال البر والتقوى ، الجواب هو الأول ، نعم يترتب على الإيمان أداء الوظائف العبادية وفيها أجر اضافي ، وهو بذاته عظيم ، كما أن اضافته لأجر الإيمان أعظم وأكبر وهو من أسرار فضل الله عز وجل على المؤمنين بالحلول في النعيم .
وتقدير خاتمة آية السياق على وجوه( ) :
الأول :إن الله لا يضيع أجر المؤمنين الصابرين ، بلحاظ أن الإيمان يتقوم ويستديم بالصبر ، وعن الإمام علي عليه السلام (قال : الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، إذا قطع الرأس نتن باقي الجسد ، ولا إيمان لمن لا صبر له ) ( ).
الثاني : وإن الله لا يضيع أجر الذين بلغوا مراتب الإيمان , ولم يقفوا عند مرتبة الإسلام ، والنطق بالشهادتين وحده ، وفي التنزيل [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( ).
الثالث : وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين يجتنبون الغزو والنهب والسلب .
الرابع : وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، قال تعالى [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ]( ).
إذ تبين الآية أعلاه مصداقاً للأجر الذي يفوز به المؤمنون وهو المغفرة والرزق الكريم .
الخامس : وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين الخاشعين لله عز وجل .
السادس : وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين بالله ورسله وملائكته .
السابع : وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين يؤمنون بأن البعث حق ، وأن الحساب والجزاء في الآخرة حق وصدق ، قال تعالى [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ] ( ).
الثامن : وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .
التاسع : وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين يؤمنون بالغيب ، وان الله عز وجل هو وحده الذي يحيط به .
العاشر : وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين يحفظون فروجهم ، ويجتنبون فعل السيئات .
الحادي عشر : وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين لا يحزنهم الذين كفروا ومسارعتهم في الكفر ، بلحاظ أن عدم الحزن هذا طاعة لله لما ورد في آية البحث .
الثاني عشر : وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين يؤمنون بأن الجنة حق وأعدها الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وأن النار حق وأعدها الله عز وجل للكفار والذين يسارعون في الكفر .
الثالث عشر : وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين [َالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ] ( ) لأن اللغو يجلب الغيبة والنميمة واللمز والتعريض بالناس ، وهو شاغل عن الذكر وخلاف سيماء التقوى .
الرابع عشر : وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين يتلون القرآن ، وفيه ثناء على الذين يتلون الكتاب .
الخامس عشر : وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين يلجأون إلى الدعاء ويستجيرون بالله ، وهل في قوله تعالى [وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) دعوة للمسلمين للإجتهاد في عمل الصالحات والمسارعة في الخيرات ، الجواب نعم .
إذ أن الآية تبعث المسلمين على التفقه في الدين ، والإرتقاء في علوم الشريعة ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ).
المسألة الخامسة : لقد أخبرت آية السياق عن حال الشهداء في الآخرة وأنهم يفرحون بنعم الله عليهم لأنهم أحياء عنده سبحانه من حين زهوق أرواحهم ومغادرتهم الدنيا وأبى الله عز وجل إلا أن تتضمن ذات الآية الثناء على المؤمنين الصابرين ، فاختتمت بقوله تعالى [وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
لتشمل مضامين الآية المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وهل تشمل المؤمنين والمؤمنات من الملل السماوية السابقة ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وتقدير الآية على وجوه :
الأول : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين من أيام أبينا آدم .
الثاني : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين من اليهود والنصارى .
الثالث : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين من أهل البيت .
الرابع : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين من الصحابة .
الخامس : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين من التابعين .
السادس : وان الله لا يضيع أجر المؤمنين في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة .
ليكون هذا المعنى مواساة وإيناساً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مسارعة الذين كفروا في ميادين الكفر .
لقد كان المشركون من قريش يتوعدون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ويجهزون الجيوش لمحاربته ، ويدفع فضل الله عز وجل على المسلمين ضرر تزايد عدد جيش المشركين في معارك الإسلام الأولى وعلى نحو التعاقب لبعث الفزع والخوف في نفوسهم إذ كانت كالآتي :
الأولى : عدد جيش المشركين في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة بين التسعمائة إلى الألف رجل .
الثانية : عدد جيش المشركين في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة ثلاثة آلاف رجل .
الثالثة : عدد جيش المشركين في معركة الخندق في السنة الخامسة للهجرة عشرة آلاف رجل .
ثم كان التراجع السريع في عددهم وعجزهم عن جمع جيوش من القبائل المحيطة بمكة ، إذ تم في السنة السادسة صلح الحديبية ، حيث خرج لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وألف وأربعمائة من أصحابه من غير سلاح يرومون العمرة ، فكان هذا الصلح فتحاً مبيناً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) وفيه بلحاظ آية البحث مسائل :
الأولى : عدم إنتفاع الذين كفروا من كفرهم .
الثانية : مسارعة الذين كفروا بالكفر سبب للإضرار بهم وخزيهم .
الثالثة : تعويض المسلمين بالبدل عن مسارعة الذين كفروا في الكفر بأنه سبحانه لا يضيع أجر المسلمين وإنقطاعهم إلى الذكر والدعاء ، وأداء الفرائض .
الرابعة : بيان التباين والتضاد بين المؤمنين والذين كفروا فاذا كان الكافرون يسبحون في مستنقع المعصية ورائحته الكريهة وما يؤدي إليه من العذاب الأخروي فان المسلمين تتوالى عليهم آيات من نعم الله ، وصحائف غير متناهية من فضله ، وفي التنزيل [هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ) .
الخامسة : في الجمع بين الآيتين دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للشكر لله عز وجل .
وتقدير الجمع بين الآيتين : فلا يحزنك الذين يسارعون في الكفر لأن الله لا يضيع أجر المؤمنين بالله وبنبوتك .
ويمكن إنشاء قانون وهو :
(كل آية قرآنية ثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين).
فتأتي الآية لإكرام المؤمنين وفيها مدح للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وصبره في بناء صرح الإيمان ، وتأتي آية أخرى في ذم الذين كفروا ، كما في آية البحث فتكون مدحاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من جهات :
الأولى : توجه الخطاب في الآية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : إكرام الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بدفع أسباب الحزن عنه .
الثالثة : بيان سخط الله على الذين كفروا وجحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : البشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الكفار لن يضروا الله شيئاً .
الخامسة : بعث السكينة في نفس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونفوس المسلمين بعجز الذين كفروا عن الإضرار بهم ، وفي التنزيل [وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] ( ) .
السادسة : تضمن الآية للتحدي والإعجاز بأن المشركين عاجزون حتى في مسارعتهم في الكفر عن منع انتشار الإسلام ودخول الناس فيه ، وأداء المؤمنين الفرائض والعبادات .
السابعة : إعانة آية البحث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في الإحتجاج على الذين كفروا وإقامة الحجة عليهم .
الثامنة : بعث الطمأنينة في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بخسارة أعدائهم الذين يغزونهم , ويحاربونهم بالسيف ، فمثلاً قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) ثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار لصبرهم في معركة أحد .
التاسعة : بيان الآية لقانون وهو خسارة الذين كفروا في الدنيا والآخرة ، وكلما سارع الذين كفروا بالكفر فان الخزي يلحقهم في الدنيا ، ويزداد عذابهم في الآخرة ، لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
لقد إجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوة قومه إلى الإيمان ، وحزن على إصرارهم على الكفر ومحاربة النبوة والتنزيل لأنه يعلم أن هذه المحاربة لن تضر الإسلام وأن الله عز وجل لابد وأن يظهر دين الحق ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( )وتتوالى آيات التنزيل وهي تتضمن الإخبار بأن عاقبة الكفر الخلود في الجحيم .
فتفضل الله عز وجل بالرأفة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وقال [فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ] ( ).
العاشرة : تنجز مصداق عملي من فضل الله يدفع الحزن على الذين كفروا عن قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، فمن إعجاز القرآن أن الله عز وجل حينما يأمر بفعل فانه يقيض أسبابه ويهيئ مقدماته ، ويقرب المسلمين إلى فعله ويجعل أمة تعمل به ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) .
وعندما ينهى الله عز وجل عن فعل فانه تعالى يبعث النفرة في نفوس المسلمين والناس منه ، ويجعل الموانع دونه ، ويهدي أمة من الناس لإجتنابه والتنزه عنه ، وفي يوسف عليه السلام ورد قوله [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] ( ) لبيان قانون من فضل الله عز وجل وهو وجود البرهان الزاجر عن الفعل القبيح والفاحشة ، ليترآى لأبصار وبصائر الناس ويكون واقية منه .
نعم هذا البرهان من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً من جهات :
الأولى : إيمان الفرد .
الثانية : لجوء الإنسان للدعاء .
الثالثة : فضل الله ، وفي التنزيل [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
الرابعة : عمل الإنسان الصالحات وبر الوالدين .
الخامسة : إتعاظ العبد من الزواجر ، وعدم إصراره على ارتكاب السيئات.
ويمكن إنشاء قانون وهو (كل آية قرآنية برهان ).
ترى ما هو متعلق الحزن في المقام ، الجواب من وجوه :
الأول : إتخاذ الذين كفروا الجحود منهاجاً .
الثاني : إقامة الذين كفروا على عبادة الأصنام .
الثالث : مناجاة الذين كفروا بالصدود عن دخول الإسلام .
الرابع : محاربة الذين كفروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفي التنزيل [كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ] ( ).
الخامس : إيذاء المؤمنين .
السادس : منع الذين كفروا أبناءهم من دخول الإسلام .
السابع : محاربة ومنع الذين يسعون للهجرة إلى المدينة ، وقطع الطريق عليهم .
الثامن : إنشاء الذين كفروا القصائد في الإفتراء على النبوة والتنزيل وفي ذم المؤمنين ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحزن لمثل هذه القصائد لأنها خلاف الواقع والحق .
ومن معاني الحزن خشية النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نفسه وعلى المؤمنين من القتل والأسر لكثرة جيوش الذين كفروا في معركة بدر وأحد والخندق ، فجاءت آية البحث لبعث الطمأنينة في نفس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بأن الذين كفروا لا يضرونكم ، ليكون معنى [لاَ تَحْزَنْ] شاملاً لإرادة نفي الحزن والخوف في آن واحد .
ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها النبي لا يحزنك إيذاء الذين كفروا لك وللمؤمنين في مكة قبل الهجرة .
الثاني : يا أيها النبي لا يحزنك طلب المشركين لك في طريق الهجرة وجعلهم الهدايا والمكافأة لمن يأتي بك من طريق الهجرة .
الثالث : يا أيها النبي لا يخيفك مكر وكيد الذين كفروا ، قال تعالى [وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ] ( ).
الرابع : يا أيها النبي لا تخف من جيوش الذين كفروا ، وفي التنزيل [فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى *قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى]( ) .
الخامس : يا أيها النبي أبلغ المسلمين بعدم الحزن على الذين كفروا لأنهم ضلوا واستكبروا .
فان قلت يتعلق موضوع الحزن بما مضى ، والجواب إنما يحزن النبي على قبح فعل الذين كفروا وتماديهم فيه .
السادس : يا أيها النبي لا يحزنك إخفاء المنافقين الكفر مع وقوفهم معكم في الصلاة اليومية .
وورد في التنزيل [فَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ] ( ) ترى ما هي النسبة بين الحزن في الآية أعلاه وبين الحزن في آية البحث ، الجواب هو العموم والخصوص من وجه ، أي هناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهم ، أما مادة الإلتقاء فمن وجوه :
الأول : إتحاد النص وصيغة النهي [لا يحزنك] ( ) .
الثاني : توجه الخطاب بالنهي من عند الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الحاق المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الخطاب والنهي .
الرابع : وجوب مجاهدة المسلمين للحزن على الذين كفروا ، وهل من ملازمة بين الحزن على الذين كفروا والميل إليهم أو الركون إلى الذين ظلموا ، الجواب لا .
وهو من الإعجاز في توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان تنزه المسلمين عن الملازمة أعلاه ليكون النهي عن الحزن على الذين كفروا في آية البحث من مصاديق قوله تعالى [وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً] ( ) وفيه تثبيت للنبي والمسلمين ، ومنع لدبيب الشك إلى نفوسهم بلحاظ الأقاويل التي يبثها الذين كفروا .
ومن أسباب نزول الآية أعلاه ما ورد عن قتادة قال (ذكر لنا أن قريشاً خلوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة إلى الصباح ، يكلمونه ويخيرونه ويسودونه ويقارنونه وكان في قولهم أن قالوا : إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس ، وأنت سيدنا فإين سيدنا فما زالوا يكلمونه حتّى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون ، ثمّ عصمه الله تعالى من ذلك , وأنزل هذه الآية.) ( ).
والحديث مرسل ،وذكر أن الآية نزلت بخصوص وفد ثقيف الذين قدموا إلى المدينة لدخول الإسلام .
وتدل (لولا ) في الآية أعلاه على امتناع شئ لوجود غيره ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم امتنع عن مقاربة الركون للذين كفروا ، وهذا الإمتناع من فضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ،وهو من مصاديق عصمة الأنبياء ، وفيه بعث لليأس في قلوب الذين كفروا ، وزجر لهم عن الإقامة في منازل الكفر .
وتدعو الآية إلى عدم الإلتفات لإفتراء وطعن وشتم الذين كفروا , وتحث على الشكر لله عز وجل على الهداية للإيمان .
والأصل هو أن النبي يريد للناس جميعاً الإيمان والإقرار بالتوحيد وعدم الحزن على إختيار الكفار الجحود وعلى المنافقين مع توالي البينات الباهرات التي تدل على لزوم التوحيد والتصديق بالنبوة ، وتفيد الآية معنى أن النبي قام بالتبليغ وأدى ما عليه ، وأقيمت الحجة على الذين كفروا ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) .
ولكن الذي كفروا مصرون على الكفر لتكون الآية إنذاراً للذين كفروا بان الله عز وجل ينزل بهم العذاب الأليم ،وفي الآية توبيخ لهم ، ودعوة لهم للتدارك والإنابة والتوبة ،ولم تمر بضع سنين حتى تم فتح مكة ،وتجلى قانون وهو : أن مسارعة الكفار في الكفر لم تضر الإسلام .
وهل تتضمن الآية التنبيه والتحذير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بصدور أذى وتعد عليهم من الذين كفروا , الجواب نعم .
ومن معاني ووجوه النهي عن الحزن في آية البحث وجوه :
الأول : النهي عن الحزن على أسباب المسارعة في الكفر.
الثاني : النهي عن الحزن على تلبس الكفار بالكفر والجحود .
الثالث : النهي عن الحزن على مسارعة الذين كفروا بالكفر ،وتماديهم في الغي ومناجاتهم بالحرب .
الرابع : النهي عن الحزن على الأضرار التي تلحق الذين كفروا بمسارعتهم بالكفر.
ويحتمل موضوع الآية وجوهاً :
الأول : إرادة الحياة الدنيا أي لا يحزنك وأنت في الحياة الدنيا .
الثاني : المراد عالم الآخرة ، والمقصود أنه لا يحزنك ما تراه يومئذ من شدة العذاب للذين كفروا في الآخرة ، فلا يحزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عمه أبي لهب وهو يعذب في النار .
قال عروة: وثويبة مولاة لابي لهب أعتقها فأرضعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر خيبة، فقال له: ماذا لقيت ؟ فقال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيرا، غير أنى سقيت في هذه بعتاقتى ثويبة.
أشار إلى النقرة التي بين الابهام والتي تليها من الاصابع) ( ) وعروة تابعي ولا دليل عليه ورؤيا بعض أهل أبي لهب ليس بحجة ، وقال تعالى [وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا] ( ) .
وخاتمة الآية تدل على عذابه في الآخرة ، نعم القدر المتيقن من موضوع ومتعلق خبر عروة هو عالم البرزخ والعذاب الإبتدائي فيه ، والذي يكون فيه قبر الكافر حفرة من النار إلا أن يشاء الله .
الثالث: المقصود العنوان الجامع والشامل للحياة الدنيا والآخرة .
والمختار هو الأول ،وتقدير الآية : يا أيها النبي لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر في الحياة الدنيا ) أما في الآخرة فانه لا حزن على النبي والمؤمنين ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وكما نهى الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن على الذين كفروا فانه أمره بالصبر بقصد القربة إلى الله ، قال تعالى [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ]( )لبيان قانون وهو من مصاديق عدم حزن المؤمنين على الذين كفروا ومسارعتهم بالكفر التحلي بالصبر ، وهو واقية من الحزن عليهم ، وسبيل للتبصر بأحوال الناس وأسباب الهداية ، ومناسبة لعدم مقابلة السيئة بمثلها ، قال تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ).

أقسام الحزن
الحزن من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة شدة وضعفاً ، ومنه :
الأول : الحزن العميق الذي يكون أشده وأعلى مراتبه قريباً من أدنى مراتب الألم.
الثاني : الحزن الباطن والمكتوم والذي قد يسبب الغم والكرب .
الثالث :الحزن الذي يصاحبه البكاء والشكوى .
وورد على لسان يعقوب في التنزيل [قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
الرابع : الحزن العرضي الذي يأتي بسبب قول أو فعل ولا يدوم كثيراً .
الخامس : الحزن المقترن بالهّم والكآبة .
السادس : الحزن الباعث على العمل للتدارك .
وجاءت آية البحث لنجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من الحزن بأنواعه على الذين كفروا ، وقد يكون عناد وضلالة أحد الأشراف والوجهاء من قريش سبباً لحزنهم لأنهم يظنون أنه أقرب للإيمان بمداركه وفطنته ، ولا تمر الأيام حتى يأتي المدينة ويعلن إسلامه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من وجوه تقدير الآية : لا تحزن على الذين يسارعون في الكفر فسيأتون مسلمين ، وهو لا يتعارض مع لزوم أخذ الحائطة والحذر منهم .
كما يمكن تقسيم الحزن تقسيماً استقرائياً آخر بلحاظ أفراد الزمان والعوالم الطولية إلى :
الأول : الحزن على أمور الدنيا ،وفوات أمر فيه منفعة .
الثاني : الحزن الذي يأتي للكفار من إغواء ووسوسة الشيطان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ]( ).
الثالث : الحزن على أمور الدين ، بتخلف الكفار عن الواجبات التكليفية لعامة الناس ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ..]( ).
بحث أصولي
النهي في اللغة المنع والزجر ، وهو ضد الأمر .
يقال : نهاه عن الشئ فانتهى عنه ومنهم من قال أن الأمر هو الإيجاب ، والنهي هو السلب ، ونفي الأمر ، ولكن النهي الوارد في القرآن أمر وجودي لأنه كف وامتناع عن أمر وفعل ، طاعة الله عز وجل .
ومنهم من قيد النهي بالإستعلاء بلحاظ أن النهي أمر مركب من :
الأول : الناهي .
الثاني : الموضوع المنهي عنه .
الثالث : صيغة النهي كما في قول : لا تفعل .
الرابع : الذي يُنهى ، ويتجلى في النهي من الله أمر الإستعلاء والجبروت وأنه يصدر من مقام الربوبية المطلقة .
ويفيد النهي الترك، سواء كان ترك القول أو الفعل ، أما بالنسبة للنهي من عند الله الوارد في آية البحث فيشمل ترك الحالة النفسانية غير المرضية والإنتقاد الخاطئ ، وهو أمر لا يعلم بوجوده وتنجز تحقق تركه إلا الله عز وجل .
وورد في الحديث القدسي في الصيام مثلاً ورد عن(أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يقول الله تعالى : الصوم لي وأنا أجزي به ، وللصائم فرحتان . إذا أفطر فرح ، وإذا لقي ربه فجازاه فرح ، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك ) ( ).
لآن الصيام عبادة في آنات النهار الإرتباطية من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس ومنها ساعة أو ساعات يخلو فيها الإنسان مع نفسه لا يعلم ما يفعل من الأكل والشرب أو الإمتناع عن المفطرات إلا الله عز وجل ، فكيف وأن مسألة الحزن أو عدمه لا يعلمه إلا الله عز وجل .
وتأتي صيغة النهي بحسب المخَاطََب من وجوه :
الأول : المفرد المذكر : لا تفعل .
الثاني : المفردة المؤنثة : لا تفعلي .
الثالث : المثنى : لا تفعلا .
الرابع : جمع مذكر السالم ، لا تفعلوا.
الخامس : جمع المؤنث السالم ، لا تفعلن .
وأم أدوات النهي (لا) وهي أشهرها وأكثرها تداولاً والتي تنهى عن الفعل المضارع بصيغته في الاستقبال وهي نقيض : أفعل ، أو لتفعل ، وتختص (لا) بالدخول على الفعل المضارع ، وتفيد جزمه وإرادة المستقبل منه ، وقد تأتي (لا ) من الأدنى إلى الأعلى حينئذ تكون للدعاء والمسألة كما في التنزيل [رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] ( ) وتسمى (لا) الدعاء ، أو (لا) الدعائية ، وتأتي (لا) من المساوي للطلب والإلتماس ، نحو قول المرء لصديقه (لا تفعل ) ولا يشترط التساوي الدقة العقلية إنما يكفي التساوي في الجملة ، وتكون (لا) في المقام جازمة أيضاً .
وقد يأتي النهي بصيغة اسم الفعل مثل (صَه) أي لا تتكلم و(مَه) أي لا تفعل.
كما يأتي بصيغة الأمر ، مثل ذَر ، ابتعد ، إجتنب ،دَع ، اترك ، كفّ .
وجاء قوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ] بأداء النهي (لا ) وهي جلية وظاهرة في النهي لتأكيد لغة البيان في القرآن وليفقهها كل مسلم ومسلمة وكل إنسان ، وهو من عمومات قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ).
لقد خسر الذين كفروا الشفقة عليهم والرأفة بهم لأن مسارعتهم في الكفر نوع إصرار عليه وعداوة مع الله عز وجل ورسوله والمؤمنين ، وليبقى النهي في الآية متجدداً عند المسلمين ويشمل أشخاص الذين كفروا والذين يتمادون في الكفر في كل زمان ومكان ، وهو من مصاديق بقاء القرآن غضاً طرياً إلى يوم القيامة .
قوله تعالى [الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ]
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بالصحة والعافية والرزق والمال ، وجعل العقل ضابطة للعدل والإنصاف والتجافي عن الظلم ، وتفضل سبحانه ببعث الأنبياء متعاقبين كل واحد منهم يكمل رسالة الثاني ، ويثبت معالم التوحيد ، ومكارم الأخلاق في الأرض ، قال تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ]( ).
(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً فأتمها إلا لبنة واحدة ، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة) ( ).
ويدل الحديث أعلاه في مفهومه على أن سنن النبوة موجودة بين الناس ، ومنها البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم نصرته والذب عنه ، ولكن كفار قريش لم يكتفوا بتكذيب نبوته إنما قاموا بمحاربته ، وهذه المحاربة من مصاديق المسارعة في الكفر .
لقد جاء القرآن بالترغيب بالصالحات ، ورغّب المسلمين باتيانها ودعاهم والناس جميعاً إلى المسارعة فيها ، وأثنى الله عز وجل على الموحدين الذين يخشون منه ويتقربون إليه بفعل الصالحات ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ]( ). ولكن الذين كفروا تركوا ما يجب عليهم من الإيمان الواجب ، وأختاروا الجحود ، وهل الكفار بعرض ومرتبة واحدة ، الجواب لا ، إذ أن تلبسهم بالكفر على مراتب متفاوتة ، فمنهم من اكتفى بالكفر والجحود ، ومنهم من امتنع عن الإيمان ومنهم من أراد المهلة والإمهال مع الإقامة على الكفر ومنهم وهم أشدهم الذين شهروا السيوف ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقطعوا مئات الأميال لمحاربته ، وعندما كانوا في الميدان يوم اصطف الناس [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) لا يسمعون من معسكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قعقعة السلاح ، إنما يسمعون نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصدح في أرجاء الميدان (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا). ومن معاني وتقدير آية البحث وجوه : الأول : الذين يسارعون في تكذيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . الثاني : الذين يسارعون في الإفتراء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . الثالث : الذين يسارعون في المناجاة في ذم المؤمنين ، قال تعالى [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا] ( ) . الرابع : الذين يسارعون في المعاصي وفعل السيئات . الخامس : الذين يسارعون في مسالك الضلالة . السادس : الذين يسارعون في الفسوق والعصيان . السابع : الذين يسارعون في الخروج لمحاربة وقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، كما حدث في مقدمات معركة بدر ، فما أن جاء ضمضم بن عمرو رسولاً من أبي سفيان يخبر أهل مكة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يتعرضون لقافلتهم حتى بادروا إلى الخروج في ثلاث ليال فقط ، ولو تمهلوا قليلاً لجاءهم رسوله الآخر بأن القافلة سلمت . الثامن : الذين يسارعون في السير نحو ماء بدر بحجة إظهار هيبة قريش عند قبائل العرب . التاسع :الذين يسارعون في طلب المبازرة ومحاربة المؤمنين لأن الطلب من منازل الكفر ، وهو بذاته كفر قولي وفعلي ، كما في تقدم عتبة بن ربيعة وأخيه شيبة وابنه الوليد في معركة بدر وطلبهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بروز رجال من قريش ، وفي رواية رجال من بني هاشم ، فحينما تقدم لهم فتية من الأنصار وهم : أولاً : عوف بن الحارث . ثانياً : معاذ بن الحارث ، وأمهما عفراء . ثالثاً : عبد الله بن رواحة , سألهم عتبة ومن برز معه من أنتم ( قالوا رهط من الأنصار . قالوا : ما لنا بكم من حاجة ) ( ). ثم توجهوا بالنداء إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فنادوا بأعلى أصواتهم (يَا مُحَمّدُ أَخْرِجْ إلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا) ( ). ترى ما هي النسبة بين المسارعة في الكفر والرئاسة بين الكفار كما في رئاسة أبي جهل ، وقيامهم بالتحريض على قتال ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه . الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالتحريض هذا فرع المسارعة في الكفر والضلالة . ومن معاني ودلالات آية البحث مسائل : الأولى : تحذير وإنذار المسلمين من الذين كفروا ، وصحيح أن الآية وردت بصيغة النهي عن الحزن بخصوص الذين كفروا ولكنها تبين قانوناً وهو وجود أمة من الناس يسارعون في الكفر ويسعون في الفتنة ومقدماتها ، ويتناجون بالباطل ، وهو من إعجاز القرآن بأن تأتي الآية بنهي خاص ، ولكنها تتضمن معنى عام ينتفع منه المسلمون والمسلمات ، قال تعالى [خُذُوا حِذْرَكُمْ] ( ). الثانية : بيان الآية لقانون وهو وجود حظ ونصيب في الآخرة ، وأن المؤمنين يفوزون بالحظ والنصيب الوافر فيه ، فان قلت هل يختص النصيب في الآخرة بالمؤمنين. الجواب لا ، إنما يشمل المسلمين والمسلمات ، لبيان التضاد بين الإسلام والكفر ، بالإضافة إلى تأكيد الآية لصفة قبيحة تستلزم الحرمان من الحظ في الآخرة وهي المسارعة في الكفر والضلالة ، قال تعالى [وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ). الثالثة : إنذار الذين كفروا من ذات الكفر ومن المسارعة فيه ، والتعاضد والتعاون في الإقامة في منازله ، والإصرار عليه وإتخاذ الجدال والمغالطة وسيلة لصد الناس عن الإيمان . فصحيح أن الخطاب والنهي في الآية يتوجهان إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويلحق به المسلمون والمسلمات إلا أن الآية تتضمن بيان قبح الكفر وسوء عاقبته ، لذا لم تقف عند هذا النهي أنما أخبرت عن سوء حال المشركين يوم القيامة . الرابعة : تفضل الله عز وجل باكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإخبار بأن الله تعالى يعلم ما في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الفرح والحزن ، في كل آن وساعة ، وموضوع الفرح ، وكذا موضوع وأسباب الحزن . وفيه دعوة للمسلمين لسلامة قلوبهم وجعلها تفرح بالحق واللجوء إلى الاسترجاع عند نزول المصيبة ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ) . وتحتمل مسارعة الذين كفروا في الكفر وجوهاً : الأول : هذه المسارعة مصيبة عامة . الثاني : القدر المتيقن من المصيبة ما يتعلق بالمسلمين ، مثل نزول الموت أو المرض أو البلاء الخاص والعام . الثالث : هذه المسارعة مصيبة خاصة بالذين كفروا دون غيرهم . الرابع : ليست هذه المسارعة مصيبة . والصحيح هو الأول فان مسارعة الذين كفروا في الكفر ومسالكه مصيبة عامة للمسلمين والذين كفروا وعامة الناس ، لتبين آية البحث عدم الملازمة بين المصيبة وبين الحزن ، فاذا كان سبب المصيبة وأثرها يتعلقان بالذين كفروا فانه لا يستلزم الحزن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لأن الذين كفروا إختاروا الإضرار بأنفسهم في الدنيا والآخرة ، وهو الذي أخبرت عنه آية البحث . أما في الدنيا فمن وجوه : الأول : مخاطبة آية البحث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة اللطف والتشريف وإلحاق المؤمنين به ، وتقدير الآية : يا أيها النبي لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) وإلحاق المسلمين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في عمومات هذا التشريف ، وقد حرم الذين كفروا من نعمة هذا الخطاب ، وما يترشح عنه من المنافع والأجر ، قال تعالى[بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ]( ). الثاني : تلاوة المسلمين في كل زمان لآية البحث تعريض بالذين كفروا وتوبيخ لهم ، ولا يختص هذا التوبيخ بالذين نزلت آية البحث بخصوصهم . الثالث : ذم آية البحث للذين كفروا لأنها تصفهم بالمسارعة في الكفر ، ويتضمن هذا الوصف التبكيت والزجر عن هذه المسارعة . وتبين لعامة الناس قانوناً وهو وجود طائفة يتلبسون بالكفر ولا يكتفون باتخاذه منهاجاً بل يسارعون فيه ، فلابد من نصحهم وتحذيرهم [وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ]( ). الرابع : عجز الذين كفروا عن الإضرار بعقيدة التوحيد وعبادة الناس لله في الأرض . لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً على فترة من الرسل ، فكان بين رفع عيسى عليه السلام وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نحو ستمائة سنة وبعثه الله عز وجل بالرسالة بجوار بيته الحرام وبين أهله وعشيرته، وهو من أوسطهم ومعروف عندهم بالصدق والأمانة ، والمتبادر إلى الأذهان أنهم ينصرونه خاصة وأن الله عز وجل أنعم عليهم بالمال والإستقرار والسلم المجتمعي ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍإِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ *فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ).
ومن الإعجاز في هذه السورة أنها أكثر السور التي وردت فيها كلمات لم ترد في غيرها بلحاظ مجموع كلماتها ، فمن مجموع ثلاث عشرة كلمة عدد كلمات السورة لم ترد تسع كلمات منها في سورة غيرها إلى جانب المركب من كلمتين , وهي :
الأولى : لِإِيلاَفِ.
الثانية : قُرَيْشٍ .
الثالثة : إِيلاَفِهِمْ.
الرابعة : رِحْلَةَ.
الخامسة : الشِّتَاءِ .
السادسة : الصَّيْفِ .
السابعة : فَلْيَعْبُدُوا.
الثامنة : رَبَّ هَذَا.
التاسعة : هَذَا الْبَيْتِ .
العاشرة : أَطْعَمَهُمْ.
الحادي عشرة : مِنْ جُوعٍ.
الثانية عشرة : آمَنَهُمْ.
الثالثة عشرة : مِنْ خَوْفٍ.
ومن هذا الإعجاز الخاص بسورة قريش وجوه :
الأول : بيان إكرام الله عز وجل لقريش من بين القبائل .
الثاني : الدلالة على علة هذا الإكرام ، وهو على جهات :
الأولى : جوار قريش للبيت الحرام , وما يترشح عنه , قال تعالى [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ).
الثانية : قريش من ذرية إبراهيم عليه السلام .
الثالثة : قريش هم أهل وعشيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (عن المطلب بن أبي وداعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبلغه بعض ما يقول الناس ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال : من أنا؟ قالوا : أنت رسول الله .
قال : أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه ، وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة ، وجعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً ، فانا خيركم بيتاً ، وخيركم نفساً) ( ).
وعن أُمّ هانئ بنت أبي طالب قالت : إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : فضَّل اللّه قريشاً بسبع خصال لم يعطها أحداً قبلهم،
ولا يعطاها أحداً بعدهم : فضلَّ اللّه قريشاً أني منهم،
وأنّ النبوة فيهم وأنّ الحجابة فيهم،
والسقاية فيهم،
ونصرهم على الفيل،
وعبدوا اللّه سبحانه عشرين سنة لا يعبدهُ غيرهم،
وأنزل اللّه سبحانه فيهم سورة لم يذكر فيها أحدٌ غيرهم) ( ).
الرابع : توارث قريش ملة التوحيد عن إبراهيم الخليل وإسماعيل .
الخامس : توافد العرب لحج البيت الحرام في كل عام ، وعمارتهم له على مدار السنة ، إذ يملي هذا التوافد على قريش التحلي بآداب التوحيد والإجتهاد بصيروتهم الأسوة الحسنة للناس .
السادس : قيام وتسابق قريش في خدمة وفد الحاج واستعدادهم لهذه الخدمة طيلة أيام السنة .
ومنه سقاية الحاج إذ جعل الله عز وجل البيت الحرام [بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ] ( ) ولو شاء الله عز وجل لجعله في أبهى وأجمل مناطق العالم وأحسنها مناخاً وأكثرها أمطاراً وأنهاراً ، وكان في طعم ماء بئر زمزم غلظة فيجلب رجال قريش له الزبيب من الطائف والتمر من المدينة وغيرها لكسر غلظته .
وكانت لهم بساتين في الطائف لزراعة الكروم وأشجار العنب ، كما كانت قريش تداين أهل الطائف وتستوفي الدَين بالزبيب خدمة للحجاج ، والأصل أن تكون هذه الخدمة مرآة لإقرارهم بالتوحيد ، ومقدمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأنه جاء بالمعجزات الحسية والعقلية .
الثامنة : لقد نشأ الإسلام في أيامه الأولى ضعيفاً غريباً ، وكان المسلمون قلة في العدد ومستضعفين ، يقوم الذين كفروا بتعذيب طائفة منهم ، ويتوعدون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإياهم بالقتل.
علم المناسبة
ورد لفظ (يسارعون) سبع مرات في القرآن ، في معنى متضاد ويدل على تقسيم الناس تقسيماً استقرائياً على وجوه :
الأول : الثناء على الأنبياء وأهل البيت ، كما في قوله تعالى في زكريا وزوجته [فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ]( )، لبيان قانون وهو أن المسارعة في الخيرات تكون على شعب :
الأولى : السعي والمسارعة الفردية .
الثانية : المبادرة والمسارعة الجماعية المشتركة .
الثالثة : المسارعة المتكررة .
وهل هذه المسارعة لها أجر خاص أم أن الأجر ينحصر بذات فعل الخير ، الجواب هو الأول فذات المسارعة لها أجر خاص مستقل ، وهو من فضل الله ، والإعجاز في ورود لفظ (يسارعون) على نحو الخصوص .
وتبين الآية أعلاه المسارعة في الخيرات وحدها ، وأن يقترن بها الدعاء بهيئة الخشوع والخضوع لله عز وجل لتأتي الإستجابة العاجلة من عند الله قانون السببية والعلة والمعلول وفق القواعد الظاهرة ، وبخلافه , فمن خصائص المسارعة في الخيرات والدعاء ترشح المعجزة والكرامة من عند الله عز وجل بواسطته .
الثاني : المؤمنون الذين يبادرون ويعجلون عمل الصالحات ، وفعل الخيرات ، ومنه قوله تعالى [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ]( )، وهل منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الجواب نعم ، فلا تختص الخيرات بالبذل والعمل والإنفاق ونحوه بل تشمل الأمر والنهي للغير بما يفيد الإصلاح وهو من عمومات قوله تعالى[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
الثالث : الكفار والمنافقون الذين ظلموا أنفسهم باختيار المسارعة في دروب الضلالة والغواية للذات والغير، وتدل عليه آية البحث ، ومنه في ذم المنافقين , قوله تعالى[فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ]( ).
الرابع : الذين لا يسارعون في الخيرات ، ولا في الكفر ومفاهيم الضلالة.
لقد ورد لفظ (يسارعون) في فعل الخيرات ثلاث مرات والمراد الذين آمنوا ، وإتيانهم العمل الصالح بقصد القربة الله كما ورد أربع مرات في ذم الذين كفروا والمنافقين وتدل هذه الكثرة على لزوم إجتهاد المسلمين في الدعوة إلى الله ، وأخذ الحائطة والحذر من الذين كفروا والذين لم يترددوا في فعل السيئات .

قوله تعالى [إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا]
من معاني إنتفاء الحزن والأسى على الذين كفروا ومسارعتهم في الكفر ذكر الآية لعدم إضرارهم بعبادة الله في الأرض ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا]أمور :
الأول : عدم إمكان إضرار الذين كفروا بالآيات الكونية .
الثاني : عجز الذين كفروا عن تحريف آيات التنزيل ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) قصور وتخلف الذين كفروا عن تحريف التنزيل رسماً وقراءة .
الثالث : إستدامة عبادة الناس لله في الأرض حتى مع مسارعة الذين كفروا بالكفر وتظاهرهم على المؤمنين ، ولما هجم المشركون بثلاثة آلاف رجل على المدينة في معركة أحد فان فريقاً من المؤمنين والمؤمنات أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة مع توالي بعث المشركين رسائل التهديد والوعيد بقتله وجلب المهاجرين أسرى إلى مكة لمقاصد منها:
الأول : الثأر لمسألة أسر المسلمين سبعين من المشركين أسرى في معركة بدر مع التباين في معاملة الأسرى وقال ابن اسحاق : وَحَدّثَنِي نُبِيّهُ بْنُ وَهْبٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدّارِ . أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ أَقْبَلَ بِالْأُسَارَى فَرّقَهُمْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَقَالَ اسْتَوْصُوا بِالْأُسَارَى خَيْرًا قَالَ وَكَانَ أَبُو عَزِيزٍ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ ، أَخُو مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ لِأَبِيهِ وَأُمّهِ فِي الْأُسَارَى . قَالَ فَقَالَ أَبُو عَزِيزٍ مَرّ بِي أَخِي مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَأْسِرُنِي ، فَقَالَ شُدّ يَدَيْك بِهِ فَإِنّ أُمّهُ ذَاتُ مَتَاعٍ لَعَلّهَا تَفْدِيهِ مِنْك ، قَالَ وَكُنْتُ فِي رَهْطٍ مِنْ الْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلُوا بِي مِنْ بَدْرٍ فَكَانُوا إذَا قَدّمُوا غَدَاءَهُمْ وَعَشَاءَهُمْ خَصّونِي بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التّمْرَ لِوَصِيّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إيّاهُمْ بِنَا ، مَا تَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةُ خُبْزٍ إلّا نَفَحَنِي بِهَا . قَالَ فَأَسْتَحْيِيَ فَأَرُدّهَا عَلَى أَحَدِهِمْ فَيَرُدّهَا عَلَيّ ما يَمَسّهَا ( ).
الثاني : إرادة الشماتة بالمسلمين .
الثالث : بعث رسالة للقبائل بأن قريشاً في منعة وقوة .
الرابع : إخافة المسلمين في مكة ، وإرادة منعهم من الهجرة .
الخامس : الإنتقام من الأسرى وقتلهم ، فخيب الله سعيهم ، وجعلهم عاجزين عن أسر طائفة من المسلمين , قال تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
ورداً على أسر المسلمين سبعين من المشركين في معركة بدر نزلت آية البحث لبعث السكينة في قلوب عموم المؤمنين والمؤمنات بأن الذين كفروا [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ويكون تقدير الآية في المقام على جهات :
الأولى : لن يضروا الله في شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
الثانية : لن يضروا الله شيئاً في توالي نزول آيات القرآن ، فلا يستطيع الذين كفروا منع هذا التوالي والتتابع .
الثالثة : لن يضروا الله شيئاً في سلامة المسلمين من الإرتداد ، فمن مسارعة الذين كفروا بالكفر سعيهم لإرتداد المسلمين ، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
الرابعة : لن يضروا الله شيئاً في تحريضهم القبائل والغلمان والعبيد على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لأن نتيجة هذا التحريض خسارة الذين كفروا .
الخامسة : لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شديد الحرص على هداية الناس جميعاً للإسلام ويحزنه مخالفة وعناد الذين كفروا ، فجاءت آية البحث للإخبار عن علم الله عز وجل بما في قلوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من الشفقة على الكفار والرغبة في تنزههم من مفاهيم الجحود والشقاق التي لا تجلب لهم إلا الأذى والضرر.
فأخبرت آية البحث بأن الله عز وجل أقام عليهم الحجة والبرهان ، ولبيان أن الدنيا دار امتحان وإختبار ، وان الكافرين إختاروا الضلالة وما يترشح عنها من الخسران ، قال سبحانه [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ] ( ).
وفيه وعد وعهد من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالأمن والسلامة من ضرر وكيد ومكر الذين كفروا ومسارعتهم في الكفر ، وعندما يتوعد المشركون المسلمين بأمر أو يقدمون على الإجهاز عليهم أو قتل بعض الأسرى المسلمين كما في فتك خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة بمكة غدراً أو ظلماً ، فان المسلمين قد يخشون جانبهم وما يترشح عن مسارعتهم في الكفر والضلالة .
فجاءت آية البحث لدفع الحزن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين على تمادي الذين كفروا في الغي وأنهماكهم في الضلالة ، قال تعالى[أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا]( ) .
فكلما إجتهد الكفار في السعي في موارد الكفر وإيذاء المؤمنين فان الله عز وجل بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بأن لا يحزنوا ولا يخافوا منهم ، ومن قبيح فعلهم لبيان قانون وهو وجوب خشية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الله عز وجل ليكون من معاني آية البحث أنها مقدمة ونوع طريق لأمراء المسلمين عبادتهم ومناسكهم بأمن وسيبقى عدم الخوف والخشية من الذين كفروا وسيلة ليتفقه المسلمون في الدين .
وهل عدم الخوف هذا من مصاديق قوله تعالى [فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا] ( ) الجواب نعم ، لأن في سلامة المؤمنين من الخوف من الشيطان وأوليائه تثبيت لمعالم الدين وأحكام الشريعة في الأرض ، وفيه فضح للذين كفروا وسوء اختيارهم .
ومن معاني اللطف الإلهي في الحياة الدنيا صيرورة الذين آمنوا في هدايتهم وصلاحهم أسوة وموعظة للناس ، وحجة على الذين كفروا .
ترى لماذا لم تقل آية البحث (لن يضروا المؤمنين شيئاً) أو (لن يضروا الناس شيئاً ).
لقد جاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية بأن الذين كفروا لن يضروا الله شيئاً ، وهل ينحصر موضوعها بالإخبار ، وما فيه من البشارة للمؤمنين والإنذار للذين كفروا ، الجواب لا ، إنما ذات الآية تمنع من إضرار الذين كفروا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وبناء صرح الإيمان في الأرض ومنافعها المتعددة.
لقد رزق الله عز وجل موسى عليه السلام العصا لتكون ثعباناً يلقف عصي سحرة فرعون ويضرب بها الحجر فينفجر منه الماء ، قال تعالى [وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] ( ) لتأتي الآية القرآنية معجزة عقلية تخاطب الناس وتنير لهم دروب الهداية ، وتكون سلاحاً ومدداً للمسلمين ، ومن أسرار كون القرآن معجزة عقلية ، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وتدل الآية في مفهومها على قيام الذين كفروا بالظلم وإرادة تقويض قواعد الإيمان في الأرض ، فهم يسعون للإضرار العام ، ولكنهم يعجزون عنه، ومن الآيات التكوينية أن الله عز وجل جعل السماوات في توسعة وزيادة مطردة ، قال تعالى [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ] ( ).
لقد اراد الذين كفروا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه وأمره الله عز وجل بالهجرة إلى المدينة فلم يضروا الله والرسول والمؤمنين ليلة المبيت ، قال تعالى[وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ]( ).
إذ نجّى الله الرسول وأمره بالهجرة ، وهذه الهجرة شاهد على عجزهم عن الإضرار بصرح الإيمان الناشئ في الجزيرة ، لقد جاء إبراهيم عليه السلام من الشام ليبني البيت الحرام في مكة والذي كانت قواعده موجودة من أيام آدم عليه السلام ، ليكون هذا البناء مقدمة لبعثة خاتم النبيين من ذريته من أولاد إسماعيل ، في حال من الأمن بين أهله وعشيرته الذين يتشرفون ويفتخرون بأمور :
الأول : جوار البيت الحرام .
الثاني : انهم من ذرية إبراهيم .
الثالث : إجتماع نسبهم مع نسب أبناء الأنبياء من بني إسرائيل .
الرابع : عمارة البيت الحرام وسقاية وإطعام وفد الحاج ، قال تعالى[أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]( ).
الخامس : نصرة المظلوم الذي يتظلم في مكة ، وإنتزاع حقه حتى لو كان من رؤساء القوم .
الخامس : العمل بالتجارة والمكاسب ، وهو من مصاديق قوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
وتسعى دول العالم في هذا الزمان إلى تحسين تجارتها وتشجيع السياحة في بلادها ، وتنفق الأموال في سبيل الله ،وقد أنعم الله عز وجل على قريش بآيات من عنده بجعل العرب تأتي جماعات وأفراد لحج البيت وأداء العمرة ، ومن فضل الله أنه سبحانه جعل أربعة أشهر من كل سنة حرماً ليس فيها قتال ، لتكون مناسبة لدعوة الناس للإسلام وقراءته القرآن عليهم ، قال تعالى[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوصي وفد الحاج بنقل أخبار نبوته إلى أهليهم ومن ورائهم ، المختار نعم ، كما ينقلون أنباء نبوته طوعاً وإنطباقاً لعظيم المسألة وتعلق أمورها بالناس جميعاً ، ليكون سعي الذين كفروا في صدّ الناس عن الإنصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المسارعة في الكفر والتي لا تضر دين التوحيد ، ونشر مفاهيم النبوة ومصاديق التقوى .
لقد جعل الله عز وجل ببعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس يدركون لزوم التوبة .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن الكفار يسعون في الإضرار بالنبوة والتنزيل وعبادة الناس لله عز وجل ، وقد تمادى فرعون في الغي فلا قى العقاب العاجل.
ورد في التنزيل [وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ] ( ) فان قلت لم يبلغ الذين كفروا من قريش طغيان وغرور فرعون وإدعائه الربوبية .
والجواب هذا صحيح ، ولكنهم كانوا طغاة جفاة يحاربون عقيدة التوحيد والفرائض وأهل الإيمان ، وقد جاءهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات التي تثبت عجزهم عن الإتيان بمثلها ، وفي التنزيل[أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
وما كان ردهم إلا السعي لقتله سواء عندما كان بجوارهم في مكة أو عندما وبعدما انتقل مهاجراً إلى المدينة .
(وعن قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول : إن لكل أمة فرعوناً وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل) ( ).
وفي قوله تعالى [لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ]( ) (نزلت بسبب عكرمة بن أبي جهل وذلك أنه كان يمشي بالمدينة مسلماً ، فقال له قوم : هذا ابن فرعون هذه الأمة ، فعز ذلك عليه وشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) ( ).
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على ان الذين كفروا يسعون في الإضرار بالدين فأخبرت الآية عن خيبتهم وخسارتهم ، وهل في الآية بشارة بأن الذين كفروا لا يستطيعون منع أبنائهم من دخول الإسلام ، الجواب نعم ، وما داموا لن يضروا الله شيئاً فان فتح مكة قريب ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ).
ومن المسلمات عند المليين أن الناس لا يضرون الله عز وجل شيئاً ، فلماذا ذكرت هذا الأمر آية البحث ، الجواب لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ومنه المسلمات التي تتضمن العز للمؤمنين ، والتوبيخ والتبكيت للذين كفروا .
وهو من مصاديق التذكير والتبصرة بآيات القرآن وتسميته ذكرى ، قال تعالى[كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ]
تبين الآية قانوناً وهو أن الحظ والشأن والرفعة في الآخرة بيد الله ، وفيه بشارة وانذار ، بشارة للمؤمنين وبعث للعمل الصالح ، وإنذار للذين كفروا وزجر عن السيئات وارتكاب الفواحش ، وعن جابر قال: بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في القصاص ، فأتيت بعيراً فشددت عليه رحلي ، ثم سرت إليه شهراً حتى قدمت مصر فأتيت عبدالله بن أنيس فقلت له حديث بلغني عنك في القصاص فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « يحشر الله العباد حفاة عراة غرلاً . قلنا ما هما؟ قال : ليس معهم شيء ، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب . أنا الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، ولا لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده مظلمة حتى أقصه منها حتى اللطمة . قلنا كيف وان نأتي الله غرلاً بهما؟ قال : بالحسنات والسيئآت ، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم }( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار عمل واجتهاد وصراع بين العقل والشهوة ، وبين الإيمان وولاية الشيطان لتكون الآخرة عالم الحساب والجزاء ، وهل يعني هذا إنحصار الجزاء بالآخرة وإثابة المؤمنين بدخول الجنة وعقاب الذين كفروا باقامتهم في النار ، والمختار أن الجزاء من الله عز وجل يتغشى الحياة الدنيا والآخرة ، وأنه سبحانه يثيب على العمل الصالح من حين أداء العبد له .
ويدل عليه ما ورد قبل آيتين ، فكما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار للقاء جيش المشركين الذي يغزو المسلمين في عقر دارهم وجعفل بموضع جبل أحد الذي يبعد خمسة كيلو مترات عن المدينة ، ولو لم يخرج لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لهاجموا المدينة وأزقتها وبيوتها ، وعاثوا فيها فساداً ، ومع هذا يسمى علماء التفسير والسيرة هذه المعركة غزوة أحد ونسبة الغزو فيها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وكأنهم هم الغزاة ، لإرادة بيان منعة وقوة المسلمين وأنهم هم الذين يأخذون زمام المبادرة ، ولكنه خلاف الواقع ، وقد يكون في هذه القراءة الخاطئة ضرر على المسلمين في الأجيال المتعاقبة ، وتترتب عليها مفاهيم تؤدي إلى الضرر وخلق جيل جديد يؤمن بالغزو والبطش على أصل هو كالوهم وما يخالف واقع إتخاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الدفاع المشروع والعادل وتحليهم بالصبر وعدم رد الأذى بمثله ، قال تعالى[وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ]( ) .
فان قلت هل يدل قوله تعالى قبل آيتين [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ] ( ) بالدلالة التضمنية على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي خرج وأصحابه ابتداء وبقصد الهجوم والقتال ثم انقلبوا ، والجواب لا ، إذ أن الإنقلاب أعم من أن يكون ملازماً للخروج الإبتدائي وإرادة الهجوم ، إنما كان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد فرعً وتابعاً لمصداق قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
إذ تتعلق الآية أعلاه بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه إلى معركة أحد ، وفي اليوم التالي بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل المدينة أن جيش المشركين يريدون الكرة من جديد للهجوم عليها وغزوها ، فنزل جبرئيل بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج مع أصحابه في أثرهم ، ليتصف هذا الخروج بأمور :
الأول : هذا الخروج بالوحي ونزول جبرئيل به أي أنه لم يكن إيحاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أذنه ، إنما حدثه وأمره جبرئيل قبلاً ووجهاً لوجه لبيان حتمية الخروج وعدم الإبطاء والتأخير فيه ، وأنه أمر ملزم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وكما في قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ]( )، فان ما يأتي بد جبرئيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأمر يجب أن يعمل به .
الثاني : حاجة المسلمين للدفاع بصيغة الخروج من المدينة ، وكأنهم يلاحقون جيش الذين كفروا والتشبيه هنا لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يلاحق أو يطارد الذين كفروا لا في معركة أحد ولا في غيرها ، إنما يريد منهم أن يكفوا عن غزو المسلمين في عقر دارهم، قال تعالى[إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث : علم الله عز وجل بعدم وقوع قتال في الخروج إلى حمراء الأسد ، وأن منافعه أعظم وأكبر من أن يحصيها الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( )وقوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
الرابع : فضل الله عز وجل بنزول الآيات التي تثني على المؤمنين لخروجهم إلى حمراء الأسد ، ليبقى هذا الخروج فعلاً جهادياً وشاهداً على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد الغزو إنما يخرج للدفاع وصدّ الذين كفروا ومنعهم من الظلم والتعدي وإعادة الكرة في الهجوم على المدينة ، إذ نزلت ثلاث آيات ، قال تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] ( )، فالذين كفروا هم الذين استعدوا للقتال وجمعوا الجيوش لقتال المؤمنين ، ولم يجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحشور انما كان يجمع الصحابة صفوفاً في صلاة الجماعة ، وليس صفوفاً وكراديس في القتال.
ليكون من إعجاز القرآن توثيق الوقائع بما يتضمن الشهادة من عند الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأمور :
الأول : الإستجابة لأمر الله عز وجل .
الثاني : الصبر والرضا في طاعة الله ’ وطلب مرضاته .
الثالث : حرص الصحابة على طاعة الله ورسوله مع شدة القروح والجراحات التي أصابتهم لقوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ] ( ).
وهل يختص موضوع الإستجابة في الآية أعلاه بالخروج إلى حمراء الأسد ، الجواب لا ، إذ أنها أعم ، وهذه الإستجابة في الحل والترحال والسلم والدفاع .
الرابع : الإخبار عن تحلي المهاجرين والأنصار بالإحسان وإثابة الله عز وجل لهم عليه وعن أبي هريرة : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستضافه فبعث إلى نسائه هل عندكن من شيء؟ فقلن ما معناه: إلا الماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يضم أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبيان فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونومي صبيانك، إذا أرداوا عشاءً، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونوّمت صبيانها ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال: ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما فأنزل الله عز وجل: “ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)( ).
ترى لماذا جاءت آية البحث بصيغة التبعيض بقوله تعالى [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا] ( ) .
الجواب في الآية بعث للصحابة على العمل الصالح ، وتحذير للمنافقين وبيان قانون وهو أن الخروج إلى ميدان القتال وحده والعودة من غير قتال لابد وان يقترن بالإحسان للذات والغير ، والمواظبة على فعل الصالحات .
وليس للمؤمن إذا نزلت آية تتضمن توثيق فعل صالح قام به أن يقعد عن واجباته العبادية .
الخامس : الثناء على المؤمنين لتقيدهم بمناهج التقوى التي هي من سنن الأنبياء وجهادهم في سبيل الله .
السادس : البشارة للذين خرجوا إلى حمراء الأسد وتعاهدوا فعل الصالحات بالأجر العظيم والجنة الواسعة ، قال تعالى [تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا] ( ) .
وبين الفضل العظيم والجنة عموم وخصوص مطلق ، فالفضل من الله أعظم من الجنة ويتغشى كلاً من :
الأولى : الحياة الدنيا .
الثانية : عالم البرزخ .
الثالثة : عرصات يوم القيامة وأيام الحساب .
الرابعة : دخول الجنة .
الخامسة : اللبث الدائم في النعيم .
السادسة : الرزق الكريم في الجنان ، قال تعالى[فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا]( ).
السابعة : بيان هذه الآيات لصفة أخرى للذين بشّرهم الله بالثواب العظيم ، وهي تحذير الناس لهم من القوم المشركين وجيوشهم ، وجاءت الآية بقوله تعالى [إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ] ( ) لبيان شمول هذا التحذير والتخويف لتفاصيل من جهات :
الأولى : بيان الناس لكثرة جيش المشركين .
الثانية : كثرة أسلحة ورواحل المشركين .
الثالثة : مناجاة الذين كفروا على إعادة صفحة القتال والغزو .
الرابعة : إعلان رؤساء جيش الكفار كأبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما العزم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الخامسة : إرادة الناس المقارنة والتباين بين كثرة جيش المشركين وقلة عدد جيش المسلمين، قال تعالى[كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة أحد ويبعد موضعها عن المدينة نحو خمس كيلو مترات كما تقدم، وكانوا في كامل صحتهم واستعدادهم للقتال ، كما ورد في هذا الخصوص قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ) أما بالنسبة لخروجهم إلى حمراء الأسد فقد قطعوا مسافة أطول وكانت جراحاتهم بادية عليهم في أشخاصهم وسيرهم وتنقلهم .
ومرّا المسلمون على بعض القرى والركبان في الطريق فاشفقوا عليهم ، واستحضروا كثرة جيش المشركين الذين مرّ عليهم ، فقالوا للمسلمين[إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ] ( ) ، نعم في الآية شاهد بأن المشركين ليس لهم مدد يومئذ ، ولم يعلم هؤلاء أن المدد من الملائكة قريبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وأن جمع المشركون لهم فان الله عز وجل استجاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ) .
وهل هذا المدد من الفضل العظيم الذي ورد في قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] ( ) الجواب نعم ، لبيان تغشي فضل ولطف الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في خروجهم إلى حمراء الأسد وعودتهم منها .
السابع : الشهادة للمؤمنين باتباع رضوان الله بتعاهد الفرائض وحسن السمت والإمتناع عن المعاصي ، والتنزه عن العادات المذمومة كالرياء والغيبة والحسد.
وهذه النعم المتعددة من أسباب عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الحزن على الذي يسارعون في الكفر ، ويحتمل قوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] ( ) وعدم حزن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الذين كفروا وجوهاً :
الأول : أنه من الفضل العظيم الذي ورد في خاتمة الآية قبل السابقة .
الثاني : إنه من رشحات الفضل العظيم .
الثالث : عدم الحزن هذا نعمة أخرى غير الفضل الذي تذكره الآية قبل السابقة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة لذا ورد ذكر النعمة والفضل مجتمعين في الآية قبل السابقة بقوله تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ]( ).
لقد أخبرت آية البحث عن عجز الذين كفروا عن الإضرار بالله وبملة التوحيد ليدل بالدلالة التضمنية على أن الدنيا دار إختبار وامتحان ، وفيها تقوم الحجة على الذين كفروا بمسارعتهم في دروب الضلالة ، وقد يكون لهم فيها حظ ونصيب رحمة من عند الله عز وجل بالناس ، ولإقامة الحجة عليهم عند الجحود بالنعم وتسخيرها في غير مرضاة الله .
فقد أنعم الله عز وجل على قريش بالمال والجاه والأمن ونعمة جوار البيت الحرام ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ) فلم تتخذ قريش كثرة المال للألفة تحت لواء الإسلام ، إنما تعمدوا محاربته .
بحث بلاغي
من علوم البلاغة المدح والذم ، وبينهما تضاد في الموضوع والحكم ، وقيل ( المدح تشبيه الأدنى بالأعلى، وفي الذم تشبيه الأعلى بالأدنى، لأن الذم مقام الأدنى والأعلى طارئ عليه، فيقال في المدح الحصى كالياقوت، وفي الذم ياقوت كالزجاج( ).
ولكن المدح أعم وقد يكون وصفاً صادقاً ، واخباراً عن أمر جميل ، وثناء لفعل كريم ، فحينما يمدح الكريم لجوده فليس هو من تشبيه الأدنى بالأعلى ، وحتى لو مدح الكريم بأنه حاتِم لإشتهار حاتم الطائي بالكرم ، فقد يكون ذات الكريم له خصال مساوية لحاتم وكذا بالنسبة للذم فربما يكون وصفاً لقبيح قول أو فعل من غير أن يكون تشبيها للأعلى بالأدنى .
ومن خصائص القرآن أن التشبيه فيه ذو معنى حقيقي ، يفيد التنبيه والتأديب والإرشاد ، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ) .
وتتخذ الأمم كلها التشبيه مدرسة ومادة للتعليم والتفهيم والأدب الرفيع أما القرآن فزاد في هذا الباب بأن جعل التشبيه دليلاً وهو الذي يسمى في علم المنطق برهاناً، وعنواناً جامعاً لخصائص المؤمنين الحميدة من الأولين والآخرين , وللصفات المذمومة لأهل الكفر والضلالة , ومن التشبيه قوله تعالى[يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ]( ).
والناس على مراتب شتى في فهم التشبيه والمثال وتلقي البرهان ، فمنهم من يكتفي بسماع التلميح والتعريض ، ومنهم من يحتاج الى التصريح والبيان وجاءت لغة القرآن صيغة مناسبة لمخاطبة الناس جميعاً ، وهو من إعجازه , ومن مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
لقد ذكرت آية البحث الحظ في الآخرة وان الذين كفروا محرومون منه ، وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : إختصاص الحظ والنصيب في الآخرة بالمؤمنين الذين عملوا الصالحات , وفي التنزيل[وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
الثاني : حرمان الذين كفروا من الحظ والنفع في الآخرة ، قال تعالى[وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ]( )، وكان الكفار لا يرجون ولا يدعون إلا بخصوص الحياة الدنيا .
الثالث : ليس من حظ أو نصيب في الآخرة إنما هي الأعمال وجزاؤها المناسب .
والصحيح هو الأول والثاني , نعم ذات الجزاء على الصالحات حظ عظيم .
قوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]
أختتمت آية البحث بالإنذار والوعيد للذين يسارعون في مسالك الكفر والضلالة ، ويحرصون على عبادة الأوثان ، وبقائها شاخصة في البيت الحرام ، وحاضرة في المجتمعات وعند القبائل ، والذين يجهزون الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويحتمل هذا العذاب من جهة أوانه وموضوعه وجوهاً :
الأول : العذاب في الدنيا .
الثاني : العذاب في الآخرة .
الثالث : الفرد الجامع للعذاب في الدنيا والآخرة .
والصحيح هو الأخير للقيد الظاهر في آية البحث بقوله تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( )، وتقدير الآية : ولهم عذاب عظيم في الآخرة .
وجاءت آيات القرآن بالتفصيل فيما يلقى الذين كفروا من الأذى الشديد ، قال سبحانه [لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( ).
وهل نزول وموضوع آية البحث من الخزي الذي يلقاه الذين كفروا في الحياة الدنيا , الجواب نعم ، لبيان قانون وهو : نزول الآية خزي للذين كفروا )، وهو الذي نبينه إن شاء الله في الجزء القادم , وهو الرابع والسبعون بعد المائة .
وهل يصح تقدير آية البحث : يا أيها الرسول لا يحزنك العذاب العظيم في الآخرة للذين كفروا ، الجواب نعم , فمن خصائص القرآن الإخبار عن الجزاء في الآخرة ، وفوز الذين آمنوا بالغبطة والأجر والثواب العظيم ، وتلقي الذين كفروا العذاب الأليم .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن عذاب الذين يسارعون في الكفر أشد من عذاب الذين وقفوا عند منازل الكفر، لأن كل فرد من أفراد المسارعة في الكفر له عقوبة وعذاب ، وجاءت الآية بصيغة الفعل المضارع (يسارعون) لبيان استمرار الذين كفروا في الإثم ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، وهي مناسبة لهم للتوبة والإنابة .
وقال تعالى[ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ]( )، إبتدأت الآية بالاسم الموصول والمراد الجمع (اولئك) والذي له معنيان متضادان:
الأول : إرادة المدح والثناء.
الثاني : المقصود الذم والتوبيخ.
وجاءت آية البحث من المعنى الثاني أعلاه ، وفيه وجوه :
الأول : ذم الذين كفروا.
الثاني : بعث النفرة في نفوس الناس من الكفر وأئمته.
الثالث : دعوة المسلمين للإحتجاج بآية البحث ، وهل يمكن القول بقانون وهو كل آية من القرآن مصدر للإحتجاج , الجواب نعم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ومن إعجاز القرآن التداخل بين آياته، وإبتدأت الآية بالاسم الموصول، وفيه دعوة لاستحضار الآية أو الآيات السابقة في الوجود الذهني .
وكأن آية البحث تدعو للرجوع إلى الآية السابقة ومضامينها إذ أنها تتضمن ذم الذين يجحدون بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن ابن عباس قال : قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول فقل لله فليكلمنا حتى نسمع كلامه ، فأنزل الله في ذلك [وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، قال : هم كفار العرب { لولا يكلمنا الله } قالا : هلا يكلمنا { كذلك قال الذين من قبلهم } ( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn