معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 175

المقدمـــــــــــة
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض بمشيئته وأمره النافذ بقوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، وهل يتعارض هذا المعنى مع ورود الآيات بخلق السموات والأرض في ستة أيام.
الجواب لا ، لافادة الجمع بينهما وتعدد الأوامر الإلهية في الخلق والتكوين لبيان عظيم قدرة الله في الزمان والمكان , ولتأديب الناس على الصبر والتأني في العمل مع لزوم المسارعة في العمل الصالح، والمبادرة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا مع وجود الراجح أو المانع في التأخير ، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الحمد لله بعدد ذرات الكائنات ، وأنفاس البشر والدواب والنبات إلى يوم الدين ، وتقييد الدعاء والحمد لله سبحانه أعلاه الى يوم الدين ليتفضل الله علينا بأن يبقى حمدنا له متجدداً حتى بعد مغادرتنا الدنيا ، وأغلب الناس يحبون أن تكون لهم ذرية من بعدهم يحيون ذكرهم في الأرض ، ونسأله تعالى أن تتصف هذه الذرية بالإيمان والصلاح وإن تعاقبت بطوناً وأجيالاً.
وعن قيس بن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : اللهمَّ صل على الأنصار ، وعلى ذرية الأنصار ، وعلى ذرية ذرية الأنصار( ).
وقد جاء هذا الجزء وهو الخامس والسبعون بعد المائة خاصاً بتفسير قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( )، ليمتاز المؤمنون بخصوصية في المقام ، وهي أنهم لا يكتفون بالرغبة بالذرية إنما يريدون لها تعاهد الإيمان ، وتوارث سنن العبادة الذي يتم بفضل من الله ، وليفوز أبناء وذرية المؤمن بسبق الدعاء لهم قبل ولادتهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]( ).
الحمد لله الذي جعل الإيمان زينة الحياة الدنيا ، والصراط الذي يسير بأصحابه ويسيرون به وبهداه إلى النعيم الدائم ، وقد تفضل الله بجعل كل مسلم ومسلمة يتلوان عدة مرات في اليوم في الصلاة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، ليكون من معانيه الهداية إلى الإيمان ، والثبات في مقاماته ، والتنزه عن الزيغ عن سننه.
الحمد لله الذي جعل الأرض لا تخلو من الحمد لله في كل دقيقة من أفراد الزمان التفصيلية ، وإذا قصر الإنسان بالحمد فهل تقوم الخلائق الأخرى بالحمد والتسبيح له ، الجواب إنها تتعاهد الحمد والتسبيح على نحو مستقل ومتوال ، قال تعالى [يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ).
فلم تأت الآية أعلاه بالاسم الموصول (من) الذي يختص بالعاقل في الجملة , إنما جاءت بالاسم الموصول المبني (ما) لبيان قيام العاقل وغير العاقل بالتسبيح لله عز وجل .
ليكون من معاني قوله تعالى في الآية التي اختص هذا الجزء بتفسيرها [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] أن الذين كفروا لن يمنعوا الناس عن الحمد والتسبيح لله ولا يقدرون على حجبهما عن الناس .
فمن معاني اللطف الإلهي تفضل الله بتقريب الناس من الحمد ، وتهيئة مقدماته طوعاً وإنطباقاً وقهراً .
وكل كتاب نزل من السماء دعوة للناس للحمد لله عز وجل ، ويمكن تسمية الحياة الدنيا (دار الحمد) وجاءت السنة النبوية القولية والفعلية والتدوينية والتقريرية بمصاديق يومية في الحمد لله.
وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن الدنيا كلها بحذافيرها في يد رجل من أمتي ، ثم قال { الحمد لله } لكان الحمد أفضل من ذلك( ).
لبيان قانون وهو استدامة ثواب الحمد لله وحضور هذا القول في عالم الآخرة بهيئة حسنة.
وأخرج أحمد ومسلم والنسائي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الطهور شطر الإيمان { والحمد لله } تملأ الميزان ، وسبحان الله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو . فبائع نفسه ، فمعتقها أو موبقها.
وفيه ذم للذين تصفهم آية البحث بأنهم اشتروا الكفر بالإيمان ويفرق الله عز وجل يوم القيامة بين الذين صبروا وتعاهدوا الإيمان وبين الذين باعوه وفرطوا به , قال تعالى [وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا]( ).
وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم.
وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان قد أيس أن بعبد بأرضكم هذه ، ولكنه راض منكم بما تحقرون( ).
وأخرج البيهقي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب ، ولكن سيرضى منكم بدون ذلك بالمحقرات ، وهي الموبقات يوم القيامة ، فاتقوا المظالم ما استطعتم( ).
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والترمذي وحسنه وابن مردويه عن رجل من بني سليم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سبحان الله نصف الميزان ، والحمد لله تملأ الميزان ، والله أكبر يملأ ما بين السماء والأرض ، والطهور نصف الميزان ، والصوم نصف الصبر .
وعن عبد الله بن عمرو قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ يَمْلَؤُهُ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ لَيْسَ لَهَا دُونَ اللَّهِ حِجَابٌ حَتَّى تَخْلُصَ إِلَيْهِ( ).
وفي ملأ الحمد لله الميزان دعوة للمسلمين والناس جميعاً للمواظبة على الحمد لله وبشارة لرجحان كفة الصالحات ، ودخول الجنة , قال تعالى [فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ]( ).
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد والنسائي والحاكم وعن الأسود بن سريع التميمي قال : قلت : يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى قال : أما أن ربك يحب الحمد( ).
لتبين السنة النبوية أن كل ضروب الحمد لله محبوبة عنده سبحانه، وهل يشمل الحمد الفعلي والجماعي ، الجواب نعم ، ويحتمل قول إمام الجماعة في الصلاة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وجوهاً :
الأول : إنه من الحمد لله على نحو القضية الشخصية .
الثاني : إنه أمر عبادي مستقل .
الثالث : إنه حمد لله جماعي صادر من الإمام والمأمومين .
والصحيح هو الثالث وهو من وجوه مضاعفة الثواب في صلاة الجماعة لذا ورد الحديث بأن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة والمراد من الفذ المنفرد.
وأخرج ابن جرير عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس شيء أحب إليه الحمد من الله ، ولذلك أثنى على نفسه فقال {الحمد لله}( ).
ويمكن تأسيس قوانين في المقام منها :
الأول : قانون كل آية من القرآن تدعو إلى الحمد لله في منطوقها أو مفهومها .
الثاني : قانون استدامة وتجدد الحمد لله في الأرض.
الثالث : قانون الحامدون هم الفائزون .
ومع كثرة ورود مادة الحمد في القرآن ، فقد ورد لفظ (الحامدون) مرة واحدة فيه ، قال تعالى [التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابع : قانون وجوب الحمد لله في السراء والضراء.
الخامس : قانون ذكر الله بأوصافه الحسنى من الحمد لله.
السادس : قانون عبادة الناس لله من الحمد لله .
السابع : قانون الشكر لله حمد له سبحانه.
والنسبة بين الحمد والشكر هي العموم والخصوص المطلق ، فالحمد أعم ، ويشمل الشكر والثناء على النعمة المخصوصة ، وعلى الأعم منها.
الثامن : قانون الحمد لله في اليسر والعسر ، وفي المنشط والغبطة , وفي المكروه والمصيبة ، قال تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
التاسع : قانون الحمد لله صراط ونهج مستقيم.
العاشر : قانون الحمد لله طريق إلى الإقامة في الجنة.
الحادي عشر : قانون ترشح عدة قوانين من كل آية قرآنية ، مما يستلزم استقراء واستنباط العلوم من القرآن إلى يوم القيامة ، وقيام علماء ومؤسسات وجامعات في تحقيق هذا المنهاج .
الثاني عشر : قانون حب العبد لله عز وجل مرآة الحمد له سبحانه.
ويمكن استقراء عدة قوانين من آية البحث منها :
الأول : قانون عدم حجب الذين كفروا فضل الله عنهم وعن الناس , إذ أبى الله إلا أن يصل فضله لكل إنسان .
الثاني : قانون أن الله عز وجل محمود بذاته ، سواء قام الناس بحمده أو كفرت طائفة منهم ، وفي التنزيل[وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا]( ).
الثالث : قانون عدم رضا الله عز وجل بالكفر , وغناه عن الذين كفروا ، وفي التنزيل [إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ]( ).
الرابع : قانون الحمد لله واقية من الكفر وشرائه.
الحمد لله المنان الذي جعل نعمه على أي إنسان يعجز الناس جميعاً عن إحصائها لكثرتها لأن تلك النعم على وجوه:
الأول : النعمة الظاهرة.
الثاني : النعمة الخفية .
الثالث : النعمة المستديمة ، وكل فرد منها يلزم الإلتفات إليه وإحصاؤه.
الرابع : النعمة الطارئة.
الخامس : النعمة التي تأتي بالدعاء.
السادس : النعمة التي هي فضل من الله ، وفي التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ).
السابع : ذكر العبد لله نعمة عظمى ، لذا تفضل الله وندب المسلمين الى ذكره وعلى نحو الوجوب العيني , فمع أن الصلاة ذكر لله عز وجل فقد أمر المسلمين بذكره تعالى بعد الصلاة على كل حال , قال تعالى [فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ]( ).
الثامن : من النعمة صرف البلاء ، ومحو المصيبة .
وتحتمل النسبة بين النعم في ظهورها وجوهاً :
الأول : النعم الظاهرة أكثر من النعم الخفية .
الثاني : النعمه الخفية على العبد هي الأكثر.
الثالث : التباين والتفصيل ، فمن الناس من تكون النعم الظاهرة عليه هي الأكثر ، ومنهم من تكون النعم الخفية هي الأكثر .
والمختار هو الثاني لقوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
وكل آية قرآنية نعمة متجددة إلى يوم القيامة في موضوعها وحكمها ودلالتها , وهل يمكن القول بقانون : نعم الله في الآية القرآنية من اللامتناهي.
الجواب نعم ، ومنه الآية التي اختص هذا الجزء من هذا السٍفر المبارك في تفسيرها وتأويلها ، إذ تبين شذرات قليلة من النعم العظيمة التي تترشح عنها ، وهذه النعم التي في الآية على أقسام :
الأول : النعم أوان نزول الآية.
الثاني : النعم في حياة وأيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : النعم التي انقضت قبل هذا الزمان .
ومن أسرار النعم أن منافعها وبركاتها لا تنقطع بل تصاحب الإنسان في حياته ، وهل تحضر يوم القيامة , الجواب نعم ، لتكون نوع رحمة لمن شكر الله عليها .
وعن الزبير بن العوام قال : لما نزلت [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ]( )، قال الزبير بن العوّام : يا رسول الله أي نعيم نسأل عنه؟ وإنما هما الأسودان الماء والتمر . قال : أما إن ذلك سيكون( ).أي لابد من السؤال يوم القيامة عن النعم .
الرابع : النعم المستمرة من حين نزول آية البحث وإلى يوم القيامة.
الخامس : النعم التي تترشح عن آية البحث في قادم الأيام.
السادس : النعم التي تأتي من تلاوة وسماع المسلمين والناس لآية البحث .
السابع : ما يترشح من النعم والجزاء من عند الله على تعاهد المسلمين لآية البحث ، وسلامتها من التحريف ، فان قيل حفظت آيات القرآن بفضل من عند الله لقوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
والجواب هذا صحيح ، ولكن الله عز وجل يثيب المسلمين والمسلمات على تعاهد آيات القرآن ، ومنه تلاوتهم لها في الصلاة وخارجها ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الثامن : تذكر المسلمين لنعمة الله عليهم بالإيمان بتلاوتهم آية البحث ، وتذكرهم لمضامينها ، وفي التنزيل [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ]( ) ، ويمكن القول بقوانين من جهات :
الأولى : النعم اليومية للآية القرآنية .
وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أنعم الله على عبد من نعمة فقال : الحمد لله إلا وقد أدى شكرها ، فإن قالها الثانية جدد الله له ثوابها ، فإن قالها الثالثة غفر الله له ذنوبه( ).
الثانية : النعم المترشحة عن الآية القرآنية في كل فريضة صلاة.
الثالثة : قانون النعم المستقرأة من الجمع بين الآية القرآنية والآية المجاورة لها( ).
الرابعة: النعم المستنبطة من الجمع بين الآية القرآنية وآية قرآنية أخرى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
التاريخ: 10/1/2010
م/ أكثر من مليون علم في باب واحد من علوم التفسير
الحمد لله الذي جعل كلمات القرآن تحيط باللامتناهي من الوقائع والأحداث , وعلومه تتجدد في كل زمان على نحو ذاتي وعرضي، وفيه شاهد حاضر على إعجازه، ومن الذاتي إستخراج الذخائر العلمية من كلمات القرآن وقراءة الصلة بين آياته وكأنها كنز يدعو العلماء والباحثين للغوص في خزائنها، ومنها علم (سياق الآيات) الذي أسسته في تفسيري (معالم الإيمان) إذ صدر الجزء الواحد والتسعون منه في تفسير آية واحدة من سورة آل عمران في 405 صفحة وكله تأويل وإستنباط من ذات الآية ويتناول تفسيرنا صلة الآية محل البحث والتفسير مع الآيات المجاورة لها مما تقدم عليها وما سبقها وفي بحثنا الخارج في التفسير ليوم أمس على فضلاء الحوزة العلمية في النجف الأشرف , وبحضور البحث زائراً كريماً كل من الدكتور كريم مهدي صالح وزير النقل السابق،والدكتور سعد السيد طاهر الهاشمي وزير شؤون المحافظات ، والبروف السيد حسن عيسى الحكيم رئيس جامعة الكوفة ، طرحنا مشروع المعنى الأعم لعلم سياق الآيات وهو على قسمين:
الأول: يتم البحث في صلة الآية القرآنية أثناء تفسيرها بآيات القرآن كلها , فاذا كان التفسير يختص مثلاً بآية[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، يتم البحث بصلتها بكل آية من آيات القرآن ، آية بعد آية , فيكون مجموع أفراد هذا العلم هو:
6236 x 6235= 460, 881 ,38 ÷ 2 =
أكثر من تسعة عشر مليون علماًً ، وتتجلى في كل علم من هذه العلوم إشراقات قرآنية تنير دروب السالكين، وتكون مناسبة للإرتقاء والتوفيق في أمور الدين والدنيا ودوام وحدة المسلمين، وتعاهد كلمات وآيات القرآن والمنع من تحريفه. ونقوم في الفقه باستحضار النصوص المتعلقة بالموضوع وان كانت في باب آخر، كما لو أستدل على مسألة في الصلاة ومقدماتها من باب المواريث , ونحن في علوم القرآن والإستدلال به بحاجة إلى الجمع بين الآيات تفسيراً وتأويلاًً ، قال تعالى[أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( ).
الثاني: الصلة الموضوعية للآية القرآنية بآيات متعددة من القرآن يكون الجامع بينها موضوع أو حكم مخصوص، وهذا الباب ليس له حصر أو تعيين بل هو مناسبة للإستنباط وتأسيس للعلوم من القرآن.
ويحتاج هذا المشروع العلمي إلى بذل المؤسسات والعلماء الوسع في تحصيله مجتمعين ومتفرقين وأن تنشأ هيئات أبحاث وتخصص جامعي وتؤلف رسائل لهذا الغرض المبارك، وهو لا يتم في قرن أو قرنين من الزمن مثلاً، وهو قابل للتوسعة والزيادة العلمية، من جهات:
الأولى: التفصيل والبيان الإضافي في صلة الآية مع الآيات الأخرى خصوصاً وان الآية يكون صدرها في شئ, ووسطها في شئ , وخاتمتها في شئ وموضوع آخر أي تتعدد وجوه الصلة بين كل آيتين.
الثانية: ملاك وقواعد الجمع بين الآيات بخصوص سياق ونظم الآيات.
الثالثة: تجليات قانون لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً ، وكيف أنه كان يدفع القتال ، ويدافع وأصحابه عند الضرورة كما في معركة بدر وأحد والخندق , وقد أمره الله عز وجل بالدعوة بالحجة والبرهان ، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )، ويتوجه الأمر أعلاه إلى كل المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة.
الرابعة : الصلة بين الآيات المحكمات والمتشابهات كل في بابه وموضوعه , وإستقراء قواعد جديدة في باب المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول والتلاوة وغيرها، ونلفت النظر إلى سر من أسرار القرآن أنه كما نزل نجوماً مدة نبوة صاحب الكمالات الإنسانية صلى الله عليه وآله وسلم فان تفسيره وإظهار لآلئه ودرره يأتي نجوماً وعلى مراتب , ومنبسطاً ومتجدداً كماً وكيفاً أيام الحياة الدنيا إلى يوم القيامة وهو من مصاديق إتصاف القرآن بالبركة والفيض , وأهلية المسلمين بفضل من الله لمقامات [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وذكر ان علوم القرآن سبعة وسبعون الف واربعمائة وخمسون علماً، على عدد كلم القرآن، مضروبة في اربعة ) ويفسـر ضربه في أربعـة لما ورد بان لكـل كلمة في القرآن ظاهراُ وباطناً وحداً ومطلعاً، وجاء بياننا هذا للدلالة على اللامتناهي في علوم باب واحد من أبواب تفسير وتأويل القرآن.
ليكون قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، على وجوه من التقدير ليس لها منتهى منها :
الأول : وان تعدوا نعمة الله في آيات القرآن لا تحصوها .
اللهم بارك في مدرسة(سياق الآيات) ونسألك المدد والعون لإستظهار علوم القرآن والإنتفاع الأمثل منه.

الحمد لله الذي جعل الآية القرآنية بلسماً للقلوب المنكسرة ، وعلاجاً وسكينة للنفوس وملاك الصلات بين الناس بالأخلاق الحميدة ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
ومن خصائص الآية القرآنية أنها واقية من الكآبة.
وهل تختص هذه الوقاية بالمؤمنين , الجواب لا ، فجاءت آية البحث في ذم الذين كفروا لنجاة الناس من الكفر والضلالة ، ومن مفاهيم قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ] دعوة الناس إلى التوبة من الكفر ، والتعاون والتآزر لبلوغ مراتب التوبة ، والتوقي من مفاهيم الضلالة.
إذ أن الكفر عرض قابل للزوال ، وكل آية من القرآن لبنة في صرح الإيمان ، ومعول لهدم بناء الكفر الأجوف الواهي , وهي مرج زاهي من أنوار ربيع مستمر يطل على القلوب فيجذبها إلى الهدى والإيمان لتكون الآية القرآنية وتلاوتها وسماعها مرآة ومقدمة لإقامة المؤمنين يوم القيامة في رياض الجنان ، قال سبحانه [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخرة فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ]( ).
ومن إعجاز تكرار اللفظ في القرآن ودلالات هذا التكرار ورود قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ثلاث مرات ، إحداها في آية البحث وأخرى في الآية السابقة لها ، وسيأتي مزيد كلام في دلالتها في باب علم المناسبة( ).
وتدعو آية البحث إلى التحقيق والتدبر في أسباب ووسائل السلامة من ضرر وكيد الكافرين ، وكل آية قرآنية هي واقية منه ، ومن أسباب السلامة هذه روح التعاون والأخوة الإيمانية بين الصحابة ، قال تعالى [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ]( ).
وقد قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ستة أشهر من هجرته إلى المدينة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
ومن خصائص هذه المؤاخاة التعاون والمناجاة بالصبر الذي أمر به الله عز وجل ، قال تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
لقد ابتدأت آية البحث وانتهت بصيغة الجملة الخبرية ، وتقدير الآية بلغة الخطاب على وجوه :
الأول : يا أيها الناس إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً.
الثاني : يا أيها آمنوا ان الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئاً.
الثالث : يا أيها الذين كفروا لن تضروا الله شيئاً .
لتكون آية البحث معجزة متجددة كل يوم ببرهان جلي ، وهو عجز الذين كفروا عن الإضرار بدين الله ، لقد كان المسلمون الأوائل قلة ومستضعفين ، وليس عندهم أموال ولا أسلحة أو مؤن زائدة ، قال تعالى في خطاب للمسلمين [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )
وكان عرب الجزيرة في حال فاقة وجوع ، وتحيط بهم دولتان هما الروم وفارس.
فجاءت آية البحث بشارة لإخبارها وبصيغة القطع والتأكيد أن الذين كفروا لن يضروا الإيمان في الأرض ، ولن يستطيعوا قطع طريق الهجرة إلى المدينة وأن كانوا يُخرجون السرايا والأفراد حول مكة لمنع المهاجرين.
وعن عكرمة في قوله [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ]( ) الآية، قال :
نزلت في صهيب بن سنان وأبي ذر .
وأخرج ابن جرير والطبراني عن عكرمة في قوله [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ]( )، الآية . قال : نزلت في صهيب بن سنان ، وأبي ذر الغفاري ، وجندب بن السكن أحد أهل أبي ذر ، أما أبو ذر فانفلت منهم ، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رجع مهاجراً عرضوا له وكانوا بمر الظهران ، فانفلت أيضاً حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما صهيب فأخذه أهله فافتدى منهم بماله ، ثم خرج مهاجراً فأدركه قنفذ بن عمير بن جدعان ، فخرج ممَّا بقي من ماله وخلى سبيله ( ).
لقد جعل الله عز وجل الضرر الذي يلحق المؤمنين وسنن التقوى في الأرض إضراراً به سبحانه ، لبيان حبه تعالى للمؤمنين ، ولبعث السكينة في نفوسهم ، وادراكهم لقانون وهو أنهم بعين الله ، وأن رحمته تتغشاهم ، وفي موسى عليه السلام ورد قوله تعالى مخاطباً له [وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي]( ).
أي ليتغذى ويتربى بعناية ولطف من عند الله ، ومن خصائص النعمة الإلهية أنها إذا نزلت لا تغادر الأرض ، وقد تفضل الله عز وجل بحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من محاولات الكفار المتكررة لإغتياله ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] الجواب نعم.
وأختتمت آية البحث بقانون من عالم الآخرة وهو شدة عذاب الذين كفروا في النار ، وليس بينهم وبينها من حجاب أو برزخ بل هم في داخلها وهم وقود لها ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
ليكون الإخبار عن هذا القانون في أثره وما يترتب عليه على وجوه :
الأول : بيان صدق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ونزول القرآن من عند الله لما في الآية من علوم الغيب ، وبيان أحوال الذين كفروا في الآخرة .
الثاني : آية البحث رحمة بالناس جميعاً فهي ثناء وشكر للمؤمنين ، وطمأنينة لهم بالأمن من العذاب يوم القيامة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، وهي دعوة للناس جميعاً لتعاهد الإيمان ، وعدم التفريط به .
وتتضمن الآية الإنذار والتحذير من الذين كفروا ومفاهيم الكفر قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ]( ).
الثالث : من مصاديق شراء الذين كفروا الكفر بالإيمان سعيهم في إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة , وحملهم على الهجرة من مكة ، ويدل قوله تعالى [يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ]( )، على قانون من جهات :
الأولى : لم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة عن رغبة عنها.
الثانية : توجه إيذاء الذين كفروا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه.
الثالثة : سعي الذين كفروا في الإضرار بالمؤمنين والمؤمنات .
لقد حمل المشركون النبي محمداً صلى الله وآله وسلم وأصحابه على الهجرة لتكون هذه الهجرة قواعد لبناء صرح الإسلام. ولقد أثنى الله عز وجل على إبراهيم وإسماعيل بقوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ]( )، ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه رفع قواعد الإسلام من جهات :
الأولى : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتوحيد في مكة.
الثانية : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الطائفة من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة.
الثالثة : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى المدينة لتنشأ قواعد للإسلام في الأمصار , وإختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة (يثرب) داراً للهجرة من الشواهد على صدق نبوته لوجود اليهود فيها ، وهم أهل كتاب وعندهم علامات نبي آخر الزمان ، كما استقبلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأسئلة المتعددة بخصوص نبوته والشواهد عليها .
وعن السدي قال : قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، إنما تذكر إبراهيم وموسى وعيسى والنبيين أنك سمعت ذكرهم منّا ، فأخبرنا عن نبي لم يذكره الله في التوراة إلا في مكان واحد .
قال : ومن هو؟ قالوا : ذو القرنين .
قال : ما بلغني عنه شيء .
فخرجوا فرحين وقد غلبوا في أنفسهم ، فلم يبلغوا باب البيت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات[وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا]( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر مولى غفرة قال: دخل بعض أهل الكتاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه فقالوا: يا أبا القاسم، كيف تقول في رجل كان يسيح في الأرض،قال : لا علم لي به فبينما هم على ذلك إذ سمعوا نقيضاً في السقف ، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غمة الوحي ثم سري عنه فتلا [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ]( )، الآية ، فلما ذكر السد قالوا:أتاك خبره يا أبا القاسم حسبك( ).
الرابع : الإنذار والوعيد للذين كفروا ، وليس لهم الإعتذار يوم القيامة ، فان قلت إنما يتلو آية البحث المسلمون ، فكيف تكون إنذاراً للذين كفروا ، الجواب من وجوه :
الأول : استماع عامة الناس للقرآن ليتدبروا بمعانيه طوعاً وقهراً.
الثاني : إتخاذ المسلمين والمسلمات آيات القرآن سلاحاً ومادة للإحتجاج.
الثالث : ذات تلاوة المسلمين للقرآن إنذار للذين كفروا ، ومنه آية البحث التي تتضمن التوبيخ لهم.
الرابع : لقد أرسل الله عز وجل النبي محمداً رسولاً إلى الناس جميعاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( )، مما يدل على أن الله عز وجل هو الذي يتفضل بايصال البشارات والإنذارات القرآنية إلى الناس على اختلاف مشاربهم ومساكنهم وأيام زمانهم ، وقد أنعم على المسلمين وجعلهم يتلون القرآن في الصلاة اليومية ، لتكون هذه القراءة بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : تثبيت الإيمان في نفوس المسلمين .
الثاني : توارث المسلمين تلاوة القرآن .
الثالث : سلامة القرآن من التحريف والتبديل والتغيير ، إذ يُقرأ القرآن خمس مرات في اليوم من عموم المسلمين وعلى نحو الوجوب العيني.
الرابع : بقاء آيات القرآن غضة طرية .
الخامس : التجلي اليومي لإعجاز القرآن ، إذ يدرك المسلمون والناس عامة أن كل آية منه خزينة للعلوم ، ويشع منها ضياء ينير دروب السالكين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
السادس : إتخاذ المسلمين قراءة القرآن وسيلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بذات القراءة أو موضوعها وأثرها .
السابع : قراءة القرآن سبيل للرزق الكريم ، وباب للأجر والثواب .
وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ[بسم الله الرحمن الرحيم]( )، ثم قرأ فاتحة الكتاب ، ثم قال آمين ، لم يبق في السماء ملك مقرب إلا استغفر له( ).
وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اقرأوا القرآن ، فإنكم تؤجرون عليه . أما إني لا أقول {الم} حرف ، ولكن ألف عشر ، ولام عشر ، وميم عشر ، فتلك ثلاثون( ).
ومع قلة كلمات آية البحث وأنها جاءت من عشر كلمات فان العلوم التي تترشح عنها كثيرة ومتجددة إلى يوم القيامة ، وهي تدعو العلماء لإستنباط المسائل والقوانين منها ، ودأب علماء التفسير على تفسيرها بسطر أو سطرين أو أكثر قليلاً ، وقد أنعم الله عز وجل علينا بمجئ هذا الجزء خاصاً بتفسيرها ، واستقراء الدرر واللآلئ العلمية منها ، وشذرات بيان لآيات أخرى في ذات موضوع آية البحث خاصة وأن القرآن يفسر بعضه بعضا.
ويتوالى صدور أجزائه بفضل من الله عز وجل ، وأتولى التأليف والكتابة اليدوية والتصحيح المتعدد الورقي ثم في الحاسبة بمفردي بفضل ولطف من عند الله عز وجل .
وقيل الحسد آفة العلم ، والمختار هو أن النسبة بين العلم والحسد هو التباين والتضاد ، وأن العالم لا يحسد ، ولكن قد يتبوء مقاعد العلم أحياناً من ليس بعالم ، كما أن المؤمن يغبط ولا يحسد , قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ).
وكأن علوم القرآن خارجه بالتخصص أو التخصيص عن الحسد لأنها مائدة وروضة ينتفع منها الناس .
لقد نفت آية البحث مجئ الضرر من الذين كفروا إلى الله عز وجل ، فهل يصل منهم أذى , وبين الأذى والضرر عموم وخصوص مطلق ، فكل ضرر هو أذى وليس العكس ، وهو من الإعجاز في قوله تعالى[فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
فالأذى أدنى مرتبة من الضرر ، ومن الإعجاز في آية البحث ذكرها الضرر دون الأذى ، إذ قد يأتي للمسلمين الأذى من الذين كفروا بدليل قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )، ليكون من إعجاز القرآن والصلة بين آياته إنتفاء التعارض بينها .
وفيه نكتة وهي لزوم أخذ المسلمين الحائطة من الذين كفروا ، والأذى من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وجاءت آية البحث للتخفيف عن المسلمين، وزجر الذين كفروا عن الإستمرار في ايذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والكيد بهم.
وذكر آية البحث للضرر دون الأذى من مصاديق ورشحات قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( )، ليكون من معاني الآية أعلاه بلحاظ آية البحث وقاية المسلمين من الضرر القادم من الذين كفروا ، والتخفيف عن أذاهم كماً وكيفاً .
وإذ أختتمت آية البحث بذكر العذاب الأليم الذي ينتظر الذين كفروا في الآخرة ، فان آيات أخرى تضمنت خسارتهم في الدنيا ، منها قوله تعالى[فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ]( ).
لقد أنعم الله عز وجل على الناس في الدنيا بنعم عظيمة أكثر وأعظم من أن تحصى لتكون وسيلة وبلغة لدار الآخرة التي جعلها الله عز وجل دائمة خالدة , وجعل الله كل آية نوراً وواقية من ظلمة المعصية وغشاوة الغفلة ، ومشاهدة للصراط القويم ، وباعثاً للشوق الى جنان الخلد واللبث الدائم فيها[أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ]( ).

حرر في السابع من ذي القعدة 1439
21 تموز 2018

قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] الآية 177.
الإعراب واللغة
إن : حرف مشبه بالفعل .
الذين : اسم موصول في محل نصب اسم (ان) .
اشتروا : فعل ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوف لإلتقاء ساكنين ، واو الجماعة : فاعل .
الكفر : مفعول به منصوب وعلامه نصبه الفتحة الظاهرة على آخره .
بالإيمان : الباء حرف جر , الإيمان : اسم مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة تحت آخره .
لن يضروا الله : لن : حرف نفي ونصب واستقبال .
يضروا : فعل مضارع منصوب وعلامة نصبه حذف النون ، الواو : فاعل .
واسم الجلالة مفعول به منصوب بالفتحة .
شيئاً : مفعول مطلق نائب عن المصدر .
ولهم : الواو : حرف عطف واستئناف .
لهم : اللام : حرف جر .
هم : اسم مجرور .
وشبه الجملة من الجار والمجرور خبر مقدم .
عذاب : مبتدأ مؤخر .
أليم : صفة عذاب ، وهو مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
والشراء أخذ شئ بثمن وعوض .
يقال : اشترى يشتري ، اشتر ، اشتراءً .
وفي الشراء أطراف :
الأول : المشتري .
الثاني : العين المشتراة .
الثالث : العوض والبدل ،للفرق والمائز بين الشراء والهبة .
الرابع : المشتري منه ، وهو المالك الذي تنتقل منه الملكية بالشراء ، وتصبح صفته حينئذ البائع إلا بالنسبة للإيمان والتقوى فان المؤمن يبقى على ذات الصفة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ] ( ) .
ومادة (شرى ) من المتضادين إذ ترد بلفظ الشراء وقبض السلعة بعد دفع الثمن ، وترد بلفظ البيع والأصل هو الأول ، ولا تكون بمعنى البيع إلا مع القرينة الصارفة .
وقد ورد لفظ [اشْتَرَى] نحو عشرين مرة في القرآن ، كلها بمعنى دفع العوض وأخذ العين التي تقابله أو ما يقارب هذا المعنى في دلالته ومفهومه ، ومنه آية البحث ، كما جاء في ذم الذين كفروا ، قوله تعالى [اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ] ( ).
وجاءت مادة (شرى ) بمعنى البيع عدة مرات في القرآن وهي :
الأولى : [وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ] ( )ومن إعجاز القرآن ورود مادة (شرى ) في قصة يوسف بمعنى دفع الثمن والعوض بدلاً عنه ، قال تعالى [وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
لبيان شدة الأذى الذي نزل بالنبي يوسف عليه السلام ، وفيه موعظة للمسلمين ، وحث على الصبر على الإبتلاء .
الثانية : قوله تعالى [فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخرة وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا] ( ) أي الذين يزهدون بالحياة الدنيا قربة إلى الله ، يبيعونها دفاعا عن النبوة والتنزيل , وشوقاً إلى لقائه سبحانه .
الثالثة : قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ]( )، أي يبيعها ويضحي بها في الدفاع عن بيضة الإسلام كما في السبعين شهيداً الذين سقطوا في معركة أحد .
الرابعة : قوله تعالى [وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( )، أي يتعلمون السحر وما فيه من خداع البصر ، مما يجلب لهم الضرر والأذى ، ويكون سبباً بانفاق المال بالباطل ، والمراد من الخلاق في الآية أعلاه النصيب ، وعن ابن عباس قال : قَالَ آصِفُ كَاتِبُ سُلَيْمَانَ: وَكَانَ يَعْلَمُ الاسم الأَعْظَمَ، وَكَانَ يَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرٍ سُلَيْمَانَ وَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ أَخْرَجَتْهُ الشَّيَاطِينُ فَكَتَبُوا مِنْ كُلِّ سَطْرَيْنِ سِحْرًا وَكُفْرًا، قَالُوا: هَذَا الَّذِي كَانَ سُلَيْمَانُ يَعْمَلُ بِهَا.
قَالَ: فَأَكْفَرَهُ جُهَّالُ النَّاسِ وَسَبُّوهُ، وَوَقَفَ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَزَلْ جُهَّالُهُمْ يَسُبُّونَهُ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٌ: ” وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا( ).
والضرر شدة الأذى والمشقة ، ويأتي الضرر بمعنى النقصان ، والضير لغة فيه ، وفي التنزيل [لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ]( ).
وضد الضرر النفع ، والضراء الشدة نقيض السراء والله عز وجل منزه عن توجيه النفع أو الضرر له سبحانه ، ولكن المراد في الآية دين الله وأولياؤه وسيأتي مزيد كلام في باب التفسير( ).
والشئ من الكلي المشكك الذي يطلق على الكثير والقليل فجاءت آية البحث لنفي أي ضرر من الذين كفروا.

بحث نحوي في الحروف المشبهة بالفعل
علة تسمية ان وأخواتها بأنها حروف مشبهة بالفعل أنها تشبه الفعل بصيغته اللفظية والمعنوية لوجوه :
الأول :بناء هذه الحروف على الفتح ، مثل الفعل الماضي .
الثاني : الحروف المشبهة بالفعل على وزن الفعل .
الثالث : إفادة الحروف المشبهة بالفعل معنى الفعل فمثلاً تفيد (إن)و(أن) معنى التنجز ، والإخبار عن وقوع الفعل ، والتأكيد على الأمر ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) .
وتفيد (لكن) الإستدراك المقرون بالتوكيد [وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا …] ( ).
الرابع : لكل حرف من الحروف المشبهة بالفعل معنى خاص ، وكذا بالنسبة للأفعال .
الخامس : حاجة اللغة وإظهار المعاني في الحقيقة والمجاز إلى الحروف المشبهة بالفعل ، ولا يخلو ورودها في الكلام من الجمال والفخامة , وفي التنزيل [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
السادس : إتصال الضمائر بالحروف المشبهة بالفعل كما في قوله تعالى [إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ] ( ) .
ترى ما هي النسبة بين الظالمين والذين تذكرهم آية البحث بأنهم اشتروا الكفر بالإيمان ، الجواب النسبة هي العموم والخصوص المطلق ، فالظالمون أعم ، نعم الكفر أقبح وجوه الظلم ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ) .
السابع : إختصاص الحروف المشبهة بالفعل بالاسماء كما هو حال الأفعال ، فلا يقال (إن قرأ) أو (إن يركض) .
الثامن : الحروف المشبهة بالفعل لا تنصرف وكذا بعض الأفعال لا تنصرف .
التاسع : إتصال الحروف المشبهة بالفعل بنون الوقاية كما في قوله تعالى [إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي] ( ).
وتتألف كلمة (انني) من ثلاث كلمات :
الأولى : إن .
الثانية : نون الوقاية .
الثالثة : ياء المتكلم ، وتأتي نون الوقاية في الكلمة لعدم جواز التقاء الساكنين .
وتقي من هذا الإلتقاء كما تقي الفعل من الكسر الذي يقع في الأسماء .
العاشر : النسبة بين عمل الحروف المشبهة بالفعل والأفعال في الجملة المفيدة هو العموم والخصوص من وجه . فمادة الإلتقاء أثر وموضوعية كل من الفعل والحرف المشبه بالفعل في الجملة الاسمية ومادة الإفتراق أن الفعل يرفع الفاعل وينصب المفعول به أما الحرف المشبه بالفعل فانه ينصب الاسم ويرفع الخبر كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] ( ).
وكما هي الحاجة إلى الأفعال تكون الحاجة الى الأحرف المشبهة بالفعل وعددها ستة وهي :
الأولى : إن بكسر الهمزة .
الثانية : أن بفتح الهمزة ، ومن خصائصها أن يسبقها كلام ، كما في قوله تعالى [فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنْ اصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا..] ( ).
الثالثة : كأن ، وتفيد التشبيه .
الرابعة : لكنّ ، وتفيد الإستدراك .
الخامسة : ليت وتتضمن معنى التمني .
السادسة : لعل ، وتفيد الترجي .
والقاعدة بالحروف المشبهة بالفعل هو تقديم الاسم على الخبر ، وقد يكون اسم (ان) اسماً موصولاً كما في آية البحث [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
وقد يتقدم الخبر على الاسم في حال كون الخبر شبه جملة ، مثلما لو كان ظرفاً أو جاراً ومجروراً كما في قوله تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ] ( ) .
ومنهم من عدّها خمسة بالجمع بين إن وأن .

في سياق الآيات
صلة آية البحث بالآيات المجاورة على شعبتين :
الشعبة الأولى :صلة آية البحث بالآيات المجاورة السابقة ، وفيها وجوه :
الوجه الأول : صلة آية البحث بالآية السابقة [وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إبتداء آية السياق بصيغة الجملة الإنشائية , وفضل الله بلغة النهي الموجه من عنده عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [ وَلاَ يَحْزُنْكَ] ( ) .
ومن وجوه تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا يحزنكم الذين يسارعون في الكفر .
وابتدأت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية وبما يفيد التوكيد الذي يتعلق بذم الذين كفروا وقبح اختيارهم الذي يجلب لهم الأذى في النشأتين .
بينما تتضمن بداية آية البحث أموراً :
الأول : الإكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن خصه الله عز وجل بخطاب تشريف وتنزيه ، وتقدير الآية : يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) .
وقد ورد ذات المعنى وصيغة النداء بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ]( )، ومن معاني شراء الذين كفروا الكفر بالإيمان قيامهم بتكذيب النبي محمد صلى الله عيله وآله وسلم وانكارهم للمعجزات العقلية والحسية التي تجري على يديه ، قال تعالى[قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ]( ).
الثاني : نهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن على الذين كفروا ومسارعتهم في الكفر والضلالة ، وهل يدل في مفهومه على جواز الحزن على الذين آمنوا إذا أصابتهم مصيبة ، الجواب نعم مع إقتران هذا الحزن بالإسترجاع .
الثالث : بيان حب الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يصرف عنه الحزن على الذين كفروا ، فان قلت إنما وردت آية السياق بالنهي عن الحزن وليس بصرفه ، والجواب على وجوه :
أولاً : ذات النهي من عند الله نوع صرف للحزن ، ومدد ولطف لمنعه ابتداء واستدامة ، خاصة وأن مسارعة الذين كفروا في الغي متجددة من جهات :
الأولى : كثرة أفراد الذين كفروا .
الثانية : تجدد مصاديق مسارعة الذين كفروا في مسالك الضلالة.
الثالثة : إصرار الذين كفروا على البقاء في مستنقع الشرك .
الرابعة : توالي ظلم وتعدي الذين كفروا .
الخامسة : مناجاة الذين كفروا بالباطل ،و في التنزيل [وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ]( ).
السادسة : مناداة الذين كفروا بالهجوم على المدينة ، وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : إتصاف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستجابة المطلقة لله عز وجل , وفي التنزيل [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
عن البراء يحدث قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عنى التراب جلدة بطنه، وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات عبدالله بن رواحة وهو ينقل من التراب يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا .
ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا.
وثبت الاقدام إن لاقينا إن الالى قد بغوا علينا .
وإن أرادوا فتنة أبينا ثم يمد صوته بآخرها( ).
ثالثاً : يمكن إنشاء قانون وهو كل نهي من عند الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدد وعون ، وهل يختص هذا المدد بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم يشمل المسلمين والمسلمات .
الجواب هو الثاني , قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
رابعاً : لما أخبر الله عز وجل عن كون قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحياً من عند الله في قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) فانه سبحانه يهدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتقيد بالأوامر والنواهي واتيان الأمر على أتم وجه ، وإجتناب ما نهى الله عنه ، وهو من مصاديق عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي أن آية الوحي أعلاه وسيلة وشاهد ونوع طريق للعصمة ، وتفضل الله عز وجل وجعل المسلمين يتلون قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) لإرشادهم وتوفيقهم للعمل بمضامين الأوامر الإلهية ، وترك المعاصي والسيئات .
وهو من مصاديق قاعدة اللطف ، ومن عمومات قوله تعالى [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ] ( ).
فمن لطف الله عز وجل في آية السياق أمور :
الأول : إختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخطاب النهي عن الحزن على الذين كفروا .
وهل فيه أمارة على نزول البلاء بالذين كفروا ، الجواب نعم ، قال تعالى[فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ]( ).
الثاني : التخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بنهيهم عن الحزن على الذين كفروا .
وهذا النهي وذات هذا النهي عون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للتنزه عن الحزن على الذين كفروا في سوء حالهم ، ومكرهم ، قال تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( )، ومن إعجاز القرآن ورود كلمة يريد الله , والله يريد في ثلاث آيات متتالية بقوله تعالى :
الأولى : [يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الثانية : [وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا]( ).
الثالثة : [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
الثالث : عدم استحقاق الذين كفروا الحزن عليهم فهم لم يفعلوا الخير والصلاح ، ولم تنزل عليهم آية من السماء أو يصيبهم ابتلاء إنما اختاروا الخسارة والذل في الدنيا والآخرة .
وتقدير قوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ]( ) على وجوه :
الأول : ولا يحزنك يا نبي الله .
الثاني : ولا يحزنك تمادي الذين كفروا في الظلم .
الثالث : ولا تحزن إلا فيما يرضي الله .
الرابع : يريد الله أن يخفف عنك فلا يحزنك الذين يسارعون في الكفر .
الخامس : ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر فانهم لا يحزنون على أنفسهم وسوء عاقبتهم .
السادس : ولا يحزنك ما سينزل من البلاء بالذين يسارعون في الكفر .
السابع : ولا يحزنك ويحزن المسلمين الذين يسارعون في الكفر , فهم لا يحجبون التنزيل .
الثامن : ولا يحزنك الذين كفروا , فلا يقدرون على منع أداء الصلاة .
التاسع : ولا تحزنك مسارعة الذين كفروا بالكفر .
العاشر : ولا يحزنك تلقي الذين كفروا معجزات نبوتك بالمسارعة في الكفر .
الحادي عشر : ولا يحزنك إعراض الذين كفروا عن نبوتك .
الثاني عشر : ولا يحزنك إيذاء الذين كفروا لك وللمؤمنين ، وهل تحمل المسلمين هذا الإيذاء من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، الجواب نعم .
وتبين آية السياق قانوناً وهو أن الذين كفروا يتعجلون في فعل السيئات والتعدي على الحرمات ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن إعجاز الآية أنها لم تقل( يسارعون في فعل الفواحش ).
إنما تضمنت الإطلاق في المسارعة في الكفر ليكون سور السالبة الكلية فيشمل أموراً :
الأول : مسارعة الذين كفروا في الجحود ومفاهيم الضلالة .
الثاني : مسارعة الذين كفروا في الإستعانة بالأوثان واتخاذها أرباباً من دون الله، وفي التنزيل[وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ) ، ليكون من باب الأولوية تقبيح فعل الذين يتخذون الأوثان أرباباً وذمهم وتوبيخهم لوضوح واستبانة سوء إختيارهم وضلالتهم.
الثالث : تمادي الذين كفروا في فعل السيئات والفواحش .
الرابع : إنكار الذين كفروا النبوة والتنزيل ، قال تعالى[نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ]( ).
الخامس : محاربة الذين كفروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى نحو متكرر ومتعدد ، فبعد هجومهم في معركة بدر ، هجموا في معركة أحد التي استعدوا لها نحو سنة .
وأخرج ابن اسحاق والبيهقي عن جماعة من التابعين قالوا : كان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص ، اختبر الله سبحانه به المؤمنين ، ومحق به الكافرين ممن كان يظهر الإسلام بلسانه وهو مستخفٍ بالكفر ، ويوم أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته ، فكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران فيها صفة ما كان في يومه ذلك ، ومعاتبة من عاتب منهم . يقول الله لنبيه { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم } ( ).
ثم جاء المشركون في معركة الخندق والتي سمّاها الله عز وجل الأحزاب لكثرة جيوش الذين كفروا إذ بلغ عددهم عشرة آلاف .
وكان قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع ، وصد جيوش الذين كفروا عن المدينة وأهلها ، والصلاة التي تقام فيها وكان قتاله الدفاعي في المعارك التالية :
الأولى : معركة بدر التي وقعت عند ماء بدر ، ويبعد عن المدينة مائة وخمسين كيلو متراً .
الثانية : معركة أحد ، ويبعد جبل أحد الذي وقعت في سفحه المعركة نحو خمسة كيلو متر عن المسجد النبوي .
الثالثة : معركة الخندق وتسمى يوم الأحزاب ، وفي التنزيل [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا]( ).
الرابعة : يوم ماء بني المصطلق ، إذ بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن بني المصطلق يجمعون له ويحشدون الرجال ، ورئيسهم هو الحارث بن ضرار فخرج إليهم بنفسه مع سبعمائة من أصحابه في شهر شعبان من السنة السادسة للهجرة ولقيهم على ماء لهم يسمى(المريسيع) من ناحية قديد من الساحل .
وتزاحف الجمعان ، مما يدل على صدق جمع بني المصطلق الجيوش وأنهم كانوا عازمين على الإغارة على المدينة وغزوها وإلا فاذا كان أهل قرية في أعمالهم اليومية في الجزيرة ، وأطل عليهم جيش من سبعمائة رجل ، ومعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يبغون القتل والغزو فانهم يتلقونهم بالموادعة أو يتفرقون في البراري في حال الخشية منهم .
ليكون من معاني قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، وتكراره في معركة بدر وأحد ، بأنه سيلتقي المسلمون مع جموع أخرى من الذين كفروا .
وهزم الله عز وجل بني المصطلق وسبي أبناؤهم ونساؤهم ، ونقلت أموالهم غنائم للمسلمين وأصاب النبي صلى الله عيله وآله وسلم جويرية بنت الحارث رئيس بني المصطلق ، وعندما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى المدينة ، جاء أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته ولما كان بالعقيق نظر إلى بعيرين من إبل الفداء فرغب بها ، فغيبهما في وادي العقيق ، وجعل راعياً معهما .
ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا محمد ، أي أنه لم يخاطبه بصفة النبوة والرسالة ، ولم يغضب أو يسخط عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أن أصحابه يحيطون به وأن الحارث قد جمع الجموع لقتاله وغزو المدينة .
فقال له النبي ، ماذا تريد ؟ قال : اصبتم ابنتي وهذا فداؤها .
( فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فَأَيْنَ الْبَعِيرَانِ اللّذَانِ غَيّبْتهمَا بِالْعَقِيقِ ، فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا ؟ .
فَقَالَ الْحَارِثُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، وَأَنّك مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَوَاَللّهِ مَا اطّلَعَ عَلَى ذَلِكَ إلّا اللّهُ .
فَأَسْلَمَ الْحَارِثُ وَأَسْلَمَ مَعَهُ ابْنَانِ لَهُ وَنَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ وَأَرْسَلَ إلَى الْبَعِيرَيْنِ فَجَاءَ بِهِمَا ، فَدَفَعَ الْإِبِلَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدُفِعَتْ إلَيْهِ ابْنَتُهُ جُوَيْرِيَةُ فَأَسْلَمَتْ وَحَسُنَ إسْلَامُهَا ، فَخَطَبَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَبِيهَا ، فَزَوّجَهُ إيّاهَا ، وَأَصْدَقَهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ ( ).
ولما سمع المسلمون بزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جويرية بنت الحارث ارسلوا ما في أيديهم من سباياهم لأنهم صاروا أصهار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكانوا مائة بيت فاسلم بنو المصطلق ، ثم بعده بعامين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوليد بن عقبة مصدقاً أي ليجمع مال الزكاة من الإبل والشياه ونحوها .
فخرجوا للقائه ، فظن أنهم يريدون قتله ، فقفل راجعاً وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بظنه من إرادتهم قتله فهّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتالهم ، فانزل الله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا]( )، والآية التي بعدها.
الخامسة : يوم خيبر
السادسة : يوم فتح مكة .
السابعة : يوم حنين .
ومن الإعجاز في السنة النبوية وحضور الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قلة قتلى المسلمين في معركة الأحزاب ، مع أنهم خسروا سبعين شهيداً في معركة أحد ، وهذه القلة من أسباب بعث الفزع واليأس في قلوب الذين كفروا ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
ومن مصاديق مسارعة الذين كفروا في الكفر والضلالة مناجاة قريش للخروج لنصرة قافلة أبي سفيان واستعدادهم للخروج وإعداد الأسلحة والرواحل والمؤون في ثلاث أيام ، ولم يبق أحد من قريش إلا خرج للقتال ، وحتى الذي لم يخرج أناب عنه غيره بعوض وبدل من المال .
ومنهم من لم يرض أبو جهل ورؤساء قريش إرسال بدل عنه ، وطلبوه بشخصه , كما في أمية بن خلف الذي إختار القعود وعدم الخروج الى بدر إذ كان شيخاً جسيماً فجاء عقبة بن أبي معيط حاملاً مجمرة فيها نار ومجمر ووضعها بين يدي أمية .
فقال له : ما هذا يا عقبة: قال: إستجمر فانما انت من النساء ، أي أن القعود عن الخروج للقتال من صفات النساء.
فأدرك أمية الشر ، وكان يخشى الخروج لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسوء عاقبة هذا الخروج.
فاشترى أمية بعيراً، وتجهز وسار مع الناس ، فكان في هذا الخروج هلاكه هو وابنه علي .
وقال ابن اسحاق باسناده ( عن عبدالرحمن ابن عوف أنه لقيه امية بن خلف ومعه ابنه علي يوم بدر , ومع عبدالرحمن ادراعا استلبها , قال هل لك في فأنا خير لك من هذه الادراع التى معك ,
قال قلت نعم فطرحت الادراع من يدى فأخذت بيده ويد ابنه وهو يقول ما رأيت كاليوم قط أما لكم حاجة في اللبن ثم خرجت امشى بهما.
وقال أمية بن خلف من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره .
قلت ذاك حمزة بن عبدالمطلب .
قال ذاك الذي فعل بنا الافاعيل .
قال عبدالرحمن : فوالله انى لاقودهما إذ رآه بلال معي وكان هو الذى يعذب بلالا بمكة على ترك الاسلام فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بصخرة عظيمة فتوضع على صدره ثم يقول لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد فيقول بلال أحد أحد .
قال : فلما رآه قال رأس الكفر امية بن خلف لا نجوت ان نجا قال ثم صرخ بأعلى صوته يا انصار الله رأس الكفر امية بن خلف لا نجوت ان نجا :
قلت اسمع يا ابن السوداء قال لا نجوت ان نجا قال ثم صرخ بأعلى صوته يا انصار الله رأس الكفر امية بن خلف لا نجوت ان نجا قال فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة قال فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع وصاح امية بن خلف صيحة ما سمعت مثلها قط .
فقلت : انج بنفسك ولا نجا به فوالله ما أغني عنك شيئا قال فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما .
فكان عبدالرحمن يقول يرحم الله بلالا ذهبت ادراعي وفجعني بأسيريّ ( ).
المسألة الثانية : لقد أخبرت آية السياق عن الكفار وكيف أنهم يضرون أنفسهم بالمسارعة في الكفر ، وإبتدأت آية البحث بالإخبار عن كونهم اشتروا الكفر شراءً مع أنه أمر قبيح في ذاته وموضوعه ومصاديقه وأثره ، وفي التنزيل [وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
لقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل ، ومن وظائف العقل التمييز بين الحق والباطل , وبين الإيمان والكفر من جهات :
الأولى : الحسن الذاتي للإيمان , والقبح الذاتي للكفر .
الثانية : إدراك العقل لحاجة الناس للإيمان ولزوم تنزههم عن الكفر والضلالة.
الثالثة : المنافع العظيمة للإيمان وشدة وكثرة الأضرار المترشحة عن الكفر.
الرابعة : توارث الإيمان ، وصيرورته عهداً وميثاقاً بين الآباء والأبناء ، أما الكفر فهو إلى إنحسار ، وإن اتبع الأبناء منهج آبائهم في الكفر فانهم يلقون بلائمة شديدة عليهم ، وان تظاهروا باتباع سنتهم ، وفي التنزيل [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ]( ).
الخامسة : يتفضل الله عز وجل على المؤمنين بولايته لهم ، فينجيهم ويصرف عنهم البلاء ، ويبشرهم بالأجر والثواب ، أما الذين كفروا فانهم إختاروا ولاية الشيطان .
السادسة : يتلقى المؤمنون البشارات بالقبول والرضا ، والإنذار بالحيطة والحذر وإجتناب المنهيات ، أما الذين كفروا فانهم يتلقون البشارات بالإعراض ، والإنذار بالإستخفاف ، وفي التنزيل[وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ] ( ).
السابعة : حسن عاقبة الإيمان ، وسوء عاقبة الكفر والضلالة ، لذا فان الذين كفروا اشتروا سوء عاقبتهم وكان الثمن الذي دفعوه خير الدنيا والآخرة.
فجاءت آية البحث لإتعاظ الناس ، ودعوتهم لعدم التفريط بالإيمان ، وفيه شاهد على أن الإسلام لم ينشر بالسيف إنما ساد بالموعظة وهداية القرآن الناس إلى سواء السبيل .
ومن دلالات قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )، التأكيد على تثبيت الإيمان في الأرض بآيات التنزيل ، وهو من الشواهد على أن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية .
وفي خطاب تبكيت من الله عز وجل إلى إبليس[ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ]( )، وأصل الكفر التغطية ، ويقال كفر الشيء أي غطاه وستره , وكفر الغمام النجوم أي سترها .
ومنه يسمى الفلاح كافراً لأنه يغطي الحب في الأرض كيلا تأكله الطير ، ومنه ما ورد في التنزيل [كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ]( )، أي أعجب الحرّات .
أما في الإصطلاح فهو على أقسام أظهرها الجحود بالله عز وجل وربوبيته المطلقة وانكار النبوة والتنزيل والمعاد ، وهو المتبادر من معنى الكفر ، والمقصود في آية البحث ، وفي التنزيل [وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً *لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا] ( ).
ليدخل الكفر بالنعمة في هذا الجحود والضلالة ، قال تعالى [وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ] ( ) ومن نعمة الله عز وجل النبوة والتنزيل.
وهل نعمة الله ببعثة أحد الأنبياء خاصة بأهل زمانه أم أنها تعم غيرهم من الناس ، الجواب هو الثاني لذا فان بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعمة على الأحياء والأموات الذين يلحقهم الإستغفار لهم ، وينتفعون من إيمان الأبناء وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن النعم في بعثته تفقه الناس في الدين ، ومعرفتهم لقانون وهو عدم الحزن على تمادي الذين كفروا بالغي لأنهم يضرون أنفسهم مع تجلي البراهين بوجوب التنزه عن الكفر ، قال تعالى[وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها النبي لا يحزنك الذين اشتروا الكفر بالإيمان ، ويحتمل شراء الكفر بالإيمان بلحاظ آية السياق وجوهاً :
الأول : انه من المسارعة في الكفر .
الثاني : هذاء الشراء مقدمة للمسارعة في الكفر .
الثالث : إنه من الكفر والجحود .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وفيه شاهد على الضرر الفادح الذي يترشح عن سوء إختيار الكفر ، لتتضمن آية البحث الوعيد على الإقامة على الكفر .
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لنجاة كفار قريش من الكفر ، وتفضل الله عز وجل وخصهم بالإكرام في التبليغ الخاص بقوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ) إلى جانب الإنذار والتبليغ العام للناس جميعاً ، ويتوجه الخطاب الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن[وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ]( )، وهناك مسألتان :
الأولى : هل ينحصر تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعشيرته بدعوته في بني عبد المطلب .
الثانية : هل دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعشيرته متحدة أم متجددة .
أما المسألة الأولى فالمراد من عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعم ، وعندما نزلت عليه الآية أعلاه توجه إلى قريش بالإنذار.
وعن الزبير بن العوام قال (لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين}( )، صاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي قبيس( ) : يا آل عبد مناف ، إني نذير فجاءته قريش ، فحذرهم وأنذرهم .
فقالوا : تزعم أنك نبي يوحى إليك ، وأن سليمان عليه السلام سخرت له الريح والجبال ، وإن موسى عليه السلام سخر له البحر ، وإن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى .
فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال ، ويفجر لنا الأرض أنهاراً فنتخذها محارث ، فنزرع ونأكل وإلا ، فادع الله أن يحيي لنا الموتى فنكلمهم ويكلمونا وإلا ، فادع الله أن يجعل هذه الصخرة التي تحتك ذهباً فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف ، فإنك تزعم أنك كهيئتهم . فبينا نحن حوله ، إذ نزل عليه الوحي .
فلما سرى عنه الوحي قال : والذي نفسي بيده لقد أعطاني الله ما سألتم ، ولو شئت لكان ، ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم ، وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة ولا يؤمن مؤمنكم ، فاخترت باب الرحمة ويؤمن مؤمنكم ، وأخبرني إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم يعذبكم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين) ( ).
ولم تمر الأيام حتى صار آلاف المسلمين يفدون على مكة للحج والعمرة والتبضع ، لتصبح من أعظم وأكثر مدن العالم في التجارة ، وتأتي الثمار إليها من كل مكان ، وتزرع فيها الأِشجار والحبوب.
والمقصود من بني مناف بن قصي بن كلاب بن مروة على وجوه:
الأول : بنو هاشم بن عبد مناف ، وفيهم النبوة لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم.
الثاني : بنو عبد شمس بن عبد مناف ، وولد عبد شمس هم :
أولاً : حبيب، وبه كان يكنى.
ثانياً : أمية الأكبر، وفيه البيت والعدد.
ثالثاً : أمية الأصغر.
رابعاً : عبد أمية، ويسمى أبناؤهما العبلات.
خامساً: نوفل .
سادساً : عبد العزى.
سابعاً : ربيعة، كلهم أعقب .
ثامناً : عبد الله، لا عقب له.
وبنات، منهن: رقية، أم أمية بن أبي الصلت الشاعر الثقفي)( ).
الثالث : بنو نوفل بن عبد مناف ، ومنهم المطعم بن عدي ، وهو الذي أجار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند عودته من الطائف ، ففي الليالي الأخيرة من شهر شوال من السنة العاشرة من البعثة النبوية وبعد وفاة أبي طالب ، واشتداد إيذاء كفار قريش له خرج إلى الطائف ليدعو أهلها للإسلام ، ويسألهم الذب عنه ، وتبعد الطائف عن مكة نحو مائة كيلو متر ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو القبائل وأهل البيوت التي في الطريق إلى الإسلام، وكان معه زيد بن حارثة ، وهناك أقوال أخرى في المقام :
اولاً : خروج الإمام علي عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده إلى الطائف، وقال ابن اسحاق : فخرج إليهم وحده ( ).
ثالثاً : مصاحبة الإمام علي عليه السلام وزيد بن حارثة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هجرته إلى الطائف .
وكان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه مشياً على الأقدام في الذهاب إلى الطائف والعودة منها إلى مكة بعد أن لاقى أهل الطائف دعوته إلى الإسلام بالإعراض والاستخفاف والخشية على ابنائهم ، وقاموا باغراء السفهاء والصبيان لملاحقته وشتمه ورميه بالحجارة حتى دميت قدماه .
فلجأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق مغادرته للطائف إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة بعد عشرة أيام قضاها في الطائف ، وبلغ قريشاً ما لقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى الشديد في الطائف فعزموا على عدم السماح له بدخول مكة ، وعندما صار على مشارف مكة أرسل رجلاً من خزاعة إلى مطعم بن عدي يسأله إجارته .
فقال : نعم وقام مطعم بدعوة أبنائه وعصبته ، وأمرهم بلبس السلاح ، وجعلهم عند أركان البيت الأربعة (فَنَادَى : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمّدًا فَلَا يَهْجُهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى الرّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ وَصَلّى رَكْعَتَيْنِ وَانْصَرَفَ إلَى بَيْتِهِ وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ وَوَلَدُهُ مُحْدِقُونَ بِهِ بِالسّلَاحِ حَتّى دَخَلَ بَيْتَهُ) ( ).
لقد كان نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة حنين من البشارات التي تضمنها دعاؤه وشكره لله عز وجل يوم معركة بدر .
وعن ابن مسعود قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقلت: قد قتلت أبا جهل فقال: ” آلله الذى لا إله إلا هو ؟ ” فقلت: آلله الذى لا إله إلا هو مرتين، أو ثلاثا.
قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” الله أكبر، الحمد لله الذى صدق وعده، ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده، ثم قال: انطلق فأرنيه، فانطلقت فأريته، فقال: هذا فرعون هذه الامة( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشكر الله عز وجل في دعائه عند عودته من كل سفر إذ (يُكَبّرُ عَلَى كُلّ شَرَفٍ مِنْ الْأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ ثُمّ يَقُولُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آيِبُونَ تَائِبُونَ ، عَابِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ( ).
ومرت نحو اثنتي عشرة سنة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى الطائف فوقعت معركة حنين بهجوم ثقيف وهوازن على المسلمين بعد فتحهم مكة ، فكان النصر حليفاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بعد عناء ومشقة قال تعالى[وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ) .
وليتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف فيحاصرها مع حال الذل والسبي الذي لحق أهلها .
وقال كعب بن مالك حين توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف :
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلّ رَيْبٍ … وَخَيْبَرَ ثُمّ أَجْمَمْنَا السّيُوفَا
فَلَسْت لِحَاضِنٍ إنْ لَمْ تَرَوْهَا … بِسَاحَةِ دَارِكُمْ مِنّا أُلُوفَا
وَنَنْتَزِعُ الْعُرُوشَ بِبَطْنِ وَجّ … وَتُصْبِحُ دُورُكُمْ مِنْكُمْ خُلُوفَا
وَيَأْتِيكُمْ لَنَا سُرْعَانُ خَيْلٍ … يُغَادِرُ خَلْفَهُ جَمْعًا كَثِيفَا
إذَا نَزَلُوا بِسَاحَتِكُمْ سَمِعْتُمْ … لَهَا مِمّا أَنَاخَ بِهَا رَجِيفَا
بِأَيْدِيهِمْ قَوَاضِبُ مُرْهِفَاتٍ … يَزُرْنَ الْمُصْطَلِينَ بِهَا الْحُتُوفَا
كَأَمْثَالِ الْعَقَائِقِ أَخْلَصَتْهَا … قُيُونُ الْهِنْدِ لَمْ تَضْرِبْ كَتِيفَا
تَخَالُ جَدِيّةِ الْأَبْطَالِ فِيهَا … غَدَاةَ الزّحْفِ جَادِيّا مَدُوفَا
أَجَدّهُمْ أَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيحٌ … مِنْ الْأَقْوَامِ كَانَ بِنَا عَرِيفَا
يُخَبّرُهُمْ بِأَنّا قَدْ جَمَعْنَا … عِتَاقَ الْخَيْلِ وَالنّجُبَ الطّرُوفَا
وَأَنّا قَدْ أَتَيْنَاهُمْ بِزَحْفٍ … يُحِيطُ بِسُورِ حِصْنِهِمْ صُفُوفَا
رَئِيسُهُمْ النّبِيّ وَكَانَ صُلْبًا … نَقِيّ الْقَلْبِ مُصْطَبِرًا عَزُوفَا
رَشِيدُ الْأَمْرِ ذُو حُكْمٍ وَعِلْمٍ … وَحِلْمٍ لَمْ يَكُنْ نَزِقًا خَفِيفَا
نُطِيعُ نَبِيّنَا وَنُطِيعُ رَبّا … هُوَ الرّحْمَنُ كَانَ بِنَا رَءُوفَا
فَإِنْ تُلْقُوا إلَيْنَا السّلَمَ نَقْبَلْ … وَنَجْعَلُكُمْ لَنَا عَضُدًا وَرِيفَا
وَإِنْ تَابُوا نُجَاهِدْكُمْ وَنَصْبِرْ … وَلَا يَكُ أَمْرُنَا رَعَشًا ضَعِيفَا
نُجَالِدُ مَا بَقِينَا أَوْ تُنِيبُوا … إلَى الْإِسْلَامِ إذْعَانًا مُضِيفَا
نُجَاهِدُ لَا نُبَالِي مَنْ لَقِينَا … أَأَهّكْنَا التّلَادَ أَمْ الطّرِيفَا
وَكَمْ مِنْ مَعْشَرٍ أَلَبُوا عَلَيْنَا … صَمِيمَ الْجِذْمِ مِنْهُمْ وَالْحَلِيفَا
أَتَوْنَا لَا يَرَوْنَ لَهُمْ كِفَاءً … فَجَدّعْنَا الْمَسَامِعَ وَالْأَنُوفَا
بِكُلّ مُهَنّدٍ لَيْنٍ صَقِيلٍ … يَسُوقُهُمْ بِهَا سَوْقًا عَنِيفَا
لِأَمْرِ اللّهِ وَالْإِسْلَامِ حَتّى … يَقُومَ الدّينُ مُعْتَدِلًا حَنِيفَا
وَتُنْسَى اللّاتُ وَالْعُزّى وَوَدّ … وَنَسْلُبُهَا الْقَلَائِدَ وَالشّنُوفَا
فَأَمْسَوْا قَدْ أَقَرّوا وَاطْمَأَنّوا … وَمَنْ لَا يَمْتَنِعْ يَقْبَلْ خُسُوفَا( ).
لقد اشترى كفار ثقيف وهوازن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسارعوا في الكفر ، وجهزوا الجيوش فأخزاهم الله عز وجل في الدنيا وصار غزوهم وهجومهم وبالاً عليهم , ونصر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الرابع : بنو المطلب بن عبد مناف .
أما بالنسبة للمسألة الثانية فان دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعشيرته متعددة طيلة سني الدعوة ، ومن معاني قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ) وجوه :
الأول : يا أيها النبي أنذر أهل بيتك ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن أول من آمن برسالته زوجته خديجة وابن عمه الإمام علي عليه السلام .
الثاني : وأنذر بني هاشم ليكون حصار قريش لبني هاشم في شعب أبي طالب مناسبة لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني عبد المطلب وبني المطلب ، وتلاوة آيات القرآن عليهم ، وحثهم على الصبر في رضوان الله .
ولا يختص مضمون آية الإنذار أعلاه بسني الدعوة الأولى ، بل أن موضوعها وما فيها من الأمر مستمر إلى يوم القيامة ، و(جمع نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته قبل موته فقال : ألا إن لي عملي ولكم عملكم ، ألا إني لا أغني عنكم من الله شيئاً ، ألا إن أوليائي منكم المتقون ، ألا لا أعرفنكم يوم القيامة تأتون بالدنيا تحملونها على قرابكم ، ويأتي الناس يحملون الآخرة) ( ).
الثالث : وأنذر قبائل قريش مجتمعين ومتفرقين (عن ابن عباس قال : لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين }( ) جعل يدعوهم قبائل قبائل) ( ).
الرابع : وأنذر عشيرتك الأقربين فرداً فرداً ، ليتجلى قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نذير في كل ساعة من ساعات وأيام بعثته النبوية .
وهل أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الملاحم والفتن وأشراط الساعة من مصاديق الإنذار ، الجواب نعم ، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ).
وعن أبي سعيد الخدري قال : بينما راع يرعى بالحرة إذ عرض ذئب لشاة من شياهه فحال الراعي بين الذئب وبين الشاة فأقعى الذئب على ذنبه ثم قال للراعي ألا تتقي الله تعالى تحول بيني وبين رزق ساقه الله تعالى إلي .
فقال الراعي العجب من الذئب يتكلم بكلام الإنس فقال الذئب ألا أحدثك بأعجب من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين يحدث الناس بأنباء ما قد سبق فساق الراعي غنمه حتى قدم المدينة فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فحدث بحديث الذئب .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( صدق صدق ألا أنه من أشراط الساعة كلام السباع للإنس والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس ويكلم الرجل شراك نعله وعذبة سوطه ويخبره فخذه بما احدث أهله من بعده ) ( ).
ويتجلى في هذا الزمان والإرتقاء التقني مصداق للإعجاز في أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم للوشاهد العلمية لبعض ما أخبر عنه في الحديث أعلاه ليكون الإنذار بأخبار مقدمات وعلامات قيام الساعة أمور :
الأول : التحذير والإنذار للناس جميعاً .
الثاني : دعوة الناس لأخذ الحائطة بالتقوى .
الثالث : زجر الناس عن شراء الكفر ، والسعي الى مواطنه فانه يضر صاحبه والناس ، قال تعالى[وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً]( ).
الرابع : توجيه الخطابات التكليفية للناس بلزوم الإستعداد لقيام الساعة.
ومن معاني الجمع بين آية البحث والسياق أمور :
الأول : عدم التعارض بين الإنذار وعدم الحزن على الذين كفروا.
الثاني : توجه الإنذار إلى الذين كفروا وإن كانوا يسارعون في الكفر .
الثالث : تجلي منافع الإنذار بالتوبة والإنابة من قبل طائفة من الذين كفروا .
ويمكن تشريع قانون وهو أن الآية القرآنية باعث على التوبة ، وعن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا مات أحدُكم فقد قامتْ قيامتُه واعبدوا اللهَ كأنكم ترونه واستغفروه كلَّ ساعةٍ ( )، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ]( ).
الرابع : بين منافع الإنذار وبين الذين يتوجه إليهم عموم وخصوص مطلق ، فيخاطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عشيرته الأقربين ، فينتفع عامة الناس من هذا الإنذار ، فيدخل الإنسان البعيد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإسلام حال إنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم العشيرة ، كما أن إنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأبعد في النسب مناسبة لدخول الأقربين الإسلام ، وهو من منافع تعدد كيفية وجهة الإنذار ، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بتلاوة آيات القرآن لتكون كل فريضة إنذاراً.
وكل صلاة يصليها المسلم والمسلمة تنبيه وإنذار للذات والأقربين وغيرهم من الناس ، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( )، وهناك مسألتان :
الأولى : هل تنهى الصلاة عن شراء الكفر.
الثانية : هل الكفر من الفحشاء والمنكر .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم ، فصحيح أن المتبادر إلى الذهن من الفحشاء هو الأفعال القبيحة كالزنا ، وأكل المال الحرام ، والربا وشرب الخمر إلا أن الصلاة تنهى عن أصل الفحشاء وهو الكفر الذي هو منكر بذاته ويترشح عنه المنكر .
أما المسألة الثانية فالكفر منكر تستهجنه العقول ، وتنفر منه النفوس، لذا فمن خصائص آية البحث تنمية ملكة العصمة من الكفر عند الناس .
ومن خصائص أداء المسلمين الصلاة نهي الناس عن التلبس بالكفر ، ودعوة الذين كفروا للتوبة والإنابة ويكون من معاني الآية أعلاه وجوه :
الأول : ان الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر .
الثاني : ان الصلاة تنهى الناس عن الفحشاء والمنكر ، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَن لَّمْ تَنْهَهُ صَلاَتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمنكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِنَ اللَّهِ إِلاَّ بُعْداً( ).
الثالث : ان الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر ، (وكان أنس يقرأ الآية هكذا( ).
الرابع : ان صلاة أحدكم تنهى غيره عن الفحشاء والمنكر .
الخامس : ان الصلاة تنهى عن شراء الكفر.
المسألة الرابعة : ورد لفظ [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( ) في القرآن ثلاث مرات ، أثنتين منها في آية السياق وآية البحث ، والثالثة في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ * فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ] ( ) لبيان مصداق لمسارعة الذين كفروا في الكفر في الضلالة من جهات :
الأولى : الإقامة على الكفر والضلالة .
الثانية : الصد عن سبيل الله .
الثالثة : إيذاء ومعاداة الذين كفروا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والأصل في المشاقة صيرورة كل طرف في شق غير الذي يكون فيه الآخر .
الرابعة : وقوع معاداة ومحاربة الذين كفروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد تجلي المعجزات على يديه ، ومجئ البشارات بنبوته في التوراة والإنجيل ، وعلى لسان الأنبياء السابقين ، وورد حكاية عن عيسى عليه السلام في التنزيل[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
وهل قيام بعض رؤساء قريش بإطعام أفراد جيشهم في الطريق إلى معركة بدر من المسارعة في الكفر ، الجواب نعم وهم :
الأول : عتبة بن ربيعة بن عبد شمس .
الثاني : شيبة بن ربيعة .
الثالث : نبيه بن الحجاج .
السادس : منبه بن الحجاج .
الخامس : البحتري بن هشام .
السادس : النضر بن الحارث .
السابع : حكيم بن حزام .
الثامن : نوفل بن عبد المطلب .
التاسع : العباس بن عبد المطلب .
العاشر : أبي بن خلف .
الحادي عشر : زمعة بن الأسود .
الثاني عشر : الحارث بن عامر .
(وكان يطعم كل واحد منهم عشر جزر) ( ).
إن قوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ] ( ) دعوة للعلماء للتحقيق والإستقراء في أمور :
الأول : موضوع الحزن المنهي عنه .
الثاني : أسباب الحزن .
الثالث : منافع الإمتثال في الإمتناع عن الحزن .
الرابع : مصاديق مسارعة الذين كفروا بالكفر والضلالة ، والشواهد اليومية على هذه المسارعة وكيفية دفع الشرور المترشحة عنها.
المسألة الخامسة : من معاني الجمع بين آية البحث والآية السابقة [وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( )، ضلالة الذين كفروا .
وهل يمكن القول بأن آية السياق نهت عن الحزن على الذين كفروا ولكنها لم تنه عن غيره من التألم والكآبة عليهم , الجواب لا ، فالمراد من الحزن في الآية المعنى الأعم الجامع لضروب الأسى ، بالإضافة إلى مفهوم الخطاب وقاعدة الأولوية، إذ تدل الآية على النهي عما هو أشد من الحزن عليهم.
ومن خصائص الحزن تعلقه بقادم الأيام ، والخشية مما يقع فيها ، فأكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالإخبار عن عجز الذين كفروا عن الإضرار بدين الله عز وجل .
وفيه دليل على لزوم عدم ترتب الحزن على إصرار الذين كفروا على الجحود ، قال تعالى[فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ]( )، لتدل آية السياق في مفهومها على دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للشكر لله عز وجل والغبطة والفرح بمسارعة الذين آمنوا بالخيرات .
وهل هو من إمتناع إجتماع الضدين بأن لا يجتمع الحزن والفرح في قلوب المسلمين ، الجواب لا ، للتباين الموضوعي بين الأمرين ، لذا نزل القرآن بالنهي التنزيهي عن الحزن على الذين كفروا , وسوء فعلهم .
ولو حزن المسلم على الذين كفروا فهل يؤثم لأنه خالف النهي ، الجواب لا دليل عليه إذا كان حزنه لادراكه وجوب إيمانهم ولأن النهي تنزيهي وإرشادي ، نعم عدم الحزن عليهم طاعة لله عز وجل بلحاظ آية البحث فيه الأجر والثواب .
وفي قصة يوسف أصاب أباه يعقوب النبي الحزن عليه قال تعالى[وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ]( )، وأراد الله عز وجل أن يخفف عن المؤمنين ، بالنجاة من الحزن على الذين كفروا .
وفي الآية بشارة بعدم إضرار الذين كفروا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام لذا قال الله تعالى[لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( )، وهو من معاني وأسباب إجتناب وترك الحزن عليهم.
المسألة السادسة : لقد ذكرت آية البحث بصيغة الذم الذين اشتروا الكفر بالتفريط بالإيمان , أما الآية السابقة فقد ذكرت الذين يسارعون في الكفر ، وتحتمل النسبة بينهما وجوهاً :
الأول : التساوي والمراد الكفار المشركون .
الثاني : الذين يسارعون في الكفر هم الأعم والأكثر .
الثالث : الذين اشتروا الكفر ولهثوا وراءه وأصروا على اختيارهم مع كثرة البراهين التي تزجرهم عنه .
المختار هو الثالث ، فمن الكفار من يسارعون في الكفر ، وهذه المسارعة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، ومن أشدهم وأكثرهم مسارعة الذين جهزوا الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام الأولى .
وكان أبو سفيان قد استأجر الفين من الأحابيش( ) ليخرجوا معه إلى معركة أحد ، ولعله مما يسمى في هذا الزمان (المرتزقة ) وفي ذمه نزل قوله تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وقال كعب بن مالك يوم بدر :
(أَلَا هَلْ أَتَى غَسّانَ عَنّا وَدُونَهُمْ … مِنْ الْأَرْضِ خَرْقٌ سَيْرُهُ مُتَنَعْنِعُ
صَحَارٍ وَأَعْلَامٌ كَأَنّ قَتَامَهَا … مِنْ الْبُعْدِ نَقْعٌ هَامِدٌ مُتَقَطّعُ
تَظَلّ بِهِ الْبُزّلُ العَرامِيس رُزّحَا … وَيَخْلُو بِهِ غَيْثُ السّنِينَ فَيُمْرِعُ
بِهِ جِيَفُ الْحَسْرَى يَلُوحُ صَلِيبُهَا … كَمَا لَاحَ كَتّانُ التّجَارِ الْمُوَضّعُ
بِهِ الْعَيْنُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً … وَبَيْضُ نَعَامٍ قَيْضُهُ يَتَقَلّعُ
مُجَالَدُنَا عَنْ دِينِنَا كُلّ فَخْمَةٍ … مُذَرّبَةٍ فِيهَا الْقَوَانِسُ تَلْمَعُ
وَكُلّ صَمُوتٍ فِي الصّوَانِ كَأَنّهَا … إذَا لُبِسَتْ تَهْىٌ مِنْ الْمَاءِمُتْرَعُ
وَلَكِنْ بِبَدْرٍ سَائِلُوا مَنْ لَقِيُتمُ … مِنْ النّاسِ وَالْأَنْبَاءُ بِالْغَيْبِ تَنْفَعُ
وَإِنّا بِأَرْضِ الْخَوْفِ لَوْ كَانَ أَهْلُهَا … سِوَانَا لَقَدْ أَجْلَوْا بِلَيْلٍ فَأَقْشَعُوا
إذَا جَاءَ مِنّا رَاكِبٌ كَانَ قَوْلُهُ … أَعِدّوا لِمَا يُزْجِي ابن حَرْبٍ وَيَجْمَعُ
فَمَهْمَا يُهِمّ النّاسَ مِمّا يَكِيدُنَا … فَنَحْنُ لَهُ مِنْ سَائِرِ النّاسِ أَوْسَعُ
فَلَوْ غَيْرُنَا كَانَتْ جَمِيعًا تَكِيدُهُ البرية قد أعطوا يداً وَتَوَزّعُوا( )
نُجَالِدُ لَا تَبْقَى عَلَيْنَا قَبِيلَةٌ … مِنْ النّاسِ إلّا أَنْ يَهَابُوا وَيَفْظُعُوا
وَلَمّا ابْتَنَوْا بِالْعَرْض ِ قَالَ سَرَاتُنَا … عَلَامَ إذَا لَمْ تَمْنَعْ الْعِرْضَ نَزْرَعُ
وَفِينَا رَسُولُ اللّهِ نَتْبَعُ أَمْرَهُ … إذَا قَالَ فِينَا الْقَوْلَ لَا نَتَطَلّعُ
تَدَلّى عَلَيْهِ الرّوحُ مِنْ عِنْدِ رَبّهِ … يُنَزّلُ مِنْ جَوّ السّمَاءِ وَيُرْفَعُ
نُشَاوِرُهُ فِيمَا نُرِيدُ وَقَصْرُنَا … إذَا مَا اشْتَهَى أَنّا نُطِيعُ وَنَسْمَعُ
وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ لَمّا بَدَوْا لَنَا … ذَرُوا عَنْكُمْ هَوْلَ الْمَنِيّاتِ وَاطْمَعُوا
وَكُونُوا كَمَنْ يَشْرِي الْحَيَاةَ تَقَرّبًا … إلَى مَلِكٍ يُحْيَا لَدَيْهِ وَيُرْجَعُ
وَلَكِنْ خُذُوا أَسْيَافَكُمْ وَتَوَكّلُوا … عَلَى اللّهِ إنّ الْأَمْرَ لِلّهِ أَجْمَعُ
فَسِرْنَا إلَيْهِمْ جَهْرَةً فِي رِحَالهِمْ … ضُحَيّا عَلَيْنَا الْبِيضُ لَا نَتَخَشّعُ
بِمَلْمُومَةٍ فِيهَا السّنَوّرُ وَالْقَنَا … إذَا ضَرَبُوا أَقْدَامَهَا لَا تَوَرّعُ
فَجِئْنَا إلَى مَوْجٍ مِنْ الْبَحْرِ وَسْطَهُ … أَحَابِيشُ مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقَنّعُ
ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَنَحْنُ نَصِيّةٌ … ثَلَاثُ مِئِينٍ إنْ كَثُرْنَا وَأَرْبَعُ
نُغَاوِرهُمْ تَجْرِي الْمَنِيّةُ بَيْنَنَا … نُشَارِعُهُمْ حَوْضَ الْمَنَايَا وَنَشْرَعُ
تَهَادَى قِسِيّ النّبْعِ فِينَا وَفِيّهُمْ … وَمَا هُوَ إلّا الْيَثْرِبِيّ الْمُقَطّعُ
وَمَنْجُوفَةٌ حَمِيّةٌ صَاعِدِيّةٌ … يُذَرّ عَلَيْهَا السّمّ سَاعَةَ تُصْنَعُ
تَصُوبُ بِأَبْدَانِ الرّجَالِ وَتَارَةً … تَمُرّ بِأَعْرَاضِ الْبِصَارِ تَقَعْقَعُ
وَخَيْلٌ تَرَاهَا بِالْفَضَاءِ كَأَنّهَا … جَرَادٌ صَبًا فِي قَرّةٍ يَتَرَيّعُ
فَلَمّا تَلَاقَيْنَا وَدَارَتْ بِنَا الرّحَى … وَلَيْسَ لِأَمْرٍ حَمّهُ اللّه مَدْفَعُ
ضَرَبْنَاهُمْ حَتّى تَرَكْنَا سَرَاتَهُمْ … كَأَنّهُمْ بِالْقَاعِ خُشْبٌ مُصَرّعُ
لَدُنْ غُدْوَةً حَتّى اسْتَفَقْنَا عَشِيّةً … كَأَنّ ذَكَانَا حَرّ نَارٍ تَلَفّعُ) ( ).
ولعل استئجار أكثر من نصف جيش المشركين من أسباب تعجيلهم بالعودة إلى مكة في ذات اليوم الذي ابتدأت به معركة أحد ، وهل تختص صفة المسارعة في الكفر بالقادة من قريش في معركة أحد أم أنها عامة وتشمل عموم أفراد الجيش .
الجواب هو الثاني ، فذات الخروج لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مسارعة في الكفر وظلم للنفس والغير ، إلا ما خرج بالدليل ليكون من معاني قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( ).
وتكراره في آية البحث والسياق من البشارة بصدق كيدهم ودفع شرورهم .
المسألة السابعة : يحتمل تكرار قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا]( ) في آية البحث والسياق ونسبة التوالي والمجاورة بينهما وجوهاً :
الأول : التساوي في المعنى والدلالة .
الثاني : معنى هذا الشطر من آية البحث أعم وأكثر مما في الآية السابقة .
الثالث : معناه في الآية السابقة أعم وأكثر مما في آية البحث .
الرابع : التعدد والتباين بين معنى الآيتين .
الخامس : نسبة العموم والخصوص من وجه بين ذات الشطرين.
والمختار هو الأخير ، وإن إتحدا في اللفظ ، لأن معنى الكلمة في الآية أعم من أن يختص بالمعنى اللغوي إذ يشمل سياق ونظم الآية وهو من مصاديق قوله تعالى[أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا]( ).
ترى لماذا تكرر قوله تعالى [إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( ).
الجواب من وجوه :
الأولى : بعث السكينة في نفوس المسلمين والمسلمات .
الثاني : إرادة التحدي ، وهو من ضروب الإعجاز .
الثالث : بيان قانون ، وهو كلما سعى الذين كفروا بالمكر والأذى ، فذات النتيجة تنتظرهم ، وهي عجزهم عن الإضرار بدين الله .
الرابع : تأكيد سوء عاقبة الذين كفروا .
الخامس : دعوة المسلمين عامة والعلماء خاصة للتدبر في الإعجاز في ظهور الإسلام واستدامة دولته ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] ( ).
ولما كانت النسبة بين الكفار الذين ذكرتهم آية البحث، والكفار الذين ذكرتهم آية السياق هي العموم والخصوص المطلق ، فان تكرار قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( ) تأكيد وزيادة في ذم وتبكيت الذين كفروا .
وقد يخشى المسلمون من تمادي الذين كفروا بالغي والظلم والتعدي , خاصة وان صيغ التهديد والوعيد تصلهم وهم في المدينة في كل يوم وأن قريشاً يريدون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ أصحابه أسرى إلى مكة ، فجاءت كل من آية البحث والسياق رحمة من عند الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ] ( ).
وهل كان المنافقون يبثون تهديد المشركين هذا، الجواب نعم ، وتشترك في بث الأراجيف المنافقات ، فلذا تفضل الله عز وجل بالتحذير العام منهم ، قال تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ).
ولما أخبرت آية البحث عن عجز الذين كفروا عن الإضرار بالله والإسلام والنبوة فان آية السياق ذكرت قانوناً وهو حرمان الذين كفروا من الحظ والنصيب في الآخرة .
ترى لماذا ذكرت الآية الحظ والحرمان منه ، ولم تذكر لفظ الأجر والثواب ، الجواب بين الحظ والأجر عموم وخصوص مطلق ، فالأجر من مصاديق الجزاء الحسن على الفعل العبادي والصالحات ، أما الحظ فقد يكون ثواباً وقد يكون شفاعة أو رحمة وإبتداء بالفضل من عند الله عز وجل .
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا فرغ الله من القضاء بين الخلق أخرج كتاباً من تحت العرش : إن رحمتي سبقت غضبي وأنا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة أو قبضتين فيخرج من النار خلق كثير لم يعملوا خيراً : مكتوب بين أعينهم عتقاء الله( ).
فمن إعجاز الآية نفي الحظ عن الذين كفروا مع خسارتهم في الدنيا ، ورجوع كيدهم إلى نحورهم ، ويأبى الله عز وجل إلا أن يجعل مصاديق وشواهد لعالم الآخرة في الحياة الدنيا ، وليس من حصر لمصاديق إنعدام حظ الذين كفروا في الدنيا , منها وجوه :
الوجه الأول : هزيمة الذين كفروا في معركة بدر ، إذ يدل قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) ، في مفهومه على مسائل :
الأولى : وقوع القتال بين المسلمين والمشركين يوم بدر وهو الذي تتجلى بقوله تعالى[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، مع العلم أن ذات اللفظ ورد بخصوص معركة أحد في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( )، وقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
الثانية : هزيمة الذين كفروا يوم بدر ، إذ تكون نتيجة المعركة على وجوه :
الأول : عدم تحقق الغلبة لأي من الفريقين .
الثاني : ظن كل فريق بأنهم الذين انتصروا .
الثالث : انتهاء المعركة من غير نصر ظاهر لأحدهما.
الرابع : انقطاع القتال بعد ظهور معاني النصر لأحدهما .
الخامس : ميل الفريقين للصلح قبل أو اثناء القتال سواء بواسطة طرف ثالث أو من قبلهم.
السادس : نصر أحد الفريقين وهزيمة الآخر ، والذي وقع في معركة بدر هو الأخير أعلاه .
الثالثة : انتصار المسلمين في معركة بدر مع أنهم قلة ومستضعفون , ويظهر النقص في أسلحتهم ورواحلهم للقاصي والداني .
الرابعة : ومن معاني نصر المسلمين في معركة بدر بلحاظ آية البحث وجوه :
الأول : الهزيمة والخزي للذين اشتروا الكفر بالإيمان في معركة بدر.
لقد أنعم الله عز وجل على قريش وأهل مكة بأن بعث النبي محمدا من بين ظهرانيهم ، وهو من أوسطهم وأسماهم نسباً وكان معروفاً بينهم ب(الصادق الأمين) وجاء بالمعجزات لزجر الذين كفروا عن الإصرار على ترك معالم الإيمان ، والإعراض عن الآيات الكونية والتنزيلية فلاقى منهم أشد الأذى ، فهاجر الى المدينة ليقيم الصلاة فيها ، ويبلغ المسلمين ما ينزل عليه من القرآن وكان يخرج هو وأصحابه حول المدينة في كتائب ، كما في خروجه إلى الأبواء في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة( )، وكان معه ستون وقيل سبعون من الصحابة ، وعقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه هذا ميثاق أمان مع عمرو بن مخشى الضمري .
وعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ولم يلق قتالاً ، كما خرج النبي محمد من المدينة إلى نجد في ذات شهر صفر ، وعاد ولم يلق قتالاً .
وفي الشهر التالي وهو شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بواط ومعه سبعون من الصحابة ، ولم يلق قتالاً ثم توجه في ذات الشهر إلى بدر الأولى ومعه مائتان من الصحابة الأولى ، ففر العدو ، ولم يقع قتال .
هذا الى جانب السرايا المتعددة التي يبعث أصحابه فيها ، وكانوا يعودون من غير أن يلقوا قتالاً , تقدم ذكر بعضها( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يمرون على قرى وقبائل من المشركين ، فلم يغزهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يتعرض لهم.
الثاني : تجلي قانون وهو أن شراء الذين كفروا الكفر والضلالة لم ولن يجلب لهم إلا الهزيمة والذل والهوان .
ولا ينحصر موضوع الذل هذا بذات الهزيمة بل يشمل لوازمها وكيف أن شراء الكفر يؤدي بالجيش الكبير إلى الفرار أمام جيش المسلمين على قلته ونقص مؤنه وأسلحته .
الثالث : الملازمة بين شراء الكفر والخسارة والخزي سواء في حال الحرب أو السلم.
الوجه الثاني : كثرة قتلى المشركين في معركة بدر ، فقد خرجوا من مكة ومعهم ، والقيان وآلات الطرب ليعودوا بالخسارة والذل وترك سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً خلفهم ، بحيث صار أهل مكة يتمنون وقوع المفقود من أبنائهم وأهليهم بالأسر دون القتل يومئذ .
الوجه الثالث : تعطيل تجارات قريش ، ولو على نحو السالبة الجزئية من جهات:
الأولى : إنشغال رجالات قريش بالإعداد والتهيئ لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : خروج قريش في الجيوش وقطع المسافة بين مكة والمدينة للقتال .
وفيه شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز المشركين ولم يهجم على ديارهم ، إنما هم الذين هجموا على المدينة وسعوا إلى قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم واهل بيته وأصحابه.
الثالثة : انفاق قريش على الجيوش في الأسلحة والرواحل والمؤن ، بل وحتى بدفع الرشاوى إلى الشيوخ وأفراد الجيش لقضاء ديونهم ومؤونة عيالهم إذ يتذرع بعضهم عن الخروج بأنه يكد على عياله ، وعند غيابه يتعذر عليه الكسب ، فيقوم رجال قريش باعطائه المال الكافي ، وهذا المال في غالبه من التجارة ، ولكنهم سخروه في الباطل ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) .
الرابعة : تتصف قريش بامتلاك الإبل الكثيرة المسخّرة للتجارة , وكانت بعض قوافلهم تضم ألفين من العير , وكانوا يطوون الأرض بالبضاعة بين :
الأول : مكة والشام .
الثاني : مكة واليمن .
الثالث : أماكن أخرى مثل المدينة يثرب والطائف والبحرين وهي الإحساء , ونجران ، ومصر والحبشة والحيرة وبلاد فارس .
وعن قتادة في قوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ] قال : كان أهل مكة يتعاورون البيت شتاء وصيفاً تجاراً آمنين لا يخافون شيئاً لحرمهم ، وكانت العرب لا يقدرون على ذلك ولا يستطيعونه من الخوف ، فذكرهم الله ما كانوا فيه من الأمن حتى إن كان الرجل منهم ليصاب في الحيّ من أحياء العرب فيقال حرمي .
وقال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : من أذل قريشاً أذله الله وقال : « ارقبوني وقريشاً فإن ينصرني الله عليهم فالناس لهم تبع فلما فتحت مكة أسرع الناس في الإِسلام فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الناس تبع لقريش في الخير والشر كفارهم تبع لكفارهم ومؤمنوهم تبع لمؤمنيهم( ).
الرابع : عودة الذين كفروا من معركة أحد ثم الخندق بالخيبة ، وهذه الخيبة من جهات :
الأولى : عدم تحقيق الذين كفروا النصر في أي معركة من معارك الإسلام الأولى مع أنهم الذين يختارون أوان ومكان المعركة وكيفية القتال والمبارزة حتى أنه حينما تقدم عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد للمبارزة يوم بدر برز لهم ثلاثة شبان من الأنصار وهم :
الأول : معوذ بن الحارث .
الثاني : عوف بن الحارث ، وهما ابنا عفراء .
الثالث : عبد الله بن رواحة .
فقالوا أرجعوا لا حاجة لنا بكم ، وتمر الأيام ويخرج عبد الله بن رواحة أميراً بالمناوبة إلى معركة مؤته ويستشهد فيها .
وعن (عبدالله بن جعفر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جيشا استعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: ” إن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر، فإن قتل أو استشهد فأميركم عبد الله بن رواحة .
فلقوا العدو فأخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل حتى قتل، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه.
وأتى خبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: ” إن إخوانكم لقوا العدو، وإن زيدا أخذ الراية فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن الوليد ففتح الله عليه.
قال: ثم أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: ” لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي بني أخي ” قال: فجئ بنا كأننا أفرخ، فقال ” ادعوا لي الحلاق ” فجئ بالحلاق فحلق رؤوسنا.
ثم قال: أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبدالله فشبيه خلقي وخلقي ” ثم أخذ بيدي فأشالها وقال: ” اللهم اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه ” قالها ثلاث مرات.
قال: فجاءت أمنا فذكرت له يتمنا وجعلت تفرح ، له فقال: العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة)( ) .
ولم يرض عتبة بن ربيعة وأخوه وابنه بشبان من الأنصار لمبارزتهم ، وطلبوا أن يبرز لهم أبناء عمومتهم من بني عبد المطلب على نحو التعيين لإرادة نزول المصيبة والفاجعة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتل أهل بيته , ولأنهم مشغولون بطاعة الله والتبليغ , ولإدراك المشركين بأنهم إذا قتلوا واحداً من أهل البيت شاع أمر القتل في مكة ، ودخل الحزن إلى بيوت بني هاشم الذين ما فتأوا يميلون إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يرضون بايذائه .
وإن كان عدم الرضا هذا من الكلي المشكك , الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً وكيفية .
ولقد كان أبو طالب قبل وفاته يذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلسانه ويده , ليكون هذا الطلب وبالا على كفار قريش إذ برز لهم الإمام علي عليه السلام وحمزة وعبيدة بن الحارث فقتل المشركون الثلاثة أعلاه ز
وهل كان طلبهم ثلاثة من بني عبد المطلب عن رأي منهم خاصة ، أم أنه رأي رؤساء قريش الآخرين ، وهو جزء من خطط القتال يوم بدر ، المختار هو الثاني ، وما ورد عن المشادة بين عتبة وأبي جهل قبل المبارزة لا ترقى الى السبب والمانع منه .
وفي التنزيل [بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ]( ).
المسألة الثامنة : جاءت آية البحث بياناً وتعليلاً للنهي عن حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على الكفار الذين لم يحزنوا على أنفسهم باختيارهم شراء الكفر والضلالة ، وما ينتظرهم من سوء العاقبة ، وفي التنزيل [وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ]( ).
ومن معاني الجمع بين آية البحث والآية السابقة لها [وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( ) بيان مسألة وهي أن حزن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الدين وعلى الإسلام ، وأنه يخشى من الذين كفروا على نفسه وعلى المسلمين ، فامره الله عز وجل أن لا يحزن عليهم .
فتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشية وصبيحة معركة بدر إلى الدعاء المقرون بالتضرع والمسكنة ، وهو يناجي ربه ويلح بالمسألة (اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الارض ” وجعل يهتف بربه عز وجل ويقول: اللهم أنجز لى ما وعدتني، اللهم نصرك “.
ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط الرداء عن منكبيه) ( ).
ومن مسارعة الذين كفروا من قريش في مسالك الضلالة تجهيزهم الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورود الأخبار التي تدل على عزمهم على استباحة المدينة وسبي الصحابة ، وهو أمر يسبب الحزن والخوف ، ويبعث الرعب والفزع في النفوس ، فتفضل الله عز وجل ونهى عن الحزن عليهم لقبيح ما يفعلون .
ليدل تقييد هذا النهي بالحزن وحده سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من الفزع والخوف من الذين كفروا وهم يعدون العدة للهجوم على المدينة ، وعندما صاروا على مشارفها في معركة أحد ، وليدخل المسلمون المعركة دفاعاً عن بيضة الإسلام من غير أن يحزنوا على الذين كفروا فان كيدهم يتبدد ويتلاشى ويغادرون الدنيا طوعاً وقهراً ، ويبقى لواء الوحيد في الأرض يدعو الناس للإيمان .
ومن مسارعة المشركين بالكفر تكذيب نزول الآيات قال تعالى [قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ]( )، لتكون النسبة بين الحزن في الآية أعلاه والحزن المنهي عنه في آية البحث العموم والخصوص المطلق ، ومن معاني الجمع بينهما التخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بنهيهم عن الحزن على الذين كفروا لإفترائهم وتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ونعته بأنه كذّاب ومفتر ولكنهم يقرون في السر بصدقه ، وعن الإمام علي عليه السلام قال : قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به ، فأنزل الله {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}( )، وقال تعالى[فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( ).
ليكون من معاني قوله تعالى[وَلاَ يَحْزُنْكَ] في آية السياق وجوه :
الأول : ولا يحزنك الذي يسارعون في الكفر لأنهم أقل وأضعف من الإضرار بالإيمان وأركانه وسننه .
الثاني : ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر فانهم محرومون من الحظ والنصيب في الآخرة .
الثالث : ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر لأن عاقبة الضلالة والجحود الهلاك .
الرابع : ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر لأن الله عز وجل يعلم بما يفعلون ، وهو سبحانه يحول بينهم وبين غاياتهم الخبيثة ، قال تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الخامس : ولا يحزنك على الإسلام بسبب الذين يسارعون في الكفر لأنهم لن يضروه .
السادس : ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر لأن الله عز وجل قد كفل لك تبليغ الرسالة , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ).
المسألة التاسعة : من إعجاز نظم الآيات اختتام كل من آية البحث والآية السابقة لها بالوعيد للذين كفروا، والإخبار عما ينتظرهم من سوء العاقبة.
فقد أخبرت الآية السابقة عن صفة عذاب الذين كفروا بأنه [عَظِيمٌ] وأختتمت آية البحث بوصف عذابهم بأنه [أَلِيمٌ] ويتعلق وصف العذاب بالعظيم بشدته ، وهوله .
أما وصف [الأَلِيمَ] فيتعلق بما يترتب عليه من الأثر والضرر على الذين كفروا وكيف أنه يؤلمهم ويوجعهم وجعاًً شديداَ وأنه دائم ومستمر .
وصيغة التنكير [عَذَابٌ أَلِيمٌ] للتهويل والإخبار عن حقيقة عذاب النار بما يبعث الخوف والفزع في نفوس الذين كفروا وللدلالة على أن العذاب الأليم سبب للذل والمهانة .
لذا ورد وصف عذاب النار بأنه مهين، قال تعالى [فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ) .
وفي ذات سورة آل عمران التي جاء هذا الجزء وهو الخامس والسبعون بعد المائة من تفسيرنا للقرآن في تفسير الآية (177) منه ، قال تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ) وإذا كان الألم صفة لحال لذات الكافر الذي يعذّب في النار فلماذا يوصف العذاب نفسه بالأليم ، الجواب من وجوه :
الأول : المراد أن هذا العذاب سبب للألم الشديد ، لبيان قانون وهو مجئ عذاب النار بما يؤدي إلى إحساس كل واحد من أهل النار بالألم الشديد .
الثاني : هذا الوصف من إلمجاز العقلي للبيان العام الذي يفهمه كل إنسان ، وللمبالغة ، كما في قوله تعالى [النَّهَارَ مُبْصِرًا] ( ) وكما في قوله تعالى [فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ]( ) وكأن الجدار له إرادة ويستطيع الفعل أو الترك ، وصحيح أن من خصائص المجاز تقريب المعقول بالمحسوس ، وأن يمنح الحياة للجماد ، وهو كثير في اللغة العربية ، ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (كلما سمع هيعة أو قزعة طار على متنه) ( ).
وقال الإمام علي عليه السلام : السفر ميزان القوم).
وقال الحارثي :
(يريد الرمحُ صدر أبي براءٍ … ويرغبُ عن دماءِ بني عقيل)( ).
ومعنى ومضمون المجاز العقلي في القرآن أعم ولابد من التدبر في كل فرد منه فقد جعل الله عز وجل عند الجدار أمانة ، وهو الكنز ، وهو يشكو إلى الله عز وجل قرب سقوطه وانكشاف أمر الكنز ، فتفضل الله عز وجل وبعث الخضر ومعه موسى عليهما السلام ليبني الجدار ويسلم الكنز .
الثالث : المراد من وصف العذاب بالأليم إخبار أهل الدنيا عن صفته وأثره ، فمن فضل الله كشف معالم الآخرة وحقائق الجزاء فيها للناس وهم في الدنيا لترغيبهم بعمل الصالحات ، وزجرهم عن فعل السيئات ، ليكون هذا الإخبار على وجوه :
الأول : إنه حجة على الناس .
الثاني : إنه نوع وسيلة لهدايتهم
الثالث : فيه تذكير بالحياة في عالم الحساب ، قال تعالى[وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( )، .
الرابع : الترغيب بالتوبة والإنابة، وإدراك عظيم نفعها ، والحاجة إليها.
الرابع : إدراك أهل المحشر لقانون وهو أن عذاب النار مؤلم وموجع ، ولا يختص هذا الإدراك بدخول أهل النار لها ، إنما يتغشى مواطن القيامة كلها .
وهل يعلم أهل البرزخ بهذه القانون ، الجواب نعم ، ويحتمل هذا العلم وجوهاً :
الأول : إستصحاب العلم بصفة عذاب النار بالأليم، وهم في الحياة الدنيا.
الثاني : إدراك وعلم أهل البرزخ لشدة ألم ووجع عذاب النار وهم في القبور ، وفي ذم آل فرعون ورد قوله تعالى[النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ]( )، والمراد من الغدو والعشي آنات الزمان في الحياة الدنيا .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في الآية أعلاه قال : ذلك في الدنيا قبل يوم القيامة لان نار القيامة لا يكون غدوا وعشيا، ثم قال: إن كانوا إنما يعذبون في النار غدوا وعشيا ففيما بين ذلك هم من السعداء، ولكن هذا في نار البرزخ قبل يوم القيامة، ألم تسمع قوله عز وجل[وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ]( )، وهذا أمر لآل فرعون بالدخول، أو أمر للملائكة بإدخالهم في أشد العذاب وهو عذاب جهنم( ).
الثالث : العنوان الجامع من إدراك الناس لشدة عذاب النار وهم في الدنيا ، وعلمهم بشدته وهم في القبور عند مجئ منكر ونكير للحساب الإبتدائي ، ليكون وسيلة للصلاح وإتخاذ الناس الحيطة والتهيئ للآخرة بالسعي لإجتناب العذاب فيها.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق التنكير والعموم بلفظ [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) في خاتمة آية البحث .
وكما جاء القرآن بالمتعدد من أوصاف الشدة والضرر في عذاب الذين كفروا يوم القيامة فانه أخبر وبصيغة القطع عن ضروب وكثرة وجوه النعيم الذين يفوز به المؤمنون يوم القيامة ، والثواب العظيم الذي أدّخره الله عز وجل لهم .
وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الحور العين يغنين في الجنة: نحن الجوار الحسان، خلقنا لأزواج كرام( ).
الوجه الثاني : صلة آية البحث بالآية قبل السابقة [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : إبتدأت آية السياق بأداة الحصر [إنما] بما يفيد البعد والذم للشيطان لبيان قانون وهو أن الشيطان أبعد الخلائق عن الناس ، ولكن الذين كفروا افتتنوا به .
أما آية البحث فأبتدأت بالحرف (إن) الذي يفيد التوكيد لبيان إصرار الذين كفروا على تقديم أنفسهم فداء للهوى والشهوات .
الثانية : اختصت آية البحث بذم الذين كفروا ، بينما تضمنت آية السياق أموراً :
الأول : التحذير من الشيطان وإغوائه .
الثاني : ذم الذين كفروا واتباعهم للشيطان ، أي أن ذمهم متعدد ويتعلق بكل سوء يرتكبونه مجتمعين ومتفرقين.
الثالث : بيان قانون وهو ولاية الذين كفروا للشيطان .
الرابع : تأكيد الضرر الخاص والعام من اتباع الشيطان وولايته .
الخامس : قبح ولاية الشيطان ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) .
وبين إتباع خطوات الشيطان وبين ولايته عموم وخصوص مطلق .
فالإتباع أعم من جهات :
الأولى : موضوع الإتباع .
الثانية : درجة الإتباع .
الثالثة : كيفية الإتباع .
الرابعة : تكرار الإتباع من قبل المشركين ، والإتباع نوع مفاعلة بين :
الأول : المتبوع.
الثاني : موضوع المتبوع .
الثالث : التابع.
أما ولاية الذين كفروا للشيطان فهي أشد ضرراً من الإتباع في الكيفية والفعل ، وإن إتحدا في السنخية .
الخامسة : خشية وخوف الذين كفروا من الشيطان مع بعده عنهم وفيه حجة عليهم من جهات :
الأولى : الأصل أن يخاف الناس مجتمعين ومتفرقين من الله عز وجل ، ومن خصائص الخوف من الله عز وجل وجوه :
أولاً : أنه مقدمة للرحمة .
ثانياً : ذات الخوف من الله رحمة .
ثالثاً : ترشح الرحمة عن الخوف من الله عز وجل.
رابعاً : الخوف من الله سمة الإيمان ، ودليل العلم ، وفي التنزيل [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] ( ).
خامساً : الخوف من الله طريق للنجاة والأمن في الآخرة (عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله ، لوددت أني كنت شجرة تعضد) ( ).
سادساً : الخوف من الله واقية من الخوف في الآخرة ، بينما يجلب الخوف من الشيطان في الدنيا الفزع والخوف في الآخرة (عن الحسن البصري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال الله تبارك وتعالى : وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين ، فمن خافني في الدنيا آمنته في الآخرة) ( ).
الثانية : الخوف من الله واقية من أمور :
الأول : تخويف الشيطان .
الثاني : الخوف من الشيطان .
الثالث : الميل للشيطان وإغوائه .
الثالثة : في الخوف من الشيطان ضرر بذاته ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا]( ).
الرابعة : الخوف من الشيطان غشاوة وبرزخ دون حب الله عز وجل للعبد .
الخامسة : الخوف من الله عز وجل واقية من الشيطان والخوف منه .
السادسة : إختيار الكافر الأسر بيد الشيطان والهوى .
السابعة : الخوف من الشيطان غشاوة على البصر والبصيرة ، وحاجب دون التدبر بالحقائق والآيات والواجبات ، قال تعالى [أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ] ( ).
المسألة الثالثة : مع أن الشيطان موجود على الأرض في الحياة الدنيا ، فان آية السياق أشارت إليه بصيغة البعد (ذلكم)وهو من مصاديق رحمة الله عز وجل بالناس في الحياة الدنيا ، وعمومات خطاب الله تعالى للنبي محمد [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بلحاظ أن بعثته ونزول القرآن سبب في صيرورة الشيطان بعيداً ، ويحتمل هذا البعد وجوهاً :
الأول : بعد الشيطان عن المسلمين بمرتبة وعلى مسافة واحدة .
الثاني : بعد الشيطان عن المسلمين متباين بلحاظ التقوى والصلاح وكثرة ذكر الله .
الثالث : بعد الشيطان عن المسلمين وعن المشركين بمرتبة واحدة.
الرابع : الإختلاف والتباين بين بعد الشيطان عن المسلمين وعن المشركين.
والمختار هو الثاني والرابع أعلاه ، وجاءت آية السياق لوجوه :
الأول : بعث المسلمين للشكر لله سبحانه على نعمة الخوف من الله ، قال تعالى [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ] ( ) ليكون من مصاديق الزيادة المذكورة في المقام أعلاه وجوه :
أولاً : إمتلاء قلوب المسلمين بالخوف من الله .
ثانياً : تقريب المسلمين من منازل الشكر لله عز وجل .
ثالثاً : تعاهد المسلمين للشكر والحمد لله ومناجاتهم به .
رابعاً : إستحضار المسلم الخوف من الله عند الفعل ، وصيرورته برزخاً دون إرتكاب الآثام .
وتبين آية البحث قانوناً وهو أن الذين كفروا وخوفهم من الشيطان لن يضر الله عز وجل في أمور :
الأول : ملك الله، فملكه باق والكفار إلى هلاك وزوال ، فان قلت قد تكون للكفار دولة ، الجواب نعم , ولكنها لن تضر ملك الله ، إنما تكون حجة على الكفار في زمانهم والأزمنة اللاحقة ، لذا قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ).
الثاني : لن يضروا الله عز وجل في الدين ، وعقيدة التوحيد ، لقد خلق الله عز وجل الناس ليعمروا الأرض بالعبادة والتقوى وأكرمهم في الدنيا إذ رزقهم مرتبة الخلافة فيها , كما تجلى في خطابه تعالى للملائكة [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
ويحتمل إتباع الذين كفروا الشيطان وخوفهم منه وجوهاً بلحاظ الآية أعلاه :
أولاً : إنه من الفساد في الأرض .
ثانياً : إنه من سفك الدماء .
ثالثاً : الخوف من الشيطان مقدمة للفساد في الأرض وسفك الدماء.
رابعاً : الخوف من الشيطان ليس من الفساد في الأرض ، وليس هو مقدمة للفساد في الأرض ، إنما هو كيفية نفسانية .
والمختار أنه فساد ومقدمة للفساد ولسفك الدماء ، وبينت آية السياق قبح ولاية الشيطان ، وذكرت لزوم الخوف من الله بلحاظ أن هذا الخوف واقية وحرز من الفساد وسفك الدماء .
الثالث : لن يضر الذين كفروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في شخصه ونبوته ورسالته ، فلا يقدر المشركون على الحيلولة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، ولا يستطيعون منعه من تبليغ آيات القرآن والأحكام والأوامر والنواهي ، وعدم قدرتهم هذه من اللوازم والشواهد على قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ) .
فلم تخاطب الآية أعلاه النبي بالاسم أو بالنبوة انما خاطبته بصيغة الرسول لإرادة المعنى الأعم في التبليغ .
وهذا العموم لا يختص بالأفراد ، إنما يشمل عموم الأنصار والقبائل ، لذا ورد قوله تعالى[إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] ( ) لبيان رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس شعوباً وقبائل .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها لا تتضمن الوعيد للذين كفروا أو الأمر من الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالبطش بالذين كفروا .
ولكنها أخبرت عن عجز الكفار وعدم قدرتهم على الإضرار بالآيات الكونية والشرعية ، وسنن العبادة في الأرض ، فلابد أن يقيم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون الصلاة ويصوموا شهر رمضان ويحجوا البيت .
وفيه منع من شيوع الكفر ومفاهيمه ، قال تعالى [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ) لتكون خيانة الذين كفروا اللهَ ورسوله من سعيهم لإطفاء نور الله بأفواههم الذي تذكره الآية أعلاه ، إذ كان الكفار والمنافقون يكيدون للمسلمين جهرة وخفية ، وبصيغ التحدي والرياء , والشدة واللين بمكر .
الثالث :لن يضروا شعائر الله ، وأداء الصلاة والمناسك ، ومن الإعجاز في العبادات أن الله عز وجل أكرم البيت الحرام وجعله بيته ، ويحج الناس إليه ، وأبى الله عز وجل أن يعطل البيت في أي يوم من السنة أو ينتظر الناس عمارته إلى حين موسم الحج ، وإلا لما دارت حوله البيوت والأسواق من أيام إبراهيم وإسماعيل ، إنما جعل الله أداء مناسك العمرة يستغرق كل أيام السنة ، وهو من أسباب إنتعاش التجارة في مكة ، والثراء الذي أصاب قريشاً ، وعمارة أسواقهم في مكة , وهو من مصاديق قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( ) .
ليكون من معاني الآيات أعلاه من سورة قريش تذكير قريش والناس بأن جوار البيت نعمة عظمى وثراء وتجارة لقريش ، ورحلتهم المتكررة إلى الشام واليمن من فيوضات البيت الحرام والبركة التي وردت في قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن الآيات تفضل الله عز وجل بجعل جبلي الصفا والمروة والسعي بينهما من شعائر الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا]( ).
وفيه نكتة وهي عجز الكفار عن إزاحة أو محو شعائر الله لإرتفاع جبل الصفا والمروة ، وإن سأل الذين كفروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل جبل الصفا ذهباً ليؤمنوا به واختاروه دون المروة لأنه أطول وأعلى من جبل المروة، ويدل قوله تعالى أعلاه على أنهما من شعائر الله على استحالة إزالتهما ، وعلى لزوم تعظيم شأنها وتعاهد السعي بينهما ، قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ( ).
كما عجز أبرهة عن الوصول إلى البيت الحرام ، ولم يخطر بباله أن الصفا والمروة من شعائر الله إنما قصد هدم البيت الحرام ، فحال الله عز وجل بينه وبين غاياته الخبيثة بهلاكه وجنوده ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ] ( ).
وهل هلاكه وجنوده من مصاديق آية البحث , وأنهم لن يضروا الله شيئاً , الجواب نعم .
وبلحاظ قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ) وجوه :
أولاً : الصفا والمروة من البيت الذي تذكره الآية أعلاه .
ثانياً : الحاق الصفا والمروة بالبيت الحرام .
ثالثاً : الصفا والمروة ليسا من البيت .
والمختار هو الثاني والثالث أعلاه ، فمع أن الأرض كلها ملك لله عز وجل ، وليس له من بيت إلا في مكة فانه خاص بالكعبة الشريفة وضيائها وفيه كفاية للأمن للناس ، وترشح البركة والخير والفضل منه إلى يوم القيامة .
الخامس : لن يضروا المؤمنين في أشخاصهم وعباداتهم ودعوتهم للصلاح ، وحينما احتجت الملائكة على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) بأن الإنسان يفسد في الأرض ويقوم بالقتل وسفك الدماء ، فقام كفار قريش بالفساد وأظهروا الشرك بالله وعبادة الأصنام .
لقد جعل الله عز وجل التوحيد أصل العبادة ، وعلة استدامة الحياة الدنيا ، لذا فان أشد ضروب الفساد الشرك بالله وعبادة الأصنام ، فتفضل الله عز وجل وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من بين ظهرانيهم ، ومن أوسط قبائلهم فسعوا في قتله في مكر ودهاء بأن يهجم عليه عشرة شبان من كل قبيلة واحد ، كي يضيع دمه بين القبائل وبيوتات مكة ، فلا يقدر بنو هاشم على أخذ ثأره فيقبلون بالدية .
فانجاه الله عز وجل بالمعجزة الحسية الجلية إذ نزل جبرئيل وأمره بالهجرة في ذات الليلة ولينام الإمام علي عليه السلام في فراشه ، وسميت تلك الليلة ليلة المبيت ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) .
وليس من حصر للمكر الحسن من الله في الآية أعلاه ، ومنه ما يتعلق بالكفار الذين يمكرون السوء إذ أن مكر الله عز وجل سبيل لهدايتهم وإختيارهم التوبة إلا من أصر على الكفر فكانت عاقبته أن يجُروا بدمائهم إلى قليب بدر ، لما فيه من دفع شرور الذين كفروا وإزاحة المانع دون إسلام طائفة من الناس ممن كانوا تابعين لهم وغيرهم من الناس .
ومن ضروب الإبتلاء والتضاد في الحياة الدنيا الولاية ، إذ يتولى المؤمنون الله عز وجل , ويتولى الذين كفروا الشيطان .
ومن الإعجاز جمع آية واحدة لهذا المعنى والتباين ، قال تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ) .
ومن صفات أولياء الله العلم والتقوى وعمل الصالحات، ولم تخل منهم الأرض منذ أيام آدم عليه السلام ، وكأنهم يتوارثون ولاية الله ، ويحملون لواءها ، وهم في حرز وواقية من الشيطان ، قال تعالى [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ] ( ) .
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، عن جبريل عن الله عز وجل قال : يقول الله عز وجل : من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ، وإني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرد( ).
وما تقرب إلي عبدي المؤمن ، بمثل أداء ما افترضت عليه ، وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت له سمعاً وبصراً ويداً ومؤيداً ، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له منه ، وإن من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة ، فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ، ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا القسم ، ولو أصححته لأفسده ذلك ، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير) ( ).
وظاهر آية السياق أنها خطاب للمسلمين والمسلمات ، وهو لا يتعارض مع المعنى الأعم في لغة الخطاب بدليل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ) .
ويكون تقديرها على وجوه :
الأول : يا أيها النبي ذلكم الشيطان يخوف أولياءه .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا ذلكم الشيطان يخوف أولياءه .
الثالث : يا أهل الكتاب ذلكم الشيطان يخوف أولياءه .
الرابع : يا أيها الناس ذلكم الشيطان يخوف أولياءه .
الخامس : يا أيها الذين كفروا ذلكم الشيطان يخوفّ أولياءه .
السادس : يا أولياء الشيطان ذلكم الشيطان يخوفكم .
ومن إعجاز آية السياق أنها قالت [فَلاَ تَخَافُوهُمْ] ( ) ولم تقل (فلا تخافوه) لبيان قانون وهو أن المؤمنين لا يخافون من الشيطان ، وأن الله عز وجل لم يجعل له سلطاناً عليهم في باب العبادات والمعاملات إنما يقوم أولياء الشيطان بايذاء المؤمنين، وتهديدهم وتجهيز الجيوش لقتالهم .
وقد حضر ابليس دار الندوة (فِي صُورَةِ شَيْخٍ كَبِيرٍ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ مُشْتَمِلٌ الصّمّاءَ فِي كِسَائِهِ)( )، للتحريض على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم يفلح لأن الله عز وجل أمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة .
وعندما جاء رسول قافلة أبي سفيان وهو(ضمضم بن عمرو الغفاري)( )، استأجره ليخبر ويستنفر قريشاً بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يتعرضون للقافلة تناجى رجال قريش بالخروج لإغاثته وتخليص أموالهم وتجارتهم وفيها ذهب وفضة ، وكانت القافلة مؤلفة من ألف بعير محملة بالبضائع ، وليس معها إلا ثلاثون رجلاً (من قريش، عميدهم أبو سفيان بن حرب، أو قيل: أربعون رجلاً؛ من جملتهم: مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وعمرو بن العاصي)( ).
وتدل قلة عددهم على أن قريشاً لم تكن تخاف إستيلاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على أموالهم ، وفعلاً لم يقع هذا التعرض ، ولكنه من مصاديق آية السياق [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ] ( ) .
ولو أن قريشاً صبروا بضعة أيام لجاءهم رسول آخر من أبي سفيان يخبرهم بنجاة وسلامة القافلة .
ومن معاني تخويف الشيطان لأوليائه تهويل الوقائع وإرباكهم ، ومنعهم من التأني والحكمة ، إنما يسارعون في مسالك الضلالة .
المسألة الرابعة : لقد إبتدأت آية السياق بالإخبار وبصيغة الحصر عن أمر خاص بابتلاء الذين كفروا ، وهو تخويف الشيطان لهم ، ويحتمل هذا التخويف وجوهاً :
الأول : استدامة تخويف الشيطان لأوليائه من الذين كفروا .
الثاني : وقوع هذا التخويف على نحو متباعد .
الثالث : ندرة تخويف الشيطان لأوليائه .
الرابع : هذا التخويف من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وكلما إزداد الكافر في كفره وغيه إزداد تخويف الشيطان له .
والمختار هو الأول والرابع أعلاه ، وهو من مصاديق نعت الذين كفروا في آية السياق بأولياء الشيطان ، وفي هذا النعت مسائل:
الأولى : توبيخ الذين كفروا ، وهل في الوعيد في خاتمة آية البحث (ولهم عذاب أليم) توبيخ لهم , الجواب نعم.
الثانية : تحذير وإنذار الناس من الشيطان وإغوائه ، وخاطب القرآن الناس جميعاً [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ]( ).
الثالثة : نعت الذين كفروا بأنهم أولياء الشيطان إنذار لهم من العذاب الأليم يوم القيامة ، ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) تسمية الذين كفروا بأنهم أولياء الشيطان لما في هذه التسمية من الزجر عن الكفر والضلالة.
الرابعة : دلالة آية البحث في مفهومها على الثناء على المؤمنين لعصمتهم من ولاية الشيطان فكما أن البشارة في القرآن إنذار للذين يحرمون أنفسهم منها ، والإنذار للكفار بشارة للمؤمنين ، فكذا بالنسبة للثناء على المؤمنين فانه تبكيت وتوبيخ للذين كفروا ، وكذا فان توبيخ وذم الذين كفروا في القرآن مدح وثناء على المؤمنين ، ليكون من إعجاز القرآن تجلي مفاهيم الآية وكأنها من المنطوق وهو باب للهداية ، وبقاء القرآن غضاً طرياً ، ونهل الناس على مختلف مشاربهم من علومه ، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الخامسة : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفتهم بأحوال الناس وإدراك قانون وهو لزوم الحذر والحيطة من الذين كفروا .
السادسة : دعوة المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وللجهاد بالكلمة الطيبة ، ليكون من معاني ومصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) في المقام أمور :
الأول : تلاوة آية البحث .
الثاني : بيان المسلمين لقبح ولاية الشيطان .
الثالث : السعي لطرد الغفلة والجهالة عن الناس .
الرابع : بيان شرور وأضرار ولاية الشيطان والخوف منه والإنصات إلى تخويفه بالفقر والمشقة في أداء التكاليف .
المسألة الخامسة : من معاني الجمع بين آية البحث وآية السياق بيان صفة من صفات الذين كفروا وهي تخويف الشيطان لهم ، وهل تخويف الشيطان للذين كفروا بمرتبة واحدة أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب مختلفة .
الجواب هو الثاني وان كانت كل مرتبة من مراتب الخوف من الشيطان قبيحة بالذات والأثر .
فقد جاءت آية البحث والآيتان السابقتان لها في ذم الذين كفروا ، وبيان سوء فعلهم وظلمهم لأنفسهم وللناس إذ أنها جمعت بين مسائل :
الأولى : ذم الشيطان وبيان بعده عن الناس ، ويحتمل المراد من الشيطان في آية السياق وجوه :
الأول : إبليس ، وهو الأصل في ذكر اسم الشيطان.
الثاني : شيطان من مردة الجن .
الثالث : إرادة اسم جنس للشياطين .
الرابع : الشيطان القرين للإنسان ، قال تعالى [وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا] ( ).
ولم يرد اسم قرين في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وعلى نحو متكرر لمرتين .
الخامس : المراد شياطين الإنس وقيامهم باغواء بعضهم بعضاً، والسعي لإيقاع بعض الناس في شباك ضلالتهم ، وإتباع الهوى .
السادس : المراد حزب وأولياء الشيطان بذكر المضاف اليه وإرادة المضاف ، قال تعالى[اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ]( )،
واختصت هذه الآية بذكر الشيطان ثلاث مرات وذكر حزبه مرتين ، ومنعت من الإفتتان بهم فاخبرت عن خسارتهم وخيبتهم ، وجاء بعدها بثلاث آيات في نظم القرآن الثناء على المؤمنين ونعتهم بأنهم حزب الله ، قال تعالى[لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
السابع : إرادة المتعدد من ضروب الشيطان من الوجوه أعلاه .
والمختار هو الأخير .
الثانية : قيام الشيطان بتخويف الذين كفروا وسبب هذا التخويف إختيار الذين كفروا ولاية الشيطان وإتباعه ونصرته في الباطل .
الثالثة : في اتباع الذين كفروا الشيطان مع بعده عن الناس حجة على الذين كفروا في النشأتين .
الرابعة : إخبار الآية قبل السابقة عن وجود أولياء للشيطان وهم أعداء لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : نهي المسلمين والمسلمات عن الخوف من الذين كفروا وإتباعهم الشيطان، قال تعالى[ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ) ( ).
وهل يدل هذا النهي على تفضل الله سبحانه بالمدد للمسلمين والمسلمات لوقايتهم من هذا الخوف.
الجواب نعم ، وكل من آية البحث والسياق من هذا المدد واللطف الإلهي .
السادسة : توجه الأمر من عند الله للمسلمين والمسلمات بالخوف منه سبحانه ، وهل يشمل قوله تعالى [وَخَافُونِي]النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، وتقدير الآية :
الأول : يا أيها النبي خافني .
الثاني : يا أيها المهاجرون خافوني .
الثالث : يا أيها الأنصار خافوني .
الرابع : يا أيها التابعي خافني .
الخامس : يا ايها المسلم خافني.
السادس : يا ايتها المسلمة خافيني .
السابع : يا أيها المسلمون خافوني .
الثامن : يا أيتها المسلمات خافني.
وهل يشمل الأمر بالتخويف في آية البحث المنافقين ، الجواب نعم ، والأصل وجوب خوف الناس جميعاً من الله عز وجل ليكون الإثم الذي يلحق الذين كفروا متعدداً ومركباً من وجوه :
الأول : ترك الذين كفروا واجبهم بالخوف من عند الله والخوف الرهبة والفزع ، وكيفية نفسانية تتجلى بالإنقباض وخفقان القلب خشية من أذى وضرر في قادم الساعات أو الأيام .
والخوف من الله عز وجل عبادة , قال تعالى [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ( )لذا فحينما أمر الله عز وجل المسلمين بالخوف منه سبحانه فانه يريد لهم الثواب بذات الخوف ، وليكون هذا الخوف مقدمة لإتيان الصالحات .
وقد أثنى الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ] ( ) وقد مدح الله عز وجل الأنبياء وشهد لهم بالتقوى ، قال تعالى [الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ] ( ).
والخوف من الله واقية من إرتكاب الآثام ، ومن فعل السيئات ، وهو حرز يوم القيامة .
لذا فقوله تعالى [وَخَافُونِي]نعمة عظيمة من الله عز وجل بها على أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وهو من الدلائل على حاجة الناس إلى القرآن وسلامته من التحريف والتبديل والزيادة والنقص في كلماته وحروفه ، وفيه شاهد على أن قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، بأن حفظ القرآن رسماً ولفظاً ومضموناً ودلالة حاجة للناس جميعاً.
الثاني : إصرار الذين كفروا على الجحود بالنبوة والتنزيل .
الثالث : مسارعة الذين كفروا بالضلالة والفسوق ، فقد نعتت الآية السابقة الذين كفروا بأنهم يسارعون في الكفر ، وفيه دعوة للعلماء لإحصاء ضروب وكيفية المسارعة في الكفر ، وبيان قبحها وموضوعها وهي من الكلي المشكك والمتباين من وجوه :
أولاً : كل فرد من الكفار يهرول نحو أسباب الجحود بكيفية خاصة من الضلالة .
ثانياً : يقع الإتباع في بعض وجوه المسارعة عن أمر المتبوع، فهناك تابع مأمور ، وفي التنزيل في أهوال يوم القيامة وما ينتظر المشركين من العذاب [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ] ( ) .
ثالثاً : من المسارعة في الكفر الخروج في الجيش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنه إنفاق المال في هذه المحاربة وإذا كانت النساء لا تقاتل ، فمنهن من تبذل المال للمشركين في قتالهم ، وهذا البذل من المسارعة في الكفر والضلالة .
وأيهما أشد كفراً الخروج بالسيف لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو التبرع بالمال لذات جيش المشركين .
الجواب هو الأول ، وإن كان كل فرد منهما من المسارعة في الكفر والضلالة .
السابعة : من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) المناجاة والتعاون بين المسلمين في الخوف والخشية من الله عز وجل ليأتي لهم الثواب العام والخاص ، أي من الثواب ما يأتيهم ويتغشاهم جميعاً ومنه ما يأتي لكل فرد منهم بلحاظ كم وكيف خوفه وخشيته من الله ، وإنتفاعه من هذا الخوف في أمور دينه ودنياه.
وهل يمكن القول بأن الدنيا دار الخوف من الله ، الجواب نعم.
ليكون من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الآخرة وَالْأُولَى] ( ) أن الذي يخاف منه تعالى في الأولى يأمن من الخوف في الآخرة ، وهو من مصاديق [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) .
المسألة السادسة : ترى هل من صلة بين تخويف الشيطان للذين كفروا وبين شرائهم الكفر بثمن عظيم لا يصلح للبيع وهو الإيمان ، الجواب نعم ، من وجوه :
الأول : تخويف الشيطان ، وإختصاص هذا التخويف بالذين كفروا باعث للسكينة في نفوس المؤمنين .
الثاني : هجران الإيمان سبب للخوف من الشيطان .
الثالث : من رشحات الكفر الخوف والخشية من الشيطان ، وتبين كل من آية البحث والسياق أن العصمة من الكفر سلامة من الخوف من الشيطان .
وفي ذم الشيطان وشدة ونجاة المؤمنين من كيده ومكره وسلطانه ، قال الله تعالى مخاطباً النبي صلى الله عليه وآله وسلم [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ]( ).
الرابع : ولاية الشيطان إبتعاد عن سنن الإيمان .
ومن خصائص الخوف من الشيطان وعقوبته العاجلة جلب الغم والحزن والقلق ، والإرباك وكثرة التردد في الفعل ، بينما لا يجلب الخوف من الله إلا الغبطة والعز ، ويكون الخوف من الله عاما وخاصا ، ليجتمعا معاً فيزداد المؤمنون إيماناً .
ونزل قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ) ، بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار وخروجهم إلى حمراء الأسد في اليوم السادس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة بعد واقعة أحد بيوم واحد ، فمع كثرة عدد الشهداء الذين سقطوا في معركة أحد ، وشدة الجراحات التي أصابت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه يومئذ فانهم لم يخافوا من الذين كفروا وكثرتهم وأسلحتهم وولايتهم للشيطان ، إنما خرجوا لمطاردتهم بعد أن بلغهم عزمهم على الكرة على المدينة وغزوها .
ونزل جبرئيل عليه السلام بالأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج لبيان وجوه :
الأول : الخوف من الله واقية وحرز من الخوف من الذين كفروا.
الثاني : تجلي قانون وهو إنصراف ودفع ضرر الذين كفروا بالتوكل على الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) بتقريب أنه لن يضروكم لخوفكم من الله عز وجل ، ليكون من الأجر والثواب العاجل من عند الله عز وجل على الخوف منه صرف كيد ومكر الذين كفروا ،وهو من عمومات قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( )، فالخوف من الله واقية من شرور الشيطان والخوف منه.
الثالث : ترتب الأثر في الوجود الذهني عند المسلمين والمشركين لحضور الملائكة معركة أحد ونصرتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ويتصف هذا الأثر بأنه يزيد المؤمنين إيماناً ويجعلهم يخلصون في التوكل على الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ]( ).
ليكون من منافع قوله تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
ولم يرد لفظ تستغيثون في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان إلحاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء، وكذا أصحابه، ومن منافع نزول الملائكة يوم معركة بدر وجوه :
الأول : تحقيق النصر القاطع والتام للمسلمين من جهات .
الأولى : سرعة النصر.
الثانية : قلة خسائر المسلمين، إذ كان عدد قتلاهم أربعة عشر شهيدا ، وهم على شعبتين :
الأولى : ستة من المهاجرين وهم :
الأول : عبيدة بن الحارث بن المطلب، قطعت رجله يوم بدر فمات بموضع اسمه الصفراء.
الثاني : عمير بن أبي وقاص، أخو سعد بن أبى وقاص الزهري قتله العاص بن سعيد وهو ابن ست عشرة سنة، وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجوع لصغره فبكى فأذن له في الذهاب فقتل شهيدا.
الثالث : ذو الشمالين ابن عبد عمرو الخزاعى.
الرابع : صفوان بن بيضاء.
الخامس : عاقل بن البكير الليثي حليف بني عدي.
السادس : مهجع مولى عمر بن الخطاب , وكان أول قتيل قتل من المسلمين يومئذ.
الثانية : من الانصار ثمانية شهداء وهم:
الأول : حارثة بن سراقة رماه حبان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فمات.
الثاني : معوذ بن الحارث.
الثالث : عوف بن الحارث , ويقال لهما ابنا عفراء.
الرابع : عمير بن الحمام.
الخامس : رافع بن المعلى بن لوذان.
السادس : سعد بن خيثمة.
السابع : مبشر بن عبد المنذر.
الثامن : يزيد بن الحارث ويقال له ابن فُسحم( ).
المسألة السابعة : هل من موضوعية لتخويف الشيطان للذين كفروا في مسارعتهم في الكفر ، الجواب نعم ، ليكون تقدير الجمع بين هذه الآيات على وجوه :
الأول : ولا يحزنك إضافة الشيطان لأوليائه .
الثاني : ولا يحزنك مسارعة الذين كفروا بسبب تخويف الشيطان لهم .
الثالث : ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، بذاتهم وأشخاصهم ، وقبيح أفعالهم .
الرابع : ولا يحزنك الذين يخوفهم الشيطان فان النصر قريب ، وفي التنزيل [حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ] ( ).
ومن معاني الجمع بين بين الآيات دعوة الناس إلى عدم الإصغاء إلى الشيطان ووساوسه وعدم الخشية منه ، لأن العصمة منه مقدمة للتوبة وسبيل للهداية .
وهناك مسائل :
الأولى : تخويف الشيطان سبيل في مسارعة الذين كفروا بالكفر.
الثانية : مسارعة الذين كفروا بالكفر سبب لتخويف الشيطان لهم .
الثالثة : تخويف الشيطان لأوليائه مقدمة وسبب لشرائهم الكفر بالإيمان .
الرابعة : بذل الذين كفروا الإيمان والعقيدة الواجبة عليهم عوضاً وثمناً للكفر والتلبس به سبب ومقدمة لتخويف الشيطان لهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وليس من دور بينها , فقد إنقاد الذين كفروا للهوى ، واتبعوا الشهوة ومالوا عن جادة الصواب وكان الشيطان بانتظارهم بعد أن بذل الجهد في إغوائهم عن بعد ، أي أنه أصغر وأدنى من أن يؤثر على بني آدم ، ولكن الكافرين هم الذين ينقادون إليه ، وبه يحتج إبليس عليهم يوم القيامة ، إذ ورد في التنزيل حكاية عن لسانه [وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ] ( ).
وانفردت الآية أعلاه بذكر كلمات لم ترد في غيرها من آيات القرآن وهي :
الأولى :وعدتكم
الثانية : أخلفتكم .
الثالثة : دعوتكم .
الرابعة : استجبتم .
الخامسة : تلوموني .
السادسة : لوموا .
السابعة : مصرخكم .
الثامنة : مصرخي .
التاسعة : اشركتموني .
ليكون من إعجاز الآية أعلاه أن الكلمات التي وردت فيها على نحو الخصوص أكثر من الكلمات التي تكررت فيها وفي آيات قرآنية أخرى ومع أن أكثرها تبدأ بحرف عطف أو جر ، فقد ذكرنا إنفراد هذه الآية بذكرها من غير هذه الحروف في معجزة أخرى في مضامين هذه الآية.
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : من خصائص الحياة الدنيا التضاد بين الإيمان والكفر ليحضر هذا التضاد يوم القيامة ، ويكون موضوعاً ومادة للحساب ، وعلة لإثابة المؤمنين وعقاب الآخرين .
وقد ذكرت آية البحث وبصيغة الذم الذين كفروا , وكيف أنهم إختاروا التفريط بالأمانة العقائدية التي يحملها كل إنسان والتي هي من رشحات قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) .
فجاءت آية البحث تذكيرا ًلهم وللناس جميعاً بلزوم التوبة والإنابة ، وقد نزلت في أيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد هجرته إلى المدينة لتبقى مضامينها القدسية تلاقي كل الذين يولدون بعد نزولها ، وقبل أن يصلوا إلى سن البلوغ وبعده .
ومن إعجاز القرآن وتجليه في أحكام القرآن وسنن الشريعة تكرار هذه الملاقاة كل يوم بتلاوة المسلمين والمسلمات لآيات القرآن في الصلاة اليومية ، وابتدأت آية السياق بحرف العطف الفاء [فَانْقَلَبُوا] والذي يدل بالدلالة التضمنية على إتصال موضوعها بالآية التي قبلها خاصة وأنها جاءت بواو الجماعة والذي يعلم المراد منه بلحاظ الآية السابقة ، لتتجلى الحاجة للرجوع إلى أكثر من آية سابقة , إذ ذكرتهم الآية السابقة لآية السياق ثلاث مرات بالضمائر ونحوها بقوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ).
فقد ذكرتهم الآية أعلاه سبع مرات :
الأولى : الاسم الموصول (الذين) .
الثانية : الضمير (هم) في قال لهم .
الثالثة : الضمير المتصل المبني على الضم (الكاف) في [قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ] ( ) والميم علامة جمع المذكر .
الرابعة : واو الجماعة في (فاخشوهم) .
الخامسة :الضمير (هم) في فزادهم .
السادسة : واو الجماعة في [وَقَالُوا].
السابعة : ضمير المتكلمين (نا) في [حَسْبُنَا اللَّهُ].
وفي ذكر المسلمين بالمتعدد من الضمائر والاسم الموصول في آية واحدة مسائل :
الأولى : إكرام المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثانية : الثناء على الذين ذكرتهم الآية لدلالة موضوعها على الصبر والتحمل ، وملاقاة أضعافهم من جيش المشركين في معركة أحد ثم الخروج في مطادرته في اليوم التالي النازل من عند الله ، وهو من عمومات الإستجابة لقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا]( )، لبيان أن الصبر والتوكل على الله زيادة في الإيمان وسبب لمضاعفته وثوابه .
الثالثة : النفير لمطاردة العدو بعد ورود أخبار بعزمهم على الرجوع من الطريق للإغارة على المدينة ، وفيه شاهد على قانون لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم جيشاً .
لقد استأجر أبو أسفيان الفين من الرجال يومئذ لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينل أو يدرك أي غاية من الغايات الخبيثة التي جعلها رؤساء الضلالة نصب أعينهم ، وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الارض استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وآلهما( ).
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرّغب بالهجرة وليس التحدي والقتال وهو تفسير ومصداق لقوله تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
وكان من غاياتهم قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأرادوا العودة للقتال ، وأطمعهم في العودة كثرة قتلى المسلمين , وشدة الجراحات التي أصابت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعامة أصحابه يومئذ .
ليكون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين خلف المشركين يومئذ من مصاديق بعث الخوف والفزع في قلوبهم , فهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
إذ لم يقع قتال في هذا الخروج ، وهو من الشواهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغزُ جيشاً مع كون هذا الجيش من المشركين ، وتجلى اعتداؤهم بهجومهم على المدينة ، وقتلهم لسبعين من الصحابة ، ومنهم حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذ أصر عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد يوم بدر على أن يبارزهم الإكفاء من قومهم ، ومن بني هاشم عبد المطلب خاصة فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغضب لخصوص قتل حمزة من قبل عبد حبشي هو وحشي أستؤجر ووعد بالعتق ان قتل أحد ثلاثة.
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الإمام علي عليه السلام .
الثالث : حمزة بن عبد المطلب .
وقد جاءت الأجزاء (159-160-161-163-164-165-166-167-169) من هذ التفسير في بيان قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً ، ومع مصاديق متعددة لهذا القانون بلحاظ الكتاب والسنة النبوية والشواهد التأريخية .
وجاء خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد بعد يوم من معركة أحد شاهداً على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز جيشاً أو فرقة أو سرية ، وإن كان هذا الجيش قد هجم على المدينة ، وأسرف في قتل الصحابة ، ونادوا بين كتائبه المتعددة قُتل محمد ، وكان هذا النداء ترديداً وانعكاساً لقول ابن قمئة (قد قتلت محمداً وصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قتل، وقيل : كان الصارخ الشيطان( ).
ليتجلى في سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل في معركة أحد، وكذب وبطلان اشاعة الذين كفروا قانون حفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعجز المتكرر للذين كفروا عن الإضرار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعندما كان في مكة وبعد هجرته إلى المدينة ، وإزدياد عدد المسلمين والمسلمات ، وبناء صرح الإيمان ، وفي التنزيل [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
وحينما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد ، أقاموا فيها ثلاثة أيام ، ولم يلاحقوا جيش المشركين ، إنما تركوهم وشأنهم في الإنصراف إلى مكة وإدعاء النصر في معركة أحد.
فلا موضوعية لهذا الإدعاء في أحقاب التأريخ ، إنما يكون المدار على آيات القرآن التي تخص معركة أحد والتي تتصف بخصوصية وهي التوثيق السماوي الصادق للوقائع والأحداث الى جانب السنة النبوية والشواهد ، قال تعالى وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخرة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ .
ومن الإعجاز ودلائل الصدق في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المشركين الذين أدعوا النصر في معركة أحد صاروا على أقسام :
الأول : الذين قتلوا في المعارك اللاحقة .
الثاني : الذين ماتوا قبل فتح مكة .
الثالث : الذين دخلوا الإسلام وهم الأكثر ، وأصبح بعضهم قادة في الدفاع عن الإسلام .
وصحيح أن آية [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] ( )، لم تذكر المقصودين بالثناء والمدح إلا بصيغة الاسم الموصول والضمائر ، إلا أن موضوعها وحده يدل على التعيين ، وفيه بيان بانفراد المؤمنين بالصبر وإظهار الثبات على الإيمان مع شدة تخويف الذين كفروا وإنذارهم ومنه آية البحث التي أختتمت بقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ].
ويدل إبتداء الآية بقوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ] ( ) على إتصال موضوع الآية بالآية السابقة والتي تبدأ أيضا بالاسم الموصول [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ) وفيه ثناء عظيم على المهاجرين والأنصار الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد من جهات :
الأولى : الشهادة من عند الله عز وجل بأن الخروج إلى معركة أحد وحمراء الأسد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحت لوائه استجابة لله عز وجل .
وفيه بشارة للنفع العاجل والثواب العظيم للمؤمنين، وشاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما أعلن النفير في اليوم التالي لمعركة أحد مع كثرة وشدة جراحاته وجراحات أصحابه إنما كان بأمر من عند الله عز وجل ، وفي التنزيل [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا]( ).
فلا يأتي أحد في الأزمنة اللاحقة ويقول كيف يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمائتين ونيف من أصحابه وبعضهم محمول على الراحلة ليطارد نحو ثلاثة آلاف رجل من المشركين ، ممن رآى نوع كسب وغلبة لهم في بعض جولات معركة أحد بعد أن وتروا قبله بعام بقتل سبعين وأسر سبعين منهم في معركة بدر.
ولا تختص طاعة الله ورسوله بميادين الدفاع إنما هي أمر عرضي يطرأ بسبب تعدي وهجوم الذين كفروا ، وكانت وفود القبائل تأتي إلى المدينة للإطلاع على أحكام الإسلام ، ودخوله ، وتعلم الصلاة والعبادات الأخرى كالصيام والزكاة .
وعن ابن عباس قال : جاء أعرابي من بني سعد بن بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليك يا غلام بني عبد المطلب .
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : وعليك السلام، فقال : إني رجل من أخوالك من بني سعد بن بكر ، وأنا رسول قومي إليك ووافدهم ، وإني مسائلك فمشتدة مسألتي إياك ، ومناشدك ، فمشتدة مناشدتي إياك .
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : سل يا أخا بني سعد بن بكر. فقال : من خلقك وخلق من قبلك ومن هو مخلوق بعدك ؟ فقال : الله .
قال : فنشدتك بذلك ، أهو أرسلك ؟ .
قال : نعم قال : من خلق السماوات السبع والأرضين السبع ، وأجرى بينهن الرزق ؟ قال : الله قال : فنشدتك بذلك ، أهو أرسلك ؟ قال : نعم .
قال : فإنا قد وجدنا في كتابك وأمرتنا رسلك أن نصلي بالليل والنهار خمس صلوات لمواقيتها ، فنشدتك بذلك أهو أمرك ؟ قال : نعم قال : فإنا وجدنا في كتابك وأمرتنا رسلك أن نصوم شهر رمضان ، فنشدتك بذلك أهو أمرك ؟ قال : نعم .
قال : فإنا وجدنا في كتابك وأمرتنا رسلك أن نأخذ من حواشي أموالنا ، فنجعله في فقرائنا ، فنشدتك بذلك أهو أمرك ؟ قال : نعم قال : ثم قال : أما الخامسة فلست بسائل عنها ، ولا أرب لي فيها ، يعني : الفواحش . ثم قال : أما والذي بعثك بالحق ، لأعملن بها ومن أطاعني من قومي ، ثم رجع ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال : لئن صدق ليدخلن الجنة بها( ).
الثانية : تفضل الله عز وجل بتأكيد رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه دخل معركة أحد بصفة الرسالة ، وفيه شاهد بأنه لم يغز ولم يسع للقتال ، إنما خرج للدفاع ودفع الذين اشتروا الكفر بالإيمان ، ولبيان حقيقة وهي أن الكفار لم يجعلوا الإيمان الواجب عليهم وحده عوضاً وبدلاً لشرائهم الكفر ، إنما ارادوا التفريط بايمان غيرهم ، وحمل طائفة من المسلمين على الإرتداد فارجع الله كيدهم إلى نحورهم .
ترى لماذا لم تقل الآية (الذين استجابوا لله واستجابوا للرسول) الجواب لبيان الإتحاد في أمر الله ورسوله وأن أمر الله عز وجل يأتي بالوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيبلغه المسلمين والناس .
وهل يصح تقدير الآية : الذين استجابوا لله واستجابوا لجبرئيل واستجابوا للرسول ) الجواب إنما كان جبرئيل واسطة ملكوتية لتبليغ الآيات والأوامر والأحكام من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس من مصاديق رسالته صدور الأمر الخاص منه ، قال تعالى [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ] ( ).
الثالثة : نعت ومدح المهاجرين والأنصار لاصابتهم بالجراحات الشديدة ، ويحتمل الضمير [هُمْ]في قوله [مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ] ( ) وجوهاً :
الأول : المراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت صيغة الجمع للإكرام والتشريف وتقدير الآية : من بعد ما أصاب الرسول القرح ) لبيان قانون وهو استجابة المسلمين لله عز وجل والرسول حتى مع شدة الجراحات ، وفيه جهات :
الأولى : صدور الأوامر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى مع كثرة جراحاته .
الثانية : عدم تعطيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوظائف الرسول في اي ساعة من ساعات حياته ، وقد أخبر القرآن عن كيفية خروجه إلى معركة أحد بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وحينما جاء والجراحات تغطي وجهه وبدنه لم يدخل البيت ويبقى فيه ليتلقى العلاج ويعوده المسلمون.
وبات في المسجد ووجوه الأوس والخزرج يحرسون النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم :
الأول : سعد بن عبادة .
الثاني : حباب بن المنذر .
الثالث : سعد بن معاذ .
الرابع : أوس بن خولي .
الخامس : قتادة بن النعمان .
السادس : عبيد بن أوس .
ولما صلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه صلاة الصبح أمر بلالاً أن ينادي في المسلمين لندبهم للخروج للقاء العدو الذين همّوا بالرجوع للقتال .
وهل هذا الهم من شراء الكفر بالإيمان الجواب نعم ، لذا فمن خصائص آية البحث زجر الناس عن نصرة الذين كفروا ، وقال ابن إسحاق : وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس طلب العدو وأذن مؤذنه أن لا يخرج معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالامس ( ).
وجاء الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم اثنان للإستئذان بالخروج لأنهما لم يخرجا في اليوم السابق إلى معركة أحد وهما :
الأول : الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري، وقال: يا رسول الله ان أبي كان خلفني على سبع أخوات لي يوم أمس عندما خرج إلى معركة أحد وقال : يا بني إنه لا ينبغي لي ولك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ، وأنا أرغب بالخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع فتخلف على أخواتك ، فاستجبت له ، وقد استشهد أبي يوم أمس فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : عبد الله بن أبي بن أبي سلول رأس النفاق والذي انخزل من وسط الطريق إلى أحد بثلاثمائة رجل.
وقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (أركب معك فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا( ).
وبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمراء الأسد وجاءه معبد بن أبي معبد الخزاعي وكانت خزاعة على حلف مع بني هاشم من قبل أن يدخلوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية في السنة السادسة للهجرة .
فواسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما أصابهم من الخسارة يوم معركة أحد مما يدل على سرعة انتشار أخبار معركة أحد بين القبائل والركبان ، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يلحق بأبي سفيان وجيش المشركين ويخذلهم عن الرجوع للقتال.
ففعل وأخبرهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه جاءوا بجمع كبير لم يخرجوا في مثله ، إذ خرج معه كل أصحابه حتى الذين تخلفوا عن معركة أحد وأنهم قريبون منكم.
وقال معبد لأبي سفيان : مَا أَرَى أَنْ تَرْتَحِلَ حَتّى يَطْلُعَ أَوّلُ الْجَيْشِ مِنْ وَرَاءِ هَذِهِ الْأَكَمَةِ . فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَاَللّهِ لَقَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرّةَ عَلَيْهِمْ لِنَسْتَأْصِلَهُمْ . قَالَ فَلَا تَفْعَلْ فَإِنّي لَك نَاصِحٌ فَرَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ إلَى مَكّةَ .
وَلَقِيَ أَبُو سُفْيَانَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ فَقَالَ هَلْ لَك أَنْ تُبْلِغَ مُحَمّدًا رِسَالَةً وَأُوقِرَ لَك رَاحِلَتَكَ زَبِيبًا إذَا أَتَيْتَ إلَى مَكّةَ ؟ قَالَ نَعَمْ .
قَالَ أَبْلِغْ مُحَمّدًا أَنّا قَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرّةَ لِنَسْتَأْصِلَهُ وَنَسْتَأْصِلَ أَصْحَابَهُ , فَلَمّا بَلَغَهُمْ قَوْلُهُ قَالُوا : { حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتّبَعُوا رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ( ).
الثالثة : دفاع المسلمين عن النبوة والتنزيل على كل حال.
الرابعة : تأكيد قانون إنتفاء الوهن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في دعوتهم إلى الله ، وصبرهم في مسالك مرضاته ، قال تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
الخامسة : بيان مصداق من أسمى مصاديق الصبر قربة الى الله تعالى ، وكيف أنه نفع بذاته وأثره ، قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
الثاني : المراد الجراحات والقروح التي أصابت الصحابة الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد .
الثالث : المقصود الصحابة الذين خرجوا إلى معركة أحد ، وقاتلوا في ميدان المعركة في يوم السبت الخامس عشر من شهر شوال وقيل وقعت معركة أحد في اليوم السابع منه إذ كان عددهم سبعمائة ، وقتل منهم سبعون والباقي نحو ستمائة وثلاثون ، وخرج منهم إلى حمراء الأسد مائتان ونيف .
فيكون المعنى على هذا الوجه ، على وجوه :
أولاً : الذين استجابوا لله والرسول فخرجوا إلى معركة أحد .
ثانياً : الذين استجابوا لله والرسول ، ولم يرجعوا من وسط الطريق الى معركة أحد مع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول.
ثالثاً : الذين استجابوا لله والرسول فخرجوا إلى حمراء الأسد.
المسألة الثانية : تبين آية السياق الفضل العظيم من عند الله عز وجل على المؤمنين بقوله تعالى[فَانْقَلَبُوا].
ترى لماذا جاءت الآية بالفاء ، ولم تقل(وانقلبوا).
الجواب بيان سرعة عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مطاردة الذين كفروا ، إذ بقوا ثلاثة ليال في حمراء الأسد من غير أن يلقوا قتالاً ، وتبعد عن المسجد النبوي اثني عشر كيلو متراً ، وصارت في هذا الزمان من ضواحي المدينة وأنشئت فيها الدور والمساكن والمرافق العامة ، وهو من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكأنه ليس من فترة ووقت معتد به بين قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه [حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( )، وبين عودتهم سالمين إلى المدينة ، ليذهب تخويف ووعيد الذين كفروا أدراج الرياح بينما يلازم التوكل على الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في حلهم وترحالهم , وفي التنزيل[قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
وهل في قوله تعالى[فَانْقَلَبُوا] توبيخ وخيبة للذين كفروا الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
ونزلت الآية أعلاه بخصوص معركة أحد ، لتكون بشارة لسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في خروجهم لحمراء الأسد .
ترى لماذا لم تقل الآية (فانقلبتم) الجواب جاء نظم الآيات بصيغة جماعة الغائب ، ومن أسراره بقاء موضوع الآية غضاً طرياً إلى يوم القيامة ، ويكون تقدير الآية بلحاظ أوانها وموضوع الآية السابقة لها [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( )، على وجوه :
الأول : يا أيها الناس الذين حذرتم النبي والصحابة فانهم انقلبوا بأمان وسلامة).
الثاني : يا أيها الناس تدبروا في معجزة عودة النبي وأصحابه سالمين مع عزم الذين كفروا على استئصالهم.
الثالث : يا أيها الناس انظروا إلى منافع التوكل على الله ، وكيف أنه سلاح وقاية وأمن ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا]( ).
الرابع : يأ أفراد القبائل المحيطة بالمدينة لا تشتروا الكفر بالإيمان ، وتعينوا المشركين في إغارتهم على المدينة وأطرافها ، وسرح أهلها في المراعي التي حولها.
الخامس : يا أهل مكة قد تبين لكم ظلم الذين كفروا فلا تنصروهم.
السادس : في الآية توبيخ للمنافقين ، ودعوة لهم لإصلاح سرائرهم ، والإمتناع عن الميل للذين كفروا وإعانتهم والشماتة بالمسلمين ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخرة كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ]( ).
فقد قال لهم الناس من القبائل المحيطة بالمدينة ان المشركين أعدوا العدة للإجهاز عليكم وعلى المدينة , وتطلعوا لما تؤول إليه الأمور بخروج مائتين ونيف مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثقلين بالجراحات لمطاردة الذين يهددون بالرجوع إلى المدينة .
ومن معاني الخشية قوله تعالى[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ]( )، رجاء هؤلاء الناس رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن وجهته والإكتفاء بالبقاء بالمدينة , والتحصن فيها .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمضي في طريقه بملاحقة القوم بوحي من عند الله عز وجل ، فجبرئيل الذي نزل بالأمر بالخروج لم يفارق النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم تبدأ هذه الخشية بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى حمراء الأسد بل كان التهديد والوعيد من الذين كفروا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه متصلاً ومستمراً قبل معركة بدر ، ولكنه اشتد إزداد بعد وقوعها وخسارة المشركين فيها ، وكان تهديد كفار قريش على وجوه :
الأول : التهديد النوعي والوعيد بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثاني : بعث المشركين الرسائل إلى الصحابة وخاصة المهاجرين يتوعدونهم بالقتل أو الأسر .
الثالث : لقد كان العرب يأتون الى مكة لأداء الحج ، ومناسك العمرة فيبلغهم رؤساء قريش بأنهم يعدون العدة للهجوم على المدينة ، ثم أن هذا الإعداد كان ظاهراً وجلياً.
لقد سأل إبراهيم عليه السلام من قبل الله عز وجل بأن يجعل مكة في أمن كما ورد في التنزيل [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا]( )، فقد صارت بعد معركة بدر ثكنة عسكرية( )، وتسمع أصداء الحرب وجعجعة السلاح في أرجاء مكة ، وإتخذوا من البيت الحرام ودار الندوة محلاً لكيدهم ومكرهم ، والتباحث بخصوص تجهيز الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عيله وآله وسلم , قال تعالى[لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
الرابع : قيام الذين كفروا بأسر بعض المؤمنين وهم في طريقهم الى العمرة ،و ليس معهم سلاح ، وفيه ظلم للبيت الحرام , قال تعالى [وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
الخامس : إرسال المشركين الرسائل الخطية الى المهاجرين وأهل المدينة بقرب زحفهم، وحثهم على التخلي عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيام المشركين ببث هذه الأخبار وتهويلها، وحث الصحابة خاصة الأنصار على القعود، وفي التنزيل [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
السادس : قيام سرايا من المشركين بغزو أطراف المدينة ، والإستحواذ على أنعام أهلها التي في المراعي لبعث الفزع والخوف في قلوب أهلها ولتحريضهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين ، وهو من مصاديق جعل الذين كفروا الإيمان عوضاً وبدلاً للكفر الذين اشتروا.
ترى ما هو أثر ونفع بيان آية السياق لفضل الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بانقلابهم سالمين.
الجواب من جهات:
الأولى : بيان معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخروجه مع عدد من أصحابه الجرحى خلف جيش عرمرم للذين كفروا .
ومن الآيات في المقام أن هذا الجيش لم يكن يسير قاصداً مكة إنما كان رؤساؤه يتلاومون لعودتهم من غير قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ويتناجون بالرجوع الى المدينة.
ولا يرقى هذا التناجي إلى عالم الفعل ولا يعدو أن يكون هماً سرعان ما يتلاشى ، قال تعالى[وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا]( ).
الثانية : دلالة الآية في مفهومها على إبتداء حال جديدة وهي عجز الذين كفروا عن تحقيق تهديدهم ووعيدهم ، وعن الرجوع إلى المدينة للقتال .
الثالثة : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حله وترحاله .
الرابعة : بيان قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا في حال دفاع محض ، فان قلت هل خروجهم الى حمراء الأسد من هذا الدفاع.
الجواب نعم ، لما فيه من بعث الخوف في قلوب الذين كفروا من العودة إلى القتال ، وليكون الخروج إلى حمراء الأسد من مصاديق قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( ).
الخامسة : في عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سالمين من مطاردة الذين كفروا بعث للسكينة في قلوب أهل المدينة رجالاً ونساءً من المسلمين واليهود وغيرهم إذ أظهر خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا حرصه الشديد على سلامتهم وإنقاذهم ودفع الضرر وعزم الكافرين على غزوهم .
وفيه حجة على المنافقين وبيان مصداق لغنى الله عنهم ، وأنهم لن يضروا النبوة والتنزيل , قال تعالى[وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ]( ).
وهل فيه دعوة لمن تبقى من الأوس والخزرج لدخول الإسلام الجواب نعم .
لقد تجلى لأهل المدينة قانون وهو حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، ودفاعه عنهم ، وحينما تم فتح مكة ودخلت قريش في الإسلام ، وظن بعضهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيبقى في مكة بجوار البيت الحرام ، وحيث مولده وأهله وعشيرته .
ولما تم فتح مكة وأعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً من غنائم حنين قال بعض الأنصار : والله إن هذا لهو العجب أن سيوفنا تقطر من دماء قريش وغنائمها ترد عليهم .
وفي رواية عن أنس قال : قال ناس من الانصار حين أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال هوازن، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يعطى رجالا المائة من الابل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطى قريشا , ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم !
قال أنس بن مالك: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الانصار فجمعهم في قبة أدم ولم يدع معهم غيرهم، فلما اجتمعوا قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ” ما حديث بلغني عنكم ؟ ” .
قال فقهاء الانصار: أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطى قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” فإنى لاعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالاموال وتذهبون بالنبي إلى رحالكم ؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به ” قالوا: يا رسول الله قد رضينا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ” فستجدون أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض( ).
ليكون عطاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقريش من غنائم حنين من عمومات آية الصدقات [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
المسألة الثالثة : لقد تضمنت آية السياق الثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين خرجوا معه إلى حمراء الأسد من وجوه :
الأول : تأكيد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف العدو دفاعاً عن الإسلام ، وزجراً لهم من العودة للإغارة على المدينة ببطش , ويتجلى هذا التأكيد بقوله تعالى[فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ]( ).
الثاني : بيان موضوعية الوحي في عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الى المدينة من غير إبطاء بدليل مجئ إبتداء الآية بحرف (الفاء) فانقلبوا ، وفيه مسائل :
الأولى : منع دبيب الخوف إلى قلوب عوائل المؤمنين في المدينة ، خاصة مع الحزن الذي لحقهم بسبب الخسارة الجسيمة للمسلمين في معركة أحد ، قال تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( )، فالعودة السريعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه باعث للسكينة في النفوس .
وفي العلم الجنائي : الوقت الذي يمر هو حقيقة تفر , ولكن القرآن جاء بتوثيق الحقائق وعصمتها من التحريف لتبقى تلك الحقائق ظاهرة وجلية الى يوم القيامة.
الثانية : اغاظة المنافقين والمنافقات ، ومنعهم من بث الأراجيف في المدينة لو طال غياب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عنها ، خاصة وأن مجالس العزاء والرثاء على سبعين شهيداً في معركة أحد كانت قائمة ، وفي التنزيل[الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الثالثة : إرادة حال الإستقرار والأمن في مجتمعات المدينة بوجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم ، وعن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنزل الله علي أمانين لأمتي[وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]( )، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة ( ).
الرابعة : قيام النبي بأداء الصلاة خمس مرات في اليوم في المسجد النبوي إماماً للمسلمين ، وهذه الصلاة شاهد على سلامته والتنزيل من كيد وعدوان الذين كفروا , وهي رسالة سلام وموادعة مع الناس جميعاً.
وبعد أن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في البيت الحرام بمفرده وخلفه زوجه خديجة والإمام علي عليه السلام في حيطة وحذر وأذى من الذين كفروا صار يؤم المسلمين والمسلمات في مسجده في المدينة بأمان ورحمة من عند الله.
الخامسة : دلالة لفظ (فانقلبوا) على عدم وقوع قتل بين صفوف المسلمين الذين خرجوا الى حمراء الأسد وهو نوع مواساة لعامة المسلمين لما أصابهم في معركة أحد.
الثالث : بيان صبغة عودة وإنقلاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الى المدينة بأنه مقرون بالنعمة من عند الله ، وهي الجائزة والثواب العاجل ، لقوله تعالى[فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] ولو دار الأمر بخصوص هذه النعمة بين أمور :
أولاً : إتحاد فرد وجنس هذه النعمة .
ثانياً : تعدد أفراد هذه النعمة مع إتحاد جنسها .
ثالثاً : تعدد أفراد وجنس هذه النعمة .
فالصحيح هو الأخير أعلاه ، لإفادة لفظ النعمة معنى الجنس ، ولأن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى , وقد ورد لفظ (انقلبوا) خمس مرات في القرآن منها مرتان في آية واحدة من خمس كلمات بقوله تعالى[وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ]( ) .
ولم يرد لفظ (فانقلبوا) باضافة الفاء في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان أن هذه العودة السريعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة من مطارة العدو نعمة عظمى اختصوا بها لتكون عيداً للمسلمين إلى يوم القيامة .
وفي قوله تعالى[هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ]( ) ورد عن ابن عباس أنه كان يحدث عن عيسى ابن مريم أنه قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً؟ ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم ، فإن أجر العامل على من عمل له ، ففعلوا.
ثم قالوا : يا معلم الخير قلت لنا إن أجر العامل على من عمل له ، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا ، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا ، { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } إلى قوله {أحداً من العالمين}( ).
فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم( ).
ولو خرج منافق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد فهل تشمله النعم والفضل الإلهي بالإنقلاب الى المدينة ، الجواب فيه تفصيل إذ تعم النعم العامة دون الخاصة .
وهل هو من أسباب امتناع النبي صلى الله عيله وآله وسلم عن إجابة رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول للخروج معه يومئذ , الجواب نعم.
وهو من الإعجاز في إتصال مضامين آية السياق بالآية التي قبلها وإظهار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حسن التوكل على الله ، والإخلاص في عبادته ، والمنافق لا يقول (حسبي الله ونعم الوكيل) وإن قالها فهي لا تعدو اللسان بالإضافة إلى مجئ الآية قبل السابقة بنعت المسلمين بالمؤمنين بقوله تعالى[وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
ترى ما هي النسبة بين الخوف من الله الذي تذكره الآية أعلاه وبين التوكل عليه سبحانه الذي يتجلى في خاتمة آية السياق ، المختار هو العموم والخصوص المطلق وأن التوكل على الله عز وجل فرع الخوف منه سبحانه .
نعم علة وموضوع التوكل على الله أعم من الخوف منه سبحانه ، ومنه حب الله وشكره على النعم والتسليم بأن مقاليد الأمور كلها بيده سبحانه .
وعن الإمام علي عليه السلام أنه قال : إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الاحرار( ).
الرابع : بيان قانون وهو من النعم الإلهية ما تكون حاضرة وجزاء عاجلاً على طاعة الله ورسوله في المهمات، فلم يخوض المسلمون قتالاً في حمراء الأسد إنما كانت منافع هذا الخروج أعظم من القتال وهو من مصاديق عدم حاجة النبوة للغزو والقتال فيخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مطاردة جيوش الذين كفروا لتتوالى عليهم النعم الحالة واللاحقة .
الخامس : إخبار آية السياق عن قوانين :
الأول : لا يهب النعم إلا الله.
الثاني : لا يمنع الفضل العظيم إلا الله.
الثالث : لا يقدر على هبة النعم والفضل معاً إلا الله عز وجل .
الرابع : من فضل الله أنه يهب النعم والفضل على المتعدد من الناس في الموضوع المتحد .
الخامس : لا يقدر على صرف السوء والأذى عن الناس مجتمعين ومتفرقين إلا الله عز وجل ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يغني حذر من قدر ، والدعاء ينفع ممّا نزل ومما لم ينزل ، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة( ).
وقد اجتمعت هذه القوانين في الهبات والإحسان من الله عز وجل في خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد، مع خلوه من القتال والحرب، ليفيد الجمع بين آية البحث والسياق قانوناً وهو أن هجوم وتعدي الذين كفروا على المسلمين والمدينة المنورة لم يجلب لهم إلا الضرر والحرمان من النصيب والحظ وصاروا سبباً لخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مع شدة جراحاتهم خلف جيش المشركين وفوزهم بالرفعة والعز والذكر الحسن في الأجيال المتعاقبة ، بشهادة آية السياق لهم ومجئ آية البحث بذم الذين كفروا .
وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه، لا يعوج فيقوّم , ولا يزيغ فيستعتب , ولا تقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد، فاقرأوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما أني لا أقول ألم حرف , ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة( ).
لقد زحف ثلاثة آلاف من الكفار في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وخاضوا معركة أحد ، لتفضحهم آية البحث وتتضمن الإخبار عن كونهم اشتروا الكفر وبذلوا بدلاً عنه الإيمان ، ولم يكتفوا بهذا البذل إنما حاربوا الإيمان وأهله ، وسعوا في صد الناس عنه في جحود منهم بالنعم ، وإنكار للآيات وبراهين الرسالة ، قال تعالى[إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً * نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً]( ) .
ثم اختاروا قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي أن قتال المشركين في معركة بدر وأحد والخندق هو غير شراء الكفر الذي تذكره آية البحث ، ليكون قتال المشركين هذا على وجوه :
الأول : إنه فرع شراء الكفر .
الثاني : إنه كفر وضلالة .
الثالث : إنه دعوة للكفر والظلم والتعدي .
لذا تفضل الله عز وجل بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معركة بدر , قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، لبيان قانون وهو أن عاقبة شراء الكفر والضلالة الخزي في النشأتين ، وأن المال والجاه والقوة التي عند الذين كفروا ليست برزخاً وسبباً دون هزيمتهم وخسارتهم .
السادس : إخبار آية البحث عن اتباع المؤمنين مرضاة الله في قولهم وعملهم ، وإخلاصهم وحسن أدائهم للواجبات العبادية ، لبيان قانون وهو أن كثرة تعدي الذين كفروا وغزوهم المتكرر للمدينة لم يدفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة ليقابلوهم بالمثل ، أو أن يتخلوا عن واجباتهم في أداء الصلاة والزكاة والصيام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ]( ).
المسألة الرابعة : أخبرت آية السياق عن إنقلاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالنعم والفضل من عند الله عز وجل ، وفيه بعث للغيظ والحنق في نفوس الذين كفروا ، سواء أفراد الجيش الذين زحفوا على المدينة في معركة أحد ، أو الذين من خلفهم ممن ساهم في تجهيز الجيش بالمال والسلاح ، ورغّب وحث على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال أبو أحمد بن جحش في التفاخر بالهجرة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولوم الذين أصروا على الكفر :
لَمّا رَأَتْنِي أُمّ أَحْمَدَ غَادِيًا … بِذِمّةِ مَنْ أَخْشَى بِغَيْبٍ وَأَرْهَبُ
تَقُولُ فَإِمّا كُنْتَ لَا بُدّ فَاعِلًا … فَيَمّمْ بِنَا الْبُلْدَانَ ولتَنْأَ يَثْرِبَ
فَقُلْت لَهَا : بَلْ يَثْرِبُ الْيَوْمَ وَجْهُنَا … وَمَا يَشإِ الرّحْمَنُ فَالْعَبْدُ يَرْكَبُ
إلَى اللّهِ وَجْهِي وَالرّسُولِ وَمَنْ يُقِمْ … إلَى اللّهِ يَوْمًا وَجْهَهُ لَا يُخَيّبُ
فَكَمْ قَدْ تَرَكْنَا مِنْ حَمِيمٍ مُنَاصِحٍ … وَنَاصِحَةٍ تَبْكِي بِدَمْعٍ وَتَنْدُبُ
تَرَى أَنّ وِتْرًا نَأْيُنَا عَنْ بِلَادِنَا … وَنَحْنُ نَرَى أَنّ الرّغَائِبَ نَطْلُبُ
دَعَوْت بَنِي غَنْمٍ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ … وَلِلْحَقّ لَمّا لَاحَ لِلنّاسِ مَلْحَبُ
أَجَابُوا بِحَمْدِ اللّهِ لَمّا دَعَاهُمْ … إلَى الْحَقّ دَاعٍ وَالنّجَاحُ فَأَوْعَبُوا
وَكُنّا وَأَصْحَابًا لَنَا فَارَقُوا الْهُدَى … أَعَانُوا عَلَيْنَا بِالسّلَاحِ وأجْلَبوا
كَفَوْجَيْنِ أَمّا مِنْهُمَا فَمُوَفّقٌ … عَلَى الْحَقّ مَهْدِيّ ، وَفَوْجٌ مُعَذّبُ
طَغَوْا وَتَمَنّوْا كِذْبَةً وَأَزَلّهُمْ … عَنْ الْحَقّ إبْلِيسُ فَخَابُوا وَخُيّبُوا
وَرِعْنَا إلَى قَوْلِ النّبِيّ مُحَمّدٍ … فَطَابَ وُلَاةُ الْحَقّ مِنّا وطُيّبوا
نَمُتّ بِأَرْحَامٍ إلَيْهِمْ قَرِيبَةٍ … وَلَا قُرْبَ بِالْأَرْحَامِ إذْ لَا نُقَرّبُ
فَأَيّ ابن أُخْتٍ بَعْدَنَا يَأْمَنَنّكُمْ … وَأَيّةُ صِهْرٍ بَعْدَ صِهْرِي تُرْقَبُ
سَتَعْلَمُ يَوْمًا أَيّنَا إذْ تُزَايِلُوا … وَزُيّلَ أَمْرُ النّاسِ لِلْحَقّ أَصْوَبُ ( ).
لقد وصلت قافلة أبي سفيان إلى مكة سالمة محملة بالبضائع ، وفيها ذهب وفضة فلم توزع البضائع والتجارات القادمة من الشام على أهلها وأصحابها ، إنما بقيت في باب المسجد الحرام ، ثم مشى بعض رؤساء قريش إلى أصحابها ، وسألوهم تسخيرها في إعداد الجيش للمعركة اللاحقة بعد خسارتهم في معركة بدر ، ولم يكن يومئذ اسم المعركة أو موضعها عند جبل أحد قد تعينا .
ويدل استئجار أبي سفيان الفين من الرجال لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عجز قريش عن مواجهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مع قلة عددهم لأنهم كانوا يدافعون باخلاص وتفان وحب لقاء الله عز وجل بايمانهم ودمائهم ، وهو الذي تجلى للكفار والناس عامة في معركة بدر قبل وأثناء وبعد المعركة .
وعن إسحاق بن يسار وغيره مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ الأَنْصَارِ ، قَالُوا : لَمّا اطْمَأَنّ الْقَوْمُ بَعَثُوا عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ الجُمَحِيّ فَقَالُوا : احْزُرُوا لَنَا أَصْحَابَ مُحَمّدٍ .
فَاسْتَجَالَ بِفَرَسِهِ حَوْلَ الْعَسْكَرِ ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِمْ فَقَالَ ثَلَاثُ مِئَةٍ رَجُلٍ يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ .
وَلَكِنْ أَمْهِلُونِي حَتّى أَنْظُرَ أَلِلْقَوْمِ كَمِينٌ أَوْ مَدَدٌ .
فَضَرَبَ فِي الْوَادِي حَتّى أَبْعَدَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا ، فَرَجَعَ إلَيْهِمْ فَقَالَ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا ، وَلَكِنّي قَدْ رَأَيْتُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، الْبَلَايَا تَحْمِلُ الْمَنَايَا ، نَوَاضِحُ( )، يَثْرِبَ تَحْمِلُ الْمَوْتَ النّاقِعَ( ).
قَوْمٌ لَيْسَ مَعَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ إلّا سُيُوفُهُمْ وَاَللّهِ مَا أَرَى أَنْ يُقْتَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتّى يَقْتُلَ رَجُلًا مِنْكُمْ فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ أَعْدَادَهُمْ فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ فَرُوا رَأْيَكُمْ( ).
المسألة الخامسة : اختتمت آية السياق ببيان فضل الله عز وجل على المؤمنين بقوله تعالى[وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] وفيه دعوة للناس جميعاً للإنتفاع والنهل من فضله الذي ليس له حد أو منتهى.
وجاءت الآية بصيغة التنكير (فضل عظيم) لبيان سعة وكثرة فضل الله ، وأن خزائنه لا تنقص أبداً.
بينما أختتمت آية البحث بالتخويف والوعيد التخويف للناس من التلبس بالكفر ، ومن التفريط بالإيمان ، والوعيد للكفار بأن لهم عذاباً اليماً.
وقانون خواتيم الآيات القرآنية مدرسة عقائدية متجددة ، ودعوة للتوبة والإنابة ، وباعث على الصلاح والإصلاح.
الشعبة الثانية : الصلة بين آية البحث والآيات المجاورة التالية وفيها وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بقوله تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ) ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لقد وصفت هذه الآيات الذين كفروا بأوصاف، وهي :
الأول : ذكرت الآية قبل السابقة الذين كفروا بأنهم أولياء الشيطان ، وأنه يقوم بتخويفهم ، بقوله تعالى[ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ]( ).
الثاني : ذكرتهم الآية السابقة بصفة [يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ]( ).
الثالث : نعت آية البحث للذين كفروا بأنهم اشتروا الكفر بالإيمان ، ويحتمل خروج كفار قريش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وأحد والخندق وجوهاً :
أولاً : إنه كفر ومن مقدمات المسارعة في الكفر وشرائه .
ثانياً : إنه من الكفر والمسارعة فيه .
ثالثاً : إنه من رشحات وآثار المسارعة في الكفر.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، إذ أن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد ضروب الكفر ، وتؤدي إلى الهلاك ، لذا قال الله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
ولتشمل الآية أعلاه أفراد الزمان الطولية الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل ، ففي الزمن الماضي هلكت طائفة من الذين كفروا في معركة بدر من جهات :
الأولى : قتل سبعين من مشركي قريش ، ومن بينهم بعض الرؤساء .
الثانية : أسر المسلمين لسبعين من المشركين فصار أهليهم يخشون عليهم القتل ، ويخافون من دخولهم الإسلام لما فيه من حجة على الذين كفروا , وتأكيد علة بقائهم على الكفر أنهم في غفلة من معجزات النبوة.
وعن جابر بن عامر قال : أسر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر سبعين اسيرا وكان يفادى بهم على قدر اموالهم وكان اهل مكة يكتبون واهل المدينة لا يكتبون فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم فإذا حذقوا فهو فداؤه ( ).
وقال : أستوصوا بهم خيراً) ( )، أي أوصوا أهليكم والناس باللطف والإحسان للأسرى ، ويدل في مفهومه على توصية ذات الصحابة بهم ، وفي التنزيل [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا]( )، ولابد من بيان مسائل :
الأولى : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفكاك عدد من الأسرى ، وتركهم يعودون إلى مكة من غير بدل أو فداء .
الثانية : لم يأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فداء الأسرى إنما كان هذا الفداء للصحابي الذي قام بأسر الأسير .
الثالثة : أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالعناية بالأسرى .
وعن ابن إسحاق قال : وَكَانَ أَبُو عَزِيزٍ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ ، أَخُو مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ لِأَبِيهِ وَأُمّهِ فِي الْأُسَارَى . قَالَ فَقَالَ أَبُو عَزِيزٍ مَرّ بِي أَخِي مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَأْسِرُنِي ، فَقَالَ شُدّ يَدَيْك بِهِ فَإِنّ أُمّهُ ذَاتُ مَتَاعٍ لَعَلّهَا تَفْدِيهِ مِنْك ، قَالَ وَكُنْتُ فِي رَهْطٍ مِنْ الْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلُوا بِي مِنْ بَدْرٍ فَكَانُوا إذَا قَدّمُوا غَدَاءَهُمْ وَعَشَاءَهُمْ خَصّونِي بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التّمْرَ لِوَصِيّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إيّاهُمْ بِنَا ، مَا تَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةُ خُبْزٍ إلّا نَفَحَنِي بِهَا .
قَالَ فَأَسْتَحْيِيَ فَأَرُدّهَا عَلَى أَحَدِهِمْ فَيَرُدّهَا عَلَيّ ما يَمَسّهَا قَالَ ابن هِشَامٍ وَكَانَ أَبُو عَزِيزٍ صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرِ بَعْدً النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ فَلَمّا قَالَ أَخُوهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ لِأَبِي الْيَسَرِ وَهُوَ الّذِي أَسَرَهُ مَا قَالَ قَالَ لَهُ أَبُو عَزِيزٍ يَا أَخِي ، هَذِهِ وَصَاتُك بِي ، فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ إنّهُ أَخِي دُونَك .
فَسَأَلَتْ أُمّهُ عَنْ أَغْلَى مَا فُدِيَ بِهِ قُرَشِيّ ، فَقِيلَ لَهَا : أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَبَعَثَتْ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَفَدَتْهُ بِهَا( ).
الرابعة : من الأسرى من تعهد للذين أسروه بارسال البدل لهم عند عودته الى مكة ، فاطلقوه ولم يرجع بالمال أو يرسله.
الخامسة : كان الفداء حسب حال الأسير ، وطلب الذي أسرّه وهو على مراتب :
الأولى : ألف درهم .
الثانية : ألفا درهم .
الثالثة : ثلاثة آلاف درهم .
الرابعة : أربعة آلاف درهم .
الثالثة : طرح جيش الذين كفروا مؤنهم وأزوادهم( )، التي جاءوا بها من مكة في أرض المعركة ليسهل عليهم الفرار , وتركوا عددا من رواحلهم لتكون غنائم للمسلمين .
الرابعة : لحوق الذل والشماتة لقريش بين القبائل العربية .
الخامسة : حال العز التي لحقت المسلمين والمسلمات المستضعفين في مكة , وقيام بعضهم بالجهر باسلامه وتلاوته للقرآن.
السادسة : دخول طائفة من الناس الإسلام , بلحاظ أن نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر معجزة حسية له .
ليكون من منافع هذا الدخول وجوه :
الأول : تخلص المسلمين من الذلة بعد معركة بدر كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثاني : توافد القبائل الى المدينة.
الثالث : شيوع آيات القرآن بين الناس ، وتدبرهم في معانيها.
الرابع : أداء المسلمين الصلاة في القرى علانية.
الخامس : توالي دخول الناس في الإسلام، وعن عكرمة قال :لما نزلت [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] ( )، قال المشركون بمكة : لمن بين أظهرهم من المؤمنين ، قد دخل الناس في دين الله أفواجاً ، فاخرجوا من بين أظهرنا ، فعلام تقيمون بين أظهرنا؟ فنزلت { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له } الآية ( ) .
وهو بعيد ، إذ نزلت سورة النصر بعد فتح مكة وصيرورتها خالية من الأصنام ومظاهر الشرك.
السادس : زيادة عدد المسلمين وقوة عزائمهم.
السابع : تثبيت أقدام المسلمين في الإيمان وهو من مصاديق وهن الكفار وأنهم [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا].
الرابع : ذم الآية التالية للذين كفروا ، وإخبارهم والناس جميعاً بأن توالي النعم من الله على الذين كفروا حجة عليهم في بقائهم متلبسين بالكفر والضلالة ، ويدرك الناس استحقاقهم لنزول البلاء بهم.
ونزلت آية السياق في مشركي قريش إذ كانوا يتصفون بخصائص:
الأولى : جوار البيت الحرام .
الثانية : الجاه والشأن عند عموم العرب .
الثالثة : كثرة الأموال ، وقيامهم باقراض رجال القبائل وأرباب الزراعات والمواشي , وتعاطي الربا ، فنزل القرآن وجاءت السنة بالتشديد على حرمة الربا ، وبعث النفرة منه ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) ( ).
الرابعة : القيام بعمارة البيت الحرام ، وخدمة وفد الحاج ، والعناية بهم.
المسألة الثانية : لقد نعتت آية البحث الذين كفروا بأنهم اشتروا الكفر ، وهل ينحصر الأمر وأسباب الإثم والظلم للنفس بشرائهم الكفر ، الجواب لا ، إذ يشمل الأفعال المترشحة عن الكفر ، ومن خصائص الشراء أن الإنسان لا يقدم على شراء شئ إلا لرغبة فيه ، وفي امتلاكه والإستحواذ عليه ، مما يدل على سوء سريرة وظاهر الذين كفروا لأن رغائبهم تعلقت بما هو قبيح ولا يجلب إلا الضرر.
وهل تدعو الآية إلى التوبة أم أنها تغلق بابها على الذين كفروا ، الجواب هو الأول.
وإبتدأت آية السياق بقوله تعالى[وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] فأخبرت آية البحث عن شرائهم الكفر ، أما آية السياق والتي جاءت متعقبة لها في نظم القرآن فقد أخبرت عنهم بالقول [الَّذِينَ كَفَرُوا] للدلالة على أنهم لم يتركوا الكفر بعد شرائه ، ولم يزدروه بعد تبين قبحه إنما بقوا متلبسين به ، مقيمين في مستنقعه ، وفيه ذم إضافي لهم ، وتحذير من الموت على الكفر وسوء عاقبته , قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ]( ) .
وقد يشتري الإنسان شيئاً عن حاجة , أما الكفر فليس بحاجة إنما هو جاثوم وضرر ومفسدة ، وقد يشتري الإنسان شيئاً ثم يستغني عنه ، ويقوم ببيعه أو تركه ورميه .
بينما ذكرت آية البحث أن الكفار اشتروا الكفر باختيارهم ، وإتباعاً لأهوائهم , وأخبرت آية السياق بأنهم أقاموا على الكفر ، وفيه مسائل :
الأولى : دعوة الذي كفروا للإنزجار عن الكفر.
الثانية : جعل الكفار يدركون قبح الكفر ، ولزوم التخلي عنه وهجرانه .
الثالثة : تبين آيات القرآن قانوناً وهو ليس بين الذين كفروا وبين هجران الكفر إلا التوبة والإنابة ، ومن منافع آية البحث أنها باعث على التوبة.
وهل يقدر الشيطان على منع الإنسان من التوبة أو جعل أسباب للعرقلة والحيلولة دونها , الجواب لا، قال تعالى [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا]( ) .
وتفيد الآية أعلاه الإطلاق أي أن كيده ضعيف حتى مع أوليائه ، وهل تخويفه لهم الوارد قبل آيتين بقوله تعالى[إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ]( )، ضعيف , الجواب نعم ، وفيه حجة على الذين كفروا .
الرابعة : منع إفتتان المسلمين بالذين كفروا ، وما عندهم من المال ، وما لهم من الجاه ، لأنه باب لإثمهم وابتلائهم لقوله تعالى[إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا]( )، وتدل الآية في مفهومها على عجز الذين كفروا عن الإضرار بالمسلمين وإن كان عددهم كثيراً وأموالهم طائلة.
المسألة الثالثة : من الإعجاز في آية البحث قوله تعالى في ذم الكفار[لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا]( )، ليكون من معاني الآية أن الرزق والنعم بيد الله عز وجل وأنه يهبها للبر والفاجر , قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ).
وجاءت آية البحث لبيان قانون وهو أن النعم التي عند الكفار لن يستطيعوا أن يضروا بها النبوة والتنزيل ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، بتقريب أن النعم التي عند الكفار من فضل الله عز وجل ويأبى الله عز وجل أن تكون سبباً ومادة للإضرار بدينه والنبي الذي أرسله للناس.
لقد أراد الله عز وجل للنعم التي عند قريش الرحمة بهم وبالناس ، ولتكون مقدمة وموضوعاً لعمارة وحج البيت الحرام ، قال تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ).
ومن الإعجاز أن سورة قريش ذكرت الغاية من هذه النعم بالمعنى الأعم بقوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( )، وكل رحلة لرجال قريش بين مكة والشام ، أو بين مكة واليمن من الإملاء الذي تذكره آية السياق ، والذي سخروه لمحاربة النبوة والتنزيل فكانت عاقبتهم إلى الخسران ليرجع كيدهم إلى نحورهم ، وتصاب تجارتهم بالفتور ويصبحون في خشية على أنفسهم , ويتخلى الناس عن نصرتهم ، وفي التنزيل[فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
المسألة الرابعة : جاءت كل من آية البحث والسياق بصيغة الجملة الخبرية ، وفيها إنذار للذين كفروا ، ووعيد بأن الأموال التي عندهم تتبدد وتزول إذا سخروها للحرب على الله ورسوله ، قال تعالى[مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
لقد فرط الذين كفروا بالإيمان ، وجعلوه ثمناً وعوضاً لما فيه خسارتهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة ومن رحمة الله عز وجل توالي الرزق ونزول النعم على الناس كافة ، فيتخذها المؤمنون وسيلة للتقرب إليه تعالى ، ومناسبة للأجر والثواب وتكون وبالاً على الذين كفروا ، قال تعالى في الثناء على المؤمنين [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
ترى هل الخير والنعم التي عند الكفار قبل شرائهم الكفر بالإيمان أم بعده ، الجواب كلاهما صحيح.
ليكون من معاني احتجاج الملائكة حينما أخبرهم الله عز وجل عن خلافة الإنسان في الأرض [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، أن النعم والأموال التي عند الذين كفروا يجعلونها في المعاصي والفساد ، فهم اشتروا الكفر بالإيمان ، ثم صاروا يسخرون الأموال لمحاربة الإيمان وأهله.
المسألة الخامسة : ذكرت آية البحث قانوناً وهو حرمان الذين كفروا من الحظ والنصيب في الآخرة، وأخبرت آية السيف عن ابتلائهم بزيادة الآثام إذ أن تسخير الذين كفروا الأموال في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسنن الإيمان إثم عظيم .
ومن معاني الجمع بين الآيتين التذكير بالآخرة وبيان حاجة كل إنسان إلى الحظ والنصيب في الآخرة ، ليكون إخبار آية البحث عن حرمان الذين كفروا أنفسهم منه موعظة للناس جميعاً ، قال تعالى[فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ]( ).
ومن معاني (نملي لهم) تفضل الله باطالة أعمار الذين كفروا وبقائهم في الحياة الدنيا بين أهليهم وأبنائهم ويزاولون تجارتهم ويجمعون الأموال ، لتكون وزراً عليهم لأنهم نقضوا العهد مع الله عز وجل ، الذي خلقهم للإيمان وألزمهم بتعاهده ، وجعله تركة للذين من بعدهم لعمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
المسألة السادسة : أختتمت آية البحث بالإخبار عن قانون من قوانين الآخرة وهو أن الكفار لهم عذاب أليم ، وجاء الإطلاق في وصف الأليم لإرادة أثره ووقعه وأنه يؤلم كل فرد من أهل النار ، ولا يعلم مقدار الألم الذي يسببه العذاب بهم إلا الله عز وجل.
ومن معاني الإملاء في الآية إطالة أعمار الكفار مع تلبسهم بالكفر ، وعن أبي الدرداء قال : ما من مؤمن إلا الموت خير له ، وما من كافر إلا الموت خير له . فمن لم يصدقني فإن الله يقول { وما عند الله خير للأبرار }( ) { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين }( )( ).
والمختار أن إطالة الحياة وأيام العمر خير للمؤمن لأنها دار العمل الصالح ، وإكتناز الحسنات ، وثبات في مقامات البر والصلاح والفوز بالإنتماء إلى الأبرار.
ليكون من معاني آية البحث دعوة الناس للهداية والإيمان ، وحث الذين كفروا على التوبة والإنابة .
وعن ابن عباس قال : قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم ادع ربك ان يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك قال أتفعلون ؟ قالوا نعم فدعا فأتاه جبريل عليه السلام فقال ان الله يقرأ عليك السلام ويقول ان شئت اصبح الصفا ذهبا فمن كفر بعد ذلك عذبته عذابا لا اعذبه احدا من العالمين وان شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة قال بل يا رب التوبة والرحمة( ).
ومن معاني الجمع بين آية البحث والآية التي بعدها أن الذين كفروا يرزقهم الله في الدنيا ويمد لهم في العمر لبيان أن الدنيا دار الرحمة.
المسألة السابعة : من وجوه تقدير الجمع بين آية البحث والآية التالية : أن الذين اشتروا الكفر بالإيمان يزدادون اثماً) لبيان أنهم لم يكتفوا باختيار الكفر والتفريط بالإيمان ، إنما كانوا يرتكبون المعاصي والسيئات ، ويؤذون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، وكل فرد من هذا الأذى سبب لزيادة آئامهم ، وفيه شاهد بأن إطالة أعمار الكفار استدراج لهم وحجة يومية عليهم وهو من أسرار فرض الصلاة خمس مرات في اليوم ، لتكون مناسبة للأجر والثواب للمؤمنين ، وحجة على كفار قريش الذين أصروا على محاربة كل من :
الأول : ذات الصلاة اليومية ومنع إقامتها .
الثاني : إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند أدائه الصلاة في المسجد الحرام وتلاوته آيات القرآن ، ولم تكن قريش تعهد الركوع والسجود ، ولم يطيقوا رؤية النبي يؤدي الصلاة.
وبخصوص عقبة بن أبي معيط قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر بعد أن أظهره الله على المشركين : أتدرون ما صنع هذا بي ، جاء وأنا ساجد خلف المقام، فوضع رجله على عنقي وغمزها فما رفعها حتى ظننت أن عيني ستندران، وجاء مرة أخرى بسلا شاة فألقاه على رأسي وأنا ساجد( ).
وكان عتبة بن أبي لهب يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويجحد بالقرآن ، وقال : يامحمد هو يكفر بالذى [دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى]( )، ثم تفل ورد التفلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
وفارق ابنته أم كلثوم وقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : كفرت بدينك وفارقت ابنتك ، لا تحبني ولا أحبك ، ثم هجم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشق قميصه وتفل عليه .
فدعا عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال : اللهم سلط عليه كلباً من كلابك( )، وكان ابو طالب حاضراً ، فوجم وعلم أن البلاء سيحل بعتبة بن أبي لهب ، وقال أبو طالب : ما كان أغناك عن دعوة ابن أخي ثم خرج إلى الشام فنزلوا منزلا وأشرف عليهم راهب من الدير فقال : أرض مسبعة .
أي أن الراهب نصحهم بأن في الأرض سباع وحيوانات مفترسة ويجب أن تحتاطوا في الليل ويحرس بعضكم بعضاً أما الراهب فانه يحكم عليه أبواب الدير ليلاً بحيث لا يقدر إنسان أو حيوان فتحه.
فقال أبو لهب يا معشر قريش أعينوني على هذه الليلة فاني أخاف دعوة محمد فجمعوا أحمالهم ففرشوا لعتبة في أعلاها وباتوا حوله فجاء الاسد فجعل يتشمم وجوههم ثم ثنى ذنبه فوثب فضربه ضربة واحدة فخدشه ، فقال : قتلني , ومات.
وروي أن الاسد أقبل يتخطاهم حتى أخذ برأس عتبة ففدغه( )( ).
ومن الآيات أن السبع ضربه على وجهه وسحبه من رأسه ليأكله بمرأى ومسمع من أبيه ، وفيه موعظة وإنذار.
وكل إيذاء من قبل الكفار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة لزيادة إثمهم وهل أكل السبع لعتبة بن أبي لهب سبب لغفران ذنوبه ، بلحاظ أنه نال جزاءه في الحياة الدنيا ، الجواب لا ، بدليل خاتمة آية البحث (ولهم عذاب أليم).
وفي قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ]( )، ذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألقي عليه سلا شاة ، فتأذى وحزن مما فعل المشركون فعاد إلى بيته وتدثر ، فنزلت الآية أعلاه ، أي أن الأذى الذي يأتي من القوم السفهاء لا يمنعك من الإستمرار بالتبليغ والإنذار.
الثالث : محاربة الذين كفروا التنزيل ، وتضمنت السور المكبة الإنذار والوعيد والتخويف للذين كفروا ، وقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل رسولاً باطنياً يميز بين الحق والباطل .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : أن الله عز وجل لما خلق العقل قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، فقال تعالى: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أكرم علي منك، بك اثيب وبك أعاقب، وبك آخذ وبك اعطي( ).
ويتلقى العقل الوعد بالقبول فتنبسط أركان البدن ، ويتلقى الوعيد بالخوف والحيطة والحذر وزجر أعضاء البدن عن مقدمات وأسباب العذاب ، كما في آية البحث إذ أنها تخاطب العقول من جهات :
الأولى : على الناس تعاهد الإيمان ، وهذا التعاهد من مصاديق ما ورد في التنزيل[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، فهو هداية وصراط مستقيم ، ومن أسرار قراءة كل مسلم ومسلمة سورة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة اليومية تعاهدهم للإيمان مجتمعين ومتفرقين ، ودعوتهم الناس للإمتناع عن التفريط بالإيمان .
الثانية : ذكر آية البحث شراء الذين كفروا للكفر ، والشراء لا يتم إلا عن إرادة وعقل وإختيار ، ليكون هذا الشراء جحوداً بنعمة العقل.
الثالثة : أختتمت آية البحث بقوله تعالى[وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] لتبعث حاسة البصر وحاسة السمع إلى العقل الإنذار من شدة الألم يوم القيامة لمن يقيم على الكفر ، ويجعل العقل والجوارح والأركان تستشعر هذا الألم للنفرة والحيطة منه ، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ]( ).
الرابعة : شراء الكفر باطل وحرام ، ويحتمل متعلق وموضوع خطاب العقول في آية البحث وجوهاً :
الأول : إرادة خصوص المؤمنين والمؤمنات .
الثاني : شمول المسلمين وأهل الكتاب بالخطاب .
الثالث : المقصود الناس جميعاً عدا الذين كفروا واشتروا الضلالة , قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ]( ).
الرابع : توجه الخطاب إلى أرباب العقول الذين يسخرون عقولهم لبلوغ سبل النجاة ، في الدارين ، قال تعالى[أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
الخامس : المراد في الخطاب القرآني جميع الناس ومنهم الذين كفروا .
والمختار هو الأخير , ومنه آية البحث ، فصحيح أنها جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تخاطب العقول ، وتحث الناس على ترك الكفر وتتضمن دعوة المسلمين للثبات على الإيمان والعصمة من الإرتداد ، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخرة وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ) .
لتبين الآية أعلاه قوانين منها :
الأول : إن الكفار هم الذين يقومون بالهجوم على المسلمين في عقر دارهم .
الثاني : تعدد هجوم الذين كفروا على المسلمين ، فصحيح أن معارك الإسلام الأولى هي :
الأولى : معركة بدر في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة .
الثانية : معركة أحد في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
الثالثة : معركة الخندق في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة.
ولكن هناك غارات وهجومات للذين كفروا على أطراف المدينة وهناك معارك أرادها المشركون ولكن الله عز وجل صرفها , وهذا الصرف من مصاديق آية البحث.
بأطرافها من جهات :
الأولى : هجوم الذين كفروا على المدينة وأطرافها من شراء الكفر ، والقيام بأشد ضروبه وأفعاله قبحاً .
فبعد مرور ثلاثة عشر شهراً على هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وقبل معركة بدر أغار مشركوا قريش برئاسة كُرز بن جابر الفهري على سرح وأنعام أهل المدينة التي ترعى في أطرافها فاستاقها .
فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طلبه ، وحمل لواءه الإمام علي عليه السلام ، وكان لونه أبيض، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة ، وطلبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (حَتّى بَلَغَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ سَفْوَانَ مِنْ نَاحِيَةِ بَدْرٍ ، وَفَاتَهُ كُرْزٌ وَلَمْ يَلْحَقْهُ فَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ)( ).
ولم يقع قتال في هذا الخروج ويسمى (غزوة بدر الأولى) ( )، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز فيها أحداً ، وإنما كان خروجاً لإستعادة إبل ومواشي أهل المدينة من المسلمين واليهود وغيرهم.
الثانية : إصرار الذين كفروا من قريش على الهجوم على المدينة من إتخاذهم الإيمان عوضاً للكفر الذي يتلبسون به ، لبيان أن معنى صيرورة الإيمان عوضاً وبدلاً عام يشمل محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل بالسيف والخيل وباللسان ، والمغالطة.
الثالثة : هجوم الذين كفروا المتكرر على المدينة لا يضر الإيمان في الأرض فآيات التنزيل تتوالى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن ابن عباس قال : قالت قريش ما للقرآن لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة؟ قال الله في كتابه [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا]( )، قال : قليلاً . قليلاً . . . كما لا يجيئوك بمثل إلا جئناك بما ينقض عليهم ، فأنزلناه عليك تنزيلاً قليلاً قليلاً ، كلما جاؤوا بشيء جئناهم بما هو أحسن منه تفسيراً( ).
الرابعة : إقامة الحجة على الذين كفروا ، وكل مرة يهجمون بها على المدينة يستحقون معها العذاب الأليم ، لبيان قانون وهو أن عدم إضرار الذين كفروا بالإيمان لا يسقط عنهم العذاب في نار جهنم في الآخرة لأن ذات شراء الكفر في الحياة الدنيا سبب لهذا العذاب ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذي يشتري الكفر بالإيمان يدخل النار .
الصغرى : كفار قريش اشتروا الكفر بالإيمان .
النتيجة : كفار قريش يدخلون النار.
ولا تشمل هذه النتيجة الذين تابوا وأصلحوا منهم ، ومن خصائص آية البحث أنها دعوة سماوية للتوبة ، ولا يعلم عدد الذين كفوا عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين تابوا بسبب آية البحث إلا الله عز وجل وهو من مصاديق الرحمة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الثالث : بيان غاية الذين كفروا من القتال ، وهي ارتداد المسلمين عن دينهم ، وبما أن المسلمين لايرتدون عن دينهم فان هجوم الكفار سيستمر ويتوالى على المسلمين ، مما يدل على أن فتح مكة حاجة للمسلمين والناس ، وليكون من معاني ومصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] في آية البحث تفضل الله عز وجل بأمور منها :
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي نزول القرآن لهداية وصلاح الناس ، وعن أبي سعيد الخدري قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أوصني ، فقال : عليك بتقوى الله فإنها جماع كل خير ، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية المسلمين .
وعليك بذكر الله وتلاوة كتاب الله فإنه نور لك في الأرض وذكر لك في السماء ، وأخزن لسانك إلا من خير فإنك بذلك تغلب الشيطان( ).
الثاني : هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بعد توجه عشرة من شبان قريش لقتله في فراشه إذ أدرك الناس يومئذ أن الله عز وجل يحفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذي لا يفعل أمراً إلا بالوحي ، وهو واقية من كيد ومكر الذين كفروا ، وفي التنزيل[أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى]( ).
الثالث : صيرورة المدينة المنورة وأهلها سوراً وواقية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين ، وفي الهجرة موعظة ودرس للناس بأن سلطان الذين كفروا محدود مكاناً وزماناً ، وفي التنزيل [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
الرابع : نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر آية حسية التي تبين للناس في كل زمان مصداقاً لقوله تعالى بخصوص الذين كفروا [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا].
الخامس : مع كثرة قتلى المسلمين في معركة أحد وشدة جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يومئذ فان المعركة اثبتت قانوناً وهو حتى لو انتصر الذين كفروا في معركة فانهم لن يضروا الله شيئاً .
والمختار أنهم لم ينتصروا في أي معركة ، ليكون هجوم المشركين ورجوعهم خائبين من مصاديق ظلمهم لأنفسهم ، وقوله تعالى[الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ]( ).
السادس : من رشحات الآية القرآنية صرف شرور الذين كفروا، وجعلهم ينشغلون بأنفسهم ، ويتذكرون يوم الحساب , وما فيه من الأهوال.
المسألة الثامنة : إتحاد موضوع آية البحث والآية التالية لها ، وتتعلق كل واحدة منهما بالذين كفروا وظلمهم لأنفسهم من جهات:
الأولى : إختيار الذين كفروا الكفر والجحود .
الثانية : إعراض الذين كفروا عن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الهدى والحق .
الثالثة : عبادة الذين كفروا للأصنام ، وإتخاذهم لها شركاء لله ووسائط تقربهم إليه ، مع أنها أحجار لا تضر ولا تنفع ، وفي التنزيل [مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى]( ) .
ولم يرد لفظ (نعبدهم) في القرآن إلا في الآية أعلاه ليكون بشارة انقطاع عبادة الأوثان.
وأخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي : أن رجلاً قال : يا رسول الله انا نعطي أموالنا التماس الذكر ، فهل لنا في ذلك من أجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يقبل إلا من أخلص له ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {ألا لله الدين الخالص}( ).
الرابعة : تجهيز الذين كفروا الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن مقاصدهم في تجهيز هذه الجيوش وبذل الأموال الطائلة عليهم أمور :
الأول : تحشيد القبائل إلى جانب الذين كفروا.
الثاني : الدلالة العملية على رئاسة كفار قريش للذين كفروا .
الثالث : محاولة إخافة المسلمين , وتفضل الله عز وجل وأمر المسلمين بالخوف منه , قال تعالى [فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ) .
ليكون من معاني الآية أعلاه أنها دفاع وواقية من هجوم الذين كفروا وشاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يهجم أو يغز الذين كفروا ، إنما كان الله عز وجل هو الذي يصدهم ويدفع شرورهم , ومنه قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
الرابع : صد الناس عن دخول الإسلام .
الخامس : إرادة بقاء الناس في جهالة وغفلة .
السادس : سعي المشركين لبقاء عبادة الأوثان في مكة والقرى التي حولها.
وقد سمّى الله عز وجل مكة أم القرى بقوله تعالى [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ]( ).
ليكون من معاني الآية أعلاه خيبة الذين كفروا من القبائل التي تحيط بمكة ، وأن هذه القبائل في طريقها إلى الإسلام ، وهل آية البحث من الإنذار الذي تذكره آية البحث .
الجواب نعم ، وصحيح أن هذه الآية نزلت في المدينة بعد الهجرة إلا أنها إنذار لأهل مكة والقرى والقبائل التي حولها .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن آيات القرآن التي نزلت في المدينة تصل إلى مكة في ذات الأيام التي تنزل فيها من وجوه :
أولاً : توجه المسلمين من المدينة إلى مكة لأداء العمرة خاصة في الأشهر الحرم وهي ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، أشهر متصلة ، وشهر رجب منفصل عنها ويقع قبل شعبان .
ثانياً : تنقل التجار بين مكة المدينة ، ومنهم ما يتعاطى التجارة مع قريش ، ومن الآيات أن بعض التجار كانوا ينقلون الآيات والشواهد من السنة النبوية وهم على كفرهم ليتلقاها الناس بالتدبر ، ومنهم من قام بنقل أخبار بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان في مكة .
وعن عفيف الكندي وهو أخو الأشعث بن قيس الكندي لأمه قال : كان العباس بن عبد المطلب لي صديقا وكان يختلف إلى اليمن يشتري العطر فيبيعه أيام الموسم فبينا أنا عند العباس بن عبد المطلب بمنى فاتاه رجل مجتمع فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم قام يصلى فخرجت امرأة فتوضأت وقامت تصلي ثم خرج غلام قد راهق فتوضأ ثم قام إلى جنبه يصلي.
فقلت ويحك يا عباس ما هذا.
قال هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله بعثه رسولا وهذا ابن أخي علي بن أبى طالب قد تابعه على دينه وهذه امرأته خديجة ابنة خويلد قد تابعته على دينه قال عفيف بعد ما أسلم ورسخ الاسلام في قلبه يا ليتني كنت رابعا( ).
ثالثاً : تنقل الركبان بين مكة والمدينة.
رابعاً : التنقل المتعدد ، ووصول أخبار النبوة إلى مكة بالواسطة ، فتنزل الآية القرآنية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة فيسمع بها رجال القبائل التي تحيط بالمدينة فينقلونها الى أهليهم ، وهؤلاء يقومون بنقلها إلى القرى القريبة منهم حتى تصل إلى مكة.
خامساً : فضل الله عز وجل بتسخير رجال ونساء لنقل آيات القرآن لعمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
سادساً : كتابة المهاجرين من المسلمين آيات القرآن إلى إخوانهم المسلمين في مكة الذين يقومون بتلاوتها في الصلاة ، ويتناجون بها ، ويتدارسونها.
المسألة التاسعة : النسبة بين خاتمتي الآيتين هي العموم والخصوص من وجه.
فمادة الإلتقاء هي ذكر كل من الآيتين للعذاب رسماً ولفظاً ومعنى واختصاصه بالذين كفروا بقوله تعالى في كل من الآيتين (ولهم عذاب).
أما مادة الإفتراق فهي نعت العذاب في آية البحث بأنه أليم، بينما ذكرته الآية التالية بأنه مهين ، فمع شدة عذاب أهل النار ، وعجز الذين كفروا عن تحمله وشدة إيلامه لهم فان فيه إهانة وذلاً لهم ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ]( ).
ومن خصائص القرآن أنه رحمة للناس ، وسبيل صلاح لهم ، ونجاة لهم من النار .
ومن معاني تعدد ضروب ووجوه عذاب النار وشدته بعث النفرة في النفوس من الكفر ومفاهيم الجحود ، وزجر الناس عن إعانة رؤساء قريش في محاربتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
فاذا امتنع الناس عن الخروج معهم للزحف نحو المدينة المنورة فانهم يعجزون عنه ، وتجلى مصداق هذا القانون بصلح الحديبية وما بعده إلى أن تم فتح مكة إذ عجز رؤساء الكفر عن تحريض الناس وسوقهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
بل ظهرت أمارات هذا القانون في معركة أحد بانسحاب جيوش المشركين في ذات يوم المعركة ، وفي معركة الخندق بامتناعهم عن عبور واقتحام الخندق خاصة بعد أن رأوا قتل فارسهم عمرو بن ود العامري على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حيث نزل قوله تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
وهل كان نصر المسلمين في معركة بدر مانع للناس من إعانة مشركي قريش ، الجواب نعم .
المسألة العاشرة : لقد ذكرت آية البحث شدة عقاب الذين كفروا في الآخرة بقوله تعالى[عَذَابٌ أَلِيمٌ] وأختتمت آية السياق بقوله تعالى[عَذَابٌ مُهِينٌ] ويحتمل وجوهاً :
الأول : التعدد في العذاب ، فهناك في النار عذاب أليم وآخر مهين ، وآخر عظيم كما ورد في الآية السابقة [وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ).
الثاني : التباين في سنخية العذاب الذي يأتي للذين كفروا في النار ، فمرة يكون عظيماً وأخرى أليماً ، وقد يأتيهم في الصباح نوع من أنواع العذاب ، وفي المساء يصب عليهم غيره .
الثالث : تقسيم العذاب الى قسمين :
أولاً : العذاب المستمر والثابت كما في قوله تعالى[وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ]( ).
ثانياً : العذاب المتبدل والمتغير ، فمرة عذاب أليم وآخر مهين .
وهذا التقسيم مستحدث في هذا السِفر
الرابع : اتحاد سنخية العذاب ، ولكن التباين بلحاظ اللازم والأثر.
الخامس : تباين صنف العذاب بلحاظ شدة الكفر والتمادي فيه ، كما في الذين قاتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وأحد والخندق وحنين ، فمنهم من يكون عذابه شديداً ، ومنهم من يكون أخف منه .
وقد ورد (عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لمن له نعلان وشِرَاكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، لا يرى أحدا من أهل النار أشدُّ عذابا منه، وإنه أهونهم عذاباً( ).
وعن أنس بن مالك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذاباً لو أن لك ماعلى الأرض من شيء أكنت مفتدياً به .
فيقول : نعم .
فيقول : قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلاّ أن تشرك بي( ).
والمختار هو الثالث والخامس أعلاه .
ومن معاني التباين بين عذاب أليم ، وعذاب مهين تقسيم العذاب إلى أقسام :
الأول : عذاب الأبدان والجوارح ونزول الألم بها .
الثاني : عذاب الأرواح .
الثالث : العذاب الجامع لإيذاء أهل النار، بما يجمع بين الأبدان والأرواح في شدة الألم ، قال تعالى[إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاً وَأَغْلاَلاً وَسَعِيرًا]( ).
وعن عبد الله بن عمرو قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [إِذْ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ]( ).
فقال : لو أن رصاصة مثل هذه – وأشار إلى جمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة – لبلغت الأرض قبل الليل ، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً – الليل والنهار – قبل أن تبلغ أصلها أو قال قعرها.
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن يعلى بن منبه رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ينشىء الله سحابة لأهل النار سوداء مظلمة يقال لها ولأهل النار أي شيء تطلبون؟ فيذكرون بها سحاب الدنيا .
فيقولون : يا ربنا الشراب ، فتمطرهم أغلالاً تزيد في أعناقهم ، وسلاسل تزيد في سلاسلهم ، وجمراً يلتهب عليهم( ).
المسألة الحادية عشرة : لفظ (نملي) في القرآن إلا في آية السياق ومن الإعجاز أنه جاء فيها مكرراً ، إذ يظن الذين كفروا أن ما عندهم من النعم هي خير لهم ، وفيها نفع لهم في السعة في العيش والجاه والأمن ، فأخبر الله عز وجل بأنها وبال عليهم لأنهم اشتروا الكفر بالإيمان .
فمن خصائص هذا الشراء جلب الضرر والبلاء على أصحابه ، ولا يختص هذا الضرر بالحياة الدنيا إنما يصاحبهم في عالم الآخرة وبمرتبة أشد .
وفي أسباب نزول قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ]( ) .
قال مجاهد : ثاني عطفه) أنزلت في النضر بن الحارث( )، وقد قتل يوم بدر.
ومعنى ثاني عطفه أي لاوي رأسه إعراضاً وتكبراً وعزوفاً عن سماع آيات التنزيل.
ومن معاني إعجاز الآية القرآنية التحدي ، وهل يختص هذا التحدي بذات ألفاظ الآية القرآنية , الجواب لا ، إنما يشمل أموراً :
الأول : المضامين القدسية للآية القرآنية ، قال تعالى[لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ]( ).
الثاني : تحقق مصداق لموضوع وحكم الآية القرآنية ، وتجدد هذا المصداق في كل زمان .
الثالث : كل آية قرآنية حجة على الذين اشتروا الكفر ، وباعث للندامة في نفوسهم على تفريطهم بالإيمان .
الرابع : بيان الآية القرآنية الحقائق والقوانين في النشأتين، قال تعالى[وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا]( ).
الخامس : كل آية قرآنية رحمة بالناس جميعاً , والمؤمنين خاصة ، وهل آية البحث رحمة للذين كفروا ، الجواب نعم ، لأنها تكشف قبح شراء الكفر ، وتزجرهم عن البقاء في جبّ الجحود ذي العفن والدنس ، ويأتي مزيد كلام في باب إفاضات الآية( ).
وهي مدد لهم وللناس للعصمة من إغواء الشيطان ، وللتغلب على الشهوات .
الخامس : الآية القرآنية شفيع للذين يعملون بأحكامها وآية السياق حجة على الذين كفروا ، فالأصل أن يقابل الناس إملاء الله لهم بالنعم المتوالية بتعاهد الإيمان لفظاً وإعتقاداً وسنناً ، فابتدأت آية البحث بقوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ] لبيان الأجر والثواب للذين تنزهوا عن الكفر ، وامتنعوا عن موالاة الكافرين الذين يسعون في إرتداد المسلمين ، قال تعالى [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
وتبين معارك الإسلام الأولى قانوناً وهو أن سعي الذين كفروا لإرتداد المسلمين يشمل الهجوم بعساكر كبيرة على المدينة المنورة وهي المصر الوحيد للإسلام ، لإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقف التنزيل وتشتيت الصحابة .
ولما حاصر المشركون المدينة في معركة الأحزاب حينما أحاط نحو عشرة آلاف رجل منهم بالمدينة وخندقها فقد أحاطوا بالإسلام وهو من مصاديق [الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا]، وخاب سعيهم .
ويتجلى قانون عدم إضرارهم بالله ودينه ، وقال ابن عباس في قوله تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( )، قال: بعلي بن أبى طالب وفيه: قال صلى الله عليه وآله لعلى عليه السلام: برز الايمان كله إلى الشرك كله( ).
المسألة الثانية عشرة : لقد وردت كل من آية البحث وآية السياق في ذم الذين كفروا ، وأخبرت آية السياق عن قانون وهو أن الله عز وجل يملي لهم ويوالي عليهم النعم والرزق والإحسان ويمهلهم ، وقد يظنون أنه خير لهم , ولكنه نوع استدراج لهم ، وقد ينسي توالي الإحسان الإنسان احتمال انقطاعه ، قال تعالى [وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ]( ).
وإذ تضمنت آية السياق نهي الذين كفروا عن احتساب النعم خيرا لهم ، فهناك مسائل :
الأولى : هل يملي الله عز وجل للمؤمنين .
الثانية : هل إملاء الله للمؤمنين خير لهم .
والجواب على الأولى نعم ، فان الدنيا دار الإملاء والإفضال والإحسان من عند الله عز وجل ، قال سبحانه [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ).
أما المسألة الثانية فان الإملاء والإحسان من عند الله خير للمؤمنين في الدارين، وهو نعمة بذاته وما يترشح عنه .
ومن معاني الجمع بين الآيتين تبكيت الذين كفروا فهم مع إنعام وإحسان الله عز وجل لهم يكفرون بهذا الإنعام والإحسان ، ويكون من معاني قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] أن كفرهم لم ينقص من فضل وإحسان الله عز وجل للمؤمنين سواء من جهة الرزق أو أسباب الهداية أو سبل العز، وفي التنزيل [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
الوجه الثاني : صلة آية البحث بقوله تعالى[مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ]( )، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : جاءت كل من آية البحث والسياق بصيغة الجملة الخبرية ، ويتعلق موضوع آية البحث بذم الذين كفروا وكيف أنهم جعلوا الإيمان وقدسيته والحاجة إليه ثمناً للكفر الذي لا يجلب إلا الضرر .
بينما أخبرت آية السياق عن إكرام المؤمنين والفصل بينهم وبين المنافقين والذين كفروا بالإبتلاء والإمتحان ، وتوفيق وإعانة المؤمنين لتأدية الواجبات والوظائف العبادية .
وهل هذا التمييز والفصل أمر ظاهري أم هو أمر خفي ، الجواب هو الأول ، قال تعالى[وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ]( )، أي تتجلى وتتبين للناس ، لأن كل عمل صالح تثبيت لسنن الإيمان ، ودعوة للهدى والرشاد وبلحاظ آية البحث ، ويحتمل لفظ (الخبيث) الوارد في آية السياق وجوهاً :
الأول : الذين اشتروا الكفر بالإيمان من أهل الشقاوة .
الثاني : المراد المنافقون لأنهم يظهرون الإسلام ويقفون خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة ، ولكن حينما زحف المسلمون تحت لوائه إلى معركة أحد إنخزل المنافقون وعددهم ثلاثمائة من وسط الطريق .
وقال رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول : أطاعهم فخرج وعصاني؛ والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس ! فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، أخو بني سلمة، يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند ما حضر من عدوهم ! قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم؛ ولكنا لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه، وأبو إلا الانصراف عنه ، قال: أبعدكم الله أعداء الله ! فسيغني الله عنكم ( ).
يريد بقوله (اطاعهم وعصاني) أنه كان يريد بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المدينة ويأتي المشركون لقتالهم فيها ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ برأي طائفة من الشباب المؤمن أصروا على الخروج لملاقاة المشركين عند جبل أحد ولم يعلم رأس النفاق أن أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم برأيهم كان بالوحي والإذن من عند الله ، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
ليبقى بعد انسحابهم مع النبي محمد سبعمائة ، وهو من فضل الله عز وجل في التخفيف عن المسلمين في مسألة التمييز بين المؤمنين وغيرهم في المقام .
وكانت النسبة بين جيش المسلمين وجيش المشركين يوم معركة أحد على الوجه الآتي :
المسلمون جيش الذين كفروا
عدد أفراد الجيش سبعمائة ثلاثة آلاف
عدد الخيل فرسان مائتا فرس
عدد الدارع( ) أي الذي يلبس الدرع مائة دارع سبعمائة دارع
مدة الوصول الى جبل آحد في ذات اليوم تسعة أيام،إذ خرج المشركون من مكة لخمسة من شوال
الثالث : من معاني الخبيث فعل الحرام وإرتكاب السيئات قال تعالى[وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ]( )، ليكون من معاني آية السياق إرادة ذم الكفار والمنافقين وبعث النفرة من المعاصي والسيئات .
وهل من مصاديق التمييز بين الطيب والخبيث في آية البحث قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , فهذا الأمر والنهي طيب وحسن , وكذا اتيان المعروف والمسارعة فيه ، وحث الناس عليه، الجواب نعم .
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « على كل ميسم من الإِنسان صدقة كل يوم . فقال بعض القوم : إن هذا لشديد يا رسول الله ومن يطيق هذا؟ .
قال : أمر بالمعروف ونهي عن المنكر صدقة ، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة ، وإن حملك على الضعيف صدقة ، وإن كل خطوة يخطوها أحدكم إلى الصلاة صدقة( ).
المسألة الثانية : لقد ذكرت آية السياق تفضل الله عز وجل بالتمييز والفصل بين الخبيث والطيب ، فهل آية البحث من فضل الله في التمييز بينهما ، الجواب نعم من وجوه :
الأول : بيان آية البحث للتضاد بين الإيمان والكفر.
الثاني : دلالة آية البحث على لزوم البقاء في مقامات الإيمان ، والتسليم بالعبودية لله عز وجل ، وإجتناب الكفر والفسوق ، ومن وجوه التمييز في المقام إدراك الإنسان لحلاوة الإيمان وعذوبة العمل الصالح ، وإنقباض النفس من الكفر والمعاصي ، قال تعالى[حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ]( ).
الثالث : بيان آية البحث لقانون وهو قرب الإيمان من كل إنسان ، ومصاحبته للناس ، بينما الكفر بعيد عنهم ولا يحل بساحة إنسان إلا الذي يسعى إليه ، ويبذل العوض الثمين عوضاَ له ، ويضحي بنفسه من أجله ، بلحاظ أن هجران وترك الإيمان نوع هلاك في النشأتين ، قال تعالى[هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتًا وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا]( ).
الرابع : أخبرت آية البحث عن عدم إضرار الذين كفروا بالله عز وجل ورسوله وكتبه وملائكته وأوليائه , والتسليم بهذا القانون من الإيمان .
المسألة الثالثة : ذكرت آية السياق إجتباء وإختيار الله عز وجل للأنبياء والرسل ونزول الكتب السماوية تبين علوماً وأسراراً في الخلق وعالم الحساب .
إذ أخبرت آية البحث عن عدم إضرار الذين كفروا بالله ، ومن عدم الإضرار هذا أمور :
الأول : عجز الذين كفروا عن منع تبليغ الأنبياء لآيات التنزيل ، وفي التنزيل [لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( )، ولم يرد لفظ (أبلغوا) في القرآن إلا في الآية أعلاه، ويشهد الرسل على أممهم يوم القيامة بأنهم قد قاموا بالتبليغ ويشهد عليهم الرسول ، وفي التنزيل [فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا]( ).
الثاني : عدم قدرة الذين كفروا على الفصل بين الأنبياء والناس.
الثالث : ثبوت قانون التمييز بين الخبيث والطيب في الأرض وفي الأذهان في كل زمان .
الرابع : تخلف وقصور الذين كفروا عن صد ومنع الناس عن إتباع الرسل ، والعمل بالمنهاج الذين جاءوا به ، وهل يمكن القول أن من الغايات الحميدة لإجتباء الرسل بيان قانون عدم إضرار الذين كفروا بدين الله , الجواب نعم.
ليكون هذا البيان من مصاديق بعثتهم وحقيقة وجود وسائط من البشر بين الله عز وجل والناس يتنزل عليهم الوحي ، وجاء التنزيل بخطاب من عند الله عز وجل الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
المسألة الرابعة : تضمنت آية السياق الأمر من الله عز وجل للمسلمين والناس بالإيمان بالله والرسل وماجاءوا به من عند الله ، ليكون هذا الإيمان برزخاً دون شراء الكفر.
وحتى لو تلبس الإنسان بالكفر فان كلاً من آية البحث والسياق يتوجهان إليه مجتمعتين ومتفرقتين تدعوانه للتوبة والإنابة , وفي التنزيل [فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخرة]( ) .
وعن الحسن البصري : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ان قوماً قد هموا بهم سوءاً وأرادوا أمراً فليقوموا فليستغفروا فلم يقم أحد ثلاث مرار .
فقال : قم يا فلان قم يا فلان . فقالوا : نستغفر الله تعالى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لانا دعوتكم إلى التوبة والله أسرع إليكم بها وأنا أطيب لكم نفساً بالاستغفار أخرجوا( ).
وهل يلزم الكافر الإستغفار والنطق بالفاظ التوبة أم يكفيه النطق بكلمة التوحيد والإيمان بالله والرسل , الجواب هو الثاني ، فهذا الإيمان توبة ، وهو من مصاديق عدم الإضرار بالله عز وجل وملة التوحيد ، فلن يستطيع رؤساء الكفر منع الناس من الإيمان والتوبة والصلاح.
وجاءت آية آية البحث بازاحة المانع عن إيمانهم بذكرها لقانون ، وهو عدم إضرار الذين كفروا بالله عز وجل كما ذكرت الآية السياق معه قانوناً آخر وهو إنعدام الحظ للذين كفروا في الآخرة .
المسألة الخامسة : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وإبتلاء واختبار ، وبعث الله عز وجل النبي محمداً لينادي في المسجد الحرام وفي موسم الحج في مكة (قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا)( ) ،
وقد يتبادر إلى الأذهان أن الناس يتلقون هذا النداء بالرضا والقبول ، أو لا أقل لا يلقى معه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأذى ، ولكن أذى الذين كفروا يشتد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما يسمعونه ينادي به.
لقد ابتدأت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ثلاث سنوات بالخفاء من غير إعلان.
وفي السنة الرابعة أظهر دعوته ، إذ نزل قوله تعالى[فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ]( )، وطلب من الناس عبادة الله والتصديق بنبوته , ونبذ الشرك ، فتلقاها أهل البيت وبعض أهل مكة بالقبول والتسليم ، ولكن المشركين جحدوا بها , ونعتوه بانه ساحر ومجنون .
وعن ابن عباس في قوله [إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ]( )، الآية ، قال : نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذ صفية بنت حيي .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : أنزلت في عبدالله بن أُبي ، وناس معه قذفوا عائشة ، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال : من يعذرني في رجل يؤذيني ، ويجمع في بيته من يؤذيني فنزلت .
وأخرج الحاكم عن ابن أبي مليكة قال : جاء رجل من أهل الشام ، فسب علياً عند ابن عباس ، فحصبه ابن عباس وقال : يا عدوّ الله آذيت رسول الله[إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخرة]( )، لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً لآذتيه .
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة } قال : آذوا الله فيما يدعون معه ، وآذوا رسول الله قالوا : إنه ساحر مجنون( ).
واستمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الحال لعشر سنوات , وكان في كل سنة يوافي حجاج البيت الحرام في موسم الحج منتفعاً من الأشهر الحرم ذي القعدة وذي الحجة ومحرم وعدم التعدي والقتل فيها ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
فيطوف على القبائل في منازلهم في أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى الإسلام ، ويسألهم أن يمنعوه من قريش حتى يبلغ رسالته وآيات التنزيل فلا تجيبه القبائل خشية من رجالات قريش ، ولشدة إيذائهم له والتعدي على شخصه الكريم والسخرية منه ، وصدّ الناس عنه ونعته بأنه كذاب.
وعن طارق بن عبد الله قال : قَالَ إنّي لَقَائِمٌ بِسُوقِ الْمَجَازِ إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ عَلَيْهِ حلة حمراء يقول ( ):
يَا أَيّهَا النّاسُ قُولُوا : لَا إلَهَ إلّا اللّه تُفْلِحُوا وَرَجُلٌ يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ يَقُولُ يَا أَيّهَا النّاسُ لَا تُصَدّقُوهُ فَإِنّهُ كَذّابٌ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا : هَذَا غُلَامٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الّذِي يَزْعُمُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ قَالَ قُلْتُ مَنْ هَذَا الّذِي يَفْعَلُ بِهِ هَذَا .
قَالُوا : هَذَا عَمّهُ عَبْدُ الْعُزّى قَالَ فَلَمّا أَسْلَمَ النّاسُ وَهَاجَرُوا خَرَجْنَا مِنْ الرّبَذَةِ نُرِيدُ الْمَدِينَةَ نَمْتَارُ مِنْ تَمْرِهَا فَلَمّا دَنَوْنَا مِنْ حِيطَانِهَا وَنَخْلِهَا قُلْنَا : لَوْ نَزَلْنَا فَلَبِسْنَا ثِيَابًا غَيْرَ هَذِهِ فَإِذَا رَجُلٌ فِي طِمْرَيْنِ( ) لَهُ.
فَسَلّمَ وَقَالَ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلَ الْقَوْمُ .
قُلْنَا : مِنْ الرّبَذَةِ .
قَالَ وَأَيْنَ تُرِيدُونَ .
قُلْنَا : نُرِيدُ هَذِهِ الْمَدِينَةَ .
قَالَ مَا حَاجَتُكُمْ فِيهَا , أي لعلهم جاءوا لدخول الإسلام .
قُلْنَا : نَمْتَارُ مِنْ تَمْرِهَا . قَالَ وَمَعَنَا ظَعِينَةٌ لَنَا وَمَعَنَا جَمَلٌ أَحْمَرُ مَخْطُومٌ .
فَقَالَ أَتُبِيعُونَ جَمَلَكُمْ هَذَا ؟ قَالُوا : نَعَمْ بِكَذَا وَكَذَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ قَالَ فَمَا اسْتَوْضَعْنَا مِمّا قُلْنَا شَيْئًا فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَانْطَلَقَ فَلَمّا تَوَارَى عَنّا بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ وَنَخْلِهَا قُلْنَا : مَا صَنَعْنَا وَاَللّهِ مَا بِعْنَا جَمَلَنَا مِمّنْ نَعْرِفُ وَلَا أَخَذْنَا لَهُ ثَمَنًا .
قَالَ تَقُولُ الْمَرْأَةُ الّتِي مَعَنَا : وَاَللّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا كَأَنّ وَجْهَهُ شِقّةُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ أَنَا ضَامِنَةٌ لِثَمَنِ جَمَلِكُمْ .
وَفِي رِوَايَةِ ابن إسْحَاقَ قَالَتْ الظّعِينَةُ فَلَا تَلَاوَمُوا فَلَقَدْ رَأَيْتُ وَجْهَ رَجُلٍ لَا يَغْدِرُ بِكُمْ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ مِنْ وَجْهِهِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ .
فَقَالَ أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْكُمْ هَذَا تَمْرُكُمْ فَكُلُوا وَاشْبَعُوا وَاكْتَالُوا وَاسْتَوْفُوا فَأَكَلْنَا حَتّى شَبِعْنَا وَاكْتَلْنَا وَاسْتَوْفَيْنَا .
ثُمّ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النّاسَ فَأَدْرَكْنَا مَنْ خُطْبَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
تَصَدّقُوا فَإِنّ الصّدَقَةَ خَيْرٌ لَكُمْ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السّفْلَى أُمّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاك وَأَدْنَاكَ أَدْنَاكَ ” إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ أَوْ قَالَ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ لَنَا فِي هَؤُلَاءِ دِمَاءٌ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَقَالَ ” إنّ أُمّا لَا تَجْنِي عَلَى وَلَدٍ ” ثَلَاثَ مَرّات( ).
ومن معاني لزوم عبادة قريش لله عز وجل بصفتهم كسدنة للبيت الحرام وأصحاب تجارة وقوافل تجوب الجزيرة العربية شمالاً وجنوباً ، قال تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( )، أن يتعاهدوا حنيفية إبراهيم ، ودعوته إلى الله عز وجل وأن يتلقوا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق ، ولكنهم قابلوها بالإنكار والتعدي من وجوه :
الأول : الصدّ عن النبوة .
الثاني : الإستهزاء بالآيات.
الثالث : محاولة الإتيان بقصص الأمم السابقة، قال تعالى [وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ]( ) .
وفي قوله تعالى [الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ]( )، وهم كفار قريش إذ قال بعضهم أنه سحر ، وآخرون أنه كهانة ، وآخرون أنه بهتان ، وأساطير الأولين.
وعضين أي أجزاء , ومفرده عضة ، ومن معاني العضة السحر .
وإن قيل يذكر القرآن إيذاء الذين كفروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلماذا لاينتقم الله عز وجل منهم، الجواب نعم قد انتقم منهم بعد أن أمهلهم وأقام عليهم الحجة ، وهذا الإمهال من مصاديق الآية بعد التالية [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ]( ).
وهل تشمل الآية أعلاه الذين تابوا وأصلحوا من الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام في معركة بدر وأحد والخندق ، الجواب لا , ليكون من معاني الآية أعلاه وجوه :
الأول : انما نملي للذين كفروا ليتعظ ويهتدي الناس .
الثاني : إنما نملي للذين كفروا ليتوب فريق منهم فيكون الإملاء رحمة بهم .
الثالث : انما نملي للذين كفروا ليتوب فريق منهم فيزداد الذين يبقون على الكفر إثماً .
ومن وجوه الإنتقام من الذين كفروا من قريش قوله تعالى [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ]( )، إذ ابتلى الله عز وجل بعضهم وأشغلهم بأنفسهم وأهلك طائفة منهم من غير أن يبذل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جهداً لإيذائهم وهلاكهم وهم خمسة ، إذ أمر الله عز وجل جبرئيل في التصدي لهم وهم :
الأول : الوليد بن المغيرة ، وكان له سبعة من الولد ، اسلم منهم خالد بن الوليد وهشام بن الوليد .
ومات ابنه عمارة في الحبشة كافراً إذ بعثته وعمرو بن العاص قريش إلى النجاشي وجرت له قصة وكيد وأصيب بعقله وهام مع الوحوش , والوليد هو الذي قال [ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا]( )، وكان الوليد شديداً على النبي والإسلام .
وعن الشعبي قال : لما حضر الوليد بن المغيرة جزع، فقال له أبو جهل: يا عم، ما يجزعك؟ قال: والله ما بي جزع من الموت، ولكني أخاف أن يظهر دين ابن أبي كبشة بمكة، فقال أبو سفيان: يا عم، لا تخف فأنا ضامن أن لا يظهر( ).
وعرض جبرئيل للوليد بن المغيرة (فعثر به ، فعصره عن نصل في رحله حتى خرج رجيعه من أنفه) ( ).
الثاني : الأسود بن عبد العزى ، إذ عرض له جبرئيل وهو يشرب الماء فنفخ فيه حتى انتفخ جوفه وانشق .
الثالث : العاص بن وائل ، وكان متوجهاً يومئذ إلى الطائف (فنخسه بِشَبْرُقَةٍ فجرى سمّها إلى رأسه)( ).
الرابع : الحارث بن قيس قتله جبرئيل بلكزه ، فما زال يئن منها حتى مات .
الخامس : الأسود بن عبد يغوث الزهري ، والذي دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال : اللهم أعم بصره وأثكله بولده( ).
وفي الخبر أنهم خمسة ورئيسهم هو عبد الله بن عمرو بن مخزوم وأن جبرئيل أتى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ( وذكر أنهم يطوفون بالبيت، فقام جبرئيل وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه فمرّ به الوليد بن المغيرة.
فقال جبرئيل : يا محمّد كيف تجد هذا، قال : بئس عبد الله. قال : قد كفيت وأومأ إلى ساقه ويده، فمرّ برجل من خزاعة (نبّال) يريّش نبلاً له وعليه برد يمان وهو يجر إزاره فتعلقت شظّية من نبل بإزاره.
فمنعه الكبر أن يطمئن ونبذ عمامته وجعلت تضرب ساقه فخدشته فمرض منه ومات , وقال الكلبي : تعلّق سهم بثوبه فأصاب أكحله( )، فقطعه فمات.
ومرَّ به العاص بن وائل، فقال جبرئيل : كيف تجد هذا يا محمّد؟
قال : بئس عبد الله، فأشار جبرئيل لأخمص رجله وقال : «قد كفيت وقد خرج على راحلته ومعه اثنان يمنعانه فنزل شعباً من تلك الشعاب فوطيء على شرقة فدخلت منها شوكة في أخمص رجله، فقال : الوقت لدغت. فطلبوا ولم يجدوا شيئاً فأنتفخت رجله حتّى صارت مثل عنق بعير فمات مكانه.
ومرَّ به الأسود بن عبد المطلب، فقال جبرئيل : كيف تجد هذا يا محمّد؟ قال : عبد سوء فأشار إلى عينه ، وقال : قد كفيت فعمى.
قال ابن عبّاس : رماه جبرئيل بورقة خضراء فذهب بصره ووجعت عينه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتّى هلك.
وفي رواية الكلبي: أتاه جبرئيل وهو قاعد في ظل شجرة ومعه غلام له فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك وإستغاث بغلامه.
فقال غلامه : لا أرى أحداً يصنع بك شيئاً غير نفسك حتّى مات وهو يقول : قتلني ربّ محمّد.
ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث فقال جبرئيل : كيف تجد هذا؟ فقال : بئس عبد الله، على أنه خالي ، فقال : قد كفيت، وأشار إلى بطنه فشقّ بطنه فمات حينها.
وفي رواية الكلبي : أنه خرج من أهله فأصابه السموم فاسودّ حتّى عاد حبشياً فأتى أهله فلم يعرفوه فأغلقوا دونه الباب وهو يقول: قتلني ربّ محمّد.
ومرَّ به الحرث بن قيس، فقال جبرئيل عليه السلام : يا محمّد كيف تجد هذا؟
قال : عبد سوء فأومأ إلى رأسه وقال : قد كفيت، فأمتخط قيحاً فقتله.
وقال ابن عبّاس : إنه أكل حوتاً مالحاً فأصابه العطش فلم يزل يشرب عليه من الماء حتّى اتّقد بطنه فمات، فذلك قوله تعالى : {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ} يعنى بك وبالقرآن)( ).
ولم يرد لفظ (المستهزئين) بالرفع أو النصب أو الجر ، ولا بصيغة المفرد والمثنى وجمع المؤنث السالم ، إلا في الآية أعلاه بقوله تعالى [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ]( ) .
لبيان قانون وهو إنقطاع الإستهزاء بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونبوته من حين هجرته إلى المدينة وإلى يوم القيامة ، ولا عبرة بالقليل النادر الذي يلاقى من قبل المسلمين وعامة الناس بالإعراض وعدم الرضا.
المسألة السادسة : جاءت آية البحث في ذم الذين كفروا ، وأخبرت عن شرائهم الكفر، أي أن الفطرة منزهة عن الكفر والريب والشكوك، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، فيولد الإنسان على الهدى ، وتدعوه الآيات الكونية إلى الإيمان ، ويزجره عقله عن إرتكاب المعاصي والسيئات .
ثم تفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء بالمعجزات الحسية ليتعاهد الناس الإيمان ، ويمتنعوا عن الكفر والضلالة وختم الله الأنبياء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل عليه القرآن معجزة عقلية وأجرى على يديه المعجزات الحسية المتعددة ليؤمن رجال قريش ، ويكونوا داعية للناس للإيمان وهو من مصاديق تسمية مكة أم القرى ، كما في قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( )، إذ تقتدي طائفة من الناس بهم إلى جانب وجود بشارات الكتب السماوية السابقة ببعثته بين ظهراني الناس ، ويتناقلها أهل الكتاب وتتعلق بالإخبار عن بعثة خاتم الأنبياء ، ومحل بعثته ، وصفاته في الجملة.
ولما أصر سادة قريش على الكفر والعدوان هل اتبعهم رجال القبائل المحيطة بمكة , الجواب لا ، صحيح أنه خرجت معهم بعض القبائل من كنانة والأحابيش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد والخندق إلا أنهم تخلوا عنهم وتركوهم كما أن طائفة من أهل مكة ومن رجال القبائل دخلوا الإسلام ، وهاجروا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة.
ويدل على هذا المعنى حصر شراء الذين كفروا الكفر بأنفسهم ، فهم لم يشتروا الكفر لهم ولغيرهم إنما اشتروه لأنفسهم وحدهم ، للحصانة العامة من الكفر التي جعلها الله عز وجل عند الناس في الحياة الدنيا .
المسألة السابعة : لقد ذكرت آية البحث والآية السابقة لها والآية التي بعدها الذين كفروا بصيغة الذم .
وذكرت آية البحث المؤمنين وفضل الله عز وجل في إختبارهم وامتحانهم لفضح المنافقين , قال تعالى[الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ]( )، لبيان قانون وهو أن هذا الإمتحان خير ونفع للمؤمنين وباب للثواب ، وفصل وتمييز بينهم وبين المنافقين الذين يخفون الكفر مع إظهارهم الإسلام ونطقهم بالشهادتين.
المسألة الثامنة : تضمنت آية البحث الإخبار عن شراء المشركين الكفر وفيه دلالة على سعيهم إليه ، وإتباعهم الهوى وخطوات الشيطان ، وجاءت آية السياق بحث المسلمين على الإيمان بالله والرسل جميعاً لقوله تعالى[فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ]( )، ليكون من معالم الإيمان التسليم ببعثة جميع الأنبياء والرسل سواء من ورد ذكرهم في القرآن أو السنة النبوية أو لم يرد ذكرهم بالاسماء فيهما.
ومن خصائص ذكر آية السياق للمؤمنين ، وفضل الله في تمييزهم أمور :
الأول : تبكيت وتوبيخ الذين كفروا لإختيارهم الكفر .
الثاني : تذكير الذين كفروا بأن الإيمان لا يباع ولا يفرط به.
الثالث : إخبار الناس بأن تفريط الذين كفروا بالإيمان لم يمنع الناس من دخول الإسلام وتعاهد الإيمان ، فهو باق في الأرض إلى يوم القيامة.
الرابع : تحذير المسلمين من الكفار الذي أصروا على الجحود بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، وعبدوا الأصنام ، ومالوا عن جادة الحق والصواب .
وفي ذم المنافقين وسوء فعلهم وعاقبتهم قال تعالى [الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
الخامس : بيان قانون وهو حب الله عز وجل للمؤمنين والبشارة لهم بالثواب والأجر فأختتمت آية السياق بقوله تعالى[وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ) .
ويبين الله عز وجل للذين كفروا سوء عاقبتهم لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى[وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ].
المسألة التاسعة : تبين آية السياق قانوناً وهو علم الله عز وجل وحده بالغيب ، وهو من مصاديق ملكه للسموات والأرض وعظيم سلطانه وسعة قدرته ، ومن الغيب طوايا النفوس وما يخفيه الناس من النوايا الحسنة أو الخبيثة .
ولكن جاءت آيات القرآن لإصلاح النفوس ، وإزاحة الخبث والمرض من القلوب .
وتفضل الله عز وجل بجعل علم الغيب خاصاً به وحده ليجتهد المسلمون في طاعته ، ويلجأوا إلى الدعاء رجاء رفده وإحسانه ، وليعلم الذين كفروا والمنافقون بأن الله عز وجل لطيف ورحيم بهم إذ ستر عليهم ، ولم يفضحهم ولكنه حذرهم وأنذرهم في القرآن والكتب السماوية السابقة ، لذا جاء الإخبار عن بعثة الرسل متعقباً لعدم إطلاع الله المسلمين على الغيب ، لقوله تعالى [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
وذكر في سبب نزول آية السياق أن الكافرين قالوا إن كان محمد صادقاً في رسالته ، فليخبرنا من الذين يؤمن منّا ، ومن يبقى على كفره ، فنزلت الآية.
وأخبرت آية السياق عن علم الله عز وجل بالغيب وأنه سبحانه لا يطلع المسلمين والناس على الغيب إلا أن يشاء وفيما يشاء من الأمور لذا أخبرت آية السياق عن إختيار وإجتباء الله عز وجل الرسل والأنبياء وهو من مصاديق قوله تعالى[عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا]( ).
المسألة العاشرة : لم يرد لفظ (ليطلعكم) في القرآن إلا في آية السياق ، ولم يرد فيه لفظ (يطلعكم) و(يطلع) لبيان إنفراد الله عز وجل وحده بعلوم الغيب ، وفي أسباب نزول قوله [أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا * أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا]( ).
ورد عن ابن عباس : أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون العاص بن وائل بدين فأتوه يتقاضونه ، فقال : ألستم تزعمون أن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً ومن كل الثمرات؟ .
قالوا : بلى . قال : فإن موعدكم الآخرة . والله لأوتين مالاً وولداً ، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به . فقال الله [أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا]( ) الآيات ( ).
وهل يختص علم الغيب بما غاب عن الحواس كما يقال , الجواب إنه أعم.
وقد ورد في الشريعة الإسلامية تحريم الكهانة والعرافة والأجرة عليهما ، لأنها إدعاء لا أصل له بعلم الغيب وأخبار السماء لما في هذا الإدعاء من الكذب والضلالة والتضليل وحبس العقول عن الإختيار ، والبصيرة عن التدبر والعمل نحو الأصلح ، ونعمة الدعاء وما فيه من المكاسب.
وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أصابه هم أو حزن فليقل : اللهم إني عبدك ، وابن عبدك ، وابن أمتك ، ناصيتي في يدك ، ماض فيّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور بصري ، وذهاب همي ، وجلاء حزني .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما قالهن مهموم قط إلا أذهب الله همه وأبدله بهمه فرجاً . قالوا : يا رسول الله أفلا نتعلم هذه الكلمات؟ قال : بلى ، فتعلموهن وعلموهن ( ).
ومن مضامين ومعاني قوله تعالى[غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ]( )، وقوع الحرب بين الروم والفرس بين أذرعات وبُصرى من ريف الشام أيام البعثة النبوية , وقبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة .
فكانت الغلبة للفرس وكان الملك كسرى أبرويز ولما بلغ خبر المعركة وانتصار الفرس إلى مكة ، شُق على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن الروم نصارى وأهل كتاب , أما فارس فهم مجوس ليس عندهم كتاب ، وفرح المشركون ، وشمتوا وقالوا للمسلمين : أنتم والنصارى أهل الكتاب أما نحن وفارس فأميون ، وكما ظهرت فارس على إخوانكم النصارى فاننا سنظهر عليكم ، فنزلت الآيات أعلاه .
وقال أبو بكر : والله ليظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين.
فقال أبي بن خلف وهو من رؤساء الكفار: كذبت .
وخاطره على عشر قلائص( )، من كل واحد منهما ، وجعلا ثلاث سنين ، أي أن ظهرت الروم وانتصرت على فارس خلال ثلاث سنين يدفع أبي عشر قلائص ، وإن لم تظهر الروم على فارس في ذات المدة يقوم أبو بكر بدفعها له .
ولما أخبر أبو بكر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بما جرى بينه وبين أبي ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : زد في الخطر وأبعد في الأجل.
فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين، ومات أبيّ بن خلف من جرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له يوم أحد إذ أنه أصر على التقدم نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ من أجل قتله ، فعندما اسند النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الشعب وقد اشتدت جراحاته وسالت الدماء من وجهه وكسرت رباعيته وبعض أسنانه الأمامية ، أدركه أبي بن خلف .
وهو يقول : أَيْ مُحَمّدُ لَا نَجَوْت إنْ نَجَوْت ، فَقَالَ الْقَوْمُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَيَعْطِفُ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنّا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ” دَعُوهُ ” فَلَمّا دَنَا ، تَنَاوَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَرْبَةَ مِنْ الْحَارِثِ بْنِ الصّمّةِ ( ).
فطعنه بها في عنقه ، فرجع أبي منهزماً مولولاً ، فقال له المشركون : ما بك من بأس فقال : والله لو بصق علي لقتلني ، ومات أبي بسرف ، مرجعهم إلى مكة ليكون موته في طريق عودة المشركين من معركة أحد ، من مصاديق قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )، من جهات :
الأولى : موت أبي بن خلف من الطرف والطائفة التي تذكرها الآية.
الثانية : بيان قانون وهو أن قطع الطرف من المشركين لا ينحصر بميدان المعركة .
الثالثة : موضوعية حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معركة أحد في قطع طرف ورؤساء من الذين كفروا.
الرابعة : تحقق مصداق وعيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بن خلف.
الخامسة : لم يضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبي إلا دفاعاً عن نفسه , وبعد أن صار قريباً منه وهو يريد قتله.
السادسة : ضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بالحربة من مصاديق قوله تعالى[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
فصحيح أن الآية أعلاه نزلت في معركة بدر ولكن موضوعها أعم , وفيه بيان مصداق لقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] إذ يخسر الكفار أنفسهم .
وزوجة أبي بن خلف عصماء بنت الحارث بن حزن وولدت له إبان وغيره وأختها أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث , وكذا لبابة الكبرى بنت الحارث أم عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ، ولبابة الصغرى بنت الحارث أم خالد بن الوليد .
ولميمونة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخوات لأمها وهن :
الأولى : أسماء بنت عميس ، وكانت عند جعفر بن أبي طالب ، وولدت له عبد الله وعون .
وبعد استشهاد جعفر في معركة مؤتة تزوجها أبو بكر بن أبي قحافة فولدت له محمداً .
ثم تزوجها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
الثانية : سلمى بنت عميس تزوجها حمزة بن عبد المطلب فولدت له أمة الله ، ثم خلف عليها شداد بن أسامة فولدت له عبد الله وعبد الرحمن .
الثالثة : سلامة بنت عميس تزوجها عبد الله بن كعب .
وفيه بيان للصلات الإجتماعية والتداخل بين قريش وغيرها في النسب والمصاهرة ، وهو واقية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وواحة ومناسبة لتبليغه آيات التنزيل وأحكام الشريعة .
وهل يدخل الأصهار في عمومات قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، أم أن القدر المتيقن منها الصلات النسبية من جهة الآباء المختار هو الأول , واثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره , فتخصيص الآية أعلاه الإنذار بافراد العشيرة الأقربين لا يتزاحم أو يتعارض مع قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بانذار غيرهم , وليكون من معناه تعدد ضروب الإنذار لعشيرة النبي , ليكون حجة على أبي لهب ورجالات قريش , قال تعالى[أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ]( ).
وعَنِ ابن الكَلْبيِّ عَنْ أبِيهِ : الشَّعْبُ بِفَتْحِ الشِّينِ أَكْبَرً مِنَ القَبِيلَةِ ثُمَّ القَبِيلَةُ ثُمَّ العِمَارَةً بِكَسْرِ العَيْنِ ثُمَّ البَطنُ ثُمَّ الفَخِذُ( ).
أي أنه لم يذكر العشيرة مع أنها وردت في القرآن وقيل (الشَّعْبُ ثُمَّ القَبِيلَةُ ثُمَّ الفَصِيلَةُ ثُمَّ العَشِيرَةُ ثُمَّ الذُّرِّيَّةُ ثُمَّ العِتْرَةُ ثُمَّ الأسْرَة)( ).
والقدر المتيقن من العشيرة أنهم أبناء العم سواء كانوا لحاً أو من الكلالة .
وجاءت الآية أعلاه بتقييد الإنذار بأنه للعشيرة الأقربين من عموم رجال عشيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل في مفهومه على أمور:
الأول : كثرة رجال عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وموضوعيتهم وأثرهم .
الثاني : إيصال أفراد العشيرة الأقربين الإنذار إلى عموم أفراد العشيرة رجالاً ونساءً ، وتقدير الآية : وأنذر عشيرتك الأقربين لينذروا الأبعدين منهم .
الثالث : دخول الأصهار مع عموم الذين يتوجه إليهم الإنذار ليكون من تقدير الآية : وأنذر عشيرتك الأقربين ليصل الإنذار للأبعدين من أفراد القبيلة وغيرهم.
الرابع : إرادة عمومات قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإنذار ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، وأخذ أبو بكر الخطر مائة ناقة من ذرية أبيّ ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصدّق به ، وقيل كان ذلك قبل تحريم القمار .
واحتج أبو حنيفة بهذه الواقعة على جواز العقد الفاسد كالربا في دار الحرب بين المسلمين والكفار .
ولكنها قضية في واقعة لا تكفي وحدها للإستدلال بما هو أعم من موضوعها من العقود الفاسدة ، إنما كان المقام نوع تحد ، ولم يثبت أن مكة دار حرب , والأصل بخلافه , وفيه بيان لمعجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وظهور دولة الإسلام ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كره إقدام أبي بكر على مخاطرة الكفار هذه إذ ورد عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : لما أنزلت[الم * غُلِبَتْ الرُّومُ]( )، قال المشركون لأبي بكر رضي الله عنه : ألا ترى إلى ما يقول صاحبك . يزعم أن الروم تغلب فارس.
قال : صدق صاحبي .
قالوا : هل لك أن نخاطرك.
فجعل بينه وبينهم أجلاً ، فحل الأجل قبل أن يبلغ الروم فارس ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فساءه وكرهه وقال لأبي بكر ما دعاك إلى هذا؟ قال : تصديقاً لله ورسوله .
فقال : تعّرض لهم ، وأعظم الخطر ، واجعله إلى بضع سنين . فأتاهم أبو بكر رضي الله عنه فقال : هل لكم في العود فإن العود أحمد؟ قالوا : نعم . ثم لم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارس ، وربطوا خيولهم بالمدائن وبنو الرومية ، فقمر أبو بكر فجاء به أبو بكر يحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا السحت تصدق به( ).
وكان أبي بن خلف يتوعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة قبل الهجرة ويقول له : ان عندي العوذ فرشاً اعلفه كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليه .
فيقول له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : بل أنا اقتلك ان شاء الله ، ليلحق وعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوعيد الوارد في آيات القرآن للذين كفروا ويتحقق مصداق هذا الوعيد في معركة أحد بأن يقوم أبي بن خلف بطلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإصرار على قتله ، وهذا الإصرار من مصاديق الشراء المحرم المذكور في آية البحث [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ].

رجوع النبي (ص) للمدينة بعد فتح مكة
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب مكة حباً جما وبقي ذات الحب في قلوب المسلمين والى يوم القيامة وعندما غادرها مهاجراً قال : علمت أنك خير أرض الله وأحب الارض إلى الله، ولو لا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت ( ).
وقال : ما أطيبك من بلدة وأحبك إليّ ، ولولا أن قومك أخرجوني ما سكنت غيرك( ).
وقد منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المهاجرين من المكث في مكة بعد تأدية النّسك أكثر من ثلاث ليال.
وقال ابن هشام : وَبَلَغَنِي عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكّةَ وَدَخَلَهَا ، قَامَ عَلَى الصّفَا يَدْعُو ( اللّهَ ) ، وَقَدْ أَحْدَقَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَتُرَوْنَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ يُقِيمُ بِهَا .
فَلَمّا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ قَالَ مَاذَا قُلْتُمْ ؟ قَالُوا : لَا شَيْءَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتّى أَخْبَرُوهُ .
فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَاذَ اللّهِ الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ ( ).
ولم يدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة دخول الفاتحين أو المنتصرين، ومن معجزاته الحسية أنه دخلها يوم الفتح خافضاً رأسه تكاد لحيته تمس راحلته خشوعاً وخشية من الله عز وجل ، وتواضعاً وكان يقرأ سورة الفتح وهو على ناقته ، ويرّجع في قراءته الى أن دخل البيت.
وكان أهل مكة رجالاً ونساء يتطلعون إليه ، وينظرون الى طلعته البهية ، وصفته فلم يكن فاتحاً أو ظالماً أو جباراً إنما دخل بحال المسكنة إلى الله عز وجل , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ), وفيه مصداق بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً .
مع أن عدد جيش المسلمين الذين تحت لوائه عشرة آلاف رجل ، وقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتقسيمهم إلى فرق ، وكل فرقة تدخل من إحدى الجهات الأربعة لمدينة مكة وهي :
الأولى : الفرقة الأولى بقيادة الزبير بن العوام ووصلت الى مكة من أعلاها .
الثانية : الفرقة الثانية برئاسة عبيدة بن الجراح ودخلت مكة من جهة الشرق .
الثالثة : الفرقة الثالثة برئاسة قيس بن سعد ودخلت مكة من جهة الجنوب الشرقي .
الرابعة : الفرقة الرابعة برئاسة خالد بن الوليد ، ودخلت مكة من أسفلها .
لقد عاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة بعد الفتح إلى المدينة ، ليستبشر بعودته أهل المدينة كيوم دخولها مهاجراً أول مرة ، مع إقرار بالفضل من عند الله بأنه دخول نصر وظفر وبناء صرح مبادئ الإيمان إذ توالى نزول آيات القرآن التي تبين الأحكام والسنن ، وتدعو الناس للمودة ونشر شآبيب الرحمة ، وتمنع من الخلاف والفرقة.
ومن دعاء النبي : اللَّهُمَّ احْيِنِي مِسْكِيناً وَأمِتْنِي مِسْكِينَاً وَاحْشْرْنِي فِي زُمْرَةِ المَساكِين( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم توجهه إلى الدعاء لنيل الفضل من عند الله عز وجل ، وعن انس بن مالك قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا بِمَكَّةَ مِنْ الْبَرَكَةِ ( ).
ولم يمنعه هذا الخشوع لله عز وجل من إقدامه على كسر الأصنام التي في الكعبة وحولها ، إذ كان يطعنها بعود كان بيده , ويقول [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ).
وعن ابن عمر قال : أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه( )، فلما خرج لم يجد مناخاً فنزل على أيدي الرجال فخطبهم ، فحمد الله وأثنى عليه وقال :
الحمد لله الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها بآبائها ، الناس رجلان برٌّ تقيّ كريمٌ على الله وفاجرٌ شقيّ هّينٌ على الله ، والناس بنو آدم ، وخلق الله آدم من تراب . قال الله[يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى]( )، إلى قوله[خَبِيرٌ] ( )، ثم قال : أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم( ).
كما دعا بالبركة لمد وصاع وأوزان المدينة كما دعا إبراهيم الخليل عليه السلام لمكة من الأمن والبركة وجلب الثمار ، وفي التنزيل[وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ]( ) .
وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن إبراهيم حَرَّم بيت الله وأمَّنَه وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يُصَادُ صيدها ولا يقطع عضاهها( ).
لقد تم فتح مكة أو قل تنزيهها من الأصنام وعبادة الأوثان في العشرين من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة ، والموافق للعاشر من شهر يناير من العام 630 ميلادية ، ودخلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاشعاً شاكراً لله وبعد نحو أسبوعين من بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة تتوالى فيها الأخبار بأن قبائل هوازن وثقيف يجمعون الجموع ، ويحشدون رجال القبائل في وادي حنين .
لقد بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة بعد الفتح أياماً معدودة ، ولم تكن أيام نسك وحده ، بل كانت أيام بيعة ، من الرجال والنساء ، وعفو ، ومعجزات ، وتنظيم شؤون الحكم والدين إذ نصب (عتاب بن أسيد) والياً عليها وجعل معاذ بن جبل معلماً يعلّم أهلها أحكام الدين ، والفرائض العبادية.
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : يا أيها الناس إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان .
وهل يشمل الخطاب أعلاه الذين كفروا أنفسهم أم أنهم يخرجون من هذا الخطاب بالتخصيص ، الجواب هو الأول .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان ، وفيه مسائل:
الأولى : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة الإيمان ، والعصمة من الذم في خاتم الكتب السماوية المنزلة ، عن حفص قال عمر لعلي وأصحابه عنده: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والله أكبر، قد عرفناها، فما الحمد لله ، قال علي: كلمة أحبها (الله) لنفسه، ورضيها لنفسه، وأحب أن تقال( ).
الثانية : حث المسلمين على العصمة من الميل إلى الذين كفروا ، ومن الإرتداد ، قال تعالى[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ]( ).
الثالثة : تفقه المسلمين في الدين .
الرابعة : بعث المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان كيف أن الكفر خلاف الفطرة الإنسانية ، وهو لا يأتي إلا بالشراء الذي يجلب الأسى والحسرة وفي التنزيل [يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون]( ) .
وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله[يَاحَسْرَتَنَا]( )، قال : الحسرة أن يرى أهل النار منازلهم من الجنة في الجنة ، فتلك الحسرة( ).
الخامسة : بيان التباين والتضاد بين الإيمان والكفر , وكيف أن الإيمان يجب عدم التفريط بها.
السادسة : إستحضار فضل الله في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه جاء لتثبيت الإيمان في الأرض ، وعن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وأجملها وترك فيها موضع هذه اللبنة لم يضعها ، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ، ويقولون : لو تم موضع هذه اللبنة ، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة( ).
الثالث : يا أهل الكتاب ان الذين اشتروا الكفر بالإيمان [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا].
لإرادة تحذير أهل الكتاب من اليهود والنصارى من كفار قريش ، والذين يكيدون بالمسلمين ، ويسعون في الإغارة على المدينة وغزوها ، وتعطيل الأعمال فيها بانشغال أهلها بالدفاع والمرابطة والحراسات .
لقد أراد كفار قريش استمالة يهود المدينة ، فصدهم أكثرهم وقالوا لهم بيننا وبين محمد صلى الله عليه وآله وسلم عهود لا نريد نقضها.
الرابع : يا أيها الذين كفروا انكم اشتريتم الكفر بالإيمان وقد يرث الكافر الجحود والضلالة وعباده الأصنام عن آبائه ، ويتلقاها في محيطه فلا يلتفت إلى قبحها ، فجاءت آية البحث لتوبيخه ، وإنذاره ، وفي التنزيل[إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ]( ).
إعجاز الآية الذاتي
إبتدأت آية البحث بالحرف المشبه بالفعل (إن) الذي يفيد التوكيد ، ومن معانيه في المقام طرد الغفلة عن الناس ، وجعلهم يدركون قبح إختيار الكفر ، وكيف أن هذا الإختيار لم يأت إلا ببذل أفضل شئ في الوجود وهو الإيمان عوضاً للكفر .
فيكون هذا البذل وبالاً على الذين كفروا وسيفاً صارماً يطاردهم ، ويغلق عليهم أسباب النعم في الدنيا ، وفقراً وعذاباً في الآخرة ، وجاءت آية البحث للإخبار عن إضرار الذين كفروا بأنفسهم وتأكيد قانون وهو عدم إكراه الكفار على إختيار الكفر ، وفيه شاهد على أن [الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( ) فليس من سلطان في الأرض يستطيع أن يملي ويفرض الكفر على الناس ، وحتى لو خيرهم بين السيف أو الكفر فان باب التقية واسع ، قال تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ).
ومن إعجاز الآية ذكرها للتلبس بالكفر بأنه شراء ، أي ليس إختياراً وميلاً واتباعاً للهوى وحده ، إنما يبذل الكافر العوض والجهد ويسعى لبلوغ الكفر ، مع أنه يقوده إلى الخسارة في النشأتين ، قال تعالى [وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ] ( ).
وفي الشراء أطراف :
الأول : البائع .
الثاني : موضوع الشراء .
الثالث : العوض .
الرابع : المشتري .
وقد اثنى الله عز وجل على المؤمنين بحسن بيعهم أنفسهم في سبيل الله ، وزهدهم في الدنيا مع الوعد منه تعالى بالأجر والثواب لهم , قال تعالى[وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ]( ).
ومن الإعجاز في آية البحث أنها ذكرت الأطراف الثاني والثالث والرابع أعلاه ، ولم تذكر بائعاً يبيع الكفر لأنه قبيح بذاته ، ولأن الدنيا دار الرحمة والرأفة من عند الله ، وليس فيها من بائع للكفر والضلالة فان قيل الشيطان يبيع الكفر ، الجواب إنه أصغر وأدنى من البيع والشراء ، إنما يقوم بالتخويف والتهويل ،وبعض مقدمات الإغراء ، لذا ورد قبل آيتين قوله تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
وكأن شراء الكفار للجحود من الشراء الذاتي فقد جعل الله عز وجل الإيمان وثيقة وعهداً في أعناقهم ففرطوا بها ، وكل واحد منهم يبوء باثمه ، وتقدير الآية بصيغة المفرد :
إن الذي اشترى الكفر بالإيمان لن يضر الله شيئاً وله عذاب أليم ، فان قلت من الناس من يقع تحت أمرة الطاغوت ، ويحملونه على الكفر .
والجواب لا يستطيع أي أحد يملي الكفر على غيره ، ويجعله يترك الإيمان وسننه , وعصمة الإنسان من الإكراه على الكفر , من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لأن الإيمان إعتقاد بالجنان ، وتصديق بالقلب وإذا حمله الطاغوت على فعل قبيح فان أحكام التقية تسعه , وقال تعالى[مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( ).
وتدل آية البحث على أن سلطان الطاغوت إلى زوال، قال تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً]( ).
(عن ابن عباس قال : لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهاجر إلى المدينة ، قال لأصحابه : تفرقوا عني ، فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ، ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل ، فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض ، فالحقوا بي.
فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت ويدل تقيد ذكر نسب الجارية بأنها من قريش بأنها ليست سمية أم عمار بن ياسر التي هي أمة لأبي حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم وهو الذي زوّجها لياسر بن عامر (فولدت له عماراً فأعتقه أبو حذيفة فمن هذا هو عمار مولى لبني مخزوم وأبوه عرني , وللحلف والولاء اللذين بين بني مخزوم وبين عمار وأبيه ياسر كان اجتماع بني مخزوم إلى عثمان حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب حتى انفتق له فتق في بطنه ورغموا وكسروا ضلعاً من أضلاعه فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا: والله لئن مات الا قتلنا به أحداً غير عثمان) ( ).
والأصل حرية عمار لأن أباه ياسر حر ، والولد يتبع أشرف الأبوين ، في الإسلام والكفر ، وفي الحرية والرقية .
وكان ياسر بن عامر قدم هو وأخواه الحارث ومالك من اليمن الى المكة يطلبون أخاً لهم ، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن ، واختار ياسر البقاء في مكة ليكتب له ولذريته العز في النشأتين بالإسلام والمبادرة إليه ، وصحبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فأصبحوا بمكة فأخذهم المشركون وأبو جهل .
فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى ، فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه ، فإذا ألبسوها إياه قال : أحد . . أحد . .
وأما خباب ، فجعلوا يجرونه في الشوك .
وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقيةً .
وأما الجارية ، فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قلبها حتى قتلها .
ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار ، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم ، واشتد على عمار الذي كان تكلم به .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت : أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا؟ قال : لا ، قال : وأنزل الله [إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ]( ) ( ).
وجاءت آية البحث بنعت الكفار بأنهم اشتروا الكفر والجحود ، وفيه مسائل :
الأولى : تأكيد الإختيار والرضا من قبل الكفار بالكفر ومفاهيم الضلالة .
الثانية : سعي الكفار إلى الكفر وإعراضهم عن الإيمان ، وعزوفهم عن التنزيل ومعجزات النبوة .
الثالثة : الضرر الفادح للكفار على السلم المجتمعي، وعقائد الناس ومعاملاتهم .
ترى لماذا جاءت الآية بصيغة الجمع [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ] ( ) الجواب من وجوه :
الأول : إرادة توبيخ عموم الذين كفروا .
الثاني : مضمون الآية إنحلالي , وتقديره بصيغة المفرد ، إن الذي اشتروا الكفر بالإيمان لتذكير كل كافر بتكليفه بلزوم حفظ أمانة الإيمان ، وعن ابن عباس في قوله : [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ] الآية . قال : الامانة الفرائض ، عرضها الله على السموات والأرض والجبال إن أدُّوها أثابهم ، وإن ضيعوها عذبهم ، فكرهوا ذلك واشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيماً لدين الله أن لا يقوموا بها ، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها . وهو قوله [وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً]( )، يعني غراً بأمر الله( ).
الثالث : تحذير المسلمين من المشركين وكيدهم ومكرهم وأنهم أمة تسعى للباطل وتعمل على هدم صرح الإيمان ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( ).
لقد كان الإسلام في بداياته إذ تتوالى آيات القرآن ، وتنزل الفرائض والأحكام ، فقد نزل الأمر من الله بالصلاة في بدايات البعثة النبوية , وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
وفي السنة الثانية منها نزل فرض الصيام والزكاة ويعمل المشركون على منع الإمتثال لهذه الأحكام ، وهذا العمل من شراء الكفر بالإيمان .
الرابع : بيان قانون وهو قرب الإيمان من كل إنسان وملامسته للقلوب ، وأن الإنسان حينما يختار الكفر فانه يهجر الإيمان عن قصد وعمد.
وتبعث بداية الآية الأسى والحزن في النفوس بسبب قبح اختيار الكفار ، وقد خشى المسلمون على الدين وملة التوحيد من المشركين وشرائهم الكفر ، فجاء وسط الآية بالبشارة وما يبعث السكينة في النفوس بقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( ) .
وتضمنت آية البحث هذا القانون كموضوع وحكم فيها ، إذ ورد بصيغة خبر (إن) الذي إبتدأت به الآية ، لتكون مسألة شرائهم الكفر مقدمة وعرضاً للإخبار عن هذا القانون الذي يستلزم من المسلمين والمسلمات الشكر لله عز وجل من جهات :
الأولى : كشف آية البحث لشراء الذين كفروا الكفر، ودلالته بأنه بعيد عن الإنسان ، ومناف للفطرة وسنخية الخلق ، وفي التنزيل [صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً]( )، وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن بني إسرائيل قالوا : يا موسى هل يصبغ ربك ؟ .
فقال: اتقوا الله، فناداه ربه: يا موسى سألوك هل يصبغ ربك فقل: نعم، أنا أصبغ الألوان الأحمر والأبيض والأسود ، والألوان كلها في صبغتي، وأنزل الله على نبيه { صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة }( ).
الثانية : تبصرة المسلمين بحال الكفار وظلمهم لأنفسهم .
الثالثة : آية البحث مدد للمسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلإن اشترت طائفة من الناس الكفر فان المسلمين يدعون الناس إلى عدم اتباعهم والإقتداء بهم.
وهل تلاوة المسلمين لآيات القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , الجواب نعم ، لما فيها من الدعوة إلى الهدى ونبذ الشرك والجحود ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ]( ).
وإذا كان الذين كفروا لن يضروا الله شيئاً ، فهل ينفعه الذين آمنوا ، الجواب [إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
ومن صفاته سبحانه أنه غير محتاج ، إنما تلازم الحاجة عالم الإمكان ، والمخلوقات وهي محتاجة في وجودها واستدامته إلى الله عز وجل ، ومن أكثر المخلوقات حاجة هو الإنسان ، فنزل القرآن لتكون كل آية منه حاجة للإنسان، وسبيلاً لصلاحه وفوزه بالثواب العظيم في النشأتين ، وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات القرآن في كل ركعة من ركعات الصلاة لينتفع منها كل من :
الأول : التالي للآية القرآنية ، قال تعالى[وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخرة حِجَابًا مَسْتُورًا]( ).
الثاني : الذي يعلم الناس تلاوة الآية ومعانيها، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : خيركم من تعلم القرآن وعلمه( ).
الثالث : السامع للآية القرآنية .
الرابع : الذي يتعظ من الصلاة وتلاوة المسلمين القرآن فيها .
لقد ذكرت آية البحث شراء المشركين الكفر فهل يختص هذا الشراء به الجواب لا ، لأن الكفر رأس الكبائر ، وهو نوع طريق وسبب للولوغ بالفواحش والآثام ، وقد قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
ومن مصاديق الآية أعلاه أن المشركين جحدوا بنعم الله ، ومن أعظمها الإيمان ، وجاءت آية البحث ليملأ اليأس والقنوط قلوب الذين كفروا بأنهم في إصرارهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة غزو المدينة كما في معركة أحد والخندق فانهم لن يضروا الله في دينه وملكه وسلطانه وعباده المؤمنين .
وأختتمت الآية بالإخبار عن سوء عاقبة الذين كفروا يوم القيامة بأنه لهم عذاباً أليماً ، ليكون من إعجاز الآية تنمية ملكة الإحتجاج عند المسلمين في عجز الذين كفروا عن الإضرار العام ، وسوء عاقبتهم ، فان قيل إذا إنعدام الضرر من الذين كفروا فلماذا العذاب الأليم لهم في الآخرة .
تبين آية البحث الجواب بأنهم استحقوا العذاب بشرائهم الكفر وإقامتهم عليه.
ويمكن تسمية آية البحث (إن الذين اشتروا الكفر) ، ولم يرد لفظ (ان الذين اشتروا) في القرآن إلا في آية البحث ، وقد ورد قوله تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى]( )، وسيأتي مزيد كلام في علم المناسبة( ).

إعجاز الآية الغيري
إبتدات آية البحث بصيغة الـتأكيد بالحرف المشبه بالفعل (إن) لبيان قانون وهو أن مضمون الآية القرآنية قانون باق إلى يوم القيامة من جهات :
الأولى : رسم الآية القرآنية وصيغة العربية التي أنزل بها ، وقال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ) .
الثانية : إستدامة تلاوة الآية القرآنية في كل زمان ، مع إتساع المكان الذي تتلى فيه مع تقادم الأيام في زمن العولمة والفضائيات .
الثالثة : سلامة القرآن من التحريف والتبديل والتغيير .
الرابعة : عصمة القرآن من التأويل المخالف للمنطوق والمعنى المقصود ، وهل هذه العصمة من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الجواب نعم ، فان قلت القدر المتيقن من الآية أعلاه حفظ الذكر وهو القرآن ، والجواب هذا صحيح .
والمراد المعنى الأعم للذكر لأصالة الإطلاق ، ولأن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى .
وهل من مصاديق الحفظ في الآية أعلاه حفظ العمل بأحكام القرآن ، الجواب نعم ، ويكون تقدير الآية (انا نحن نزلنا القرآن وانا للعمل بأحكامه وسننه لحافظون).
وهذا الحفظ وتعدد وجوهه من مصاديق ملك الله عز وجل للسموات والأرض ، وعمومات قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فمن علم الله عز وجل نزول القرآن وبقاؤه دستوراً في العبادات والمعاملات ، وبرزخاً دون الفساد والقتل والتشريد ، لبيان قانون وهو أن نزول الكتب السماوية السابقة ونزول القرآن وحفظه وسيلة سماوية لإستدامة الحياة في الأرض ببهجة ورضا ، وهي وعاء ومناسبة لأداء الناس الفرائض العبادية ، وللتدبر في الآيات الكونية والإمتناع عن الكفر ومفاهيم الضلالة .
ومن معاني نزول آية البحث بعث النفرة في النفوس من الكفر ، ومنع الناس من التلبس به ، للقبح الذاتي للكفر ، وليكون من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التساؤل كيف يشترى القبيح والذي لا يجلب إلا الضرر على الذات والغير .
فان قلت هل يجلب كفر الكافرين الضرر على المسلمين ، الجواب نعم لأنهم يشترونه بالإيمان، ولكن الله عز وجل يصرفه ومن أسباب ووسائل صرفه آية البحث وما فيها من الإنذار للذين كفروا وفضحهم وتبكيتهم ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
وهل ينحصر شراء الذين كفروا الكفر بايمانهم ، ويكون تقدير الآية ان الذين اشتروا الكفر بايمانهم ، الجواب لا ، إنما يكون تقدير الآية بالإضافة إلى الوجه أعلاه على وجوه أخرى منها :
الأول : إن الذين اشتروا الكفر بايمان أتباعهم .
الثاني : إن الذين اشتروا الكفر بسنخية الإيمان .
الثالث : إن الذين اشتروا الكفر لمحاولة إضعاف أهل الإيمان .
الرابع : إن الذين اشتروا الكفر باكراه الناس على شرائه .
الخامس : إن الذين اشتروا الكفر بالإضرار بالذات والغير .
السادس : إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان إتباعاً للهوى , قال تعالى [فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]( ) .
وهل تدل خاتمة الآية أعلاه على غلق باب التوبة على من اتبع هواه ، الجواب لا ، والقدر المتيقن منها إرادة الذين يصرون على ظلم أنفسهم بالإقامة على الجحود ، ومغادرة الحياة الدنيا بلباس الكفر وشرائه ، وعدم التخلي عن مفاهيمه ,
وعن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله يدني المؤمن حتى يضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ، ويقول له : اتعرف ذنب كذا ، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول : أي رب أعرف .
حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم . ثم يعطى كتاب حسناته .
وأما الكفار والمنافقون { ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين( ).
ومن فضل الله عز وجل بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن كل آية قرآنية مدرسة في الصلاح والإصلاح ، ولما احتجت الملائكة على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، بسبب إفساد الإنسان وسفكه للدماء بغير حق ، أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فخر الملائكة لله عز وجل ساجدين لعلمهم بأن الله أحاط بكل شئ علماً ، وأن المنافع العظيمة في خلافة الإنسان أكبر من مسألة الفساد والقتل ، وأن الناس جميعاً يقفون بين يدي الله للحساب , قيدخل الذين كفروا النار .
فجاءت آية البحث لذم الذين اشتروا الكفر بالإيمان بلحاظ أنه من أكثر مراتب الكفر قبحاً وفيه دعوة للناس لإجتناب الكفر وإدراك قانون وهو شدة عذاب الذين كفروا بالله والنبوة والتنزيل ، قال تعالى [فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ]( ).
ومع أن كلمة (اعتبروا) من المواعظ فانها لم ترد في القرآن إلا في الآية أعلاه .
الآية سلاح
من خصائص الحياة الدنيا قيام الناس بالبيع والشراء ، وليس من إنسان إلا وهو يريد البيع ويرغب بالشراء والإقتناء ، فتفضل الله عز وجل ببعث الأنبياء وإنزال الكتب السماوية لهداية الناس لكيفية البيع والشراء ، وما هو الذي يصلح للبيع .
ونزل القرآن بأحكام البيع والشراء ، بما يمنع الغبن , والجهالة والغرر , وذكر التداين وكتابة وتوثيق الدّين ، لتكون آيته أطول آية في القرآن ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ) ( ) .
وجاءت السنة النبوية بأحكام البيع والشراء وأقسامه ، وحث التجار على البر والصدقة والإحسان وعموم أحكام البيع بين الناس
(عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، أو يقول أحدهما للآخر : اختر) ( ).
ودعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإقالة والسماحة في البيع والشراء ،وعن جابر قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحم الله عبدا سمحا إذا باع ، سمحا إذا اشترى ، سمحا إذا قضى) ( ).
وهناك أمور لا يصح بيعها أبداً لوجوب إتصاف الإنسان بها ، ومنها الإيمان وأصول الدين وفروعه ، وأداؤها أداء عينياً .
فلابد من الإعتقاد بالله إلهاً ورباً ومالكاً ، والتصديق بالنبوة والتنزيل والمعاد وأداء الصلاة والزكاة والصيام ووجوه العبادات الأخرى كالحج مع الإستطاعة وتهيئة وتيسير مقدمات الحج الطارئة من الجواز والقرعة مثلاً ومستلزماته من الزاد والراحلة وسلامة السرب .
وعن ابن عمر قال : قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من الحاج يا رسول الله؟ قال : الشعث التفل . فقام آخر فقال : أي الحج أفضل يا رسول الله ؟ .
قال : العج والثج . فقام آخر فقال : ما السبيل يا رسول الله؟ قال : الزاد والراحلة( ).
وهذه السنن من مصاديق الإيمان الذي هو الأصل الذي تتقوم وتصح معه العبادات ، فلما باع الذين كفروا الإيمان غلقوا عن أنفسهم نعمة قبول العمل الصالح وان جاءوا به لفقدان قصد القربة ، ومن خصائص الآية القرآنية ودلائل الإعجاز فيها أنها سلاح من جهات :
الأولى : الآية القرآنية سلاح في الحياة الدنيا .
الثانية : الآية القرآنية طريق هداية ورشاد لعمل الصالحات ، وفي التنزيل [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الثالثة : الآية القرآنية واقية من فعل السيئات .
الرابعة : لقد أخبرت الآية قبل السابقة عن تخويف الشيطان لأوليائه ، والأمر للمسلمين بالخوف من الله عز وجل لتبعث تلاوة الآية القرآنية عند القارئ والسامع الخوف من الله عز وجل ، وهي حرز من الشيطان وحيله .
وأخرج الطبراني عن أبي أيوب قال : كنت مؤذى في البيت ، فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانت روزنة( )، في البيت لنا .
فقال : أرصده فإذا أنت عاينت شيئاً فقل : أجيبي يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فرصدت فإذا شيء قد تدلى من روزنة ، فوثبت إليه .
وقلت : اخسأ يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذته فتضرع إلي ، وقال لي : لا أعود . فأرسلته فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما فعل أسيرك؟ فأخبرته بالذي كان .
فقال : أما إنه سيعود . ففعلت ذلك ثلاث مرات كل ذلك آخذه وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالذي كان ، فلما كانت الثالثة أخذته قلت : ما أنت بمفارقي حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فناشدني وتضرع إليّ وقال : أعلمك شيئاً إذا قلته من ليلتك لم يقربك جان ولا لص ، تقرأ آية الكرسي ، فأرسلته ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم .
فقال : ما فعل أسيرك؟ قلت : يا رسول الله ناشدني وتضرع إلي حتى رحمته ، وعلمني شيئاً أقوله إذا قلته لم يقربني جن ولا لص . قال : صدق وإن كان كذوباً ( ).
الخامسة : تلاوة الآية القرآنية باب للأجر والثواب ، ومن فضل الله في المقام ترتب الأجر وكتابة الملائكة للحسنات على تلاوة كل حرف من الآية القرآنية .
ومن معاني آية البحث دعوة المسلمين إلى تعاهد سنن الإيمان والإحتراز من مفاهيم الضلالة.
ومن خصائص الآية القرآنية ودلائل الإعجاز فيها أنها تهدي الى الإيمان ، وتزجر عن الكفر ، وتمنع الناس من البقاء في منازله .
وتعمل الآية القرآنية على طمر مستنقع الكفر والضلالة ، وتكشف للناس قبح الكفر وضرره ، وأخبرت آية البحث عن كون الذين كفروا اشتروا الكفر شراء ، أي أنه ليس من الفطرة ، ولم يفرض عليهم فرضاً .
ويدل هذا الشراء على أن الكفر أمر عرضي يمكن أن يخلعه الإنسان ، وإذا ترك الإنسان الكفر هل يبقى في حال البرزخ بين الإيمان والكفر أم أنه يلجأ إلى التوبة والهدى .
الجواب هو الثاني فليس من حال وسط وبرزخ بين الإيمان والكفر في الدنيا وكذا في عالم الآخرة وجزاء الإنسان فاما إلى الجنة وأما إلى النار .
فمن خصائص الآية القرآنية وسوق الناس إلى الجنة ، ودفعهم عن النار , قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا]( ).
ومن معاني السلاح في آية البحث النهي عن مفاهيم الكفر والضلالة , ويكون تقدير الآية في معانيها على وجوه :
الأول : لا تشتروا الكفر.
الثاني : اعرضوا عن الذي يشتري الكفر .
الثالث : قوموا ببيان قبح الكفر وشرائه ، وهذا البيان من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومنه ذكر أضرار الكفر ، ليكون هذا البيان من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]( ).
الرابع : لا يؤدي الكفر والجحود إلا إلى الخسارة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة.
الخامس : بيان قانون وهو أن الإيمان سلاح , وواقية من الكفر والضلالة.
لقد جاء القرآن باثبات صفات الله , وقوانين الإرادة التكوينية منها :
الأول : قانون بعثة الأنبياء.
الثاني : قانون الإسلام دين الهدى ، قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
الثالث : لزوم الثبات على الإيمان .
الرابع : قانون ظلم النفس باختيار الكفر .
ونزلت الآيات بالأوامر والنواهي ووجوب طاعة الله والرسول والتنزه عن الشرك ومجانبة المعاصي ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ]( ).
وأي من القوانين تتعلق به آية البحث , الجواب كل القوانين أعلاه من معاني المضامين القدسية لآية البحث ، فكل آية من القرآن شاهد مصاحب لأهل الدنيا على صدق بعثة الأنبياء فان قلت إنما تبين الآية القرآنية صدق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها نزلت عليه .
والجواب هذا صحيح وقد جاء النبي محمد بوجوب تصديق بعثة الأنبياء والمرسلين , وفي التنزيل [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
كما تدل آية البحث على أن الإسلام دين الهدى لأنها تدعو إلى تعاهد الإيمان ، والحفاظ عليه ، بأن يمتنع المكلف عن التفريط به وعن إرتكاب المعاصي .
وتدل على لزوم الثبات على الإيمان لما فيها من الذم والتوبيخ للذين جعلوا الإيمان عوضاً للكفر.
وتدل خاتمة آية البحث على ظلم الذين كفروا لأنفسهم لنزول العذاب الأليم بهم في الآخرة , وعن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :”اتقوا النار التي وَقودُها الناس والحجارة”، أما الحجارة، فهي حجارةٌ في النار من كَبريت أسْوَد، يُعذبون به مع النار( ).

مفهوم الآية
تبين آية البحث حال الذين كفروا , وكيف أنهم اشتروا الكفر والضلالة وسعوا إليه بأنفسهم وأيديهم ليكون من مفاهيم الآية وجوه :
الأول : الثناء على المؤمنين والمؤمنات الذين سعوا للإيمان وسلّموا بالمعجزات النبوية .
الثاني : دعوة المسلمين للصبر في رضوان الله ، وتحمل أذى الكفار فما داموا اشتروا الكفر بالإيمان فانهم لا يتورعون عن السعي في إيذاء المؤمنين .
الثالث : توهين الذين كفروا ، والمنع من الخشية والخوف منهم ، فالذين يشترون أقبح الأمور وهو الكفر بأعز وأسمى شئ وهو الإيمان لن تستديم عندهم نعمة الجاه والمال والمنعة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( )، بتقريب أن من قوة الله عز وجل إضعاف الذين كفروا ، ومنعهم من تسخير النعم في محاربة النبوة والتنزيل.
الرابع : إنذار الذين كفروا ، وزجرهم عن الإقامة على الكفر ، وفعل ما يترشح عن الكفر والضلالة .
الخامس : بيان قانون من جهات :
الأولى : التضاد بين الإيمان والكفر، وعدم إجتماعهما في قلب إنسان ، وهل هو من عمومات قوله تعالى [ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ]( ).
الجواب نعم ، فلا تجتمع التقوى والفسوق في قلب إنسان وهو لا يتعارض مع معنى الآية في الإعجاز في خلق الإنسان وعمومات قوله تعالى[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( )، وكيف أن القلب أمير الجوارح ومنظم الدورة الدموية .
وفي أسباب نزول قوله تعالى [مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ] نزلت في أبي معمر جميل بن معمر بن حبيب بن عبدالله الفهري، وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمع.
فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلاّ وله قلبان. وكان يقول : إنّ لي قلبين أعقل بكلّ واحد منهما أفضل من عقل محمّد، فلمّا كان يوم بدر وهُزم المشركون , وفيهم يومئذ أبو معمر تلقّاه أبو سفيان بن حرب، وهو معلِّق إحدى نعليه بيده والأُخرى في رِجله.
فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس؟
قال : انهزموا.
قال : فما بالك إحدى نعليك في يدك والأُخرى في رجلك،
فقال له أبو معمر : ما شعرت إلاّ أنّهما في رجلي،
فعرفوا يومئذ أنّه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده( ).
الثانية : مع أن الكفر ضرر محض ، وأذى متصل فان الكافرين أقدموا على شرائه.
الثالثة : ترى ماذا لو لم يكن التلبس بالكفر ببيع الإيمان ، الجواب جاءت آية البحث لبيان قانون وهو أن الإيمان هو الأصل ، وأن التوحيد دين الفطرة ، والعدول عنه تغيير لخلق الله ، والنظام الكوني في سنخية البشر ، وكأن الكافر تصرف في نفسه بما لم يأذن به الله ورسوله ، فأصر الكافر على الإقامة على شرائع الأصنام .
وعن مسور بن مخرمة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد – وكان إذا خطب قال أما بعد – فإن هذا اليوم الحج الأكبر ، ألا وأن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون من ههنا قبل أن تغيب الشمس إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها ، وإنا ندفع بعد أن تغيب الشمس .
وكانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشمس إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوهها ، وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس مخالفاً هدينا لهدي أهل الشرك( ).
الرابعة : قانون نزول العذاب الأليم بالذين كفروا في الآخرة ، وفيه حجة على الناس ، ومنع من إنكار المعاد ، وأسباب الوعيد فيه ، وعن عمرو بن ميمون : قال : قام فينا معاذ بن جبل ، فقال : يا بني أود إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تعلمون المعاد إلى الله ، ثم إلى الجنة أو إلى النار ، وإقامة لا ظعن فيه ، وخلود لا موت في أجساد لا تموت( ).
الخامسة : قانون شدة عذاب الذين كفروا يوم القيامة بالمصير إلى النار ، ومن الإعجاز في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيانه وذكره لشدة حر النار ، وفيه نصوص عديدة كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أحاديث مع جبرئيل حول نعيم الجنة وعذاب النار.
وبخصوص النار ورد عن عدي بن عدي الكندي قال :جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حين غير حينه الذي كان يأتيه فيه .
فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا جبريل ما لي أراك متغير اللون ، فقال : ما جئتك حتى أمر الله عز وجل بمفاتيح النار .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا جبريل ، صف لي النار ، وانعت لي جهنم .
فقال جبريل : إن الله تبارك وتعالى أمر بجهنم , فأوقد عليها ألف عام حتى ابيضت ، ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت ، ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى اسودت ، فهي سوداء مظلمة لا يضيء شررها ، ولا يطفأ لهبها ، والذي بعثك بالحق ، لو أن قدر ثقب إبرة فتح من جهنم لمات من في الأرض كلهم جميعا من حره.
والذي بعثك بالحق لو أن ثوبا من ثياب النار علق بين السماء والأرض لمات من في الأرض جميعا من حره .
والذي بعثك بالحق لو أن خازنا من خزنة جهنم برز إلى أهل الدنيا ، فنظروا إليه لمات من في الأرض كلهم من قبح وجهه ومن نتن ريحه ، والذي بعثك بالحق لو أن حلقة من حلقة سلسلة أهل النار التي نعت الله في كتابه وضعت على جبال الدنيا لارفضت ، وما تقاربت حتى تنتهي إلى الأرض السفلى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حسبي يا جبريل لا ينصدع قلبي ، فأموت قال : فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبريل وهو يبكي .
فقال : تبكي يا جبريل وأنت من الله بالمكان الذي أنت به ، قال : وما لي لا أبكي ؟ أنا أحق بالبكاء لعلي أن أكون في علم الله على غير الحال التي أنا عليها ، وما أدري لعلي أبتلى بمثل ما ابتلي به إبليس ، فقد كان من الملائكة ، وما يدريني لعلي أبتلى بمثل ما ابتلي به هاروت وماروت .
فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبكى جبريل عليه السلام ، فما زالا يبكيان حتى نوديا : أن يا جبريل ويا محمد ، إن الله عز وجل قد أمنكما أن تعصياه ، فارتفع جبريل عليه السلام ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمر بقوم من الأنصار يضحكون ويلعبون .
فقال : أتضحكون ووراءكم جهنم ؟ فلو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، ولما أسغتم الطعام والشراب ، ولخرجتم إلى الصعدات( )، تجأرون إلى الله عز وجل .
فنودي : يا محمد ، لا تقنط عبادي ، إنما بعثتك ميسرا ، ولم أبعثك معسرا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سددوا وقاربوا( ).
ومن مفاهيم آية البحث بعث النفرة في نفوس المسلمين والمسلمات والناس جميعاً من المعاصي والسيئات وأنها نوع طريق إلى اللبث الدائم في النار، وهو من أسرار تلاوة المسلمين القرآن في الصلاة اليومية فيمرون على آية فيها ذكر الجنة فتقرب إليهم فعل الصالحات كسبيل ووسيلة للإقامة في النعيم .
ويمرون بآية فيها ذكر النار فتنفر نفوسهم من القبائح والسيئات وتذكر آية البحث بالنار , فهي وإن لم تذكرها بالاسم ، ولكنها ذكرت عذابها وأنه أليم ، ولدلالة اللازم على الملزوم ، فبينما يتنعم الكفار بالمال والتجارة بين مكة والشام ، وبين مكة واليمن كما قال تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ _ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، فان الله عز وجل أنزل آية البحث للتذكير بأن عذابهم في الآخرة ، وجاءت الآية الثالثة بقوله تعالى[وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا]( ).
لتدل الآية أعلاه في مفهومها على أن الإملاء من عند الله للمؤمنين خير لأنفسهم وسبيل لفعل الخيرات والتسابق فيها ، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وهل يدل ذكر آية البحث على عدم إضرار الذين كفروا بالله عز وجل في مفهومه على أن المؤمنين ينفعون الله عز وجل ، الجواب لا ، إنما ينفعون أنفسهم ، ويعصمونها من الزلل والضلالة ، إذ أن الله عز وجل غير محتاج ، وفي التنزيل [فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
إفاضات الآية
تبعث آية البحث الرغبة في الإيمان والشوق لأداء الفرائض والمناسك ، وفيها دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل ، وتتجلى هذه الدعوة في منطوق ومفهوم الآية .
أما بالنسبة للمنطوق فان الآية تتضمن الإخبار عن كون الإيمان هو العهد والميثاق بين الله عز وجل وبين الناس ، وتفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء [مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ) ، مبشرين بالثواب العظيم على الإيمان ، والعقاب الأليم على الكفر والضلالة .
وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين( ).
وأما من جهة مفهوم الآية فانها تحث على تعاهد الإيمان ، وتبين قدسيته وضرورة تعاهده ، وعدم التفريط بأي جزء أو شرط أو مقدمة من مقدماته.
وتفضح آية البحث الكفر وأنه لا يأتي إلا بالشراء وبذل الإيمان عوضاً وبدلاً عنه ، مع أن الأصل هو أن الإيمان لا يباع أبداً ، وبعث الله الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لتأكيد وجوب تعاهده وحفظه بالإعتقاد والقول والعمل الذي يصدر من الأفراد والجماعات .
وصحيح أن الآية جاءت في ذم الذين كفروا إلا أن إفاضاتها من وجوه :
الأول : الرحمة بالذين كفروا ببيان سوء إختيارهم.
الثاني : ترغيب الذين كفروا بالتوبة ، قال تعالى[قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ) .
وجاءت آيات القرآن الأخرى بذكر فضل التوبة والمنافع المترشحة عنها في الدنيا والآخرة .
ويمكن تسمية الحياة الدنيا بأنها دار التوبة والإنابة ، ومن الآيات أن آدم أول من هبط إلى الأرض وأول من تاب عليها لتكون توبته سنة مباركة لذريته من بعده ، وفي التنزيل [فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( ).
وأخرج ابن المنذر عن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال : لما أصاب آدم الخطيئة عظم كربه ، واشتد ندمه . فجاءه جبريل فقال : يا آدم هل أدلك على باب توبتك الذي يتوب الله عليك منه.
قال بلى يا جبريل.
قال : قم في مقامك الذي تناجي فيه ربّك فمجده وامدح ، فليس شيء أحب إلى الله من المدح.
قال : فأقول ماذا يا جبريل.
قال : فقل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت ، بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير . ثم تبوء بخطيئتك فتقول : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت . رب إني ظلمت نفسي وعملت السوء فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . اللهم إني أسألك بجاه محمد عبدك وكرامته عليك أن تغفر لي خطيئتي.
ففعل آدم .
فقال الله : يا آدم من علمك هذا.
فقال : يا رب إنك لما نفخت فيّ الروح فقمت بشراً سوياً أسمع وأبصر وأعقل وأنظر رأيت على ساق عرشك مكتوباً.
بسم الله الرحمن الرحيم ، لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد رسول الله فلما لم أر على أثر اسمك اسم ملك مقرب ، ولا نبي مرسل غير اسمه علمت أنه أكرم خلقك عليك.
قال : صدقت . وقد تبت عليك وغفرت لك خطيئتك.
قال : فحمد آدم ربه وشكره وانصرف بأعظم سرور ، لم ينصرف به عبد من عند ربه . وكان لباس آدم النور قال الله [يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا]( )، ثياب النور.
قال : فجاءته الملائكة أفواجاً تهنئه يقولون : لتهنك توبة الله يا أبا محمد( ).
الثالث : دعوة الناس لهجران الكفر ، والإمتناع عن عبادة الأوثان.
الرابع : الإخبار عن قانون من قوانين عالم الآخرة وهو شدة عذاب الكافرين يوم القيامة , ليكون هذا الإخبار رحمة للناس ، وبعثاً للنفرة في نفوسهم من الكفر والضلالة .
ومن خصائص نار جهنم أن العذاب الأليم فيها لا ينحصر بشدة حرارة النار إنما يشمل الشراب والطعام .
وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يلقى على أهل النّار الجوع حتّى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب.
فيستغيثون بالشراب فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فاذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم.
فيقولون ادعوا خزنة جهنم، فيقولون ألم تك تأتكم رسلكم بالبينات .
قالوا : بلى.
قالوا : [فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( )، قال : فيقولون إدعوا مالكاً، فيدعون [يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ]( )، فيجيبهم إنّكم ماكثون ( ).
ومن شدة الألم في النار عدم استجابة دعاء الذين كفروا ، وإحتجاج الملائكة عليهم وبعد أن يأس الذين كفروا يتوسلون إلى خزنة النار وهم ملائكة أن يسألوا الله عز وجل التخفيف من عذابهم وفي التنزيل[وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنْ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ).

الآية لطف
الحمد لله الذين جعل الإيمان لطفاً وامتناناً واحساناً منه تعالى ، ومن مصاديق اللطف في الإيمان أنه أصل لا يستلزم المجاهدة وبذل السعي ، وهو نور يملأ القلب ويبعث الغبطة والسكينة في الجوانح والأركان .
وجاءت آية البحث لتدعو الذين كفروا للرجوع الى هذا الأصل المبارك ، وحثهم على هجران الكفر بالدليل والبرهان ، فمن معاني اللطف هو الرفق والرأفة وصلاح الإنسان في قوله وفعله وعاقبته .
وقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار اللطف وهو من رشحات قوله تعالى [أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]( )، ومن خصائص آية البحث أنها تقرب العباد إلى سبل النجاة والصلاح وتهديهم إلى مسالك المحبة في رضوان الله ، وهجران الإقتتال والحروب ، وتبين قانوناً وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يدعو المنكرين للتنزيل وآيات القرآن إلى الإيمان وليس بالسيف والإكراه ، قال تعالى[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) .
وجاءت هذه الدعوة في آية البحث لجعل الناس يدركون قبح الكفر وأنه مذموم , ولا يجلب لصاحبه إلا الضرر في النشأتين إذ يطوقه بخزي في الآخرة، ويكون سبباً لعذابه، ومن اللطف الإلهي في مفهوم الآيات دعوة المسلمين لأمور :
الأول : الشكر لله عز وجل على نعمة الإيمان ، قال تعالى [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ]( ).
الثاني : دعوة المسلمين لتلاوة آية البحث في الصلاة وخارجها ، والتدبر في معانيها ومقاصدها ، قال تعالى[أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( ).
الثالث : دعوة المسلمين للقيام بترغيب الناس بالإيمان ، وبعث النفرة في نفوسهم من الكفر ، بصيغ الرفق واللين والبرهان الحسي والعقلي ، وقد أمر الله عز وجل موسى وهارون به في حضرة فرعون ، قال تعالى[فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى]( ).
وهل هذا القول اللين في الدعوة خاص بفرعون وذوي الشأن والأموال والجاه رأفة بهم لما عندهم من السلطان وما يترشح عنه من الزهو والتكبر أم أنه من سنخية الدعوة الى الله مطلقاً ، المختار هو الثاني .
وهل الترغيب من الأمر بالمعروف وبعث النفرة من الكفر من النهي عن المنكر أم لابد من تحقق الأمر وهو الطلب على نحو القطع وإن لم يشترط فيه العلو ، أي علو الآمر ، وكذاب بالنسبة للنهي ، وهو الزجر عن الفعل ولزوم تركه.
الجواب هو الأول فان تلاوة الآية القرآنية والترغيب بالإيمان وبيان قبح الكفر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
سواء جاء الترغيب والنهي صريحاً أم كناية تفيد البيان وتحقيق الغاية وإزاحة حجاب الضلالة عن البصائر والأبصار.
ومن الإعجاز في آية البحث أنها تذّكر بالإيمان ولزوم الحفاظ عليه، وأنه ميراث الأنبياء والعهد والميثاق بين الله عز وجل وعباده، وفي التنزيل [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( ).
الآية بشارة
جاءت مضامين آية البحث بأمور :
الأول : الإخبار بصيغة الذم عن الذين كفروا .
الثاني : كشف حقيقة وهي أن الذين كفروا دفعوا عوضاً للكفر.
وهذا العوض أغلى شئ في الحياة الدنيا وهو الإيمان ، والمتبادر الى الذهن أن التلبس بالكفر إختيار ، ولكن آية البحث تبين للناس أن الكفار دفعوا ما في أعناقهم من الأمانة والإيمان ثمناً للكفر وهو من مصاديق قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثالث : البشارة للمؤمنين والناس جميعاً بأن الذين كفروا لن يضروا الله عز وجل.
ويمكن تقدير الآية وما فيها من البشارة على وجوه :
الأول : انهم لن يضروا النبوة والرسالة.
الثاني : انهم لن يضروا التنزيل ، وتوالي نزول آيات القرآن بواسطة جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : عجز الذين كفروا عن تحريف القرآن أو تبديل كلماته أو معانيها ودلالاتها .
الرابع : قصور ووهن الذين كفروا ، وفي التنزيل [وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ]( ).
الخامس : صيرورة برزخ وحجاب بين أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الفرائض العبادية وبين الذين كفروا ، وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه واله إذا صلى قام على أصابع رجليه حتي تورمت، فأنزل الله تعالى: ” طه” وهى بلغة طي يا محمد ” ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى( ).
السادس : من خصائص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم توالي دخول الناس في الإسلام أفراداً وجماعات ، ولا يقدر الذين كفروا عن منع دخولهم الإسلام ، فان قلت قام الذين كفروا بصد المسلمين عن الهجرة إلى المدينة.
الجواب هناك تباين بين دخول الناس الإسلام وبين الهجرة بعد الإيمان ، بالإضافة إلى مسألة وهي أن الهجرة وطريقها جهاد في سبيل الله ، وكانت هناك قصة وإبتلاء في هجرة كل صحابي وصحابية ، وأشدها وأمرها هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ تآزرت قبائل قريش على قتله والفتك به من جهات :
الأولى : ليلة المبيت قبل الهجرة .
الثانية : حال الخروج من مكة .
الثالثة : اللبث ثلاث ليال في غار ثور ، والذي يقع على مسيرة نحو ساعة عن يمين مكة , وفي التنزيل[إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
وعن ابن عباس في حديث (وكان عامر بن فهيرة يختلف اليهم بالطعام) (وعلي يجهزهم ، فاشتروا ثلاثة أباعر من إبل البحرين واستأجر لهم دليلاً ، فلما كان بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم علي بالإِبل والدليل ، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته وركب أبو بكر أخرى فتوجهوا نحو المدينة وقد بعثت قريش في طلبه( ).
الرابعة : بذل مشركي قريش الوسع في إرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة لمنعه من الوصول إلى المدينة خاصة وأنهم علموا أن الأنصار من الأوس والخزرج ضمنوا سلامته عند وصوله إليهم .
وهل سعي الكفار لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو إعادته من طريق الهجرة سجيناً من مصاديق الشراء البغيض في آية البحث وقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ].
الجواب نعم ، بلحاظ كبرى كلية وهي تعدد مصاديق شراء الكفر ، فكل فعل قبيح من الكفار هو تفريط بالإيمان ، وشراء للكفر.
وتتضمن الآية في مفهومها البشارة للمؤمنين بأن لهم حظاً ونصيباً ودرجة في الآخرة لأنهم تعاهدوا الإيمان ، ولم يفرطوا به , ومن هذا النصيب الشفاعة .

الآية إنذار
تبين آية البحث اختيار قوم الكفر والضلالة ، ولا يقف الأمر عند الإختيار إنما يلزم التفريط بالإيمان وقدسيته ، وكأنه من عدم إجتماع الضدين، فاما البقاء على الإيمان وهو الواجب، وفيه الرفعة والامن وأما التيه والضلالة بالتلبس بالكفر، وفيه الذم والتبكيت والخسارة في النشأتين.
لقد جاءت آية البحث للإخبار بأن الكفار لن يضروا الله سبحانه في عرشه وفي ملكه ، ولا يستطيعون منع نزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتبليغها للمسلمين والناس .
ولا منع الناس عن عمارة الأرض بذكر الله والصلاة والدعاء ، ومن مصاديق قوله تعالى[وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( )، ضيق المساحة التي يتصرف بها فلا يقدر على الوصول إلى الناس جميعاً والأماكن كلها ، وحينما بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاربه كفار قريش أشد المحاربة , فتفضل الله عز وجل وأنزل آية البحث للإخبار بأن هذه المحاربة من شراء الكفر بالإيمان.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على خيبة الذين كفروا وأن شراءهم الكفر لا يجلب لهم نفعاً ، ولا يؤدي إلا إلى الاضرار بلواء التوحيد، وفي التنزيل[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
وهل في الآية إنذار للمسلمين أم أنها برزخ دون إنذارهم من الذين كفروا لإخبارها عن عدم إضرار الذين كفروا بالإسلام ، الجواب هو الأول ، إذ تحذر الآية المسلمين من الكفار وشرورهم خاصة وأنهم باعوا الإيمان وفرطوا به وهو الميثاق والعقد الذي في عنق كل إنسان من أيام آدم وإلى يوم القيامة ، لذا فمن إعجاز آية البحث أنها لم تقل(انهم لن يضروكم) إنما ذكرت عدم إقرارهم بالله رب السموات والأرض.
وليكون إنذار المسلمين في آية البحث توبيخاً إضافياَ للذين كفروا ، وسبباً في إمتلاء قلوبهم بالخوف والقنوط واليأس ، وتضمنت خاتمة آية البحث إنذاراً للناس جميعاً من جهات :
الأولى : التذكير بيوم القيامة وأهوال عالم الحساب .
الثانية : بيان قانون من عالم الآخرة ، وهو شدة عذاب الذين كفروا .
الثالثة : الإخبار عن سوء عاقبة الذي يفرط بأمانة الإيمان ، خاصة وأن هذا التفريط وبيع الإيمان ليس قضية شخصية ، إنما يكون الكافر داعية الى الشر والكفر والضلالة ، وفي يوم القيامة يتبرأ ممن اتبعه ، ولا ينفعه هذا التبرأ [كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ] ( ).
وعدم النفع هذا من مصاديق الأليم في قوله تعالى[وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ].
ومن معاني الإنذار في الآية نعت الكفار باسم الذين كفروا ، إذ أن تلبسهم بالكفر إثم عظيم ، وكذا شراؤهم الكفر بالإيمان إثم وسبب للعقوبة في الآخرة ، وإن قلت قد أخبرت آية البحث عن شراء الذين كفروا الكفر , فهل يدل على بقائهم على هذا المشُترى ، الجواب نعم .
وتقدير الآية (أن الذين اشتروا الكفر وبقوا عليه )، بالإضافة الى بيان الآية السابقة بوصفهم ب[الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] ( )، ومجئ الآية التالية بذات الموضوع بقوله تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ]( ).
وهل يصح تقدير الآية : يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة إلا أن يتوبوا، الجواب نعم فان التوبة ماحية للذنوب ، وتغيير للعنوان , ومن معانيها الرجوع إلى الإيمان وعدم التفريط به.
لقد ذم الله المشركين بقوله تعالى[ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ]( )، وإبتدأت الآية بالاسم الموصول والمراد الجمع (اولئك) وله معنيان متضادان:
الأول : إرادة المدح والثناء.
الثاني : المقصود الذم والتوبيخ.
وجاءت الآية أعلاه من المعنى الثاني ، وفيه وجوه :
الأول : ذم الذين كفروا.
الثاني : بعث النفرة في نفوس الناس من الكفر وأئمته.
الثالث : دعوة المسلمين للإحتجاج بآية البحث وهل يمكن القول بقانون وهو كل آية من القرآن مصدر للإحتجاج , الجواب نعم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ومن إعجاز القرآن التداخل بين آياته، وإبتدأت الآية بالاسم الموصول، وفيه دعوة لاستحضار الآية أو الآيات السابقة في الوجود الذهني .
وكأن آية البحث تدعو للرجوع للآية السابقة ومضامينها إذ أنها تتضمن ذم الذين يجحدون بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه إنذار للذين كفروا , وزجر عن التمادي في الكفر والفسوق .
الآية موعظة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا موعظة بالغة ، ينتفع الإنسان فيها مما يمر به ومما يقع من الوقائع والأحداث ، وما تلمسه وتراه حواسه ، وما يدركه عقله ، كما يتعظ من قصص الآخرين سواء في زمانهم أو الأزمنة السابقة.
وجاء القرآن بأبهى وأحسن القصص بقوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( )، ومن حسن وتفضيل قصص القرآن أنها موعظة بالغة، ولا تقدر الخلائق على الإتيان بمثلها أبداً، من جهات:
الأولى : ذات القصص القرآنية .
الثانية : علوم الغيب في الآية القرآنية .
الثالثة : كشف الوقائع والأحداث .
الرابعة : توثيق قصص الأنبياء .
الخامسة : ذكر الطواغيت وسوء عاقبتهم ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( ).
وهل جعلت آية البحث الذين كفروا عبرة وموعظة لغيرهم من عامة أهل الملل بلزوم نبذ الكفر ، لأنه سوء واثم ولا يجلب إلا الضرر ، الجواب نعم .
, وقد لا يدرك الناس هذه المعاني في الحال إلا بوسائط حسية إذ قام الكفار بالهجوم على المدينة بنحو ألف من المقاتلين وفي هذا الهجوم شاهد على أنهم اشتروا الكفر بايمانهم ، وحاربوا به النبوة والتنزيل لبيان قانون في الموعظة القرآنية وهي أن تمادي الذين كفروا بالكفر لا ينحصر بشرائهم الكفر والضلالة , إنما يكون هذا الشراء مقدمة للتعدي والظلم للذات والغير ، لذا أخبرت آية البحث عن قانون وهو : أن الذين كفروا لن يضروا الله شيئاً ، والمراد على وجوه :
الأول : لن يضروا الله عز وجل بهجرانهم الإيمان .
الثاني : لن يضروا الله عز وجل لأنه سبحانه غني عنهم ، وفي التنزيل[إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ]( ).
ليكون من الموعظة في آية البحث بأن إخبارها عن شراء الذين كفروا دليل على عدم رضا الله عز وجل عنهم .
الثالث : لن يضر الذين كفروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في إرادتهم قتله،لأن هذه الإرادة والعزم من رشحات واسباب شراء الكفر.
وهل الموعظة في الآية القرآنية متحدة أو متعددة ، الجواب هو الثاني وقيل أن لقمان عليه السلام وضع (جراباً من خردل إلى جنبه ، وجعل يعظ ابنه موعظة ويخرج خردلة ، فنفذ الخردل فقال : يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظتها جبلاً لتفطر)( ).
وقد أكرم الله عز وجل المسلمين ، والناس بأن جعل نهر الموعظة في الآية القرآنية غير منقطع ولا متناه.
الآية رحمة
من معاني الرحمة بالذات والغير التوبة ، والتنزه عن الكفر ، وإبتدأت آية البحث بذم الذين كفروا من جهة سوء إختيارهم ، وشرائهم الكفر وهو قبيح , وخلاف أصل وعلة الخلق.
ويمكن تأسيس قانون وهو : كل آية طريق الى التوبة والإنابة ، من جهات :
الأولى : تلاوة الآية القرآنية باعث على التوبة.
الثانية : سماع الآية القرآنية دعوة للتوبة ، ومن الإعجاز التدبر في الآية القرآنية عند قراءتها وسماعها طوعاً وقهراً ، وهو من الإعجاز الغيري للآية القرآنية .
الثالثة : ذكر آيات القرآن للتوبة ، قال زر : قلت لأبي بن كعب وما التوبة النصوح؟ قال : سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هو الندم على الذنب حين يفرط منك ، فتستغفر الله بندامتك عند الحافر ، ثم لا تعود إليه أبداً( ).
وكانت السنة النبوية مرآة لآيات القرآن في الحث على التوبة وبيان منافعها في الدنيا والآخرة ويتوب الإنسان عن الكفر ، فيكون أسوة لغيره الذي يمتنع عن شراء الكفر الذي ذكرته آية البحث ، وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة .
وقراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من التسبيح والتكبير ، والتسبيح أفضل من الصدقة ، والصدقة أفضل من الصوم ، والصوم جنة من النار.
وأخرج ابن ماجة عن جابر بن عبد الله قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا ، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا ، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية ، ترزقوا وتنصروا وتجبروا( ).
لقد نزل بها جبرئيل ليقلع الكفار عن الكفر ومفاهيم الجحود وعبادة الأصنام ، ولكنهم أصروا عليه ، وزحفوا بالجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه دعاهم إلى الهدى والإيمان والى التنعم برحمة الله في النشأتين ، وليتراحم الناس فيما بينهم ، وتشيع بينهم شآبيب الرأفة.
ومن خصائص الآية القرآنية مصاحبة سحائب الرحمة لها لتنفذ إلى شغاف القلوب، ولا يقدر الشيطان وأعوانه على حجبها عن الناس ولا يختص هذا القانون بالمؤمنين إنما هو عام يتغشى الناس جميعاً على مراتب متفاوتة ، قال تعالى [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ]( ).
وتتضمن الآية أعلاه دعوة للتعاون والتعاضد بينهم لدفع شرور الشيطان , فان قلت هل يشمل هذا التعاون ما بين المسلم والكافر ليتخلص الكافر من الإنقياد للشيطان ، الجواب نعم ، وتلاوة آية البحث وبيان مضامينها والعمل بأحكامها من مصاديق الإنذار والبلاغ وهو من هذا التعاون ، وهو من الشواهد على أن آية البحث رحمة بالمسلمين والناس جميعاً وواقية من كيد الشيطان ، وسبيل نجاة للناس من زيغه وسعيه لإيقاع العداوة والكراهية بينهم ، وتكون هذه العداوة سبباً للصد عن ذكر الله ، وعن أداء الفرائض العبادية ، ومنها حال الغيظ والحنق التي اتصف بها كفار قريش وهجومهم المتكرر على المدينة المنورة ويتقوم هذا البلاغ بثبات المسلمين في مقامات الإيمان والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ]( ).
فجاءت آية البحث رحمة بالناس ، وليتخلص الذين كفروا من عوائق الضلالة والتي لا تقدر على حجب رياح الهدى ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ]( ).

الحاجة لآية البحث
من خصائص الآية القرآنية أنها مفتاح الحاجة ، وملجأ الملهوف ، ورياض السائلين ، ولقد جعل الله عز وجل الإنسان صاحب فاقة ، وأنزل الكتب السماوية لقضاء حاجاته ولبيان قانون وهو أن حاجته في الآخرة أكثر وأعظم من حاجته في الدنيا .
وتدل آية البحث في مفهومها على أن الإيمان ليس سلعة للبيع إنما هو وديعة ثابتة لا تغادر الإنسان ما دام في الحياة الدنيا ، ليكون له نوراً وواقية من حر النار يوم القيامة ، وتباع النفس ويزهد بالدنيا فداء للإيمان عندما يعتدي الذين اشتروا الكفر ويصرون على الغزو والقتال ، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
ليكون من معاني الحاجة إلى آية البحث وجوه :
الأول : تأكيد فضل الله عز وجل بعصمة الفطرة من الكفر والضلالة.
الثاني : إبتلاء الكفار بالسعي إلى الكفر والضلالة .
الثالث : بيان آية البحث الخلاف والفرقة بين الذين كفروا ، لأن كل واحد منهم يدرك خطأ وضلالة الآخر في إختياره الكفر .
ومن أسرار مجئ آية البحث بصيغة الجمع إشتراكهم في الإثم ، وكأن أحدهم يمد صاحبه بالبقاء على الكفر والضلالة ، قال تعالى [وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ]( ).
لقد كان المسلمون في بداية البعثة النبوية مستضعفين ، ويتوالى عليه التهديد والوعيد من قبل المشركين ، وعزمهم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
فجاءت آية البحث للإخبار بقصور وعجز الذين كفروا عن الإضرار بالله عز وجل الذي أراد للناس حفظ الإيمان في الأرض لتستديم الحياة الدنيا ، وتدوم النعم عليهم .
فمن وجوه الحاجة إلى آية البحث أن ترك شراء الكفر سبب للرزق الكريم وإخراج الأرض كنوزها ، وتوالي نزول الأمطار ، وصرف الآفات السماوية والأرضية ، وكأن الآية تقول : يا أيها الناس تعاهدوا الإيمان ففيه الرزق الكريم والأمن في الدارين, قال تعالى[وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
وتحتمل حاجة الناس لآية البحث وجوهاً :
الأول : إنها من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة .
الثاني : هذه الحاجة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وهو على شعب :
الأولى : حاجة المسلمين لآية البحث أكثر من حاجة الذين كفروا.
الثانية : حاجة الذين كفروا لآية البحث أكثر وأشد .
الثالثة : التساوي في حاجة عامة الناس إلى آية البحث
والمختار هو الثالث فليس من إنسان إلا ويحتاج الآية القرآنية في مضمونها ودلالتها.
ولا تنحصر حاجة الإنسان مطلقاً للآية القرآنية بنفسه بل تشمل وجوهاً :
الأول : ذات الإنسان وقوله وفعله .
الثاني : أفراد الأسرة.
الثالث : ذوو القربى لذا فان قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، دعوة لكل مسلم ومسلمة للنصح والإرشاد وبيان قبح الكفر وأن شراءه لا يجلب إلا الأذى والبلاء والعاقبة الأليمة ، وفي التنزيل [وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ]( ).
الرابع : الحاجة للآية القرآنية للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
النعم التي تذكرها آية البحث
تتصف آية البحث في مضمونها بذم الذين كفروا ، والإخبار عن ظلمهم لأنفسهم بأمور :
الأول : إختيار الكفر والإقامة على الشرك ، ولبئس الإختيار الذي يجلب لصاحبه الخزي في الدنيا والآخرة , وفي التنزيل[وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ]( ).
الثاني : التفريط بالإيمان من أجل الكفر والتلبس به .
الثالث : إخبار آية البحث عن قانون عدم إضرار الكفار بالله عز وجل ، ويغادر الكفار الحياة الدنيا إلى حيث العذاب الأليم ، ومصاديق الإيمان ثابتة في الأرض ، وأداء الفرائض متصل ومتجدد بقصد القربة والطاعة إلى الله .
وعن أبي ثمامة قال : قال الحواريون لعيسى عليه السلام : يا روح الله من المخلص لله ؟ قال : الذي يعمل لله لا يحب أن يحمده الناس عليه( ).
الرابع : الوعيد بالعذاب الأليم يوم القيامة للذين كفروا .
لتبين آية البحث في مفهومها قانوناً وهو أن الإيمان نعمة عظمى على الناس ، وأن الذين كفروا تركوا وزهدوا بهذه النعمة مع أن التمسك بها وتعاهدها واجب على الفرد والجماعة والأمة .
ليكون من وجوه تفضيل المؤمنين وعمومات قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( )، فصحيح أن الآية جاءت في ذم الذين كفروا إلا أن هذا الذم يدل في مفهومه على بيان نعمة عظمى مع الناس وهو الإيمان , وهناك نعمة أخرى في آية البحث وهي عدم ترك الله عز وجل الذين يهجرون الإيمان وشأنهم بل نزلت الكتب السماوية في ذمهم وتقبيح فعلهم ، ليتعاهد الناس الإيمان ، ولا ينجروا خلفهم ، ليكون قوله [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ] نعمة على الناس لما فيه من التحذير والإنذار ، وهل هو نعمة على الذين كفروا .
الجواب نعم لأنه طريق للتوبة ، وضياء يشع على القلوب ، ويبين لها سفاهة العزوف عن الإيمان.
ومن النعم التي تذكرها آية البحث في منطوقها إخبارها عن قانون من الإرادة التكوينية في الحياة الدنيا والآخرة ، وهو عدم إضرار الذين كفروا بالله عز وجل , وفيه حجة على الناس في لزوم عدم الإصغاء للذين كفروا أو الركون إليهم أو الخوف والخشية منهم ، لذا ورد قبل آيتين [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
ويبعث إخبار آية البحث عن عدم إضرار الذين كفروا بالله العز في نفوس المؤمنين ، ويدعوهم للصبر في مسالك العبادة ، وسنن التقوى وفيه بشارة صدّ هجمات وغزو الذين كفروا على المدينة ، وإصابة جيشهم بالوهن والضعف .
وتذّكر خاتمة آية البحث في مفهومها الناس بالنعيم الذي يفوز به المؤمنون بالدخول بالجنة ، والنجاة من النار.
عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لمن له نعلان وشِرَاكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، لا يرى أحدا من أهل النار أشدُّ عذابا منه، وإنه أهونهم عذابا( ).
مفهوم الموافقة
في الآية مسائل :
الأولى : لقد ذكرت آية البحث شراء الذين كفروا الكفر لبيان أنهم رغبوا بأمور :
الأول : الضلالة .
الثاني : عبادة الإصنام .
الثالث : إرتكاب المعاصي .
الرابع : تكذيب النبوة والإستهزاء بالتنزيل .
الخامس : الإمتناع عن التفكر بالآيات الكونية مع أن كل واحدة منها تدعوهم للإيمان ونبذ الشرك ومنها الشمس والقمر ، وهل تدعو الشمس الناس للإيمان في طلوعها وحده أم في ضيائها وفي كل آن من آنات النهار وتسخيرها للناس عامة البر والفاجر ، والحر والعبد ، الجواب هو الثاني , ودعا الله عز وجل الناس لشكره تعالى على نعمة الشمس بعبادته بأوقات تتعلق بمسيرها ، قال تعالى[أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
لتكون صلاة الفجر مقدمة وتذكيراً باطلالة الشمس وضيائها البهيج ، كما سخّر الله عز وجل البحار والأنهار للناس , قال تعالى[سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ]( ).
الثانية : دلالة الآية على تقبيح فعل الكفار، وزجرهم عن الإقامة على الكفر، ومفاهيم الضلالة ، وتحذير الناس منهم ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الناس احذروا شراء الكفر .
الثاني : يا أيها الناس لا تتبعوا الذين اشتروا الكفر .
الثالث : يا أيها الناس حافظوا على الإيمان .
الثالثة : دلالة الآية في مفهومها على ذم المنافقين الذين اختاروا إبطان الكفر ، إذ وردت آية البحث بصيغة الإطلاق في ذم الكفر ظاهره وباطنه.
ومن خصائص الآية القرآنية أنها تخاطب الناس جميعاً سواء في منطوقها أو مفهومها ، وتدعوهم لإدراك المسؤولية العامة والخاصة في حفظ الإيمان والحرب على الكفر ، وفي التنزيل حكاية عن المؤمنين [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ]( ).
والكفر جهل وغفلة ومهانة للنفس.
وحكي أن تلميذاً للفضيل بن عياض حضرته الوفاة فدخل عليه الفضيل وجلس عند رأسه، وقرأ سورة يس. فقال يا أستاذ لا تقرأ هذه السورة فسكت ثم لقنه، فقال قل لا إله إلا اللّه، فقال لا أقولها لأني بريء منها ومات على ذلك فدخل الفضيل منزله وجعل يبكي أربعين يوماً لم يخرج من البيت ثم رآه في النوم وهو يسحب به إلى جهنم. فقال: بأي شيء نزع اللّه المعرفة عنك وكنت اعلم تلاميذتي؟ فقال بثلاثة أشياء: أولها: بالنميمة، فإني قلت لأصحابي بخلاف ما قلت لك.
وثانياً: بالحسد، حسدت أصحابي.
وثالثاً: كان بي علة فجاء إلى طبيب فسألته عنها فقال: اشرب في كل سنة قدحاً من خمر فإن لم تفعل تبقى بك العلة فكنت أشربه( ).
ولا دليل على هذا المعنى للتباين والتضاد في مضامين الخبر أعلاه ، إذ أن هذا المحتضر يدرك منافع الآية القرآنية والنطق بكلمة التوحيد وأقر بذنوبه ساعة احتضاره ليكون هذا الإقرار نوع توبة له.
وهل هو ممن اشترى الكفر بالإيمان ، الجواب لا ، وعن ابن عباس قال : قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنين : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون) الآية ، ثم نزلت[إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ]( ).
فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح فرحا قط أشد فرحا منه بها ، وبـ ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ( ).
وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سمع (مَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِيَوْمٍ قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ قَالَ فَحَدَّثَهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَرَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْهُ قَالَ قُلْتُ نَعَمْ.
قَالَ فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِنِصْفِ يَوْمٍ قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ قَالَ فَحَدَّثَنِيهَا رَجُلٌ آخَرُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا قَالَ نَعَمْ.
قَالَ فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِضَحْوَةٍ قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ قَالَ فَحَدَّثَهُ رَجُلًا آخَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُغَرْغِرَ نَفَسُهُ قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ)( ).

مفهوم المخالفة
في الآية مسائل :
الأولى : تدل الآية في مفهومها على الثناء على المؤمنين الذين اتخذوا الإيمان منهاجاً .
الثانية : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة ذم آية البحث للكفر وشرائه .
الثالثة : بيان حاجة أهل الأرض للأنبياء والمرسلين وجهادهم في حفظ وتوارث الإيمان في الأرض .
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة( ).
وهل بشارات الأنبياء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حفظ الإيمان في الأرض , الجواب نعم.
الرابعة : من مصاديق عدم إضرار الذين كفروا بالله عز وجل وعقيدة التوحيد في الأرض مضامين آية البحث التي تدل في مفهومها على النهي عن الجحود بالربوبية والنبوة والتنزيل .
ومن إعجاز القرآن مجئ آيات متعددة في الموضوع المتحد بلحاظ أمور :
الأول : الحسن أو القبح الذاتي في الموضوع ، فقد بينت آية البحث أن الكفر مع قبحه يشترى بأغلى الأثمان ، مما يدل على أنه لا يقدم على هذا الشراء إلا جاهل بمصلحته ، قاصد الإضرار بنفسه.
وفي الثناء على المؤمنين ورد في التنزيل [وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ]( ).
الثاني : ما يترشح عن موضوع الآية من النفع العظيم سواء كان موضوعها أمراً أو نهياً أو حكماً أو بياناً وكشفاً ، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثالث : بيان مقدمات موضوع الآية .
الرابع : دلائل الصدق في نزول كلمات الآية من عند الله عز وجل، ليكون من إعجاز القرآن أن كل آية منه تصدق نزول آيات القرآن الأخرى ، ليدل في مفهومه على إنتفاء التعارض بينها.
الخامس : حسن عاقبة الذي يعمل بمضامين التنزيل فقد أختتمت آية البحث بالوعيد للذين اشتروا الكفر ، لتدل في مفهومها على الثواب والأجر الجزيل للذي يتخذ الإيمان جلباباً ومنهاجاً، قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
الخامسة : تذكير آية البحث الناس بتعاهد الهدى وإقامة الحجة على الذين كفروا والذين بذلوا الجهد والمال والعوض الثمين بدلاً للكفر مع أنه منهي عنه ، قال تعالى[وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ]( ).
السادسة : لقد جاءت الكتب السماوية السابقة بالتحذير من الكفر ، وإنكار البشارات والإنذارات بعالم الخلود في الآخرة ، البشارات للمؤمنين ، والإنذارات للذين يصرون على الكفر ، وجاءت آية البحث بالبيان الزاجر عن الكفر لأنها تصفه بأنه شراء منكر ومستهجن تأباه النفوس ، ويجر على صاحبه البلاء والعذاب الأليم .
إذ تتضمن آية البحث ذم الذين كفروا من وجوه :
الأول : شراء الكفر مع قبحه .
الثاني : جعل الإيمان ثمناً وعوضا للكفر .
الثالث : حرمان الذين كفروا أنفسهم من النعم التي تصاحب الإيمان .
الرابع : سوء عاقبة الذين كفروا ، وخلودهم في نار الجحيم.
الصلة بين أول وآخر الآية
ابتدأت الآية بالحرف المشبه بالفعل(إن) الذي يفيد التوكيد لبيان القطع من وجوه :
الأول : وجود طائفة من الناس اختاروا الكفر ، وصاروا يسمون الذين كفروا ، وفيه خزي لهم ، وحجة عليهم في النشأتين .
الثاني : دعوة المسلمين إلى عدم الغفلة عن وجود الذين كفروا، وإلى إجتناب حسن الظن بهم .
الثالث : تحذير المسلمين من الميل الى الذين كفروا وإتخاذهم وليجة وخاصة , قال تعالى[بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]( ) ( ).
الرابع : زجر الذين كفروا عن التمادي في الغي والضلالة .
الخامس : إخبار الناس جميعاً عن علم الله عز وجل بالذين كفروا وأنهم اشتروا الكفر بالإيمان.
ومن إعجاز القرآن ذكر هذا الشراء فلا أحد من الناس يلتفت الى مسألة وهي أن التلبس بالكفر لم يأت إلا ببيع الإيمان ولكن الله عز وجل هو الذي أخبر عن هذا البيع وبيّن ضرره وإنعدام النفع فيه.
ومن إعجاز آية البحث ذكرها لشراء الذين كفروا الكفر والفسق للإخبار عن قانون وهو إنعدام الحظ والنصيب للذين كفروا بما كسبت أيديهم .
فان قلت قد ورد عن سلمان المحمدي أنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : أن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السموات والأرض ، كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض ، فأهبط منها رحمة إلى الأرض ، فيها تراحم الخلائق ، وبها تعطف الوالدة على ولدها ، وبها يشرب الطير والوحوش من الماء ، وبها تعيش الخلائق .
فإذا كان يوم القيامة انتزعها من خلقه ثم أفاضها على المتقين ، وزاد تسعاً وتسعين رحمة ، ثم قرأ {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون}( ).
والجواب هذا صحيح ، وجاءت آية البحث لتخبر عن حرمان المشركين عن الحظ والنصيب يوم القيامة ثم أختتمت بالإخبار عن نزول العذاب الأليم بهم ، ليكون من معاني الصلة بين أول وآخر الآية أن الوعيد الذي أختتمت به زاجر للناس عامة والكفار خاصة عن التلبس بالكفر ، والبقاء في منازله ، وتتضمن الآية أموراً :
الأول : الإخبار عن وجود كفار بين أهل الأرض .
الثاني : بعثة الأنبياء ونزول المعجزات سبب لإيمان أمم من الناس ولكن الذين كفروا امتنعوا عن التصديق بها ، فجاءت آية البحث بذمهم وتخويفهم ووعيدهم ، قال تعالى[قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ]( ).
الثالث : بيان الآية لقانون وهو حرمان الذين كفروا من النصيب والحظ يوم الحساب ، وهو جزاء وعقوبة لهم ، وهل هذا البيان الوارد في آية البحث من الجزاء والعقوبة العاجلة للذين كفروا ، الجواب نعم .
ومن الإعجاز بقاء الآية سالمة من التحريف إلى يوم القيامة ، فمن خصائص آية البحث أمور :
الأول : بيان قدسية الإيمان ، ولزوم تعاهده على كل فرد وجماعة ، لذا ورد ذكر الإيمان في آية (خير أمة) بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]( ).
الثاني : توبيخ الذين كفروا ، والذين سيتخذون الكفر لباساً ممن لم يولدوا إذ يكون القرآن حاضراً ومستقبِلاً لهم في الحياة الدنيا , ويبين لهم قبح الكفر ووجوب عدم شرائه وإكتسابه والتلبس به .
الثالث : غلاء ثمن الكفر مع قبحه وضرره في النشأتين ، فالذي يختاره لابد وأن يدفع الإيمان عوضاً ، وجعل الطاعة ثمناً للمعصية ، والحق بدلاً ونداء للتلبس بالباطل ، وقد أنذر الله عز وجل الناس، وقال سبحانه [وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ]( ).
أسباب النزول
ربما لم يرد ذكر لسبب مخصوص لنزول آية البحث وأن ذكرت أسباب لموضوع نزول آيات أخرى متحدة معها في الموضوع أو الحكم منها قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ]( )، ذكر أنها نزلت في النضر بن الحارث ، الذي كان يضرب في الأرض للتجارة إلى الحيرة وبلاد فارس ، فيشتري كتب أخبار الملوك والأساطير ، ويأتي ليحدث بها الناس في مكة في حرب على النبوة.
وروي أنها نزلت في قرشي اشترى جارية مغنية تغني بهجاء محمد صلى الله عليه وسلم وسبه فنزلت الآية في ذلك( ).
وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغنِيَاتِ وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ وَلاَ التِّجَارَةُ فِيهِنَّ وَلاَ أَثْمَانُهُنَّ وَفِيهِنَّ أنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ( ).
لقد جاءت آية البحث بصيغة الماضي (اشتروا) لبيان وجود موضوع لآية البحث ، ووقوع شراء الكفر ، وتعدد الجهة التي قامت بهذا الشراء لصيغة الجمع في اشتروا .
ويحتمل هذا الشراء وجوهاً :
الأول : شراء كل فرد من الذين كفروا الكفر على نحو مستقل .
الثاني : شراء الذين كفروا الكفر، وشراء المنافقين النفاق والكفر الباطني .
الثالث : شراء الكافرين الكفر مجتمعين ، ومن الوقائع التي تدل على شراء الكافرين الكفر أمور :
الأول : عبادة الذين كفروا للأصنام.
الثاني : جحود الذين كفروا بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
الثالث : إنكار الذين كفروا من قريش لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ]( ).
الرابع : استهزاء الذين كفروا بالتنزيل.
الخامس : إرادة المشركين قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه ليلة المبيت ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
السادس : هجوم المشركين في معركة بدر وإصرارهم على القتال وسفك الدماء والقتل مع زوال سبب الهجوم وهو قافلة أبي سفيان وإحتمال تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لها ، إذ جاء رسول رئيس القافلة أبي سفيان الى جيش قريش ليخبرهم بسلامة القافلة وصيرورتها قريبة من مكة , وطلب منهم الرجوع .
ولكنهم أصروا على الزحف إلى بدر ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] هزيمة المشركين يوم بدر ولحوق الذل والخزي بهم .
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : إرادة تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفتهم لأحوال الناس والتباين فيها ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( )، الجواب إنه أعم ، إذ أن آية البحث موعظة سماوية يعلم معها المسلمون أحوال الناس ، والبؤس الذي عليه الذين كفروا ، وان ظهرت عليهم معاني الترف والأموال والمنعة.
الثانية : يدرك المؤمن وجوب الإيمان للبينات والدلالات الظاهرة ، ويستغرب كيف يقيم الإنسان على الكفر مع أن الأجل قريب، ويوم الحساب ليس ببعيد ، قال تعالى[يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( )، فأخبرت آية البحث عن ضلالة الذين كفروا.
الثالثة : لا يعلم الناس أن الإنسان لا يصير كافراً إلا بشراء الكفر بأغلى شئ في الوجود ، وهو الإيمان فأخبرت آية البحث عن هذا القانون لتكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، بلحظ ما تبعثه في النفوس من النفرة من الكفر ومفاهيم الجحود.
الرابعة : دلالة الآية على وهن الكافرين لشرائهم ما فيه ضررهم وجلب البلاء لهم ، لقد أراد الله عز وجل للحياة الدنيا أن تكون وعاء لعبادته ، ومناسبة لنشر شآبيب الرحمة بين الناس ، ولكن الذين كفروا أفسدوا على أنفسهم هذه النعمة باختيار الكفر والضلالة.
فتفضل الله عز وجل برحمة عامة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الذين كفروا من قريش جحدوا بها ، وأصروا على البقاء على عبادة الأوثان ، وهذا الجحود من مصاديق المسارعة التي ذكرتها الآية السابقة بقوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ]( ).
الخامسة : من خصائص الحياة الدنيا حاجة الإنسان إلى غيره ، وهذه الحاجة نوع ضعف ونقص ، وطريق إلى الهداية ، وبرزخ دون الإستكبار والفجور ، وجعل الله عز وجل الإيمان حاجة للناس مجتمعين ومتفرقين ، وأرسل الأنبياء للإخبار باقتران النعم العظيمة بالإيمان وأنه الصراط المستقيم الذي يؤدي بصاحبه إلى الخلود في النعيم ، قال تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
السادسة :من المسلمات أن الذين كفروا [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ولماذا ذكرت آية البحث هذا القانون ، الجواب من وجوه :
الأول : تفقه المسلمين في الدين .
الثاني : ذم وتوبيخ الذين كفروا ، من وجوه :
أولاً : التفريط بالواجب وهو الإيمان.
ثانياً : جعل الإيمان ثمناً لما هو قبيح .
ثالثاً : شراء الكفر الذي هو ضار بذات الكفار .
الثالث : دعوة المسلمين إلى الحيطة والحذر من الذين كفروا.
الرابع : بيان أن دين التوحيد باق في الأرض وأن الذين كفروا لن يضروا النبوة والتنزيل .
السابعة : الإخبار عن العذاب الأليم الذي ينتظر الكفار في عالم الآخرة.
ومن الغايات الحميدة لهذا الإخبار زجر الناس عن الكفر، ودعوتهم للتوبة والإنابة ، وفي التنزيل [فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
التفسير
قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ]
لقد ذكرت آية البحث الشراء ، وفيه وجوه :
الأول : الإخبار عن سعي الذين كفروا للجحود والضلالة .
الثاني : ميل نفوس الذين كفروا للكفر بلحاظ كبرى كلية وهي أن الشراء لا يتم إلا عن رغبة بالعين المشتراة .
الثالث : عدم وجود الإكراه في المقام ، فليس من أحد أكره الذين كفروا على إختيار الكفر ، وليس من سلطان لرؤساء قريش على الناس بما يمنعهم من الإيمان ، خاصة مع توالي المعجزات على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولما آمن السحرة الذين انتدبهم فرعون برسالة موسى عليه السلام ، توعدهم فرعون بالعذاب الأليم ، بقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم في جذوع النخل ، فأجابوه بالثبات على الإيمان، كما ورد في التنزيل[قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا]( ).
الرابع : إنتفاء الحاجة أو الضرورة للتلبس بالكفر، وإختيار معاداة النبوة والتنزيل ، فقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ] منع لقيام الذين كفروا بالمغالطة أو الجدال .
فليس من عذر للذين كفروا لأنهم اشتروا الكفر ، ومن شرائط الشراء البلوغ والعقل والإختيار والقصد ، فلا يصح شراء وعقد المجنون والمضطر والساهي والنائم ، فجاءت آية البحث لتخبر عن حدوث شرائهم الكفر عن إختيار ورضا .
وجاءت آيات القرآن ببيان سوء إختيار الكفر والضلالة , وما يتفرع عنه ، قال سبحانه [وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ]( ).
وهل المراد بالكفر في آية البحث ذات التلبس به وحده أم أعمال الكفر وأحوال الكفار وتخلفهم عن الوظائف العبادية ، ومحاربتهم النبوة والتنزيل , الجواب هو الثاني ، لذا فان قوله تعالى[اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ] لا ينحصر بايمانهم وحدهم بل قاموا بمحاربة أهل الإيمان بالسيف وتعديهم هذا من مصاديق الشراء أي أنهم لم يشتروا الكفر بايمانهم وحدهم الذي يجب أن يحافظوا عليه .
وهل يصح القول بحسب مفهوم الآية بأن المؤمنين اشتروا الإيمان بالكفر ، الجواب لا , من جهات :
الأول : الأصل في الحياة الدنيا هو الإيمان ، وهو الذي هبط به آدم إلى الأرض ، فان قلت قد هبط إبليس بالكفر ، الجواب نعم هذا صحيح ، ولكنه عدو للناس جميعاً ، ومن عداوته سعيه لإغوائهم .
وما من نبي إلا وجاء بالتحذير والإنذار من شرور إبليس، والحث على عدم الإنقياد له ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا]( ) .
وآية البحث من فضل الله ورحمته على المسلمين والناس لأخذ الحائطة من الشيطان ، وإجتناب اتباع خطواته ، والسير خلف الهوى .
وهل يقدر الشيطان على جعل الإنسان يشتري الكفر بالإيمان ، الجواب لا ، إذ أكرم الله عز وجل الإنسان ورزقه العقل والتمييز بين الحق والباطل ، وهو من مصاديق الخلافة بقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ومن أحكام الجناية تحمل المباشر لها ، إلا مع القرينة التي تدل على موضوعية السبب ، وجاءت آية البحث بالإخبار عن كون الكفار هم الذين اشتروا الكفر ، وهجروا مواطن الإيمان وما فيها من الرحمة والسكينة لذا تبرأ منهم ومن فعلهم إبليس يوم القيامة ، ليكون من وجوه تفسير آية البحث ما ورد في التنزيل حكاية عن إبليس واحتجاجه على الذين كفروا يوم القيامة بنفي أي سلطان له عليهم ، إنما هو قام بدعوتهم ، وكان واجبهم عدم الإستجابة لدعوته ، لأن العقل والنقل والآيات الكونية تحذر وتمنع من هذه الإستجابة له , وكذا آية البحث اذ جاءت بصيغة الجملة الخبرية والتأكيد ، وهي سيف سماوي يهدم بناء الكفر ، ويدفع الناس عن الفسوق والفجور .
وتبعث آية البحث النفرة في النفوس من الكفر، وهل لآيات القرآن موضوعية في دخول الناس أفواجاً في الإسلام كما في قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
الجواب نعم ، فلا تنحصر علة وموضوع دخول الناس الإسلام جماعات وقبائل بفتح مكة إنما سببه بناء صرح الإسلام من حين البعثة النبوية ، ودفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة عن بيضة الإسلام ، وإظهارهم الصبر الجميل المقرون بتعاهد الصلاة والفرائض العبادية , قال تعالى[فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( ).
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : ان الذي اشترى الكفر بالإيمان) بالنسبة للكافر المنفرد
الثاني : ان التي اشترت الكفر بالإيمان بخصوص المفردة المؤنثة.
الثالث : إن اللائي اشترين الكفر بالإيمان ، بخصوص جماعة النسوة اللائي ظلمن أنفسهن .
وهل يمكن تقدير الآية : ان الذين اشتروا الكفر بالإيمان لغيرهم من الكفار ، الجواب إنما يتحمل الإنسان وزر اختياره الكفر ، نعم يؤثم الذي يغويه ويفتنه ويغريه بالكفر.
لقد كان الذين كفروا من قريش يجهرون بالكفر ، وفي التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ]( )، أي التوراة والإنجيل.
وعن ابن عباس في قوله تعالى [أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ] ( )، قال هم أهل مكة ، قال سفيان يعني كفارهم( ).
وفي آية البحث أقوال :
الأول : معنى الشراء في الآية هو الإستحباب، عن قتادة( )، أي استحبوا الكفر.
ولكن الكلام العربي يحمل على ظاهره ، ولا ينصرف إلى غيره من المجاز ونحوه إلا مع القرينة الصارفة ، وبين الشراء والإستحباب عموم وخصوص مطلق ، فالشراء أعم ، ولا ينحصر بالميل النفسي ، إنما هو فعل ومفاعلة ودفع عوض وبدل.
الثاني : أخذ الكفار الكفر ، وتركوا الإيمان ، وهو قول ابن عباس وابن مسعود( ).
والمراد اقتناء الكفر والتلبس به ، وإتخاذه صبغة ، وبين الشراء والأخذ عموم وخصوص مطلق , وليس من تعارض بينهما ، فالشراء أعم لأنه أخذ وصبغة مع دفع عوض وبدل ، وهو الذي تدل عليه آية البحث .
ولا تعارض بين هذه الوجه ، والمعنى الحقيقي للشراء الظاهر في الآية ، لذا جاءت الآيات بذم هذا الشراء ووصفه بأنه تجارة خاسرة، قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ]( ).
ونعت إختيار الذين كفروا بأنه تجارة شاهد على أنه شراء بعوض ، لأن المتبادر من لفظ التجارة أنها مكاسب ، وفيها بيع وشراء وسعي لتحقيق الربح ، ولكن الذين كفروا إختاروا التجارة الخاسرة التي لا تجلب لهم إلا الخزي والعذاب الأليم فلا يصح في معنى قوله تعالى [فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ]( )، القول : فما ربح استحبابهم ، أو ما ربح أخذهم.
والكفر مصدر كفرت الشئ ، إذا غطيته وسترته ، ومنه يسمى الليل كافراً لأنه يستر بظلمته ، وقال لبيد :
حتى إذا ألقت يداً في كافر … وأجن عورات الثغور ظلامها( ).
أي الشمس أخذت بالمغيب ، والكافر البحر ، وذكرت آية البحث الذين كفروا وهو جمع الذي كفر ، أي الكافر وسمي به لأنه يستر نعمة الله ، وضد الكفر الإيمان ، وضد الجحود التصديق.
وقد جعل الله عز وجل الإيمان زينة للعقل ، وواقية من الجهل ، وذات الإيمان علم وطاعة ومعرفة بالمعبود وتقرب إليه سبحانه ، ونزلت آية البحث ليتقيد الإنسان بسنن الإيمان ، ويبادر إلى الفرار من الكفر والضلالة لأنه قبيح ومنكر ، ويجلب العذاب الأليم .
ومن مصاديق الإيمان التوكل على الله عز وجل ، قال تعالى [إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ]( )، ومنه الصبر في طاعة الله ، لبيان قانون وهو أن الذين كفروا خسروا نعمة التوكل ونعمة الصبر والخشية من الله التي هي جند لدفع سلطان الهوى ورجاء فضل الله ، وفاز المؤمنون بالتوكل على الله ليطرد هاجس الفزع والخوف من جيش المشركين الذي كان يزحف على المدينة لغزوها بين الحين والآخر .
وتبعث آية البحث الحس والعقل للتمييز بين الحق والباطل ، والعدل والظلم ، إذ تدل على قانون وهو أن اختيار الكفر ظلم للنفس في النشأتين .
وهل جعلت آية البحث موضوعية للتجربة والتي تتقوم بالحس والعقل فشواهد قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] الوارد في آية البحث تتكرر كل يوم من أيام النبوة والتنزيل إذ يزداد المؤمنون إيماناً ، ويدخل الناس في الإسلام ، ويقيلون على الصلاة وأداء الفرائض بشوق .

علم المناسبة
ورد لفظ (اشتروا) سبع مرات في القرآن , وكلها وردت في السور المدنية اذ وردت خمسة منها في سورة البقرة وواحدة في سورة آل عمران وواحدة في سورة محمد , وكلها سور مدنية , لبيان المفهوم الحكمي للآية القرآنية , وفيه شاهد بأنه قبل وبعد نصر الإسلام وعزّ المؤمنين لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين كفروا إنما نزلت آيات القرآن التي تنهى عن الكفر , وتبين قبحه وأذاه وهي أكبر في أثرها ونفعها من الغزو.
ومن الإعجاز فيها مجيؤها في ذم الذين كفروا , وكيف أنهم ضحوا بالإيمان إتباعاً للهوى ، ورغبة بالضلالة ، كما جاء في ذمهم وتبكيتهم [وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
ومن وجوه إخبار الآيات عن شرائهم الضلالة بالهدى قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ]( )، والنسبة بين الكفر والضلالة هو العموم والخصوص المطلق ، فالكفر هو أصل الضلالة والغواية .
لبيان أن شراء الكفر يجلب الأذى والضرر لأصحابه ، وهو ظلمات ، بينما الإيمان نور يملأ القلب ويشع على الجوانح ، ويتجلى بالقول والعمل الصالح.
لقد اشترى الكفار الضلالة , فتفضل الله عز وجل بآية البحث لتحذير الناس منهم , ومن الضلالة .
وهل يمكن تسمية الدنيا دار التحذير ، أم يكتفى بتسميتها دار الإنذار ، الجواب هو الأول ، ومن خصائص التحذير في القرآن صيغة العموم فيه ، إذ يأتي للمؤمنين والناس كافة , إذ ورد لفظ (يحذركم) مرتين في القرآن بينهما آية واحدة ، قال تعالى [وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ]( )، وقال تعالى [وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ]( ).
وجاء التحذير في القرآن بالإتعاظ من الذين اشتروا الكفر بالإيمان من الأمم السابقة ، قال تعالى[أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ]( ).
ومن وجوه التحذير في المقام بيان تلف تجارة الذين كفروا وخسارتهم المطلقة في الدنيا والآخرة ، لأنهم جعلوا الضلالة رأس بضاعتهم والهوى ملجأهم ، يتصرفون في ملك الله ، ويجحدون بنعمه التي سخرها لهم .
فجاءت آية البحث لنجاة الناس من الكفر ، وتبصرتهم كيف أنه عرض ضار مقتنى ليكون من مفاهيم [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، أنهم يضرون أنفسهم لأن الكفر ضرر محض ، فيأتي على أصحابه ويسوقهم إلى العذاب الأليم الذي أختتمت به آية البحث ، وتجلب خسارة التجارة على صاحبها الحسرة والأذى والندامة وهو من البلاء المصاحب للكفر والجحود .
ومن معاني الكفر التفريط بالنعيم الأخروي بالإنقطاع إلى ملذات الدنيا ، ومن مساوئ الكفر ، وأضراره على الذات أنه تضحية بالنفس ، وإلقاء لها بالتهلكة , قال تعالى[بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ]( ).
قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا]
لقد أخبرت آية البحث عن شراء الكفار ذات الكفر في الزمن الماضي ، فلم تقل الذين يشترون الكفر لإرادة ذم كفار قريش ونحوهم ثم أخبرت عن عدم إضرارهم بالله عز وجل والرسول ، بصيغة المضارع(لن يضروا) لبيان الإطلاق الزماني والموضوعي في عجز الذين كفروا عن الإضرار بالرسالة والتنزيل .
وهم وإن قاموا بايذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة الأوائل في مكة قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم سيّروا الجيوش الكبيرة لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : طلب شخص النبي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب لقتله أو أسره .
الثانية : محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كرسول جاء بالمعجزات من عند الله عز وجل ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
الثالثة : منع توالي التنزيل وآيات القرآن التي تترى في نزولها ، وقد يقول قائل إذا كان الكفار يسعون لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لوقف نزول القرآن فلماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة ، وقد ورد في التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا]( ).
والجواب من إعجاز نزول القرآن على النجوم وبحسب الوقائع والأحداث فضل الله عز وجل في حفظ وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبقاؤه حياً إلى حين نزول تمام القرآن ، مع وجود أمة يتلو عليهم هذه الآيات ويحفظونها بصدورهم ، وفي الصحف لتبقى تركة سماوية في الأرض ، وهو من أسرار قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فمن خصائص خلافة الإنسان في الأرض حفظ التنزيل في كل زمان من أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة.
الرابعة : قتل أو أسر وتفريق أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنه .
الخامسة : إعانة المنافقين في غيهم وبثهم الأراجيف في المدينة.
وعن يزيد الرقاشي أن جباراً من الجبابرة كان جالساً على سرير مملكته ، فرآى رجلاً ذا هيئة منكرة ومخيفة قد دخل عليه الدار فاصابه الخوف والفزع ، وثار في وجهه ، وقال له : من أنت أيها الرجل ، ومن أذن لك في الدخول الى داري فقال : أذن لي صاحب الدار ، فلم يفهم معنى كلامه لأنه يعلم أنه صاحب الدار ، ولم يتبادر الى ذهنه أن الله عز وجل [لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، وهو سبحانه الملك والمالك .
فاردف الزائر قائلاً : أنا الذي لا يحجبني صاحب دار، ولا أحتاج في دخولي على الملوك إلى أذن ، من أحد إلا من عند الله سبحانه ، ولا أرهب سياسة سلطان ولا يفزعني جبار يريد التعريض به .
ثم قال : ولا أحد من قبضتي فرار ، فلما سمع الرجل هذا الكلام خرّ على وجهه ، وأصابته الرعدة ، وامتلأ جوفه رعباً ، وحار وعجز عن الكلام.
ثم تمالك نفسه وقال : انت ملك الموت ، قال : نعم .
فقال : أقسم عليك بالله إلا أمهلتني يوماً واحداً لأتوب من ذنبي وأسأل من ربي العفو والمغفرة وأرد الأمانات التي عندي إلى أهلها ، ولا أتحمل الحساب عليها في الآخرة .
فقال ملك الموت : كيف أمهلك وقد انقضت أيام عمرك ، وهي مثبتة ومكتوبة وحان أجلك، قال تعالى[فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( )،ثم توسل بملك الموت وقال: أمهلني ساعة.
فقال ملك الموت : أن الساعات في الحساب قد عبرت ، وأنت غافل ، وقد استوفيت أنفاسك ولم يبق لك نفس واحد .
فقال : من يكون عندي إذا نقلني إلى لحدي .
فقال : لا يكون عندك سوى عملك .
فقال : ما لي من عمل .
فقال ملك الموت : لا جرم ، يكون مقيلك في النار ، ومصيرك إلى غضب الجبار ، وقبض روحه .
فخر عن سريره ، وعلا الضجيج من أهل مملكته ولم يعلموا بما ينتظره من العذاب الأليم الذي ذكرته آية البحث في خاتمتها ، وإلا لأكثروا من البكاء عليه.
وقد يقوم علماء الأبدان باحصاء عدد الذين يموتون من أهل الأرض كل دقيقة .
فاذا قيل إذا كان ملك الموت ينشغل بالكلام والإحتجاج والسؤال والجواب مع أحد الذين يقبض أرواحهم ، فكيف يقبض أرواح آلاف البشر في كل ساعة .
والجواب من جهات :
الأولى : لملك الموت أعوان من الملائكة ، قال تعالى[وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ]( ).
وعن ابن عباس في قوله [تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا]( )، قال : أعوان ملك الموت من الملائكة( ).
الثانية : من خصائص ملك الموت أن إنشغاله مع أحد المحتضرين لا يشغله عن غيره بآية من عند الله، وكأنه حاضر في أكثر من موضع.
الثالثة : قد ينشغل مع الأحياء الذين لم يحن أجلهم بعد، ويقوم بتفقد أهل كل بيت خمس مرات في اليوم ، وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل من الأنصار يعوده ، فإذا ملك الموت عليه السلام عند رأسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن .
فقال : ابشر يا محمد فإني بكل مؤمن رفيق ، واعلم يا محمد إني لأقبض روح ابن آدم ، فيصرخ أهله ، فأقوم في جانب من الدار فأقول : والله ما لي من ذنب وإن لي لعودة وعودة الحذر الحذر ، وما خلق الله من أهل بيت ، ولا مدر ، ولا شعر ، ولا وبر في بر ، ولا بحر ، إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم وليلة خمس مرات حتى أني لأعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم ، والله يا محمد إني لا أقدر أقبض روح بعوضة حتى يكون الله تبارك وتعالى هو الذي يأمر بقبضه( ).
الرابعة : الله عز وجل هو الذي يتوفى الأنفس , ولا يقبض ملك الموت الأرواح إلا باذن الله، ويحتمل ما يقوم به أعوان ملك الموت وجوهاً :
الأول : يأخذون أوامرهم من الله عز وجل ، مع علم ملك الموت بها.
الثاني : يتلقون أوامرهم من الله عز وجل بواسطة ملك الموت.
الثالث : يأخذون أوامرهم من ملك الموت .
والمختار هو الأول أعلاه , وهو من أسرار تسمية ملك الموت , وبيان وظائفه .
وفي قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ]( )، ورد عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول فيما يروي عن ربه عز وجل : شتمني ابن آدم ولم ينبغ له أن يشتمني ، وكذبني ولم ينبغ له أن يكذبني ، فأما شتمه إياي فقوله [اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا]( )، وأنا الأحد الصمد ، وأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني .
قال قتادة : إن كعباً كان يقول : يخرج يوم القيامة عنق من النار فيقول : يا أيها الناس إني وكلت منكم بثلاث ، بكل عزيز كريم ، وبكل جبار عنيد ، وبمن دعا مع الله إلهاً آخر ، فيلتقطهم كما يلتقط الطير الحب من الأرض ، فتنطوي عليهم فتدخل النار ، فتخرج عنق أخرى.
فتقول : يا أيها الناس أني وكلت منكم بثلاثة : بمن كذب الله ، وكذب على الله ، وآذى الله ، فأما من كذب الله ، فمن زعم أن الله لا يبعثه بعد الموت ، وأما من كذب على الله ، فمن زعم أن الله يتخذ ولداً ، وأما من آذى الله : فالذين يصورون ولا يحيون . فتلقطهم كما تلقط الطير الحب من الأرض ، فتنطوي عليهم ، فتدخل النار( ).
ويمكن تقدير الآية على وجوه منها :
الأول : لن يضروا الرسول .
الثاني : لن يضروا دين الله .
الثالث : لن يضروا الإسلام .
الرابع : لن يضروا الهجرة .
الخامس : لن يضروا الشهداء ، فصحيح أن الذين كفروا قتلوهم في ميدان المعركة كما في سقوط سبعين من الصحابة في معركة أحد ، إلا أنهم فازوا بالحياة في النعيم من حين زهوق الروح ، ومغادرتهم الدنيا ، قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
السادس : لن يضروا المؤمنين والمؤمنات .
السابع : لن يضروا التنزيل ، ولا يستطيون تحريف القرآن.
الثامن : لن يضروا النبوة والتنزيل في أي يوم من أيام الحياة الدنيا .
وهل يمكن تقدير الآية : لن يضروا أنفسهم ، الجواب لا ، لأن ذات شراء الكفر والإقامة عليه ، والتخلف عن أداء الفرائض والعبادات إضرار بالنفس.
ويمكن تقدير آية البحث على أقسام :
الأول : لن يضر المشركون الله شيئاً .
الثاني : لن تضر المشركات الله شيئاً .
الثالث : لن يضر المنافقون الله شيئاً.
الرابع : لن تضر المنافقات الله شيئاً.
الخامس : لن يضر الذين كفروا الله شيئاً مجتمعين ومتفرقين.
السادس : لن يضر الذين كفروا في الأجيال المتعاقبة ، وفي الدنيا والآخرة.
قانون لن يضر الكفار الله شيئاً
ومن بديع صنع الله عز وجل أنه جعل السموات والأرض وما فيهن ملكاً طلقاً له لا يشاركه فيها أحد ، وتختص هذه الملكية بأنها ملكية مشيئة وتصرف وحكمة وحكمة تدل على وجوب عبادته ، والإنقياد لأوامره ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وتفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء للتذكير بملك الله عز وجل المطلق ، والدعوة إلى التسليم به وببعثة الأنبياء ، وكل فرد منها دعوة للإقرار بالآخر ، ولكن الذين كفروا جحدوا بنبوة الأنبياء ، وأصروا على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه لم يأت إلا بما هو حق وصدق ، فنزل قوله تعالى [إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( ) بشارة للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة ليكون من معاني الآية وجوه :
الأول : إنهم لم يضروا الله شيئاً في إيذائهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، فقد صار هذا الأذى سبباً لهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونشر مبادئ الإسلام في المدينة.
الثاني : إنهم لن يضروا الله شيئاً في عذابهم للمؤمنين في مكة قبل هجرتهم إلى المدينة ، فان قلت قد لاقى آل ياسر وبلال وغيرهم الأذى والتعذيب من مشركي قريش ، وماتت سمية أم عمار بن ياسر تحت التعذيب ، وهي من المسلمين الأوائل الذين أظهروا الإسلام( ).
فكيف يكون عدم إضرارهم لهم ، الجواب من جهات :
الأولى : من إعجاز الآية مجئ نفي إضرارهم بالله عز وجل ، وهو أعم من إرادة الأضرار الشخصية .
الثانية : المراد عدم إضرار الذين كفروا بالإسلام ومبادئه وأحكامه ، وفي التنزيل [وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ]( ).
الثالثة : عجز الذين كفروا عن منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تبليغ الرسالة .
الرابعة : إنصراف أذى الذين كفروا عن أشخاص المؤمنين بالهجرة النبوية وهجرة الصحابة من قريش وأهل مكة ، وقد خصصت عنوان الهجرة النبوية لتأكيد موضوعيتها وأنها نوع طريق وباعث لأهل البيت والصحابة على الهجرة ، وواقية لهم .
وقد بادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد مرور ستة أشهر على هجرته إلى المدينة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ليبدأ نظام الحكم بالأخوة الإيمانية ، ولزوم تعاهدها بما فيه تعظيم شعائر الله ، والعمل بسنن التقوى والصلاح ، والدفاع عن بيضة الإسلام ، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ومن الإعجاز في هذه المؤاخاة أنها خالية من العهد أو الميثاق بالدفاع والقتال والغزو ، إنما كانت ذات صبغة إجتماعية وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بناء هذه المؤاخاة.
(عن ابن عباس قال : آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه وورث بعضهم من بعض حتى نزلت هذه الآية { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله}( )، فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب) ( ).
الثالث : لم يضر المشركون الله شيئاً في عزمهم وسعيهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومنه توجه عشرة من شبانهم بتدبير من رؤسائهم لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه .
إذ قال لهم أبو جهل بن هشام في اجتماعم في دار الندوة :
(والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد قالوا وما هو يا أبا الحكم ؟ .
قال أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جلدا نسيبا وسيطا ثم نعطى كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه فانهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم)( ).
ترى لماذا لم تقل الآية (لم يضروا الله شيئاً ) لإفادة الماضي ، الجواب جاءت هذه الآية والآية السابقة بصيغة المستقبل بالأداة (لن) من جهات :
الأولى : إفادة عجز المشركين في المستقبل عن الإضرار بالإسلام والنبوة.
الثانية : خيبة وخسارة الذين كفروا أوان نزول الآية .
الثالثة : دلالة نزول آيات القرآن وحال العز للمؤمنين على عدم إضرار الكفار بهم في الزمن الماضي ، وتقدير الآية : كما أن الذين كفروا لم يضروا الله في ملكه وحكمه وأوليائه في السابق فانهم لن يضروه في المستقبل القريب والبعيد.
الرابعة : الإخبار عن عجز الذين كفروا عن الإضرار بالله عز وجل والإسلام ، وهل تشمل الآية أفراد الزمان ، الجواب نعم ويكون تقدير الآية على جهات :
الأولى : لم يضر الذين كفروا الله في الزمن الماضي .
الثانية : لا يضر الذين كفروا الله عز وجل في أي يوم من أيام الحياة الدنيا .
ومن الإعجاز في تكرار قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( ) مجئ الآية السابقة بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودفع الحزن عنه والذي قد يترشح عن سوء فعل الذين كفروا ،أما بالنسبة لآية البحث فجاءت قانوناً عاماً في تفريط الذين كفروا بالإيمان والتضحية بأثمن وأعظم أمانة في الأرض وهو الإيمان من أهل كل زمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً] ( ).
الثالثة : لن يضر الذين كفروا الله عز وجل والإسلام أمس واليوم وغداً.
الرابعة : قد يأتي المكر والكيد في الزمن الماضي ، ولكن ضرره يأتي لاحقاً أو يقع في أوان الفعل وما بعده ، فجاءت آية البحث لتنفي الضرر .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار البشارة ودار الإنذار ، ومن خصائص الآية القرآنية أمور :
الأول : تضمن الآية القرآنية البشارة ، مع دلالاتها على الإنذار ، فمثلاً قوله تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ) يفيد البشارة للمؤمنين ، ويدل في مفهومه على إنذار الذين اشتروا الكفر بالإيمان ، أي أنهم بذلوا وانفقوا الغالي العزيز من أجل اللهو واللعب وفرطوا بالثواب العظيم واللبث الدائم في الجنان .
وعن ابن عباس قال : قدم وفد عبد القيس فقال مرحبا بالوفد غير الخزايا قالوا يا رسول الله ان بيننا وبينك كفار مضر وانا لا نصل اليك الا في شهر حرام فمرنا بامر نعمل به وندعو إليه من وراءنا قال آمركم بالايمان تدرون ما الايمان شهادة الا اله الا الله وان محمدا رسول الله وان تقيموا الصلوة وتؤتوا الزكوة وتصوموا رمضان وتحجوا البيت الحرام قال واحسبه قال وتعطوا الخمس من الغنائم وانهاكم عن الشرب في الجر والدباء والمزفت والنقير ( ).
الثاني : مجئ الآية القرآنية بلغة الإنذار والتخويف والوعيد لتكون حجة وموعظة للناس ، والإنذار لغة هو الإخبار والإبلاغ والإعلام مع التخويف ، وجاءت الآيات المكية بصيغة الإنذار الذي يتصف بقلة كلماته المقرونة بالبيان المعجز وكذا تضمنت السور والآيات المدنية الإنذار والوعيد فمثلاً ورد في سورة آل عمران وهي مدنية [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ]( )، وقال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ]( ).
وتجمع السور المدنية بين بيان الأحكام الشرعية والبشارة والإنذار لبيان قانون وهو أن لغة الإنذار في القرآن لم تنحصر بالسور المكية.
فان قلت كانت آخر سور القرآن نزولاً سورة النصر وهو قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( )، وهي آية بشارة وسكينة ودعوة للشكر لله عز وجل ، وهذا صحيح إلا أنها تتضمن الإنذار للذين كفروا لأن نصر الله عز وجل دحر لمفاهيم الكفر وخزي للذين كفروا ، وإنذار لهم بأن علو شأن الإيمان قهر لهم ، وبرزخ دون عودة سيادتهم وسلطانهم إلى يوم القيامة.
ومن إعجاز السورة أعلاه إختتامها بالدعوة إلى التوبة لتكون هذه الدعوة الكريمة خاتمة لنزول آيات القرآن ، وأن اسم التواب هو الذي أختتم به نزول القرآن , لبيان رأفة الله عز وجل بالناس جميعاً ، وهذه الخاتمة من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
وبين الرحمة وقبول التوبة عموم وخصوص مطلق فالرحمة أعم وأكبر ، وآية البحث من رحمة الله ، وهي طريق الى التوبة وهل التوبة طريق إلى الرحمة الجواب نعم من غير أن يلزم الدور بينهما.
وإذا كانت الرحمة تتغشى أيام الحياة الدنيا والآخرة فهل تختص المغفرة وقبول التوبة بعالم الآخرة , الجواب لا ، إذ تنبسط على كل آن من آنات الحياة الدنيا والآخرة ، وهو من أسرار ومعاني الإطلاق والعموم في قوله تعالى[إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : إن الله تعالى لينادي كل ليلة جمعة من فوق عرشه من أول الليل إلى آخره ألا عبد مؤمن يدعوني لاخرته ودنياه فاجيبه ؟ ألا عبد مؤمن يتوب إلي من ذنوبه قبل طلوع الفجر فأتوب عليه، إلى قوله: فما يزال ينادي بهذا إلى أن يطلع الفجر( ).
ويدل قوله تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ]( )، في منطوقه على إنذار الذين كفروا ، وهو في مفهومه بشارة وأمن وسكينة للمؤمنين .
وجاء قانون (لن يضر الذين كفروا الله شيئاً) للبشارة والإنذار، البشارة للمؤمنين في أنفسهم وأهليهم ودينهم وسلامة التنزيل ، والإنذار للذين كفروا ، وبعث اليأس والقنوط في نفوسهم وإخبارهم بأن سعيهم لمحاربة النبوة لا تجلب لهم إلا الخسارة في النشأتين .
وهل هذا القانون من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) الجواب نعم .
علم المناسبة
ورد لفظ (يضروا) ثلاث مرات في القرآن( )، وكلها بصيغة النفي المستقبلي وعدم إضرار الذين كفروا بالله عز وجل.
إذ ورد في آية البحث والآية السابقة لها بخصوص الذين يسارعون في الكفر ، أما آية البحث فيتعلق موضوعها بالذين اشتروا الكفر بالإيمان .
والشراء قبل المسارعة وليكشف الجمع بين الآيتين عن حقيقة وهي أن الكفار لا يكتفون بشراء الكفر وجعل الإيمان الواجب بدلاً وعوضاً له ، إنما صاروا يسارعون في مسالك الكفر والإنغماس في مستنقع المعصية , ليكون من معاني الجمع بين الآيتين وجوه :
الأول : الذين اشتروا الكفر بالإيمان يسارعون في الكفر .
الثاني : الذين كفروا اشتروا الكفر بالإيمان ليسارعوا في الكفر، قال تعالى[اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ]( ).
الثالث : لم يكتف الذين كفروا بشراء الكفر إنما صاروا يسارعون فيه.
الرابع : الذين اشتروا الكفر بالإيمان ظلموا أنفسهم بهذا الشراء ، ثم تمادوا في الإثم والظلم بأن صاروا يسارعون في الكفر .
الخامس : إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان وسارعوا في الكفر لن يضروا الله شيئاً.
لإرادة البشارة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بأن سعي الكفار الدؤوب لغزو المدينة لن يضر عبادتهم وصلاتهم ونسكهم .
وهل منه البشارة بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سيفتحون مكة لأداء مناسك الحج ، الجواب نعم ، بلحاظ أن حرمانهم حج البيت وأداء العمرة إضرار بهم وبالإسلام ، وآية البحث نوع وعد كريم بنفي هذا الإضرار , وكذا فان بقاء ثلاثمائة وستين صنما في البيت الحرام من الإضرار في سنن التوحيد خاصة وأن الله عز وجل يقول[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
وفي الآية أعلاه دلالة على لزوم إزاحة الأصنام , لأن البيت وضع للعبادة والتسليم بالتوحيد ، وإتخاذه قبلة من قبل المسلمين من كل مكان.
وجاءت الآية الثالثة لتذكر عدم إضرار الذين كفروا بالله بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ]( )، لبيان مصداق لمسارعة الذين كفروا في مسالك الكفر.
بحث بلاغي
من علوم البديع الجناس , وهو تشابه لفظين بأن يأتي ذات اللفظ بمعنى ثم يأتي بمعنى آخر ، كما في قوله تعالى [فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ]( )، فالله عز وجل هو الحق المالك للخلائق كلها ، وهو رب العالمين ، والذي يتفضل بالرزق الكريم للناس ، وبيده مقاليد الأمور.
أما قوله تعالى [فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ] ( )، فهو الإيمان والتوحيد وعبادة الله , ويتكرر الإستشهاد في باب الجناس بقوله تعالى [وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ]( ).
وانكر بعضهم الجناس في الآية أعلاه ، وقال أن الساعة في الموضوعين بمعنى واحد ، ولكن المعنى متباين.
وقالوا يشترط في الجناس أن يكون كل من المعنيين لذات اللفظ حقيقة وليس أحدهما حقيقة والآخر مجازاً ، فلو قلت رأيت أسداً في الغابة ، ودخل بيتنا أسد ، فليس من الجناس ، لأن الثاني يعني الرجل الشجاع .
ولا يخلو هذا القيد من التشديد ، فقد يكون المجاز شائعاً وظاهراً وأقرب إلى المنقول ، ويقارب اللفظ فيه اللفظ المشترك ، ومن منافع الجناس إحداثه الميل والإصغاء لذات الألفاظ والتدبر فيها.
وقد ورد لفظ[لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا]في آية البحث والآية السابقة ، ويظهر الجناس في إتحاد اللفظ ، وهل واو الجماعة بقوله تعالى [يَضُرُّوا] في الآيتين من الجناس , إذ تحتمل النسبة بينهما وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي ، وأن الواو في كل من الآيتين يراد منها ذات القوم الكافرين .
الثاني : المراد نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الذين ذكرتهم الآية السابقة وهم الذين يسارعون في الكفر أكثر من الذين اشتروا الكفر بالإيمان ، إذ قد يسارعون في الكفر من غير شرائه بالإيمان ، أو أنهم من الذين قال الله تعالى فيهم [خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا]( ).
الثانية : الذين ذكرتهم آية البحث بأنهم اشتروا الكفر بالإيمان هم الأكثر ، فمنهم من يسارع في الكفر ومنهم لا يسارع فيه .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثاني أعلاه , وأن الذين ذكرتهم آية البحث هم الأكثر.
لذا تفضل الله عز وجل وذكر قوله [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] في الآيتين ، وفي تأكيد للإنذار.

قانون الصلة بين خواتيم الآيات
ونؤسس في هذا السٍفر قانوناً وهو الصلة بين خواتيم الآيات ، كما يتجلى في باب (سياق الآيات) ويمكن أن يكون علماً مستقلاً من جهات :
الأولى : نص خاتمة الآية .
الثانية : دلالة خاتمة الآية .
الثالثة : صلة خاتمة الآية بمضامين ذات الآية ، وهو الذي يتجلى في هذا السٍفر في باب ( الصلة بين أول وآخر الآية ).
الرابعة : القوانين المترشحة عن خاتمة الآية.
الخامسة : صلة خاتمة الآية القرآنية بمضامين آيات القرآن الأخرى ، مثلاً وردت خاتمة آية البحث بقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( )، وجاءت الآيات بتذكير أهل النار بسوء أفعالهم وبسؤال الملائكة لهم عن علة وأسباب دخولهم النار [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ]( ).
وفي أيام الدنيا والإبتلاء فيها تجري أحاديث أحياناً بين السجان والسجين ، ويتم السؤال عن سبب السجن ومدته ونحوه خاصة في الواجبات الليلية لطول المدة وشبه العشرة بينهما , ويسأل المسجون عن أحوال الناس خارج السجن .
فهل سؤال الملائكة لأهل النار مثله ، الجواب لا ، فلا يسأل الملائكة إلا بإذن من عند الله عز وجل ، ولتجديد الحجة وإقامة البرهان على الذين كفروا .
وهل سؤال الملائكة هذا من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، الجواب نعم ، لأصالة الإطلاق في الآية أعلاه ، وشمول موضوعها الحياة الدنيا والآخرة .
السادسة : الصلة بين خاتمة الآية وبداية الآية القرآنية الأخرى .
السابعة : الصلة بين خاتمتي الآيتين المتجاورتين كما في الصلة بين خاتمة آية البحث [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] وخاتمة الآية السابقة لها[وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( )، وكذا الصلة بين خاتمة آية البحث وخاتمة الآية التالية [وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ]( ).
الثامنة : الإعجاز الذاتي والإعجاز الغيري لخاتمة الآية القرآنية .
التاسعة : القوانين المستقرأة من خاتمة كل آية قرآنية .
العاشرة : دلالات صيغة الإطلاق والعموم في خواتيم الآيات .
الحادية عشرة : موضوعية ومنافع خاتمة آيات القرآن في عالم الآخرة .
الثانية عشرة : إجراء إحصائيات متعددة بخصوص خواتيم الآيات القرآنية ، فمثلاً ورد قوله تعالى[الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] تسعاً وعشرين مرة كلها في خواتيم الآيات ، وجاءت في بيان صفات الله عز وجل والثناء عليه سبحانه .
وأختتمت آية البحث بقوله تعالى[عَذَابٌ أَلِيمٌ] فيها ينتظر الذين كفروا من العقاب يوم القيامة ، وقد ورد هذا اللفظ ستاً وأربعين مرة في القرآن ولكن ليس كله خاتمة لآية قرآنية ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
قوله تعالى[وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]
يقال : عذَّب يعذب عذاباً ، والمصدر تعذيب والعذاب اسم مصدر , والمراد منه وقوع الأذى وشدة الضرر للكفار يوم القيامة وإقامتهم في النار ، ووصفت آية البحث العذاب بأنه أليم وهذا الوصف على وجوه :
الأول : عذاب النار مؤلم لكل أهلها ولا يستطيع أي فرد منهم أن يدّعي أنه لا يتألم وهو في النار .
الثاني : إدراك أهل المحشر أن الذين كفروا يتألمون وهم في النار.
الثالث : عذاب النار مؤلم للذين كفروا وهم في الدنيا ، وهو من الإعجاز في نزول الكتب السماوية ، وصبغة الإنذار والوعيد فيها ، وفي خطاب للمؤمنين قال تعالى [وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
الرابع : إتصال العذاب الأليم على الذين كفروا فليس فيه فترة إنقطاع لأصالة الإطلاق والإطراد الذي هو من علامات الحقيقة ويحتمل الألم الذي يأتي للذين كفروا في النار وجوهاً:
الأول : نزول الألم بكل فرد من أهل النار.
الثاني : مجئ عذاب عام يتغشى أهل النار وينبسط عليهم على نحو التساوي .
الثالث : نزول عذاب خاص لرؤساء الكفر ، والنار على طبقات بعضها فوق بعض وكل طبقة لها باب ، لذا قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه آله وسلم رأى النار في الإسراء والمعراج , كما عن ابن عباس في حديث طويل ، ومنه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ثمّ جاوزنا فمررنا بملك آخر ما رأيت من الملائكة خلقاً مثله عابس الوجه كريه المنظر شديد البطش ظاهر الغضب، فلما نظر رغبت منه شيئاً وسألته فقلت : يا جبرئيل من هذا؟ فإني رعبت منه رعباً شديداً .
قال : فلا تعجب أن ترعب منه كلنا بمنزلتك في الرعب منه، هذا مالك خازن النار لم يتبسم قط ولم يزل منذ ولاّه الله عزّ وجلّ جهنم يزداد كل يوم غضباً وغيظاً على أعداء الله عزّ وجلّ وأهل معصيته لينتقم منهم.
قلت : ادنني منه. فأدناني منه فسلم عليه جبرئيل فلم يرفع رأسه فقال جبرئيل : يا مالك هذا محمّد رسول العرب فنظر اليَّ وحياني وبشرني بالخير. فقلت : مُذّ كم أنت واقف على جهنم.
فقال : مذ خلقت حتّى الآن وكذلك إلى أن تقوم الساعة فقلت : يا جبرئيل مرة ليرني طرفاً من النار فأمره ففعل فخرج منه لهب ساطع أسود معه دخان مكدر مظلم إمتلأ منه الآفاق فرأيت هولاً عظيماً وأمراً فظيعاً أعجز عن صفته لكم فغشيّ عليَّ وكاد يذهب نَفسي، فضمّني جبرئيل وأمر أن يرد النار فرّدها ( ).
وتبين خاتمة آية البحث خيبة الذين كفروا وأنهم يخسرون الدنيا وينعدم ضررهم وإضرارهم بالله وبالمؤمنين في الدنيا ، أما في الآخرة فانهم يعجزون عن الشراء وعن البيع لأن الآخرة دار حساب لا عمل فيها وينجو الذين تعاهدوا الإيمان وحفظوا الفرائض وأدوا الحقوق طاعة لله عز وجل وحبسوا النفس عن الظلم والتعدي من العذاب .
وهذه النجاة من مصاديق حصر آية البحث العذاب بالذين كفروا بقوله تعالى[وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ].
ومجئ آيات القرآن بالبشارة والوعد الكريم للذين آمنوا بالإقامة الدائمة في النعيم , قال تعالى[لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ]( ) .
وهل العذاب الذي يلقاه الذين كفروا من الكلي المتواطئ الذي يكون على مراتب متساوية في شدته وتلقيه ، والألم الذي يترشح عنه أهل النار ، أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً بين أهل النار .
الجواب هو الثاني فان رؤساء الكفر أشد ألماً في النار من غيرهم وإن كانت مادة العذاب واحدة، ولا يعلم شدة الألم الذي يصيب كل فرد من أهل النار إلا الله عز وجل .
وهل من موضوعية لبيع وتفريط الذين كفروا بالإيمان في مقدار وشدة عذاب النار ، الجواب نعم ، ليكون من الإعجاز في آية البحث أن قوله تعالى[اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ] حجة عليهم ، وسبب في زيادة عذابهم في النار ومجئ عذاب خاص لذات بيعهم الإيمان.
ومن فضل الله عز وجل في بعثة الأنبياء إخبار الناس بما يفيد القطع بأن باب التوبة مفتوح وهو سبيل النجاة من العذاب الأليم .
وتلح كل آية من القرآن على الناس بالتوبة ، وتتودد إليهم وترغبهم بها وتفضل الله عز وجل بتلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في كل ركعة من الصلاة اليومية لتكون كل آية منه على وجوه :
الأول : إنها تعاهد للتوبة.
الثاني : تلاوة القرآن في الصلاة سبب للعفو والمغفرة من عند الله ، فان قلت لابد من الإستغفار والتوبة للفوز بالعفو، والجواب أداء الصلاة وتلاوة المسلمين القرآن فيها سبيل للتوبة والإنابة .
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات( ).
وجاء القرآن والسنة بالإخبار عن تعدد الوسائل والأسباب التي تدخل الإنسان النار ، ومنها شراؤه الكفر وإصراره عليه كما في آية البحث.
ومن خصائص القرآن طرد اليأس والقنوط عن النفوس ، وتتصف آيات القرآن بأنها مدد وعون للناس للتوبة وهجران مسالك الكفر.
الثالث : تبين الآية القرآنية في منطوقها أو مفهومها قانوناً وهو وجوب التوبة .
الرابع : الآية القرآنية مؤازر ومعين لكل إنسان ليلجأ إلى التوبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الخامس : من خصائص الآية القرآنية أنها تلح على كل إنسان للتوبة وعمل الصالحات , وتحبب للناس الكف عن المعاصي .
ومن فضل الله عز وجل بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إطلالة آيات القرآن خمس مرات في اليوم على الناس ، قال تعالى[فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ]( ).
بحث بلاغي
من ضروب البلاغة التكرير بأن يختلف اللفظ , ويتحد أو يتقارب المعنى ، ومنه قوله تعالى[وَغَرَابِيبُ سُودٌ]( )، وكما في قولهم مرحباً وسهلا أي لقيت منا الرحب والسعة ، واليسر والسهولة.
وقد ورد وصف عذاب أهل النار في آية البحث بأنه (أليم) أما الآية السابقة فقد وصفته بأنه عظيم , وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله {إن عذابها كان غراماً} ( )قال: الدائم( ) .
ولو دار الأمر بين إحتمال تعدد هذا العذاب أو إتحاده ، فالصحيح هو الثاني وهو من رحمة الله عز وجل في الآخرة .
وجاء تعدد ووصف عذاب أهل النار لأن صفاته هذه وشدته حق ، وفي التكرار إنذار للناس من شدة النار ومناسبة لتفقه المسلمين في الدين ، وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وحث الناس على التنزه عن الكفر لسوء عاقبته .
وقد جاءت الآية السابقة بوصف ذات العذاب وهوله ، وجاءت آية البحث لبيان شدة إيلامه للذين كفروا ، ومن أسباب هذا الألم تفريطهم بالإيمان .
وتعدد ضروب شدة عذاب النار زاجر للذين كفروا ، وهو من الإعجاز في تلاوة المسلمين القرآن في الصلاة اليومية ، وإجهارهم به في صلاة الصبح والمغرب والعشاء ، وعن مجاهد في قوله تعالى[فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ]( )، قال هو الجهر بالقرآن في الصلاة( )، ولكن موضوع الآية أعم ليشمل تبليغ الأحكام ، وبيان المعجزات وتلاوة القرآن في الصلاة وخارجها والإحتجاج بالبرهان ، ودعوة الناس للإيمان ونبذ عبادة الأصنام ، ليستمع الناس لآية البحث والآيات التي تبين عذاب النار من جهات :
الأولى : حتمية عالم الآخرة والجزاء والذي لا يأتي إلا بعد الحساب وإقامة الحجة على الناس.
الثانية : إختصاص الذين كفروا بعذاب النار .
الثالثة : بيان علة استحقاق الكفار للعذاب وهو شراؤهم الكفر ، وظلمهم لأنفسهم بالجحود والضلالة ، قال تعالى[وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
الرابعة : الإخبار عن شدة عذاب النار ، واستحضار أي إنسان قانوناً وهو عدم قدرته أو قدرة غيره من الناس على تحمل عذاب النار ، مما يلزم معه إمتناع الإنسان عن الكفر ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : إختصاص عذاب النار بالذين كفروا .
الصغرى : الإيمان نجاة من العذاب.
النتيجة : الإيمان واجب.
قانون تعاهد الإيمان
الإيمان لغة التصديق ، وهو في الشرع قول باللسان وإقرار بالجنان وعمل بالجوارح والأركان بصيغ طاعة الله ، والإمتناع عن المعصية .
ورأس الإيمان التوحيد والإقرار بالعبودية لله عز وجل والإقرار بالرسالات ، والتنزيل وأن النبي محمداً خاتم النبيين والتسليم بوجود الملائكة والإقرار باليوم الآخر وعالم الحساب , والتنزه عن الشرك
وعن أبي الدرداء في قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ] ( )، قال : على البر ، والتقوى ، والتواضع ، وذلة النفس( ).
وهل يمكن تسمية الحياة الدنيا بأنها دار الإيمان ، الجواب نعم ، ومن اللطف الإلهي في المقام تقريب الله الناس لمقامات الإيمان ، والتزين بالتقوى ولباس الهدى والرشاد.
ويقود الإيمان إلى حسن التوكل على الله ورجاء رفده وإحسانه ، وهو أصل للدعاء والإلحاح فيه وفيه أمن وسلامة لذات المؤمن والناس.
فمن صفات المؤمنين الإمتناع عن التعدي والظلم والغزو والتخريب وقطع الطرق ، والقتل العشوائي , وتجلت هذه الصفات بمفهوم سؤال الملائكة من قبل أن يخلق آدم , وجواب الله عز وجل عليهم بالحجة والبرهان ، كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
ومن علم الله عز وجل المنافع العظيمة لآية البحث في إصلاح الناس ، وإحترازهم من الكفر ومفاهيم الجحود.
والإيمان بناء وإصلاح ، وأخلاق حميدة وسنن رشيدة تبعث السكينة في النفوس ، ومناسبة لأداء المؤمنين الفرائض والعبادات ، وإمتناع عامة الناس عن إيذائهم في عباداتهم.
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية قيام كل مسلم ومسلمة بأداء الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة لتكون على وجوه :
الأول : الصلاة مرآة الإيمان .
الثاني : دعوة الناس والملائكة للشهادة للمسلم والمسلمة بالإيمان قال تعالى[وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
الثالث : يتجلى في أداء الصلاة قانون وهو أن الصلاة مصداق الإيمان.
الرابع : تلاوة القرآن في الصلاة نوع طريق وسبب لتلاوته خارج الصلاة ، وإتخاذ القرآن حرزاً ، ومادة للجدال والإحتجاج ، والتحلي بالصبر والأخلاق الحميدة .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإذا لم يقم به نسيه( ).
الخامس : تلاوة المسلم والمسلمة القرآن في كل ركعة من الصلاة وهذه الصلاة على شعبتين :
الأولى : القراءة الثابتة في كل ركعة بتلاوة سورة الفاتحة ، وكأن فيه إكراماً للآيات والسور التي نزلت في مكة في بداية البعثة بالإضافة الى كون سورة الفاتحة جامعة وصفات حسن لله عز وجل ، ومظهر لعبودية المسلمين والناس لله عز وجل ، كما في قوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال الله عزّ وجلّ : قسمت الصلاة يعني هذه السورة بيني وبين عبدي نصفين؛ فنصفها لي ونصفها لعبدي، فإذا قرأ العبد[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، يقول الله : حمدني عبدي. وإذا قال العبد : {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}( )، يقول الله تعالى : أثنى عليّ عبدي.
وإذا قال العبد: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}( )، يقول الله : مجّدني عبدي. وإذا قال العبد : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}( )، قال الله : هذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}( )، إلى آخرها قال : هذه لعبدي ولعبدي ما سأل( ).
الثانية : القراءة المتعددة التي يكون فيها المصلي بالخيار ، إذ له إختيار أي سورة أو آيات بعد قراءة الفاتحة ، وهو من أسرار حفظ القرآن ، وحضور آياته في الواقع اليومي للناس ، لتتغشى بركاته الناس جميعاً ، وتكون تلاوة آية البحث في الصلاة بشارة للمسلمين ، وإنذاراً للذين كفروا.
ومن الإيمان التنزه عن التعطيل , وهو في الإصطلاح نفي بعض أسماء الله الحسنى أو صفاته والإمتناع عن التمثيل وهو تمثيل صفة لله بصفات أخرى لمخلوقاته أو سمع الله [يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ]( )، إذ المراد قوة وسلطان الله وأنه الغالب الذي لايقهر ، وفي التنزيل[لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ]( )، والتنزه عن التكييف ، وهو تحديد الكيفية والحقيقة التي يكون عليها الخالق سبحانه.
عن الأصبغ بن نباته قال : قام رجل يقال له ذعلب للإمام علي عليه السلام ليسأله فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك.
فقال: ويلك يا ذعلب لم أكن بالذي أعبد رباً لم أره.
قال: فكيف رأيته ؟ صفه لنا.
قال: ويلك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان. ويلك يا ذعلب إن ربي لا يوصف بالبعد ولا بالحركة ولا بالسكون ولا بالقيام قيام انتصاب ولا بجيئة ولا بذهاب، لطيف اللطافة لا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، رؤوف الرحمة لا يوصف بالرقة، مؤمن لا بعبادة، مدرك لا بمجسة، قائل لا بلفظ، هو في الاشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة، فوق كل شئ ولا يقال شئ فوقه، أمام كل شئ ولا يقال له أمام، داخل في الاشياء لا كشئ في شئ داخل، وخارج منها لا كشئ من شئ خارج. فخر ذعلب مغشيا عليه( ).
ولابد من الإيمان بان الله هو الخالق والمالك والرازق للخلائق كلها ، وهو المحيي والمميت ، وهو النافع الغفار ، والهادي إلى سواء السبيل ، والذي بيده مقاليد الأمور وفي التنزيل [قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
ومن الإيمان التسليم بالقدر من عند الله , أي أن كل محدث لم يقع إلا بمشيئة وعلم وقدرة من الله عز وجل ، ولا يخرج عن سلطانه أحد من خلقه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
لقد خلق الله عز وجل الناس على فطرة الإيمان ، ونفخ في آدم من روحه وكلمه قبلاً وجعله يقيم في الجنة آناً ما ليعيش مع الملائكة ويرى المعجزات الحسية وبديع صنع الله.
لتكون هذه الإقامة المؤقتة مادة للهداية والإيمان ، ومقدمة لدخول المؤمنين الجنة , وحمل الأنبياء لواء التوحيد فتعاهدوا وأصحابهم وأنصارهم الإيمان في الأرض ولاقوا من أجله أشد أنواع الأذى من القوم الكافرين ، قال تعالى [وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ) .
وأصر الذين كفروا من قريش ومن والاهم على تجهيز الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المدينة ، وهذا الإصرار من مصاديق آية البحث وسعي الذين كفروا الى الكفر والجحود بأيديهم وأرجلهم وأموالهم.
ومن الإعجاز في السنة الدفاعية قدرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين على الدفاع وصدّ الجيوش العظيمة التي جاءت لقتالهم , وكان المشركون في كل مرة يتوقعون النصر والظفر فيرجعون بالخسارة والخيبة ، قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
وهل الآية أعلاه خاصة بمعركة أحد أم أنها قانون يتعلق بكل معركة وهجوم للمشركين ، الجواب هو الثاني , ولابد من اقتران الإيمان بالعمل ، وهو شرط في قبول الفعل العبادي ، وسبب في التوفيق في القول والعمل .
لقد إجتهد الذين كفروا من قريش في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأنهم جمعوا بين الإيمان والعمل ، مع أنهما مجتمعين ومتفرقين لن يضرا أحداً من الناس ، ومن خصائص القرآن أن كل آية منه تعاهد للإيمان من جهات :
الأولى : نزول الآية من عند الله .
الثانية : تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية حال نزولها.
فمن الإعجاز في نبوته أنه لا يؤخر أو يؤجل التبليغ ، فحالما تنزل عليه الآية القرآنية وينفصل عنه الوحي يقوم بأمور مباركة :
الأول : تلاوة الآية القرآنية على الحاضرين ، وهو من مصاديق [وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً]( ).
الثاني : دعوة كتاب الوحي لتدوينها ، وهم الذين يكتبون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما ينزل من الوحي وآيات القرآن ، وقيل كان عدد كتاب الوحي اثنين وأربعين من الصحابة .
وعن مجاهد عن الشعبي قال : سألنا المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا: من أهل الحيرة. وسألنا أهل الحيرة: من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا: من أهل الأنبار( ).
وقيل أول من تعلمه من الأنبار قوم من طيئ من قرية هناك يقال لها: بقة، ثم هذبوه ونشروه في جزيرة العرب فتعلمه الناس( ).
الثالث : تلاوة الآية القرآنية في الصلاة اليومية ، وهو من أسرار إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة في الصلوات اليومية الخمسة , في الحضر والسفر , ليكون من معاني قوله تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، وجوه :
الأول : تثبيت الفاظ وكلمات آيات القرآن في أذهان المسلمين .
الثاني : الإلتفات العام إلى نزول آيات قرآنية جديدة .
الثالث : محل وموضع الآية القرآنية النازلة بالنسبة لآيات وسور القرآن إذ كان جبرئيل عليه السلام ينزل وينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويبين له موضع الآية , كما كان يتدارس معه القرآن مرة كل سنة وفي السنة التي انتقل فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى تدارس معه القرآن مرتين ، فعلم أنه الأجل .
وعن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إذ شخص بصره فقال : أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ]( )، إلى قوله { تذكرون }( ).
الرابع : إعانة المسلمين على حفظ آيات القرآن.
الخامس : تدبر المسلمين في مضامين ومعاني آيات القرآن.
السادس : تلاوة المسلمين لآيات القرآن ، واستقراء المواعظ والعبر منها .
السابع : استحضار المسلمين لأسباب نزول الآية القرآنية .
الثامن : إتخاذ المسلمين الآية القرآنية منهاجاً للعمل ونوع وسيلة ومادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأول من تعاهد الإيمان آدم وحواء ، ثم توارثه الأبناء والأحفاد ، وتفضل الله عز وجل بالكتب السماوية وبعثة الأنبياء , وعن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وأجملها وترك فيها موضع هذه اللبنة لم يضعها .
فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ، ويقولون : لو تم موضع هذه اللبنة ، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn