معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 176

المقدمـــــــــــة
الحمد لله الذي جعل الألسن تنطق بالحمد له سبحانه ، في كل زمان ومكان وعلى مختلف اللغات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) وأول كلمة نطق بها آدم هي الحمد لله .
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لما نفخ الله في آدم الروح فبلغ الروح رأسه عطس فقال { الحمد لله رب العالمين } فقال له تبارك وتعالى : يرحمك الله( )، لبيان قانون وهو أن المسلمين والمسلمات يتعاهدون كل يوم أول كلام نطق به آدم بالثناء على الله ويتصف هذا التعاهد بأمور :
الأول : ينطق كل مسلم ومسلمة بقول الحمد لله رب العالمين على نحو الوجوب العيني .
الثاني : يتلو كل مسلم ومسلمة قول الحمد لله رب العالمين بصيغة القرآنية .
الثالث : يتلو كل مسلم قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، سبع عشرة مرة على نحو الوجوب عدا المستحب في الصلاة المندوبة وخارجها ، وفي قراءة سورة الفاتحة أو بالنطق بالحمد على نحو مستقل .
الرابع : حال الخشوع والخشوع التي ينطق بها المسلمون بلفظ [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ].
ليكون من مصاديق ما ورد في الحديث أعلاه بالخطاب من الله لآدم (يرحمك الله) ولما احتجت الملائكة على جعل الإنسان في الأرض ( )، اجابهم الله عز وجل بصيغة الإحتجاج وذخائر علم الغيب التي لا يعلمها الا هو سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
ومن علم الله عز وجل ثناء المسلمين والمسلمات على الله سبحانه خمس مرات في اليوم والليلة تنبسط بلحاظ أوقات الصلاة في الأمصار المختلفة على جميع آنات الزمان , فلا تمر على الأرض دقيقة إلا وترى الملائكة المصلين جماعة وفراداً , وتسمع من يقول فيها [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وهو مستقبل القبلة .
لبيان أن حياة الناس بدأت بالحمد لله ، وتنتهي بالنطق العام به من قبل أهل الجنة , لقوله تعالى [وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) وفيه شاهد على أن الحمد لله دعاء وتوسل ، وشكر وحب لله عز وجل وإنقطاع إليه ، ورجاء رفده وفضله ، وهو من مصاديق قانون أن الحمد لله يستلزم الحمد والشكر له سبحانه على التوفيق للنطق بالجهر له سبحانه ، وهذا النطق مقدمة وسبب للمداومة على الشكر .
الحمد لله الذي يهب ما يشاء وكيف يشاء ، وأنّى يشاء ، ولا يقدر على هذه النعمة إلا هو سبحانه ، ومن عظيم قدرته أنه رزق كل إنسان إبتداء من آدم من النعم ما لم تكن عنده غيره الى جانب النعم العامة ، فيختص كل إنسان بنعم خاصة ويلتقى مع غيره بنعم أخرى ، ليعّرف الناس يوم القيامة بالنعم الخاصة والعامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى[لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ]( ) .
وقد تكون ذات النعمة عامة وخاصة ، ومنها النبوة والتنزيل، ونسأله تعالى تمام النعمة ، والمدد منه سبحانه لأداء شكره والثناء عليه , وهذا الثناء نعمة عظمى وسبيل هداية ، قال تعالى [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]( ).
اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل ابراهيم إنك حميد مجيد .
الحمد لله وباسم الله أكتب الجزء السادس والسبعين بعد المائة من تفسيري للقرآن في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً ، نسأله تعالى أن يكون دعوة متجددة إليه تعالى في كل زمان وإلى يوم القيامة ، ونبراساً للعلماء ، وحجة وبرهاناً , وهذا الجزء من مصاديق قانون (لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً) .
ويتضمن هذا الجزء قراءة في آيتين , هما :
الآية الأولى : قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) ، إذ جاءت هذه الآية بعد إكرام المسلمين بنداء الإيمان بأربعة أوامر للمسلمين والمسلمات عامة ، وتبدأ بلزوم الصبر .
وهل يختص الصبر في المقام بموضوع معين ، الجواب لا ، لأصالة الإطلاق ، ولو قيل هل يقيد موضوع المرابطة الصبر بلحاظ القرينة والجمع بينهما في آية البحث.
الجواب لا ، وسيأتي في تفسير الآية إن شاء الله تقدير وجوه الصبر المتعددة لقوله تعالى [اصْبِرُوا] ومنها بلحاظ القانون أعلاه :
الأول : اصبروا على أذى المشركين .
الثاني : اصبروا في طاعة الله .
الثالث : اصبروا عن القتال .
الرابع : اصبروا عن الغزو .
الخامس : اصبروا في الرباط .
السادس : اصبروا فان الصبر برزخ دون القتال .
السابع : اصبروا فان صبركم معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ قانون وهو أن معجزاته أعم من أن تختص بالتنزيل والوحي وما يجري على يديه فمنها ما يحدث بعد مفارقته الحياة الدنيا ، وهو متجدد الى يوم القيامة .
وقد يظن بعضهم أن الأمر الصبر يشمل الرباط والدفاع فجاءت ذات آية الصبر هذه بالأمر بالرباط لتدل على أنه موضوع مستقل , ومن مصاديق الصبر وكأنه من عطف الخاص على العام .
ليكون من وجوه تفسير الآية : اصبروا بالرباط ، ولا يختص الصبر في المقام بالمرابطين بل يشمل الذين يمدونهم بالمال والسلاح والمؤن والغذاء ، وعموم المسلمين والمسلمات بالحث على الرباط بما يضمن سلامتهم ، وهو من أسرار النداء التشريفي العام للمسلمين والمسلمات الذي ابتدأت به الآية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] .
وهل هذا النداء عون للمسلمين والمسلمات في تهيئة أسباب الرباط ومقدماته ، الجواب نعم ، وهو الذي يأتي بيانه في ثنايا هذا الجزء وهو دعوة للمسلمين للصبر على أذى وغزو العدو بالمرابطة والإستعداد للدفاع قال تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ]( ) ، وليس من حصر لمصاديق وموضوعات الصبر الذي تذكره آية البحث وسيأتي مزيد بيان عندما يتفضل الله عز وجل علينا بتفسير هذه الآية وفق منهجنا في التفسير فقد صدر الجزء السابق وهو الخامس والسبعون بعد المائة خاصاً بتفسير الآية (177) من سورة آل عمران ، أي بينها وبين تفسير الآية المائتين من سورة آل عمران اثنتان وعشرون آية نسأل الله عز وجل التوفيق لتفسيرها ، انما جاء ذكر الآية أعلاه في هذا الجزء في قراءة في قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) لأن الأوامر الأربعة التي تتضمنها الآية تدعو المسلمين الى إجتناب الغزو في ذات الوقت الذي تدعوهم فيه لأخذ الحائطة من الذين كفروا , قال تعالى[وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا]( ).
لقد تضمنت آية البحث بنداء الإيمان أربعة أوامر للمسلمين والمسلمات وهي :
الأول : اصبروا .
الثاني : صابروا .
الثالث : رابطوا .
الرابع : اتقوا الله .
فهل يمكن أن تجتمع هذه الأوامر ونداء الإيمان التشريفي في موضوع واحد ، الجواب نعم ، كما في الصلاة التي يكون الإيمان وقصد القربة شرطاً فيها ، وهي تستلزم الصبر في ذاتها وأفعالها ومقدماتها ، وتدعو المسلمين إلى المرابطة ، وهي مرآة التقوى وعمود الدين ، وتبعث على التقوى والصلاح ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) ومنه موضوع الرباط لما فيه من الصبر على الإقامة في الثغور ورصد العدو وحركته ومكره ، فينام الإنسان عادة وقت السحر ، ولكن المرابط يكون أكثر يقظة وحذراً حينئذ.
ولا يرقى المسلمون الى هذه المرتبة من اليقظة والحيطة لولا فضل الله بنزول آية البحث .
ليكون نزولها وما يترشح عنه من يقظة ورابطة المسلمين امتناع المشركين عن غزو ثغورهم ، وعن سلب سرح المدينة ، وعندما احتج الملائكة على صيرورة آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، لأن الجبابرة يهجمون على أولياء الله في الأزمنة السابقة ، ويمنعون من اشاعة سنن التقوى ، ولأن مشركي قريش يهجمون في معركة بدر وأحد والخندق ويتوالى غزوهم على المسلمين فأخبر الله الملائكة بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، ومن علمه تعالى تفضله بنزول آية الرباط هذه لتكون زاجراً يومياً متجدداً للذين كفروا لمنعهم من الغزو والهجوم ، ودعوة للمسلمين للصبر في مواضعهم وانتفاء موضوع الثأر والإنتقام ، مع توالي آيات الدعوة الى الهدى والإيمان قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ).
ويلزم المصابرة ورصد العدو في طول مدة المكوث في الثغور بحذر وحيطة ، والمرابطة بالأبدان والخيول فيها ، ليكون المسلمون والمسلمات وأهل الكتاب في المدينة في مأمن وسلام .
ولا يتعارض إجتماع مضامين الآية في الموضوع المتحد مع التفصيل وكون كل واحد منها في موضوع مستقل ، فقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] نوع إكرام للمسلمين وباعث على الثبات في منازل الهدى والإيمان ، وقوله تعالى [اصْبِرُوا] حث للمسلمين على الصبر في أمور الدين والدنيا.
(عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى امرأة تبكي على صبي لها فقال لها : اتقي الله واصبري . فقالت : وما تبالي أنت مصيبتي؟ فلما ذهب قيل لها : إنه رسول الله ، فأخذها مثل الموت ، فأتت بابه فلم تجد عليه بوابين .
فقالت : لم أعرفك يا رسول الله! .
فقال : إنما الصبر عند أوّل صدمة) ( ).
ويدل على تعدد مواضيع آية البحث خطاب العموم في الآية الشامل للمسلمين والمسلمات ، وهل فيه دعوة للمنافقين والمنافقات للتوبة والإنابة ، الجواب نعم ، لأن الصبر واقية من النفاق والإقامة على إخفاء الكفر ، وحال الجزع والخوف من جيوش الذين كفروا أو الميل إليهم في السر وإفشاء أخبار وحال المسلمين والثغرات لهم، ليبين الجمع بين نداء الإيمان العام والأمر بالصبر عدة قوانين منها :
الأول : قانون الصبر واقية من النفاق .
الثاني : قانون الصبر علاج للنفاق .
الثالث : قانون الصبر كاشف للمنافقين والمنافقات .
الرابع : قانون الصبر حرز من ضرر المنافقين .
الخامس : قانون الصبر سلاح المؤمنين في دفع شرور المنافقين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ) .
ومن معاني الجهاد في الآية الصبر ولبيان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل منافقاً .
ومن فضل الله أن المنافقين ليسوا أمة أو طائفة مجتمعة ، وهم غير قادرين على الإجتماع لأن النفاق يتقوم باخفاء الكفر والإمتناع عن إظهاره لما فيه من الخزي ، ليكون هذا المعنى مقدمة ومناسبة لتوبة المنافقين ، ويمكن انشاء قوانين في المقام وهي :
الأول : قانون كل آية قرآنية دعوة للتنزه عن النفاق .
الثاني : قانون كل آية قرآنية واقية من النفاق .
الثالث : قانون كل آية من القرآن دعوة للتوبة من النفاق .
الرابع : قانون كل آية مدرسة في التقوى ، وبرزخ دون النفاق ، ليكون من معاني المخرج في قوله تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ] ( ) السلامة من درن النفاق , والتوقي المتجدد منه .
الخامس : قانون نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] حرب على النفاق .
السادس : قانون شمول المنافقين والمنافقات بنداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] دعوة لهم للصلاح ، فقد كان المنافقون يقفون في صفوف الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويخرج عدد منهم في الدفاع تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من معاني الأخوة التي وردت في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
وكل قانون من القوانين التي تقدمت والتي ستأتي في ثنايا هذا السفر يصلح أن يكون مبحثا مستقلا , ورسالة دكتوراه .
ولقد جاءت آية البحث بأربعة أوامر يجمع بين كل واحد والآخر منها حرف العطف الواو لإفادة الجمع وليس الترتيب ، فقد يحتاج المسلم المرابطة ويكون الصبر صبغة ووعاء لها وهي :
الأول : اصبروا .
الثاني : صابروا .
الثالث : رابطوا .
الرابع : اتقوا الله .
والتقوى سور جامع يتغشى المسلمين في كل حال بلزوم التقيد بسنن الخضوع والخشوع لله ، والخشية منه , وجاء القرآن بالأمر بالتقوى على نحو جلي وبصيغ البيان الموضوعي والتأكيد الحكمي ، قال سبحانه [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
وتكرر الأمر [اتَّقُوا اللَّهَ] في الآية أعلاه مرتين للتأكيد ، ولبيان حاجة الإنسان للتقوى في أمور الدنيا ، وأهوال الآخرة .
ترى لماذا جعلت آية البحث الأمر بالتقوى في آخر الأوامر الأربعة .
الجواب لبيان الحاجة للتقوى والخشية من الله بخصوص مضامين آية البحث وأحوال المسلمين المختلفة .
ومن خصائص الصبر أنه مفتاح للفرج ، وكاشف للكرب ، وهو بالنسبة للمؤمنين سلاح النصر.
وعن عن خباب قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع تحت شجرة ، واضع يده تحت رأسه ، فقلت : يا رسول الله ، ألا تدعو الله على هؤلاء القوم الذين قد خشينا أن يردوننا عن ديننا ، فصرف عني وجهه ثلاث مرات ، كل ذلك أقول له فيصرف وجهه عني ، فجلس في الثالثة فقال : أيها الناس ، اتقوا الله واصبروا ، فوالله إن كان الرجل من المؤمنين قبلكم ليوضع المنشار على رأسه فيشق باثنتين وما يرتد عن دينه ، اتقوا الله ، فإن الله فاتح لكم وصانع( ).
ويمكن إنشاء قانون من جهات :
الأولى : قانون كل كلمة من القرآن تندب إلى الفضيلة .
الثانية : قانون كل كلمة من القرآن سفينة نجاة ، ومن العروة الوثقى ، قال تعالى[وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ]( ).
الثالثة : قانون دعوة الآية القرآنية لأداء الواجبات وإجتناب المعاصي والمحرمات .
الرابعة : قانون الآية القرآنية مدد وعون للمسلمين لصرف أذى وشرور الذين كفروا .
ويدعو قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ) إلى المسارعة الخاصة والعامة في سنن الطاعة ، وفي الإمتثال للأوامر الإلهية الواردة في آية البحث ، ويدل قوله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( )على الترغيب بها ، والتفاضل بين المسلمين في الإمتثال لها .
وهل الصبر والمصابرة والمرابطة من الجهاد وجهاد النفس ، الجواب نعم ، قال تعالى [لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا] ( ) .
ويقال : وقى الشئ وقياً ووقاية ، ووقاية أي حفظه من الأذى وصانه من الضرر .
وتقوى الله طاعته ، وتفضل الله وجعل هذه الطاعة حرزاً من العذاب لتكون كل كلمة من آية البحث صراطاً مستقيماً وواقية من عذاب النار ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
ويكون تقدير الآية بلحاظ موضوعية التقوى على جهات :
الأولى :يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله .
وبين دخول الإسلام والتقوى عموم وخصوص مطلق ، فالتقوى أخص ، فحالما يدخل الإنسان الإسلام يأتيه الأمر بالتقوى والخشية من الله عز وجل ، لتكون التقوى مصاحبة له في ليله ونهاره ، وفي ميدان العمل والسوق والبيت .
ويصدح الأذان في خمس مرات في اليوم يدعوه للتقوى بأداء الصلاة ، لتكون مقدمة ونوع طريق لإصلاح النفس وتهذيب اللسان ، وهي وسيلة مباركة لغفران الذنوب .
وهل الدعوة الى الصلاة عند سماع النداء في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]( )، خاص بيوم الجمعة ، أم ورد ذكر نداء وخطبة يوم الجمعة من باب المثال والفرد الأهم , والمراد المعنى الأعم ، الجواب هو الثاني ، فكل أذان هو حث للمسلمين للمبادرة الى أداء الصلاة في وقتها بخصوص ذات الفرض الذي جاء الأذان مقدمة له , وغيره من الفرائض.
وعن عامر بن سعيد قال : سمعت سعداً وناساً من الصحابة يقولون : كان رجلان أخوان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان أحدهما أفضل من الآخر .
فتوفي الذي هو أفضلهما ، ثم عمر الآخر بعده أربعين ليلة ، ثم توفي فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضيلة الأول .
فقال : ألم يكن الآخر يصلي.
قالوا : بلى ، وكان لا بأس به .
قال : فما يدريكم ما بلغت به صلاته؟ إنما مثل الصلاة كمثل نهر جار بباب رجل غمرٌ ، عذبٌ يقتحم فيه كل يوم خمس مرات ، فماذا ترون يبقى من دونه؟ لا تدرون ماذا بلغت به صلاته) ( ).
الثانية : يا أيها الذين آمنوا اصبروا واتقوا الله ، لبيان قانون وهو الملازمة بين الصبر والخشية من الله .
وذات الصبر في طاعة الله تقوى وخشية منه سبحانه .
ومن خصائص بعثة الأنبياء أنها مدرسة في الصبر والصلاح , ويتقوم الصبر بالتقوى والخشية من الله ، والصبر فرع التقوى وركنها ، ولا يقدر الصابر على الإستغناء عن التقوى ، وكذا لا يقدر المتقي الإستغناء عن الصبر .
وكل من الصبر والتقوى مدد للآخر وعون على الإمتثال فيه من غير أن يلزم الدور بينهما للتباين الجهتي ، وللتداخل بينهما ، وكثرة وجوه وأفراد ومصاديق كل منهما.
ويمكن القول بمسألتين :
الأولى : من يتق الله يصبر.
الثانية : من يصبر بقصد القربة يتقي الله.
ترى ما هي النسبة بين التقوى والصبر بالنسبة للمؤمن ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، قال تعالى [وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ]( ).
ولا يعلم ما محى الله عز وجل من أفراد الغزو والقتل وسفك الدماء بالأمر من الله بالصبر وما دفعه الله بالأمر منه تعالى بالتقوى إلا الله عز وجل ، وكذا ما تفضل بمحوه ومنعه في اجتماعهما , قال تعالى [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا اصبروا في تقوى الله إذ تستلزم التقوى وطاعة الله الصبر ، ومنه تلقي تهديد المشركين بتقوى الله وأداء الفرائض ، ليكون هذا التلقي دعوة للناس للإسلام وبعثاً للفرقة والخلاف بين المشركين ، وتخلي الأتباع عن الرؤساء منهم .
وهو من إعجاز النبوة والتنزيل بأن يأمر الله عز وجل المسلمين بالصبر المقرون بالتقوى , فيصاب الذين كفروا بالإرباك ، ويظهر الوهن والوجل عليهم ، وهو من مصاديق المدد للمسلمين في قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
بلحاظ أن الصبر طارد للوهن والضعف ، وأن المسلمين بلغوا درجة العلو والرجحان على الذين كفروا بالصبر والتقوى ، وتبين آية البحث أن كلاً من الصبر والتقوى سلاح في مواجهة جيش الذين كفروا ، وصدهم عن الغزو .
ومن معاني الجمع بين الصبر والتقوى نشر شآبيب العفو .
وقيل (” اصْبِرُوا ورابِطوا ” انتقالٌ من الأدنى إلى الأعلى فالصَّبْرُ دُونَ المُصابرة والمُصابرةُ دونَ المُرابطةِ) ( ).
والمراد عطف الخاص على العام ، ولأن الصبر مدد وعون لذات المرابطين ولعموم المسلمين ، فيرابط جماعة منهم بصبر في الثغور ، ويكون عامة المسلمين والمسلمات صابرين في طاعة الله عز وجل مداومين على أداء الصلاة في أوقاتها , وتصبر المرأة على فراق زوجها في طاعة الله , وتتولى بصبر وتقوى إدارة شؤون المنزل وحفظ الأمانة .
وهو من أسرار توجه الخطاب في آية البحث لكل المسلمين والمسلمات بالمرابطة وتقدير الآية ( يا أيها الذين آمنوا رابطوا ) إن أداء الفرائض والعبادات مناسبة ووسيلة للوقاية من شرور العدو وهجومه ، وهو الذي تجلى في تتابع الوقائع بعد الهجرة النبوية ، وصيرورة المشركين عاجزين عن الغزو والهجوم , وعدم قيام المسلمين في تلك الحال بالغزو لتحليهم بالصبر الذي أمرهم الله به.
وذات الأمر بالتقوى كاشف عن الإيمان وفاضح للنفاق والمنافقين ، وفي ذم المنافق قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ] ( ) وهو من إعجاز القرآن بأن يفصل ويميز بين المؤمن والمنافق والكافر بذات الأوامر الإلهية ، ومنها الأمر بتقوى الله لوجوب بروز مصاديقها في كل حال ، وتجليها على اللسان ، وفي عالم الأفعال ، فلابد من التخلي عن الآثام ، لذا فان الأمر من الله بالتقوى تنزيه من النفاق .
ومن خصائص الجمع بين الصبر والتقوى في آية البحث بتقدير (اصبروا واتقوا الله) وجوه :
الأول : صيرورة التقوى سوراً جامعاً لأفراد الصبر .
الثاني : عقد نية الصبر قربة إلى الله وفي طاعته سواء كان الصبر في الواجبات أو المستحبات رجاء الثواب ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ) لبيان أن العطف في الآية أعلاه في [َاصْبِرُوا] من عطف العام على الخاص ، ومن طاعة الله عز وجل ورسوله تعاهد الرباط .
ولا يعني هذا التعاهد قيام كل مسلم بالمرابطة ، فصحيح أن آية البحث تخاطب المسلمين والمسلمات جميعاً بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إلا أن لغة العموم في الآية على جهات :
الأولى : ادراك المسلمين والمسلمات لوجوب الرباط .
الثانية : حث المسلمين على التفقه في الدين ، ومعرفة منافع الرباط ، وأضرار تركه ، وهو من مصاديق الطرفين الخاص والعام اللذين يذكرهما قوله تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
الثالثة : دعوة المسلمين والمسلمين للتآزر والتعاون في مسألة الرباط ، فمنهم من يرابط بنفسه ، ومنهم من يمده بالفرس والسلاح ، ومنهم من يحث على الرباط والإنفاق فيه ، ويدعو للصابر المرابط , ومنهم من يحفظ المرابط في غيبته في بيته وعياله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الرابعة : عصمة المسلمين من الخوف والخصومة في الرباط , فصحيح أنهم مذاهب شتى في بعض العبادات والمستحبات إلا أن آية البحث تأمرهم جميعاً بتعاهد الرباط ، وأن قلت قد يكون خلاف وخصومة بين الحاكم وبين بعض القبائل .
فهل يكون هذا الخلاف مانعاً من مشاركة أفراد القبيلة أو أهل مذهب مخصوص أو أتباع صاحب حق بالأمرة ، الجواب لا ، وهذا النفي من أسرار مجئ الخطاب التشريفي العام والأمر للمسلمين والمسلمات في آية البحث بتقدير [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا] ( ) وان اختلفتم وتنازعتم.
الثالث : كل من الصبر والتقوى ملاك للمرابطة ومنهاج لإستدامتها وجعلها أمراً نافعاً بما يمنع مشركي قريش ونحوهم من الإغارة على المدينة .
ومن معاني الجمع بين المرابطة والتقوى أمور :
الأول : التهيئ والتمرين للمرابطة .
الثاني : اختيار المؤمنين المؤهلين للرباط والدفاع كل بحسبه وأهليته واختصاصه كالرماة والخيالة ونحوهم .
الثالث : عدم التعدي في المرابطة ، وإذا وجد المرابطون ثغرة عند العدو فهل تدعو آية البحث للهجوم والإنقضاض عليه ، الجواب لا ، فمن التقوى الثبات في الرباط الذي يأمر به الله ورسوله , والمناجاة بالصبر وعدم الغزو مع تهيئ مقدماته ، وهذه المناجاة من مصاديق قوله تعالى[وَصَابِرُوا] ليكون من معاني آية البحث جهات :
الأولى : واصبروا على المصابرة .
الثانية : صابروا على الصبر .
الثالثة : اصبروا في المرابطة.
الرابعة : اصبروا على أذى وتحشيد العدو بالمرابطة , فان هذا الصبر أمر وجودي , وهو معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة للناس لدخول الإسلام ، وفيه حجة على الذين يرابط المسلمون لكفاية شرهم وأذاهم ، ومنع هجومهم.
الرابع : تهيئة مقدمات وأسباب الرباط ، قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ) .
وهل ذات الرباط يرهب العدو ، الجواب نعم ، لبيان قانون وهو أن إرهابهم أعم من أن يختص بفرد معين كما أن الرباط من القوة التي تذكرها الآية أعلاه ، وكذا رباط الخيل .
الخامس : التناوب في الرباط عدداً أو طائفة بأن يبقوا أياماً معدودة وهو من أسرار توجيه النداء في آية البحث لكل المسلمين ،وإذا قيل كيف يشمل نداء الإيمان في الآية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ( )، النساء إذ كان القتال ساقطاً عنهن ، والرباط فرع القتال والجهاد لأن المرابطين عرضة للدفاع وصد العدو ، وإذا علم المشركون أن النساء هنّ المرابطات فانه يطمع بالثغور والهجوم عليها .
والجواب ليس على النساء رباط ولكنهن يقمن بحث المؤمنين على الرباط وإعانتهم وحفظهم في غيبتهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ) بلحاظ أن المراد من مصاديق الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة ، وورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال (في الدنيا حسنة امرأة صالحة وفي الآخرة الحسنة الحور العين) ( ).
وعن عبد الرحمن بن أبزى قال : قال داود عليه السلام لسليمان : كن لليتيم كالأب الرحيم ، وأعلم أنك كما تزرع تحصد ، واعلم أن خطيئة (أمام) القوم كالمسيء عند رأس الميت ، واعلم أن المرأة الصالحة لأهلها كالملك المتوّج المخوّص بالذهب ، واعلم أن المرأة السوء لأهلها كالشيخ الضعيف على ظهره الحمل الثقيل ، وما أقبح الفقر بعد الغنى ، وأقبح من ذلك الضلالة بعد الهدى ، وإن وعدت صاحبك فانجز ما وعدته ، فإنك إن لا تفعل تورث بينك وبينه عداوة ، ونعوذ بالله من صاحب إذا ذكرت لم يعنك ، وإذا نسيت لم يذكرك ( ).
ومن إعجاز آية البحث أن كل كلمة منها حسنة وباب للجهاد والثواب لذا تفضل الله بالأمر بها ، وهي :
الأول : الإيمان وتلقي نداء الإيمان حسنة ، وعن ابن المبارك قال : قال داود لابنه سليمان عليه السلام : يا بني إنما تستدل على تقوى الرجل بثلاثة أشياء : لحسن توكله على الله فيما نابه ، ولحسن رضاه فيما أتاه ، ولحسن زهده فيما فاته( ).
الثاني : الصبر حسنة ، وهل تتعلق الحسنة بذات الصبر كسور الموجبة الكلية أم أن كل فرد منه حسنة ، الجواب هو الثاني ، وفيه ترغيب للمسلمين بالصبر وتذوق حلاوته بصيغة الإيمان .
ومن خصائص الحياة الدنيا ووجوه الإبتلاء فيها حاجة الإنسان مطلقاً للصبر في كل حال من أحوال السراء والضراء ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : عرض عليَّ أول ثلاثة يدخلون الجنة ، وأول ثلاثة يدخلون النار . فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة فالشهيد ، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده ، وعفيف متعفف ذو عيال .
وأما أول ثلاثة يدخلون النار فأمير مسلط ، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله في ماله ، وفقير فخور( ).
الثالث : ورد في آية البحث قوله تعالى [وَصَابِرُوا] لبيان أن الحث على الصبر حسنة ، والأمر بالمعروف حسنة والنهي عن المنكر حسنة .
والصبر من الخير الذي تذكره الآية الكريمة[ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ] ( ) ويمكن تسمية الدنيا (دار المصابرة ) أي يصبّر المسلمون والناس بعضهم بعضاَ بقصد الخير ورجاء الفضل من الله , وفيه تخفيف للأحزان عند المصيبة وباعث على الأمل لتنجز الرغائب .
والمصابرة بلغة لتحقيق الغايات ، فخص الله الذين آمنوا بالآية لتكون المصابرة باباً للثواب ، وسبيلاً للصلاح ، ودعوة للناس لتسخير ملكة الصبر والتعاون فيها في رضوان الله ورجاء فضله وإحسانه .
ومن معاني وتأويل قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بلحاظ آية البحث وجوه :
الأول : المسلمون مؤمنون .
الثاني : إكرام الله عز وجل للمسلمين .
الثالث : المسلمون أمة صابرة .
الرابع : يتعاون المسلمون في الصبر ويعضد بعضهم بعضاً بجعلهم أهلاً للصبر في طاعة الله وإقامة الشعائر ، وأداء المناسك والتحلي برداء الهدى والتقوى .
الخامس : قيام المسلمين بالرباط وتعاهد الثغور ، ليكونوا في أمن عند أدائهم الصلاة ، وفي مجالس الذكر وفي البيوت ، وعن جابر قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس إن لله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر ، فارتعوا في رياض الجنة . قالوا : وأين رياض الجنة؟ قال : مجالس الذكر ، فاغدوا وروحوا في ذكر الله وذكروه أنفسكم ، من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده ، فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه( ).
السادس : تحلي المسلمين بالتقوى ، وإتخاذهم لها منهاجاً وسنة شخصية وعامة لقوله تعالى في آية البحث [وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ).
السابع : البشارة للمسلمين بالفلاح والعز والتوفيق ، ومع تعدد الأوامر في آية البحث وتوجهها من الله عز وجل لعامة المسلمين فانها أختتمت برجاء الفلاح ، فلم تقل الآية (واتقوا الله تفلحون )إنما قالت [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( )بلسان الوعد والرجاء .
والفلاح : الفوز والظفر والنَجاة، والبَقاء، والسحور. يقول الرجل لامرأته: اسْتَفْلِحي بأمرِك، أي فوزي بأمرك. وقول الشاعر:
ولكن ليس للدنيا فَلاحُ
أي بقاء. وفي الحديث: ” حتَّى خِفْنا أن يَفوتَنا الفَلاحُ ” ، يعني السحور. ويقال: إنَّما سُمِّيَ بذلك لأن به بقاء الصوم( ).
وحي على الفلاح أي هَلُمّ الى الخير وتعاهده والبقاء عليه.
وهل ينعم الله عز وجل على المسلمين بغير الفلاح بخصوص العمل بمضامين آية البحث ، الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن ، ويمكن تقدير خاتمة الآية على وجوه يتجلى فيها فضل الله عز وجل ومنه تحقيق الأمن للمسلمين والنصر لهم ، والسلامة من غزو المشركين ، ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدم وقوع المسلمات وعوائل المسلمين في السبي مع أن المشركين كانوا أضعاف عدد المسلمين ، وكذا بالنسبة للخيل والأسلحة .
وكان المنافقون يرغبون في إنكسار ووهن المسلمين ، فأراد الله عز وجل نجاة المسلمات وأولاد المسلمين من السبي ، وهذه النجاة من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) بتقريب أن الله عز وجل هو الذي ينعم على المسلمين بالعز ودفع الضرر والشر عنهم ليشكروا الله عز وجل بالعمل بمضامين آية البحث وإجتناب التفريط بالقعود ، والإفراط بالغزو ، فلا قعود ولا غزو منزلة بين المنزلتين .
وذات الفلاح متعدد الوجوه والمواضيع فلا يختص بأمر دون آخر ، ولا موضوع أو حكم دون غيره ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : لعلكم تفلحون بفضل من الله .
الثاني : لعلكم تفلحون بالثبات على الإيمان وتعظيم الشعائر .
الثالث : لعلكم تفلحون بدخول أعدائكم في الإسلام .
الرابع : لعلكم تفلحون بالتقوى وما يترشح عنها من النعم .
الخامس : لعلكم تفلحون بالثواب العظيم ودخول الجنة .
السادس : لعلكم تفلحون بكف أيدي المشركين عنكم.
السابع : لعلكم تفلحون بالعفو والمغفرة .
الثامن : لعلكم تفلحون بالعمل بمضامين آية البحث مجتمعة ومتفرقة.
التاسع : لعلكم تفلحون بهداية الناس للإيمان .
العاشر : لعلكم تفلحون بجعل الصبر والمصابرة والمرابطة تركة لمن يعدكم من المؤمنين .
الحادي عشر : لعلكم تفلحون بقيام أبنائكم وورثتكم بتلاوة آية البحث والعمل بمضامينها القدسية .
وكل موضوع وفرد من الآية نوع مفاعلة ويستلزم الفعل والموضوع والمحمول ، فالإيمان إقرار وتسليم وسعي وعمل ، والصبر حبس النفس عند مداهمة أسباب النفرة أو الحزن أو مقدمات الشهوة والغضب والطمع أو هجوم العدو وإصراره على القتال ، ويدل قوله تعالى [اصْبِرُوا] على الصبر عن مقدمات القتال .
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان لا يقابل التهديد الذي يصدر من المشركين بمثله ، إنما كان يواجهه بالمداومة على الصلاة ، وتلاوة آيات القرآن والإحتجاج بالبرهان والإجابة عند السؤال بما يدل على نبوته ، وهو الذي يتجلى بآيات السؤال وكيف أن الله عز وجل هو الذي يرد على السائلين ، ويجيب على الأسئلة بما يكون وثيقة سماوية إلى يوم القيامة .
فمثلاً بدأت سورة الأنفال بلفظ [يَسْأَلُونَكَ] ( ) مع الجواب من عند الله على سؤالهم ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) ليأتي البيان والجواب مع الأمر المتعدد بتقوى الله وإصلاح ذات البين ، وطاعة الله وطاعة الرسول بصفة الإيمان .
وهل يتضمن ذات الجواب [قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ] الأمر , الجواب نعم ، لما فيه من حث للمسلمين على التقيد والتسليم بما جاء فيه ، ومنع الإفتراء والتعدي وإخفاء بعض الغنائم .
(عن معاذ بن جبل قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن ، فلما سرت أرسل في أثري فرددت فقال : أتدري لمَ بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئاً بغير إذني فإنه غلول { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة }( ) لهذا دعوتك ، فامضِ لذلك .
وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا غنم مغنماً بعث مناديه يقول : ألا لا يغلن رجل مخيطاً فما فوقه ، ألا لا أعرفن رجلاً يغل بعيراً يأتي به يوم القيامة حامله على عنقه له رغاء ز
ألا لا أعرفن رجلاً يغل فرساً يأتي به يوم القيامة حامله على عنقه له حمحمة ، ألا لا أعرفن رجلاً يغل شاة يأتي بها يوم القيامة حاملها على عنقه لها ثغاء يتتبع من ذلك ما شاء الله أن يتتبع .
ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول : اجتنبوا الغلول فإنه عار ، وشنار ، ونار) ( ).
ومع قلة كلمات آية البحث فانها جاءت باربعة أوامر ، كل واحد منها يحث على اجتناب الغزو ، ويبين عدم الحاجة اليه ، وأن النوبة لا تصل إليه ، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية أن كل كلمة من القرآن مدرسة في الإصلاح ، وباعث على الأخلاق الحميدة ، وتخاطب المسلمين خاصة والناس عامة للهداية لسبل الرشاد ، قال تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وتنمي آية البحث ملكة الصبر عند المسلمين والمسلمات في أمور الدين والدنيا ، ويأتيهم التهديد والوعيد المتكرر من كفار قريش والقبائل الموالية بأنهم يعدون العدة للهجوم على المدينة ، ولا يرضون إلا بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكانوا يبعثون الرسائل إلى المدينة ، وهي على وجوه :
الأول : رسائل التهديد إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن أبي بن كعب قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة ، وآوتهم الأنصار ، رمتهم العرب عن قوس واحدة ، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه ، فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟ فنزلت { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات . . . } ( ).
الثاني : رسائل ترغيب إلى المهاجرين بالعودة إلى مكة .
الثالث : الكتابة إلى الأنصار بالتخلي عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان الضرر الإقتصادي الذي لحقهم بكثرة المهاجرين في المدينة .
لتتضمن آية البحث دعوة الأنصار للصبر على حال الضيق في المعاش بسبب كثرة المهاجرين ، وان كان هذا الضيق شبهة بدوية وليس له مصداق في الواقع ، وعلى فرض وجوده فانه عرض سريع الزوال إذ أخذ المهاجرون بالعمل والكسب ، وخرجوا في سرايا الدفاع ، وكانوا يرضون بالقليل ، ومن خصائص الإيمان أنه مجلبة للرزق ، ولم يغادر بعضهم الدنيا حتى كان الذهب الذي عنده يحجب الرؤية بين شخصين ، ويكسر بالفؤوس .
وذكر عبد الله بن عتبة أن عثمان يوم قتل كان له عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القُرَى وحُنَيْن وغيرهما مائة ألف دينار، وخلف خَيْلاً كثيراً وإبلاً.
وفي أيام عثمان اقتنى جماعة من الصحابة الضِّيَاعَ والحور: منهم الزبير بن العوام، بنى داره بالبصرة، وهي الكوفة في هذا الوقت – وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة – نزلها التجار وأرباب الأموال وأصحاب الجهاز من البحريين وغيرهم، وابتنى أيضاً دوراًً بمصر والكوفة والإسكندرية، وما ذكرنا من دوره وضياعه فمعلوم غير مجهول إلى هذه الغاية.
وبلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخلف الزبير ألف فرس، وألف عبد وأمة، وخططاً بحيث ذكرنا من الأمصار.
وكذلك طلحة بن عبيد اللّه التيمي: ابتنى داره بالكوفة المشهورة به هذا الوقت، المعروفة بالكُنَاسة بدار الطلحيين، وكان غلته من العراق كل يوم ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك، وبناحية الشراة أكثر مما ذكرنا، وشيد داره بالمدينة وبناها بالآجرِّ والجِصِّ والساج.
وكذلك عبد الرحمن بن عوف الزهري: ابتنى داره ووسعها، وكان على مربطه مائة فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف شاة من الغنم، وبلغ بعد وفاته رُبُعُ ثمنِ مالِهِ أربعةً وثمانين ألفاً.
ثروة قوم من الصحابة وابتنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق، فرفع سمكها، ووسع فضاءها، وجعل أعلاها شُرُفَاتِ.
وقد ذكر سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت حين مات خلف الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس، غير ما خلف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار.
وابتنى المقداد داره بالمدينة في الموضع المعروف بالجرف على أميال من المدينة وجعل أعلاها شرفات، وجعلها مجصَّصة الظاهر والباطن.
ومات يعلى بن منية، وخلف خمسمائة ألف دينار، وديوناً على الناس، وعقارات، وغير ذلك من التركة ما قيمته ثلاثمائة ألف دينار( ).
وعن ابن عمر ان عمر أنفق في حجته ستة عشر دينارا فقال: يا عبد الله بن عمر أسرفنا في هذا المال( ).
الرابع : بعث الرسائل إلى يهود المدينة لإعانتهم في قتالهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوتهم لعدم إبرام عهود للصلح والموادعة معه، وعدم إعانته والمسلمين بالمال أو بالسلاح .
الخامس : الكتابة إلى رؤساء الأوس والخزرج ، وحثهم على إخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والمهاجرين من المدينة وتحريض رؤساء النفاق ضد النبوة والمهاجرين، ولهذه الرسائل موضوعية في ظلم وقول عبد الله بن أبي الذي ذكره الله في القرآن [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وعن زيد بن أرقم قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فأصاب الناس شدّة ، فقال عبدالله بن أبيّ لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ، وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبدالله بن أبيّ فسأله ، فاجتهد يمينه ما فعل ، فقالوا : كذب زيد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فوقع في نفسي مما قالوا شدة حتى أنزل الله تصديقي في[إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ]( )، فدعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليستغفر لهم ، فلووا رؤوسهم ، وهو قوله [خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ]( )، قال : كانوا رجالاً أجمل شيء( ).
السادس : تقديم قريش الأموال إلى القبائل التي حول مكة ، وكذا القريبة من المدينة في سكناها لمنع الهجرة إلى المدينة وليكونوا عيوناً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج في الكتائب ، ويبعث السرايا حول المدينة ، ليكون خروجهم دعوة الى الله ، وتعظيماً لشعائره وإقامة للصلاة في الترحال ، وتلاوة آيات القرآن .
ويمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تلك القبائل والقرى ، فلم يغزهم ، ولم يأخذ من أموالهم ، إنما كان يعقد معهم عقود موادعة وصلح.
وعقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع جهينة صلحاً , وكانت مساكنهم على ثلاث مراحل من المدينة ، وتقع بين الجادة العامة وبين المدينة وعن سعد بن أبي وقاص قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا: إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق حتى نأتيك وقومنا، فأوثق لهم، فأسلموا( ).
وهل هذه العقود دعوة لأبناء تلك القبائل لدخول الإسلام ، الجواب نعم ، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه يدعو الناس للإسلام حتى بالصلح والموادعة من غير أن يغزوهم ، أو يضع فيهم السيف ، فيخرج ومعه مائتان من أصحابه أو أكثر فيمر على القرية التي فيها عشر بيوت أو أقل أو أكثر ويعلم أنهم ليسوا مسلمين فلا يثيرهم أو يؤذيهم ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وهذا الخروج الآمن والخالي من القتال من الصبر ومن مصاديق قوله تعالى[اصْبِرُوا] وهل هو من الرباط أم أن القدر المتيقن منه اللبث والإقامة في الثغور ، المختار هو الأول خاصة وأن المدينة هي المصر الوحيد للمسلمين فهي الثغر من الجهات الأربعة ، وليس في تأريخ الإسلام ثغر من جهاته الأربعة إلا المدينة المنورة في سني النبوة الأولى إذ تقوم سرايا الصحابة بالطواف حول المدينة وتأمين الطرق إليها ، وتقصي أخبار كفار قريش ، وبعث رسالة طمأنينة للناس جميعاً ، وفيه زجر للمشركين عن الغزو والهجوم على المدينة ليكون الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الرباط على أقسام منها :
الأول : الرباط في اقامة الصلاة وانتظار أوقاتها .
الثاني : الرباط الثابت بالخيل في الثغور ، وأخرج أبو نعيم عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا . . } على الصلوات الخمس ، وصابروا على قتال عدوّكم بالسيف، ورابطوا في سبيل الله لعلكم تفلحون( ).
والرباط لغة هو الشئ الذي يربط به وجمعه رُبُط( )، أما في الإصطلاح الفقهي فهو شخوص المكلف إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة معينة .
وهل سكان الثغور الذي يكسبون ويزرعون ويعيشون باهليهم في الثغور من المرابطين الجواب لا، وان كانوا من الحماة.
الثالث : الرباط المتحرك حول المدينة ، إذ يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في السرايا ،ليكون النبي محمد هو الإمام في تلقي أفراد الأمر والخطاب في آية البحث ، وفيها المرابطة ، فيكون صلى الله عليه وآله وسلم هو أول المرابطين في الإسلام إذ كان يخرج في الكتائب وأحياناً كان يخرج بمفرده عندما يسمع بخطر وعدو يداهم أطراف المدينة .
وعن مقاتل بن حيَّان : وَرَابِطُوا ،مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَدُوَّ( ).
الرابع : الرباط داخل المدينة ، والإحتراز من العدو وكان بعض الصحابة يسهرون الليل حول بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحمايته والذب عنه عندما تصلهم أخبار عن احتمال مداهمة العدو للمدينة.
الخامس : عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ : وَرَابِطُوا ، قَالَ: رَابِطُوا عَلَى دِينِكُمْ”. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، مِثْلُهُ ( ).
السادس : المرابطة في الصلاة بلحاظ أدائها واتيانها في أوقاتها ، وبلحاظ أنها مناسبة لإجتماع المسلمين وتبادلهم الحديث عن أحوال العدو ومكره وخططه ، واستعدادهم للدفاع عن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل وعن أنفسهم وأهليهم ، وعامة أهل المدينة .
لقد كان الأوس والخزرج واليهود في المدينة يتقاتلون فيما بينهم بين الفينة والأخرى ، وأرادوا أن ينصبوا عبد الله بن أبي بن أبي سلول عليهم ملكاً لمنع النزاع والقتال بينهم ، ولكن هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى المدينة حالت دونه ، علماً بأن هذا التنصيب لا يمنع الخصومة والخلاف بينهم بل قد يزيد من حدته ، فكانت هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة حفظاً وواقية لأهلها إلى يوم القيامة .
وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن صارت المدينة روضة حصينة .
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : أقبل عليَّ أبو هريرة يوما فقال: أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } ؟ قلت: لا. قال: أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد، يصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها، فعليهم أنزلت{اصْبِرُوا} أي: على الصلوات الخمس { وَصَابِرُوا } (على) أنفسكم وهواكم { وَرَابِطُوا } في مساجدكم { وَاتَّقُوا اللَّهَ } فيما عليكم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }( ).
الحمد لله كما ينبغي لعظيم سلطانه وسعة رحمته ، وتوالي نعمه علينا وعلى الناس جميعاً ، قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ).
الحمد لله الذي يهب الكثير في كل طرفة عين من غير أن تنقص خزائنه ، بل هي في ازدياد ، قال تعالى [وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( ).
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار الحمد له سبحانه ، ووعاء مكانياً وزمانياً لثناء العباد عليه ، وتفضل وجعلنا من الحامدين المستغفرين .
الحمد لله حمداً خالداً دائماً بمثل ما حمده به جميع خلقه ، والحمد لله بما يليق بجلال وجهه وكمال كبريائه ، وبديع صنعه .
الحمد لله بعدد مداد كلماته ، وما خطه القلم .
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الحمد لله الذي جعل القرآن أنيس النفوس وربيع القلوب وروضة الأمل في الدنيا والآخرة ، والعروة الوثقى والحبل المتين ، والصلة بين العبد وبين الله عز وجل ليكون مرآة لقوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ).
وهو من مصاديق سلامة القرآن من التحريف والتبديل ، فهو كلام الله في ملكه وسلطانه ، فأبى سبحانه أن تصل يد التحريف إليه ، ليكون سفير السماء في الأرض , والملجأ عند المهمات .
ومن خصائص القرآن إمكان الصدور عنه في أي موضوع وشأن لتجد السبيل القويم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) الذي يتلوه كل مسلم ومسلمة على نحو الوجوب العيني عدة مرات في الصلاة اليومية ، لتكون هذه الهداية على أقسام منها :
الأول : الهداية الحاضرة .
الثاني : الهداية الشرعية في أمور الحلال والحرام ، والواجبات والمحرمات.
الثالث : الهداية في المعاملات .
الرابع : الهداية في الصلات الإجتماعية .
الخامس : الهداية في إصلاح النفس .
السادس : الهداية في أمور الآخرة ، والإستعداد ليوم القيامة .
السابع : الهداية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإكتناز الحسنات، وفي التنزيل [وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ).
الآية الثانية : تضمن هذا الجزء المبارك قراءة في قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) .
وهذه القراءة وفق منهجية هذه الأجزاء في قانون (لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً ) إذ أن استحواذ الذين كفروا على ولاية المسجد الحرام سبب للضلالة والفتنة ، وكانت هذه الولاية وجوار المسجد الحرام سبباً للشأن العظيم لقريش بين القبائل العربية ، وعند بلاط الروم وفارس ، وكان التجار في الدولتين يكرمون رجال قريش ويبيعونهم بالسلف والآجل.
وتقطع قوافل قريش الصحراء من الشام إلى مكة بأمان من غارات الأعراب ورجال القبائل الذين يغزو بعضهم بعضاً طمعاً بغنيمات أو أثاث بالية مع سبي النساء والصبيان بقسوة قلوب ، ومع هذا فأنهم يتركون تلك القوافل تمر على ديارهم وهي محملة بالذهب والفضة في طريق رجوعها إلى مكة ، وعليها الأدام والجلود ونحوها وهي خارجة من مكة .
فمثلاً كان عدد الإبل في قافلة أبي سفيان التي اتخذها كفار قريش سبباً لمعركة أحد ألف بعير محملة بالتجارات وقبلها مرت قريباً من المدينة المنورة قافلة لقريش تتألف من ألف وخمسمائة بعير وعليها أمية بن خلف الجمحي ومعه مائة رجل من قريش( ) ، وهذه القوافل من مصاديق قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ).
ليكون من معاني الجمع بين الآية أعلاه وبين قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ]( )، أن قريشاً اتخذوا ولايتهم للمسجد الحرام ، آلة ووسيلة لتجارتهم مع الدول وسلامة قوافلهم، وسّخروا في ذات الوقت هذه الولاية وما يترشح عنها من الجاه والنفع والأموال لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وهم أولياء المسجد بأمر من عند الله عز وجل .
فاستحق العذاب العاجل من الله عز وجل لصرفهم عن الظلم والتعدي، وانقاذ المسلمين وعامة الناس من الحروب والمعارك ، فمن إعجاز القرآن الغيري نزول الآية منه لتدفع الإقتتال والحروب ، وتصرف الناس عن الغزو، وتأتي آية أخرى لتدعو الناس إلى الإسلام ، وكل من الآيتين تعملان مجتمعتين ومتفرقتين على بعث التفرة في نفوس الناس من الكفر ومفاهيم الضلالة .
ولم يرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلاحاً ولم يشهر سيفاً ولم يحرض بعض أصحابه للرد باليد والسلاح على الذين كفروا ، إنما كان يدعوهم إلى الصبر والتحمل ، ويبشرهم بعظيم الثواب على الصبر ، ولم يتوعد الذين كفروا بالهجوم عليهم وغزوهم وعندما عزموا على قتله وأحكموا خطط اشتراك عشرة من شبابهم بضربه بسيوفهم في ليلة المبيت خرج من ساعته مهاجراً إلى المدينة فقاموا بتجهيز الجيوش لمحاربته مع أنه لم يظهر أي أمارة على الرغبة في قتالهم .
ولم تنزل آيات الدفاع والقتال إلا بعد أن هجمت قريش بالجيوش وعلى نحو متكرر في معركة بدر وأحد والخندق ، وفيه شاهد بأن النبي محمداً لم يأت بالغزو والهجوم ، إنما كان يواجه غزو قريش له بالصبر بحث أصحابه على الصبر والتحمل ، والإستعانة بالصلاة والذكر ، والتفقه في الدين ، ليكون من معاني المصابرة في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا] ( ) تحمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأذى المشركين بصبر ومصابرة أي أنه بصبره على أذاهم يدعو المسلمين والمسلمات إلى التحلي بالصبر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( )، وهو من الإعجاز في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكيف أنها مرآة وترجمة لآيات القرآن ، ليكون تحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأذى المشركين بلحاظ آية الرباط أعلاه وجوه :
الأول : إنه من الصبر ، قال تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ] ( ) .
الثاني : إنه من المصابرة ، والتي هي نوع مفاعلة .
الثالث : في صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم نوع مرابطة في منازل الهدى ، ودفع لشرور أذى المشركين وعامة الناس (عن أسامة بن زيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله
{ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً }( ))( ).
الرابع : صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أذى المشركين من التقوى ، وهذا الصبر منهاج الأنبياء وليس من نبي إلا ولاقى من قومه الأذى وقابل هذا الأذى بالصبر والإجتهاد بطاعة الله، وهل أذى المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة في قوته وشدته أو خفته أم أنه على مراتب متفاوتة في شدته ، والصحيح هو الثاني ، وكان هذا الأذى يزداد ويشتد بلحاظ أمور :
الأول : تقادم الأيام والسنين .
الثاني : توالي نزول آيات القرآن .
الثالث : دخول أفواج من الناس الإسلام .
الرابع : ثبوت حكم الإسلام في المدينة ، ونزول سنن وأحكام الحلال والحرام .
الخامس : إخبار آيات القرآن عن عدم أهلية الذين كفروا لتولية أمور البيت الحرام .
السادس : إزدياد إيمان المسلمين ، وعجز الذين كفروا عن إرتداد أفراد أو طائفة منهم ، قال تعالى[وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ] ( ) .
السابع : عدم انتفاع الذين كفروا من هجومهم على المسلمين وغزوهم المدينة .
وقال تعالى [لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( ).
وتدل الآية أعلاه على دعوة المسلمين للرأفة وحسن المعاشرة مع الذين لم يقاتلوهم سواء من أهل الكتاب أو من الذين كفروا لبيان أن الإسلام دين الرحمة وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت بالسيف والقتل .
فان قلت هل آية السيف ناسخة للآية أعلاه ، الجواب لا ، ففيها قانون مستديم إلى يوم القيامة بعد اعتزال الناس ممن لم يقاتل المسلمين ، وفي مخالطة المسلمين لهم ، وحسن معاشرتهم دعوة للهداية والإيمان ، ومناسبة لبيان معجزات النبي.
وقد كتبت أكثر من نصف هذا الجزء في الديار المقدسة في مكة والمدينة عند أداء مناسك حج بيت الله الحرام وزيادة قبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ضلال البركة والفئ سنة 1439 هجرية .
مع إنتزاع وقت لاستقراء المسائل واستنباط المواعظ والحكم من ذات الآية القرآنية ، ومصاديق إجتناب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغزو والهجوم .
وورد عن الإمام علي عليه السلام انه قال : عند الصباح يحمد القوم السرى ) أي تتغشاهم الغبطة لطيهم المسافات في الليل ، وعدم بقائهم نائمين في ذات الموضع السابق .
وكان موعد مغادرة طائرة رحلتنا من النجف الأشرف إلى المدينة في الساعة الثانية والنصف صباحاً فوصلنا إلى مطار النجف قبل الساعة الحادية عشرة ليلاً ، وكان بعض أعضاء الوفد المرافقين والحجاج يسألون بخصوص صلاة الصبح هل تصلى في الطائرة عن جلوس والجواب نعم ، مع عدم رجحان أدائها في أرض مطار الوصول في وقتها ، قال تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ).
وكان أوان أذان الصبح في الساعة الرابعة صباحاً ، وأذن الأذان ونحن لا نزال في مطار النجف الأشرف وكانت الصلاة فاصلة مباركة في كتابة هذا الجزء ، قال تعالى [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] ( ) .
وكنت في سنوات سابقة أحرص على الحفاظ على الأوراق والدفاتر التي أكتبها ، واقوم بالإستنساخ إلى أن أرجع إلى مكتبي فنقوم بتدوينها على الحاسبة ، وقد أنعم الله عز وجل علينا في هذا الزمان بأن أبعثها على وسائط الإتصال السريع لتحفظ وتدون وتوثق في ذات اليوم لأقوم من بعد بتصحيحها وتدقيقها موضوعاً ولغة على الورق ثم في الآلة الحاسبة بمفردي بفضل من الله عز وجل ، كما في جميع أجزاء التفسير السابقة ، وعددها مائة وسبعون جزء في آية علمية لم يشهد لها التأريخ ، وتأسيس لعلوم وقوانين قرآنية تفتح آفاق العلم لأهل الدراية والتحقيق ، وتدعو العلماء إلى عدم الوقوف عند المؤلف في علوم القرآن والذي هو إنجاز عظيم ولكنه ولا يتناسب مع النهل الممكن من خزائن القرآن للعلماء وأهل العلم من السعة والمندوحة والشأن والجاه ، أو حال العوز والفاقة .
ومن إعجاز القرآن الغيري أنه يفتح خزائنه للمسلمين عامة ويدعوهم لولوج أبوابها ، وينبعث الضياء منها ليرغبّ العلماء في الكشف عنها ، وعن دلالاتها وصيرورة المسلمين أذناً صاغية لما يستقرأه العلماء منها ، ومن الإعجاز الغيري للقرآن أن هذا الضياء الذي تبثه خزائنها لا يفتر ولا ينقطع ، وكلما أخذ منها العلماء إزدادت الأبواب والفصول والمسائل التي تكون قريبة منهم ، ومن أجيال المسلمين المتعاقبة .
وهل يتناسب عدد كتب التفسير والمؤلفات الخاصة به مع طول المدة بين نزوله والأزمنة اللاحقة إلى يومنا هذا أم لزوم أن تكثر أعداد العلماء وحلقات الدرس وتهيئة مقدمات ومستلزمات البحث والتحقيق ، حتى على القول بضياع وفقدان كتب عديدة من التفسير , الجواب هو الثاني .
ويسمى تفسير فخر الدين الرازي بالتفسير الكبير , ويـتألف من اثنين وثلاثين جزء وهو مجموع تفسير آيات وسور القرآن كلها ابتداء من سورة الفاتحة إلى سورة الناس من الحجم المتوسط بمثل أو أقل كل جزء من أجزاء تفسيرنا إلى عدم الزيادة عليه ، مع أن الرازي من رجال القرن الهجري الخامس ( 544 – 606 ) هجرية .
وتفضل الله عز وجل علينا بصدور مائة وواحد وسبعين جزءّ من هذا السِفر المبارك (معالم الإيمان في تفسير القرآن) ولا زلت في تفسير سورة آل عمران ، وهي السورة الثالثة وفق ترتيب القرآن من مجموع مائة وأربع عشرة سورة ، وفيه دعوة للعلماء إلى الجد والمثابرة في علوم التفسير ، وما يتفرع عنها ، ولابد من العمل المؤسساتي ذي المنهاج الواضح والطويل ، وتأهيل كلية طلبة علم يتصفون بملكة تفسير مضامين آيات القرآن ومنها التي جاءت قراءتها في هذا الجزء لبيان مصداق لقانون (لم يغز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) فيتصف هؤلاء الطلبة بصفات :
الأولى : أن يكونوا من أهل الإيمان ويتلقون الخطاب القرآني بالتصديق والرضا والقبول .
الثانية : العمل بأحكام القرآن والسنة النبوية وصيرورة هذا العمل بملكة ثابتة عند المؤهلين للتحقيق والغوص في كنوز القرآن .
الثالثة : إصلاح وتهذيب القائمين على علوم القرآن وإعانتهم وتوفير أسباب المعيشة الكريمة لهم من غير إسراف أو بطر أو تفريط .
الرابعة : التحلي بالصبر عن علم وتفقه في الدين ، لقوله تعالى [اصْبِرُوا] والعمل بمضامين آيات الصبر الواردة في القرآن من جهة الموضوع والحكم .
الخامسة : الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القول والعمل , قال تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، وفي الحديث : كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه( ).
السادسة : الإحاطة العلمية بالسنة القولية والفعلية والتقريرية والدفاعية والتدوينية .
السابعة : تنمية ملكة حفظ الآيات عندهم .
الثامنة : الاطلاع على كتب التفسير , والغوص في ثناياها , ومعرفة مناهج التفسير في الجملة , وتسميتهم باسم أخص من اسم طلبة العلم ، كما لو يسمون طلبة علوم القرآن، قال تعالى[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).

حرر في الثامن من شهر ذي الحجة الحرام
20/8/2018
قانون الغايات الخبيثة لهجوم كفار قريش
لابد من كشف الحقائق وذكر الوقائع التي تدل على إرادة الكفار
قتل النبي في معارك الإسلام الأولى ، وتحتمل وجوهاً :
الأول : تبرز مسألة اغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثناء المعركة، واشتداد وطيسها .
الثاني : يعزم كفار قريش على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حين الخروج إلى المعركة .
الثالث : تقوم الهمّ بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمناجاة بين الذين كفروا في الطريق الى المعركة , قال تعالى [وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ).
الرابع : تبييت كفار قريش النية على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم في مكة ، وصيرورة هذه النية والعزم من أسباب التوجه إلى ميدان المعركة .
الخامس : التفصيل ففي بعض تلك المعارك يكون عزم قريش على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الخروج إلى المعركة ، وفي بعضها يرى بعض المشركين السعي لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : إرادة الكفار قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى بعد فتح مكة ، ففي عام الفتح كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يطوف بالبيت الحرام فأراد فضالة بن عمير بن الملوح قتله ، ودنا منه ، فقال حينئذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضالة ، قال نعم فضالة يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي أنه خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة وكأنه يطرد الشبهة عن نفسه باظهار الإسلام ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له : ماذا كانت تحدث به نفسك ، قال لا شئ كنت أذكر الله .
فتبسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمره أن يستغفر الله ، قال ابن هشام (ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه فكان فضالة يقول والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلى منه.
قال فضالة فرجعت إلى أهلى فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها فقالت هلم إلى الحديث , فقلت لا وانبعث فضالة يقول:
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا * يأبى عليك الله والاسلام) ( ).
لقد أرادت قريش قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة قبل الهجرة في فراشه ، وعندما هاجر إلى المدينة لم ينقطع هذا العزم إنما أصروا عليه ، وشعروا بحاجة صدودهم عن المسجد الحارم واستدامته إلى قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذات الأسباب التي حملتهم على إرادة قتله ليلة المبيت بقيت قائمة ، وازدادت أفرادها ، وكانت أكثر وضوحاً .
ولم تمنع نوايا قريش هذه النبي محمداً من الإجتهاد في تبليغ رسالته ، ودعوة الناس للإسلام ، ليكون من معاني قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ) ، بلحاظ نوايا قريش لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه :
الأول : يا أيها الرسول بلع ما أنزل إليك من ربك وإن سعى الذين كفروا لقتلك.
الثاني : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وهو الذي يدفع عنك مكر الذين كفروا وإرادتهم قتلك ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الثالث : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ولا تخف من نوايا وسعي الذين كفروا لقتلك .
الرابع : يا أيها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك ) ليكون الأمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ دليل حفظه تعالى للنبي حتى يقوم بالتبليغ ، فلا يأمره الله بالتبليغ إلا وهو سبحانه يعلم بسلامة النبي من القتل والإغتيال مدة التبليغ ، وفي التنزيل[وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الخامس : يا أيها الرسول بلغ الذين كفروا ما انزل إليك من ربك ) بانهم عاجزون عن الوصول إليك .
السادس : يا أيها الرسول بلغ الذين آمنوا ما أنزل إليك من ربك بسلامتك من سعي الذين كفروا لقتلك ) لبعث السكينة والطمأنينة في نفوسهم والسعي في تعظيم شعائر الله ، قال تعالى في خطاب للمسلمين [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
السابع : يا أيها الرسول بلغ الناس ما انزل إليك من ربك ) بلزوم الإيمان والإمتناع عن نصرة الذين كفروا ، فلو لم يخرج الناس مع رؤساء الكفر في معركة بدر وأحد والخندق لما استطاعوا الهجوم وغزو المدينة لذا جاء القرآن بتقسيمهم إلى قسمين :
الأول : المتبوع .
الثاني : التابع ، قال تعالى[إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ] ( ) .
وأيهما أكثر المتبوع أو التابع من المشركين ، الجواب هو الثاني فالتابع هو الأغلب ، إنما رؤساء الكفر أفراد قلائل ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) فضح رؤساء الكفر ، وإزاحة الهالة التي يحيطون بها أنفسهم بولاية المسجد الحرام ، وفيه منع للناس من إتباعهم ، وقد تقدم أن أبا سفيان استأجر ألفين من الرجال ليخرجوا معه إلى معركة أحد ، وهؤلاء كلهم من التابعين ، وإن كانوا رؤساء في قومهم ، وأمراء لسرايا .
ومن إعجاز رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتبليغ الذي أمره الله عز وجل به توجهه إلى التابع والمتبوع وإلى غيرهم من الناس ليحذروا أن يكونوا تابعين أو متبوعين في الحرب على النبوة والتنزيل ، ليكون من معاني آية التبليغ أعلاه : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ليمتنع الناس عن اتباع الذين كفروا .
وهذه المعاني لا تتعارض مع ما ورد في أسباب نزول آية التبليغ وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال حين نزولها بخصوص علي عليه السلام : من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه( ).
وتتداخل الأحداث ، ويطغى الحماس وتغلب النفس الغضبية والشهوية عند مقدمات القتال ، ولكن الحقائق تتكشف للناس بعد انتهاء القتال باصرار الذين كفروا على الظلم .
ومن خصائص معارك النبوة الدفاعية أن الحقائق تتكشف للناس قبل واثناء وبعد المعركة ، لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينادي وسط ميدان المعركة : قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) لتثبيت المسلمين في منازل الإيمان ويدرك الذين كفروا أنهم على ضلالة .
ومن فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً كشف حقيقة قبح نوايا قريش في حربهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين قبل وأثناء المعارك لصد الناس عن إعانتهم كما أن الله عز وجل إبتلاهم بأنفسهم , ومنه قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، وسيأتي بيانه .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيان معجزاته وإعلانه دعوة ومضامين وأحكام الشريعة التي جاء بها للناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( )، ليكون الناس على بينة من الأمر ،ويقومون بنهي كفار قريش عن حربهم على النبوة والتنزيل ، ومن لم يقم بنهيهم فانه يميل الى المسلمين ، ويشفق عليهم ، ويتطلع الى سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من كيد وبطش الذين كفروا ، كما ورد في قوله تعالى[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
إذ نزلت الآية أعلاه بخصوص كتيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد في اليوم الثاني لمعركة أحد ، فقد خرج ومعه مائتان ونيف من أصحابه لمطاردة جيش الذين كفروا الذي كانت عدته نحو ثلاثة آلاف رجل قتل منهم يومئذ (اثنتان وعشرون رجلاً) ( )، مع تفرق بعض الأفراد ، وكانوا قد تناجوا فيما بينهم وهم في طريق العودة إلى مكة بخصوص التباين بين الغايات الخبيثة التي قطعوا مئات الكيلو مترات من مكة إلى جبل أحد الذي لا يبعد عن المدينة إلا خمسة كيلو متر ، ومنها إرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين النتائج الفعلية للمعركة ، إذ عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مع أكثر أصحابه ، وتلقى أهل المدينة شهادة سبعين من المسلمين بالصبر والرضا ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
ولا يعلم شدة الأذى الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريش وأعوانهم إلا الله عز وجل، وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ما أوذي نبي مثل ما أوذيت( )، وكان هذا الأذى على نحو يومي متصل ، ويدخل فيه أذى الذين كفروا لأهل البيت والصحابة , ومنه إيذاء الكفار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحجارة حتى أدموا قدميه ، عندما خرج إلى الطائف ليحموه ويدفعوا عنه أذى قريش بعد وفاة أبي طالب , الذي هو على وجوه :
الأول : إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه وبدنه , ويوما (قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قالوا: نعم.
قال: فقال: واللات والعزى لئن رأيته يصلى كذلك لاطأن على رقبته، ولاعفرن وجهه بالتراب.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقى بيديه.
قال : فقيل له: مالك ؟ قال: إن بينى وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة.
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضوا عضوا .
قال : وأنزل الله تعالى لا أدرى في حديث أبى هريرة أم لا ، كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى ” إلى آخر السورة( ).
الثاني : ايذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أهل بيته ، ومنه ما لاقاه بنو هاشم في حصار قريش لهم من ليلة هلال محرم من السنة السابعة للبعثة النبوية ، ولم يخرجوا إلا في السنة العاشرة للبعثة النبوية (وقيل مكثوا في الشعب سنتين)( )، لبيان أنه هناك حسابات لتأريخ النبوة وهما :
أولاً : الحساب من حين إبتداء البعثة النبوية.
ثانياً : الحساب من تأريخ الهجرة النبوية إلى المدينة ، وهو الذي اعتمد في حساب التأريخ القمري الإسلامي .
الثالث : أذى المشركين لأصحابه الذين دخلوا الإسلام ، وتعذيبهم جسدياً , وجهر عبد الله بن مسعود بتلاوة القرآن في مكة ، فضربوه على وجهه .
وعن عروة بن الزبير قال (اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا والله ما سمعت قريش بهذا القرآن يجهر لها به قط فمن رجل يسمعهموه فقال عبد الله بن مسعود أنا قالوا إنا نخشاهم عليك إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه فقال دعوني فإن الله سيمنعنى قال فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها حتى قام عند المقام ثم قال رافعا بها صوته [بسم الله الرحمن الرحيم الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ]( ).
قال ثم استقبلها يقرأ فيها قال وتأملوا وجعلوا يقولون ما يقول ابن أم عبد ثم قالوا إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه .
فقالوا هذا الذى خشينا عليك .
قال : ما كان أعداء الله أهون على منهم اليوم لئن شئتم لاغادينهم غدا بمثلها . قالوا : لا حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهون) ( ) .
الرابع : الفتن التي يستحدثها الذين كفروا وصدهم الناس عن الإيمان وعن المسجد الحرام .
ولم يقابل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الأذى إلا بالصبر والدعاء لهم بالهداية ، وقيل : أدعو عليهم يارسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
( قال : إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة( ).
ويدل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم أبعث لعاناً ، من باب الأولوية القطعية على أنه لم يبعث للغزو والقتل , لأن كلاً من الغزو وزهوق الأرواح أشد من اللعن .
وهذا المعنى لا يتعارض مع دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن أنفسهم عندما يصرّ الذين كفروا على الهجوم وتتعذر الأسباب في صرفهم عن القتال لذا قال الله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ]( ).
وتدل الآية أعلاه في مفهومها على أمور :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تقاتلوا الذين لم يقاتلوكم من الكفار ومن أهل الكتاب .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تتقاتلوا فيما بينكم .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا تبدأوا القتال مع الذين كفروا ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يبدأ قتالاً ، وكان يوصي أمراء السرايا بعدم البدء بقتال ، وهذه التوصية وسيلة ومناسبة لعدم وقوع قتال عند التقاء المسلمين مع المشركين .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا اكتفوا بالدفاع عن أنفسكم .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا لا تعتدوا ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
السادس : يا أيها الذين آمنوا اتركوا قتال الذين كفروا إذا تركوكم ، ولا يعني هذا الترك السالبة الكلية ، إنما تأتيهم آيات القرآن لتكون حجة عليهم ودعوة لهم للإيمان , فهي سلاح سماوي باق في الأرض إلى يوم القيامة يخاطب العقول ، وينفذ إلى شغاف القلوب ، وفي التنزيل[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وخير الحديث كتاب الله وتلاوة آياته حجة واحتجاج ودليل ، قال تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ] ( ) .
الحمد لله الذي بعث محمداً هادياً إلى الحق والخير والصلاح ونبذ القتال والنفرة من سفك الدماء ، ومن منهاج النبوة الحث على الإمتناع على القتل ، والإنذار من شدة العقاب عليه .
و(عن وهب بن منبه قال : مكتوب في التوراة : شوّقناكم فلم تشتاقوا ، ونُحْنَا لكم فلم تبكوا ، ألا وان لله ملكاً ينادي في السماء كل ليلة : بشر القتَّالين بأن لهم عند الله سيفاً لا ينام وهو نار جهنم ، أبناء الأربعين زرع قددنا حصاده ، أبناء الخمسين هلموا إلى الحساب لا عذر لكم ، أبناء الستين ماذا قدمتم وماذا أخرتم .
أبناء السبعين ما تنتظرون ألا ليت الخلق لم يخلقوا فإذا خلقوا علموا لما خلقوا ، ألا أتتكم الساعة فخذوا حذركم) ( ).

الآية الأولى : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
توجه الخطاب التكليفي في الآية أعلاه إلى المسلمين , منه الدعوة إلى الرباط وهو الإقامة في الثغور والمواضع التي يخاف على أهلها من مشركي قريش ونحوهم .
ويسمى المقيم فيها المرابط ، وهو الذي يقوم بالحراسة والرصد وأعدّ نفسه للدفاع ومنه أيضاً المرابطة في الصلاة .
والرباط لغة : الملازمة المداومة على الشيء والمواظبة عليه .
والمرابطة في الإصطلاح ، الإقامة في الثغور للحراسة.ورباط الخيل مثلما يربطها الأعداء المشركون , قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
وجاء الخطاب في الآية عاماً للذين آمنوا ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : إختصاص الخطاب والتكليف بالمرابطة بالرجال .
الثاني : إرادة خصوص القادرين على المرابطة من المسلمين .
الثالث : إنحصار التكليف بالذين تخرج أسماؤهم للرباط.
الرابع : شمول النساء بالتكليف بالمرابطة ، لإرادة العموم في خطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في القرآن.
الخامس : التفصيل بإختصاص الأمر بالقادرين على المرابطة والذين تخرج أسماؤهم للإقامة في الثغور للحراسة مدة مخصوصة ، في أزمنة نزول الآية أعلاه وما بعدها ، ومن ثم شمول الآية لغيرهم عندما تكون المرابطة أعم من الحراسة البدنية ، واستعمال التقنية فيها لتشمل ذوي الإختصاص وإن كانوا من النساء ، لإرادة أصالة العموم في إبتداء آية المرابطة بالنداء التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، إذ جاء الخطاب في الآية بصيغة التذكير , ولكنه يشمل المسلمات في وجوب الصيام.
والمختار هو الثاني والثالث إلا أن يكون هناك وجوب عيني على مرأة ذات اختصاص ، وسيأتي مزيد كلام في تفسير آية البحث ولكن موضوع هذا الجزء خاص بقراءة في قانون (لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً) .
وتحتمل المرابطة ووجوبها وجوهاً :
الأول : إنها شاهد على عدم إرادة المسلمين الغزو بلحاظ أن المرابطة ثبات في الثغر وعدم الهجوم على المشركين .
الثاني : في الآية دعوة للمسلمين للإمتناع عن الغزو وإن إجتمعت مقدماته ، كما لو رآى المرابطون إمكان غزو مدينة أو قرية من قرى المشركين التي تقابلهم والإستيلاء عليها.
الثالث : المرابطة مانع من الغزو .
الرابع : في المرابطة تخفيف عن المسلمين ، بأن يجتنب الذين كفروا الهجوم على بلاد المسلمين .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، إذ تبين آية المرابطة قانوناً وهو أن الله عز وجل يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين قانون إجتناب لغزو ، ودفع القتال من جهتين :
الأولى : إكتفاء المسلمين بالإحتراس والرصد والإحتراز والحيطة والحذر .
الثانية : زجر مشركي قريش ومن والاهم عن الهجوم والغزو والتعدي ، وآية المرابطة من مصاديق قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ]( ).
ليكون من الإعجاز في نداء التشريف [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لإرادة خصوص الرجال القادرين على الرباط إلى أن يأتي زمان يكون فيه ذوو العلوم ذات الإختصاص مشمولين بالمرابطة نتيجة التوسعة في مصاديقها وموضوعها ، وشمولها للتكنولوجيا الحديثة ، أو لإرادة أحكام الضرورة حتى في الأيام السالفة عندما كان المشركون يهددون بيضة الإسلام.
وتؤكد آية الرباط قانوناً وهو أن الله عز وجل يدفع الغزو وأسبابه وأنه سبحانه لا يريد لنبيه الكريم والمسلمين غزو المشركين في عقر دارهم ، إنما يريد بقاءهم على حيطة وحذر .
ومتى ما علم المشركون أن المسلمين في حال يقظة واستعداد للدفاع فانهم يعزفون عن الهجوم ، والمناجاة بالغزو ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
وصحيح أن الآية أعلاه نزلت في معركة الخندق ، بانصراف الأحزاب من غير قتال عام بعد حصار شديد على المدينة.
وأخرج ابن مردويه عن جابر : لما كان يوم الأحزاب ردهم الله { بغيظهم لم ينالوا خيراً }( ) فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من يحمي أعراض المسلمين؟
قال كعب: أنا يا رسول الله . قال عبد الله بن رواحة: أنا يا رسول الله . فقال : إنك تحسن الشعر .
فقال حسان : أنا يا رسول الله فقال : نعم . اهجهم أنت ، فإنه سيعينك عليهم روح القدس.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ هذا الحرف { وكفى الله المؤمنين القتال }( ) بعلي بن أبي طالب( ).
وتدعو آية الرباط الى الصبر والتحمل وطي الأيام فمع تقادمها يتوالى نزول الآيات وتتجلى المعجزات ز
وعن رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم قال : انتظار الفرج بالصبر عبادة( ).
ومن معاني قوله تعالى [َرَابِطُوا] أي رابطوا على الصلوات وانتظار الفرض بعد الآخر( ).
وعن داود بن صالح قال : قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : يا ابن أخي، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية :”اصبروا وصابروا ورابطوا”؟ قال قلت: لا! قال: إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزو يُرَابَطُ فيه، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة ( ).
وهو الموافق لصيغة الجمع في النداء التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا], ولكنه لا يمنع من المعنى الإصطلاحي للرباط .
ومن اعجاز الآية أنها قدمت الصبر والمصابرة على الرباط وهو من شواهد الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ومرابطة الفرد في الثغور مستحبة وليست واجباً إلا أن تكون واجباً عينياً على بعض الأفراد حسب المصلحة وأسباب دفع المفسدة.
والرباط وسيلة مباركة لحقن دماء المسلمين ودماء المشركين ، فكما في قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( )، وفيه حياة وسلامة للذي ينوي القتل والذي يريد قتله فكذا بالنسبة للرباط فان فيه حقنا لدماء المسلمين ودماء المشركين ، إذ يمتنعون عن مهاجمة المسلمين وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم توالي دخول الناس في الإسلام ، وكلما هجم المشركون للغزو وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتل أو أسر أصحابه أصابهم الخزي ، فتدخل أفواج من الناس في الإسلام .
فان قلت قد أخبر القرآن عن دخول الناس الإسلام عند تحقق النصر ، كما في قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
والجواب إن اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره فحين أخبرت سورة النصر عن دخول الناس في الإسلام عند تحقق النصر فكذا بالنسبة للمعارك الأولى في الإسلام , فمع كل معركة تتجلى معجزات للنبي وهو الذي يدل عليه قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، وقد أخبرت آية ببدر عن نصر المسلمين .
ومن الإعجاز في آية البحث تقديم الصبر والأمر المتكرر به بقوله تعالى[اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ] والصبر فضيلة وخصلة كمال ، وهو حسن ذاتاً ، فيدل الأمر على لزوم ضبط النفس ، ومنع المسلمين من الغزو والهجوم ، ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : اصبروا على الفرائض .
الثاني : اصبروا في الثغور .
الثالث : اصبروا في الدفاع .
الرابع : اصبروا في الإمتناع عن الغزو .
والمصابرة طريق النصر في الحرب ، وفي قوله تعالى [اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا] قيل أنه انتقالٌ من الأدنى إلى الأعلى فالصَّبْرُ دُونَ المُصابرة والمُصابرةُ دونَ المُرابطةِ وقيل : اصبِروا بنُفُوسِكم وصابِرُوا بقلوبِكم على البَلْوَى في اللهِ ورابطوا بأسرارِكمُ على الشَّوْقِ إلى اللهِ وقيل : اصْبِرُوا في اللهِ وصابِروا بالله ورابِطُوا مع اللهِ( ).
وجمعت آية البحث بين الصبر والمرابطة وليس بين الصبر والقتال ، أو الصبر والهجوم , أو الصبر والغزو والثأر .
وقال زفر بن الحارث :
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها … ولكنَّنا كنَّا على الموت أصبر( ).
والصبر هو الحبس ، ومنع النفس مما تنازع إليه ، وسمي الصيام صبراً لحبس النفس عن الأكل والشرب على نحو الأمر الوجودي والإختيار لذا سمي شهر رمضان شهر الصبر ، وفي الحديث (اقتلوا القاتل وأصبروا الصابر (أبو عبيد فى الغريب ، والبيهقى عن إسماعيل بن أمية مرسلاً)
وللحديث أطراف أخرى منها (يقتل القاتل).
ومن غريب الحديث (أصبروا الصابر) أي احبسوا الذى حبس غيره للموت حتى يموت كفعله بغيره( ).
والحديث ضعيف سنداً ودلالة ، ولعل المراد حبس لمدة مخصوصة , ولم يرد ما يدل على وجود سجن في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس من المسجونين بقوا إلى أيام أبي بكر ، أو كانت دار خاصة للسجن كان ينفق عليهم من بيت المال ونحوه.
فليس هناك سجن في أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان يحجز الأسرى ونحوهم لمدة وجيزة لليلة واحدة أو ليلتين في المسجد النبوي أو في بعض بيوت الصحابة ثم يجد لهم مستقراً آمناً ، أي أن هذا الحجز لسلامتهم.
وعن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها ،وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها ،والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها( ).
ومن فيوضات الرباط الأمن والسلامة في الصبر وعالم البرزخ ، وعن سلمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يقول : رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل ، وأجرى عليه رزقه فأمن الفتان . زاد الطبراني : وبعث يوم القيامة شهيداً( ).
فيأمن المرابط من فتان القبور ثوابا من عند الله سبحانه .
وقال الزمخشري : وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها ، مترصدين مستعدين للغزو . قال الله عز وجل [وَمِن رّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ ] ( )، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :من رابط يوماً وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه ، لا يفطر ، ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ سورة آل عمران أعطى بكل آية منها أماناً على جسر جهنم ( ).
ولا دليل في الآية أعلاه أو في الحديث أعلاه على الإستعداد للغزو ، إذ أن قوله تعالى[تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( )، لبيان إصابة المشركين بالخوف والفزع من تكرار الهجوم على المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ).
ومن معاني المرابطة تكثير سواد المسلمين في مواجهة المشركين الذين كانوا يغيرون على المدينة ، ويعجزون عن إختراق المرابطين ، فيقومون بالهجوم على السرح( )، والأنعام في المراعي .
وحالما يرد الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبر إغارتهم على سرح المدينة يخرج بنفسه ، ويلاحقهم ، وأحياناً يخرج بمفرده وفي التنزيل [لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ]( ).
وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا : بلى يا رسول الله. قال : اسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط( ).
وفي شهر ربيع الآخر من السنة السادسة للهجرة وكانت بلاد بني ثعلبة وأنمار قد أجدبت ( )، ووقعت سحابة بالمراض الى تقلمين على ستة وثلاثين ميلاً من المدينة ، فسارت بنو محارب وثعلبة وأنمار الى تلك السحابة.
ثم بدا لهم أن يغيروا على سرح المدينة إذ كانت ترعى يومئذ ببطن هيفاء فبعث لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلاً ، ولما علموا بقدومه حربوا في الجبال ، ووجدوا رجلاً واحداً منهم ، وأعلن اسلامه فتركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، مما يدل على أن المشركين هم الذين كانوا يغيرون على بلاد المسلمين ، ويعتدون على الأموال الخاصة والعامة .
وهل تحسب سرية أبي عبيدة من الرباط ، الجواب لا ، لأن المراد من الرباط هو الإقامة في الثغور ، فان قلت كانت المدينة المنورة هي المصر الوحيد للإسلام ، فكيف تكون المرابطة في الثغور , والجواب من إعجاز القرآن أنه لم ينزل لزمان مخصوص ، كما يصح على أطراف المدينة أنها ثغور .
وإذا كان المسلمون يصبرون ويرابطون في الثغور فهل يقابلهم الذين كفروا بذات الصبر والمرابطة ، الجواب من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إصابة عدوه بالوهن والضعف مع تقادم الأيام ، وهو من أسباب ونتائج عدم قيامه بغزو المشركين إذ تجتمع الأسباب والنتائج في ذات الموضوع بما تكون سلاحاً لدفع الإقتتال بين المسلمين والمشركين ، وهذا الدفع من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ولا تختص منافع هذا الدفع بالذين يرابطون ويتقابلون في الثغور ، إنما يشمل غيرهم من جهات :
الأولى : تفقه المسلمين في الدين ، وأداؤهم الفرائض العبادية.
الثانية : الأمن والأمان للمسلمين وعوائلهم ، ومن يعيش معهم.
الثالثة : السلم المجتمعي ، ونشاط الأسواق والتبادل التجاري وعدم الإرباك في البيع والشراء.
الرابعة : بلوغ آيات القرآن ومعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمشركين ، وتدبر الناس في مضامينها ومعانيها .
وقد تكون حال الحرب برزخاً وحاجباً دون تدبر طائفة من الكفار بالمعجزات للإنشغال بالقتال ، ولحال البغضاء والسخط بين المسلمين وكفار قريش ، فنزلت آية الرباط لتكون مقدمة للدعوة العامة للإسلام ، وتجلي المعجزات وإزاحة الموانع والأسباب الطارئة التي تحول دون معرفة وعلم الناس بها ، أنها مدرسة القرآن ، وتعضيد آيات القرآن بعضها لبعض ، وصيرورة الآية القرآنية مقدمة للعمل بالآية الأخرى ، وتهيئة لها ، وترغيباً بتلاوتها والإمتثال لما فيها من الأوامر والنواهي ، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
ومن الإعجاز في آية البحث أنها تمنع عن الغزو من وجوه :
الأول : إبتداء الآية بنداء الإيمان [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ] ومن مصاديق الإيمان التسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحكام القرآن والسنة النبوية ، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وهل من معاني الإيمان الدعوة إلى الله [بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )، الجواب نعم لمجئ الآية أعلاه بصيغة الأمر من الله عز وجل الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
وهل المرابطة من صيغ هذه الدعوة أم أنها موضوع آخر خارج عنها.
الجواب هو الأول لما في المرابطة من الصبر والتحمل ، والإمتناع عن القتل والقتال , وذات الصبر حكمة ودعوة إلى الله عز وجل .
لقد امتنع الذين كفروا من قريش عن التصديق بمعجزات النبوة ، فلم يؤاخذهم أو يوبخهم النبي محمد صلى الله عيله وآله وسلم ولكنه استمر بصلاته ودعوته إلى الله وتبليغه لآيات القرآن ، فلم يفقه الكفار الأمر وتعاونوا على إيذاء كل من :
أولاً : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانياً : بنو عبد المطلب وبنو المطلب .
ثالثاً : الصحابة الذين دخلوا الإسلام خصوصاً المستضعفين منهم.
كما بذلوا الوسع في صدّ الناس عن آيات القرآن وعن دخول الإسلام والإطلاع على أحكامه ، فمن معاني قوله تعالى[وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، ميل الناس بالفطرة لأحكام الشرائع السماوية ، والنفرة من الجحود والمعصية.
ولابتداء آية المرابطة بنداء الإيمان تأديب وإرشاد للمسلمين ، ودعوة لهم للتدبر في مضامين الآية والعمل بمضامينها القدسية بصبغة الإيمان وحسن التوكل على الله ، والتسليم بأنه يهدي القلوب ، ويدفع الشرور والأذى.
وهل يكون نداء الإيمان وتلقي المسلمين له بالقبول والرضا سبباً لمنع طمع المشركين بغزوهم ، الجواب نعم ، بلحاظ أن المسلمين أمة متحدة يتعاون أفرادها في الحفاظ على بيضة الإسلام وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ومن مصاديق الإيمان بخصوص المرابطة والإمتناع عن الغزو تعاهد الصلاة اليومية وأداء الفرائض العبادية ، وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب؟ قلنا : بلى يا رسول الله .
قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط( ).
وذكر (إن هذه الآية إنما أنزلت في لزوم المساجد[يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا])( ).
وهو صحيح ، ومعنى ومضمون ودلالة الآية أعم وأوسع خاصة وأن موضوعها لا يختص بمسألة الرباط ، إنما يشمل الصبر والمصابرة ومنه ربط النفس على التقوى، وحبسها عن المعاصي ، وهو من أسرار تأكيد الأمر بالصبر في آية البحث.
الثاني : الأمر من الله للمسلمين بالصبر بقوله تعالى[اصْبِرُواْ] لإرادة ملازمة الصبر مطلقاً في كل الأحوال ، وذات الصبر عبادة تستلزم حبس النفس ، والجهد , وهل هو أمر وجودي أم عدمي الجواب هو الأول .
ومن الأمثلة في الصبر أن الأشجار بطيئة النمو تحمل أحسن الثمر ، وهو ليس قانوناً دائماً ، وجاءت التقنية الزراعية لمنافع السرعة فيه وورد قوله تعالى[أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ]( )، لبيان أن الصبر لا يتعارض مع المبادرة إلى فعل الخيرات ، وهناك مسائل :
الأولى : من فضل الله عز وجل السعة والمندوحة في عمل الخيرات وجني الحسنات بالجمع بين الصبر والمسارعة في الخيرات .
وهل هما من المتضادين ، الجواب لا ، للتباين الموضوعي ، فموضوع الصبر يختلف عن مسألة المسارعة في الخيرات .
الثانية : ذات الصبر من المسارعة في الخيرات ، وفي كل آن يصبر فيه المسلم له أجر وثواب عظيم ، وقال أحد الفلاسفة القدامى : الصبر يذيق صاحبه طعم المرارة ، ولكن نتائجه جميلة) .
وجاء القرآن بقانون وهو أن ذات الصبر جميل ، ويجعل المؤمن يشعر معه بالسكينة والرضا ، ومما يدل عليه قوله تعالى[فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً]( )، الذي هو خطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يصيبه حزن أو جزع بسبب تكذيب كفار قريش له ، وقيامهم بايذائه وأصحابه ، وتهديدهم بقتله ليكون من معاني الآية أعلاه الوعد الكريم من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمن والسلامة وطول العمر ، وهو من مصاديق قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
وتكرر في قصة يوسف قوله تعالى[فَصَبْرٌ جَمِيلٌ]( )، وكلاهما على لسان يعقوب لأبنائه ، احداهما حينما جاءوا على قميص يوسف بدم من الذئب ، كما في قوله تعالى [وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ]( )، وهل يدل قوله تعالى[بِدَمٍ كَذِبٍ] على إمكان صناعة الدم ، المختار نعم ، الذي سيكون مادة وسبباً لشفاء ونجاة كثير من الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( )، لقانون من كنوز وذخائر القرآن ، من وجوه:
الأول : كل آية قرآنية تبعث على الإرتقاء العلمي .
الثاني : قانون إجتماع كل آيتين أو أكثر من القرآن منهل للعلوم ، وبما ينفع الناس عامة وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : قانون الآيات الكونية دعوة سماوية يومية للإكتشاف العلمي .
الرابع : قانون استقراء آيات القرآن العلمية والكونية.
ولكن الآية تحذر من موضوعه بلزوم الحذر والتوقي واجتناب الأضرار الجانبية للدم المصنوع .
ولما أراد معاوية أخذ البيعة ليزيد أظهر قوم الكراهة فقام أحد الخطباء فأخترط من سيفه شبراً، وأشار إلى معاوية ثم قال: أمير المؤمنين هذا، وأشار إلى معاوية، فإن يهلك فهذا وأشار إلى يزيد، فمن أبى فهذا وأشار إلى سيفه، فقال معاوية: أنت سيد الخطباء.
إنما هو أقبح وأشر الخطباء لما آلت إليه الأمور.
الثالثة : يلزم الصبر في العبادات وأداؤها على الوجه الصحيح ، ويسمى الصيام بالصبر ، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ) .
وهل يلزم الصبر في أداء الصلاة وفق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي)( ) .
الجواب نعم ، إذ يحتاج المسلم والمسلمة الصبر في مقدمات الفعل العبادي وعند أدائه ابتداء واستدامة وضبطاً ومنه الصبر في الإنفاق والصدقات بإخراج الحقوق الشرعية بمقدارها وحسب النصاب وكذا في دفعها إلى مستحقيها من الأصناف التي ورد ذكرها في القرآن ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
الرابعة : الصبر حسن ذاتاً وعرضاً وأثراً ، وهو من مصاديق الخلافة في الأرض ، فعندما أخبر الله عز وجل الملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) احتجوا على فساد الإنسان في الأرض وسفكه الدماء فأجابهم الله سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
فمن علم الله عز وجل تفضله برزق الأنبياء والمؤمنين والمؤمنات الصبر وحثهم عليه ، وترجل هذا الصبر في الخارج بفعل وترك ، بفعل الصالحات ومنها الرباط , وترك السيئات واتباع الشهوات .
ومن الإعجاز أن هذا الترك أمر وجودي ليترتب عليه الثواب ، ترى كيف يكون هذا الثواب وهل يختص بلحظة الإمتناع عن الفاحشة عندما تداهم الإنسان كما في عصمة يوسف عليه السلام بقوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] ( ) .
الجواب أنها في الثواب أعظم وأكبر من أن تختص بآن وفرد مخصوص من الزمان يقترن باجتناب المعصية مع دنوها وقربها ، إنما يشمل كل أوقات وأيام المؤمن والمؤمنة ، فينام المؤمن ويأتيه الثواب لأن في هذا النوم ترك لما عزم عليه من إجتناب الفواحش ، وهو من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (إنما الاعمال بالنيات) ( ) .
وليس نوم أي انسان يأتيه معه الثواب إنما يختص الأمر بالمؤمن الذي عزم على ترك السيئات ،وإن كان يقظاً في تلك الساعة ، وهو من أسرار وعمومات قوله تعالى [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ).
وتتعدد معاني الأمر الإلهي [اصْبِرُوا] وسيأتي مزيد بيان في تفسير هذه الآية إن شاء الله ، وهي آخر آية من سورة آل عمران ونذكر هنا ما يتعلق منها بخصوص عنوان هذا الجزء (لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً ) بتقدير وجوه :
الأول : واصبروا في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : واصبروا في أداء الفرائض والعبادات .
الثالث : اصبروا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وهذا الصبر من جهات :
الأولى : صبر الآمر بالمعروف من جهة كيفية وأوان وصبغة وموضوع الأمر (عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان) ( ).
الثانية : تحلي المأمور بالمعروف بالصبر والإمتثال للآمر ، والنطق بالشكر له سبحانه على احسانه لأن الأمر بالمعروف إحسان .
الثالثة : صبر السامع للآمر بالمعروف للإصغاء والإنصات وعدم الجدال أو المغالطة .
الرابعة : إعانة المسلمين والناس في الأمر بالمعروف من الصبر الجميل وتتعدد هذه الإعانة من وجوه :
أولاً :إعانة الآمر بالمعروف .
ثانياً : البيان وذكر أسباب الصلاح .
ثالثاً : الحث على الإستغفار وعلى أداء الفرائض والواجبات .
رابعاً : إعانة المأمور بالمعروف على إتيانه وتحبيب فعله إلى نفسه .
خامساً : تعاون الناس بالتقيد بمصاديق الأمر بالمعروف وفعله واتيانه وبالنهي عن المنكر وإجتنابه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ) .
وبين المنكر وبين الإثم والعدوان عموم وخصوص مطلق ، فالمنكر أعم وهو الذي تنكره النفوس ، ويخالف التنزيل والعقل والأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة .
وقد جاءت الآيات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) ويحتمل غزو المشركين للمسلمين في معركة بدر وأحد والخندق وجوهاً :
الأول : إنه من المنكر الذي ورد في الآية أعلاه .
الثاني : هذا الغزو من الإثم والمعصية .
الثالث : إنه من العدوان والتعدي .
الرابع : إنه من الكفر والجحود .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها تصدق على غزو المشركين .
وجاءت آية البحث بصيغة الجمع لإفادة وجوه :
أولاً : توجه الخطاب التكليفي لكل مسلم بالصبر ، وتقدير الآية : يا أيها الذي آمن اصبر .
ثانياً : توجه الأمر من الله إلى المسلمة بأن تتحلى بالصبر ، وتقدير الآية: يا أيتها التي آمنت أصبري .
ثالثاً : توجه الخطاب إلى المسلمين على نحو العموم المجموعي .
رابعاً : حث المسلمين على التعاون في ميدان الصبر ، قال تعالى [وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ] ( ).
خامساً : إستحضار المسلمين لوجوب الصبر في حال الرخاء والشدة ، والسراء والضراء ، وعند الرباط .
الوجه الثالث : بعد الأمر في آية البحث للمسلمين والمسلمات بالصبر العام والخاص ، واتخاذ الصبر ملكة ، جاءت الآية بأمره تعالى [وَصَابِرُوا].
وهل تختص المصابرة في الآية بميدان القتال وإظهار حال من الصبر أطول وأكثر من صبر مشركي قريش ، أم أن المعنى أعم .
الجواب هو الثاني ، فمثلاً أن الصبر لا يختص بميدان القتال وملاقاة الأعداء فكذا بالنسبة للمصابرة وتعلقها بالمتعدد من الموضوع ذي الشدة والمشقة إذ أن التعاون بين المسلمين في المصابرة نوع تخفيف عنهم .
ويشمل هذا التعاون أداء الفرائض والعبادات وتحمل الأذى في سبيل الله ، ليكون من معاني دفع الضرر القادم من كفار قريش عن المسلمين وصيرورته برتبة الأذى الأدنى بفضل من الله ثم تعاون المسلمين ، ومن المصابرة الثبات في الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل.
وهل في الآية لوم للصحابة الذين فروا في ميدان معركة أحد ، الجواب لا دليل عليه إلا أنها تؤكد أن المصابرة واقية من الهزيمة وطريق للنصر .
وقد يظن المسلم كفاية الصبر الذاتي والرضا بما ينزل عليه من الأذى ، ويشكر الإنسان الله عز وجل على النعم التي عنده ، ويتعاهدها بالصبر في طاعة الله والإمتناع عن المعاصي .
(عن عبد الله بن صالح قال : قال لي سلمة بن عبد الرحمن : يابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا}( ).
قال : قلت : لا. قال : إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزو يرابط فيه) ( ).
ومن معاني قوله تعالى [وَصَابِرُوا] وجوه :
الأول :صابروا الوعد الذي وعدتكم ، وأنتظروا الفرج والنصر .
الثاني : صابروا على العبادات ، فمن المصابرة في الصلاة مثلاً أداؤها تامة بطهور وفي أوقاتها وبقراءة القرآن وأجزاء الصلاة الأخرى ، ومن وجوه المصابرة ما ورد في حديث (مالك بن الحويرث قال اتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن شببة متقاربون فاقمنا عنده عشرين ليلة وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحيما رقيقا فلما ظن انا قد اشتهينا اهلينا واشتقنا سألنا عما تركنا بعدنا فاخبرناه.
فقال ارجعوا إلى أهاليكم فاقيموا فيهم وعلموهم ومروهم وذكر اشياء احفظها واشياء لا احفظها وصلوا كما رأيتموني اصلي فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم اكبركم) ( ).
وهل تَعلّم آيات وسور القرآن , ومعرفة شذرات من التفسير والتأويل من المصابرة ، الجواب نعم ، لتكون المصابرة من مصاديق قوله تعالى [ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، وهي واقية من الكيد والمكر والشرور .
و(عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من قرأ عشر آيات من الكهف عصم من فتنة الدجال) ( ).
الثالث : صابروا عدوكم ولا تختص هذه المصابرة بميدان القتال أو الرباط ، إنما تتجلى بأبهى صورها بالتقيد بسنن الإيمان والأخلاق الحميدة .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا تعاونوا في ميادين الصبر ، ولا يختص التعاون في المقام بالعبادات والسنن بل يشمل أمور الدنيا والمعيشة وحسن المعاملة والصبر على المديون المعسر مثلاً ، قال تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] ( ).
الخامس : المبادرة إلى الصبر في الحياة الزوجية وشؤون الأسرة وبر الوالدين والرأفة على الصغير .
السادس : مناجاة المسلمين في إجتناب الثأر .
السابع : من معاني قوله تعالى [صَابِرُوا] الإمتناع عن الرد بالمثل على غزو المشركين للمدينة وأطرافها وتجلي مصداق هذا المعنى في وقائع متعددة، فبعد أن زحف المشركون أربعمائة وخمسين كيلو متراً من مكة إلى مشارف المدينة للقتال ، ووقعت معركة أحد في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وإنسحب المشركون في ذات يوم المعركة ولم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلفهم ولم يتبعهم إنما أمر الإمام علي عليه السلام أن ينظر هل ركبوا الجياد فانهم يريدون الإغارة على المدينة وليتصدى لهم ، أم ركبوا الإبل ، وفيه دلالة على إرادتهم مكة .
قال ابن إسحاق : فبعث النبي علياً لينظر ، وعن سعد أبي وقاص قال (فوقفوا وقفةً بالعقيق وتشاوروا في دخول المدينة، فقال لهم صفوان بن أمية: قد أصبتم القوم، فانصرفوا فلا تدخلوا عليهم وأنتم كالون، ولكم الظفر، فإنكم لا تدرون ما يغشاكم. قد وليتم يوم بدر، والله ما تبعوكم الظفر لهم! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: نهاهم صفوان) ( ).
وبلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أن جيش مشركي قريش ينوون العودة للإغارة على المدينة وهم في الطريق ، وقبل الوصول إلى مكة إذ أرادوا حمل الجيش على إعادة الكرة والإغارة على المدينة قبل أن يصلوا إلى مكة ويتفرق الجنود إلى أهليهم وقبائلهم ، ويصعب ويستحيل جمعهم مرة أخرى لأسباب :
الأول : إدراك جيش المشركين لعجزهم عن تحقيق أي غاية من غاياتهم الخبيثة .
الثاني : سنخية الجندي المستأجر بالعمل لمرة واحدة وبمقدار الأجرة والعوض .
الثالث : إمتلاء نفوس جيش المشركين بالخوف والفزع .
الرابع : رؤية جيش المشركين لمعجزات النبوة في السنة الدفاعية ، وهذه المعجزات على أقسام :
الأول : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله ومسلم والأنصار ، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ) .
ونزلت الآية أعلاه في معركة أحد وفيه تحد متعدد ، إذ أن أي وعد صادق في المعركة يشد عضد المقاتلين ، والعكس يضر بهم ويضعف هممهم، فتفضل الله بتحقق مصداق نزول الملائكة ، ويحتمل وجوهاً :
أولاً : إنه معجزة حسية .
ثانياً : إنه معجزة عقلية .
ثالثاً : انه معجزة حسية عقلية .
والمختار الوجه الثالث أعلاه ، ليكون من معاني قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) أي بحضور الملائكة لنصرة جمع المؤمنين .
وهل علم الكفار بنزول الملائكة ، وإذا كانوا قد علموا فهو حجة عليهم ، ودعوة سماوية لدخولهم الإسلام ، الجواب قد علم فريق منهم بنزول الملائكة ، إذ كان بعضهم يتلقى الضربة ولكنه لا يرى الضارب .
الثاني : قانون ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال ، وعدم تراجعه أو فراره ، وقد تجلى هذا القانون في كل معركة للمسلمين ، خاصة في معركة أحد والخندق وحنين ، ليكون هذا الثبات على وجوه :
أولاً : إقتداء المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الثبات في مواضعهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ] ( ) .
ثانياً : بعث الفزع والخوف في قلوب جيش المشركين ، وهو من مصاديق إلقاء الخوف في نفوسهم كما في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ) .
ثالثاً: قلة خسائر المسلمين في ميدان المعركة .
رابعاً : تردد المشركين في الهجوم ، ويأسهم من النصر والغلبة وإختيارهم النكوص عن القتال وميلهم إلى الفرار ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) وقال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ* وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
خامساً : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف جيش الذين كفروا في اليوم التالي لمعركة أحد ، فصحيح أن عدد الذين خرجوا مع النبي نحو مائتين وثلاثين، وأكثرهم جرحى إلا أنه نوع تحد وعزم على اللقاء من جديد ، وحسن توكل على الله ، وثبات على الإيمان وكانت النتيجة إمتناع الذين كفروا عن العودة للقتال ، ونزول آية في الثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ) .
فان قيل هل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي لمعركة أحد معجزة له ، الجواب نعم ، إنها معجزة في السنة الدفاعية وصيرورته سبباً لنزول الآية أعلاه معجزة عقلية ، وهذا الخروج واقية من القتال من جهات :
الأولى : إصابة جيش الذين كفروا باليأس من هزيمة المسلمين .
الثانية : دعوة الناس لعدم إعانة ونصرة جيش الذين كفروا .
الثالثة : ندب الناس للتدبر في معجزات النبوة والتنزيل ، قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا] ( ).
الرابعة : إصابة الذين كفروا بالوهن والضعف والذل .
الخامسة : زجر الذين كفروا عن العودة من الطريق إلى القتال وغزو المدينة فحينما علم أبو سفيان وأصحابه بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خرج بأصحابه من المدينة وأنه جمع حتى الذين تخلفوا عن الخروج من معركة أحد ، سارعوا في العودة إلى مكة .
وهل لمعجزات النبي وآيات التنزيل موضوعية بهذا التعجيل ، الجواب نعم ، فمن خصائص آيات القرآن أن كل آية منه تدعو إلى التدبر في مضامينها ومعرفة كنه أسرارها ، وهذا التدبر نوع سبب ومناسبة للإمتناع عن القتال مع نزول آيات القرآن التي تدعو المسلمين للدفاع وقتال الذين يقاتلونهم .
وهذه الدعوة في مفهومها إنذار للذين كفروا بأن المسلمين لا يترددون في الدفاع عن كل من :
الأول : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فلقد بايعه الأنصار الأوائل في بيعة العقبة الثانية على الذب عنه في المدينة ، وكان عددهم ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين ، وما أن وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مهاجراً حتى صار الذين يدافعون عنه أضعاف هذا العدد ، كما إتخذ المهاجرون ذات النهج في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن المدينة وأهلها .
وهل يدافع الأنصار عن المهاجرين أيضاً أم يختص دفاعهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده ، الجواب هو الأول ، وهو من معاني قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) ومن مصاديق مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار قبل معركة بدر .
الثاني : دفاع المسلمين عن آيات القرآن مجتمعة ومتفرقة ، وليس من حصر لوجوه وصيغ هذا الدفاع ، وهل تلاوة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة من هذا الدفاع ، الجواب نعم .
وهو من الإعجاز في الشريعة الإسلامية ، فلا يعلم منافع القراءة في الصلاة إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) .
الوجه الرابع : قوله تعالى [وَرَابِطُوا] لم يرد لفظ [رَابِطُوا]في القرآن إلا في آية البحث .
ومن إعجاز القرآن وجوه :
الأول : معرفة كل مسلم ومسلمة بهذه الكلمة وأنها جزء من القرآن .
الثاني : إدراك معنى هذه الكلمة في الجملة .
الثالث : معرفة المسلمين لحاجاتهم للرباط .
الرابع : تدفع هذه الكلمة الخلاف والخصومة بخصوص الرباط ، وفي هذا الدفع مسائل :
الأولى : تعاهد وحدة المسلمين ليكون قوله تعالى [وَرَابِطُوا] من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) بتقريب أن الأمر بالمرابطة طريق للأخوة الإيمانية ومانع من التفريط بها .
الثانية : بعث الخوف في قلوب المشركين ووصول الأخبار إلى كفار قريش بأن المسلمين يرابطون في الثغور ، وأن هذه المرابطة بأمر من الله عز وجل .
الثالثة : بعث اليأس والقنوط في قلوب كفار قريش ، وإدراكهم لقانون وهو عجزهم عن إرتداد المسلمين .
الرابعة : المرابطة مناسبة ووسيلة للتعاون الإيماني بين المرابطين من القرى والأماكن المتعددة .
الخامسة : في المرابطة ومدتها تفقه في الدين إذ أن المرابطة أمر طارئ وليس بدائم فقد تفضل الله عز وجل على المسلمين بحج بيته الحرام ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
السادسة : قيام المسلمين بتعاهد الرباط باعث على الصبر ، وهو من معاني قوله تعالى [وَصَابِرُوا] فصحيح أن الآية قدمت الأمر بالصبر والمصابرة على المرابطة إلا أنه هناك تداخل بين الصبر والرباط ، ويصح تقدير الآية على وجوه :
الأول : ورابطوا واصبروا حال الرباط .
الثاني : ورابطوا وصابروا وقت الرباط .
الثالث : وصابروا عند إرادة الرباط .
الرابع : وصابروا بعد انتهاء مدة الرباط ، لتكون المصابرة حينئذ بتعاهد الفرائض والعبادات .
الخامس : وصابروا في طاعة الله ورسوله قبل وأثناء وبعد الرباط.
السادس : واصبروا عند المصابرة ، فالذي يدعو إلى الصبر عليه أن يتحلى به ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ]( )، وعن إبن عباس قال : كانوا يقولون : والله لو نعلم ما أحب الأعمال إلى الله فنزلت [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ]( )، إلى قوله [بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ]( )، فدلهم على أحب الأعمال إليه( ).
وقيل نزلت الآية بخصوص بعض الصحابة عندما نزل القرآن بحياة الخلود لشهداء بدر ، فرغبوا في الدفاع ، وعزموا على بذل الوسع ، وحينما وقعت معركة أحد فروا من المعركة ، وفي التنزيل[ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
وورد أن الآية نزلت في الذي يمدح نفسه من دون فعل ، فيقول : طعنتُ، ورميت ، وقتلتُ ، وهو لم يفعل شيئاً في المعركة .
وقيل نزلت في المنافقين الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إن خرجتم وقاتلتم فاننا نخرج معكم ونقاتل( )، فلما جاء المشركون في معركة أحد ، خرج المنافقون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، حتى صاروا في الشوط في منتصف الطريق إلى أحد نكص المنافقون وعادوا إلى المدينة ، وكان رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول يقول حينئذ (علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس)( ).
ليحرض الخزرج والأوس على العودة إلى المدينة ، والإمتناع عن الدفاع عنها وعن النبوة والتنزيل ، وهناك مسألة وهي : لقد عاد مع رأس النفاق نحو ثلاثمائة رجل من أصل ألف خرجوا مع الرسول من المدينة يومئذ ، فهل يحتمل أن شطراً من هؤلاء الثلاثمائة لم يكن ينوي العودة لولا تحريض عبد الله بن أبي .
الجواب نعم ، لبيان أن النفاق من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وظهوراً وخفاءً ، وهل كان عبد الله بن أبي هذا وجماعة من المنافقين على إتصال مع كفار قريش ، واتفاق على المكر بالإنسحاب من وسط الطريق عندما يزحفون على المدينة , الجواب لا دليل عليه , والأصل البراءة .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن أعداءه الذين حاربوه دخلوا الإسلام ، وصاروا يخبرون عن أسرارهم وكيدهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، والسبل والطرائق التي كانوا يؤذون بها المسلمين ، وكيف أنهم يدبرون المكر ويحكمون الخطط ولكن الله عز وجل يصرف كيدهم .
ومن مصاديق قوله تعالى[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ]( ) دخول المشركين الذين قاتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في الإسلام ، وكشفهم للحقائق التي تدل على الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن المشركين كانوا في كل معركة أكثر من ثلاثة أضعاف عدد المسلمين ، أما من جهة الأسلحة والمؤن فان النسبة والأضعاف أكثر.
السابع : وصابروا عند الصبر بالتعاون والمؤازرة فيه (عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه) ( ).
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً إلى الصبر ، ثم تفضل الله بآية البحث ليتعاون المسلمون في الصبر ، بأن يحث كل واحد منهم الآخر على الصبر ، ويرغبّه فيه .
وهل المسارعة في الخيرات والعمل الصالح من الصبر أم أن هذه المسارعة ضد للصبر ، الجواب هو الأول ، إذ أنه صبر في البذل والعطاء في سبيل الله بالمال والجهد , ومن الصبر عدم التواني في فعل الخيرات .
وجاء الأمر المتعدد في آية البحث من وجوه :
الأول : الأمر للمسلمين والمسلمات بالصبر .
الثاني : بعث المسلمين والمسلمات على المصابرة والتآزر فيها .
لتشمل الآية المسلمات بذات المصابرة وبالقيام بحث الرجال على المصابرة وكم من امرأة وقفت خلف رجل فكانت سبباً لتحليه بالصبر والتقوى ، لذا تفضل الله عز وجل وذكر صبر المسلمات على نحو التعيين بقوله تعالى [إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا] ( ).
وجاء قانون الرباط بكلمة واحدة في القرآن وهي [رَابِطُوا]ليدرك المسلمون معاني هذا القانون والمقاصد السامية منه ، وكيفية الإمتثال فيه ، كما جاءت السنة النبوية ببيان أحكام الرباط والترغيب فيه , والترغيب بالثواب العظيم .
عن أنس : قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر المرابط فقال : من رابط ليلة حارساً من وراء المسلمين كان له أجر من خلفه ممن صام وصلى( ).
الثالث : الأمر للمسلمين بالمرابطة في الثغور وتعاهد شرور العدو ، ومنعه من مباغتة أهل المدينة بالهجوم فهل أداء الصلاة يمنعه عن هذه المباغتة ، الجواب نعم ، وتلك آية في دلالات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) .
ومن الإعجاز انطباق مضامين آية البحث على العبادة من جهات :
الأولى : ابتداء الآية بنداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الذي يدل بالدلالة التضمنية على أداء المسلمين والمسلمات الصلاة ووجوه العبادات الأخرى ، وتقدير الآية في المقام على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا اصبروا بأداء العبادات .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا اصبروا على العبادات وفيه دعوة للناس للكف عن محاربة المسلمين .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا صابروا على المستحبات .
لقد كان المسلمون حديثي عهد بالصلاة وأداء الفرائض العبادية ، وهم من قبائل ومدن شتى ، فيلزم التخلي عن عادات الجاهلية والإنقياد إلى الأوثان .
وحينما جاء وفد ثقيف من الطائف إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد قدومه من تبوك في شهر رمضان من السنة التاسعة للهجرة ، وكان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة ، فانزلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند المسجد ليروا كثرة المسلمين واجتهادهم في طاعة الله وحبهم للعبادة ، وحال الخشوع التي يتصفون بها فترق قلوب وفد ثقيف .
قالوا : نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال ؟
قال : ما هن( ).
أي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغضب ، ولم يطلب منهم دخول الإسلام من دون شروط ، وفيه سعادة الدارين قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا]( ).
وهل هذا من معجزات النبوة ، الجواب نعم ، فلا يخشى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سماع شروط دخول الإسلام ، فذكر وفد ثقيف شروطهم وهي :
الأول : عدم الإنحناء في الصلاة ، أي أنهم رضوا بأداء الصلاة ، ولكن من غير ركوع وسجود لأنهم يظنون أن هذا الإنحناء مسبّة عليهم .
الثاني : لا يكسر رجال ثقيف أصنامهم بأيديهم أي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث من يقوم بكسر أصنامهم .
الثالث : التمتع ببقاء صنم اللات سنة ، وهو وثن عبدته ثقيف وأصله صخرة كان يجلس عليها رجل يبيع السمن واللبن لحجاج بيت الله الحرام وقيل اللات اسم رجل من ثقيف اسمه صرمة بن غنم كان يلّن السويق للحجاج ، والسويق هو عجين من طحين القمح والدهن الحيواني ، فلما مات ، قالوا لم يمت ولكنه دخل في الصخرة ، وقد ورد ذكر اللات في القرآن ولمرة واحدة بقوله تعالى [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى] ( ) .
وفيه بيان وحجة لفضل الله عز وجل على الناس في أجيالهم المتعاقبة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فأجابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص المسألة الأولى : لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود ) ( ) أي لابد لكل مكلف من الركوع والسجود وكل منهما ركن من أركان الصلاة ، لبيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تثبيت الصلاة وأركانها وأجزائها ز
وهل يشمل قول النبي (صلوا كما رأيتموني أصلي)( ) وفد ثقيف , الجواب نعم .
وأجابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسألة الثانية ، وقال لهم لكم ألا تكسروا أصنامكم بأيديكم ، ويدل ذكر الأصنام بصيغة الجمع (أصنامكم) على كثرة أصنام ثقيف ، وأن اللات أكبرها وأظهرها ، ثم أخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لا يرضى لهم البقاء على تقديس وطاعة اللات ولو ليوم واحد .
وهل يحتاج وفد ثقيف آية البحث ليعملوا بأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، فمن إعجاز الآية القرآنية حاجة المسلمين والناس لها في كل زمان وتتعدد الحاجة لآية البحث مع كثرة الأوامر فيها ، وكل أمر يلزم العمل بصفة المفرد والجماعة ، فعلى المسلم أن يصبر ويصابر ويرابط ويتقي الله في سنن العبادة والصلات العامة وأموره الخاصة ، وعليه أن يمتثل للأوامر الإلهية الواردة في آية البحث بصفته فرداً من الجماعة والأمة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
ومن إعجاز القرآن توجه مضامين الآية القرآنية إلى المسلم والمسلمة حالما يدخلان الإسلام ، ثم تصاحبهما ولا تفارقهما ، وهل تدخل هذه الآيات القبر مع المسلم ، الجواب نعم ، إذ تكون شفيعاً له ، وواقية من شدة حساب منكر ونكير .
وفي حديث عن أنس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : في قبض الأرواح ومنه ( فإذا قَبض ملك الموت روحه، قالت الروح للجسد: جزاك الله عني خيرا، فقد كنت سريعا بي إلى طاعة الله، بطيئا بي عن معصية الله، فقد نجيت وأنجيت”. قال: “ويقول الجسد للروح مثل ذلك”.
قال: وتبكي عليه بقاع الأرض التي كان يطيع الله فيها، وكل باب من السماء يصعد منه عمله. وينزل منه رزقه أربعين ليلة”.
قال: فإذا قَبَض ملك الموت روحه، أقامت الخمسمائة من الملائكة عند جسده، فلا يقلبه بنو آدم لشق إلا قلبته الملائكة قبلهم، وغسلته وكفنته بأكفان قبل أكفان بني آدم، وحنوط قبل حنوط بني آدم، ويقوم من بين باب بيته إلى باب قبره صفّان من الملائكة، يستقبلونه بالاستغفار، فيصيح عند ذلك إبليس صيحة تتصدع منها عظام جسده.
قال: ويقول لجنوده: الويل لكم. كيف خَلَص هذا العبد منكم، فيقولون إن هذا كان عبدا معصوما.
قال: فإذا صعد ملك الموت بروحه، يستقبله جبريل في سبعين ألفا من الملائكة، كل يأتيه ببشارة من ربه سوى بشارة صاحبه”. قال: “فإذا انتهى ملك الموت بروحه إلى العرش، خَرّ الروح ساجدا”. قال: “يقول الله، عز وجل، لملك الموت: انطلق بروح عبدي فضعه في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، وماء مسكوب.
قال: فإذا وضع في قبره، جاءته الصلاة فكانت عن يمينه، وجاءه الصيام فكان عن يساره، وجاءه القرآن فكان عند رأسه، وجاءه مشيه إلى الصلاة فكان عند رجليه، وجاءه الصبر فكان ناحية القبر”. قال: “فيبعث الله، عز وجل، عُنُقًا من العذاب.
قال: فيأتيه عن يمينه” قال: “فتقول الصلاة: وراءك والله ما زال دائبا عمره كله وإنما استراح الآن حين وضع في قبره”. قال: “فيأتيه عن يساره، فيقول الصيام مثل ذلك”. قال: “ثم يأتيه من عند رأسه، فيقول القرآن والذكر مثل ذلك”.
قال: “ثم يأتيه من عند رجليه، فيقول مشيه إلى الصلاة مثل ذلك. فلا يأتيه العذاب من ناحية يلتمس هل يجد مساغًا إلا وجَد ولي الله قد أخذ جنته”. قال: “فينقمع العذاب عند ذلك فيخرج”. قال: “ويقول الصبر لسائر الأعمال: أما إنه لم يمنعني أن أباشر أنا بنفسي إلا أني نظرت ما عندكم، فإن عجزتم كنت أنا صاحبه، فأما إذ أجزأتم عنه فأنا له ذخر عند الصراط والميزان.
قال: ويبعث الله ملكين أبصارهما كالبرق الخاطف، وأصواتهما كالرعد القاصف، وأنيابهما كالصياصي، وأنفاسهما كاللهب، يطآن في أشعارهما، بين مَنْكِب كل واحد مسيرة كذا وكذا، وقد نزعت منهما الرأفة والرحمة، يقال لهما: منكر ونكير، في يد كل واحد منهما مطرقة، لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يُقلّوها”.
قال: “فيقولان له: اجلس”. قال: “فيجلس فيستوي جالسا”. قال: “وتقع أكفانه في حقويه”. قال: “فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك.
قالوا: يا رسول الله، ومن يطيق الكلام عند ذلك، وأنت تصف من المَلَكَين ما تصف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ]( ).
قال: فيقول: ربي الله وحده لا شريك له، وديني الإسلام الذي دانت به الملائكة، ونبيي محمد خاتم النبيين”. قال: فيقولان: صدقت، قال: فيدفعان القبر، فيوسعان من بين يديه أربعين ذراعا، وعن يمينه أربعين ذراعا، وعن شماله أربعين ذراعا، ومن خلفه أربعين ذراعا، ومن عند رأسه أربعين ذراعا، ومن عند رجليه أربعين ذراعا”. قال: “فيوسعان له مائتي ذراع( ).
فلو اسلم رجل أو امرأة في ليلة من ليالي شهر رمضان فعليهما أن يصوما اليوم التالي ، نعم لا يجب الصيام على الحائض والنفساء ولكن عليهما القضاء ، يوما بيوم , ووفاء دين الصوم .
وتخاطب آية البحث المسلمين بالصبر عن الهجوم والغزو مثلما تدعوهما للصبر في طاعة الله ، والصبر عن المعصية .
إنما جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وإختبار ، وإبتلاء وتفضل وأنزل الكتب السماوية لإضاءة طرق الهداية للناس ، ومنع الزيغ عن الجادة والصواب .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلاوة كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم والليلة وعلى نحو الوجوب العيني [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) .
وهل يصح قول المسلم وبصيغة المفرد (اهدني الصراط المستقيم) الجواب نعم إذا كان خارج الصلاة وبقصد الدعاء والسؤال وليس القرآنية وفيه ترك للأولى لأن منافع صيغة الجمع في(اهدنا) أكثر من أن تحصى وتفيض بركاتها على كل من :
الأول : الحاضر والغائب .
الثاني : الأحياء عند التلاوة .
الثالث : الأموات من ذوي وأهل التالي لقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، وكذا قراءة سورة الفاتحة مطلقاً , وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قرأ آية من كتاب الله في مقبرة من مقابر المسلمين أعطاه الله ثواب سبعين نبياً.
الرابع : الذين لم يولدوا من ذراري المسلمين .
وذات الإنشغال في تلقي الآية القرآنية وتلاوتها ومعرفة تفسيرها ، والمقاصد السامية منها وتعاهد أداء الصلاة من أسباب امتناع المسلمين عن الغزو والهجوم والقتال ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن ذخائره من أشرف العلوم وصيغ التحصيل في كل زمان ، وفي التنزيل [يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
وربط الدابة : شدها بالرباط ويقال : قطعت الدابة رباطها ومربطها ، ويقال : الفرس في مربطه ، والخيل في مرابطها ، قال :
(فينا رباط جياد الخيل معلمةً … وفي كليب رباط اللؤم والعار) ( ) .
ويقال ربط يربط ربطاً .
والرباط : المداولة على الشئ .
ويقال رجل رابط الجأش للذي يتصف بالحزم ، ولا يهتز ويفزع عن الرّدع ، قال لبيد :
رابِطُ الجأش على فَرْجِهِمُ … أَعْطِفُ الجَوْنَ بمَرْبُوعٍ مِتَلّ( ).
ومن الإعجاز في آية البحث تقديمها الأمر بالصبر بقوله تعالى [اصْبِرُوا] على المصابرة والمرابطة لبيان أن الحاجة الخاصة والعامة إلى الصبر ، وأن المرابطة أمر مؤقت ينقطع بزوال خطر مداهمة المشركين للمدينة وأطرافها ، وهل في تقديم الصبر في آية البحث بشارة تحقق هذا الإنقطاع ، الجواب نعم.
ومن الآيات في المقام وقوع هذا الإنقطاع على نحو التدريج إذ تبدأ بجلاء من معركة بدر في تحقيق النصر المبين للمسلمين ، والخسارة الفادحة للذين كفروا ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
ليكون من معاني النصر في الآية أعلاه منعة المسلمين في ثغورهم ، وعدم الإنصات إلى المنافقين في تحريضهم على القعود ، قال تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ) إذ يؤدي القعود إلى طمع الذين كفروا بثغور المسلمين واعتدائهم عليها ، وبعث الفزع والخوف في نفوس المسلمين وعوائلهم .
ثم جاءت معركة أحد التي وإن خسر المسلمون فيها سبعين شهيداً إلا أنها أثبتت ثبات المسلمين في ثغورهم ومصرهم الوحيد المدينة بصبغة الإيمان ، وفيها شاهد صدق على ذبّ ودفاع الأنصار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معاني آية البحث الملازمة بين الإيمان والصبر ، فما أن يؤمن الإنسان بالله ورسوله وكتبه حتى يتوجه إليه الأمر بالصبر والحاجة إليه (وعن الإمام علي عليه السلام : الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، إذا قطع الرأس نتن باقي الجسد ، ولا إيمان لمن لا صبر له) ( ).
فان قيل إذا كانت الملازمة بين الإيمان والصبر جلية فلماذا جاءت الآية بالأمر بالصبر بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا] ( ).
الجواب لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وأراد سبحانه في آية البحث بيان قانون الملازمة بين الإيمان والصبر ، وهداية المسلمين للعمل بأحكامه وسننه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ).
فمن ضمن التعليم الوارد في الآية أعلاه تعليم المسلمين أصول وفروع الدين وأحكام الشريعة وآية البحث من اللطف الإلهي بتقريب المسلمين إلى سبل الطاعة ، وجذبهم إلى مسالك الإيمان وجعلهم يرتقون في سلم أداء العبادات بأن يجمعوا بين :
الأول : الإيمان وتعاهده ، وقال تعالى بخصوص الأعراب [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
الثاني : التحلي بالصبر وحبس النفس في إتيان الوظائف العبادية ، والإمتناع عن إرتكاب المعاصي والسيئات .
الثالث : المصابرة والتحمل والمناجاة بالصبر ورجاء الفرج من عند الله سبحانه ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ] ( ).
ومن معاني قوله تعالى [وَصَابِرُوا] أي اظهروا الصبر في لقاء المشركين ، وليكن صبركم في الثغور ومواطن الدفاع أكثر منهم .
وهل يدل قوله تعالى [وَصَابِرُوا] على عدم الغزو والهجوم ، الجواب نعم ، لأن المصابرة إقامة في الموضع ، وحتى في حال الهجوم فهي تعني في ظاهرها الدفاع وصد العدو .
وليس من حصر لمصاديق الرباط في قوله تعالى [وَرَابِطُوا] من وجوه :
الأول : ورابطوا في الثغور .
الثاني : ورابطوا على الخيل ، أي وإن لم تكونوا في الثغور ، لبيان حاجة أهل الثغور والمرابطين إلى المدد من داخل وعمل المصر .
الثالث : ورابطوا بالمسارعة لنجدة أهل الثغور .
فقد يرى كفار قريش قلة عدد المسلمين في الثغور فيطمعون فيهم ، ويهجمون عليهم ، ، ويقتلون بعضهم ويأسرون بعضاً منهم ، فجاء قوله تعالى [وَرَابِطُوا] أي أنصروا إخوانكم في الثغور .
وأصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه إلى بني محارب وبني ثعلبة عبداً اسمه يسار( )، فدخل الإسلام وحسن اسلامه ، وأخذ يؤدي الصلاة ويحرص على إتقانها فاعتقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعثه في ابل له كانت ترعى في ناحية الجمّاء على بعد نحو أربعة كيلو متر على يمين المتجه الى مسجد الشجرة.
وقدم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة السادسة للهجرة جماعة ، منهم أربعة من عربنة وأربعة من عكل وقيل أربعة من عرينة ، وثلاثة من عكل ، وأربع من غير هاتين القبلتين .
وأعلنوا اسلامهم ، وكان بهم هزال شديد وضعف ، مع كبر وانتفاخ في بطونهم ، وكان الإجهاد ظاهراً عليهم فقالوا ، يا رسول الله آونا وأطعمنا فأقاموا في الصفّة ، وهي ظلة مجاورة للمسجد النبوي يقيم فيها فقراء المهاجرين فتحسنت صحتهم ، وصلحوا ، ولكنهم استوخموا المدينة ( )، ولم يعتادوا على ما فيها من الرطوبة وظنوا رداءة المناخ لأنهم أصحاب إبل وشاء ، ومن أهل البادية فشكوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن أنس أنهم قالوا : يا رسول الله، إنا أهل ضَرْع، ولم نكن أهل ريفٍ، وإنا استوخمنا المدينة، فأمر لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بِذَوْدٍ وراعٍ، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها( ).
وقولهم لم نكن أهل ريف أي لسنا أهل زراعة وسكن في الحضر الشامل للمدينة والقرى والمساكن التي تقارب الماء والأنهار ، فلما خرجوا قاموا بقتل الراعي وهو يسار ورعاة معه قال ابن كثير : فخرجوا فقتلوا الراعيين وذهبوا بالإبل( ).
وقيل حينما عزموا على أخذ الإبل لحقهم يسار ومن معه ، فقاتلهم (فأخذوه وقطعوا يده ورجله ، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات. وانطلقوا بالسرح( ).
وذكر أنهم سملوا أعين الرعاة وتركوهم من ناحية الحرة يعضون الحجارة حتى ماتوا .
ومرت امرأة من بني عمرو بن عوف على حمار لها فرأت يساراً ميتاً تحت شجرة ، فرجعت إلى قومها فأخبرتهم ، فخرجوا إلى يسار ، وجاءوا به محمولاً إلى قباء ، وأخبروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بقتل يسار ، وبأخذ الإبل .
فأرسل من ساعته في طلبهم عشرين فارساً عليهم كرز بن جابر الفهري ، فساروا حتى أدركهم الليل وعندما أصبحوا احتاروا إلى جهة يتوجهون ، وليس من أثر يقتفونه لطلب هؤلاء القوم الذين قتلوا الرعاة وسرقوا الإبل ، فبينما هم كذلك وإذا بامرأة تحمل كتف بعير ، فسألوها : ما هذا الذي معك ، قالت : مررت بقوم قد نحروا بعيراً فاعطوني ، فصارت عندهم أمارة وعلامة ، قالوا : أين هم ، قالت : هم بتلك القفار من الحرة ، وأبلغتهم بأنهم حالما يوافون الموضع يرون دخانهم من بعير لأنهم منكبون على الشواء والأكل فساروا فوصلوا إليهم وقد فرغوا من طعامهم ولم يكونوا على حال استعداد للقتال ، فسألوهم أن يستأسروا فنظروا إلى عشرين فارساً أحاطوا بهم ، وهم عددهم ثمانية وأسلحتهم ليست قريبة منهم ، وقد ملاؤا بطونهم من المال الحرام ، ولحوم الصدقة وقد قال تعالى[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( )، لبيان أن الذي يغصبها غصباً وأكلها بغير حق يعجل الله ويسفك الدماء يعجل له الله عز وجل العقاب وهذا التعجيل من مصاديق العذاب في قوله تعالى[وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
فرضوا بالأسر ، وسلّموا أنفسهم جميعاً من غير قتال ، فقام الصحابة بربطهم ، وأردفوهم على الخيل فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد خرج إلى الغابة .
وتقع الغابة شمال المدينة المنورة ، وغربي جبل أحد وشهداء معركتها ، وكانت أرض سبخة تنموا فيها شجيرات من الأثل والطرفاء وسميت الغابة لكثافة الأشجار فيها ، ولم يبق منها في هذا الزمان إلا شجيرات ، وصارت أجزاء كثيرة منها مزارع ، وطالها العمران ومن اثل وطرفاء الغابة صنع منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن سهل بن سعد قال : ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقوم الجمعة إذا خطب إلى خشبة ذات فرضتين، قال: اراها من دومٍ كانت في مصلاه فكان يتكيء إليها، فقال له أصحابه: يا رسول الله، إن الناس قد كثروا فلو اتخذت شيئاً تقوم عليه إذا خطبت يراك الناس؟ فقال: ما شئتم، قال سهل: ولم يكن بالمدينة إلا نجار واحد فذهبت أنا وذاك النجار إلى الخافقين فقطعنا هذا المنبر من أثلة، قال: فقام عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، فحنت الخشبة، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: ألا تعجبون لحنين هذه الخشبة؟ فأقبل الناس وفرقوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم، فنزل النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى أتاها فوضع يده عليها فسكنت، فأمر النبي، صلى الله عليه وسلم، بها فدفنت تحت منبره أو جعلت في السقف( ).
ولما أحضروا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتلهم قال الواقدي ، وحدثني ابن بلال، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، قال: لم يقطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لساناً قط، ولم يسمل عيناً، ولم يزد على قطع اليد والرجل( ).
وهل خروج الرعاة المسلمين بالإبل حول المدينة من مصاديق قوله تعالى [وَرَابِطُوا]أم لابد من تحقق مصداق الثغور والتفرغ للمرابطة وأخذ الأهبة للقتال ، الجواب هو الأول ، إذ كان الرعاة من الصحابة ، وكانوا يرصدون الطرق ومداخل المدينة ويتحرون أخبار العدو ، وقد يحتاج الركبان الرعاة لشرب اللبن والأكل مما عندهم من تمر المدينة .
ومن خصائص تلك الأزمنة أن الرعاة لا يمتنعون عن سقي المسافرين والركبان ومن يحضر للشرب من اللبن والحليب ، إذ يتم في الأثناء تبادل أطراف الحديث وتلاوة الرعاة القرآن ، وذكر أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جرت على يديه ، وهو نوع مقدمة ليسرد الوافد أخبار قريش .
ومن الآيات في إصلاح النفوس للنبوة والدعوة إلى الله نفرة الناس من ظلم وجور الظالمين ، وإصرارهم على التعدي والغزو ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
ليزحف المشركون من جديد في معركة الخندق ، ولكن بجيوش كبيرة لم تشهد لها الجزيرة مثيلاً إلا في حالات نادرة منها غزو أبرهة ، إذ حضر بعشرة آلاف رجل مع أنه قياس مع الفارق ، لأن أبرهة وجيشه جاءوا من خارج الجزيرة ، ومن مدن شتى ، وعجزت قريش عن إعداد جيش لملاقاة أبرهة وجيشه ولجأوا إلى رؤوس الجبال .
وكان أبرهة بن الصباح بني بيعة بيضاء عالية واسمها القليس (وقال مقاتل : تسمى الهيكل) ( ) وكتب إلى النجاشي بعزمه على صرف العرب ليحجوا إليها وانتشر خبر هذه البيعة وأن أبرهة أرادها بديلاً عن البيت الحرام ، فخرج رجل من كنانة إلى اليمن ودخل القليس ليلاً وأحدث فيها لإرادة هتكها والإستخاف من أمرها.
وذكر (أن فتية من قريش خرجوا إلى أرض الحبشة تجاراً ، فنزلوا على ساحل البحر على بيعة النصارى في حقف من أحقافها ، قال الكلبي تسمى البيعة ما سرجيان ، وقال مقاتل : تسمى الهيكل ، فأوقدوا ناراً لطعامهم وتركوها وارتحلوا فهبت ريح عاصف فاضطرمت البيعة ناراً فاحترقت ، فأتى الصريخ إلى النجاشي فأخبره ، فاستشاط غضباً ، وأتاه أبرهة بن الصبّاح وحجر بن شراحبيل وأبو يكسوم الكِنْديون ، وضمنوا له إحراق الكعبة وسبي مكة .
وكان النجاشي هو الملك ، وأبرهة صاحب الجيش ، وأبو يكسوم نديم الملك وقيل وزيره ، وحجر بن شراحبيل من قواده ، وقال مجاهد : أبو يكسوم هو أبرهة بن الصبّاح ، فساروا بالجيش ومعهم الفيل ، قال الأكثرون : هو فيل واحد ، وقال الضحاك : كانت ثمانية فيلة) ( ).
فبلغ الأمر أبرهة فحلف بالله ليسير إلى الكعبة فيهدمها ، وجند الجيوش والأحابيش وسيّر معه الفيلة ، وكان دليله أبا رغال وجعل على مقدمة خيله رجلاً من الحبشة اسمه الأسود بن مقصود ( )، فانتهى إلى مكة وساق أموال أهلها من غير مقاومة تذكر ، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو كبير قريش يومئذ ، وتعد هذه الإبل ثروة عظيمة آنذاك .
(فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم من سائر الناس بقتاله ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك) ( ).
ولكنه قياس مع الفارق بالنسبة لجيش المشركين الذي زحف في الأحزاب إذ أن جميع أفراده من أهل مكة والقبائل الموالية لها .
ومن خصائص الرباط تكثير سواد المسلمين وبيان كثرتهم وإن كان هو ذات العدد في الأصل ، ولكن بدل أن يكون المسلمون متفرقين في محلاتهم ومزارعهم ومساجد المدينة والمحلة ، وفي المنتديات والبيوت تراهم يأتون من كل صوب وحدب إلى الثغر ، ليس للغزو والهجوم إنما للدفاع ودفع ذات الدفاع ، أي مع وجود المسلمين في الثغور فلا يلزم الأمر منهم الدفاع ، إذ يكف الذين كفروا عن الغزو وعن الهجوم.
وهل من موضوعية للرباط في قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ] ( ) الجواب نعم ، إذ إنزجر الذين كفروا بتحذير الله للمسلمين والتنبيه من إحتمال مفاجئة ومباغتة الذين كفروا ، كما منع الله المسلمين من الغزو ومن التعدي ، قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
وإذا كان الرباط مختصاً بالقادرين عليه من الرجال ، فلماذا ورد الخطاب في آية البحث بصيغة الجمع ويتوجه إلى المسلمين وهو الأمر بالصبر والمصابرة بعرض واحد ، الجواب لإرادة بيان اشتراك عموم المسلمين والمسلمين في الرباط ومقدماته وتهيئة أسبابه من جهات :
الأولى : قيام عامة المسلمين والمسلمات بالحث على المرابطة والإنفاق فيه والصبر في الثغور ، وهذا الحث من الأمر بالمعروف .
الثانية : حرص المسلمين والمسلمات على ترك الثغور مكشوفة وخالية من الحراسة .
الثالثة : قيام المسلمين وعموم عوائل المسلمين بالنهي عن القعود عن رصد كفار قريش في الثغور ، وهو من النهي عن المنكر ، ويكون كل من الأمر والنهي أعلاه من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
قانون مدة الرباط
لقد بنيت الأحكام الشرعية على التيسير والتخفيف ، فان قلت تسمى التكاليف ، والجواب هذه التسمية استقرائية من بعض الفقهاء والأصوليين لبيان ما فيها من جانب الكلفة والتعب والعناء ، وللتذكير بما فيها من الأجر والثواب ، أي أن تسميتها بالتكاليف لتأكيد العناء والجهد في أداء الصلاة والصوم والحج ، وتحمل إخراج المال في العبادات المالية كالزكاة والخمس ، والمراد بيان عظيم ثوابها ، قال تعالى[فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ]( ).
وهل أداء العبادات من الصبر الجميل في قوله تعالى [فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً]( )، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : أداء العبادات حرب على الشرك ومفاهيم الضلالة.
الثانية : أداء العبادات ، كالصلاة في أوقاتها إزاحة للفسوق وأسباب الفساد في الأرض .
لقد كان الفساد والقتل سبباً لإحتجاج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وهم الذين ينقطعون إلى التسبيح والتهليل وضروب العبادة ، وهناك مسائل :
الأولى : هل لأكل آدم وحواء من الشجرة موضوعية في احتجاج الملائكة هذا ، وإن كان هذا الأكل قد وقع بعد خلق آدم وحواء .
الثانية : هل أراد الملائكة أن يكونوا هم الخلفاء في الأرض ، أو أنهم سألوا الله عز وجل بخلق صنف منهم ليكونوا الخلفاء فيها ، فتعمر بالتسبيح والدعاء والتنزه عن الفساد .
الثالثة : هل كان رجاء الملائكة ألا يكون خليفة في الأرض .
أما المسألة الأولى ، فلم يكن لهذا الأكل موضوعية في الإحتجاج الذي إنحصر بسوء فعل طائفة من الناس في الأرض لقوله تعالى[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وتقدير الآية : اتجعل فيها من بين الناس من يفسد فيها ويسفك الدماء، أي أن إحتجاج الملائكة لم يكن على وجود آدم وحواء والأنبياء وعموم الصالحين في الأرض ، بدليل أنهم احتجوا على سفك الدماء لإرادة شكاية الملائكة إلى الله من تعرض الأنبياء والذين آمنوا للقتل لإيمانهم وصبرهم في مقامات التقوى.
وهل منه جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، الجواب نعم لأن سفك الدماء في الآية أعم من أن ينحصر بالقتل ، فيشمل جنايات الأعضاء والجراحات وأسر وحبس المؤمنين عند مشركي قريش .
وأما الثانية فلا دليل على أن الملائكة أرادوا الخلافة لأنفسهم لتنزههم عن الطمع ، وعن الخروج عن طاعة الله في القول والفعل ، إنما أرادوا أن يكون الناس بذات الخصال الحميدة التي يتصف بها الملائكة ، وأن يعمر الناس الأرض بالعبادة والذكر كما يعمر الملائكة السماء بالتسبيح والتقوى.
وأما المسألة الثالثة فالجواب لا ، فقد استبشر الملائكة بخلق جنس الإنسان وأرادوا له الصلاح ، إذ أن قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، عيد للخلائق كلها.
فجاء الجواب من عند الله عز وجل بأنه سبحانه هو الذي يعلم ما يعلمه الملائكة ، ثم جاءت الآية التالية التي بعدها لتبين جانباً من علم الله عز وجل في المعرفة والعلم الذي يتصف به الخليفة في الأرض بأن علّم الله عز وجل آدم الأسماء واستطاع آدم أن يعلمها ويفهمها وبطبعه كل اسم على المعنى الذي وضع له.
لقد كان كلام الملائكة سؤالاً ورجاءً وليس استفهاماً انكارياً أو إحتجاجاً أو جدالاً ، فتفضل الله عز وجل وألقى السكينة عليهم باخباره بأنه يعلم بعمارة الإنسان والأرض بالعبادة بالإختيار وحبس النفس عن المعاصي طاعة لله عز وجل ، ورجاء لقائه بالعمل الصالح قال تعالى[إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا]( )، ومنه الرباط وتناوب المؤمنين عليه من العمل الصالح ، وفيه منع من الفساد في الأرض وزجر للمشركين عن الظلم والتعدي على الثغور وعلى الأنعام.
ومن الآيات والحجة أن المشركين لم يقوموا بحرق زراعات أهل المدينة وهل كانوا يتنزهون عن هذا الحرق ، الجواب لا ، إنما هو من الفساد والظلم والإضرار الذي يقصده مشركوا قريش ، ولكنهم كانوا يعجزون عن الوصول الى زراعات أهل المدينة لإقامتهم عليها ، وحراستهم لها.
وهل هذه الحراسة من الرباط ، الجواب نعم ، اذا كانت بقصد الأمن من المشركين.
إن آية الرباط وعمل المسلمين بمضامينها القدسية نعمة عظمى على المسلمين والناس جميعاً ، وهي واقية من الغزو من الطرفين إذ أن الغزو نوع مفاعلة من وجوه :
الأول : الغازي .
الثاني : الغزو .
الثالث : موضوع الغزو .
الرابع : المغزو .
وإذا قام المشركون بغزو المسلمين ، يؤثم المشركون ، أما إذا غزا المسلمون المشركين فان المسلمين لهم الأجر والثواب اذا كان الغزو بأمر من الله ورسوله وهو من عمومات قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، لأنه نوع دفاع ، وزجر للمشركين عن الهجوم على المسلمين ، ولكن هذا الغزو لم يتم ويتوالى ، إنما تضمنت آية البحث الأمر بالرباط ، وهو دفع للغزو وأسبابه ومقدماته من الطرفين ، فكأن الآية تقول للمسلمين أموراً :
الأول : رابطوا تستغنوا عن الغزو .
الثاني : الصبر في الرباط تخفيف ومانع من الصبر في القتال الذي هو أشد.
الثالث : رابطوا فان النصر مع الرباط .
الرابع : رابطوا ليمتنع المشركون عن غزوكم .
الخامس : رابطوا فان الرباط جامع للعز والتخفيف ، قال تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
السادس : رابطوا بالخيل والسلاح في سبيل الله ، إذ أن الأصل في الرباط هو ربط الخيل.
ويتناوب المسلمون في الرباط في الثغور ، وملازمة الموضع الذي يفصل بين المسلمين والمشركين ، فيأتي فوج ليستلم من الفوج الذي قبله .
وحد مدة الرباط من جهة الكثرة أربعون يوماً ، وليس له حدّ من جهة القلة ، وعن سهل بن سعد أن رسول الله قال : رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها( ).
وفيه شاهد بصدق وصحة الرباط إذا كان يوم وليلة ، وإن لم تكن هناك أسباب للخطورة والأذى أو مناوشات بالسهام ونحوها مع المشركين وهل يشمل الرباط الخطوط الخلفية أم لا بد أن تكون المرابطة في الخطوط الأمامية المواجهة للعدو ، الجواب هو الأول ، والمدار على الصدق العرفي لملازمة الثغور .
وعن الإمام الباقر والصادق عليهما السلام قالا : الرباط ثلاثة أيام ، وأكثره أربعون يوماً ، فاذا جاوز ذلك فهو جهاد.
أي تسمى المرابطة جهاداً مع عدم وقوع قتال فيها ، وقد يستمر الرباط لسنوات من غير أن يحصل قتال مع المشركين فيه ، وللإمام زين العابدين دعاء خاص لأهل الثغور في أيام الدولة الأموية ويبتدأ بالدعاء : اللهم صل على محمد وآله ، وحصن ثغور المسلمين بعزتك وأيد حماتها بقوتك ، وأسبغ عطاياهم من جدتك ، اللهم صل على محمد وآله ، وكثر عدتهم ، واشحذ أسلحتهم واحرس حوزتهم ، وامنع حومتهم ، وألف جمعهم ، ودبر أمرهم ، وواتر بين ميرهم ، وتوحد بكفاية مؤنهم ،واعضدهم بالنصر ، وأعنهم بالصبر( ).
ومن خصائص الرباط أنه مناسبة لتفقه المسلمين في الدين وتعاهد الصلاة في أوقاتها ، وهل فيه دعوة للإيمان ، الجواب نعم ، إذ أن التماس والتقارب بين المسلمين وأفراد المشركين في الثغور مناسبة لبيان معجزات النبوة وتلاوة الآيات ، وقد يظن ويسعى بعض المشركين لإرتداد المسلمين الذين في الثغور ، فيكون الصبر على الإيمان في الثغور نوع جهاد ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( )، وقال بعض الفقهاء أقل الرباط ساعة أي المسمى والوقت القليل وليس المراد من الساعة هو الوقت المحدد في عرف هذا الزمان بستين دقيقة ، لإرادة صرف الطبيعة وتحقق مصداق المسمى .
إن كفاية المسمى من الرباط شاهد على التخفيف في الإسلام ، وعلى تفضل الله عز وجل بصرف كيد الكفار وإصابتهم بالوهن والضعف ، وهو بشارة فتح مكة وما حولها وليتوجه المسلمون الى ميدان الحمل والزراعة والكسب وإعمار مدنهم وقراهم وعدم الإحتشاد في الثغور ، والإنفاق عليهم وعلى خيلهم ودوابهم من بيت المال.
ومنهم من قيد موضع الرباط بأن يكون غير الوطن ، ولا دليل على هذا الشرط ، فلو كان المسلم يقيم في مدينة أو قرية هي ثغر وحد بينهم وبين كفار قريش ونحوهم فانه رباط.

قانون الرباط
من خصائص الإنسان ملازمة الحاجة له في ليله ونهاره ، وبعث الله الأنبياء ليخبروا الناس جميعاً بأن حاجتهم في الآخرة أكبر وأعظم من حاجتهم في الدنيا مع بيان وتفضيل ، وذكر أهوال يوم القيامة وعالم الجزاء بما يجعل الناس على اختلاف مشاربهم ، وتباين مداركهم يدركون هذه الحقائق ، وتكون حجة عليهم ، قال تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
وبين الحراسة والرباط عموم وخصوص مطلق ، فكل رباط هو حراسة وليس العكس .
لقد جاء القرآن بالأمر العام للمسلمين بالرباط في ذات الآية التي أمرتهم بالصبر بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، إذا كان الصبر قانوناً ملزماً لكل مسلم ومسلمة فان الرباط خاص بالقادرين عليه وبمقدار الحاجة إليه ، وهي بعد صلح الحديبية مثلاً أقل منها وهو من الشواهد على التخفيف عن المسلمين مع تقادم الأيام ، وأسرار تضمن معنى الرباط تعاهد الصلاة باوقاتها ، وترقب حلول أوان الفريضة التالية عند أداء صاحبة الوقت ، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
لقد نزلت آية البحث بالأمر الذي يلزم الوجوب ، وأن الرباط في الثغور قانون مصاحب للمسلمين ، وفيه تخفيف عنهم وعن الناس ، إلى جانب الثواب العظيم المترشح عنه.
وهل يختص هذا الثواب بعالم القبر ويوم القيامة الجواب لا ، فمن معاني ملكية الله المطلقة للسماء والأرض ، قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، أن الله عز وجل يثيب المؤمنين الذين يطيعونه ثواباً عاجلاً في الدنيا ، ليكون مرآة ومقدمة للثواب العظيم في الآخرة ، وترغيباً وتذكيراً به ، وهل هو من عمومات قوله تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
بلحاظ أن الرباط والثواب عليه من الرزق وثوابه من الثمر في الدنيا ،والجواب لا دليل عليه لتعلق المشابهة في الآية بالثمار والفواكه .
ومن معاني المرابطة الإرصاد لمعرفة حركة العدو وتهيئة للقتال أو عدمه وإنشغاله بالمكاسب والحياة اليومية ، وقد يميل إلى المكر والخديعة في المقام ، فيكون الرباط رصداً له عن قرب وفطنة ويقظة وحذراً ، وابتعاداً عن الغفلة ، قال تعالى [وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ] ( ) أي اقعدوا للمشركين في الثغور وكل طريق لمنع إنبساطهم في الأرض ، وقيامهم بالغزو والهجوم على بلاد المسلمين .
ولم يرد لفظ [مَرْصَدٍ] في القرآن إلا في آية البحث لبيان البشارة بأن القتال مع المشركين إلى نقص وزوال ، وأن قوتهم تتضاءل وتضعف ، فبعد أن زحف المشركون في معركة بدر ، في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة بنحو ألف من المقاتلين ، وفي معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة بثلاثة آلاف رجل ، ووقع القتال في كل من المعركتين ، كما في قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) الخاص بالقتال بمعركة بدر ، لتأتي الآيات القرآنية والسنة النبوية والأخبار لتبين أن المشركين هم الذين أصروا على القتال وأنهم لاقوا الخزي والخسارة الفادحة يومئذ ، ومن الآيات في المقام قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
وجاء قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا] ( ) وقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) بخصوص معركة أحد ، وهل يدل الجمع بين الآيتين أعلاه على الملازمة بين إنهزام طائفة من المسلمين يوم معركة أحد وحصور الخسارة ، وأن كثرة القتلى بسبب إنهزامهم .
المختار نعم ، مع أن أهم أسباب الهزيمة ترك الرماة على الجبل لمواضعهم التي جعلهم عليها ونصب عليهم عبد الله بن جبير أميراً بعد أن لاحت بشائر النصر للمسلمين وهمّ الذين كفروا بالإنهزام.
وعن البراء بن عازب قال (جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد وكانوا خمسين رجلاً عبد الله بن جبير ووضعهم موضعاً وقال : ان رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تَبْرَحُوا حتى أرسل إليكم ، فهزموهم.
قال : فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسوقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن.
فقال أصحاب عبد الله : الغنيمة أي قوم الغنيمة . . . ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ قال عبدالله بن جبير : أفنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقالوا : إنا والله لَنَاْتِيَنَّ الناس فَلْنصِيبَنَّ من الغنيمة . فلما أتوهم صرفت وجوههم فاقبلوا منهزمين ، فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم ، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير اثني عشر رجلاً . فأصابوا منا سبعين) ( ).
ليكون قانون الرباط بعد معركة أحد حاجة للمسلمين ، ووسيلة لحفظهم وأهل المدينة ،ويصير من التخفيف في ذاته وموضوعه ومدته وتناقص الحاجة لعدد المرابطين للضعف الذي أصاب المشركين .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية أن الذي كان المسلمون يرابطون إتقاء لشره وخشية مباغتته ثغور المسلمين يصبح بين عشية وضحاها مرابطاً مع المسلمين بدخوله الإسلام وحسن اسلامه ، وقد يأتي رئيس وقومه وأتباعه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليدخلوا الإسلام ويخرجون في السرايا.
فمن خصائص الرباط دعوة الناس للإسلام ، وتثبيت معالم الإيمان في الثغور ، لتكون مرآة لمنهاج المسلمين في سنن التوحيد ، وبياناً للناس بأن الذين كفروا يظلمون أنفسهم والناس في هجومهم وغزوهم لبلاد المسلمين ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
قانون الرباط صبر
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وإبتلاء يلاقي فيها الإنسان ضروب الأذى ، وأسباب السعادة والغبطة ، ويفوز بالصحة والعافية ويبتلى بالمرض والداء ، وقد يكون الإبتلاء على نحو الجماعة والطائفة والأمة ، بالسراء والضراء ، والآفات أو أسباب الخصب والسعة.
وتفضل الله عز وجل ببعثة الأنبياء لتكون أحسن وأبهى امتحان في الحياة الدنيا لما فيها من أسباب السعادة والنجاة للناس جميعاً ، إذ أن فيوضات النبوة تترشح على الناس جميعاً .
ويفوز المسلمون في كل زمان بالعافية والسلامة والنجاة من الشرور ، ولينالوا المقام الرفيع في الآخرة ، وهل الإيمان بالنبوات من الصبر ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : الصبر في التدبر بالمعجزات الحسية والعقلية .
الثانية : الإمتناع عن المعاصي والتي تكون كالغشاوة على الأبصار والبصائر .
الثالثة : الصبر في المناجاة في سبل الطاعة .
الرابعة : إجتناب نصرة الذين ظلموا الذين يصرون على محاربة النبوة.
الخامسة : الصبر على الطاعات التي جاء بها الأنبياء ، ومنها الصلاة التي فرضها الله عز وجل على آدم وذريته ، وفي إبراهيم ورد قوله تعالى[رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ]( ).
وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما أسري بي إلى السماء رأيت موسى يصلي في قبره ( ).
ويمكن تسمية الحياة الدنيا (دار الصبر) إذ يحتاج الإنسان الصبر وملازمته وحبس النفس عن الشهوات واتباع خطوات الشيطان.
وهل الصبر من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض ليكون من معاني قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) أي جاعل في الأرض خليفة صابراً.
ليكون الصبر خصلة حميدة وملكة إيمانية تساعد في تثبيت أركان التوحيد في الأرض ، وقد رغّب الله عز وجل الأنبياء والمؤمنين والناس جميعاً بالصبر لأنه سبيل الهداية ، وشاهد عليها ، وفيه الأجر العظيم والثواب الجزيل ، قال تعالى [وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] ( ) إذ يجب التحلي بالصبر في البلوى والتوجه بالشكر إلى الله على النعم ، قال تعالى في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصاحب الحوت هو النبي يونس عليه السلام ، وليس فيه شاهد على تعضيد يونس في باب الصبر ، أو خلاف عصمة الأنبياء .
لقد ذهب يونس ساخطاً على قومه ، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه نبي الرحمة ، وكانت قريش تؤذيه أشد الأذى ، ولكنه يدعوهم للهداية والصلاح ، ليكون فتح مكة استجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإذ دخلوا الإسلام ، وإنقطعت عبادة الأوثان في الجزيرة العربية إلى يوم القيامة .
(عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الناس تبع لقريش في الخير والشر إلى يوم القيامة) ( ).
وهل المقصود من الناس جميع أهل الأرض أم أن القدر المتيقن هم أهل مكة وأهل الطائف والمدينة وعموم أهل الجزيرة ، المختار هو الثاني ، فقد يرد لفظ الناس ويراد منه طائفة أو فرقة أو جماعة ، قال تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ] ( ).
والرباط صبر ومصابرة في سبيل الله ، ومن الرباط ثواب أداء الفرائض ، وثواب الرباط وحراسة أطراف المدينة ، ودفع أذى العدو ، والحيطة من مكره وأذاه وإذا قيل إذا كان الرباط صبراً فلماذا ذكرت آية البحث الصبر والرباط مجتمعين بقوله تعالى [اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا] ( ).
الجواب إرادة العموم ثم الخصوص ، بتحلي المسلمين بالصبر وإتخاذه منهاجاً في أمور الدين والدنيا والعناية بالرباط كوظيفة وعمل مخصوص.
وجاء الجمع بين الصبر والرباط لدفع وهم ، ومنع ظن بعضهم بأن الإقامة في الحضر وترك الثغور من الصبر .
وقد يأتي الأذى الشديد من هذا الترك وأخبرت الآية بعدم التعارض بين وجوب الصبر والرباط في الثغور ، وإن الصبر في الرباط فعل وإقامة في الثغور ، ولكن من قوله [اصْبِرُوا]و[صَابِرُوا]و[رَابِطُوا] معاني متعددة في المقام ووجوه للإمتثال في باب طاعة الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ويصح تقدير الجمع بينهم على وجوه :
الأول : أصبروا في الرباط .
الثاني : صابروا في الرباط .
الثالث : رابطوا في الصبر ، الجواب نعم .
وهل منه الإنفاق في الرباط أم أن القدر المتيقن هو ذات الرباط ، والإنفاق في الرباط من فعل الخيرات ، والعمل الصالح ، وهو من معاني الجمع بين الصبر والرباط في آية البحث ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( )، الجواب هو الأول .
مفهوم الموافقة في الآية
ابتدأت الآية بالنداء بصيغة الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وهو تشريف سماوي مصاحب للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وهل يختص بالأحياء منهم ، الجواب لا ، فهو يشمل الأموات والذين لم يولدوا بعد .
إذ يبين تعاهد الذين ماتوا على الإيمان والتسليم بمبادئ الإسلام وإقامة الشعائر ، وحرصهم على بقائها تركة لأبنائهم.
ويستقبل نداء الإيمان الذين يولدون من المسلمين بصيغ الإكرام والتشريف ويدعوهم لتعاهد سنن الإيمان بالله والإمتناع عن الفساد في الأرض ، ولما احتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض بسبب فساد طائفة من ذريته في الأرض وسفكهم الدماء ، كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) ثم بينوا إقامتهم على التسبيح وإنقطاعهم إلى الذكر أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ليكون من علمه تعالى تفضله بإنزال نداء الإيمان ، وهو شاهد على وجود أمة مؤمنة تتجنب الفساد ، وتمنع وتمتنع عن القتل بغير حق وهو من مصاديق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتضمنت آية البحث ما يدل على صبرهم على أذى المشركين ، وإنحصار قتالهم بحال الدفاع ، ودفع أذاهم وكيدهم.
ومن خصائص نداء الإيمان الثناء من الله عز وجل على المسلمين والمسلمات، وترشح المسائل عن هذا الثناء بلزوم إكرام بعضهم بعضاً، وإجتناب الإيذاء والضرر بينهم، ومنه قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا…..]( )،
ومنه لزوم التقيد بمضامين آية البحث وآيات القرآن الأخرى , وليس من حصر لوجوه الإيمان التي ذكرتها آية البحث، ومنها في المقام وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا بأن الله أنزل كل آية من القرآن.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بأن القرآن كلام الله.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بأن الله عز وجل يحفظ القرآن إلى يوم القيامة، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الرابع : يا أيها الذين آمنوا بوجوب الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى.
الخامس : يا أيها الذين آمنوا بأن الإمتثال لأمر الله في آية البحث طريق للفلاح الظفر بالتوفيق من الله عز وجل والإقامة في منازل الخير ، والفوز بإحسانه ولطفه .
لتكون كل آية من القرآن وسيلة وبلغة لنيل المراتب السامية والسعادة في النشأتين ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وتبين آيات القرآن قانوناً وهو الملازمة بين التقوى والفلاح، لبيان فضل الله عز وجل العاجل في الحياة الدنيا وأنها ملك له ، وليتجلى للناس قانون وهو (تعدد ضروب البشارة بسبب التقوى ) ومنها التبليغ وإقامة الشعائر من غير حاجة إلى الغزو والهجوم والقتال المتصل .
وهل تصرف تقوى المسلمين المشركين عن قتالهم، الجواب نعم ، إذ تبعث التقوى السكينة في النفوس، وتقطع أسباب الثأر وغلبة النفس الغضبية، وتدعو عامة الناس إلى إجتناب نصرة القوم الظالمين ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
ومن أسرار النداء التشريفي(يا أيها الذين آمنوا) دلالة مفهومه على إختيار المسلمين السلم، وتعاهدهم للأمن، وإمتناعهم عن الظلم والتعدي، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( )، لبيان أن المرابطة من السلم، ودعوة إلى السلم ، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : أمر الله عز وجل المسلمين كافة بالسلم ، وفيه دعوة عامة وخاصة بالسعي الى السلم والقبول به حتى في حال الغلبة والظفر والظهور على العدو.
الصغرى : أمر الله عز وجل المسلمين بالمرابطة.
النتيجة: المرابطة من السلم.
ويتجلى القانون الذي تبينه النتيجة أعلاه بلحاظ قانون وهو صبغة السلم في الأوامر الإلهية.
وفيه مسائل :
المسالة الأولى : دلالة نداء الإيمان على أهلية المسلمين للإمتثال للأوامر الإلهية الواردة في آية البحث ، ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) إجتماع الأوامر الإلهية في آية واحدة ، وكل أمر من كلمة واحدة ليحضر هذا الأمر في كل زمان لتنعم به أجيال المسلمين إلى يوم القيامة ، وهو من إعجاز القرآن وسلامته من التحريف والتبديل ، ويتلقى كل جيل من المسلمين نداء الإيمان بالشكر لله عز وجل والعز والفخر .
والمناجاة بالإمتثال لها مجتمعة ومتفرقة ، وهل من سنخية مشتركة لهذه الأوامر مجتمعة ومتفرقة ، الجواب نعم من وجوه :
الأول : لزوم التقوى في الإمتثال العام والخاص ، لذا أختتمت الأوامر في آية البحث بالأمر بالتقوى والخشية من الله عز وجل لإتيان هذه الأوامر بأحسن صيغة وكيفية .
الثاني : إرادة قصد القربة إلى الله في الإمتثال لأحكام هذه الآية .
الثالث : تعاون المسلمين بالعمل بمضامين الآية ، وهو من مصاديق وأسرار الخطاب للمسلمين في بدايتها بنداء الإيمان التشريفي .
الرابع : البعث على الإنفاق في سبيل الله في الأوامر الأربعة الواردة في الآية مجتمعة ومتفرقة ، لذا شرّع الله عز وجل الزكاة وجعل من مواردها سهم في سبيل الله ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الخامس : تقوم الأوامر الواردة في آية البحث بالصبر والتحمل والرضا بحكم الله وقضائه ، وعدم الجزع واليأس والقنوط لإصرار الذين كفروا على القتال.
المسألة الثانية : تنمية ملكة الفطنة والتفقه في الدين عند المسلمين ، ومن الإعجاز في آية البحث تغشي وحضور ما فيها من الأوامر في جميع آنات الليل والنهار ، ويشمل التكليف فيها الكبير والصغير والرجل والمرأة ، وفيه شاهد على جهاد المسلمين في الإمتثال للأوامر الإلهية الواردة في آية البحث دعوة للناس لإكرام المسلمين والإمتناع عن إيذائهم والإضرار بهم ، ولكن المشركين اتبعوا إغواء الشيطان ، فأضروا بأنفسهم وآذوا المسلمين ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
وهل لآية البحث موضوعية في تخفيف الضرر والأذى الصادر من الذين كفروا ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : التحلي بالإيمان صارف لأذى المشركين ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين آمنوا في مأمن من ضرر المشركين .
الصغرى : المسلمون آمنوا بالله ورسوله وكتبه .
النتيجة : المسلمون في مأمن من ضرر المشركين .
الثاني : يدفع الله عز وجل عن الذين آمنوا الضرر الذي يأتي من الذين كفروا ، وفي التنزيل [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( ) ومن فضل الله عز وجل نصره للمؤمنين ودفعه الأذى عنهم في الدنيا ، ليكون هذا الدفع مدداً وعونا لهم للعمل بمضامين آية البحث ، ومقدمة للأجر والثواب في الآخرة.
وفيه غنى عن الغزو والهجوم ، وهو زاجر للمشركين عن التمادي في التعدي والظلم , ودعوة لهم للإيمان .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دخول بعض رؤساء الكفر في الإسلام على نحو دفعي ، وأحياناً يكون هنا الدخول بالتأني والتدبر والسؤال المتعدد ، لتنفذ آية البحث إلى قلبه وتجعله يتفكر في لزوم نبذ الشرك ، وترك مستنقع المعصية ، وجاءت محاربة المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون وبالاً عليهم في تفرق أصحابهم عنهم ، فقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل ليميز به بين الحق والباطل ، ونزلت آيات القرآن لتلح على الناس بلزوم الهداية والإيمان .
ولا يختص هذا الإلحاح بالمؤمنين وتعاهدهم لسنن التقوى ، بل يشمل عامة الناس ، لذا ترى القرآن يخاطب أرباب العقول ، قال تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( )، ووظيفة العقل التمييز بين الأشياء والتفكر والتدبر وهو الطريق الى الهداية.
المسألة الثالثة : من خصائص آية البحث عدم وجود فاصلة وبرزخ بين نداء الإيمان وبين توجه الأمر من الله للمسلمين ، لبيان وجوه :
الأول : قانون من خصائص المسلمين تلقي الأوامر من الله .
الثاني : قانون تلقي المسلمين للأوامر من الله سبب لإكرامهم ومصداق لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث : قانون الملازمة بين الإيمان وتلقي الأوامر المتعددة من الله.
الرابع : قانون لزوم الإمتثال للأوامر الإلهية.
الخامس : قانون كل أمر من الله نعمة عظمى ، لبيان تعدد النعم في آية البحث.
ومن الإعجاز أن الآية ابتدأت بالأمر بالصبر بقوله تعالى [اصْبِرُوا] إذ أن الصبر سور الموجبة الكلية الذي يحتاجه المسلمون مجتمعين ومتفرقين في كل آن وكل فعل .
وابتداء أوامر الآية بالأمر بالصبر عون لهم للإمتناع عن الغزو وعن الهجوم على القوم المشركين الذين آذوهم واعتدوا عليهم.
ومن مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، صدور الأذى عن المشركين ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من بدايات البعثة النبوية .
فلم يبدأ هذا الأذى في معركة بدر إنما بدأ بفرض الحصار على بني المطلب وبني عبد المطلب في شعب أبي طالب لمدة ثلاث سنوات ومنعوا من مناكحتهم ، فلا يتزوجون منهم ولا يبايعونهم .
واذا أراد أهل البيت الشراء من جانب إلى مكة دفع له المشركون ثمناً أكثر وأغروه ، حتى إذا امتنع عن بيع أهل البيت ، إنصرفوا عنه وتركوا الشراء منه .
ومن مصاديق الآية أعلاه توثيق الأخبار والروايات لقتل المشركين لسمية أم عمار وهي أول شهيد في الإسلام ، وستتجلى موضوعية المسألة في هذه الأزمنة ومناداة الدول والجمعيات بحقوق المرأة ، وإذا تكون المرأة أول من آمنت بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي خديجة الكبرى ، وفي اليوم التالي آمن الإمام علي عليه السلام وأول شهيدة في الإسلام هي سمية أم عمار بن ياسر .
وقيل أول قتيل في الإسلام هو الحارث بن أبي هاله (لما أمر الله سبحانه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصدع بما يؤمر قام في المسجد الحرام فقال: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، فوثبت عليه قريش، فأتى الصريخ أهله، فكان أول من أتاه الحارث ابن أبي هالة، فضرب في القوم ففرقهم عنه، ثم عطفوا عليه، فضربوه حتى قتلوه)( ).
والأصح هو أن أول قتيل في الإسلام هي سمية أم عمار .
فان قلت إن القتال ساقط عن النساء فكيف صبرت سمية على التعذيب ، ولم تتخذ التقية سبيلاً للنجاة ، الجواب لقد عملت سمية بمضامين آية البحث قبل نزولها ، وماتت , وهي لم تعلم بنزولها وكانت سمية أمة لبني مخزوم وزوجوها لحليفهم ياسر بن عامر بن مالك العنسي، فولدت عماراً فاعتقوهما( )، وقد أسلم ياسر وسمية وعمار بعد بضعة وثلاثين رجلاً وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ في دار الأرقم بن أبي الأرقم .
ولما امتنع آل ياسر عن الإرتداد وعن الأسلام صار بنو مخزوم يخرجوهم عند الظهيرة الى الأبطح عندما تحمي الرمضاء ، ويقومون بتعذيبهم وكانت النتيجة كالآتي :
أولاً : طعن أبي جهل لسمية بالحربة بعد أن أغلظت له القول وأظهرت التبات على الإيمان ( ).
ثانياً : موت ياسر تحت التعذيب .
ثالثاً : تشديد العذاب على عمار بتعريضه لشدة الحر ، أو بوضع الصخر على صدره أو بالتغريق بالبئر إلا أن يسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي قوله تعالى [إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ]( )، قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في عمار وذلك ، أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأُمه سمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً فعذبوهم ، فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قلبها بحربة ، وقيل : لما أسلمت من أجل الرجال فقتلت وقتل زوجها ياسر ، وهما أول قتيلين في الاسلام رحمة الله ورضوانه عليهما، وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً.
قال قتادة : أخذ بنو المغيرة عماراً وغطوه في بئر مصون وقالوا له : أكفر بمحمد (ولم يتعمد) ذلك وقلبه كان مطمئناً فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عماراً كفر. فقال : كلا إن عماراً ملىء إيماناً من قرنه إلى قدمه وإختلط الايمان بلحمه ودمه.
فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ، وقال : مالك إن عادوا لك فعدلهم بما قلت ، فأنزل الله هذه الآية ( ).
وفيه معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعمل وأصحابه من الرجال والنساء بأحكام آيات القرآن قبل نزولها , وفيه مسائل :
الأولى : إرتقاء المسلمين في المعارف الإسلامية .
الثانية : تفقه المسلمين في الدين .
الثالثة : صدق إيمان المسلمين .
الرابعة : موضوعية السور المكية في إصلاح المسلمين لمنازل الصبر والتقوى ، ويتناول علم التفسير خصائص السور المكية وكيف أنها تتصف بالقصر وقلة الكلمات , وتتضمن الإنذار والوعيد ، وبيان أهوال يوم القيامة ، وتبين في المقام وجوهاً :
الأول : تثبيت السور المكية لأقدام المسلمين في منازل الإيمان .
الثاني : تنمية السور المكية لملكة الصبر عند المسلمين والمسلمات .
الثالث : الفصل بين المؤمنين والذين كفروا ، ليكون من معاني نداء الإيمان في آية البحث وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا في مكة .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا وهاجروا .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا من أهل المدينة .
الرابع : السور المكية وسيلة وهداية للهجرة .
الخامسة : فضل الله في تيسير حفظ المسلمين للسور والآيات المكية .
السادس : السور المكية سلاح لتحمل أذى المشركين .
وهل يمكن القول بأن سمية صبرت على الأذى والتعذيب بما عندها من القرآن الذي نزل في مكة ، الجواب نعم ، لبيان قانون وهو أن أمر الله للمسلمين بالصبر سبب ووسيلة لتحملهم الأذى والفوز بالفرج والظفر , قال تعالى [وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ]( ).
ومن الآيات أن الذي عذّب وقتل سمية لم تدركه التوبة وهو أبو جهل إذ قتل كافراً في معركة بدر .
السابع : مجئ السور المكية بالترغيب بالصبر وحث المؤمنين عليه ، قال تعالى [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] ( ).
ترى ما هي النسبة بين [وَصَابِرُوا] الواردة في آية البحث وبين قوله تعالى أعلاه [وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] الجواب النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : وجود حرف العطف في كل من الآيتين ، وتقدم موضوع الصبر وتأخر عليه ، لتكون كل منهما معطوفاً ومعطوفاً عليه .
الثانية : اتحاد سنخية موضوع الآيتين وهو الصبر , وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن أمر المؤمن كُلَّه عَجَب، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شَكر فكان خيرا له)( ) .
لبيان أن مسألة وهي دلالة آية البحث على لزوم تهيئة المسلمين أنفسهم للبلاء بتلقيه بالصبر والعمل مجتمعين إذ أمرهم بالصبر وحثهم على العمل بالمصابرة والمرابطة .
الثالثة : صيغة الجمع في كل من الآيتين ، وشمول كل المسلمين .
الرابعة : إرادة المسلمين والمسلمات في كل من الآيتين .
ومادة الإفتراق من جهات :
الأولى : الآية أعلاه مكية وآية البحث مدنية .
الثانية : جاءت الآية أعلاه بصيغة الجملة الخبرية [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ] ( ) أما آية البحث فجاءت بصيغة الأمر [وَصَابِرُوا] والذي يحمل على الوجوب إلا مع القرينة التي تدل على الإستحباب ، وهي مفقودة في المقام .
الثالثة : ذكرت الآية أعلاه مادة الصبر مرة واحدة ، وذكرتها آية البحث مرتين بقوله تعالى [اصْبِرُوا وَصَابِرُوا].
الرابعة : تدعو الآية أعلاه المسلمين للمناجاة بالصبر والمصابرة .
الخامس : نزلت الآية أعلاه في مكة ، وليس من قتال حينئذ ، أما آية البحث فانها تتضمن مصابرة العدو ومجاهدة النفس في الصبر في ملاقاة المشركين سواء في سوح القتال ، أو في الجدال والإحتجاج أو في الأمور العامة والمعاشية ، إذ لاقى المسلمون في بدايات الهجرة العوز والفاقة ، فقد تركوا ديارهم وأعمالهم ، وخرجوا بدينهم إلى المدينة سواء الذين هاجروا قبل النبي أو الذين هاجروا بعده ، وهم أكثر المهاجرين ، وفي لوط ورد في التنزيل [وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ] ( ) .
لتكون هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكل فرد من أهل البيت والصحابة من مصاديق الآية أعلاه ، فقد كانت هجرتهم إلى الله ، فتفضل وأمرهم بالصبر والمصابرة والمرابطة .
المسألة الرابعة : بيان موضوعية الصبر في حياة المسلمين وفي جهادهم ليكون بخصوص ملاقاة العدو على وجوه :
الأول : صبر المسلمين عن ملاقاة العدو .
الثاني : تحلي المسلمين بالصبر في الدعوة إلى الله لأن هذه الدعوة برزخ دون القتال .
الثالث : صبر المسلمين عند ملاقاة العدو ، وهذا الصبر متعدد ، فهو صبر عند لمعان السيوف ، وصبر عن القتل العشوائي وإشاعة القتل في المشركين ، فحالما ينهزم المشركون يتركهم المسلمون ، وقد يطاردهم بعض المسلمين لزجرهم عن العودة للقتال .
والصبر كيفية نفسانية ، وحبس للنفس والجوارح في طاعة الله وعن المعصية ،وعند المصيبة .
وفي حديث طويل عن قتادة عن كعب من حديث موسى عليه السلام في مناجاة ربه تعالى قال : فما جزاء من صبر على أذى الناس قال يا موسى أصرف عنه أهوال يوم القيامة قال يا رب فما جزاء من ذكرك بلسانه وقلبه سرا قال أجعله في كنفي وأظله بظل عرشي .
قال : إلهي فما جزاء من تلا حكمتك قال يا موسى يمر على الصراط كالبرق في يوم تذل فيه الأقدام قال إلهي فما جزاء من صبر على مصيبة تصيبه قال يا موسى له بكل نفس يتنفسه ثلاثمائة درجة في الجنة الدرجة خير من الدنيا وما فيها( ).
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً ، فجاءت آية البحث لهدايته لما فيه سلامته ونجاته ، وبما يحتاج إليه الإنسان من الصبر لمواجهة الإبتلاء والامتحان الذي هو صبغة الحياة الدنيا ، فنزلت آية البحث بالأمر للمسلمين بالتحلي بالصبر ، ليكون منهاجاً دائماً لهم وسلاحاً حاضراً وحرزاً من البلاء والمكر والمكيدة , والصبر من مصاديق الحسنة في قوله تعالى [وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ] ( ).
المسألة الخامسة : تدل آية البحث على أن المشركين لا ينفكون عن إيذاء المسلمين ومحاربتهم ، وشنّ الغارات عليهم ، فجاءت آية البحث بالأمر للمسلمين بالصبر والمصابرة والمرابطة ، وفيه منع للجهالة والغرر ، كالذي يريد دخول الإسلام عليه أن يتحلى بالصبر والتحمل ، لبيان أن دخول الإسلام تكليف وجهاد مع النفس ، ومصابرة في مواجهة العدو الذي يصر على التعدي ومواجهة المسلمين .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : وصابروا العدو لينزجر عن الهجوم عليكم .
الثاني: وصابروا تؤجروا .
الثالث : وصابروا قربة إلى الله .
الرابع : وصابروا طاعة لله عز وجل لأنه هو الذي أمركم بالمصابرة إن الله عز وجل يجب للمؤمنين أن يطيعوه ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
الخامس : وصابروا لتخف عنكم المرابطة ، فمتى ما علم المشركون بأن المسلمين يصبرون على الأذى , ويتحملون العناء في سبيل الله فأنهم يكفون عن إيذائهم ، قال تعالى [إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ] ( ).
السادس : صابروا في العبادات والإستغفار وحلقات الذكر ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجيؤه بالمصابرة , وملازمة هذه المصابرة لهم في أيام حياتهم .
المسألة السادسة : لقد تضمنت آية البحث الأمر من الله للمسلمين بالتقوى وبلغة البيان بقوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ] لبيان أن الأمر بالتقوى رحمة بالمسلمين , ويحتاجها المسلمون في كل فرد من مضامين آية البحث .
فان قلت كل من الصبر والمصابرة والمرابطة من تقوى الله ، فلماذا جاءت الآية بالأمر بتقوى الله ، والجواب إرادة إستحضار التقوى والتقيد بها في السراء والضراء ، والسر والعلانية ، وصيرورة التقوى مقدمة للرباط وصبغة له ، ومتعقبة له ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ) .
وقد يرابط المسلم بضعة أيام أو أشهر ، وقد لا يرابط ولكنه يحتاج التقوى في كل يوم من أيام حياته ، وهو من الإعجاز في آية البحث بشمولها التكليف العام ، فلابد لكل مسلم ومسلمة من تقوى الله والخشية منه والإجتهاد في طاعته .
وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخصوص مضامين آية البحث من تقوى الله ، الجواب نعم ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا اصبروا فأن الصبر من التقوى .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا صابروا بتقوى الله أي بصيرورة التقوى وعاء وآلة في الصبر .
الثالث : اتقوا الله بالعمل بمضامين آية البحث للفوز بحب الله ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] ( ).
المسألة السابعة : أختتمت آية البحث بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] لبيان أن العمل بأحكام القرآن باب يفتح أبواباً من النعم على المسلمين ، وكل أمر من الأوامر الواردة في آية البحث هو نعمة عظمى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )، وكل من الصبر والمصابرة والمرابطة صراط مستقيم .
ويحتمل الفلاح الذي أختتمت به آية البحث وجوهاً :
الأول : الفلاح مطلوب بذاته .
الثاني : الفلاح طريق لنعم متعددة .
الثالث : الفلاح مقدمة وسبيل لوجوه أخرى من الفلاح .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث ، وهل الفلاح من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة .
الجواب هو الثاني ، وكل مرتبة منه نعمة عظمى ، وعون على أداء التكاليف ، وسبيل للأجر والثواب ، لبيان لزوم إجتهاد المسلمين في كل أمر من الأوامر الإلهية الواردة في آية البحث ، ونيل مرتبة الفلاح ، ترى هل يدفع فلاح المسلمين غزو وهجوم المشركين عنهم ، الجواب نعم .
المسألة الثامنة : آية البحث من آيات الصبر ، وتكررت فيها مادة الصبر ، كل أمر فيها يدعو إلى الصبر ويحث عليه ، فالمرابطة صبر والتقوى صبر ، ويمكن تسمية آية البحث آية الصبر ، وفيها تنمية لملكة الصبر ، وترغيب به ، وفيه شاهد على أن المسلمين أمة الصبر والمصابرة ، وهو مصداق لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وتدل آية البحث على حب الله عز وجل للمسلمين وهدايتهم لسبل الرشاد والفلاح .
لقد اشتد أذى كفار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بعد الهجرة وأصروا على القتال ، وأحتاج المسلمون الصبر رحمة بهم وبالمشركين أنفسهم ، ولا يعلم ما صرف من أسباب المعارك والقتال بسبب آية البحث وآيات الصبر الأخرى إلا الله عز وجل ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
مفهوم المخالفة في الآية
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : يدل نداء الإكرام الذي ابتدأت به آية البحث على إختصاص المسلمين بالأوامر الواصلة في الآية .
وهل تشمل الذين كفروا بأن يدعوهم الله عز وجل للصبر عن قتال المسلمين ، الجواب لا ، إنما جاءت آية البحث خطاباً للمسلمين ، وتدل في مفهومها على توبيخ الذين كفروا لحملهم المسلمين على المصابرة والمرابطة ، والأصل تحلي الناس جميعاً بالإيمان ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) .
ليكون من مصاديق ودلالات آية البحث دعوة الناس للإيمان ونبذ الشرك وسفك الدماء بغير حق ، لقد احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) لأنه يفسد في الأرض ، ويقتل بغير حق ، ويتجلى الجمع بين الفساد وسفك الدماء في تعدي وظلم الذين كفروا في محاربتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإقامتهم على عبادة الأصنام ، ليكون معنى الواو في [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) إفادة الجمع والترتيب والتفريق ، فمن الذين ذمهم الملائكة من يفسد ويعصي الله ، ومنهم من يقتل النفس التي حرم الله ، ومنهم من يجمع بين المعصية وسفك الدماء .
ليكون من معاني احتجاج الملائكة الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وتفضل الله عز وجل على الملائكة والناس بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) أنه سبحانه يتفضل بنزول آية البحث وصيرورتها واقية من سفك الدماء وآلة سماوية لاستئصال الفساد من الأرض ببعث المسلمين على الصبر والتحمل والمصابرة والمجاهدة بما يبعث اليأس والقنوط في قلوب الذين كفروا ويجعل الملل يدب إلى نفوسهم لتحصل الخصومة والشقاق بينما يرابط المسلمون بالأخوة الإيمانية التي تجمع بينهم أي أنهم يرابطون بعروة الإيمان ، وهو من أسرار إبتداء آية البحث بنداء الإيمان .
وتقدير الآية (يا أيها الذين آمنوا رابطوا بسنخية الإيمان ) وفيه شاهد على إمتناع الخلاف بينهم ، فصحيح أن المرابطين من أماكن وقبائل شتى إلا أن الأمر المشترك بينهم هو الأخوة الإيمانية ، وفيه مناسبة للتفقه في الدين ، واتقان الصلاة ، وتلاوة المرابطين لآيات القرآن والتذاكر فيها ، واستبيان وجوه الإعجاز والتحدي فيها .
فمن مصاديق المصابرة في الرباط مصاحبة القرآن للمسلمين مؤنساً ودليلاً ، بينما يقابلهم الذين كفروا بانقباض وخيبة .
وهل المقابلة بين المسلمين والمشركين في الرباط من مصاديق قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) الجواب لا فالقدر المتيقن من الآية أعلاه مواجهة الجيشين ، وسلّ السيوف بدليل أن الآية أعلاه ذكرت اليوم واللقاء بينما تكون المرابطة متصلة في الليل والنهار ، والبرد والحر ، ولكن المرابطين في تبدل وفق نظام وتعيين وترتيب ، ولا يحصل فيها لقاء بين المتخاصمين في الغالب ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ] ( ).
المسألة الثانية : من مفهوم المخالفة في الآية لزوم عدم ترك المسلمين الصبر ، فقد ورد في الآية [اصْبِرُوا] ولا يعلم الضرر الناجم عن ترك المسلمين الصبر إلا الله , وهناك ملازمة بين الإيمان والصبر ، إذ يدعو الإيمان للصبر ويثبت الصبر أقدام المسلمين في مقامات الهدى ، وذات صبر المسلمين دعوة للناس لدخول الإسلام .
وبالإسناد عن رجل من بني سليم قال : عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يدي فقال : التسبيح نصف الميزان والحمد لله تملأه ، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض ، والصوم نصف الصبر , والوضوء نصف الإيمان( ).
وهل يمكن القول أن صبر المسلمين يسقط عنهم الرباط ، الجواب لا دليل عليه وهو من الإعجاز في آية البحث بأن جمعت بين الصبر والرباط ، وهو من الجمع بين العام والخاص ، والأمر الوجودي النفسي الدائم هو الصبر ، والعرضي الفعلي وهو الرباط في الثغور حذراً وحيطة من المشركين.
ومن إعجاز الآية تقييدها الصبر بأن يكون من منازل الإيمان ، وأن يكون نافعاً في الصلاح والإصلاح ، ترى ما هي منافع صبغة الإيمان في الصبر الذي يأمر به الله ، الجواب من جهات :
الأولى : إتخاذ المسلمين الصبر منهجاً وسلوكاً .
الثاني : حب ورضا المسلمين بالصبر .
الثالث: تعاون وتعاضد المسلمين بالصبر .
الرابع : تحمل المسلمين الأذى بالصبر .
الخامسة : إجتهاد المسلمين بالصبر .
السادسة : ثناء المسلمين على الصابر في رضوان الله , وهل تلاوة المسلمين والمسلمات لآيات الصبر ومنها آية الرباط من هذا الثناء ، الجواب نعم لبيان قانون قرآني وهو أن المسلمين يثنون على أنفسهم بالحق والتنزيل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
السابعة : الأجر والثواب للمسلمين على الصبر .
وهل العفو والسماحة من الصبر ، الجواب نعم ، ومن الصبر الإقامة على طاعة الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ) .
المسألة الثالثة : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار عبادة ونسك وطاعة له سبحانه ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) ونزلت آية البحث لتدل على وجوب تحقق عبادة الله عز وجل من وجوه :
الأول : صيرورة أمة عظيمة من أهل الأرض تتصف بالإيمان لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ، وفي التنزيل [مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ] ( ) .
فصحيح أن الفطرة هي الإيمان إلا أن الله عز وجل تفضل وبعث الأنبياء ، وأنزل الكتب السماوية لجذب الناس إلى الهدى والإيمان وملأ السماء والأرض بالآيات الكونية ، لتكون عوناً ومناراً للناس في سبل الهداية .
وابتدأت آية البحث بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وفيه دعوة للمسلمين بالشكر لله عز وجل على بلوغ مرتبة الإيمان وتقدير الآية بلحاظ علة الإيمان على جهات :
الأولى : يا أيها الذين أصبحتم مؤمنين بفضل من الله .
الثانية : يا أيها الذين قربهم الله إلى منازل الإيمان ، وهداهم إليها ، ومن صفات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يجتهد بالدعاء رجاء الهداية والصلاح ، ويتخذ من الصلاة مناسبة كريمة للإلحاح بالدعاء والتضرع إلى الله .
وعن الإمام علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (كان إذا استفتح الصلاة كبر ، ثم قال : ( وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ، ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ذنوبي جميعا ، لا يغفر الذنوب إلا أنت ، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عني سيئها ، لا يصرف عني سيئها إلا أنت ، لبيك وسعديك( ) الخير كله في يديك ، والشر ليس إليك ، إنا بك وإليك ، تباركت وتعاليت ، أستغفرك وأتوب إليك .
وإذا ركع ، قال : اللهم لك ركعت ، ولك أسلمت ، وبك آمنت ، خشع لك سمعي ، وبصري ، وعظامي ، ومخي ، وعصبي ، وإذا رفع رأسه من الركوع ، قال : سمع الله لمن حمده ، ربنا لك الحمد ملء السماوات ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد ، فإذا سجد قال : اللهم لك سجدت ، ولك أسلمت ، وبك آمنت ، سجد وجهي للذي خلقه وصوره ، فأحسن صوره ، وشق سمعه وبصره ، فتبارك الله أحسن الخالقين فإذا سلم قال : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت) ( ) .
الثالثة : يا أيها الذين صرتم مؤمنين بنعمة ورحمة من عند الله .
الرابعة : يا أيها الذين هداكم الله عز وجل للإيمان ، وفي التنزيل [وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ] ( ).
لقد ذكر نداء الإيمان تسعاً وثمانين مرة في القرآن ، وكل فرد منها عيد للمسلمين في ذاته ودلالته ومضامين الآية التي جاء فيها .
الثاني : تجدد نداء الإيمان في كل يوم من أيام الحياة الدنيا ، وفيه شاهد على قانون توارث المسلمين الإيمان ، وتعاهدهم للفرائض العبادية من غير تغيير فيها ، وهو من فضل الله عز وجل بالقرآن والسنة ، فقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) دليل وبيان لفريضة الصوم ، وحكم لماهيتها ، وشاهد على قدسيتها , ولزوم عدم التفريط بها ، وكذا الحال بالنسبة لآيات الصلاة والزكاة والحج ، قال تعالى في الثناء على المؤمنين [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ] ( ).
(وأخرج مسلم عن جابر : أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات ، وصمت رمضان ، وأحللت الحلال ، وحرمت الحرام ، ولم أزد على ذلك شيئاً ، أدخل الجنة؟ قال : نعم . قال : والله لا أزيد على ذلك شيئاً .
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم أبو داود والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال : إنك ستأتي قوماً أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فإن هم أطاعوا لذلك فاعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لذلك فاعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
الثالث : لقد أمرت آية البحث المسلمين والمسلمات بالصبر بقوله تعالى [اصْبِرُوا] أي تحلوا بالصبر مجتمعين ومتفرقين ، وتتقوم العبادة بالصبر ، ويحتاج المسلمون الصبر بالذات وكآلة ووعاء للإمتثال للأوامر الأخرى الواردة في آية البحث .
ويمكن انشاء قوانين وهي :
الأول : قانون الدنيا دار الصبر.
الثاني : قانون الآخرة دار الثواب على الصبر.
الثالث : قانون الملازمة بين الإيمان والصبر .
الرابع : قانون حب الله للصابرين .
وورد في القرآن [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( )، ومع كثرة وورد لفظ الصابرين فلم ترد في القرآن مسألة حب الله لهم إلا في الآية أعلاه.
الخامس : الصبر واقية ونجاة ، قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]( ).
السادس : قانون الصبر حرز من الكبائر.
قوانين في نداء الإيمان
ويمكن انشاء قوانين بخصوص آيات نداء الإيمان منها :
الأول : قانون نداء الإيمان في القرآن [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] .
الثاني : قانون دلالات نداء الإيمان .
الثالث : قانون الجمع بين آيات نداء الإيمان .
الرابع : قانون الأوامر والنواهي في آيات نداء الإيمان .
الخامس : قانون نداء الإيمان ضياء ينير دروس الهداية للمسلمين والناس جميعاً ، وهذا النداء المبارك من عمومات قوله تعالى [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ) .
السادس : قانون نداء الإيمان دعوة للتوبة والإنابة .
السابع : قانون في نداء الإيمان غنى عن الغزو .
الثامن : قانون نداء الإيمان باعث على تعاهد العمل الصالح ، والمسارعة في البر والإحسان ، وهو وسيلة ونوع وعاء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
التاسع : قانون نداء الإيمان شاهد على حب الله للمسلمين .
العاشر : قانون يبعث نداء الإيمان الخوف في قلوب الذين كفروا ، وهو من عمومات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ) .
الحادية عشر : قانون دلالة نداء الإيمان على وحدة المسلمين .
الثاني عشر : قانون بقاء مصداق نداء الإيمان إلى يوم القيامة ، ففي كل زمان هناك أمة مؤمنة بالله وملائكته ورسله وكتبه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
الثالث عشر : قانون نداء الإيمان واقية من غزو الشرك ومفاهيم الكفر القلوب والمجتمعات ، فمن خصائص نداء الإيمان تثبيت كل من هذا النداء والإيمان في الأرض .
الرابع عشر : قانون نداء الإيمان فضل على المسلمين والناس جميعاً .
الخامس عشر : قانون دعوة الناس لشكر الله عز وجل على نعمة الإيمان .
السادس عشر : قانون لماذا ورد نداء الإيمان تسعاً وثمانين مرة في القرآن مع بيان علة أن أغلب أفراد نداء الإيمان نزلت في المدينة بعد الهجرة لأنه سور جامع لتبيان أحكام الشريعة والعمل بها ، إذ يخاطب الله المسلمين [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
السابع عشر : قانون تلقي المسلمين نداء الإيمان بالشكر لله عز وجل .
الثامن عشر : قانون شمول المنافقين والمنافقات بنداء الإيمان , وفيه دعوة لهم للتوبة والإنابة ، وحث لهم على إخفاء وقهر ما يبطنون من الكفر ، ليكون من إعجاز آية البحث أن كل فرد من الأوامر الأربعة التي تتضمنها آية البحث حرب على النفاق وروضة للنقاهة منه .
التاسع عشر : قانون الأجر والثواب للمسلم بتلاوة نداء الإيمان ، من جهات :
الأولى : قراءة كل حرف من القرآن بعشر حسنات .
الثانية : تلاوة نداء الإيمان من تعظيم شعائر الله ، والتذكير بلزوم تعاهد سنن التقوى ، قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ( )
الثالثة : نداء الإيمان نوع طريق للهداية والرشاد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) .
العشرون : قانون شمول نداء الإيمان للرجال والنساء ، ولكن وردت صيغة التذكير للغلبة .
وتقدير الآية : يا أيتها اللائي آمنّ .
ومن إعجاز القرآن أن المسلمين والمسلمات يدركون بالفطرة شمول نداء الإيمان لهم جميعاً .
الحادي والعشرون : قانون تعاهد المسلمين لنداء الإيمان رسماً ولفظاً وموضوعاً ودلالة ، وعملاً بأحكامها .
المسألة الرابعة : يدل نداء الإيمان في آية البحث على حرمان الذين كفروا من نعمة الهدى والإيمان ، وهذا الحرمان باختيارهم ومن عندهم ، فمن مفاهيم نداء الإيمان تبكيت وتوبيخ الذين كفروا لتخلفهم عن واجباتهم العبادية ، وسنن الصلاح .
وهل هذا التبكيت مجرد أم تجتمع معه الدعوة إلى التوبة والإنابة ، الجواب نعم ، وهو من إعجاز كل من آية القرآن بأن تكون لغة التبكيت والإنذار فيه موعظة وزاجراً عن الإقامة في مستنقع الرذيلة .
فان قلت هذا الجمع من إجتماع الضدين : التبكيت والدعوة إلى الإيمان ، الجواب لا ، فان مسألة عدم اجتماع الضدين من المسائل العقلية الإستقرائية في عالم الفعل ، أما فضل الله فهو أعم وأكبر من أن تحيط به هذه القوانين ، خاصة مع التعدد الجهتي والموضوعي للمسألة المتحدة.
ويمكن انشاء قانون دلالة كل آية قرآنية في مفهومها على دعوة عامة الناس إلى الهدى والإيمان ، وفيه بيان للطف الله عز وجل وليس من برزخ دون تفضل الله عز وجل بتقريب الناس إلى سبل الهدى وترغيبهم بالتوبة والإنابة .
وهو من معاني الجمع بين قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، لبيان قانون وهو أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً إنما بفضل ورحمة من الله .
وهل الإنذار والوعيد الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرحمة التي تذكرها الآية أعلاه ، الجواب نعم ، ولا يختص موضوع الإنذار بالذين كفروا إنما يشمل في مفهومه الذين آمنوا ليشكروا الله عز وجل على نعمة الإيمان ، وليكونوا في حذر من الشبهات والمحرمات ، وفي يقظة وفطنة من عداوة الذين كفروا ، وسعيهم لإرتداد طائفة من المسلمين.
وهل غزو المشركين في معركة بدر وأحد والخندق لقصد إرتداد المسلمين ، الجواب لقد كانوا يطلبون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وايقاف نزول آيات القرآن إذ أنها لم ولن تنزل إلا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأبى الله عز وجل إلا أن يتم نزول آيات القرآن بالسنوات المتعاقبة من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليه وإلى حين مغادرته إلى الرفيق الأعلى في السنة العاشرة للهجرة ، وفي التنزيل [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ]( ).
المسألة الخامسة : من مفاهيم المخالفة في آية البحث نهي المسلمين والمسلمات عن ترك وهجران الصبر سواء في أمور الدين أو الدنيا ، فلا يجلب هذا الهجران إلا الضرر على الذات والغير .
فمن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أن المسلمين يصبرون على أذى الذين كفروا ، فيكون هذا الصبر منعة لهم ، وذماً للذين كفروا ، وفضحاً لقبيح أفعالهم ، لقد أراد الله عز وجل إتعاظ الناس جميعاً من صبر المسلمين ، وكيف أنه بأمر من الله عز وجل .
وجاءت آية البحث بالأمر للمسلمين بالصبر والمصابرة ، وهي نوع مفاعلة ، وتكون على جهات :
الأولى : مصابرة العدو ، لتكون أطراف المصابرة هي :
الأول : المصابرون ، بكسر الباء لإرادة المسلمين .
الثاني : ذات فعل المصابرة .
الثالث : المصابَرون بالفتح ، وهم مشركوا قريش.
الثانية : المصابرة الإيمانية بين المسلمين بأن يحث بعضهم بعضاً على الصبر ، ويدعو بعضهم بعضاً إلى الصبر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ) ومن المصابرة التقيد بأداء الصلاة في أوقاتها ، والحرص على اتيانها جماعة ، وتعاهد إخراج الزكاة وأداء فريضة الصيام ، وهي فريضة الصبر .
وهل المصابرة من معاني الإستعانة بالصبر في قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ] ( ) الجواب نعم ، والنسبة بين الصبر والمصابرة في المقام هي العموم والخصوص المطلق ، فالصبر أعم .
الثالثة : المصابرة الذاتية بأن يصبّر المسلم نفسه في طاعة الله ، ويزجرها عن المعصية ، ويدرك أن اللذة زائلة وأن إثم المعصية باق ، وفي التنزيل [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( ).
ومن وجوه تقدير آية البحث : يا أيها الذي آمن اصبر وصابر ورابط واتق الله , أما الكافر فان الشيطان يحثه على العجلة ويخوّفه من الفعل ومن عدمه في الموضوع المتحد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي]( ).
المسألة السادسة : أختتمت الأوامر الأربعة الواردة في آية البحث بالأمر بتقوى الله وتكرر الأمر في القرآن لأن العبادة ملاك علة خلق الناس ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) وتتقوم العبادة بالتقوى من جهات :
الأولى : التقوى مقدمة للعبادة .
الثانية : ذات العبادة تقوى وخشية من الله .
الثالثة : ترشح التقوى عن العبادة .
ومن خصائص الحياة الدنيا حاجة الإنسان لتقوى الله ، فليس للإنسان في اختياره التقوى فضل ، إنما هي حاجة للذات والغير بمعنى أن الإنسان يتخذ التقوى جلباباً لينجو بنفسه ، ويسلم من الأذى والشرور .
ومن لطف ورأفة الله بالناس أن التقوى قريبة من كل واحد منهم ، وتأتي دفعة وتدريجياً ويسعى الشيطان وجنوده لصد الإنسان عن التقوى ، ولكنهم يعجزون عن حجب التقوى عن أي إنسان ، وهو من مصاديق فضل الله عز وجل على الناس .
ومن خصائص الحياة الدنيا أن التقوى لا تغادر أهل الأرض ، ومن يريد الإعراض عنها تتودد إليه بذاتها وبالآيات والبراهين التي تبعث في النفوس الخشية من الله عز وجل ، والوجل في القلوب من عظيم سلطانه وسعة قدرته .
المسألة السابعة : من الفلاح الذي أختتمت به آية البحث التوفيق والهداية للإمتثال لمضامينها ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لعلكم تفلحون بلحاظ أن ذات الإيمان فلاح وطريق إلى الفلاح .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا أصبروا لعلكم ترحمون .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا صابروا لعلكم ترحمون .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا رابطوا لعلكم ترحمون .
ويمكن تقدير الآية على وجوه :
الأولى : لعلكم تفلحون فتصبروا .
الثانية : لعلكم تفلحون فتتصابروا .
الثالثة : لعلكم تفلحون وترابطوا .
الرابعة : لعلكم تفلحون فتتقوا الله ، لبيان فضل الله عز وجل على الناس بالإيمان , وكيف أن كل سبب لنعمة يصير نتيجة وثمرة لها من غير أن يلزم الدور بينهما ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ]( ).
ولا يختص الفلاح بفعل محدود من أفعال وصيغ الإيمان ، ويمكن تسمية الحياة الدنيا بأنها (دار الفلاح) من جهات :
الأولى : تفضل الله بتهيئة أسباب ومقدمات الفلاح .
الثانية : ترغيب الناس بالفلاح .
الثالثة : تجلي سبل الفلاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، فمن الصراط الفلاح.
الرابعة : عدم وجود برزخ وحاجب بين الإنسان والفلاح.
وتدل آية البحث على أن الفلاح ثواب عاجل في الدنيا ، وحضور الجزاء والأجر العظيم في الآخرة ، وهل يشمل الفلاح الناس جميعاً بفضل من عند الله ، الجواب لا دليل عليه لإقترانه بالإيمان وترشح عن أداء التكاليف وهو الذي تدل عليه آية البحث , قال تعالى [فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ]( ).
ومن الإعجاز في المقام انه مع إجتهاد المسلمين في طاعة الله ذكرت الآية احتمال ورجحان نيل مرتبة الفلاح بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] نعم لا يختص الفلاح بالمسلمين فهو نعمة عظمى على المسلمين وأتباع الأنبياء من الأمم السالفة ، فقد صاحب الفلاح آدم وحواء من حين هبوطهما إلى الأرض ، فقد كانا أول مفلحين في الأرض ، لبيان قانون وهو سبق الفلاح على عدمه في الأرض وصيرورته ثروة وتركة ومنهاجا وحجة .
لقد تحلى آدم وحواء بأسمى معاني الصبر بعد مغادرتهما الجنة ونعيمها بسبب غواية من ابليس ، قال تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( ).
ليكون من دلالات كلام الله عز وجل لآدم قبلاً ، وتفضله بتعليمه الأسماء كلها إصلاحه للصبر والمصابرة لعمارة الأرض بالخلافة ، وعدم الوقوف عند النوح على مصيبة الخروج من الجنة بما يشبه الطرد .
ومن عظيم نفع هذا الصبر إدراك قانون وهو أن آدم لم يخلق ليقيم في الجنة إنما خلق للإقامة في الأرض وبعنوان خليفة لله فيها ، وتلك نعمة غبطه عليها الملائكة ، فلابد أن يهبط آدم إلى الأرض طوعاً وقهراً وانطباقاً ، ثم احتاج آدم وحواء الصبر للعمل والكسب وتوفير الطعام واللباس ، وأداء الفرائض ومناسك الحج ، ثم جاءت مصيبة قتل أحد أبنائهما وهو قابيل لأخيه هابيل ، ليكون آدم وحواء في حال رباط وحذر ويقظة من الفساد والقتل وسفك الدماء .
وعن عبد الله بن مسعود وناس من الصحابة[فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ] ليقتله ، فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال ، فأتاه يوماً من الأيام وهو يرعى غنماً له وهو نائم ، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات ، فتركه بالعراء ولا يدري كيف يدفن ، فبعث الله غرابين أخوين ، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ثم حثا عليه التراب ، فلما رآه قال : يا ويلتا ، أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب( ) .
ويروى أنه لما قتله اسودّ وجهه وكان ابيض (فسأله آدم عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلاً ، فقال : بل قتلته ولذلك اسودِّ جسدك)( ).
ولو صبر وتصابر قابيل فهل يقتل أخاه هابيل الجواب لا ، لبيان قانون وهو أن صبر وتصابر المسلمين واقية من اشاعة القتل بينهم ، والصبر حرز لدفع الإقتتال بين الناس مطلقاً وهو من مصاديق قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) .
فلو صبر المشركون عن البدء بالقتال مثلما صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لما وقعت معركة بدر أو معركة أحد ، ولا يعلم ما صرف الله عز وجل عن المسلمين والناس بامتثالهم بمضامين آية البحث إلا الله عز وجل لبيان أن الرباط لم يكن أمراً مستحدثاً في أيام البعثة النبوية إنما هو حاجة للناس جميعاً منذ أيام أبينا آدم ، وهو من معاني الإبتلاء في الحياة الدنيا.
وهل كان آدم وحواء يتلاومان على ترك نعيم الجنة بسبب الوثوق والتصديق بقول ابليس , الجواب قد ألهم الله عز وجل آدم وحواء الإستغفار والإحتراز من الشيطان ووسوسته وهداهما للسعي إلى اللبث الدائم في الجنة , وفي التنزيل[قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( ).
لقد رزق الله عز وجل آدم الوحي والنبوة ، وأنزل عليه الكتاب لبيان أن كلاً من النبوة والوحي لآدم فلاح له ولحواء وأبنائهما ، وتأسيس لسنن الفلاح في الأرض ، وحجة على الذين كفروا ممن أصروا على هجران الفلاح وعدم الإنتفاع من هذه النعمة ، وأول من فرط فيها من أهل الأرض قابيل بن آدم ليتجلى قانون وهو حاجة آدم وحواء إلى الصبر والمصابرة.
وقيل أن السودان كلهم من ولد قابيل , وعن ابن مسعود : أن نوحاً عليه السلام اغتسل ، فرأى ابنه ينظر إليه فقال : تنظر إلي وأنا أغتسل؟ حار الله لونك . فاسود فهو أبو السودان( ).
وعن محمد بن اسحاق كان نوح نائماً فرآه ابنه حام عرياناً فلم يستره فاسود في الوقت فالسودان من ولده ، ورآى عن سام اباه نوحاً بتلك الحال فستره.
ولا دليل على كون ذوو البشرة السوداء من ابناء قابيل أو حام , او أن سواد البشرة عقوبة .
وعن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سادات السودان أربعة : لقمان الحبشي . والنجاشي . وبلال . ومهجع( ).
ويمكن تسمية الحياة الدنيا (دار الفلاح) من ينال فيها الفلاح والتوفيق يفوز بالفلاح في الآخرة.
ومن المقاصد والغايات السامية في خاتمة آية البحث حث المسلمين والمسلمات على التقوى والإجتهاد في أسباب بلوغ مرتبة الفلاح في العبادات والمعاملات ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن الفلاح تحلي المسلمين بمضامين آية البحث وفيه جذب للناس للإيمان ، فمن معاني قوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ترغيب الناس بالفلاح وأسبابه ونتائجه ، ومنافعه في الدنيا والآخرة ، وفيه استئصال للظلم والتعدي ، وزاجر للمشركين عن قيامهم بغزو المسلمين .
ومن الغايات الحميدة في المقام وجوه:
الأول : لعلكم تفلحون فتقيمون على الفرائض.
الثاني : لعلكم تفلحون فيرزقكم الله من فضله.
الثالث : لعلكم تفلحون ، في تولي شؤون الولاية والحكم في الأرض ، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الرابع : لعلكم تفلحون بصرف غزو المشركين عنكم ، فصحيح أن قوله تعالى (تفلحون) يدل على بعث المسلمين للعمل الصالح سواء اتيان ذات الفلاح أو إتيان الأمور التي تؤدي الى الفلاح ، ولكن الآية أعم ، ويكون تقدير الآية بلحاظ أثر الفلاح في الناس على وجوه :
الأول : لعلكم تفلحون فيرغب الناس بالإسلام كسبب لفلاح المسلمين.
الثاني : لعلكم تفلحون بهداية الناس لنهج الإيمان الذي أنتم عليه.
الثالث : لعلكم تفلحون بكف الناس أيديهم عنكم , قال تعالى[وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابع : لعلكم تفلحون بدفع الذين كفروا عن غزوكم ، إذ أن سلامة وأمن المسلمين من غزو المشركين للمسلمين نعمة عظمى على المسلمين والناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن الفلاح في نجاة المسلمين من الغزو وجوه :
الأول : سلامة المسلمين والمسلمات من القتل والجرح والأسر والسبي خاصة وأن الغزو يحتمل المباغتة والمفاجئة للمغزو ، لذا جاءت آية البحث لطرد الغفلة عن المسلمين ، ولإشعار المشركين بقانون يقظة المسلمين وحراستهم للبلاد في الليل والنهار، قال تعالى [وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا]( ).
الثاني : عصمة مجتمع المسلمين والمسلمات من الفتنة وأسباب الأذى التي تترشح عن الخسائر التي تتفرع عن الغزو والهجوم .
الثالث : تدبر الناس في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول طوائف وأفواج منهم الإسلام.
الرابع : إجتهاد المسلمين في طاعة الله ، والتفقه في الدين وارتقاؤهم في المعارف الإلهية ، قال تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
الخامس : حفظ المسلمين على نحو العموم الإستقرائي لآيات القرآن ، وتفاعلهم وتذاكرهم بها وبأخبار وأقوال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتركها تركة للأجيال .
السادس : من أضرار الغزو كثرة الخسائر والتلف في الرواحل والأموال والزراعات ، فتفضل الله عز وجل بقوله [وَرَابِطُوا] ليكون الرباط أمن من الغزو والخسائر التي تترشح عنه ، وهو من إعجاز القرآن بأن تصرف الكلمة الواحدة منه البلاء والضرر عن المسلمين والناس.
ليكون من معاني قوله تعالى[قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( )، عجز الجن والإنس عن إحصاء النعم التي تترشح عن كل من :
الأولى : نزول الآية القرآنية .
الثانية : العمل بمضامين الآية القرآنية .
الثالثة : كل كلمة من القرآن نعمة متجددة ، كما في كلمة (ورابطوا) .
الرابعة : موضوعية حرف العطف الوارد في الآية أعلاه (ورابطوا) في جلب المنافع ودفع المفاسد ، فهناك فرق في المعنى والدلالة بين (رابطوا) وبين (ورابطوا) فجاءت الآية بالمعنى الأوفى ، والباعث على طاعة الله ، والجمع بين وجوه الطاعة من الصبر والمصابرة والمرابطة وتقوى الله.
الخامسة : النعم التي تأتي بالعمل بالجمع بين مضامين الآية القرآنية الواحدة ، كما في آية البحث إذ يفيد العطف فيها لزوم الجمع بينها في المنهاج والعمل مثلما يجمع بينها في التلاوة ، والوجود الذهني وحضور كل فرد منها عند تلاوة أو سماع الأوامر التي فيها .
السادسة : عجز الجن والإنس عن إحصاء النعم التي تترشح عن الجمع بين الآيتين من القرآن في المعنى والإعجاز والدلالة ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
السابعة : عدد العاملين بمضامين آيات القرآن ، وأوان وكيفية هذا العمل .
الثامنة : الثواب العظيم على العمل بمضامين آيات القرآن ، فلا يعلم هذا الثواب ومقداره وكيفيته وطول مدته إلا الله عز وجل .
التاسعة : عجز الخلائق عن الإحاطة بالذخائر والمنن التي تتضمنها خاتمة آية البحث (لعلكم تفلحون).
لبيان قانون وهو أن قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] كنز من كنوز العرش تفضل الله عز وجل وأنزله للمسلمين للإجتهاد في طاعته والتقيد التام وبصيغ الشوق والرضا بأحكام آية البحث ، وقد ورد لفظ (لعلكم تفلحون) إحدى عشرة مرة في القرآن وهي :
الأولى : [ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثانية : [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثالثة : [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الرابعة : [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الخامسة :[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
السادسة : [قُلْ لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
السابعة : [أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثامنة : [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
التاسعة : [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
العاشرة : [وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الحادية عشرة : [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ويحتمل الثواب والفضل من الله عليها وجوهاً :
الأول : لكل آية من آيات الفلاح وقول(لعلكم تفلحون) في القرآن ثواب مستقل ، ويحتمل جهات :
الأولى : الثواب على هذه الآيات من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة .
الثانية : كل آية لها ثواب مخصوص في موضوعه وجنسه .
الثالثة : الثواب على هذه الآيات من الكلي المشكك الذين يكون على مراتب متفاوتة في الكثرة من جهة الكم والكيف والذي يتضاعف اضعافاً كثيرة ، ويدل على المضاعفة في المقام قوله تعالى[مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثاني : لآيات الفلاح مجتمعة ثواب واحد لإتحاد الموضوع .
الثالث : موضوعية لفظ (لعلكم) في الرجاء والبعث على العمل بمضامين آيات الفلاح فقد يأتي الفلاح دفعة أو تدريجاً وقد يكون معلقاً .
الرابع : لكل آية من آيات الفلاح ثواب مستقل , ويضاف إليه ثواب إتحاد الموضوع ، والجمع بين هذه الآيات .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الأول ، والوجه الرابع أعلاه .
ومن الإعجاز في خاتمة آية البحث إختتامها بالترغيب بالعمل بمضامينها ، وفيه صرف للمسلمين عن الهجوم ورد غزو الذين كفروا بمثله لأن المسلمين ينشغلون بالإصلاح وإكتناز الحسنات الذي يدل عليه قوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] .
فان قلت هل فيه سبب لتجرأ الكفار على تكرار الغزو والتعدي على المسلمين وثغورهم ، الجواب لا ، لدلالة ذات آية البحث على المرابطة المقرونة بالصبر والتقوى والخشية من الله عز وجل .
ومن معاني الجمع الأوامر الواردة في آية البحث إدراك الذين كفروا لقانون حيطة والمسلمين المستمرة ، وقانون (يقظة المسلمين) وهل له شواهد واقعية من أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : تردد الذين كفروا في الهجوم على المسلمين ، وغزو المدينة.
الثانية : امتناع كثير من القبائل عن نصرة قريش في هجومها على المسلمين .
الثالثة : إجتناب عدد من رؤساء يهود المدينة إعانة ونصرة المشركين.
الرابعة : بلوغ آيات القرآن التي تتضمن حث المسلمين على الدفاع الى اسماع ومنتديات الذين كفروا ، قال تعالى[وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، ومع قلة كلمات الآية أعلاه فقد ورد التقييد فيها من وجوه :
الأول : لا يصح القتال إلا ضد الذين يقاتلون المسلمين من المشركين.
الثاني : قصد القربة ، وشرط القتال في سبيل الله ، وليس من أجل المغانم أو العصبية أو الثأر أو الإستيلاء على أرض ونحوه.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على عدم ابتداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين القتال ، ليكون مصداق عدم الإبتلاء هذا في ميدان المعركة من الشواهد على كون السنة النبوية مصداقاً لآيات القرآن .
الثالث : النهي من عند الله للمسلمين عن التعدي ، ويفيد هذا النهي الحرمة ، وهل يختص النهي عن التعدي في الآية بخصوص القتال الجواب هو أعم، فيشمل ما قبل القتال ومقدماته وما بعده.
الرابع : اختتام الآية بقانون وهو بغض الله للمعتدين , قال تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( ).
الخامسة : فضل الله عز وجل في بعث الخصومة والخلاف بين الذين كفروا وبعث الخوف في نفوسهم.
لقد كانت دار الندوة في مكة محلاً لتذاكر قريش لأخبار الأمم السالفة ومعارك العرب الأولى مثل حرب البسوس وحرب الفجار ، والمعارك التي وقعت بين العرب وغيرهم ، مثل معركة ذي قار , وقد تقدم ذكر أسبابها في الجزء التاسع بعد المائة من هذا السِفر المبارك .
وأنها كانت بمكر وثأر بين النعمان بن المنذر ملك الحيرة وبين المستشار العربي لكسرى ملك فارس .
فبعد أن سعى عدي بن زيد كاتب كسرى بالعربية إلى جعل كسرى يؤيد تنصيب النعمان بن المنذر ملكاً على الحيرة ، وتوّجه بتاج قيمته ستون ألف درهم ، لكي يحفظ حدود مملكة فارس من الغارات وهجوم أفراد القبائل العربية صار عدي بن مديا يحرض النعمان على عدي بن زيد ، ويخبره كذباً بأنه يذكره بسوء عند كسرى ، فلما جاء عدي بن زيد إلى الحيرة وبدل من أن يكرمه النعمان حبسه في السجن ، فأرسل كسرى رسولاً للنعمان يأمره باطلاق سراحه ، ولكنه قتله في السجن في ذات الساعة التي أبلغه الرسول هذه الرسالة ، ثم ندم النعمان على ما فعل .
وفي أحد الأيام كان النعمان خارجاً إلى الصيد فرأى ولداً لعدي بن زيد اسمه زيد فسّر به كثيراً ، واعتذر له عن قتل أبيه وأراد التدارك فكتب إلى كسرى يطلب منه أن يجعل زيداً هذا كاتباً عنده في محل أبيه ، فاستجاب كسرى لطلبه فأخذ زيد هذا يتحين الفرص للمكر بالنعمان فجاء خاطباً لكسرى منه وبطريقة وكيفية أثار بها غيرة النعمان وكأنه يشبب ببناته ، فتلفظ النعمان بكلمات أساءت إلى كسرى ، فكانت معركة ذي قار( ).
ولو علم كسرى بهذا المكر لما أصر على قتل النعمان ، وطلب بناته من هاني بن مسعود الشيباني .
وكانت قريش تذكر الوقائع وأيام العرب في منتدياتها ، ويأتي التجار منهم بأخبار الأمم من الفرس والروم والحبشة واليمن وغيرها .
فكان النضر بن الحارث يترجم قصة هرمز وسلفنديار ، ويقف خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعندما يتلو النبي صلى الله عليه وآله وسلم في البيت الحرام آيات القرآن وما تتضمنه من الوعد والوعيد يقف خلفه النضر بن الحارث ليروي أخبار فارس والروم لمنع إنصات الناس الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن ، التي جعلت الناس يعرضون عن هذه القصص ويتركون العناية الفائقة بالشعر والشعراء .
وعن السدي قال : كان النضر بن الحارث يختلف إلى الحيرة فيسمع سجع أهلها وكلامهم ، فلما قدم إلى مكة سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن فقال { قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ، إن هذا إلا أساطير الأولين}( ).
إذ أدرك الناس أن كل آية من القرآن تتضمن عدة قوانين منها ما هو ظاهر وجلي ، ومنها ما يستلزم الوسائط والتدبر ، وهو الذي تصدى له علماء الإسلام في الأزمنة المتعاقبة .
ومن إعجاز القرآن تخلف الناس في زمانهم عن إستظهار ذخائر من القرآن , ويصدق هذا العجز أمس واليوم وغداً .
فيستحضر أهل كل زمان كتب وأبحاث التفسير كلها ، فيظهرون بنتيجة وهي تخلف هذه الكتب عن العلوم الكامنة في ثنايا آيات القرآن والتي تدعوهم في كل يوم للتحقيق والنهل من فيوضاتها ، وهذا النهل من مصاديق خاتمة آية البحث (لعلكم تفلحون) .
ومع هذا فالبيان الذي يتجلى في ذات آيات القرآن وعلوم التفسير كان للحجة والبرهان، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : خيركم من تعلم القرآن وعلمه( ).
وتدل آية البحث في مفهومها على بعث السكينة في نفوس المسلمين بالأمن من العذاب الذي ينزله بالذين كفروا بسبب ظلمهم وتعديهم بالتلبس بذات الكفر واختياره وبصدهم عن المسجد الحرام.
وتتضمن إرادة تعليم المسلمين بعدم الصدّ عن المسجد الحرام ، وعدم صيرورة المذهب والطائفة والإنتماء القبلي سبباً للمنع من حج أو عمارة البيت الحرام ، وعدم المنع هذا من خصال المتقين ، وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : بيان حاجة المسجد الحرام إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : حاجة البعثة النبوية في تثبيتها ونصرتها للمسجد الحرام لأحدهما ، والمختار هو الثاني والثالث أعلاه .
فجاءت آية البحث تعضيداً لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتثبيتاً لها في المجتمعات والأمصار .

الآية الثانية قوله تعالى [ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
تبين آية البحث قانوناً وهو تعذيب الله للذين كفروا ، وفيه نوع تحد قرآني للناس بوجود مصاديق ظاهرة جلية لهذا التعذيب فلا يستطيع قوم القول بأن الذين كفروا كانوا في اتم النعم ، أو أنهم لم يعذبوا وتدعو الآية العلماء والمحققين من المسلمين وغيرهم إلى استظهار وجوه التعذيب هذه ، ومنها :
الوجه الأول : إنحصار تجارة قريش ، واصابة أموالهم بالنقص ، لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً وقوافل قريش تجوب الصحارى والفيافي محملة بالبضائع ، وكانت المعارك بين الروم والفرس حينئذ قد تسببت بقطع الطريق التجاري بين العراق والشام ، وهو الطريق الذي يربط الهند ببلاد الروم ، ويدل على وقوع المعارك آنذاك قوله تعالى [الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ] ( ).
لتدل الآية أعلاه على الرحمة العامة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانقطاع الحروب بين الدولة الرومانية والفارسية الى يوم القيامة لتبدل الحال وانتفاء الموضوع.
فكانت قريش تقوم بنقل البضائع والتجارات من الموانئ في اليمن إلى الشام بقوافل وقطارات من الإبل ، ولا يستطيع غيرهم القيام بهذا العمل من جهات :
الأولى : كثرة أموال قريش ، والإبل التي عندهم وسرورهم وأنسهم بها.
الثانية : الصلات الحسنة لوجهاء قريش مع تجار الشام واليمن ، ومعرفتهم بحاشية وبلاط هرقل ، وإمكان الوصول إليهم ، وإيصال الهدايا لهم ، لذا حينما جاء كتاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى هرقل ملك الروم في السنة السادسة للهجرة يدعوه فيه للإسلام ، بعث هرقل الى السوق ليحضروا من له صلة قربى أو معرفة شخصية بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحضر أبو سفيان وجماعة من قريش ، وعندما سألهم هرقل من أقربهم رحماً منه ، قال أبو سفيان : أنا ، لأنه يتصل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجد الثاني .
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إبن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، وأبو سفيان واسمه صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ز
( وقيل إن عبد شمس وهاشما توأمان وإن أحدهما ولد قبل صاحبه وأصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه فنحيت عنها فسال من ذلك دم فتطير من ذلك فقيل تكون بينهما دماء وولى هاشم بعد أبيه عبد مناف السقاية والرفادة( ).
وقد زاولت قريش التجارة بعد صلح الحديبية لعقد الأمان الذي عقده معهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ مع وفد قريش برئاسة سهيل بن عمرو ، والذي كان شديداً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ، وما لبث أن دخل الإسلام وخرج في سرايا الدفاع.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ملاحقة ذكر النبي وشأنه لرجالات قريش في الشام وفي حضرة وبلاط هرقل نفسه ، فأدرك عظيم الشأن الذي صار إليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : الشأن والجاه لقريش عند القبائل العربية ، ومنها التي تمر على أراضيهم قوافل تجارتهم ، إذ تحفظ لهم القبائل جوارهم البيت الحرام ، وعمارتهم له ، وسقايتهم واستضافتهم لوفد الحاج ، ونصرتهم المظلوم في الحرم ، وتدرك القبائل أن الذين يتعرضون لقوافل قريش يلحقهم الخزي بين القبائل وعند أهل مكة .
الرابعة : قيام قريش باقراض شيوخ وأفراد القبائل العربية ، وامهالهم عند التخلف عن القضاء في الوقت المحدد ولجوء القبائل لهم في الديات والغرامات ، ومنه التعرض للغزو وسبي النساء والصبيان لما لقريش من تأثير على القبائل الأخرى .
الخامسة : قيام قريش باقراض القبائل وبالربا والربح الزائد على أصل المال ، وبأن يقرضوا الفرد أو الجماعة مبلغاً من المال لمدة سنة ، وعند عدم وفاء الدين بعد انقضاء السنة يؤجل القضاء سنة أخرى مع قرض ربح عليه ، وجاء الإسلام بتحريم هذا الربح ، والإكتفاء بقضاء أصل القرض ، ورأس المال ، قال تعالى [فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]( ).
ومنع الله المسلمين والمسلمات من أخذ الربا على القرض ، ليكون هذا المنع حرباً على الربا ، ودعوة للناس جميعاً بالعزوف عنه ، وليبعث النفرة في النفوس منه ، إذ قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) ( )،
الوجه الثاني : إبتلاء قريش بنقص الأموال والإبل ، وعدد قوافل التجارة بسبب حربهم على الإسلام ، وغزوهم للمسلمين في بلدتهم المدينة بعد وقوع معركة بدر ، وخسارة قريش فيها ، ومن مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في احتجاجه على الملائكة حينما احتجوا على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، ابتلاء الذين كفروا بالنقص في الأموال وضعف الجاه عند محاربتهم النبوة والإيمان , وجعلهم عاجزين عن مواصلة الغزو والهجوم وإن امتلأت نفوسهم غيظاَ ، وظهر حنقهم في القول والفعل ، مع فضل الله عز وجل في هداية طائفة منهم ، ودخولهم الإسلام لتوالي المعجزات ، وإقامة الحجة والبرهان في كل يوم على صدق النبوة وقبل معركة بدر سار خلف بن أمية ، بقافلة مؤلفة من ألف وخمسمائة بعير محملة بالبضائع ، ومرت قريباً من المدينة في طريقها إلى مكة , ولم يتعرض لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد يستغرب الناس في هذه الأزمنة وجود هذا العدد الكبير من الإبل في قافلة واحدة آنذاك مع بعد المسافة بين الشام ومكة ، وخطورة الطريق ، وصعوبة سير القافلة على نسق متصل , واختفت هذه الصورة والهيئة في الجزيرة بعد محاربة قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأن قريشاً سخروا أموالهم في الحرب وغزو المدينة ، قال تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ]( ) .
الوجه الثالث : إعراض وعزوف الناس عن كفار قريش وامتناع شطر من أهل مكة وأكثر أفراد القبائل عن نصرتهم واتباعهم .
ومن مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على احتجاج الملائكة على خلافة الإنسان في الأرض بأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء أن الله عز وجل يبتلي المفسدين بنقص الأموال وعزوف الناس عن نصرتهم ، إذ أنهم يظنون اتباع الناس لهم وانقيادهم لهم في الحرب مثلما يرون انقيادهم وطاعتهم لهم في الدنيا وحال الرخاء والدعة، فيطوف كفار قريش على الناس والقبائل لندبهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيمتنع أكثر الناس عن نصرتهم .
وقد تجلى مصداق هذا الإمتناع في صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة إذ اضطر المشركون الى عقد الصلح مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه جاء مع ألف وأربعمائة من أصحابه ليس معهم إلا سلاح الراكب ، ولكنهم كانوا في شهر حرام وهو شهر ذي القعدة ، فرضي المشركون بدخوله وأصحابه مكة في السنة الثالية وهي السابعة للهجرة والتي سميت عمرتهم فيها عمرة القضاء .
ثم جاءت السنة الثامنة للهجرة ، وفيها نقضت قريش بنود الصلح التي أبرموها مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن أعانوا خفية حلفاءهم من بني بكر على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمال والسلاح والرجال ، وقيل أن كفار قريش هم الذين حرضوا بني بكر على خزاعة فاغاروا عليهم ليلاً وكان بعضهم يتهجد , ويعبد الله , وبعضهم نيام عند ماء لهم يسمى الوتير.
وإذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مهاجراً ليس معه إلا واحد من أصحابه كما ورد في قوله تعالى[ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( )فقد عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة في السنة الثامنة للهجرة , ومعه عشرة آلاف من أصحابه ، وهي معجزة حسية في باب المقارنة.
وتناجى بعض رجالات قريش للخروج لقتاله فعجزوا عن جمع الأنصار والأعوان ، بينما خرجت يوم فتح مكة المخدرات إلى الأزقة تنتظر دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مستبشرات بالفتح مع شماتة بكفار قريش لطغيانهم وما جلبه عليهم وعلى أهل مكة عنادهم وغرورهم وجلبهم الأذى والضرر لأنفسهم والناس ، قال تعالى [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( ).
الوجه الرابع : توالي وتتابع معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسرعة انتشارها بين الناس ، وذات المعجزة وسرعة انتشارها من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة يطوف على وفود القبائل في أسواق مكة مثل سوق عكاظ وسوق مجنة يدعوهم إلى الإسلام ، ويدعوهم للكتمان عليه وإن لم يؤمنوا بنبوته ، ويتلو عليهم آيات من القرآن ليتدبروا في معانيها ودلالاتها ويفوح منها الطيب والعطر الذي ينفذ إلى شغاف القلوب , قال تعالى في الثناء على القرآن ، وإقامة الحجة والبرهان به [وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ]( ).
كما يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم القبائل في منازلهم في منى أيام التشريق والموسم يعرض عليهم نفسه كرسول من عند الله عز وجل .
وكانت أكثر القبائل تعرض عن دعوته ، وتمتنع عن التصديق به خشية من سخط قريش ، ولكن هذا الإمتناع لم يكن على نحو السالبة الكلية ، إذ يظهر بعض أفراد القبائل الميل الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته لأنها موافقة للفطرة والإنسانية ولتجلي المعجزة والبرهان الذي يخاطب العقول ، ويجذب النفوس طوعاً وقهراً .
وهل في إعراض الناس عن كفار قريش وتوالي نزول آيات القرآن عذاب لهم ، ومصداق لقوله تعالى[وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ]( )، الجواب نعم ، لأن التعذيب أعم من أن ينحصر بالأذى الجسدي فيشمل بعث الغيظ والحسرة والأسى في نفوس الذين كفروا ، وشعورهم بالحرمان مع فقدان بريق السلطان على النفوس وفي المجتمعات ، قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
ومن مصاديق الرحمة العامة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن هذا العذاب ابتدائي ومقدمة وإنذار من عذابهم وخسارتهم في معركة بدر ، كما أن هذه العذاب والخسارة مقدمة وإنذار للذين كفروا من عذابهم يوم القيامة أن ماتوا على الكفر ، قال تعالى[وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ).
ومن أسباب ونتائج تعذيب الكفار ومنعهم من غزو المدينة أي أنهم يعزمون على غزو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فيبتليهم الله بالعذاب ليصير سبباً وعلة لجعلهم عاجزين عن الهجوم والغزو ، ليكون تعذيب الكفار هذا من المدد من عند الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وفي آية البحث مواساة وسكينة للمسلمين ، ومنع لهم من الهم والعزم على الهجوم وغزو المشركين , أو مقابلة هجوم وغزو المشركين بالمثل لأن عذاب الله عز وجل الذي ينزل بالمشركين أشد وأمرّ عليهم من غزو المسلمين لهم .
ومن صفات الكفار الذين يحاربون الأنبياء حلول الفرقة والشقاق بينهم قال تعالى [وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ]( ).
وتبين آية البحث صيرورة رجحان الكفة للمسلمين ، لتبيان حال الطرفين :
الأول : المسلمون وهم في حال عز ورفعة وحسن توكل على الله ، قال تعالى [وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
الثاني : المشركون وهم في حال عذاب وفزع وخوف .
وهل فيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم بلحاظ التباين بين حال المسلمين والأمن الذي هم فيه ، وحال الذين كفروا وشدة العذاب التي هم فيها ، ويكون من وجوه تقدير آية البحث وجوه :
الأول : وما لهم ألا يعذبهم الله ليمتنعوا عن الظلم والتعدي .
الثاني : وما لهم ألا يعذبهم الله ليكفوا عن الغزو .
فهذا العذاب العاجل رحمة بهم ، وبرزخ دون قيامهم بالغزو , وما فيه من الأضرار من جهات :
الأولى : عذاب الكفار سبب لإنشغالهم بأنفسهم .
الثانية : تذكير الكفار بعظيم قدرة الله ، وبعث الخوف في نفوسهم من استدامة أو شدة العذاب.
الثالثة : زجر الناس عن الركون للذين كفروا أو اتباعهم ومحاكاتهم في إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الرابعة : جعل الذين كفروا يتفكرون في حال العذاب التي أصابتهم بعد جحودهم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( ).
الخامسة : تجلي مصداق لإستجابة الله عز وجل لدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما إزداد إيذاء قريش له وقيامهم بقتل طائفة من أصحابه، توجه بالدعاء والمسألة إلى الله عز وجل .
ولم يقم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغزوهم أو الإغارة على قوافلهم فمثلاً حضر أبو جهل وأخوه الحارث بن هشام الى المدينة من أجل استرداد أخيهما لأمهما عياش بن أبي ربيعة وكلماه (وأخبراه أن أمه قد نذرت أن لا تغسل رأسها ولا تستظل حتى تراه، فرقت نفسه وصدقهما وخرج راجعاً معهما فكتفاه في الطريق، وبلغاه مكة، فحبساه بها مسجوناً، إلى أن خلصه الله بعد ذلك بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له في قنوت الصلاة:
اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، الله اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف. ثم استنقذ الله عياش بن أبي ربيعة وسائرهم وهاجر إلى المدينة( ).
ولما قدم أبو براء عامر بن مالك الملقب بملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرض عليه الإسلام , وتلا عليه آيات القرآن ، فلم يسلم ولكنه لم يبق بعيداً عن الإسلام ، واقترح على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث جماعة من أصحابه إلى أهل نجد لدعوتهم إلى الإسلام ، وبيان معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحكام الإسلام فقال أبو البراء : أنا جار لهم فابعثهم .
فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعين من أصحابه ، فنزلوا في بئر معونة بين أرض بني عامر وحرة بني سليم فعدا عليهم عامر بن الطفيل ومعه عصية ورعل وذكوان من قبائل بني سليم فقتلوهم .
(ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلتهم بعد الركعة من الصبح فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر! اللهم سنين كسني يوسف! اللهم عليك ببني لحيان وعضل والقارة وزغب ورعل وذكوان وعصية فإنهم عصوا الله ورسوله، ولم يجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على قتلى ما وجد على قتلى بئر معونة)( ).
السادسة : عذاب الذين كفروا سبب لزيادة ايمان المسلمين ، ليس من باب الشماتة إنما لإدراك معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اصابة عدوهم بالضرر والأذى .
السابعة : عجز الذين كفروا عن خيانة أو خداع النبي محمد والمؤمنين ، وفي التنزيل [وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الثامنة : دعوة الذين كفروا وذويهم وعوائلهم للتفكر فيما ينزل بهم من العذاب ، مع نزول آيات القرآن التي تحث على التوبة وترّغب بها ، وتبين عظيم نفعها في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ]( ).
التاسعة : دعوة أجيال المسلمين والناس جميعاً لمعرفة ضروب العذاب التي ابتلي بها الذين كفروا مع أسبابها وآثارها عليهم ، وكيف أنها سبب للتخفيف عن المسلمين ، ومانع من غزو وهجوم المشركين على المدينة المنورة وعلى الأفراد والسرايا من المسلمين الذين يخرجون للتبليغ أو للتجارة والكسب ، أو لأمور خاصة .
وفي نزول العذاب بالمشركين رحمة بمسلمي ومسلمات مكة ممن لم يهاجر بعد من جهات :
الأولى : التخفيف عن مسلمي مكة ، ومنع الذين كفروا من الإمعان في إيذائهم ، ليكون هذا التخفيف من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
الثانية : زيادة إيمان مسلمي ومسلمات مكة ، لرؤية الآيات والبراهين تتجلى باصابة الذين كفروا بالبلاء .
ومن إعجاز القرآن الغيري نزول آية البحث وإخبارها عن علة نزول العذاب بالذين كفروا , وأنه من عند الله عز وجل جاء بسبب كفرهم بالرسالة والنبوة ، وقيامهم بغزو المدينة والإصرار على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولو لم تنزل آية البحث لمرّت مصاديق وشواهد العذاب الذي تعرض له الذين كفروا وكأنها حوادث مرهونة باسبابها العرضية الطارئة ، فتفضل الله عز وجل بانزال آية البحث ليتعظ الناس والى يوم القيامة بما أصاب الذين كفروا ولتزداد حسرتهم .
ومن أسماء يوم القيامة يوم الحسرة والحسرة هي الندامة وشدة الأسى على التفريط وتصيب الحسرة الكافر والمنافق من ساعة الإحتضار ورؤيته لملائكة العذاب ، وحالما يدخل القبر.
الثالثة : سلامة مسلمي ومسلمات مكة من الإرتداد وإن قام الذين كفروا باغوائهم وإيذائهم والتضييق عليهم ، فان قلت العذاب الذي يبتلى به الذين كفروا يمنعهم من إغواء وإيذاء الذين آمنوا .
الجواب هذه صحيح ، ولكن هذا المنع نسبي ، فمع ما فيه من الأذى على الكفار فقد يسعون لحمل بعض المسلمين خاصة أبنائهم على الإرتداد ، فجاءت آية البحث دعوة سماوية لهؤلاء المسلمين لإثبات في مقامات الهدى والإيمان , قال تعالى [وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ]( ).
الرابعة : دعوة الناس لدخول الإسلام ، والتصديق بالمعجزات النبوية لإخبار آية البحث عن نزول العذاب بالذين كفروا بسبب شركهم بالله ، وعبادتهم الأصنام ، وإنكارهم لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم واشهارهم السيوف في الحرب عليه ، وجريان الدماء في معركة بدر وأحد ، قال تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الخامسة : إتخاذ مسلمي ومسلمات مكة ما ينزل بالكفار من الأذى مادة وموضوعاً للإحتجاج وإقامة البرهان على لزوم التوبة والكف عن إيذاء المؤمنين.
ومن إعجاز آية البحث مجيؤها بصيغة المضارع [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ] لبيان اتصال وتجدد العذاب بالذين كفروا ليكون من إعجاز قوله [يعذبهم] وجوه :
الأول : الإخبار عن وقوع العذاب بالذين كفروا في الدنيا ، وهو مقدمة لعذابهم في الآخرة , قال تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ]( ).
الثاني : بيان شدة عذاب الذين كفروا ، واتصاله ، وهل يتناسب عذاب الذين كفروا في شدته طردياً مع شدة ايذاء الذين كفروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , الجواب نعم ، وعندما يخفف الذين كفروا هذا الأذى لايخفف عنهم العذاب لجهات :
الأولى : اضطرار الذين كفروا لهذا التخفيف .
الثانية : حصول هذا التخفيف كرها على الذين كفروا ومن غير قصد منهم ، لأنهم مقيمون على الإصرار على ايذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الثالثة : بقاء الذين كفروا على الشرك ذاته إيذاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , وسبب للعذاب الشديد للذين كفروا .
الرابعة : ذكرت آية البحث صدّ الذين كفروا عن البيت الحرام كعلة وسبب لعذابهم ، وهل نصبهم الأصنام في البيت الحرام من هذا الصدّ الجواب نعم ، قال تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ).
لقد سعى الذين كفروا في الحرب على البيت الحرام ، وأرادوا منع البركة التي يتصف بها والتي تترشح منه فتفضل الله عز وجل وأنزل بهم العذاب ليمتنعوا طوعاً وقهراً عن صدّهم الناس عن المسجد الحرام ، وعن حربهم على النبوة والتنزيل ، وفي إبراهيم عليه السلام وإيذاء الكفار له ورد قوله تعالى [فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَسْفَلِينَ]( ).
ومن معاني آية البحث أن الله عز وجل يعذب المشركين أثناء صدّهم عن البيت الحرام ، كما أن هذا العذاب لم يمنعهم من مواصلة الصدّ عن البيت الحرام مما يدل على إصرارهم على الجحود والإضرار بأنفسهم والذين آمنوا والناس جميعاً ز
ولو كفوا عن الصدّ عن المسجد الحرام فهل يرفع الله عز وجل عنهم العذاب , المختار لا ، إنما ذكرت آية البحث صدّهم عن المسجد الحرام وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يحاربون النبوة ويجحدون برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم ينكرون التنزيل ، ويستهزئون بآيات القرآن ، وفي التنزيل[الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ]( ).
الثالث : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يضعون ثلاثمائة وستين صنماً في البيت الحرام .
الرابع : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يؤذون المسلمين الذين في مكة ، ليرتدوا عن الإسلام .
الخامس : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يجهزون الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في معركة أحد والخندق.
السادس : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يتناجون بغزو المدينة .
السابع : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يحرضون الناس على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويجمعون الجيوش لقتاله .
الثامن : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يسعون بأيديهم إلى الإقامة في النار، ليكون هذا العذاب إنذاراً عملياً ، وتذكيراً باليوم الآخر ، وسوء عاقبة للذين كفروا ، وفيه بيان لقانون وهو أن مصاديق البشارة والإنذار في قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ) أعم من أن يختص بالبشارة والإنذار القولي ، فيشمل عالم الفعل ، والمصاديق من الواقع الخارجي.
ومن معاني آية البحث حث المسلمين على الصبر على الذين كفروا ، وعدم مقابلتهم بالمثل في تعديهم وغزوهم لأطراف المدينة ، وإرادتهم اقتحامها في معركة أحد والخندق .
وقد يلّح بعض الصحابة في طلب الإنتقام من الذين كفروا خاصة وأن قتل المسلم شهادة وانتقال إلى عالم الخلود ، فنزلت آية البحث مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المواساة والصبر على الذين كفروا مع بقاء الحيطة والحذر من الذين كفروا ، ليكون هذا المدد من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ]( )، وللمنع من الإلحاح على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قتال القوم الكافرين .
وورد لفظ المسجد الحرام في القرآن أربع عشرة مرة منها قوله تعالى [وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( ) ، لبيان موضوعية للمسجد الحرام في الحياة اليومية للمسلم باتخاذه قبلة في الصلوات الخمسة المفروضة.
ترى لماذا لم تسمي الآية المسجد الحرام البيت الحرام كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا]( )، الجواب للدلالة على أن الذين كفروا يعتدون بخصوص المسجد الحرام من جهات :
الأولى : منع المسلمين من الصلاة في المسجد الحرام ، لذا فان ذكر لفظ المسجد للدلالة على عمارة المسلمين له بالصلاة فيه ، وصدّ المشركين لهم .
الثانية : نصب المشركين الأصنام في البيت الحرام ، والتقرب والتزلف إليها , قال تعالى [أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى]( ).
الثالثة : تولي الذين كفروا شؤون المسجد الحرام من الحجابة والسقاية والعمارة بغير حق , لشرط الإيمان في هذه الولاية ، وهو غير موجود عند كفار قريش .
الرابعة : من إعجاز القرآن أنه ورد ذكر البيت الحرام مرتين في القرآن بينما ذكره الله بلفظ المسجد الحرام سبعة أضعاف هذا العدد ، قال تعالى[جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
وهل في الآية بشارة فتح مكة من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه والمؤمنون أولياء المسجد الحرام ، الجواب نعم ، لأن إخبار الله عن عدم ولاية الذين كفروا للبيت الحرام أمارة ودليل على بقاء سلطانهم ونفوذهم في البيت الحرام ، وصدّ الناس عنه .
ومن الإعجاز في الآية أنها لم تحصر الصد عن المسجد الحرام بالمسلمين وتقول الذين يصدون المسلمين عن المسجد الحرام ، إنما وردت بالإطلاق في موضوع الصد ومتعلقه بذات البيت الحرام ، وأنه هو المصدود عنه ، وفي الصدّ في المقام نوع مفاعلة بين :
الأول : الذين يصدون الناس عن البيت .
الثاني : الصدّ والمنع .
الثالث : المصدود عن البيت الحرام .
الرابع : المصدود عنه , وهو المسجد الحرام .
وتبين الآية سلامة المسلمين من العذاب , إنما يختص بالذين كفروا مع بيان علة وسبب عذابهم ، إذ أنهم لم يكتفوا بالكفر والجحود انما حاربوا التوحيد والتنزيل ، وجاء قوله تعالى [يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ) لإرادة الحقيقة والمجاز جمعاً بينهما ، ومن وجوه تقدير الآية :
الأول : يصدون عن الصلاة في المسجد الحرام .
الثاني : يصدون عن تلاوة آيات القرآن في المسجد الحرام.
الثالث : يصدون عن ذكر الله في المسجد الحرام .
الرابع : يصدون عن عمارة المسجد الحرام .
الخامس : يصدون المسلمين عن أداء العمرة والحج .
السادس : يصدون أنفسهم عن المسجد الحرام .
أي أن الذين كفروا يمنعون أنفسهم عن العبادة في البيت الحرام ، وعمارته لأن العمارة بالإيمان والتقوى .
وهل هجوم الذين كفروا في معركة بدر وأحد والخندق من الصد عن المسجد الحرام ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من أشد ضروب الصد عن المسجد الحرام .
الثانية : في هجوم الذين كفروا محاولة لمنع المسلمين من الصلاة وأداء الفرائض .
الثالثة : هجوم الذين كفروا على المدينة إشغال للمسلمين عن عبادتهم ، فجعل الله عز وجل لهم الصبر والمصابرة والمرابطة عبادة وباباً للأجر والثواب ، ومن أفعال الصلاة استقبال البيت الحرام ، قال تعالى [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ) .
فان قيل جاءت الآية بالصد عن المسجد الحرام ، الجواب بيان فضل الله عز وجل على المسلمين والناس ، فان صدّ الذين كفروا عن المسجد الحرام لا يعني تحقق مصاديق هذا الصدّ على نحو السالبة الكلية ، فهم يسعون في الحرب على النبوة والتنزيل والمسجد الحرام فيدفع الله شرهم وأذاهم ، وفي التنزيل [أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ الْمَكِيدُونَ]( ).
أما استقبال المسلمين للبيت الحرام واتخاذه قبلة فلا يضر فيه صدّ وصدود الذين كفروا .
والجواب صدّ الذين كفروا عام ، ويشمل البيت الحرام وضروب العبادة وتوجه المسلمين إلى البيت لأداء الحج والعمرة واتخاذه قبلة , وضياء وتذكرة وموعظة وحرزاً ، وموضوعاً وسبيلا للبركة والرحمة للمسلم وإن كان في المشرق أو المغرب , وهو من مصاديق[وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]( ).
ليكون تعليق الذين كفروا الأصنام فيه من الصدّ عن استقبال البيت وبخصوص السعي بين الصفا والمروة تحرّج بعض الصحابة منه لأن المشركين يسعون بينهما , فنزل قوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( ).
ومن شعائر الله في الآية أعلاه :
الأول : ذات موضع وهيئة جبل الصفا وجبل المروة من شعائر الله لبيان معجزة في الخلق ومصداق لقوله تعالى [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) وقوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ) بأن تكون بقعة من الأرض ملاصقة للبيت الحرام من الشعائر وهي العلامات والدلائل التي تبين بديع صنع الله وتجذب الناس لعبادته والتصديق بأنبيائه ، وفيه اشارة إلى قيام الأنبياء بحج البيت الحرام ز
الثاني : الطواف بين السعي والمروة من شعائر الله لأنه واجب في الحج وعمرة التمتع والعمرة المفردة .
وليكون من معاني آية البحث البشارة والإنذار ، البشارة للمسلمين بإزاحة أسباب صدّهم والناس عن البيت الحرام ، والإنذار للذين كفروا بأن عذاب الله عز وجل واقع بهم ، وقادم إليهم ، لبيان نكتة وهي أن العذاب في المقام قد يأتي على دفعات وعلى التدريج أو يأتي مرة واحدة ، ويكون في كل من الحالتين مناسبة للثواب والإنابة ، ولدفع الذين كفروا عن مقامات الآيات , وجعلهم عاجزين عن صدّ الناس عن البيت الحرام .
ليكون من معاني آية البحث : يعذبهم الله حتى لا يصدون الناس عن البيت الحرام .
فان قلت لماذا لم تقل لا يصدون المسلمين ، الجواب هذا أيضاً صحيح ، ولكن لفظ الناس أعم ، وهو مستقرأ من قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ) ، وذات المسجد الحرام من شعائر الله ، وهو دعوة لعامة الناس للهدى والإيمان والصلاح ونبذ العنف والقتل العشوائي والإرهاب .
بالإضافة إلى أن صدّ المشركين الناس عن البيت الحرام يشمل أفراد القبائل ويشمل ذات المشركين أنفسهم باتخاذهم الأصنام في البيت الحرام ، ونصب الأصنام هذا من الصدود عن البيت الحرام لما فيه من حجب الناس عن عبادة الله عز وجل في المسجد الحرام ، ولأن الأصنام مظهر جلي للشرك .
ليكون من معاني قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا] ( ) نزول العذاب بالذين كفروا في الدنيا ، وهذا العذاب من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، ويأتي للفرد والجماعة والطائفة.
وتدعو آية البحث المسلمين إلى التدبر في حال الكافرين ، وما ينزل بهم من العذاب وأسباب الإنذار والوهن , وهل هذا العذاب من اللطف الإلهي ، الجواب نعم ، من جهات :
الأول : فيه دعوة للذين كفروا للتوبة والإنابة .
الثانية : تنبيه الذين كفروا إلى لزوم عبادة الله ، وفي التنزيل[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الثالثة : بعث النفرة في النفوس من الكفر وعبادة الأوثان .
الرابعة : تفقه الناس في المعارف وإدراكهم لقانون وهو وجوب نبذ الشرك ، وفي التنزيل[وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( ).
ولم يرد لفظ الشرك في القرآن إلا في الآية أعلاه وفيه إشارة إلى انحسار الشرك من الأرض ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن ، قال تعالى [وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ]( ).
الخامسة : دعوة الناس لترقب ورصد العذاب الذي ينزل بالذين كفروا لشركهم وضلالتهم ، وهل قيام المشركين بغزو المسلمين في المدينة من الشرك بالله , أم أن القدر المتيقن منه هو إتخاذ الإنداد .
الجواب هو الثاني ، ولكن هجومهم هذا من رشحات الشرك وما يتفرع عنه من قبيح الأفعال .
السادسة : بعث الذين كفروا على التوبة ، وحثهم على الإنابة وترك منازل الشرك ، وأوهام الضلالة وهو من إعجاز القرآن , فمن خصائص القرآن أن كل آية منه تدعو إلى ترك الشرك ، وإلى التعاون بين الناس للهداية إلى سبل الرشاد والإيمان .
وتدل الآية في مفهومها على قانون مصاحب للحياة الدنيا ، وهو عدم صدّ المسلمين عن المسجد الحرام سواء في الصلاة أو العمرة أو الحج ، وأن ولاية المؤمنين للمسجد الحرام حكم من الإرادة التكوينية ، وفيه زجر لمشركي قريش , ومنع لهم من صدّ الناس عن المسجد الحرام ويتجلى هذا المنع بتوبة وصلاح الذين كفروا أو استئصال سلطانهم .
ومن الآيات أنهم جهزوا الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ليكون هذا التجهيز وقطع المسافات لغزو المدينة سبباً لهلاك طائفة من الذين كفروا ، كما ورد في التنزيل بخصوص معركة أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) وقطع الطرف هلاك طائفة من الذين كفروا .
وهل يختص هذا القطع بأن يقتل عدد من جيش المشركين ، الجواب لا ، فموضوع الهلاك أعم ، ويشمل عموم الذين كفروا ممن اشترك بالهجوم على المدينة في معركة أحد ، والذين أمدوهم وأعانوهم من كفار مكة وغيرهم .
وهل يشمل القطع النساء من الكفار أم أنه خاص بالرجال ، الجواب هو الثاني لأن القدر المتيقن من الآية أعلاه وقائع معركة أحد بدليل قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) وإن كان عموم آية البحث يشمل النساء وأن العذاب يأتي للذين كفروا وأشركوا بالله سواء كانوا من الرجال أو النساء ، قال تعالى [إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ]( ).
ومن أسرار الآية أعلاه مجيؤها بصيغة المضارع لبيان أن موضوعها أعم من أن يختص بمعركة أحد وأن القطع والهلاك للذين كفروا مستمر ومتصل ، وفي قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) بشارة للمسلمين بأن العذاب يأتي للمشركين من عند الله , وأنه سبحانه يؤاخذهم على هجومهم وغزوهم المسلمين في المدينة وأطرافها .
ويصدق على قتال المشركين في معركة أحد أنه غزو للمسلمين في عقر دارهم ، ومع هذا لم يرد عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغزو مثله ، واكتفى بعد معركة أحد بمطاردة جيش الذين كفروا ، وسبب هذه المطاردة ورود أخبار إلى المدينة بأن جيش المشركين ينوون العودة من الطريق للإغارة من جديد ولكن ليس لمعركة مثل معركة أحد ، إنما للإغارة على المدينة المنورة واستباحتها ، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لزجر جيش الذين كفروا عن العودة للقتال .
وقد تحققت الغاية من هذا الخروج إذ ألقى الله عز وجل الخوف في قلوب جيش الذين كفروا وعجلوا الرجوع إلى مكة ، وهذا التعجيل لا ينجيهم من عذاب الله لأن آية البحث مطلقة في نزول عذاب الله بالذين كفروا لأنهم يصدون عن البيت الحرام وهو عام وقتالهم في معركة بدر وأحد والخندق من أشد مصاديق صدهم هذا ، وأسباب نزول العذاب بهم ، ودنوه وقرب أوانه ، وهو ظاهر آية البحث وهو قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ).
ويأتي الناس من القرى والمدن إلى مكة زائرين لا يكون لهم شأن في تصريف أمور بيت الله الحرام وليسوا كمجاوري البيت والذين يتعاهدونه في العمارة ، ومع هذا التعاهد يظهر الكفار معاني الوثنية وهو حرام ، ومناف لحرمة المسجد الحرام.
وتذكر آية البحث قانوناً وهو أن المسجد الحرام لابد له من أولياء ومعنى الولاية هنا الإشراف والحراسة والعمارة وتعاهد البناء والنظافة وسلامة زوار البيت الحرام ، وفي خطاب من الله إلى إبراهيم وإسماعيل ورد قوله تعالى [أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ) .
والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على حفظ البيت والذين يأتون إليه ، ويقصدونه فلا يتحقق الطواف والإعتكاف وأداء الصلاة إلا مع الأمن والأمان .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه ذكرها للركع السجود وهو تقييد يدل على إرادتها الصلاة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما صلى في البيت ومعه خديجة والإمام علي عليه السلام صلوا بركوع وسجود .
ويجب على أولياء البيت الحرام العناية به , وإكرامه وترك الناس يؤدون فيه الصلاة , لأنها أمر ووصية الله لإبراهيم واسماعيل من حين بنائهما البيت الحرام ، ولكن صلاة الذين كفروا صفير وتصفيق , قال تعالى[وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ]( ).
والبيت الحرام موجود من آدم عليه السلام ، مما يدل على أن آدم عليه السلام كان يطهره للمصلين ويوجه أبناءه وأحفاده بتعاهد البيت وتيسير أمور عبادتهم لله عز وجل في البيت .
وكان البيت الحرام في بدايات هبوط آدم إلى الأرض خيمة أنزلها الله عز وجل من خيم الجنة ، وفيه مسائل :
الأولى : ارادة الرحمة من عند الله سبحانه لآدم وحواء.
الثانية : بيان فضل الله بعدم القطع والفصل التام بين آدم وحواء وبين الجنة.
الثالثة : إخبار الملائكة باكرام الله لآدم وحواء ، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فمن مصاديق الخلافة في المقام وجوه :
الأول : الأمن والأمان لآدم وحواء في الأرض .
الثاني : وجود بيت لله في الأرض ، ليكون عنوان تشريف للأرض وإكرام لأهلها , وليصير شاهداً وشفيعاً لهم يوم القيامة.
الثالث : إقامة آدم وحواء عنده ، وطوافهما حول البيت مثلما يطوف الملائكة .
الرابع : نزول خيمة من الجنة تنصب في موضع البيت .
الرابعة : بعث السكينة في نفس آدم وحواء وذريتهما بوجود شاخص من الجنة وهو بيت الله ليأوى ويلجأ إليه آدم وحواء ، ويتعبدا فيه , وفيه طمأنينة على ذريتهما , واستدامة الصلة بينها وبين الجنة , وفيه بعث على العمل الصالح , وترغيب بالسعي للبث الدائم في الجنة .
الخامسة : البشارة لآدم وحواء وذريتهما بعودة الصالحين منهم إلى الجنة ، وفي التنزيل [فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى]( ).
وفي مسألة ولاية البيت أيام آدم وحواء وجوه :
الأول : كان آدم وحواء أولياء للبيت .
الثاني : لا يلزم يومئذ ولاية للبيت الحرام .
الثالث : لم تكن مسألة ولاية البيت موجودة أيام آدم وحواء .
والمختار هو الأول ، ويدل عليه الإطلاق في قوله تعالى في آية البحث [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، ليتوارث المؤمنون من ذرية آدم ولاية البيت الحرام .
وتجددت هذه الولاية في أيام ابراهيم واسماعيل عليهما السلام ، وكان من خصائص ولايتهما بناء البيت , قال تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ]( )، ليتوارث المؤمنون من ذريتهما ولاية البيت إلى أن دبّ الشرك في قريش ، ونصبت الأوثان في البيت ، فتفضل الله عز وجل بآية البحث ، وتحتمل وجوهاً :
الأول : لقد أنهت وقطعت آية البحث ولاية الذين كفروا على البيت.
الثاني : الآية إنذار ووعيد للذين كفروا بأن ولايتهم ستقطع وتزول .
الثالث : إخبار آية البحث عن عدم ولاية الذين كفروا للبيت الحرام .
والصحيح هو الأخير أعلاه ، وإن قام الذين كفروا بشؤون البيت الحرام فانهم لا يؤجرون ولا يثابون على هذا الأفعال ، وأن البيت برئ منهم ، ليكون من منافع آية البحث وجوه :
الأول : توبيخ الذين كفروا ، ونزول ذمهم من الله عز وجل .
الثاني : إخبار أهل مكة والقبائل وعامة الناس بأن الذين كفروا لا شأن لهم بولاية البيت ، ويجب ألا يخشونهم أو يمتنعون عن دخول الإسلام بسبب الخوف منهم .
فمن إعجاز آية البحث أنها تدعو الناس إلى عدم الخشية من الذين كفروا بخصوص الدخول في الإسلام ، فقد كان كثير من الناس يمتنعون عن دخول الإسلام خوفاً من قريش أو هيبة لهم ، أو إقتداءً بهم لأنهم أولياء البيت والقائمون بأموره وعمارته .
فجاءت آية البحث رحمة بالناس ، ودعوة لهم لعدم جعل الذين كفروا حاجزاً وبرزخاً دون دخولهم الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ]( ).
وفيه تخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً إذ تدعو الآية الناس إلى عدم الإستجابة لرؤساء الكفر في هجومهم على المدينة ، وإرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وكأنها تقول للناس إن كنتم تتبعون رؤساء قريش لأنهم أولياء البيت والقائمون بعمارته فانهم ليسوا أولياءه ، إنما أولياؤه المؤمنون وإن كانوا محجوبين عنه ، ممنوعين عن الوصول إليه ، والذي يحارب الله ورسوله تنزل آيات القرآن بفضحه وخزيه.
وكان المنافقون يخشون أن تنزل عليهم آية من القرآن تفضحهم إلى يوم القيامة ، إذ أدركوا أن آيات القرآن أخزت الذين كفروا ، وهدّت منازلهم ، وأزاحتهم عن مقاماتهم ، وأخبرت الناس عن حقيقة عدم ولايتهم للبيت ولزوم رفع أيديهم عنه ، لبيان الملازمة بين الإيمان وولاية المسجد الحرام ، وأهلية المؤمنين لولايته ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
لقد أراد الله عز وجل إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بأن أخبرهم والناس بتخلف الذين كفروا عن ولاية البيت الحرام ويحتمل هذا التخلف وجوهاً :
الأول : سقوط ولاية الذين كفروا للبيت الحرام بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : لم يكن الذين كفروا أولياء للبيت من الأصل .
الثالث : زوال ولاية الذين كفروا للبيت الحرام بعد صدّهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عن البيت الحرام .
والصحيح هو الثاني أعلاه لذا جاءت الآية بصيغة الماضي [مَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ] فان قلت إذن من كان أولياء البيت في السنوات التي سبقت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والجواب لقد كان عبد المطلب وبعض قريش على ملة إبراهيم ، بالإضافة إلى أن الولاية أعم من أن يتحقق مصداقها في زمان الفترة وقبل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإستحواذ الذين كفروا على شؤونه ، وفي كل زمان هناك مؤمنون هم أولياء للبيت الحرام وأن حجبهم عن ولايته القوم الظالمون.
فتفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتولى المؤمنون ولاية البيت الحرام وإلى يوم القيامة ، فقد انقطع ببعثته ويوم فتح مكة تولي الذين كفروا لشؤون المسجد الحرام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ]( )، إزاحة سلطان وشأن الذين كفروا عن البيت الحرام من الرحمة العامة بالناس ، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن عودة ولاية المسجد الحرام لم تتم بغزو وهجوم إنما تمت بآيات من القرآن تتضمن الحجة والبرهان , فلم يقع قتال يذكر في فتح مكة .
وهل هي عقوبة لكفار قريش على هجومهم المتكرر على المدينة في معركة بدر وأحد والخندق ، الجواب نعم ، وفيه إنذار للذين كفروا من التمادي والغي والعدوان لقانون وهو :
يعجل العذاب للذين كفروا إذا حاربوا النبوة والتنزيل ، لأن هذه المحاربة من الظلم العام والخاص ومن التعدي والجحود.
لقد كانت قريش تحارب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من منازل ولايتهم للمسجد الحرام , وفيه إغراء وإغواء للناس ، وتغرير بهم إذ يقول الناس إذا كان أولياء المسجد الحرام يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فمن باب الأولوية أن يقوم عامة الناس بمحاربته ، فجاءت آية البحث لدفع وهم ولإخبار الناس جميعاً أن الكفار ليسوا أولياء للمسجد الحرام للدلالة على قانون وهو : التباين والتضاد بين الكفر وولاية المسجد الحرام .
وتبين آية البحث قانوناً وهو أن تولي الذين كفروا لشؤون المسجد وخدمة زواره وعمّاره وعمارته نوع غصب وظلم وأنه لا يؤدي إلا إلى الظلم والجور وتحشيد وتأليب رؤساء الكفر من قريش الناس لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وغزو المدينة المنورة وإخافة أهلها على نحو الدوام ، وهذه الإخافة أمر مقصود من كفار قريش لبعث الجزع والكدورة في نفوس أهلها ، وتحريضهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين وحتى الأنصار خصوصاً وأن في المدينة طوائف من اليهود ، وهم بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع ، فجاءت آية البحث لتكون تحذيراً لكل من :
الأول : أهل مكة وإخبارهم بأن أولياء المسجد الحرام هم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المؤمنون ، وأما كفار قريش فانهم يحجبونهم عن هذه الولاية ، ولم يكتفوا بهذا الحجب إنما سيّروا الجيوش العظيمة لقتالهم .
وهل في قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ] ( ) بشارة لفتح مكة ودعوة لأهلها للإستعداد لهذا الفتح ولزوم نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل وأثناء وبعد الفتح.
الجواب نعم ، وتجلى مصداق لهذا القانون في صلح الحديبية والذي تم في السنة السادسة للهجرة قبل الفتح بسنتين ، إذ عجزت قريش عن تحشيد الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وصدتهم عن أداء العمرة في المسجد الحرام بخصوص تلك السنة حتى سمّي هذا الصلح بالفتح ، لبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعث للقتال والهجوم والغزو وأن الله عز وجل يحقق له الفتح بنزول آيات القرآن ، وهداية قلوب الناس للإيمان .
وتجلت بدايات هذه الهداية بايمان خديجة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي لبعثة النبوية وإيمان الإمام علي عليه السلام والصحابة الآخرين من قريش وأهل مكة وتصديقهم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونطقهم بالشهادتين ، وتلقيهم أشد ضروب التعذيب من الذين كفروا .
ولم يختص هذا التعذيب بالمسلمين الأوائل بل شمل عامة بني هاشم بحصارهم في شعب أبي طالب ، والإمتناع عن تزويجهم وعن الزواج منهم ، ثم قام الصحابة الأوائل بالهجرة إلى المدينة بدينهم لينالوا شرفاً عظيماً لم ينله غيرهم من الأولين والآخرين ، إذ سمّاهم الله عز وجل المهاجرين ، قال تعالى [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( )، واشتراكهم بهذه التسمية مع بعض الأنبياء ، وكما ورد بخصوص لوط عليه السلام [إِنِّي مهاجر إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
وهل هو شاهد على تفضيلهم على الأنصار الذين اشتركوا بذات التسمية مع أنصار الرسول عيسى بقوله تعالى [مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ]( ).
الجواب لا ، لكل من المهاجرين والأنصار له منزلة وشأن رفيع ، وليس المقام خاصاً بالتفضيل بينهم لذا قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بينهم بعد وصوله إلى المدينة بخمسة أشهر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) .
ومن رشحات تحذير القرآن لأهل مكة بعث النفرة في نفوسهم من رؤساء الكفر ، ومعرفة قانون وهو عدم ولايتهم للمسجد الحرام ، وأن استولوا على شؤونه بالوراثة إذ يدل قوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ) بالدلالة التضمنية على ولاية إبراهيم عليه السلام وبعد رحيله إلى الرفيق الأعلى كانت الولاية بيد اسماعيل ثم بيد ذريته من بعده ، وأن قريشاً من ذرية إسماعيل ، وأبى الله عز وجل إلا أن يكرم إبراهيم وذريته والناس جميعاً باعادة ولاية المسجد الحرام إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإزاحة سلطان الذين كفروا عن المسجد الحرام وولايته ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]( ) وأن الذين كفروا من الظالمين الذين لا ينالون عهد الله عز وجل .
وآية البحث من مصاديق الآية أعلاه بأن جعل الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إماماً للناس ، وجعل ولاية المسجد الحرام بيد المتقين فان قيل ليس كل المتقين هم من ذرية إبراهيم أو من العرب حتى في أيام النبوة والصحابة .
والجواب هذا صحيح ، وقد نزل القرآن بتسمية إبراهيم أبا لأجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، قال تعالى [أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ]( ) وفيه ترغيب بالإسلام وبيان اتحاد سنخية سنن التقوى بين الأولين والآخرين وإكرام للمسلمين في جعلهم كذرية للأنبياء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثاني : أفراد القبائل وتحذيرهم من كفار قريش وتوليهم لشؤون المسجد الحرام .
لقد كانت مكة قبلة لأفراد القبائل وينظرون إليها كمصدر للقرار ، ويرجعون إليها ويلجأون إلى المسجد الحرام ويطوفون حوله ، وينظرون إلى أهلها بعين الإكرام وفازت قريش بولاية المسجد الحرام فاتخذها الذين كفروا وسيلة للحرب ضد أوليائه الذين اختاروا التشريف بهذه الولاية بالإيمان والتقوى .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( )، الجواب نعم إذ تنجذب القلوب إلى مكة ويرجو الناس رشحات الخير من البيت الحرام.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه الولاية غير محجوبة عن كفار قريش فبامكانهم البقاء في تولية المسجد بدخولهم الإسلام ، كما في فرعون فانه لو آمن برسالة موسى عليه السلام لبقي في سلطانه وملكه وعرشه .
لقد نزل قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ]( )، لتحذير وإنذار رجالات القبائل العربية من إتباع ونصرة كفار قريش وإخبارهم بنزول العذاب عليهم ، لتقول الآية أعلاه لرجال القبائل أموراً :
أولاً : كيف تتبعون الذين يعذبهم الله .
ثانياً : لا يجلب اتباع الذين يعذبهم الله إلا الخزي والذل لأهله .
ثالثاً : كيف تتبعون الذين يعذبهم الله ، وتنصرونهم وتسيرون تحت أمرتهم وقيادتهم لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : بيان قانون وهو أن الذين يعذبهم الله لا يبقون في منازل الرياسة والسيادة ، وأنهم إلى إضمحلال وزوال ، ومن مصاديق تسمية مكة أم القرى كما في قوله تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( )، ولاية طائفة من أهلها للمسجد الحرام ، وصيرورة هذه الولاية سيادة على عموم أهل مكة.
الثالث : تحذير أبناء وأسر الذين كفروا من قريش وإخبارهم بتقوم ولاية المسجد الحرام بالتقوى وأن آباءهم الذين يتولون ولاية البيت يتصفون بالكفر ، وهو ضد التقوى .
وتبين آية البحث لهؤلاء الأبناء قانوناً وهو إن أردتم وراثة تولية المسجد الحرام فأنها لا تأتي عن طريق الآباء ، إنما تأتي بالتقوى ، وهو من وجوب الطاعة وشآبيب الرحمة في قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
ومن خصائص هذا التحذير تعذيب الذين كفروا في بيوتهم بأن يروا أسرهم تسخط عليهم لضلالتهم وتضييعهم ولاية المسجد الحرام ، والشأن العظيم بين الناس باصرارهم على الكفر ، فتقول آية البحث للناس جميعاً لا ولاية للذين كفروا على المسجد الحرام ، وكأن الله يعطي عهداً بأن إشراف وتولي الذين كفروا لشؤون المسجد الحرام لن يدوم ، ولم تمر الأيام والشهور حتى تم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ، لبيان قانون وهو أن عهد الله عز وجل يأتي سريعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
ويكون من معاني وتقدير قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ] ( ) على جهات :
الأولى : وما لهم ألا يعذبهم الله في بيوتهم .
الثانية :وما لهم ألا يعذبهم الله بدخول أبنائهم الإسلام .
الثالثة : وما لهم ألا يعذبهم الله باخبارهم بأنهم ليسوا أولياء المسجد الحرام .
الرابعة : وما لهم ألا يعذبهم الله ببيان قانون أولياء المسجد الحرام أولياء الله أنفسهم .
الخامسة : وما إلا يعذبهم وهم يحاربون أولياء المسجد الحرام من منازل ذات الولاية التي استحوذوا عليها ، وهذا الإستحواذ سبب لنزول العذاب بهم .
السادسة : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يحرضون الناس على أولياء المسجد الحرام .
السابعة : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يسعون في قتل إمام المتقين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : تحذير أهل الكتاب من إعانة الذين كفروا بالأموال وفي بقاء ما لهم من الشأن والجاه ، ومما يتصف به أهل الكتاب معرفتهم للوعد والوعيد السماوي وأدراكهم بأن قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ]( ) إنذار ووعيد للذين كفروا ودعوة للناس جميعاً بالإمتناع عن نصرتهم واتباعهم ، لقد أراد الله عز وجل تحذير يهود المدينة من إبرام العهود مع قريش بما يجلب الأذى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل في آية البحث تحذير للمسلمين ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : حث المسلمين على اليقظة والحيطة من الذين كفروا .
الثانية : التحذير من تولي الذين كفروا للمسجد الحرام ، وما يصدر منهم من سوء الفعل وأسباب الإضرار بالناس ، وفي التنزيل [الْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
الثالثة : الفطنة وأخذ الحائطة من كيد ومكر الذين كفروا ، واتخاذهم ولايتهم للمسجد الحرام وسيلة للمكر والكيد بالمسلمين .
الرابعة : لزوم عدم إتخاذ المسلمين للذين كفروا أولياء أو بطانة ووليجة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الخامسة : لزوم حرص المسلمين والمسلمات على سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودفع كيد الذين كفروا عنه .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها تحذر من الذين كفروا من جهات :
الأولى : قبح التلبس بالكفر .
الثانية : صدّ الذين كفروا الناس عن المسجد الحرام .
الثالثة : إدعاء الذين كفروا الولاية على المسجد الحرام .
الرابعة : إتخاذ ولاية المسجد الحرام حجة لايذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربته والمؤمنين .
فجاءت آية البحث بالإخبار عن حب الله عز وجل للمسجد الحرام وللمؤمنين ، ويدل قوله تعالى [إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ]( )، على إرادة الثواب العاجل للمؤمنين من جهات :
الأولى : نعت المسلمين بالمتقين ، واتخاذهم القرآن مناسبة ووسيلة للهدى.
الثانية : إخبار آية البحث عن ولاية المسلمين للمسجد الحرام ، وإن كان تحت إشراف الذين كفروا ،وهم بعيدون عنه مهاجرين وأنصاراً ، فهل يأتيهم الثواب على الولاية .
الجواب نعم لأنهم ممنوعون من هذه الولاية ، وذكرت آية البحث هذا المنع بقوله تعالى في ذم الذين كفروا [وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( ).
الثالثة : نجاة المسلمين من سلطان وإغواء الذين كفروا وعدم الإنقياد لهم ، أو الإستجابة لهم في غيهم وضلالتهم .
الرابعة : نعت المسلمين بالمتقين مرتبة عظيمة وشاهد على كتابة الحسنات لهم ، بلحاظ قانون اقتران قصد القربة بالتقوى ، فيعمل المتقون الصالحات رجاء الثواب من عند الله ، كما أنهم يبادرون الى فعل الخيرات ويتناجون فيها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
لقد ابتدأت آية البحث بالإخبار عن تعذيب الله للذين كفروا ، ومن معاني الآية بلحاظ منهجية وفلسفة هذه الأجزاء عدم قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بغزو أحد أن تعذيب الله للكفار مناسبة ووسيلة لأشغالهم عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
ولا يستطيع أحد المغالطة بالإدعاء بأن الكفار لم ينووا ويعزموا على هذا القتال ، انما قطعوا في معركة بدر نحو ثلاثمائة كيلو متراً من مكة وحتى وصولهم ماء بدر وعندما [الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، انتظر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إختيار الذين كفروا الصلح والموادعة ، أو لا أقل الإنسحاب من ميدان المعركة ، وعدم ابتداء القتال ، ونظر إلى شخص منهم على بعيره يطوف بين الصفوف فالتمس فيه الخير وقال : إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الاحمر، إن يطيعوه يرشدوا( ).
وكان كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فحينما سأل عنه عمه حمزة ، قال انه عتبة بن ربيعة ، وهو معروف بالإصلاح بين القبائل والأفراد ، والبذل من ماله في الصلح , لولا أن أخذته العصبية , فكان ممن قال الله تعالى فيهم [وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ]( ).
لقد طاف على رؤساء قريش في ميدان معركة بدر وقال أنا ادفع دية ابن الحضرمي الذي تريدون القتال بسببه ، وكان قتله سبباً في خروج الذين كفروا الى معركة بدر ، والأسباب متعددة وعلى نحو الترتيب وهي :
الأولى : نصرة وإنقاذ قافلة أبي سفيان بعد إرسال أبي سفيان رسول منه.
الثانية : عندما بلغ جيش قريش نبأ سلامة هذه القافلة لم يرجعوا إلى مكة بل ساروا نحو بدر بذريعة الإقامة فيها ثلاث ليالي تعزف لهم القيان ، وينحرون الإبل ، ويطعمون أهل البيوت التي على ماء بدر، وكان ماء بدر موسما للعرب ، يجتمعون فيه كل عام ، ويقيمون فيه سوقاً .
الثالثة : لما رآى جيش المشركين النبي محمداً وأصحابه عزموا على الحرب والقتال ، فصار جيش المشركين على وجوه :
الأول : الذين يصرون على القتال ، مثل أبي جهل ، وأمية بن خلف ، قال أبو جهل بن هشام : والله لا نرجع حتى نرد بدرا .
وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام , وقال : فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان ( )، وتسمع بنا العرب وتحشيدنا وجمعنا , فلا يزالون يهابوننا ابداً بعدها( ).
الثاني : الذين انسحبوا من ميدان المعركة قبل القتال ، كما في بني زهرة إذ أشار عليهم الأخنس بن شريق، بأن يرجعوا وقال ان أموالكم التي خرجتم من أجلها قد سلمت فلا حاجة إلى القتال فاطاعوه ورجعوا.
ولما انهزم جيش المشركين أكبر بنو زهرة رأي وحكمة الأخنس بن شريق ، وصار مطاعاً فيهم .
الثالث : الذين إنسحبوا من حين مجئ خبر سلامة قافلة أبي سفيان لإدراكهم لإنتفاء سبب وموضوع الخروج .
الرابع : الذين همّوا بالرجوع ، وأدركوا الغنى عن الإستمرار في السير والزحف .
الخامس : رجوع أكثر بني هاشم من وسط الطريق إلى معركة بدر ، إذ أظهر كفار قريش الشك والريبة وأعلنوا خشيتهم منهم إذا وقع قتال لأن ميلهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظاهر ، وفيه قال طالب بن أبي طالب :
لَا هُمّ إمّا يَغْزُوَنّ طَالِبْ … فِي عُصْبَةٍ مُحَالِفٌ مُحَارِبْ
فِي مِقْنَبٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَانِبِ … فَلْيَكُنْ الْمَسْلُوبُ غَيْرَ السّالِبِ
وَلْيَكُنْ الْمَغْلُوبُ غَيْرَ الْغَالِبِ( ).
وطالب هو الأخ الأكبر للإمام علي عليه السلام ، وكان طالب قد خرج مع جيش كفار قريش ورجع من وسط الطريق ولكنه لم يصل إلى مكة ، ولم يعلم عن حاله وكيف اختفى .
لقد إبتدأت آيات القرآن في ترتيبها بالإخبار عن صيرورته هداية للمسلمين ، قال تعالى [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، لبيان قانون وهو نزول المدد من عند الله عز وجل للمسلمين في صلاحهم وأسباب هدايتهم ورشادهم ، وأنهم يفوزون بالتوفيق والعون من الله عز وجل في ولايتهم للمسجد الجرام ، وعنايتهم به وبعماره ، وهم ورثة إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
ولا ينحصر الأمر بالدعوة إلى حج البيت إنما تشمل الولاية تهيئة مقدمات أداء المناسك ، وعمارة البيت الحرام ليؤدي المسلمون عبادتهم فيه، وورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال بخصوص الحج : هو أحد الجهادين هو جهاد الضعفاء( ).
فالمحل الوحيد في الأرض الذي يجمع بين الصلاة والحج هو حضور موسم الحج أو أداء العمرة ، وفي الحج وقوف على جبل الصفا وجبل المروة والطواف بينهما ، قال تعالى[ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( )، ويحتمل المراد من الشعائر في المقام :
الأول : إرادة ذات جبل الصفا ، وجبل المروة .
الثاني : السعي والطواف بين جبلي الصفا والمروة .
الثالث : إرادة المعنى الجامع للوجهين أعلاه .
والصحيح هو الأخير أعلاه ، إذ يفوز وفد الحاج والمعتمرين بتعظيم شعائر الله بالتشرف بوطأ هذه المواضع المباركة ، وبالسعي بينها ، والطواف بالبيت الحرام ، وهو من معاني التقوى التي تذكرها آية البحث لبيان أنها دعوة إلى ذكر الله ، واستغناء عن الغزو والهجوم.
لقد بدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوته إلى الإسلام في مكة بتلاوة ما أنزل الله عليه من القرآن وبيان معجزاته ، وكانت أول سورة نزلت عليه هو قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، لبيان تقدم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقراءة وتلاوة آيات التنزيل ، وأن معجزته القرآن ، ولم يكره الذين كفروا على دخول الإسلام ، ونزل في مكة قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ),
ولكن الذين كفروا خشوا من الإسلام على شأنهم والأصنام وتوليهم شؤون المسجد الحرام ، للملازمة بينها مع أنها لا ترتكز إلى أصل ، فتوجهوا بالحرب على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : الإستهزاء بالتنزيل وملاقاة تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن والتكاليف بالسخرية , قال تعالى[وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ]( ).
الثانية : تكذيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعواه النبوة والرسالة .
ويلتقي في هذا التكذيب الكفار والمنافقون لبيان استمرار الأذى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بعد فتح مكة ، وعن عبد الله بن عمر قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يوماً : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ، لا أرغب بطونا ، ولا أكذب ألسنة ، ولا أجبن عند اللقاء . ! فقال رجل في المجلس : كذبت ، ولكنك منافق . لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزل القرآن ، . قال عبد الله : فأنا رأيته متعلقاً يحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكيه وهو يقول :
يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون( ).
الثالثة : إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شخصه وبدنه .
الرابعة : محاربة بني هاشم لأنهم آل رسول الله ولميلهم له ، وغبطتهم بنبوته ، ولا عبرة بالقليل النادر مثل أبي لهب ، وهو عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والذي شنّ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هجوماً يومياً متصلاً بتكذيبه والسخرية منه ، وهو صابر محتسب لا يرد عليه ، فتفضل الله عز وجل بالرد عليه بقوله تعالى[تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ).
وكان هذا الرد معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبقائه الى يوم القيامة بين الناس شاهداً ووثيقة في أوان نزول الآية على أن أبا لهب يموت كافراً ، لتتلوه أجيال المسلمين والمسلمات في الصلاة وخارجها .
ومن وجوه الإعجاز في دلالته التضمنية على أن التوبة لا تدرك أبي لهب وزوجته أم جميل وهي بنت حرب بن أمية , وأخت أبي سفيان، لبقاء تلاوة المسلمين لما فيه ذمهما ، وحكايته للأذى الشديد الذي كان يلاقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ تدعو سورة اللهب المسلمين والناس إلى معرفة وتوثيق صنوف الأذى التي كانت تصدر من أبي لهب ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من القياس بالأولوية القطعية أذى رؤساء الكفر الآخرين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فاذا كان عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤذيه فان أذاهم له أشد ، ولمراتب رؤساء الكفر في درجات الضلالة .
الخامسة : تعذيب الذين كفروا لأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين الأوائل رجالاً ونساءً.
ولم يختص عذاب كفار قريش للمسلمين الأوائل بالمستضعفين والعبيد إنما شمل الأحرار وأبناء البيوت الرفيعة بأن يقوم آباؤهم وأعمامهم بتولي تعذيبهم ، ومحاولة إكراههم على ترك الإسلام ، نعم كان تعذيب قريش للمستضعفين والعبيد من الذين أسلموا أشد .
فكان خباب بن الأرت يعمل حداداً ، ولما علمت مولاته (أم أنمار) باسلامه صارت تربطه في عمود من البيت وتحمي الحديد لتكويه به حتى يغشى عليه ولكنه أظهر الصبر ولم يرتد.
السادسة : محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالسيف كما في معركة بدر .
السابعة : غزو المدينة وهي المصر الوحيد للمسلمين كما في معركة أحد والخندق ، فتفضل الله عز وجل بانزال الملائكة مدداً للنبي محمد وأصحابه [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ) .
ولا تختص الكفاية هنا بأوان وذات المعركة بل يشمل مقدمات القتال ، وما تتعقبه من الوقائع منها حال الخوف الذي يستولي على قلوب الذين كفروا .
لقد أخبر القرآن عن دفاع الله عز وجل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن المؤمنين ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] ( ).
وهل تحصر الآية أعلاه دفاع الله بالذين ذكرتهم ، الجواب لا ، فان إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، وجاءت آية البحث لبيان دفاع الله عز وجل عن المسجد الحرام ، فمن مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) أن الله عز وجل يحفظ ويتعاهد السموات والأرض، وجاءت آية البحث لبيان دفاع الله عز وجل من وجوه :
الأول : دفاع الله عز وجل عن المسجد الحرام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( ) وولاية الذين كفروا خلاف البركة وأسباب الهدى والصلاح التي أرادها الله عز وجل للمسجد وانتفاع الناس منها.
فجاءت آية البحث ليتفقه الناس في المعارف الإلهية ، ولإزاحة الغشاوة التي يحاول الذين كفروا جعلها على الأبصار .
الثاني : دفاع الله عز وجل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، ببيان حقهم في ولاية البيت الحرام ونزول آية البحث بتنحية الذين كفروا قهرا عن ولاية البيت الحرام ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
ومن مصاديق اتصاف القرآن بأنه غض طري إلى يوم القيامة حجب آية البحث الكافرين عن ولاية المسجد الحرام ، وجاءت آية أخرى بمنع دخولهم إليه ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]( ).
الثالث : تدافع آية البحث عن ذات ولاية المسجد الحرام ، وتبين خصال الذين يتولونه ويتعاهدونه ويقومون بعمارته والعناية به ، فلا بد من شرط الإيمان بأولياء المسجد الحرام مجتمعين ومتفرقين ، فيتحلى الواحد منهم بالإيمان والتقوى ، وكذا يجب أن تصدر الأفعال العامة عن أولياء المسجد الحرام بصيغة الإيمان وما فيه تعظيم شعائر الله ، وإكرام البيت وزواره .
ومن خصائص الذين كفروا أنهم يتخذون المسجد الحرام محلاً للمكر والغدر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، فاذا كانوا أولياء للمسجد فان هذه الولاية زاجر ومانع عن المكر والغدر .
فجاءت آية البحث لتفريق الناس عنهم ، مع التطلع لتولي المؤمنين ولاية المسجد الحرام ، فمن إعجاز آية البحث تهيئة أذهان الناس لفتح مكة وإدراكهم الحاجة إليه ، فهو عيد متجدد ، ومعجزة متعددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن عمرو بن سلمة قال : كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم: ما للناس ما للناس ؟ ما هذا الرجل ؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله وأوحى إليه كذا، فكنت أحفظ ذاك الكلام، فكأنما يغرى في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون: أتركوه وقومه، فإن إن ظهر عليهم فهو نبى صادق.
(فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبى أي سبق قومي بإسلامهم فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي حقا) ( ).
ومن معاني دفاع الله عز وجل عن ولاية المسجد الحرام وجوب إتصاف أولياء البيت بالتقوى والصلاح إبتداء واستدامة ، أي لا يجوز للذين يتولون المسجد الحرام إتيان الأفعال المخالفة لأحكام الحلال والحرام ، وسنن الشريعة أو الأفعال التي فيها ظلم للمسجد الحرام أو لأنفسهم أو للناس ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ).
الرابع: دفاع آية البحث عن القرآن والذين يصدقون بآياته ويقرون بأنه نازل من عند الله عز وجل ، فمن معاني الإيمان قوله تعالى [إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ] ( ) وجوه :
أولاً : الذين آمنوا بالله عز وجل إلهاً ورباً لا شريك له .
ثانياً : الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها .
ثالثاً : الذين آمنوا بالملائكة والأنبياء على نحو العموم الإستغراقي ، وفي التنزيل [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
الخامس : الذين آمنوا باليوم الآخر ، ووقوف الناس بين يدي الله سبحانه للحساب .
السادس : الذين آمنوا بالكتب السماوية المنزلة من عند الله ، قال تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ]( ).
السابع : الذين آمنوا بأن المؤمنين هم أولياء المسجد الحرام .
وهل تتضمن آية البحث ترغيب المسلمين بفتح مكة والبشارة بتحقق هذا الفتح من غير قتال يذكر ، الجواب نعم ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يدخلون مكة كأولياء للمسجد الحرام .
الثامن : دفاع آية البحث عن الإسلام عقيدة ومنهاجاً وأحكاماً ، فمن منافع ولاية الذين آمنوا للمسجد الحرام التمهيد والتيسير لعامة الناس لمعرفة أحكام الشريعة , وبعثهم على تعاهد مسائل الحلال والحرام .
وهل يختص دفاع آية البحث في المقام بخصوص أيام التنزيل , وتنجز فتح مكة ، وإزاحة الذين كفروا عن ولايته ، الجواب لا ، إذ يستمر هذا الدفاع ما تعاقب الجديدان النهار والليل ، والدائبان وهما الشمس والقمر ، وسمي النهار والليل الجديدين لأنهما لا يبليان .
وكل يوم يطل على الناس هو جديد وغير الأيام التي سبقته من أيام الحياة الدنيا ، وانشد منشد النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم :
لا تَأْمَنَنَّ وإِنْ أَمْسَيْتَ في حَرَمٍ حتى تلاقَي ما يمني لك الماني
فالخَيْرُ والشَّرُّ مَقْرونانِ في قَرَنٍ بكُلِّ ذلِكَ يأْتِيكَ الجَدِيدانِ
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو أَدرك هذا الإِسلام لأسلم( )، وفيه آية بالتسليم بأمر وقضاء الله , وفي الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل في كل زمان .
فقد يأتي بعضهم ويقول أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه غزوا مكة ، فتجيب آية البحث بأن الذين كفروا لم يكونوا أولياء البيت ، ولابد من إزاحتهم وتنحيتهم عن ولايتهم بالصبر والدفاع.
ويمكن تسمية فتح مكة بأنه (الدفاع عن مكة) وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخلها دفاعاً عن المسجد الحرام وعن أهلها ، وعن قوانين السماء فيها بلزوم ولاية المؤمنين لشؤون المسجد الحرام .
وتبين آية البحث لزوم الزحف لدخول مكة ، ولو لم يدخلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح ، فهل يقوم أهلها بفتحها وتحريرها ودفع وظلم الذين كفروا ويدفعونهم عن ولاية البيت , والإشراف على شؤون الحاج والمعتمرين .
الجواب لا دليل عليه بالإضافة إلى موضوعية تقادم الأيام ، فقد تم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ، وحج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة ، ونزلت سورة النصر وقوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ) .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (نعيت لي نفسي) كما عن ابن عباس( )، فكان فتح مكة ضرورياً من جهات :
الأول : موضوع الفتح والحاجة إليه .
الثاني : حكم الفتح من جهة أنه دفاع عن ذات المسجد الحرام وتسمية المسجد في الآية دعوة للمسلمين للتوجه إلى مكة من غير غزو أو استباحة لها ودخول المسجد الحرام .
فمن خصائص المسجد أنه محل السجود تطامناً وخضوعاً لله عز وجل ، ومن فيوضات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه أحيى اسم المسجد الحرام بسجوده فيه لله عز وجل ، ودعوته الناس للسجود لله في كل بقعة من بقاع الأرض ، قال تعالى[وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا]( ).
وهل يمكن القول إنه إذا لم يسجد أناس لله عز وجل في المسجد الحرام فكيف يسجد ويقيم الناس الصلاة في غيره من الأمصار ، الجواب لا ، فلا أصل لهذه الملازمة ، بدليل إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الصلاة في المدينة إلى حين فتح مكة وبعده ، وقد اقيمت الصلاة فيها قبل أن يصل إليها مصعب بن عمير مبعوثاً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع وفد الأنصار لجهات :
الأولى : لقد كان مصعب بن عمير سفير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل يثرب عامة .
الثانية : تلاوة مصعب بن عمير آيات القرآن على أهل المدينة ، وعن ابن شهاب قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير ، فنزل في بني غنم على أسعد بن زرارة ، فجعل يدعو الناس .
فجاء سعد بن معاذ فتوعده فقال له : أسعد بن زرارة اسمع من قوله؟ فإن سمعت منكراً فأردده يا هذا ، وإن سمعت حقاً فأجب إليه .
فقال : ماذا تقول، فقرأ مصعب [حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
قال : سعد بن معاذ : ما أسمع الا ما أعرف ، فرجع وقد هداه الله ( ).
وهل تختص هذه التلاوة بالآيات والسور التي نزلت في مكة قبل مغادرة مصعب بن عمير إليها ، الجواب لا ، إنما كان ما ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السور والآيات يصل إلى مصعب بن عمير وأهل المدينة ، وليكون جزءاً من الصلاة اليومية .
الثالثة : إقامة مصعب بن عمير صلاة الجماعة في المدينة ، وتعليم المسلمين فيها كيفية أدائها ، وتلك مسؤولية عظيمة ، ومرتكز في الدين ، وقيل أنه ( أول من جمع الصلاة بالمدينة وكانت الأنصار تحبه فأسلم معه سعد بن معاذ وعمرو بن الجموح وبنو عبد الأشهل كلهم وخلقٌ من النساء والصبيان .
وكان مصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ويوم أحد وكان وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حيث انهزم الناس ، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نفذت المشاقص في جوفه ، فاستشهد يومئذ .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عند الله احتسبه ما رأيت قط أشرف منه , لقد رأيته بمكة وإن عليه بردين ما يدري ما قيمتهما وإنّ شراك نعليه من ذهب ، وإنّ عن يمينه غلامين وعن يساره غلامين بيد كل واحد منهما (جفنة) من (طعام) يأكل ويطعم الناس ، فآثره الله بالشهادة ( ).
الرابعة : تعليم أحكام الحلال والحرام ، وبيان الواجبات والمحرمات .
الخامسة : دعوة أهل المدينة إلى الإسلام ، إذ كان مصعب بن عمير يزورهم في مجالسهم ومنتدياتهم ، ويبين لهم معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان مصعب وهو في مكة في حال ترف ، وتحرص أمه على حسن لباسه ليبذل الوسع في التبليغ والدعوة إلى الله ولما وقعت معركة أحد سقط شهيداً , وليس من كفن يغطي كل بدنه , للتخلي عن الدنيا وزينتها بصدق الإيمان .
السادسة : بعث أخبار المدينة المنورة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر أحوال أهلها له ، كمقدمة لهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليها ، وبيان انتشار الإسلام بين أهلها .
السابعة : السعي وبذل الوسع لتثبيت الإيمان في قلوب المسلمين بالقرآن والسنة ، والعمل على تنزيه المسلمين من النفاق، وهذا التنزيه من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
لتشع أنوار الهدى في ربوع الأرض ، ويتحقق مصداق لقوله تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ).
لقد تمادى الذين كفروا بالفساد في الأرض وارتكبوا من الظلم والتعدي ما لم يفعله غيرهم إذ جهّزوا وقادوا الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسعي في قتله ، كما سقط عدد من أهل بيته وأصحابه شهداء في معركة بدر وأحد.
فنزلت آية البحث لتكون حرباً على الذين كفروا في عقر دارهم في مكة بأن تنفي ولايتهم عن البيت الحرام ، ومن الإعجاز في تسمية البيت الحرام في آية البحث بالمسجد الحرام دلالة الاسم والمسمى على عدم ولاية الذين كفروا للمسجد .
فلو قالت الآية (وهم يصدون عن البيت الحرام ) لقال بعضهم أن البيت الحرام وضع للناس جميعاً ، والذين كفروا من الناس ، فجاءت آية البحث بتعيين الاسم والمسمى وأنه مسجد حرام لا يؤتى فيه بالباطل .
ومن معاني صفة الحرام في الآية الإخبار عن قبح فعل الذين كفروا بنصب الأوثان في المسجد الحرام ، وعدم تولي الذين كفروا لشؤونه وعمارته وحياطته ، وفيه شاهد على عدم الحاجة إلى غزو مكة أو القتال لفتحها فآية البحث مقدمة ونوع طريق لهذا الفتح ، ويمكن تأسيس قانون وهو (آيات الفتح) والمراد منها على وجوه :
الأول : الآيات التي تذكر فتح مكة وتشير إليه .
الثاني : الآيات التي تكون مدداً للمسلمين لفتح مكة منها قوله تعالى[وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا]( ) .
ومن أظهر معاني (مدخل صدق) المدينة المنورة , ومن معاني(مخرج صدق) مكة ، والسلطان المعجزة والصحابة من المهاجرين والأنصار للعودة إلى مكة بالإيمان وتولي المؤمنين ولاية البيت الحرام والى يوم القيامة.
الثالث : الآيات التي تبين حاجة الناس لفتح مكة .
الرابع : الآيات التي تبعث المسلمين على الإستعداد والسعي لفتح مكة.
الخامس : آيات البشارة بفتح مكة ، قال تعالى[وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا]( ).
السادس : آيات الإنذار للذين كفروا التي تزجرهم عن حمل السلاح لمنع فتح مكة .
السابع : الآيات التي يتعلق موضوعها بفتح مكة وتفاصيله .
وعن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نُصُبٍ، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول [جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( )، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد( ).
ترى من أي وجه من الوجوه أعلاه تكون آية البحث ، الجواب إنها منها جميعاً ، وهو من إعجاز الآية القرآنية بتعدد وجوه النفع منها ، وعدم إنقطاع منافعها ، والفيض الذي يترشح عنها إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة لآيات القرآن في الصلاة اليومية في كل زمان ومكان لينهلوا من العلوم التي تتضمنها الآية القرآنية وتحدد سنخية الوقائع والأحداث .
لقد حصرت آية البحث ولاية البيت الحرام بالمتيقن على نحو الخصوص فهل أراد المؤمنون الذين يتولون العناية بالمسجد وزواره أم المراد المعنى العام.
الجواب هو الثاني ، إذ تشمل ولاية المسجد المتيقن جميعاً ، لأصالة الإطلاق ، وصدق صبغة التقوى , وبين المؤمنين والمتقين عموم وخصوص مطلق ، فالمؤمنون أعم ، وكذا النسبة بين المسلمين أعم لبيان تقسيم المراتب في المقام :
الأول : المسلمون .
الثاني : المؤمنون .
الثالث : المتقون .
ترى لماذا لم تقل آية البحث أن أولياءه إلا الذين آمنوا ، الجواب يشمل اللفظ أعلاه عموم الذين نطقوا بالشهادتين وأقروا ظاهراً برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي إرادة عموم المتقين في ولايتهم للمسجد الحرام مسائل :
الأولى : بيان الملازمة بين التقوى وولاية المسجد الحرام .
الثانية : الترغيب بالتقوى وطاعة الله ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]( ).
الثالثة : بيان قانون وهو ترشح الوظائف الإيمانية الخاصة عن بلوغ مراتب التقوى ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الرابعة : دعوة الناس لإكرام المتقين ، والأصل في الإسلام التقوى والخشية من الله في السر والعلانية .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي : ألا إني جعلت نسبا ، وجعلتم نسبا ، فجعلت أكرمكم أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا : فلان بن فلان خير من فلان بن فلان ، فأنا اليوم أرفع نسبي ، وأضع نسبكم أين المتقون ( ).
الخامسة : الثناء على المسلمين وأنهم أمة التقوى والصلاح قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ]( ).
السادسة : القطع واليقين بأن الذين كفروا من قريش ليسوا أولياء للبيت الحرام لمعرفة الناس جميعاً بكفرهم .
السابعة : بيان قانون وهو أن التصديق بالنبوة والتنزيل من التقوى .
الثامنة : ذات صفة التقوى شرط للذين يتولون المسجد الحرام , وسبب للعناية به ، وبعماره وزواره , ووباعث على الطمأنينة عند الناس .
التاسعة : بيان قانون وهو حاجة ولاية المسجد الحرام إلى التقوى والخشية من الله ، ليكون أولياؤه أئمة للناس في مسالك الهدى .
العاشرة : بيان حب الله للمتقين وإكرامه لهم بأن خصهم بما لم ينله غيرهم من الكرامة إذ جعلهم أولياء للمسجد الحرام .
وتبين الآية حتمية قانون فتح مكة ، فلابد أن يتولى المتقون شؤون المسجد الحرام والذب عنه وصيانته وعمارته وبنائه وطهارته إذ أن قوله تعالى في خطاب إلى إبراهيم [وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( )، أمر إلى أولياء المسجد بالتبعية والإلحاق مثلما هو أمر إلى إبراهيم ، كما جاء القرآن بالأمر إلى إبراهيم وإسماعيل مجتمعين ومتفرقين لتطهير البيت الحرام ، قال تعالى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ) لبيان قانون وهو من ظائف الأنبياء تطهير البيت الحرام ، فلابد أن يقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفضل ومدد من الله بفتح مكة وتطهير المسجد الحرام من براثن الشرك ، قال تعالى [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ) .
والمشركون نجس فلا يصح توليهم للمسجد الحرام الذي يجب أن يبقى طاهراً مطهراً .
لتبين آية البحث قانوناً وهو الملازمة بين التقوى والطهارة ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : أولياء المسجد الحرام طاهرون .
الصغرى : المتقون أولياء المسجد الحرام.
النتيجة : المتقون طاهرون .
لقد جاء القرآن بذم أفعال الذين كفروا في المسجد الحرام ، قال تعالى[وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ]( ).
ومن معاني الجمع بين آية البحث والآية أعلاه أن عذاب الذين كفروا الذين ذكرتهم آية البحث على وجوه :
الأول : التلبس بالكفر والإصرار على الجحود .
الثاني : صدّ الذين كفروا عن المسجد الحرام .
الثالث : قيام الكفار بالهجوم على المدينة المنورة وغزو المتقين في عقر دارهم .
الرابع : إرادة الكفار قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإجهارهم بعزمهم هذا ووقوع عدة محاولات لقتله وإغتياله ، ولكن الله عز وجل ينجيه منها ، وهذه النجاة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : صلاة المشركين مكاء وتصدية ، وتشويهاً للصلاة ، وذات صلاة الذين كفروا صدّ عن المسجد الحرام لأنها تصفيق واستهزاء وتزلف للأصنام كوسائط تقربهم إلى الله .
السادس : نزول العذاب بالذين كفروا وتحقق مصداقه في الواقع اليومي فلا يختص موضوع قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ] ( ) بأنه تخويف ووعيد ، إنما هو أمر جامع مع نزول العذاب بالذين كفروا مع الوعيد باستدامته ونزول ضروب غيره من العذاب بالذين كفروا ، بينما تتوالى النعم على المؤمنين ظاهرة وباطنة .
وهل آية البحث من هذه النعم ، الجواب نعم ، فهي نعمة عظمى من جهات :
الأولى : قانون نزول الآية القرآنية نعمة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس ، فكل آية تنزل من القرآن هي عيد عقائدي للمسلمين ، وتتجلى معالم الإيمان في هذا العيد بما في الآية القرآنية من الأوامر والنواهي ، والأحكام ، والقوانين ، والسنن , قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الثانية : دعوة الآية القرآنية الناس للتدبر في المصداق الواقعي لها من جهة الموضوع والحكم ، ومنه آية البحث التي تدعو إلى الإتعاظ من الشواهد في كل من :
الأول : عذاب الله للذين كفروا .
الثاني : مصاديق علة هذا العذاب وهو صدّ الذين كفروا عن المسجد الحرام .
الثالث : وجوه وضروب صدّ الذين كفروا الناس عن المسجد الحرام .
الرابع : الضرر الناتج عن صدود الذين كفروا عن النبوة والتنزيل ، وعن منعهم المسلمين من أداء العبادات ، وهل إضطرار أكثر المسلمين في مكة على إخفاء اسلامهم خشية ايذاء الذين كفروا لهم من مصاديق صدّ الذين كفروا الناس عن المسجد الحرام ، الجواب نعم .
الخامس : بيان عظيم قدرة الله عز وجل وأنه سبحانه ينزل العذاب بالذين كفروا ، وتقدير آية البحث على جهات :
الأولى : وما لهم ألا يعذبهم الله بالحياة الدنيا ، ويحتمل هذا العذاب وجوهاً :
الأول : إنه عذاب يومي متجدد .
الثاني : يأتي هذا العذاب عند صدّ الذين كفروا من المسجد الحرام .
الثالث : يحل هذا العذاب بالذين كفروا على نحو متفاوت .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق العذاب الذي تذكره آية البحث .
الثانية : وما لهم ألا يعذبهم الله في عالم البرزخ .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبين لأصحابه الحاجة للإستعاذة من عذاب القبر ، ويعلمهم كيفية هذه الإستعاذة ونحوها ، عن زيد بن ثابت قال (بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه فجارت به فكادت تلقيه ، وإذا أقبر خمسة أو أربعة فقال : من يعرف أصحاب هذه الأقبر ؟
فقال رجل : أنا ، فقال : متى مات هؤلاء : قال : ماتوا في الإشراك فقال : إن هذه الأمة ستبلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر الذي أسمع منه : ثم أقبل علينا بوجهه فقال : تعوذوا بالله عز وجل من عذاب النار .
قلنا : نعوذ بالله من عذاب النار ، قال : تعوذوا بالله عز وجل من عذاب القبر : قلنا نعوذ بالله من عذاب القبر قال : تعوذوا بالله تعالى من الفتن ما ظهر منها وما بطن : قلنا : نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، قال : تعوذوا بالله من فتنة الدجال : قلنا نعوذ بالله من فتنة الدجال) ( ) .
الثالثة : وما لهم ألا يعذبهم الله يوم القيامة ، قال تعالى [يَوْمَ يَغْشَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]( ) .
وهو من أسرار مجئ آية البحث بصيغة الفعل المضارع [يعذبهم].
السادس : بعث السكينة في قلوب المسلمين باخبار آية البحث عن تعذيب الله للذين كفروا ، لأن هذا العذاب مانع لهم من الغزو والهجوم على المدينة المنورة .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يتخذ هذا العذاب مناسبة وحجة لغزو الذين كفروا في مكة والقبائل ، كما أنه لم ينتقم من الأحابيش والقبائل الذين زحفوا مع المشركين في معركة أحد والخندق قبل فتح مكة أو بعده .
وهل يشمل التعذيب الذي ذكرته آية البحث أفراد القبائل الذين زحفوا وقاتلوا إلى جانب المشركين في معركة أحد والخندق ، أم أن القدر المتيقن هو إرادة كفار قريش بدليل ذكر آية البحث لعلة هذا العذاب بقوله تعالى [وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ).
الجواب هو الأول ، فالمراد المعنى الأعم إذ أن خروج أفراد القبائل مع كفار قريش في غزوهم للمدينة ، وإعانتهم بالسلاح من الصدّ عن المسجد الحرام ، فيأتي العذاب على التابع والمتبوع ، والرئيس والمرؤوس في المقام ، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ]( ).
السابع : ذكر آية البحث للمسجد الحرام شاهد على منزلته عند الله عز وجل وأهل السموات وان الله سبحانه يتعاهده من جهات :
الأولى : مجئ الأنبياء ببنائه وعمارته وحجه والطواف حوله ، وليس من نبي إلا وقد حج البيت الحرام .
وعن عروة بن الزبير (ما من نبي إلا وقد حج البيت إلا ما كان من هود وصالح ، ولقد حجه نوح فلما كان في الأرض ما كان من الغرق أصاب البيت ما أصاب الأرض ، وكان البيت ربوة حمراء فبعث الله عز وجل هوداً ، فتشاغل بأمر قومه حتى قبضه الله إليه ، فلم يحجه حتى مات ، فلما بوأه الله لإِبراهيم عليه السلام حجه ، ثم لم يبق نبي بعده إلا حجه) ( ).
ولا دليل على هذا الإستثناء ، وأن إنشغال كل من هود وصالح بقومهما منعهما من الحج ، خاصة وأن عروة بن الزبير من التابعين ولم يرفع الحديث .
وورد الخبر أعلاه عن ابن اسحاق وقال أنه ينقله عن ثقة من أهل المدينة عن عروة .
الثانية : نزول آيات القرآن بتعظيم المسجد الحرام ، وبيان منزلته وموضوعيته في العبادات ، واستقبال المسلمين له عند ذبح الذبائح ، وفي التنزيل [وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ] ( ).
الثالثة : بيان آية البحث لقانون وهو سخط الله عز وجل على الذين يصدون عن المسجد الحرام .
وقال الزمخشري (استعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: عتاب بن أُسيد على أهل مكة وقال ” انطلق فقد استعملتك على أهل الله ” فكان شديداً على المريب ، ليناً على المؤمن وقال : لا والله لا أعلم متخلفاً يتخلف عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه ، فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق .
فقال أهل مكة : يا رسول الله ، لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد أعرابياً جافياً .
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ” إني رأيت فيما يرى النائم كأنّ عتاب بن أسيد أتى باب الجنة ، فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالاً شديداً حتى فتح له فدخلها، فأعز الله به الإسلام لنصرته المسلمين على من يريد ظلمهم ، فذلك السلطان النصير”)( ).
الرابعة : ترغيب المسلمين والناس بعمارة المسجد الحرام ، وهو من الإعجاز الغيري في آية البحث بأنها كشفت قبح فعل الذين كفروا .
وتبين عذاب الله لهم ، وتدعو الناس للإحتجاج على الذين كفروا، ونهيهم عن الإستمرار في هذا الصدّ .
فبعد أن كان رجال قريش يتصرفون بصفتهم أولياء للبيت الحرام ولهم الأمر والنهي فيه ، نزلت آية البحث لتسقط هذه الولاية من الأصل ، وتدعو الناس لمنع كفار قريش من العمل بما يخالف القوانين العامة في البيت ومنها أنه موضوع للناس جميعاً ، ومن وجوه :
أولاً : حق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القيام بالتبليغ والدعوة إلى الله في المسجد الحرام .
ثانياً : لزوم امتناع الذين كفروا عن إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن منعه من أداء الصلاة في المسجد بايذائه والتشويش عليه ، ترى لماذا يصر الذين كفروا على إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما يرونه يصلي ، الجواب من جهات :
الأولى : نفرة الذين كفروا من العبادة وهو من رشحات الكفر والشرك.
الثانية : إنقطاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة شاهد على صدق نبوته لأنه يؤدي الصلاة بكيفية إعجازية من جهة أركانها وأجزائها وكيفيتها .
الثالثة : حال الخشوع التي تتغشى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقابلها الذين كفروا بالصلاة بالصفير والتصفيق ، فقال تعالى [وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً]( ).
الرابعة : صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام دعوة للناس لدخول الإسلام ، والتحلي بالصلاح والإمتناع عن الشرك والفساد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر]( )، بلحاظ قانون وهو عدم إنحصار هذا النهي بذات المصلي إنما يشمل غيره من وجوه :
الأول : الذي يرى المصلي وهو يؤدي أفعال الصلاة بانتظام ورغبة، وعن أنس قال : حبب إليَّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة( )، ليكون من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترغيب المسلمين بالصلاة في قوله وفعله وتقريره .
الثاني : الذي يسمع المصلي يتلو آيات القرآن فيصيبه الخشوع ، وهو عنوان دعوة للهدى والإيمان ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا]( ) ، وفيه إقامة للحجة على الذين كفروا بصفيرهم وتصفيقهم ودليل على عدم أهليتهم لولاية المسجد الحرام.
الثالث : من تصله أخبار صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته في المسجد الحرام فيميل بالفطرة إلى الصلاة وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، بأن يميل الناس إلى الصلاة وضروب العبادة.
الخامسة : إدراك الكفار لقانون وهو جذب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس للإيمان بأدائه الصلاة وبيانه لقانون وأنه يجاهد في سبيل الله بنفسه حتى وان لم يكن معه أحد ، وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته ، فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخفى قراءته لم يسمع من يحب أن يسمع القرآن ، فأنزل الله { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها( ).
السادسة : من خصائص الحياة الدنيا أنها دار شواهد التنزيل ، فعند ما أخبرت آية البحث عدم ولاية الذين كفروا للمسجد الحرام فجاء إيذائهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته دليلاً يومياً على قبح فعلهم ، ولزوم تنحيهم أو تنحيتهم عن ولاية المسجد الحرام ، وفي التنزيل [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى]( )، عن إبن عباس في أسباب نزول الآية أعلاه أنها نزلت في أبي جعل وإيذائه للنبي وهو يصلي ، وتولده له أي أنه لم يكتّف بهذا الإيذاء إنما يهدد ويتوعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقتل إذا رآه يصلي( ).
(عن عبد الله بن مسعود قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس، وسلا جزور قريب منه.
فقالوا: من يأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره ؟ فقال عقبة بن أبى معيط: أنا.
فأخذه فألقاه على ظهره.
فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة عليها السلام فأخذته عن ظهره.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم عليك بهذا الملا من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللم عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم عليك بأبى جهل بن هشام، اللهم عليك بعقبة ابن أبى معيط، اللهم عليك بأبي بن خلف – أو أمية بن خلف ، شعبة الشاك.
قال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا، ثم سحبوا إلى القليب غير أبى، أو أمية بن خلف، فإنه كان رجلا ضخما فتقطع) ( ).
لقد أدرك كفار قريش أن صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام دعوة للناس للإسلام ، وحث لهم على لزوم عبادة الله بالكيفية التي يريدها هو سبحانه ، وتتقوم هذه العبادة بالصلاة ، وفي مريم قال تعالى [يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( ).
ثالثاً : حق المسلمين في إعلان إسلامهم وحضورهم في المسجد الحرام لأداء الصلاة وتلاوة القرآن ، ومن معاني تسمية بيت الله بأنه المسجد الحرام وجوه :
الأول : حرمة إيذاء المسلمين في كل أيام السنة .
الثاني : الزجر عن منع المسلمين من العبادة والذكر فيه .
الثالث : حرمة الكعبة ولزوم صيانتها ، قال تعالى [جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ] ( ).
الرابع : حرمة الكعبة والمسجد الحرام إلى يوم القيامة .
الخامس : تنزه ولاية المسجد الحرام على الذين كفروا .
السادس : عصمة البيت الحرام .
السابع : البيت الحرام من شعائر الله ، يجب تعظيمه ، قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
الثامن : حرمة المسجد الحرام من يوم خلق الله السموات والأرض ، وتلك خصوصية يتصف بها المسجد الحرام من بين بقاع الأرض كلها ، وعن (صفية بنت شيبة قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب عام الفتح فقال : يا أيها الناس إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض وهي حرام إلى يوم القيامة ، لا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا يأخذ لقطتها إلا منشد .
فقال العباس : إلا الإِذخر فإنه للبيوت والقبور . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إلا الإِذخر .
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والأزرقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض والشمس والقمر ، ووضع هذين الاخشبين فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا يلتقط لقطتها إلا من عرفها . قال العباس : إلا إلإِذخر فإنه لقينهم وبيوتهم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إلا الإِذخر) ( ).
التاسع : حرمة الصيد في الحرم على المحرم للحج والعمرة ، قال تعالى [أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] ( ) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ولا ينفر صيدها) ( ) أي الحيوان الذي ينفر من الإنس مثل الحمام البري والغزال فلا يصح صيده في الحرم سواء من المحل أو المحرم ، وتشمل حرمة الصيد في الحرم بيض الحمام البري لبيان حرمة المسلم في الحرم من باب الأولوية القطعية ، ويجوز في مكة ذبح الحيوانات التي لا تنفر من الإنس مثل الغنم والبقر والإبل .
العاشر : يمنع قطع الشجر الذي في الحرم إلا الإذخر ، وهو نبات عشبي ذو رائحة طيبة تنّقع أوراقه .
الحادي عشر : حرمة الإعتداء والقتال في المسجد الحرام .
الثاني عشر : حرمة الحرم الذي يحيط بالمسجد الحرام ، ومنى ومزدلفة من الحرم .
الثالث عشر : حج الناس إلى المسجد الحرام من كل مكان وتعظيمهم وتقديسهم له .
فلقد جعل الله عز وجل ربع أيام الحياة حرما لا يجوز القتال فيها ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ) .
أما بالنسبة للمسجد الحرام فان حرمته مطلقة طيلة أيام السنة وشمولها الليل والنهار ، وهو من الإعجاز في كرامة وشأن المسجد الحرام عند الله ، وفيه دعوة للمسلمين لتعاهدها ، والحفاظ على البيت الحرام بالمتقين ، لأن التقوى باعث على الإجتهاد في طاعة الله عز وجل ، والحرص على صيانة المسجد الحرام وتهيئة أسباب ومستلزمات العبادة فيه وأداء مناسك الحج والعمرة كل سنة .
رابعاً : من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ) جذب المسجد الحرام الناس للإيمان والتسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، والتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من معاني البركة في البيت التي تذكرها الآية أعلاه ، ووضع البيت للناس جميعاً أعم من أن يدخلوه ، وأن يطوفوا به ويتوجهوا إليه في الصلاة ، إنما تشع أنوار الهداية والأمن من البيت كل ساعة من ساعات الليل والنهار , فينتفع منها البر والفاجر .
وهل يخرج قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا] ( ) المشركين من الذين وضع الله عز وجل البيت الحرام لهم خاصة وأنهم لا يسجدون لله ، ويصدون الناس عن تعظيم شعائر الله ، وعن البيت الحرام .
الجواب لا ، فليس من تعارض بين شمول المشركين بوضع البيت الحرام لهم ، وبين منعهم من دخول البيت بسبب تلبسهم بالشرك ، وفي هذا الشمول العام دعوة لهم للتوبة والإنابة إذ أن الشرك أمر عرضي طارئ يقع بالإختيار عن ضلالة وجهالة وفسق .
ومع أدنى تدبر من العبد يتجلى له النهج الذاتي للشرك ولزوم التخلص منه ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ) .
وتدعو آية البحث المشركين للتوبة بتذكيرهم بالعذاب الحال بهم وأنه ليس من الأسباب والمسببات الدنيوية إنما هو بسبب كفرهم وجحودهم ، وأن السبيل للخلاص من هذا العذاب هي التوبة ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى] ( ) .
خامساً : إن إخبار القرآن عن وضع البيت الحرام للناس جميعاً شاهد على أن الله عز وجل لا يرضى للذين كفروا أن يصدوا المسلمين عنه ، لأنهم من الناس الذين جعل الله عز وجل البيت لهم [مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا] ( ) ولأنهم يؤدون الفرائض والعبادات ، فمن معاني قوله تعالى [وُضِعَ لِلنَّاسِ] وجوه :
أولاً : وضع للناس للأمن والبركة .
ثانياً : وضع للناس ليحجوا إليه .
ثالثاً : وضع للناس ليتخذوه قبلة .
رابعاً : وضع للناس ليلجأوا إليه ، فمع أن القرآن جاء بالإستعانة بالله عز وجل كما في قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( ) فقد ورد قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ) .
خامساً : وضع للناس ليستقبلوه في الصلاة ، وبذبائحهم إليه .
سادساً : وضع البيت لتحج إليه طائفة من المسلمين ، فيتلقاهم أولياؤه المتقون بالمودة والتيسير وتسهيل المناسك فيأتي النفع لعموم الناس ، وهو من الإعجاز في قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ) .
فقد تفضل الله عز وجل بوضع البيت الحرام للناس ولابد أنه يتكفله ، ومن هذه الكفالة أمور :
الأول : تسمية البيت بأنه حرام كما في قوله تعالى [آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ]( ) .
الثاني : تسمية البيت الحرام المسجد ، وبين اسم البيت والمسجد عموم وخصوص مطلق ، فالبيت أعم ، وهو شامل في معناه للمسلم وغير المسلم ، وأن الله عز وجل لم يطلب من كل الناس من وضع البيت الصلاة فيه ، لذا فان فريضة الحج مقيدة بالإستطاعة ،قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) .
الثالث : وصف البيت بأنه حرام في قدسيته وطهارته ، ومن معاني الحرام في المقام المنع من تولي الذين كفروا لشؤونه .
الرابع : تفضل الله عز وجل بوقوع فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ، ومن أول الأفعال التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أداء الصلاة في المسجد الحرام يوم الفتح قيامه بازاحة الأصنام عن البيت الحرام ، لتكون هذه الإزاحة مرآة لطرد الذين كفروا عن ولاية المسجد الحرام إلى يوم القيامة .
وشاء الله عز وجل أن يقيم الحجة على الذين كفروا بآية البحث وأخبار السنة النبوية وكيف أن الذين كفروا من قريش كانوا يصدون الناس عن دخول الإسلام .
فحينما تأتي القبائل لحج بيت الله الحرام يطوف عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منازلهم يدعوهم إلى الإسلام ويتلو عليهم آيات القرآن فيسألون قريشاً عنه بصفتهم أولياء مسجد الحرام فيصفون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه كذاب وأنه ساحر ومجنون ، وورد في التنزيل [وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ] ( ).
كما قاموا بتحذير الناس إبتداء من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويمنعونهم من الإنصات له ، وفي التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] ( ).
لذا فان آية البحث تنهى أهل مكة وأفراد القبائل عن الإستماع لكفار قريش بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحذر قريشاً ويقول لهم دعوني أنا والعرب أي أبين لهم معجزات النبوة فيكونون بالخيار بين الإيمان والكفر ، ولكن كفار قريش يصرون على صدّ الناس عن سبل الإيمان ومسالك الهداية .
لقد جلب الذين كفروا من قريش العذاب إلى أنفسهم بأن صدّوا الناس عن الآيات ويترشح عنه منعهم من الصلاة في المسجد الحرام ، قال تعالى [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ] ( ).
وقد منع كفار قريش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذكر اسم الله في المسجد الحرام ، وحملوه على الهجرة من مكة ، ومغادرة البيت الحرام ، وفي ليلة الهجرة استلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجر وقام وسط المسجد , وبداية طريق الهجرة التفت إلى البيت فقال : إني لأعلم ما وضع الله في الأرض بيتاً أحب إليه منك ، وما في الأرض بلد أحب إليه منك ، وما خرجت عنك رغبة ولكن الذين كفروا هم أخرجوني) ( ).
ليكون ظلم الذين كفروا في الآية أعلاه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً وأن أشدها منع المسلمين من الصلاة في المسجد الحرام ، ومن أكثر هذه الأفراد ظلماً هو منع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الدعوة إلى الله في المسجد الحرام والصلاة فيه , وفي التنزيل [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ) .
ولم يرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ظلم كفار قريش باليد والسلاح ، إنما أظهر غاية الصبر ، وحث أصحابه على الصبر ، وكان يبشرهم بالجنة ثواباً على تحمل هذا الأذى في جنب الله ، فكان يمر على آل ياسر وهم يعذبون في حر الشمس فيقول : صبرا آل ياسر موعدكم الجنة ( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لطائفة من أصحابه : لو هاجرتم إلى الحبشة فان فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد .
فهاجر في الهجرة الثانية ثلاثة وثمانون رجلاً وثمان عشرة امرأة ( )من أهل البيت والصحابة مما يدل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد قتال قريش لأنه لو أراد القتال لأبقى أصحابه إلى جنبه يشدون عضده وينصرونه ، خاصة وأن الهجرة إلى البلاد البعيدة شاهد على الهدى والثبات على الإيمان , وأن الذين هاجروا في سن الشباب والفتوة , ويستطيعون مواجهة رجال قريش .
لقد إبتدأت آية البحث بالإخبار عن تعذيب الله عز وجل للذين كفروا لكفرهم وجحودهم ولانهم يصدون الناس عن المسجد الحرام ، ويمنعونهم من الإسلام ، لبيان قانون وهو أن الكافر إذا منع الناس عن الإسلام فان الله عز وجل يعذبه ويخزيه ، وفيه دعوة لأهل مكة والقبائل للإمتناع عن صدّ الناس عن المسجد الحرام وإقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الأوائل الصلاة فيه .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] ( ) أي وأن اقيموا الصلاة في المسجد الحرام واتقوه في ولايتكم للمسجد .
إن إخبار آية البحث عن صدّ قريش الناس عن المسجد الحرام شاهد على تلقي المسلمين أذى المشركين بصبر , ومن إعجاز القرآن الغيري التأكيد على الصبر لحاجة المسلمين له ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( )، وعدم عزمهم على القتال ، ومن مصاديق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يقم بالإنتقام والثأر من كفار قريش من جهات :
الأولى : عند إزدياد عدد المسلمين في مكة قبل الهجرة ولم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باغتيال أو قتل أي فرد من كبار مشركي قريش الذين أمعنوا في تعذيب المؤمنين ، كما أن المسلمين الأوائل تقيدوا بأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر والتحمل ، ومن معاني الصبر في المقام الإمتناع عن رد الأذى بمثله ، قال تعالى [وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ]( ) .
الثانية : لم يتعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأموال وتجارة وقوافل قريش التي تمر قريباً من المدينة مع أن أصحابه الذين كانوا يخرجون معه في الكتائب أضعاف المرافقين للقافلة من قريش وعمالهم .
الثالثة: لقد وقعت معركة بدر باصرار على القتال من قبل المشركين في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وأنزل الله عز وجل ملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وانهزم المشركون في ذات اليوم الذي بدأت فيه المعركة ز
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إماماً وقائدا في المعركة ولم يأمر المسلمين بمطاردة المشركين في الصحراء ، إنما كان مشغولاً بالدعاء فجاء النصر .
(عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: “اللهم أنشدك عَهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تُعْبَد) ( ) ولم يكن ابن عباس حاضراً في معركة بدر ، بل كان صغيراً في مكة ، وحضرها أبوه العباس , ولكن مع المشركين ووقع اسيراً بيد المسلمين فلابد ان ابن عباس سمع الخبر من الصحابة ، لذا ورد عن ابن مسعود أن قال (: شهدت من المقداد بن الأسود مَشْهدًا لأن أكون صاحبه أحبَّ إلي مما عدل به: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى لموسى: { اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا } ( )ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشرق وجهه وسره) ( ).
وعندما تحقق النصر اجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشكر لله عز وجل .
الرابعة : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبعث أصحابه في سرايا من المدينة وإلى بعض القبائل الذين يبلغه أنهم يريدون الإغارة على المدينة , وكان يأمرهم بأن لا يبدأوا قتالاً ولا يجهزوا على مريض ولا يقتلوا شيخاً أو امرأة ، ولا يقطعوا شجرة .
وكانت أغلب هذه السرايا تعود إلى المدينة من غير أن تلقى قتالاً ، وكانوا يمرون على سرح وأنعام للمشركين لم يستحوذوا عليها ، ولم يأخذوها غنائم ، فمع أن المشركين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويضربون أصحابه فانه لم يؤذهم في أنفسهم أو شأنهم أو أموالهم ولم يغزهم في قراهم ومدنهم .
إنما كانت تصلهم آيات القرآن وكل آية منها تكون على وجوه :
الأول : إنها غزو للقلوب .
الثاني : في الآية القرآنية سلطان على النفوس .
الثالث : في الآية دعوة للناس للتوبة والإنابة لبيان قانون وهو أن غزو العقول بالحق والبرهان أعظم وأنجح من غزو الأبدان، فليس في البلاغ القرآني جعجعة سلاح ، أو سيلان دماء .
الخامسة : مع مضاعفة أعداد المسلمين أضعافاً كثيرة ، وتنامي قوتهم باطراد ، وصيرورة الذين كفروا في حال ضعف ونقص في الأموال وتعطيل التجارات فان النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عقد مع المشركين صلح الحديبية ، ورضي بشروطهم المتعددة ودعا المسلمين للصبر على هذه الشروط ، وتفضل الله عز وجل وجعله فتحاً ؟
وذكر أن قوله تعالى [فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ) نزل بخصوص صلح الحديبية ، مع التسليم بأن ما قام به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلح بالوحي من عند الله عز وجل .
وسيأتي بحث مستقل بدلالة صلح الحديبية على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد الغزو ، ولم يقصده أو يبيته إذ أنه خرج وأصحابه وليس معهم إلا سلاح الراكب .
وبعد صلح الحديبية بعام جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة لأداء مناسك العمرة وتسمى عمرة القضاء ، وقد جاء معه ألفان من أصحابه ، ولو أراد لاستولى على مقاليد الأمور في مكة لكثرة أصحابه وهم أضعاف عدد رجالات قريش في مكة ، ولوجود طائفة من المسلمين بين أهلها وكانوا على أصناف :
الأول : الذين يجهرون باسلامهم .
الثاني : الذين يخفون اسلامهم .
الثالث : الذين يجهرون باسلامهم مرة ويخفونه مرة أخرى تقية ، أو يجهرون به على نحو الموجبة الجزئية .
وقد أخلت قريش البيت للنبي صلى الله عليه وآله وأصحابه وكان عددهم يملأ أزقة مكة ، وكلهم يعشق الشهادة ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقيد بالميثاق الذي بينه وبين المشركين مع أنهم ليسوا أولياء المسجد الحرام .
وبقي ثلاثة أيام بلياليها في مكة لأداء المناسك صابراً على وجود الأصنام فيها ، ثم غادر وأصحابه الى المدينة قافلين بالظفر بأداء المناسك ، وكما كان صلح الحديبية فتحاً فان عمرة القضاء فتح وموعظة ومقدمة لفتح مكة ، وإخبار للناس بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قادمون ، من غير قتال ولا غزو ولا حرب لأن آية البحث أخبرت بأن البيت هو المسجد الحرام الذي جعله الله عز وجل محلاً لعبادته ، وسجود المؤمنين له ، وإظهارهم الإنقياد والخضوع له سبحانه .
ومن إعجاز القرآن إخباره بان البيت الحرام وضع للناس جميعاً ، ولكن ولايته بيد المؤمنين ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
ونزلت آية البحث لتتضمن الإخبار عن قانون إختصاص المتقين بولاية المسجد الحرام ، ومن معاني الولاية الإشراف المباشر ، والعناية اليومية بأمور المسجد وأحوال زواره وعماره فلابد من حضور المتقين في المسجد ومنع الذين كفروا من تولي شؤونه ، وليس بين عمرة القضاء وبين فتح مكة إلا نحو عشرة شهور لأن العمرة تمت في شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة وهو من الأشهر الحرم .
وتم فتح مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة وهو ليس من الأشهر الحرم ولكنه شهر عبادة وصيام ، قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ] ( ).
وتستحب العمرة فيه استحباباً مؤكداَ .
وهل تدل آية البحث على انه لو امتنع المشركون عن تسليم ولاية المسجد الحرام للمؤمنين تنتزع منهم انتزاعاً .
الجواب لقد تم فتح مكة من غير قتال أو انتزاع ، إنما جاء بآية ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية ، لقد هجم الذين كفروا في معركة بدر ، ثم في معركة أحد ثم زحفوا عشرة آلاف مقاتل غزاة في السنة الخامسة للهجرة في معركة الخندق ، ثم جاء صلح الحديبية وليتقدم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعه عشرة آلاف من أصحابه إلى مكة وفيه وجوه :
الأول : إنه معجزة حسية من السنة الدفاعية .
الثاني : إنه معجزة عقلية من جهات متعددة منها كثرة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين خرجوا معه من المدينة الى مكة ، وقلة عدد المقاتلين من قريش ، وتخلي أعوانهم عنهم الى جانب وجود طائفة من المسلمين في مكة أوان الفتح .
وهل يكون قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) حاضراً في فتح مكة ، الجواب نعم ، فقد امتلأت قلوب الذين كفروا بالرعب ، وسارع إلى الهزيمة الذين خرجوا لملاقاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يومئذ .
وقد دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة مع أصحابه ، وخرج معهم ألفان من مكة يسمون مسلمي الفتح ولكن ليس كلهم أسلموا عند الفتح ، والمختار أن الكثير منهم كانوا مسلمين قبل دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
إذ كانت طائفة من أهل مكة رجالاً ونساء قد دخلوا الإسلام قبل الفتح ، وعجزوا عن الهجرة ، وحالت أسباب دون هجرتهم ، فتفضل الله عز وجل عليهم بأن أزاح الذين كفروا عن ولاية المسجد الحرام ، وعن الشأن والجاه في مكة وما حولها .
الثالث : فتح مكة معجزة حسية وعقلية جامعة ، وفيه دعوة للعلماء للتفكر في أسرار فتح مكة ، وما فيه من الفيوضات من عند الله عز وجل ، من جهات :
الأولى : صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن المشركين من حين البعثة النبوية إلى فتح مكة نحو احدى وعشرين سنة .
الثانية : توالي نزول آيات القرآن التي تتضمن البشارة بفتح مكة سواء في منطوقها أو مفهومها .
الثالثة : نزول آيات البشارة للمؤمنين بالظفر والفتح ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ) .
الرابعة : تحقق مصاديق البشارة للمسلمين بالنصر والغلبة على الذين كفروا ، ومنه النصر المبين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
الخامسة : إصابة الذين كفروا بالفزع والرعب مع النقص الحاصل في الرجال والأموال والأنفس .
ومن الإعجاز الغيري في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن النقص في المشركين كان من وجوه :
أولاً : قتل طائفة من الذين كفروا في ميدان المعارك .
ثانياً : توبة فريق من الذين كفروا ودخولهم الإسلام وهجرتهم إلى المدينة مسلمين .
ثالثاً : دخول أبناء المشركين الإسلام ، فيخرج المشركون لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ليعودوا إلى بيوتهم في مكة أو في القرى التي حولها ليجدوا الإسلام قد دخل بيوتهم من أبوابها ليبقى فيها ولا يغادرها ، وفيه إدراك من قبل الأبناء بعدم أهلية آبائهم الكفار لولاية المسجد الحرام ، وأن الأبناء هم أولياء المسجد الحرام لتحليهم بزينة التقوى ، قال تعالى [يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ]( ).
وهو من الشواهد على عدم حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الغزو والهجوم في الدعوة إلى الله فان طبقة الذين كفروا إلى زوال وانقراض سواء بالموت أو القتل أو البلاء , أوالآفة من السماء أو الأرض .
قوله تعالى [إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ]
من خصائص المتقين التنزه عن الظلم والتعدي لبيان أن يوم فتح مكة مناسبة لنشر شآبيب الرحمة ، وهو شاهد على قانون ، وهو ولاية المتقين للمسجد الحرام رحمة للناس ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ان أولياؤه إلا المتقون الذين يمنعون الغزو بين القبائل .
الثاني : ان أولياؤه إلا المتقون الذين يحرصون على أداء الناس المناسك على وجه التمام .
الثالث : ان أولياؤه إلا المتقون وهم رسول الله والذين صدّقوا بنبوته وعملوا بسنته .
الرابع : ان أولياؤه إلا المتقون الذين يخشون الله بالغيب .
الخامس : ان أولياؤه إلا المتقون الذين يدعون الناس وبهذه الولاية إلى الإيمان ، لبيان التضاد بين ولاية الذين كفروا للمسجد الحرام وما فيها من الدعوة إلى الضلالة وبين ولاية المتقين ودعوتهم للصلاح والإصلاح ، وفي التنزيل [أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] ( ).
السادس : ان أولياؤه إلا المتقون الذين يدعون الذين كفروا إلى التوبة والإنابة ، ويمنعونهم من إغواء الناس .
السابع : إن أولياؤه إلا المتقون الذين يحولون دون ولاية الذين كفروا على المسجد الحرام ، وإلى يوم القيامة ، لتكون ولاية الذين كفروا للمسجد الحرام عرضاً متزلزلاً ، أما ولاية الذين اتقوا له فهي دائمة وثابتة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ]( ).
الثامن : إن أولياء المسجد الحرام إلا المتقون ، إذ تعود الهاء في آية البحث إلى المسجد الحرام .
التاسع : تدل آية البحث بالدلالة التضمنية , وبالأولوية القطعية بأن ولاية المساجد في الأرض للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويعظمون شعائر الله وهو باب للهداية والصلاح ، وفي التنزيل [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] ( ).
لتدل الآية على أن المتقين ينفقون من أموالهم على عمارة المسجد الحرام ، وهو الذي يتجلى في كل زمان منذ فتح مكة بينما كان الذين كفروا يجمعون الأموال في موسم الحج وأيام العمرة ليسخروها لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وهو من مصاديق احتجاج الملائكة كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ) إذ أن جمع الكفار الأموال من ولايتهم للمسجد الحرام وتسخيرها في قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الفساد في الأرض ومن سفك الدماء بهذا الفساد .
ويكون تقدير الآية أعلاه : ويفسدون في الأرض ويسفكون الدماء بهذا الفساد ومن أجل استدامة الفساد .
العاشر : إن أولياؤه إلا المتقون في كتاب الله من حين وضع الله عز وجل البيت للناس ليكون تقدير قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( ) على وجوه :
أولاً : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة أولياؤه المتقون .
ثانياً : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة يتعاهده المتقون .
ثالثاً : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة لتقريبهم للتقوى .
رابعاً : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً , ومن بركته ولاية المتقين له .
الحادي عشر : إن أولياؤه إلا المتقون الذين يمكنهم الله عز وجل من هذه الولاية بفضل منه تعالى .
الثاني عشر : إن أولياءه إلا المتقون الذين يطيعون الله ورسوله فتنزل عليهم الرحمة ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الثالث عشر : إن أولياءه إلا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو أمام المتقين .
الرابع عشر : إن أولياءه إلا المتقون يتوارثون ولايته جيل بعد جيل ، وفيه أمان لأهل الأرض وواقية من الفساد .
الخامس عشر : إن أولياءه إلا المتقون وان حاربوا الذين كفروا في ولايتهم ، فقد أصر الكفار على التعدي والظلم ، وإزاحتهم عن ولاية المسجد الحرام سبب لإرادتهم الإنتقام ، فتفضل الله عز وجل بفتح مكة ودخولهم في الإسلام يومئذ ، فان قلت كان الكثير منهم من المؤلفة قلوبهم الذين أظهروا الإسلام .
ولكن الإيمان لم يدخل قلوبهم , وهم ينتظرون الفرصة للإنقضاض على الإسلام .
الجواب هذا صحيح ولكن تعاقب الأيام مناسبة لتوالي وتجدد معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإيمان شطر منهم .
فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص تقادم الأيام أمور :
أولاً : زيادة عدد المسلمين بدخول جماعات وأفواج من الناس في الإسلام ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل ولاية الذين كفروا للمسجد الحرام برزخ دون دخول الناس في الإسلام ولو على نحو السالبة الجزئية .
الثانية : هل ولاية المتقين للمسجد الحرام سبب في دخول الناس أفواجاً في الإسلام .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم ، وهو الذي تدل عليه آية البحث بالدلالة التضمنية بقوله تعالى [وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ).
لقد اجتهد الذين كفروا في محاربة الإسلام فاستولوا على شؤون المسجد الحرام ، ليفتنوا الناس ويمنعونهم عن التدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باختيارهم سبل الهداية والرشاد ، ليكون عذابهم رحمة بالناس جميعاً وحاجة , ومانعاً من تجنيد الذين كفروا الجيوش لغزو المدينة على نحو متكرر .
وأما المسالة الثانية ، فالجواب نعم فان ولاية المتقين للمسجد الحرام باب للهداية ودعوة للناس لأداء مناسك الحج واتخاذها مناسبة لذكر معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوة آيات القرآن والإصغاء لها .
ثانياً : من خصائص زيادة عدد المسلمين مسائل :
الأولى : التفقه في الدين ، واتقان العبادات وأداؤها حسب التنزيل والسنة ، وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (صلّوا كما رأيتموني أصلّي) ( ).
الثانية : المناجاة في تقوى الله والخشية منه سبحانه .
الثالثة : قيام المسلمين بالدفاع عن الإسلام .
الرابعة : المرابطة في الثغور .
الخامسة : تعدد الأثر الغيري لكثرة المسلمين , ومنه بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا .
السادسة : إجتهاد المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) .
السابعة : مضاعفة الأجر والثواب للمسلمين .
الثامنة : النقص في عدد المشركين ، فكلما يدخل شخص في الإسلام يقوى جانب المسلمين ويضعف جمع المشركين ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) جمع يزداد كل يوم وهم أهل الحق ، وجمع ينقص كل يوم وهم الذين كفروا .
ثالثاً : تضاؤل عدد المنافقين والمنافقات مع توالي نزول آيات القرآن ، ويمكن تـأسيس قانون من جهات :
الأولى : كل آية قرآنية تنقص عدد المنافقين سواء في نزولها أو تلاوتها .
الثانية : الآية القرآنية واقية من نماء واتساع النفاق .
الثالثة : قانون الآية القرآنية تضيق النفاق .
الرابعة : قانون كل آية قرآنية دعوة للتوبة من النفاق والرياء ، وفي الحديث القدسي ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن ربكم يقول : أنا خير شريك ، فمن أشرك معي في عمله أحداً من خلقي تركت العمل كله له ولم أقبل إلا ما كان لي خالصاً .
ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) ( ).
الخامسة : قانون الآية القرآنية برزخ دون ظهور مفاهيم النفاق .
السادسة : قانون تفضح الآية القرآنية المنافقين في أشخاصهم وأفعالهم ، لتكون واقية للمسلمين من شرورهم .
وجاءت آية البحث لبيان قانون وهو أن المنافقين ليسوا أولياء للمسجد الحرام وان نطقوا بالشهادتين ، وهو من الإعجاز تقييد ولاية المسجد الحرام بالتقوى والخشية من الله للتباين بين التقوى والنفاق .
رابعاً : زيادة إيمان المسلمين والمسلمات , وتعاهدهم الفرائض وتحليهم بالصبر .
خامساً : هداية المؤلفة قلوبهم وصلاحهم وكفهم عن التربص بالمسلمين.
سادساً : إيمان الأعراب وتفقههم في الدين , والإرتقاء العام للمسلمين في المعارف الإلهية ، قال تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
ومن خصائص ومنافع صبر المسلمين أمور :
الأول : ترغيب الناس بالإسلام .
الثاني : دعوة الناس للإيمان .
الثالث : بيان الحسن الذاتي للإيمان , وما يترشح عنه من الإقامة على طاعة الله سبحانه .
الرابع : تجلي معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بظهور سلطان الصبر على المسلمين والمسلمات مع التعدد والإختلاف في انتمائهم القبلي والبلدي ، ووجود ثارات بينهم في أيام ما قبل دخولهم الإسلام ، قال تعالى [فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] ( ).
ومن أسرار ولاية المتقين للمسجد الحرام تنزه الناس عن الأخلاق المذمومة , ومنها الوأد وتقديس الأصنام والريب في التنزيل ، قال تعالى [وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا]( ) .
وهل تبعث آية البحث الأمل عند المسلمين بالفتح ، وتكون باعثاً على الصبر ، ورجاء فضل الله عز وجل بتولي المتقين ولاية وشؤون المسجد الحرام .
وبين المسلمين والمؤمنين وخصوص مطلق ، فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس .
وبين المؤمنين والمتقين عموم وخصوص مطلق أيضاً ، فكل متق هو مؤمن ، ليكون الترتيب كالآتي :
الأول : المسلم .
الثاني : المؤمن , وفي التنزيل [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
الثالث : المتقي .
فجاءت ولاية المسجد الحرام بالمعنى الأخص ، وفيه دعوة للمسلمين والمسلمات للإرتقاء إلى مراتب اليقين وتعاهد سنن التقوى في القول والعمل وعن عبد الله بن مسعود قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : اللهم إني أسألك الهدى ، والتقى ، والعفة ، والغنى) ( ).
ومن إعجاز القرآن وصدق نزوله من عند الله ذكر قانون صلاة الذين كفروا ، فهم يصلون , ولكن صلاتهم ليست لله إنما هي ظلم لأنفسهم وللغير لأنها تصفير وتصفيق ، وكما أن ولايتهم للمسجد الحرام ميل وحب للدنيا واتباع الهوى ، فان صلاتهم ليست بقصد القربة ، ولم يرثوها عن الأنبياء السابقين ، إنما هو أمر ورثوه عن آبائهم الكفار ، وفي التنزيل [قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ] ( ) .
وتسقط صلاة التصفيق ولاية الذين كفروا على البيت وتؤكد عدم استحقاقهم لها , وتدعو الآية المسلمين إلى التزام الصلاة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل .
وهل الصلاة من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) الجواب نعم فكيفية أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصلاته بالوحي وتلقاها من جبرئيل ، كما صلى في ليلة الإسراء بالأنبياء .
وقد ينخدع بعض الناس بصلاة الذين كفروا وقيامهم بالحج والخروج إلى مزدلفة , فيتخذ الرؤساء الكفر هذا الإنخداع مقدمة لحمل الناس على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وغزو المدينة ، فنزلت آية البحث لتمنع الناس من الإنخداع بالذين كفروا وصلاتهم .
والصلاة صلة وحبل بين العبد وخالقه ،وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ) وهي شاهد الإيمان وعنوان الطاعة والخضوع لله عز وجل ،ومفهوم التقوى واليقين ، ولا شئ يتقرب به العبد إلى الله مثل الصلاة ، والصلاة جهاد وصبر في طاعة الله ، وهي واقية من الغزو من جهات :
الأولى : الصلاة مانع للمسلمين من الغزو .
الثانية :مواظبة المسلمين على الصلاة واقية من غزو المشركين للمسلمين.
الثالثة : الصلاة دعوة عبادية للناس لدخول الإسلام ، وتلقى هذه الدعوة الإستجابة من شطر من الناس ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ).
الجواب نعم بتقريب أن المسلمين يؤدون الصلاة حسب ما أمرهم الله عز وجل ، فيمتنع عامة الناس عن فعل السيئات ، ويتوبون إلى الله من مفاهيم الكفر والضلالة ، أي هناك نفع غيري للصلاة يشمل الناس جميعاً فهي صلاح للذات والغير ووسيلة لنشر شآبيب مفاهيم المودة بين الناس برداء الصلاح وأسباب الهداية .
وأختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) وفيه دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للصبر على أذى الذين كفروا وعدم البطش بهم لجهالتهم والحماقة التي يتصفون بها ، ويحتمل الضمير (هم) في قوله تعالى [أَكْثَرَهُمْ] إرادة الناس جميعاً أي أكثر الناس لا يعلمون ، كما ورد في قوله تعالى [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الثاني : المقصود خصوص الذين يتولون شؤون المسجد الحرام وهم الذين أخبرت آية البحث عن نزول العذاب بهم .
الثالث : يعود الضمير (هم) إلى مشركي مكة .
الرابع : المقصود الكفار الذين يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم سؤال الرؤساء منهم أو الأتباع .
الخامس : إرادة عامة الذين كفروا .
والمختار هو الأخير أعلاه لتكون النسبة بين الذين تذكرهم الآية في أولها ، والذين تذكرهم في آخرها عموما وخصوصا مطلقا ، والجامع المشترك هو الكفر ونزول العذاب بالذين كفروا .
وتقدير خاتمة آية البحث على وجوه :
الأول : ولكن أكثرهم لا يعلمون ما ينفعهم وما يضرهم ، قال تعالى [وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ] ( ) .
الثاني : ولكن أكثرهم لا يميزون بين الحق والباطل .
الثالث : ولكن أكثرهم يصدون عن سبيل الله إذ أن هذا الصدود من عدم العلم ، وقال تعالى [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] ( ) وخاتمة الآية أعلاه دعوة للصبر على الذين كفروا وعدم غزوهم ودفع مقدمات القتال معهم لأن الإعراض نوع صبر .
الرابع : ولكن أكثرهم لا يعلمون بوجوب التصديق بالنبوة والتنزيل .
الخامس : ولكن أكثرهم لا يعلمون بنزول العذاب بهم لصدّهم عن المسجد الحرام .
السادس : ولكن اكثرهم لا يعلمون بنصر الله بقرب فتح مكة وإزاحة المشركين عن ولاية المسجد الحرام .
السابع : ولكن أكثرهم لا يعلمون بنصر الله عز وجل للنبي والمؤمنين قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ( ) .
الثامن : ولكن أكثرهم لا يعلمون بحال الجهالة والوثنية التي هم عليها .
التاسع : ولكن أكثرهم لا يعلمون أن المتقين هم أولياء المسجد الحرام .
العاشر : ولكن أكثرهم لا يعلمون ضلالتهم.
الحادي عشر : ولكن أكثرهم لا يعلمون بوجوب المبادرة إلى التوبة والإنابة , قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ) .
الثاني عشر : ولكن أكثرهم لا يعلمون بشدة عذابهم في الدنيا والآخرة.
الثالث عشر : ولكن أكثرهم لا يعلمون باسباب ودلائل تسمية المسجد الحرام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) ويحتمل وجوهاً :
الأول : إن الله عز وجل علم آدم اسم المسجد الحرام .
الثاني : إن الله عز وجل علم آدم اسم البيت الحرام .
الثالث : علّم الله عز وجل آدم اسم المسجد الحرام والبيت الحرام .
والمختار هو الثالث لبيان أن قوله تعالى [آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) لا يختص باسم واحد لكل موضوع ، وقد ورد الاسمان معا في القرآن والسنة , وهو من مصاديق قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ) .
الرابع عشر : ولكن أكثرهم لا يعلمون بوجوب الإستعداد لعالم الحساب بالتقوى والخشية من الله .
الخامس عشر : ولكن أكثرهم لا يعلمون بوجوب عدم الصدّ عن المسجد الحرام ، وهذا الصد لا يجلب لهم إلا الخزي في الدنيا والآخرة.
السادس عشر : ولكن أكثرهم لا يعلمون بأنهم ليسوا أولياء المسجد الحرام ، وأن أولياءه المتقون.
السابع عشر : ولكن أكثرهم لا يعلمون بأن العذاب الذي يلقون من الله عز وجل بسبب صدّهم عن المسجد الحرام .
وتدعو خاتمة آية البحث المسلمين الى الصبر على الذين كفروا وعدم غزوهم والهجوم عليه أو الإنتقام منهم ، فهم لا يعلمون ما يجب عليهم ، ليكون توالي نزول آيات القرآن مناسبة وفرصة ليعلموا وجوب التوبة والصلاح والإصلاح .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) الإخبار عن هزيمة الذين كفروا في معاركهم مع المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وتبين خاتمة الآية حقيقة وهي أن إنكار الذين كفروا للمعجزات عن جهالة وجدال ومغالطة ، وليس عن علم وإحتجاج لتدل الآية في مفهومها على التبليغ بالدليل والبرهان ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) .
وهل تنفع الحكمة في دعوة الذين كفروا وطرد الجهالة والصدّ عن المسجد الحرام ، الجواب نعم ، ومن الحكمة التي وردت في الآية أعلاه تلاوة آية البحث والتدبر في معانيها ودلالاتها ، وأن العذاب العاجل ينزل بالذين كفروا لمنعهم من الاستمرار في التمادي بالصدّ والمنع عن نشر مبادئ الإيمان وعن تعظيم شعائر الله .
فمن خصائص آية البحث أنها مدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وعون وحارس للبيت الحرام وتوليته ، إذ شرّفه الله عز وجل بأن صبغة التقوى التي يتصف بها الذين يتولون السمجد الحرام من البركة , وهي من عمومات منع الجهالة والغرر , وقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام .
ومن معاني قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، وسلامة القرآن من التحريف إلى يوم القيامة تذكير القرآن المسلمين والناس كل يوم بصفات أولياء المسجد الحرام بما ينفع أهل الأرض ، ويمنع من الفساد وهو من مصاديق احتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
لقد أخبرت آية البحث عن قانون وهو أن الذين كفروا يؤدون الصلاة في البيت ولكنها حرب على الصلاة ، وعداوة للنبوة والتنزيل ، لقد توارث الأنبياء الصلاة حسب ما أمرهم الله عز وجل , وتوارث أتباعهم هذه الصلاة ، ولكن الذين كفروا اتبعوا أهواءهم وسعوا في تحريف الصلاة ، ومنع الناس من الصلاة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فعجل الله للذين كفروا العذاب ، لبيان قانون وهو انتفاء الحاجة لغزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم للذين كفروا لأن العذاب الذي ينزل من الله عليهم أشد من الغزو ، وأمضى من السيف .
وهل آية البحث من العذاب الذي تذكره ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : ذم الآية للذين كفروا .
الثانية : بيان قانون وهو أن صلاة الذين كفروا في المسجد الحرام كيد ومكر وغواية .
الثالثة : الإخبار عن الملازمة بين الكفر وتحريف الصلاة وسنن العبادة .
الرابعة : تحذير المسلمين والناس جميعاً من الذين كفروا .
وهل من مقاصد الذين كفروا بصلاة المكاء إرادة إرتداد المسلمين عن دينهم , الجواب نعم ، لذا تفضل الله عز وجل وفضح قبيح فعل الذين كفروا ومقاصدهم الخبيثة ، ليكون من إعجاز القرآن اجتماع نهي الله للمسلمين عن الإرتداد مع إعانته ومدده لهم بعدم الإرتداد , ومن هذا المدد أمور :
الأول : تعدد وكثرة الآيات القرآنية التي تعصم المسلمين من الإرتداد .
الثاني : آيات إنذار ونهي المسلمين من الإرتداد منها قوله تعالى [وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا] ( ).
الثالث : إخبار آية البحث بمنع وصدّ الناس عن الصلاة الصحيحة بالكسل والتكاسل والتفريط بواجبات عمارة وولاية البيت الحرام .
الرابع : مجئ السنة النبوية مدداً للمسلمين في عصمة دينهم ، ومنها تعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في أوقاتها وبأدائها جماعة ليتقن المسلمون أفعال الصلاة ويتذوقوا حلاوة الفعل العبادي ، وليميز الناس بين الصلاة المفروضة وزيف فعل الكفار ، وفي التنزيل [قُلْ لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).

مفهوم الموافقة في الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان آية البحث لقانون وهو أن الله عز وجل لا يترك الذين كفروا يعيثون في الأرض فساداً ، إنما يعذبهم وينزل بهم البلاء بعد البلاء .
الثانية : دعوة الناس لترك الكفر ، وهجران مفاهيمه فهو لا يأتي إلا بالعذاب النازل من عند الله عز وجل ، ولا أحد يقدر على الصبر على هذا العذاب ، بينما يجلب الإيمان الغبطة والسكينة والرضا والبركة ، قال تعالى [تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ]( ).
الثالثة : من مصاديق الإعجاز الغيري لآية البحث بعث النفرة في النفوس من الكفر ، والإعراض والصدود عن الذين كفروا ، لقد صدّ الذين كفروا الناس عن المسجد الحرام فتفضل الله وجعل الناس يصدون عنهم لما ينزل بهم من البلاء الشديد والعذاب بسبب كفرهم وصدّهم وصدودهم ، قال تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وعن عمر بن عبد العزيز قال: كانت قريش في الجاهلية تحتفد ، وكان احتفادها أن أهل البيت منه كانوا إذا سافت يعني هلكت أموالهم خرجوا إلى براز من الأرض فضربوا على أنفسهم الأخبية ثم تناوبوا فيها حتى يموتوا من قبل أن يعلم بخلتهم.
حتى نشأ هاشم بن عبد مناف ، فلما نبل وعظم قدره في قومه قال : يا معشر قريش إن العز مع الكثرة ، وقد أصبحتم أكثر العرب أموالاً وأعزهم نفراً ، وإن هذا الإِحتفاد قد أتى على كثير منكم ، وقد رأيت رأياً . قالوا : رأيك راشد فمرنا نأتمر .
قال : رأيت أن أخلط فقراءكم بأغنيائكم فأعمد إلى رجل غني فأضم إليه فقيراً عياله بعدد عياله ، فيكون يوازره في الرحلتين رحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن .
فما كان في مال الغني من فضل عاش الفقير وعياله في ظله ، وكان ذلك قطعاً للاحتفاد قالوا : نعم ، ما رأيت فألف بين الناس .
فلما كان من أمر الفيل وأصحابه ما كان وأنزل الله ما أنزل وكان ذلك مفتاح النبوة وأول عز قريش حتى أهابهم الناس كلهم وقالوا أهل الله والله معهم ، وكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك العام .
فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم كان فيما أنزل الله عليه يعرف قومه وما صنع إليهم وما نصرهم من الفيل وأهله { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل}( )، إلى آخر السورة ثم قال : ولم فعلت ذلك يا محمد بقومك وهم يومئذ أهل عبادة أوثان فقال لهم : { لإِيلاف قريش } إلى آخر السورة أي لتراحمهم وتواصلهم ، وكانوا على شرك ، وكان الذي آمنهم منه من الخوف خوف الفيل وأصحابه واطعامهم إياهم من الجوع من جوع الاحتفاد)( ).
وهو من الشواهد على أن توارث قريش للتجارة مع الشام واليمن ومن مصاديق قوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
الرابعة : دلالة تعذيب الله للذين كفروا على بغض الله عز وجل لهم ، وإذا أبغض الله أحداً فان الملائكة تبغضه وتدعو عليه ، ومن الآيات أن الملائكة نزلوا إلى ميدان معركة بدر وأحد والخندق وحنين لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وهل هذا النزول من مصاديق قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ]( )، الجواب نعم ، وهو من أشد ضروب العذاب لعجز المشركين عن دفعه ، قال تعالى في خطاب إلى الملائكة يوم بدر [فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ).
وهل تعذيب الملائكة هذا خاص بأفراد جيش الذين كفروا في الميدان أم يشمل الذين من ورائهم وعوائلهم إلا الذين آمنوا منهم ، الجواب هو الأول.
فان قلت قد يقتل الكافر في ميدان المعركة فيحزن ابنه المسلم ، وهذا صحيح إنما يكون حزنه لأن أباه مات على الكفر ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل بغير حق .
فلما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقاء قتلى المشركين يوم بدر في القليب وهو البئر المعطلة ، وسحب عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة إلى القليب كان أبو حذيفة بن عتبة بجوار النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه تغير وجهه قال: يا أبا حذيفة، كأنه ساءك ما صنعنا بعتبة؟ قال: يا رسول الله ما بي ألا أكون مؤمناً بالله ورسوله، ولكن لم يكن في القوم أحد يشبه عتبة في عقله وفي شرفه، فكنت أرجو أن يهديه الله إلى الإسلام، فلما رأيت مصرعه ساءني ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيراً)( ).
الخامسة : إنذار الذين كفروا بنزول العذاب بهم إن حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسم وصدّوا المسلمين وعامة الناس عن المسجد الحرام ، وقاموا بالإستهزاء بالتنزيل والإفتراء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لاَ يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ]( ).
لقد طلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من سادات ووجهاء قريش التخلية بينه وبين العرب في تبليغ الرسالة ، ليتركوا لكل إنسان التدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإختيار الإيمان أو البقاء على الكفر ، ويحتمل هذا الطلب النبوي وجوهاً :
الأول : إنه فرصة ودعوة نبوية لنجاة الذين كفروا من العذاب الذي تذكره آية البحث .
الثاني : إنه مناسبة لتخفيف هذا العذاب .
الثالث : ليس من صلة بين هذا الطلب النبوي وبين نزول العذاب الذي تذكره آية البحث ، لذكرها لعلته وسببه وهو صدّهم عن المسجد الحرام .
والمختار هو الثاني ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، لتكون السنة النبوية أعم من كونها تفسيراً للقرآن ، وتقييداً للإطلاق ، وبياناً للإجمال فيه ، إنما تأتي السنة لوجوه :
الأول : زيادة النعم على الناس بدعاء النبي ، وهداية الناس لسبل الرشاد وشيوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الثاني : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للذين كفروا بما يخفف عنهم العذاب ويصرف عنهم البلاء .
الثالث : زيادة إيمان المسلمين .
الرابع : تنزه المسلمين من النفاق ، وتوبة طائفة من المنافقين ، وتخلصهم من إخفاء الكفر والشقاق .
الخامس : ترغيب الناس بالإسلام ، وبعث النفرة في نفوسهم من الكفر والضلالة ، وفي التنزيل [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ]( ).
السادس : السنة النبوية مقدمة لنزول آيات من القرآن وتوطئة لها.
السابع : في السنة النبوية حجة على الذين كفروا تسبق نزول آيات القرآن التي تنذرهم وتتوعدهم , وهو نوع مقدمة وتحذير وإنذار من نزول البلاء بالذين كفروا .
وهل هذا الإنذار من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( )، أم أن القدر المتيقن من الإنذار في الآية أعلاه نزول الآيات التي تتضمن الإنذار في منطوقها أو مفهومها.
الجواب هو الأول ، فذات السنة النبوية من مصاديق الآية أعلاه سواء كانت السنة القولية أو الفعلية أو التقريرية أو التدوينية أو الدفاعية ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
السادسة : بيان الآية لقانون وهو إصرار الذين كفروا على فعل القبائح ، وعلى الصدّ عن المسجد الحرام ، وهل يختص هذا الصد بما بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه سابق في زمانه لها ، الجواب هو الثاني من وجوه :
الأول : ذات الكفر والتلبس به صدّ عن المسجد الحرام .
الثاني : مجاورة الذين كفروا للمسجد الحرام مع بقائهم على الشرك والضلالة صدّ عن المسجد الحرام .
الثالث : نصب الأوثان في المسجد الحرام صدّ عنه ، فان قلت إذا كان عدد من الأصنام التي في البيت الحرام تعود في ملكيتها وعائديتها إلى القبائل من خارج مكة ، فهل هو من صدّ كفار قريش عن المسجد الحرام ، الجواب نعم ، لأنهم استولوا على ولايته ، وتدبير شؤونه فيجب ان يمنعوا الناس من نصب الأوثان في البيت ولا يؤدي هذا المنع إلى الفتنة والخصومة بل أن ترك مثل الأصنام في البيت سبب لنزول العذاب بالكفار.
وهل كان هذا نصب الأصنام في البيت من أسباب بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والحاجة إليها ، الجواب نعم ، فقد جعل الله عز وجل البيت [مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( ).
ولم ينحصر ضرر نصب الأصنام في البيت بذات النصب إنما تتفرع عنه أضرار كثيرة في عالم الأقوال والأفعال ، وهو من مصاديق الفساد وتفشي القتل في موضوع إحتجاج الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
ومن مصاديق احتجاج ورد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإزاحة الأصنام عن المسجد الحرام الى يوم القيامة ، وتوثيق القرآن والسنة لهذه الإزاحة بذكر فتح مكة ، وإقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الصلاة في البيت ، واتخاذهم له قبلة يتوجهون إليه مستقبلين خمس مرات في اليوم.
ومن بديع تقسيم الصلاة على الأوقات الخمسة في اليوم والليلة حلول أوان الصلاة في الأرض في كل دقيقة من آنات الزمان في كل بقعة من بقاع الأرض ووجود جماعة من المسلمين يصلون الفريضة في كل ساعة ، وقد يؤدي قوم من المشرق صلاة الظهر , ويؤدي آخرون في ذات الوقت صلاة المغرب أو العشاء .
لتكون الصلة بين المسلمين والبيت متصلة ومتعددة في أفراد وآنات الزمان المتعاقبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )، بأن يتعاهد المسلمون الصلة مع البيت من قريب ومن بعيد ، فان القريب عنه يقوم بعمارة البيت الحرام بالذكر والطواف والعبادة ، مع حرص المتقين على ولايته ، وتعاهدهم لأموره .
وهل استقبال المسلمين المسجد الحرام في صلاتهم من ولايتهم للبيت أم أن القدر المتيقن من هذه الولاية هو الإشراف على شؤون المسجد الحرام اليومية من داخل وحول المسجد الحرام ، والمراد من الولاية لغة القرب والدنو من ولي الشئ وولي عليه ولاية والولاية بمعنى النصرة والتولي قال تعالى[مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ]( ) .
والولاية في الإصطلاح التدبير والقدرة وتولي الأمر ومنه اسم الوالي في شؤون السلطنة , وفي التنزيل[اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( )، والولاية على المسجد الحرام سلطة لإنشاء التصرف وإبرام العقود ، وعمارة المسجد .
السابعة : تبين آية البحث قانوناً وهو تفضل الله عز وجل بحفظ ولاية المسجد الحرام ، وعدم تركها بيد الذين كفروا ، الذين استحوذ عليهم الشيطان ، وصحيح أن الآية جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلى أنها بيان وحكم قائم الى يوم القيامة ، وخطاب متوجه الى المسلمين والناس جميعاً بأن ولاية المسجد الحرام بيد المتقين ، وأن الذين يتولون الإشراف على شؤون المسجد الحرام لابد ان يتحلوا بالتقوى والخشية من الله عز وجل ابتداءً واستدامة ، وأن يحرصوا على جعل التقوى تركة وإرثاً لأبنائهم والذين يرثون من خلفهم ولاية المسجد الحرام .
وفي فتح مكة أعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفتاح الكعبة الى بني شيبة , وعن ابن عباس في دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسجد الحرام يوم الفتح أنه ( يشير بالقضيب إلى الصنم فيقع لوجهه، فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعاً على راحلته يستلم الركن الأسود بمحجنه في كل طوافٍ، فلما فرغ من سبعة نزل عن راحلته، وجاء معمر بن عبد الله بن نضلة فأخرج راحلته؛ ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقام، وهو يومئذٍ لاصقٌ بالكعبة، والدرع عليه والمغفر، وعمامته بين كتفيه، فصلى ركعتين ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها، وقال: لولا أن يغلب بنو عبد المطلب لنزعت منها دلواً.
فنزع له العباس بن عبد المطلب دلواً فشرب منه. ويقال: الذي نزع الدلو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. وأمر بهبل فكسر وهو واقفٌ عليه. فقال الزبير بن العوام لأبي سفيان بن حرب: يا أبا سفيان، قد كسر هبل! أما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور، حين تزعم أنه قد أنعم! فقال أبو سفيان: دع هذا عنك يا ابن العوام، فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كانقالوا: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ناحيةً من المسجد والناس حوله، ثم أرسل بلالاً إلى عثمان فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تأتي بمفتاح الكعبة. قال عثمان: نعم. فخرج عثمان إلى أمه وهي بنت شيبة، ورجع بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال نعم، ثم جلس بلال مع الناس. فقال عثمان لأمه، والمفتاح يومئذٍ عندها: يا أمه، أعطني المفتاح فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل وأمرني أن آتي به إليه.
فقالت أمه: أعيذك بالله أن تكون الذي تذهب مأثرة قومه على يديه. قال: فوالله لتدفعنه إلي أو ليأتينك غيري فيأخذه منك. فأدخلته في حجزتها وقالت: أي رجل يدخل يده ها هنا؟ فبينا هم على ذلك وهو يكلمها إذ سمعت صوت أبي بكر وعمر في الدار، ومر رافع صوته حين رأى إبطاء عثمان: يا عثمان، اخرج إلي! فقالت أمه: يا بني، خذ المفتاح فأن تأخذه أنت أحب إلي من أن يأخذه تيمٌ وعدي. قال: فأخذه عثمان فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فناوله إياه، فلما ناوله بسط العباس بن عبد المطلب يده فقال: يا نبي الله، بأبي أنت اجمع لنا الحجابة والسقاية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيكم ما ترزءون فيه، ولا أعطيكم ما ترزءون منه)( ).
ودفع النبي صلى الله عليه وآله ولم مفتاح الكعبة إلى عثمان بن أبي طلحة ، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه حينما كانا في مكة قبل الهجرة ، دعا عثمان بن طلحة هذا الى الإسلام فأبى عليه وأجاب بجفاء وغلظة ، قال عثمان (فقلت يا محمد العجب لك حيث تطمع إن اتبعك وقد خالفت دين قومك وجئت بدين محدث وكنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس فأقبل يوما يريد ان يدخل الكعبة مع الناس فغلظت عليه ونلت منه وحلم عني .
ثم قال النبي : يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت .
فقلت : لقد هلكت قريش وذلت , فقال بل عمرت يومئذ وعزت ودخل الكعبة فوقعت كلمته مني موقعا ظننت ان الامر سيصير إلى ما قال فأردت الاسلام فإذا قومي يزبرونني زبراشديدا .
فلما كان يوم فتح مكة قال لي يا عثمان ائت بالمفتاح فأتيته به فأخذه مني ثم دفعه إلي وقال خذها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم فلما وليت ناداني فرجعت إليه فقال ألم يكن الذي قلت لك فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت فقلت بلى أشهد انك رسول الله)( ).
فهل يدل هذا الخبر على الملازمة بين مفتاح الكعبة والولاية الجواب لا ، فالولاية أعم وأعظم .
ومن خصائص آية البحث أنها تمنع إتخاذ الذين كفروا ولاية للمسجد الحرام سبباً لحشد الناس لقتال النبي وأصحابه وتدعو المسلمين لاتخاذ ولايتهم للبيت وسيلة للصلاح , وتثبيت سنن التقوى في الأرض ، ولتكون هذه الولاية دعوة للتدبر في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسبل الهداية والرشاد ، وسبباً لنشر شآبيب الإيمان في الأرض ، وفيه شاهد على حب الله عز وجل للمسلمين ، واختيارهم لولاية بيته الحرام ، وهذه الولاية من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وهل هذه الولاية طريق الى الإقامة في الجنة والجواب نعم ، سواء بذات الولاية ، أو بالأعمال التي تترشح منها وخدمة وفد الحاج والمعتمرين ، وإزاحة الذين كفروا عن ولاية المسجد الحرام وعن السلطان الروحي على الناس بالباطل.
الثامنة : من مفاهيم آية البحث الإنذار للذين كفروا من الظلم والجور ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، وهي مناسبة لقيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبيان قانون وهو الملازمة بين الكفر ونزول العذاب الشديد .
ومن عظيم قدرة الله عز وجل عجز الخلائق عن صرف هذا العذاب عن الفرد والجماعة من المشركين وليس من سبيل إلى صرفه أو رفعه إلا بالتوبة والإنابة ، ولو نزل العذاب والبلاء بأحد الكفار ثم تاب الى الله ، فهل يخفف عليه الله عز وجل الأذى ويدفع عنه هذا العذاب , الجواب نعم ، وهو أمر سهل ويسير على الله عز وجل ، نعم حالما يتوب الإنسان يزول هذا العذاب ، ليبدأ جني الحسنات والأجر والثواب ، قال تعالى[إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ]( ).
التاسعة : لقد ذكرت آية البحث ولاية المتقين للمسجد الحرام لبيان بداية عهد جديد ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتولي المتقين للشؤون العامة ، وموضوعية التقوى في صلاح المجتمعات ، وإقامة الشعائر ، إذ أن ولايتهم نزلت في آية البحث على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
وفيه إشارة وتيسير للفتح وإزاحة الأصنام عن البيت ، وقد نزل قوله تعالى [فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ]( )، للبشارة يتحقق فتح مكة ، وزوال النصب والأزلام والأصنام ، واستيلاء الذين كفروا على شؤون البيت الحرام ، ليتفرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون للعبادة ، وتثبيت أحكام العبادات ، وبيان الحلال والحرام والتقيد بها والإجتهاد في طلب أفضل القربات وفي دعاء الإمام علي بن الحسين عليه السلام : اللهم وأنطقني بالهدى ، وألهمنى التقوى ، ووفقني للتي هي أزكى ، واستعملني بما هو أرضى ، اللهم اسلك بي الطريقة المثلى ، واجعلني على ملتك أموت وأحيى( ).
العاشرة : الشهادة من الله عز وجل للمتقين بالصلاح والأهلية لتولية المسجد الحرام ، وفيه تزكية للمؤمنين ، وحث للمسلمين على الإجتهاد في طاعة الله عز وجل ، والإرتقاء في مراتب التقوى.
الحادية عشرة : إذا كان العذاب ينزل على الذين كفروا لأنهم يصدون الناس عن المسجد الحرام , فمن باب الأولوية القطعية نزوله على الذين يحاربون الأنبياء .
وبين الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام الأولى ، وبين الكفار الذين استحوذوا على ولاية المسجد الحرام عموم وخصوص مطلق ، ويحتمل العذاب الذي ينزل بالذين كفروا وجوهاً:
الأول : نسبة التساوي بين العذاب .
الثاني : العذاب الذي يأتي للكفار بمحاربتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشد وأمر من العذاب الذي ترتب على ولايتهم للمسجد الحرام.
الثالث : العذاب الذي يصيب الكفار بمحاربتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخف من عذاب الصدّ عن المسجد الحرام .
الرابع : بيان قانون وهو التفصيل في علة وسنخية العذاب ، وبين العذابين عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء هو العذاب على الكفر والجحود ، ومادة الإفتراق مجئ عذاب خاص بالصد عن المسجد الحرام ، وعذاب آخر يتعلق بالحرب على الله ورسوله .
الخامس : النسبة بين العذابين العموم والخصوص المطلق ، فيضاف العذاب على محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعذاب الذي يترتب على الصدّ عن المسجد الحرام .
السادس : بقاء مرتبة ذات عذاب الكفر على الصد عن المسجد الحرام عند محاربة الكفار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من الإستدراج لهم ، قال تعالى[نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ]( ).
السابع : محاربة الكفار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه قوله تعالى [وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( ).
والمختار هو الثاني والخامس أعلاه لبيان نكتة وهي أن الذين كفروا يدخلون المعركة وهم يعذبون ، وهذا التعذيب سابق ومقارن للمعركة ومتأخر عنها ليكون سبباً لضعفهم وأصابتهم بالوهن ، لذا تراهم سرعان ما ينهزمون أو ينسحبون من ميدان المعركة في الساعات الأولى لبدئها لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسباب التخفيف عن الذين صدقوا رسالته ونصروه ، وحرصوا للدفاع تحت لوائه بأن يكون عدوه في حال عذاب وتعذيب .
وهل يكون هذا العذاب برزخاً دون التدبر بالآيات والهداية والإيمان الجواب لا ، إنما جاءت آية البحث بعث النفرة في نفوس الكفار والناس جميعاً من الكفر ، ومن الإستيلاء على حق المؤمنين في أداء الوظائف العبادية من غير خوف أو خشية إلا من عند الله عز وجل .
الثانية عشرة : أختتمت الآية بقوله تعالى [وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] لبيان أمور :
الأول : اقتران الكفر بالجهالة .
الثاني : ترشح الكفر عن الجهالة .
الثالث : تفرع الجهالة عن الكفر ، وهل يلزم الدور بينهما ، الجواب لا ، للتباين الجهتي ، وتعدد مصاديق الكفر والجهالة .
لذا فمن إعجاز القرآن والشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعث أول آية نزلت من القرآن الناس على طلب العلم والتحصيل بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ).
وتبدأ قراءة القرآن بانها باسم الله لبيان لزوم النفع من العلم والتعلم للذات من الغير ، ولدار الدنيا وإدخاره الحسنات لعالم الآخرة وأهوال يوم القيامة .
عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري فنوديت فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئاً ، ونظرت عن شمالي فلم أرَ شيئاً ، ونظرت خلفي فلم أرَ شيئاً ، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه رعباً ، فرجعت فقلت دثروني فدثروني ، فنزلت[يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ]( )، إلى قوله[وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ] ( ).
ولو كان مشركوا قريش من الذين يعلمون ويتدبرون الأمور لأدركوا التضاد بين الكفر وولاية المسجد الحرام ، ولبادروا إلى التوبة ودخول الإسلام .
ولم تقل الآية أن أولياء المسجد الحرام هم المسلمون أو المتقون من قريش ، إنما تضمنت الآية شمول المتقين جميعاً بالحق بولاية المسجد الحرام ، وهل يحتمل أن يكون عموم الولاية هذا سبباً في وقوع الخلاف بين المسلمين على تولية المسجد الحرام خاصة مع ازدياد أعدادهم ، وتفرقهم إلى مذاهب .
الجواب لا ، لإرادة المعنى الأعم من الولاية وتشمل وجوهاً :
الأول : نصرة البيت الحرام .
الثاني : العناية بالبيت الحرام .
الثالث : حفظ البيت الحرام .
الرابع : الذب عن البيت الحرام .
الخامس : تنزيه البيت الحرام .
السادس : عمارة البيت الحرام بأداء الحج والعمرة وإقامة الصلاة فيه والطواف حوله.
الثالثة عشرة : بيان قانون هو أن الإيمان شرط تولية المسجد الحرام ، وهل يشمل هذا القانون المساجد كافة أم أنه خاص بالمسجد الحرام ، الجواب هو الأول ، وفيه حث على تعاهد المساجد ، وحفظها وسلامتها ، وعدم صدّ الناس عنها ، إذ أنها منار للإيمان ، وتذكير بذكر الله ، ومكان مبارك للذكر واقامة الصلاة ، قال تعالى [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا]( ).
لتشمل الآية أعلاه المسجد الحرام فهو لله وكذا كل المساجد .
وآية البحث مدنية ، ونزلت بخصوص المسجد الحرام الذي هو في مكة ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( )، وكان عدد المساجد بعدد الأصابع وأهمها المسجد النبوي ، ولا يعلم ما يصير إليه عددها في مشارق ومغارب الأرض إلا الله عز وجل، فجاءت آية البحث لتؤسس لتولية تلك المساجد.
وهل يمكن القول بأن ولاية المسجد الحرام للمتقين أما المساجد الأخرى فتجزي فيها ولاية المؤمنين أو عامة المسلمين ، ويكون التقدير : أن أولياء المساجد إلا المسلمون .
الجواب لا دليل على هذا العموم ، والأصل إرادة الإطلاق والعموم في ولاية المساجد من قبل المتقين ، لتؤسس آية البحث لقانون في ولاية المساجد بما يفيد توارث تعاهدها ، والحفاظ عليها ، وأداء الصلوات الخمس فيها.
ويدل أختتام آية البحث بقوله تعالى [وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] بالدلالة التضمنية على عدم أهلية الذين كفروا لتولية المسجد الحرام ، والذي يستقبله المسلمون بوجوههم ومقاديم أبدانهم من كل حدب ، بالإضافة إلى حاجة أهل مكة لتولية المسجد الحرام بما يجلب الأمن وأسباب الرزق الكريم لأهلها .
فلا تختص منافع ولاية المتقين للمسجد الحرام بذات وعمارة المسجد إنما تشمل أداء المسلمين العبادات ، وحياة أهل مكة وما حولها ، وهو من مصاديق تسميتها أم القرى كما في قوله تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ).
ولا ينحصر المعنى في الآية أعلاه بالقرى الصغيرة ، إنما يشمل المدن مثل الطائف .
وهل من ملازمة بين البركة التي تترشح عن البيت الحرام وولاية المتقين له ، الجواب نعم ، لذا فمن خصائص آية البحث أنها تتعاهد هذه البركة ، ونؤسس لمصاديق لها ، وتمنع من حجب الذين كفروا بوجوه منها.
وهناك منافاة بين تولية الكافر وبين البركة فاراد الله عز وجل استدامة إفاضات البيت على المسلمين والناس جميعا ، وإزاحة الموانع التي تحول دونها إذ أبتلي الكفار الذين يصدون عن المسجد الحرام بالعذاب ، كما يدل عليه أول آية البحث بقوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( )، لمنع السلطان والأسباب التي تجعلهم يصدون الناس عن المسجد الحرام .
ولو تولى مسلم شؤون المسجد الحرام وصدّ الناس عن المسجد الحرام فيحتمل بلحاظ آية البحث وجوهاً :
الأول : لا يعذب الله هذا المسلم لاختصاص العذاب بالكفار ، وإرادة المعنى الأعم من الصدّ عن المسجد الحرام من محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة قتله وأصحابه.
الثاني : إقتران العذاب بالصد عن المسجد الحرام ، فالذي يمنع الناس عن حج البيت الحرام وأداء المناسك ، والصلاة في المسجد ينزل به ذات العذاب ، وإن كانت توليته للمسجد بصفة الإنتساب إلى الإسلام .
الثالث : الترتيب والتفصيل ، فيأتي العذاب للمسلم الذي يصد الناس عن المسجد الحرام ، من منازل التولية ، ولكن هذا العذاب أقل مرتبة ووطأة من العذاب الذي يأتي للذين كفروا وهم يستحوذون على ولاية المسجد الحرام .
وقد أختتمت آية البحث بالإخبار عن كون الذين كفروا لا يعلمون ، بينما رزق الله المؤمنين العلم والتفقه في الدين .
والمختار هو الثالث أعلاه , كما أن تولية الذي يصد الناس عن المسجد الحرام على فرض وقوعه لا تستديم إلا لأيام حتى يزاح بفضل الله .
فمن معاني آية البحث التحذير من الصدّ والمنع عن البيت الحرام ولو حصرت طائفة من المسلمين زيادة وحج البيت الحرام بأفرادها فهل هو من الصد عن البيت الحرام , الجواب نعم ، ليكون من معاني قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( )، أمور :
الأول : الهداية الى تيسير مقدمات الحج والعمرة لكل الناس إلا ما خرج بالدليل والذي ورد في قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ]( ).
الثاني : دعوة المسلمين للتعاون والتآزر في عمارة المسجد الحرام ، وإعانة المتولين عليه.
الثالث : التحذير والإنذار من منع أي طائفة من المسلمين عن أداء الحج والعمرة , وعدم المنع هذا من خصال التقوى التي يتصف بها ولاة المسجد الحرام .
فآية البحث تحذير وإنذار يتعلق بأمور :
الأول : البيت الحرام .
الثاني : تولية البيت الحرام .
الثالث : لزوم تعاهد سنن التقوى ، قال تعالى في خطاب للمسلمين [وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( ).
ترى لماذا قيدت آية البحث عدم العلم بالأكثرية من الذين كفروا ، فلم تقل الآية (ولكنهم لا يعلمون) الجواب من جهات :
الأولى : إرادة تعدد موضوعات العلم ، وجهالة الذين كفروا .
الثانية : من إعجاز آية البحث الإخبار والبشارة عن توبة طائفة من الذين كفروا وهذه التوبة متصلة ومتجددة ، ففي كل يوم يدخل أفراد من الذين كفروا الإسلام .
الثالثة : من الكفار من يعلم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنه يسوّف التوبة ، ويبقى مقيماً في مستنقع الكفر , قال تعالى [وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( )، فجاءت خاتمة آية البحث لإقامة الحجة عليه .
وهو من أسرار انهزام المشركين في ذات اليوم الذي تبدأ به المعركة كما في معركة بدر وأحد ، ومن مصاديق قانون (لم يغز النبي(ص) أحداً) أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يتخذ من مسألة ميل طائفة من جيش المشركين للإسلام ووجود عدد من المسلمين في ذات جيش المشركين أخرجوا كرهاً سبباً ليبدأ القتال أو في تحريض المسلمين الذين في جيش المشركين على إشاعة القتل في صفوف المشركين من خلفهم ، إنما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم متقيدأ بعدم الإبتداء بالقتال , وهل هذا القانون خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه شامل للأنبياء السابقين، الجواب هو الثاني .
الرابعة : ترغيب المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودعوة الناس للإيمان ، وبيان قانون وهو أن الصدّ والمنع عن المسجد الحرام وعن العبادات سبب لجلب العذاب والبلاء .
الخامسة : دعوة كل إنسان للتدبر في أضرار الكفر ، وكيف أنه يجلب العذاب ، قال تعالى [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه ورودها بصيغة العموم بلفظ الإنسان ، وإرادة الجنس من الألف واللام فيها ، ونزل القرآن ليتفقه الناس في الأحوال العامة والخاصة ، ويتبين للإنسان ما يجب عليه إتيانه ، وما يلزمه إجتنابه ، وفيه دعوة لكل إنسان لإصلاح نفسه ، وإجتناب الصدود عن الحق والهدى ، والإمتناع عن صدّ الناس عن سبل الهداية.
إذ يدل قوله تعالى [وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( )، على وجوه:
الأول : منع الناس من دخول الإسلام ، ومنه منع الكافر أفراد عائلته عن الإسلام ، فخاطب الله عز وجل أبناء وبنات المشركين بقوله تعالى[وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا]( ).
الثاني : تكذيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته ، فهذا التكذيب من الصد عن المسجد الحرام وعمارته .
الثالث : نصب الذين كفروا الأصنام في المسجد الحرام.
الرابع: قيام كفار قريش الذين يقومون بالولاية على المسجد الحرام بمنع المسلمين من زيارته ومن الطواف حوله ومن أداء مناسك الحج والعمرة ، وقد حملوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه على الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة.
الخامس : قيام الذين كفروا بمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع كراهته للقتال ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
السادس : تجهيز الذين كفروا الجيوش للهجوم على المدينة وجعل قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم غاية من غايات هجومهم الخبيثة ، وكل غاية منها صدّ عن المسجد الحرام.
وعندما جاء رسول أبي سفيان وهو ضمضم بن عمرو الغفاري يستصرخ قريشاً لإنقاذ قافلته من تعرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لها هبّت قريش للنفير .
وقال ابن الأثير : وكان أبو سفيان قد سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم، يريده، فحذر واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة يستنفر قريشاً ويخبرهم الخبر، فخرج ضمضم إلى مكة ( ).
أي أن مسألة إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه التعرض لقافلة أبي سفيان سماع أبي سفيان لخبر بهذا الخصوص ، وهذا الخبر يحتمل وجوهاً :
الأول : الصدق والصحة.
الثاني : الكذب والإفتراء .
الثالث : المبالغة والتهويل وخوف وفرق أبي سفيان ورجال قافلته.
والمختار هو الثاني والثالث أعلاه ، وهل هو من عمومات قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، أم أن الآية أعلاه خاصة بميادين القتال .
المختار هو الثاني ، لأصالة الإطلاق التي تتجلى في آية البحث ، وعدم تقييد إلقاء الخوف في قلوب الذين كفروا بالقتال إنما هو بسبب الشرك وعبادة الأوثان.
أعلنت قريش النفير عندما وصلهم ضمضم بن عمرو ، وخرجوا في ثلاثة ليال إلى معركة بدر ، فلقوا الخسارة والإنكسار والهزيمة فيها ، وهو الذي يدل عليه مفهوم قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، ولم يتعظوا واستعدوا لمعركة أحد بأن جمعوا أفراد القبائل وقيل أن أبا سفيان استأجر ألفي رجل للمعركة ، وهو أمر راجح بلحاظ أن عددهم عندما خرجوا إلى معركة بدر كانوا نحو ألف رجل وأغلبهم من أهل مكة , أما عدد أفراد جيش المشركين في أحد فكان ثلاثة آلاف رجل أي بزيادة ألفي رجل .
وبين معركة بدر وأحد ثلاثة عشر شهراً ، فزاد جيش المشركين فيها ثلاثة أضعاف ، مع زيادة بنسبة أكثر بخصوص سلاح ورواحل ومؤن الذين كفروا .
وهل كان من أسباب تأخر تجهز المشركين لمعركة أحد والصدّ عن المسجد الحرام ومنع الأبناء وعامة الناس من دخول الإسلام خاصة بعد تجلي معجزات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، الجواب نعم ، وهو من كيد ودهاء رجالات قريش ، قال تعالى[وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ]( ).
وهل هاجر إلى المدينة المنورة وآمنت طائفة من أهلها في هذه المدة ، الجواب نعم ، ولا ملازمة بين دخولهم الإسلام ، وبين خروجهم للدفاع في معركة أحد.
وقد كان عدد المسلمين في تلك المعركة نحو سبعمائة رجل بعد إنسحاب ثلث الجيش مع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، ولم يكن ممن حضر تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كان مستأجراً ، إنما حضروا بقصد القربة والطاعة لله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ] لبيان التباين والتضاد بين سنخية جيش المسلمين ، وجيش المشركين .
وقد ابتدأت آية البحث بذكر عذاب الذين كفروا لأنهم يصدون عن المسجد الحرام ، فهل يشمل هذا العذاب الأتباع الذي هم من خارج مكة ، وحضروا المعركة استئجاراً أم أن القدر المتيقن من الآية هم رؤساء الكفر من قريش الذين يتولون شؤون المسجد الحرام .
المختار هو الأول لاتحاد سنخية الكفر والظلم عندهم ، وأن هؤلاء الأتباع الذين استأجرهم أبو سفيان وأصحابه يأتيهم العذاب أيضاً لأن خروجهم مع جيش المشركين لوجوه :
الأول : الأتباع لسواد المشركين .
الثاني : هذا الإتباع صدّ عن المسجد الحرام .
الثالث : إنه إعانة على الإثم والعدوان ، قال تعالى [وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا]( ) .
لبيان إتصاف أهل النار بالجدال والخصومة فيما بينهم بما يدل على الحسرة والندامة التي تتغشاهم ، فجاءت الآيات أعلاه لنجاتهم من هذه الخصومة والحسرة باجتناب الكفر والضلالة ومحاربة النبوة والتنزيل ، وهؤلاء الأتباع ممن ذكرتهم خاتمة الآية بقوله تعالى [وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ولو كانوا يعلمون بسوء عاقبة رؤساء الكفر، والضلالة والضرر في اتباعهم لقاتلوهم وخربوا عليهم بيوتهم.
فجاءت آية البحث للنهي عن إعانة الذين كفروا ، وهذا النهي ، والعمل بمضمونه , وإمتناع أكثر الناس عن اتباع الذين كفروا من مصاديق العذاب الذي ذكرته آية البحث .
وهل العذاب الذي تذكره آية البحث ذو سنخية مخصوصة أم ليس له سنخية وصفة لا يعلمها إلا الله ، الجواب هو الأول ، فهناك نوع عذاب خاص ، وآخر عام ، ومن معاني تذكير آية البحث بعذاب الذين كفروا بيان منزلة البيت الحرام عند الله عز وجل وتوصي المسلمين بالعناية به.
ومن معاني قوله تعالى [إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ]( )، أنه خطاب لأهل مكة على نحو التهكم , فلما أرادوا النفير الى معركة بدر تعلقوا (بأستار الكعبة وقالوا : اللّهمّ انصرنا على الحزبين وأهدى القبتين وأكرم الجندين وأفضل الدينين فأنزل الله هذه الآية)( ) .
ليكون من عذابهم أم تعلقهم باستار الكعبة لم ينفعهم لأنهم ليسوا أولياءه وأن الكعبة تتبرأ منهم.
مفهوم المخالفة في الآية
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : بيان قانون وهو سلامة المسلمين من العذاب الذي تذكره آية البحث ، وكما قام النبي محمد صلى الله عليه وآله بانذار بني هاشم وهو في مكة قبل الهجرة عندما نزل قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، فانه قام أيضاً بانذار من أسلم وهاجر منهم وهو في المدينة ، وعن عبدالرحمن بن جبير بن نفير قال : أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا وهو قاعد في المسجد فقال : « اجمع لي بني هاشم في دار قال : فجمعهم ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل الدار ، فجلس منهم ، ثم قال : افتح لي باب الدار فقال : هل فيكم غريب من غيركم ؟ قالوا : لا ، إلا ابن أختنا ، وكان رجلا من الأشعريين .
فقال : ابن أختكم منكم ، يا بني هاشم ، إن الله بعثني إلى الخلق عامة ، وبعثني إليكم خاصة ، وأمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، فإياي لا تأتين أمتي يوم القيامة يقتسمون ملك الآخرة وتأتوني تحملون الدنيا على رقابكم تدلون بقرابتكم ، فإنما أوليائي من جميع أمتي المتقون ، وإن لكم دعوة مجابة ، فأقيموا فيها جميعا بينكم قال : فرفع يده ورفعوا أيديهم ، قال : فلما قضى رغبتهم جعل يسأل من يليه : بماذا دعوت ، ثم الذي يليه ثم الذي يليه ، وقد حضر ذلك أبو الدرداء فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا يده فأقبل حتى حضر معهم الرغبة ، فسأله يومئذ : بم دعوت به يا عويمر قال : قلت : اللهم أسألك جنات الفردوس نزلا وجنات عدن نفلا في معافاة منك ورحمة وخير عافية وعلم ينسأ .
فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده مرة أو مرتين يقول : ذهبت بها يا عويمر ( )، إذ أنه خاص بالذين يتصفون بأمرين :
الأول : التلبس بالكفر .
الثاني : الصد عن المسجد الحرام , قال تعالى[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
وفي الآية دعوة للناس للتوبة والإنابة ، والإقلاع عن الكفر والضلالة .
وتبين آية البحث أن الله عز وجل لا يرضى للناس الكفر، وليس من برزخ بين الإيمان والكفر .
وهل يمكن القول بقانون وهو : كل كافر يصد عن المسجد الحرام ، الجواب جاءت الآية بذكر الصد عن المسجد الحرام كفعل مخصوص مضاف إلى الكفر .
ليكون من معاني آية البحث بعث الفرقة والخلاف بين الذين كفروا ، ودعوة عامتهم للقعود عن قتال النبي ، والإمتناع عن صدّ الناس عن المسجد الحرام .
لقد أراد الله عز وجل للناس التدبر في أفعالهم وإجتناب الفعل الذي يجلب لهم الأذى والضرر في الدنيا والآخرة ، ونجاة المسلمين من العذاب الذي تذكره آية البحث من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
المسألة الثانية : إبتدأت آية البحث بصيغة الإستفهام الإنكاري ، فقد يقول بعضهم لم يعذب الله الذين كفروا في الدنيا ، وقد جعلها الله دار امتحان وإختبار وانقياد لتجيب الآية بأن هؤلاء الكفار يستحقون العقاب العاجل لأنهم لم يكتفوا بالتلبس بالكفر والضلالة إنما صاروا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات كل يوم ويمنعون الناس عن دخول الإسلام.
لقد جعل الله عز وجل المسجد الحرام على وجوه :
الأول : إنه سبب لهداية الناس .
الثاني : ترشح البركة من المسجد الحرام ، للقريب والبعيد وهو من أسرار استقبال المسلمين من المشرق والمغرب له خمس مرات في اليوم .
الثالث : الأمن والأمان في المسجد الحرام ، قال تعالى[وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا]( ).
الرابع : نزول الأمر من عند الله باتخاذ المسلمين المسجد الحرام قبلة ، قال تعالى [وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]( ).
الخامس : وجوب حج البيت الحرام على الناس جميعاً ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( )، ولم تخص الآية الوجوب بالمسلمين والمسلمات ، إنما تضمنت العموم الإستغراقي للناس ، من أيام أبينا آدم والحاضر أيام نزول الآية والذي نشأ بعدها , والذي لم يولد بعد مع قيد الإستطاعة والقدرة والزاد والراحلة .
ونصبُ المشركين الأصنام في المسجد الحرام من صدّهم للناس عنه ، ليكون الإثم في هذا النصب مركباً ومتعدداً ، وفيه إغراء للناس بالشرك ، فتفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة ورحمة عامة , وأنزل آية البحث :
الأول : إزاحة أسباب صدّ الناس عن المسجد الحرام ، ولا تختص هذه الإزاحة بأيام النبوة والصحابة ولكنها صارت نوع طريق لتنزيه المسجد الحرام من الأصنام الى يوم القيامة ، وهو من مصاديق كون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين فلا يحتاج المسجد الحرام بعثة نبي آخر ليرفع الأصنام عن البيت لأنها لا تعود إليه أبداً ، وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل ابتنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة ، فكان من دخلها فنظر إليها قال : ما أحسنها! إلا موضع اللبنة ، فأنا موضع اللبنة فختم بي الأنبياء ( ).
الثاني : بيان قانون رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً في اصلاح المسجد الحرام لهم ، ومنع الحواجز التي تحول دون عبادتهم لله عز وجل التي تتعلق بالبيت وهي على جهات :
الأولى : إتخاذ المسجد الحرام مصلى ومطافاً ومسجداً .
الثانية : حج البيت الحرام في أيام مخصوصة من السنة ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ]( ).
الثالثة : تثبيت المسجد الحرام وحجه ، وبيان أسماء ومواقيت الأشهر الحرم من بين أشهر السنة وهي أشهر ذي القعدة وذي الحجة ومحرم سرد متصلة ، وشهر رجب منفصل ويقع بين جمادي وشعبان .
والظلم في الأشهر الحرم أشد وأقبح من غيرها , وتقيد العرب بأحكامها بمنع القتال والقتل فيها وأسباب الثأر فيها ، فمن كان مطلوبا بدم مثلاً يصعب عليه الحضور للمسجد الحرام لأداء الحج لولا أحكام الأشهر الحرم وهو من أسرار جعل شهرين من أشهر الحج من الأشهر الحرم أيضاً وهما شهر ذي القعدة وذي الحجة .
فيستطيع الذي يخشى على نفسه من الطلب أن يتوجه الى الحج في شهر ذي القعدة ، ويتم أداء المناسك في اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة ، ويغادر مكة ويكون عنده متسع للوصول إلى مأمنه تمام شهر ذي الحجة وشهر محرم الحرام حتى وان كان يمشي على قدميه لقطع المسافة بين مكة وقريته ، كما أنه يتجاوز موضع الطلب , وفيه بيان لحاجة المسجد الحرام الى ولاية المؤمنين له ، وتعاهد أشهر السنة نفسها من غير تبديل ونسيئة فيها ، قال تعالى [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ]( ) .
وعن ابن عباس قال : أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال : أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات رجب مضر حرام ، إلا وإن النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا( ).
ولا يختص هذا الطلب بالقضية الشخصية وإرادة ذات القاتل مثلاً ، إنما يطلب ذوو المجني عليه أفراد قبيلته كلهم ، فلو لم يتقيد العرب بحرمة سفك الدماء في الأشهر الحرم لما حج الناس البيت الحرام ، ولتعطلت التجارات في الموسم لأن أسواق مكة وعكاظ ، وذي المجاز وذي المجنة تصبح خالية من الباعة والمشترين ومن البضائع ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
لقد أراد الله عز وجل لقريش المكاسب الوفيرة إذ يقصدها الناس من الأمصار والقرى البعيدة في الموسم ، وهل هذه الأسواق من مصاديق قوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( )، الجواب نعم لأنها سبب وموضوع للقوافل التجارية بين مكة والبلدان الأخرى.
الرابعة : توجه المسلمين والمسلمات إلى المسجد الحرام في الصلاة باتخاذه قبلة إذ يتوجهون له بمقاديم البدن من حين تكبيرة الإحرام إلى التسليم والخروج من الصلاة ، وهو نوع صلة بين المسجد الحرام وعموم بقاع الأرض ، لذا ورد الخبر بدحو الأرض من تحت الكعبة ، قال تعالى [وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا] ( ) أي بسطها وسواها وهيئها للسكن والزراعة .
وهناك من ملازمة بين الصلاة وبين ولاية المسجد الحرام ، فلابد أن يؤدي ولاة المسجد الحرام الصلاة جماعة وفراداً ، وقال تعالى في خطاب وأمر لإبراهيم واسماعيل [وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ).
وهل يتوجه هذا الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم ، ويكون تقديرها : يا أيها الرسول طهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) .
وفيه دعوة لفتح مكة ، وبشارة تنجز هذا بفضل من الله بلحاظ أن الفتح مقدمة ونوع طريق لتوالي المؤمنين للمسجد الحرام .
وهل يتوجه الخطاب في الآية أعلاه إلى المتقين الذين يتولون شؤون المسجد الحرام ، الجواب نعم ، للإلحاق وإتحاد الموضوع في تنقيح المناط ، وتقدير الآية: يا أيها المتقون طهروا بيتي للطائفين ..).
ولا يتوجه هذا الخطاب إلى الذين كفروا ممن كان يتولى شؤون المسجد الحرام لأنهم يفتقرون إلى الطهارة ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا] ( ) ولا تختص ولاية المسجد بذات المسجد إنما تشمل مناسك الحج وتهيئة مقدماتها ، والعناية بوفد الحاج وهي على وجوه في الترتيب :
الأول : الإحرام .
الثاني : الوقوف بعرفات .
الثالث : الوقوف بالمشعر الحرام ، قال تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ] ( ).
الرابع : رمي جمرة العقبة في منى.
الخامس : الهدي.
السادس : الحلق أو التقصير . و(عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : رحم الله المحلقين :قالوا : والمقصرين يا رسول الله ، قال : رحم الله المحلقين : قالوا : والمقصرين يا رسول الله ، قال : والمقصرين) ( ).
السابع : رمي الجمرات الثلاث ومنها جمرة العقبة.
الثامن : طواف الحج.
التاسع : صلاة الطواف ، قال تعالى [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى]( ).
العاشر : السعي.
الحادي عشر : الطواف الأخير ويسمى :
الأول : طواف الوداع .
الثاني : طواف النساء .
الثالث : طواف الصدر .
الرابع : طواف آخر العهد , وهو واجب عند الحنفية والإمامية والحنابلة ، والأظهر عند الشافعية ، وهو عند المالكية مستحب .
و(عن ابن عباس قال كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا ينفرن احد من الحاج حتى يكون آخر عهده بالبيت) ( ).
الثاني عشر : صلاة الطواف .
الثالث عشر : البيتوتة في منى.
المسألة الثالثة : تدل آية البحث في مفهومها على بعث السكينة في نفوس المسلمين بالأمن من العذاب الذي ينزل بالذين كفروا بسبب ظلمهم وتعديهم بالتلبس بذات الكفر واختياره ، وبصدهم عن المسجد الحرام ،وتدعو الآية المؤمنين إلى التصدي لولاية المسجد الحرام فقد يأخذ الورع والإحتياط ببعضهم إلى ترك وظائف ولاية المسجد الحرام خشية الوقوع بالمحرم والمحظور أو التقصير والتفريط .
فجاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية [إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ] ( ) لتدل على الأمر ووجوب قيام المؤمنين بوظائف ولاية المسجد الحرام في كل زمان وإلى يوم القيامة ، فقد فضلهم وشرّفهم الله عز وجل بخدمة وفد الحاج ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
المسألة الرابعة : إرادة تعليم المسلمين عدم الصدً عن المسجد الحرام ، وعدم صيرورة المذهب والطائفة والانتماء القبلي سببا للمنع من حج أو عمارة البيت الحرام ، وعدم المنع هذا من خصال المتقين ، وتحتمل الآية وجوها :
الأول : بيان حاجة المسجد الحرام إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : حاجة البعثة النبوية في تثبيتها ومقدمتها ونشر أحكام الشريعة للمسجد الحرام وولايته.
الثالث : حاجة كل من البعثة النبوية والمسجد الحرام للآخر ، وهو من مصاديق رحمة الله بوضع البيت الحرام للناس جميعاً بقوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( ) .
ليكون هذا الوضع مقدمة وعوناً للأنبياء في تبليغ رسالاتهم وسلامتهم من الجبابرة والقوم الظالمين .
الرابع : عدم حاجة أي من البعثة النبوية والمسجد الحرام لأحدهما.
والمختار هو الثالث أعلاه .
فجاءت آية البحث تعضيداً لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتثبيتاً لها في المجتمعات والأمصار ، وحرزاً للمسجد الحرام ، وبرزخاً دون بقاء الذين كفروا في مقامات ولاية المسجد الحرام .
المسألة الخامسة : لقد نسبت آية البحث تعذيب الذين كفروا إلى الله عز وجل بقوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ] ( ) .
وهل ينحصر هذا العذاب بما ينزل من عند الله على الذين كفروا في غير واسطة أم يشمل أنواع العذاب الذي يأتي من الله عز وجل وبالوسائط.
المختار هو الثاني .
ويكون العذاب الذي ينزل من عند الله ليحل بساحة الذين كفروا
على شعب :
الأولى : ما ينزل على عموم الذين كفروا .
الثانية : البلاء الذي يأتي للفرد الواحد من الذين كفروا .
الثالثة : ما يحل بالجماعة والطائفة من الذين كفروا .
الرابعة : العذاب الذي يأتي للذين كفروا في ميدان المعركة لإصرارهم على الهجوم والتعدي والغزو ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ] ( ) أي وما ظلمناهم بالعذاب الذي انزلناه بهم ، ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم بالكفر ومحاربة النبوة والتنزيل .
الخامسة : نزول آيات القرآن التي تتضمن توبيخ الذين كفروا تعذيب لهم ، وتقدير آية البحث ، وما لهم ألا يعذبهم الله بنزول آيات القرآن ،ويحتمل جهات :
الأولى : كل آية قرآنية تنزل من السماء هي عذاب للذين كفروا ، قال تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا] ( ).
الثانية : يختص تعذيب الذين كفروا بنزول الآيات التي تتضمن ذمهم وتوبيخهم .
الثالثة : موضوعية أسباب نزول الآية القرآنية في تعذيب الذين كفروا بها.
الرابعة : تلاوة المسلمين لآيات القرآن تعذيب للذين كفروا ، وهو من أسرار قراءة كل مسلم ومسلمة للقرآن في كل ركعة من الصلاة اليومية الواجبة .
وهل هذه التلاوة سبب لموضوع صدّ الذين كفروا الناس من المسجد الحرام ، الجواب هذا الصدّ موجود أصلاً قبل التلاوة للملازمة بينه وبين إتصاف أصحابه بالكفر والضلالة ، ولكن تلاوة المسلمين للقرآن زادت من حنق وظلم الذين كفروا ، وفي ذم الذين كفروا قال تعالى [وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ]( ).
الخامسة : عذاب الذين كفروا بأيديهم ، وسوء اختيارهم كما في إنفاقهم الأموال على الحرب ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتترتب عليه الحسرة والندامة في قلوب الذين كفروا ، وظهور النقص في أموالهم بما يصعب تداركه ، مع المشقة في قضاء الديون لتجار الشام وفارس.
وهل موضوع هذه الحسرة من مصاديق الخيبة في قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )، الجوب نعم ، ونزلت الآية أعلاه بخصوص معركة أحد ، وانقضائها ، إذ كان الذين كفروا يتلاومون في طريق العودة لتخلفهم عن تحقيق أي غاية من غاياتهم الخبيثة مع انفاقهم الأموال الطائلة ، وبذلهم الهدايا والرشاوى للقبائل الذين خرجوا معهم .
السادسة : عذاب الذين كفروا بأيدي المسلمين ، وتجلى في خطاب وأمر الله للمسلمين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، وإمتثال المسلمين لمضامين هذه الآية عذاب للذين كفروا ، الجواب نعم ، إذ أن صبر ومرابطة المسلمين في ميدان المعركة نوع قهر للذين كفروا ، وسبب لبعث اليأس والقنوط في نفوسهم .
السابعة : تلقي الذين كفروا العذاب بواسطة أبنائهم الذين يدخلون الإسلام ليتلى القرآن في بيوت الذين كفروا وتصدح جدرانها بترديد ذات آيات القرآن لتطرد الكفر عن تلك البيوت .
وكان الكفار يتخذون أصناماً صغيرة شخصية لهم ومنهم من يصنع صنماً من تمر ، ويجعله عند رأسه حين ينام يلتمس السلامة في الليل ، وعندما يستيقظ في الصباح يقوم بأكل الصنم ، فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لنقض عادات الشرك والضلالة ، وليحارب عبادة الأصنام في المسجد الحرام وفي البيوت والمنتديات ، وهل وضع المشركين الأصنام في بيوتهم من الصد عن المسجد الحرام أم أن القدر المتيقن من آية البحث بخصوص الأصنام هو تلك الأصنام التي نصبوها في المسجد الحرام ، وعددها ثلاثمائة وستون صنماً .
الجواب هو الأول إذ تشمل أسباب وموضوع الصدّ عن المسجد الحرام جميع الأصنام ، وهي على وجوه :
الأول : الأصنام التي نصبها الذين كفروا في البيت الحرام.
ولا ينحصر ظلم وصدّ الذين كفروا عن المسجد الحرام بخصوص الأصنام في نصبها إنما يشمل المحافظة عليها والعناية بها ، ومنع التعدي عليها ، إلى أن تفضل الله عز وجل بالفتح لتزول هذه الأصنام.
ومن معاني قوله تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، أي جعلنا لك برهاناً ساطعاً وحجة دامغة ، وقضاءً جلياً من غير قتال أو غزو ، فبينما كان المشركون يهجمون على المدينة على نحو متتابع كما حصل في معركة بدر ، ومعركة أحد ، ومعركة الخندق ، وما وقع بينها من هجمات للمشركين على المدينة وسرحها وأنعامها فقد تفضل الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة .
وهل فضل الله عز وجل هذا من مصاديق قوله تعالى [فَتْحًا مُبِينًا] الجواب نعم إذ صار المؤمنون في مأمن من شرور قريش , ودخل أهل مكة ورجال القبائل الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ) .
ليكون التسبيح والتهليل وانقطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الى العبادة من مصاديق الفتح المبين في الآية أعلاه.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح قيامه باسقاط الأصنام التي على البيت بيده الشريفة ، ليكون من معاني ودلالات هذه السنة الفعلية وجوه :
الأول : كسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأصنام جهاد في سبيل الله وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( )، وإذا كان هذا التكسير من جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضد الكفار , فهل هو من جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمنافقين الجواب نعم ، إذ أنه يأتي على ما يخفون من الكفر في قرارة أنفسهم ويجعلهم عاجزين عن الإضرار بالإسلام .
وقيل (إن الكفار والمنافقين قالوا : إن الناس يقتلون أنفسهم ظلماً لمرضاة محمد من غير فائدة)( )، فجاء فتح مكة من غير قتال حجة عليهم ، ودعوة للناس لعدم الإنصات لهم.
الثاني : بيان موضوعية فتح مكة وحاجة الناس إليه ، بكسر الأصنام التي في البيت من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : تجلي مصداق عملي لشكر النبي محمد لله عز وجل بأن يقوم بكسر الأصنام بيده .
الرابع : دعوة المسلمين والمسلمات لكسر الأصنام التي في بيوتهم , وفي الأماكن العامة وقد كان لكل قبيلة صنم كبير يعبدونه ويتخذونه واسطة تقربهم الى الله زلفى ، وهذه الدعوة من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
الخامس : بيان حاجة الناس إلى فتح مكة لمنع استدامة مفاهيم الشرك في البيت الحرام وغيره من بقاع الأرض لعمومات قوله تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ).
السادس : إنه من مصاديق منع استدامة صدّ الذين كفروا الناس عن المسجد الحرام ، قال تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وهل تكسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأصنام بيده من تعذيب الله للذين كفروا الذي تذكره الآية أعلاه ، الجواب نعم ، وكذا كل تكسير للأصنام يقوم به المسلمون والمسلمات.
السابع : الإعلان عن نهاية عصر الجاهلية في الجزيرة ، وجاءت هذه النهاية ببعثة النبي صلى الله وآله وسلم ورسالته لعامة الناس.
الثامن : بيان قانون وهو أن فتح مكة عيد للمسلمين ولأهل الأرض ، وقد تم في اليوم العشرين من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة ، وقيل أنه يوافق العاشر من شهر كانون الثاني سنة 630م.
التاسع : عودة الأمور في البيت الحرام إلى ذات أيام إبراهيم عندما رفع هو واسماعيل قواعد البيت ودعا الناس إلى حج البيت ، بقوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
وتتضمن الآية أعلاه الزجر عن إتخاذ الأصنام في البيت الحرام ، إنما يأتيه الناس للحج والطواف والزيارة.
العاشر : ندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام ليصعد على كتفه ، لتكسير الأصنام ، لبيان قانون وهو تعاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لسنن التوحيد بالبيت الحرام.
الحادي عشر : شوق النبي صلى الله عليه وآله وسلم للبيت الحرام ورؤيته خالياً من الأصنام والأوثان في إشراقة إيمانية على الأرض تبقى مستديمة الى يوم القيامة , ليكون من معاني تسمية القرآن للمسجد الحرام بيت الله ، ففي خطاب من الله عز وجل لإبراهيم [وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ) دلالة على حرمة نصب الأصنام فيه ، أو عيادتها والتقرب اليها .
كما ورد اسمه في الحديث النبوي ببيت الله و(عن أم هانئ بنت أبي طالب ، قالت : قلت : يا رسول الله ، كبرت سني ، ورق عظمي ، فدلني على عمل يدخلني الجنة ، فقال : بخ بخ ، لقد سألت تسبحين الله مائة ، فهو خير لك من مائة رقبة تعتقينها ، واحمدي الله مائة مرة ، فهو خير لك من مائة فرس مسرجة ملجمة ، تحملين عليها في سبيل الله ، وكبري الله مائة مرة فهي خير لك من مائة بدنة مقلدة مجللة تهدينها إلى بيت الله تعالى ، وقولي : لا إله إلا الله مائة مرة ، فهو خير لك مما أطبقت عليه السماء والأرض ، ولا يرفع لأحد يومئذ عمل أفضل مما يرفع لك ، إلا من قال مثل ما قلت ، أو زاد( ).
وعن ابن عباس : أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إن أختي جعلت عليها المشي إلى بيت الله ، قال : إن الله تعالى لا يصنع بشقاء أختك شيئا قل لها فلتحج راكبة ولتكفر يمينها( ).
وكان متعارفاً عند العرب قبل البعثة النبوية كما في حديث زيد بن عمرو بن نفيل عندما سأله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن علة بغض قريش له ، فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه كان يرى قريشاً على ضلالة في عبادتهم الأصنام ، وأنه خرج يطلب الدين الحق إلى أن قال : فقال لي : حبر من أحبار الشام : إنك لتسأل عن دين ما نعلم أحدا يعبد الله تعالى به إلا شيخا بالجزيرة .
فخرجت فقدمت عليه فأخبرته بالذي خرجت له ، فقال لي : إن كل من رأيت على ضلالة فمن أنت ؟ قلت : أنا من أهل بيت الله تعالى ومن الشوك والقرظ( ) ، قال : فإنه قد خرج في بلدك نبي أو هو خارج قد خرج نجمه فارجع فاقصده واتبعه وآمن به( ).
الثاني عشر : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل مكة رجالاً ونساءً لدخول الإسلام ، ونبذ مفاهيم الشرك .
وهل قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتكسير الأصنام قبل أن يلقي خطبته على أهل مكة أم أنه كسّرها بعد الخطبة ، الجواب هو الأول ، نعم وكان أهل مكة حاضرين عند البيت الحرام يوم الفتح ينظرون ماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فابتدأ بالصلاة في الكعبة وكسر الأصنام ، وكأن كسرها عنوان للفتح وشاهد عليه ، وباعث على الطمأنينة في نفوس المسلمين ، وهو سبب لنزع مفاهيم الكفر من أذهان الناس.
الثالث عشر : تعجيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكسر الأصنام شاهد على الظلم والتعدي الذي يتجلى بوجودها في البيت الحرام ، والضرر العام الذي يترشح عنها.
لقد كان نصب الأصنام في البيت الحرام وعبادتها من أسباب حرب قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحمله وأهل بيته وأصحابه إلى الهجرة على المدينة ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ]( ).
فتفضل الله عز وجل بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخروجه من مكة لقد أراد المشركون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة من غير أن يعينوا الجهة التي يذهب إليها ، لعلمهم بأن وجوده في أي بقعة من الأرض ليس له أثر مثل الذي يتجلى برهانه بوجوده في مكة لاتصاف مكة بأمور:
الأول : وجود البيت الحرام .
الثاني : الأمن والأمان في مكة مناسبة لدعوة الناس للإسلام .
ليكون من مصاديق دعوة إبراهيم دعوة إبراهيم عليه السلام كما ورد في التنزيل [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ]( )، وكذا فان إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن عليه في مكة سبب للأمن والرزق الكريم .
الثالث : مجئ وفد الحاج والمعتمرين إلى مكة ، وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة القرآن عليهم ، ودعوتهم للإسلام ، وحتى الذي لا يدعوه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه فانه يراه يؤدي الصلاة في المسجد الحرام كما أن أهل البيت والصحابة يبينون الوافدين إلى مكة معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدعونهم للإسلام.
فتفضل الله عز وجل بازاحة سبب هجرة المؤمنين من مكة ، ليكون كسر الأصنام يوم الفتح من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الرابع عشر : تثبيت إيمان المسلمين ، ونزع هيبة الأصنام التي في قلوب بعض الناس ، ليكون هذا النزع مقدمة لدخول عامة أهل مكة للإسلام .
الخامس عشر : صحيح أن فتح مكة نصر عظيم ، وسبب في دخول الناس الإسلام ، إلا أنه لم يقطع الكفر من الجزيرة في الحال ، إذ قامت هوازن وثقيف بالهجوم على جيش المسلمين عند خروج النبي وأصحابه من مكة بعد تحقق الفتح .
وكان عدد المسلمين يومئذ اثني عشر ألف رجل ، ولكن ثقيفاً وهوازن باغتوهم بالهجوم الشديد ، لتنهزم الكتائب الأولى من المسلمين لولا فضل الله عز وجل بنزول الملائكة لنصرة النبي وثباته في الميدان ، إذ قال مقالته المشهورة (أنا النبي لا كذب … أنا ابن عبد المطلب)( )، وهناك مسائل :
الأولى : هل من موضوعية لحب الكفار للأوثان في اصرار هوازن وثقيف على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين .
الثانية : هل في فتح مكة أذى وتعذيب لعامة الكفار , ومنهم كفار هوازن وثقيف .
الثالثة : هل خشي كفار هوازن وثقيف على أصنامهم من فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمكة .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم وقد كان عند هوازن صنم هو ذو الخلصة لخثعم وبجيلة ودوس من بطون هوازن , وعند ثقيف صنم اسمه اللات في الطائف .
وقد يقال أن هوازن وثقيفا بلغهم نبأ إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهجوم عليهم في الطائف فاستعدوا لهذا الهجوم بالمبادرة إلى مباغتة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم يسيرون إلى الطائف ، ولم يثبت هذا المعنى .
أما المسألة الثانية فالجواب نعم ، فقد ساء الذين كفروا هدم الأصنام وإزاحة سلطان الكفار عن البيت الحرام ، وكانت صلات إجتماعية ومالية بين كفار قريش وبين أهل الطائف ، إذ كانت قريش تسلفهم وتقرضهم ، وان كانت هذه القروض بالسلف والربا .
وجاء الإسلام ليحرم الربا ، قال تعالى [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه ورود لفظ [الربا] ثلاث مرات فيها من بين تسع مرات ورد فيها في القرآن لبيانها أمور :
الأول : القبح الذاتي للربا .
الثاني : حرمة الربا مع ذكر الآية لحلية البيع لبيان أن الإسلام يرغّب بالمكاسب والتجارة بين الناس ، ولكن بالسبل التي تنمي هذه المكاسب بالبيع والشراء وليس الربا .
الثالث : الإحتجاج على الذين كفروا ورد مغالطتهم بأن البيع مثل الربا .
الرابع : بيان سوء عاقبة آكلي الربا في عالم البرزخ ويوم القيامة ، وفي حديث الإسراء عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ثُمَّ نَظَرْتُ فإِذَا أنا بقَوْمٍ لَهُمْ بُطُونٌ كأَنَّها الُبُيوتُ وَهيَ على سابِلَة آل فِرْعَوْنَ، فإذَا مَرَّ بِهِمْ آلُ فِرْعَوْنَ ثارُوا، فَيمِيلُ بأحَدِهِمْ بَطْنُهُ فَيَقَعُ، فَيَتَوَطئُوهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ بأرْجُلِهِمْ، وَهُمْ يُعْرَضُونَ عَلى النارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا؛ قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاء يا جَبْرَئِيلُ؟ قال: هَؤُلاء أكَلَةُ الرّبا، رَبا فِي بُطُونِهِم، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ من المَسّ) ( ).
لبيان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إصلاح للمجتمعات وتنظيم للأسواق ، ومنع العادات والمعاملات التي تجلب للناس الضرر ، وتؤدي إلى تعطيل الأسواق كما في حال استفحال الربا ، وصيرورته سنة في التعامل .
لقد كان رجال من قريش من أرباب الربا يعرجون ويطوفون بين القرى والقبائل لأخذ الفوائد والربا ، فأدركوا أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرب عليهم في الأموال التي يجمعونها من الربا , وحجبها عنهم.
وأما المسألة الثالثة ، فالجواب نعم ، فقد أدرك عامة العرب الملازمة بين فتح مكة وانقطاع عبادة الأصنام في الجزيرة ، وأثر ونتيجة هذا الإدراك متباينة إذ تلقى المسلمون والذين يميلون إلى الإسلام هذه الملازمة بالرضا والقبول .
أما الذين كفروا فقد أصابهم الوجوم والغيظ والحنق وأقر أكثرهم بالعجز عن مواجهة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وتلقوا نبأ فتح مكة بالتسليم .
وهل منهم [َالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ]( )، المختار ليس كلهم ، ولكن بعض الذين كفروا أصروا على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كما في هوازن وثقيف جهزوا الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلحقهم الخزي العاجل وهو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
المسألة الرابعة : من مفاهيم المخالفة في آية البحث بيان قانون وهو ترشح العذاب عن الصد عن المسجد الحرام ، لبيان قانون وهو أن الصد عن المسجد الحرام لن يستمر ، إذ يأتي العذاب إلى الذين يصدون عن المسجد الحرام من وجوه :
الأول : إبتلاء الذين كفروا بالأمراض في أبدانهم .
الثاني : تعرض عدد من الذين كفروا للقتل والموت .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ]( )، ولا يختص القطع المذكور في آية البحث بمعركة أحد أو القتل وحده ، إنما يشمل موت بعض الكفار في فراشهم ، لقد أراد المشركون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه ليلة المبيت فخرج مهاجراً إلى مكة ليبتلي الله الكفار بعدها بالموت والقتل , عندما زحفوا لقتاله وغزو المدينة .
الثالث : كساد تجارة الذين كفروا ، وملاقاتهم المشقة في تصريف البضائع وفي قبض أثمانها لانشغال عامة الناس بالقتال والحرب ، وليتجلى للناس قانون مصاحبة إنتفاء البركة في الأموال المقرونة بعبادة الأوثان .
الرابع : من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، قيام طائفة من أهل مكة والقبائل بمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغير حق .
وهناك مسألة وهي هل أظهر أهل مكة عدم الرضا عن إيذاء قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرادتهم قتله ليلة الفراش ، واضطراره إلى الهجرة إلى المدينة .
الجواب نعم ، ومن مظاهره دخول جماعات من أهل مكة الإسلام ، وقيام شطر منهم باللحاق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى المدينة .
ومن الآيات في المقام عدم انحصار الهجرة بالرجال بل شملت النساء أيضاً , ومن النساء من هاجرت بمفردها لتقطع مسافة أربعمائة وخمسين كيلو متر في البراري وبين الجبال والوديان آنذاك وإن كانت هناك جادة عامة إذ هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكان أبوها وأخوتها على الكفر وممن يصدون عن المسجد الحرام .
وأراد أبوها عقبة قبل الهجرة قتل النبي محمد ، وهو يصلي في حج الكعبة إذ وضع عقبة ثوبه في عنق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخنقه به خنقاً شديداً كادت روح النبي أن تزهق لولا فضل الله عز وجل ، وقتل عقبة في معركة بدر .
وآمنت ابنته أم كلثوم وهي أخت عثمان بن عفان لأمه ، وخرجت مهاجرة بمفردها في تلك البراري في السنة السابعة للهجرة ، فقيّض الله لها مؤمناً من قبيلة خزاعة فأوصلها إلى المدينة بأمان ، ولما انتبه أخوتها إلى غيابها لحقها أخوها الوليد وعمارة إلى المدينة ودخلا المدينة بعد يوم واحد من وصولها إليها ، وطلبا من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوفاء بشرط تسليم من يأتيه من أهل مكة حسب عقد صلح الحديبية .
(فقالا : يا محمد أوف لنا بشرطنا ، فقالت : يا رسول الله حال النساء إلى الضعف ، كما قد علمت ، فتردني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبر لي ، فنقض الله العهد في النساء) ( ).
وفيها نزل قوله تعالى [وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
وتدل الآية أعلاه في مفهومها على دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى الصبر والمصابرة ، وعدم القتال بسبب ايذاء الذين كفروا للمؤمنات ، إنما يكفي الذب عنهن ، وعدم إعادتهن للكفار بعد اختبارهن .
(عن ابن عباس، قوله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ]( )، إلى قوله [ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ]، كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( فَامْتَحِنُوهُنَّ ) قال: سلوهنّ ما جاء بهنّ فإن كان جاء بهنّ غضب على أزواجهنّ، أو سخطة، أو غيره، ولم يؤمنّ، فارجعوهنّ إلى أزواجهنّ.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( فَامْتَحِنُوهُنَّ ) كانت محنتهنّ أن يستحلفن بالله ما أخرجكنّ النشوز، وما أخرجكنّ إلا حبّ الإسلام وأهله، وحِرْصٌ عليه، فإذا قلن ذلك قُبل ذلك منهنّ) ( ).
وهو شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتجنب أسباب إثارة الذين كفروا , ودفعه لمقدمات الحنق والقتال , ويمتنع عما فيه تحريض المسلمين على الرد بالسيف على المشركين بخصوص المسائل الشخصية , وهو من مصاديق قوله تعالى[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn