المقدمـــــــــــة
الحمد لله الذي لقّن العباد الحمد والثناء عليه سبحانه ، وجعلهم يلهجون بشكره طوعاً وانطباقاً وقهراً ، ليكون سبيلاً لإستدامة النعم ، وتوالي المنن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ) .
الحمد لله الذي يرّغب بالحمد ، ويدعو إليه , ويهيئ للناس مقدماته ويهديهم إلى مسالكه ، ويجعل نفوسهم تميل إليه ، ومن خصائص الحمد لله أنه باعث للسكينة , ودافع للكآبة وللفتن ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ]( ) .
الحمد لله الذي جعل القرآن ربيع القلوب ، وروضة للنفوس ، والصلة المستديمة الكريمة بين السماء والأرض ، وريحانة التنزيل ، والشاهد السماوي المتجدد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والرحمة المزجاة لأهل الأرض عامة ، ليس بينهم وبينه حجاب أو برزخ ، وانعدام الحاجب في المقام من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
لتكون كل كلمة وآية من القرآن مصداقاً مستقلاً من هذه الرحمة وفرداً مستقراً وارتباطياً متداخلاً مع غيره تترشح منه معاني الرحمة والفضل من عند الله بتلاوة آيات القرآن والعمل بمضامينها ، وهي مجتمعة ومتفرقة تدعو الناس إلى التدبر في الآيات الكونية وبعثهم على نبذ العنف , وتبغضّ إليهم الإرهاب والقتل العشوائي وسفك الدماء.
فمن خصائص التنزيل نشر شآبيب الرحمة بين الناس , والزجر عن الغزو والقتال ، وكانت السنة النبوية مرآة لهذا القانون الإلهي ، ودعوة للمسلمين والناس جميعاً للإقتداء بالسنة النبوية في دفع مقدمات القتال ، وصرف أسبابه.
وهل قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ) أمر خاص بالمسلمين أم أنه عام للناس جميعاً.
الجواب هو الثاني ، وفيه حجة على المشركين الذين كانوا يجهزون الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ]( ).
ومن السنة النبوية الفعلية الدفاعية عدم إبتداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القتال ، فاذا كان الطرف الآخر وهم المشركون لا يبدأون القتال أيضاً فلا تشهر السيوف ، ولا تقع حرب ولا تسيل دماء ، وتبقى المعجزة وحدها حاكمة في الميدان , وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ]( ).
ومن الإعجاز في المقام قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) لبيان أن النسبة بين اللقاء والقتال هي العموم والخصوص المطلق ، فقد يلتقي الجيشان ، ولكن لا يقع قتال ، وان كانت الآية أعلاه نزلت بخصوص معركة بدر ومعركة أحد ، وكل منهما جرى فيها قتال ، ولحقت يومئذ الهزيمة بالذين كفروا مع أنهم هم الذين زحفوا بالجيوش وأصروا على القتال في كل من المعركتين .
لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر وليس معه سيف مما يدل على أنه لا يريد القتال ولا يحث أو يرغّب أصحابه فيه ، كما ورد قوله تعالى [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ] ( ) بخصوص أوان معركة بدر ، أي أن المهاجرين والأنصار يتمنون أن تكون قافلة أبي سفيان لهم وأنهم يرغبون بالمنافع من غير قتال .
الحمد لله الذي جعل النبوة والتنزيل توأمان ونوراً متصلاً يبعث على الألفة والرحمة بين الناس ، وكل منهما يدعو الناس للهج بالحمد لله ، ومغادرة الدنيا على الحمد والثناء له سبحانه ، وفي التنزيل [وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، فصار الحمد دعاء ومسألة لبيان قانون وهو أن العبد ينقطع إلى الحمد والثناء على الله عز وجل فيقضي الله عز وجل حوائجه ، ويدفع عنه صروف البلاء والآفات.
ترى ما هي النسبة بين الحمد لله والتوكل عليه , المختار هو العموم والخصوص من وجه ، وأن الحمد لله طريق للتوكل على الله ، وثمرة منه.
الحمد لله الذي تفضل علينا بهذا الجزء وهو السابع والسبعون بعد المائة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) ومن فضل الله أن كثيراً من الناس يقرأ رقم الجزء السابق مثلاً على غلافه فيقول : الجزء الحادي والسبعون ..) ولا يلتفت إلى كلمة بعد المائة التي يتزين بها الغلاف للإنصراف الذهني إلى المتسالم عليه بأن أجزاء أي تفسير للقرآن في تأريخ الإسلام لا تتجاوز عشرين أو ثلاثين جزءً لآيات وسور القرآن كلها ، بينما لا زلنا في سورة آل عمران والحمد لله وهي السورة الثالثة في ترتيب القرآن بعد :
الأولى : سورة الفاتحة وجاء الجزء الأول من هذا السفر خاصاً بتفسيرها ، ولو سنحت لنا الفرصة لأصدرنا في كل آية منها جزءً مستقلاً لما فيها من الكنوز وذخائر العلم ، ووفق منهجية هذا التفسير في الأجزاء اللاحقة ، كما ورد الجزء السبعون بعد المائة في تفسير الآية (177) من سورة آل عمران ، وهو قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
الثانية : سورة البقرة : وجاء نحو خمسين جزءً من هذا السِفر في تفسيرها.
كما جاءت بعض أجزاء هذا التفسير في الصلة بين آية قرآنية وآية مجاورة لها كما في الجزء الخامس والعشرين بعد المائة الذي جاء خاصاً بالصلة بين الآية (152) والآية (151).
والجزء السادس والعشرين بعد المائة في صلة شطر من الآية 153 بشطر من الآية 151، والجزء التاسع والعشرين بعد المائة في الصلة بين شطر من الآية 153 وشطر من الآية 154 من سورة آل عمران ، ليتجلى مصداق لقانون وهو أن علوم القرآن من اللامتناهي.
ويختص هذا الجزء من التفسير بقانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) وهو العلم الذي يستقرأ من القرآن والسنة النبوية القولية والفعلية ، ويتجلى بالوقائع التأريخية لإشراقات أيام النبوة قبل وبعد الهجرة النبوية الشريفة ، وقد صدر بخصوص هذا القانون كل من الجزء(164-165-166-168-169-170-171-172-174-176) وهو فيض من العلوم التي تظهر سمات النبوة ومصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وتكشف هذه الأجزاء عن حقائق ظل خلافها ونقيضها هو السائد بذكر عدد غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وقالوا سبع وعشرون أو تسع وعشرون غزوة وهو أمر لا أصل لها ، إلا أن يراد المعنى المجازي والقصد هو خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه من المدينة ثم عودته إليها خاصة وأن المؤرخين يجمعون على القول بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يلق قتالاً في أكثرها وكلمة (لم يلق قتالاً) شاهد على أنه لم يبغ القتال ولم يسع إليه ، ولكن المشركين يصرون على يختارون القتال أحيانا ، فيذكر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يلق قتالاً عند عدم إصرارهم على القتال , وهو من الإنصاف والدقة التي عليها علماء السيرة , ومن الحجة في المقام أمور :
الأول : تسمية المفسرين والمؤرخين لمعركة بدر باسم غزوة بدر والتي وقعت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة , وكأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي غزا المشركين ، ولكن الحق أنه لم يغز المشركين في معركة بدر ، إنما هم الذين غزوه وأصروا على القتال ، وأرادوا قتله وأصحابه ، إذ زحف المشركون من مكة بحجة إنقاذ قافلة أبي سفيان من تعرض المسلمين لها ، وبعد أن خرج جيش المشركين من مكة ووصل الى الروحاء على مسافة ثمانين كيلو متر من مكة جاءهم رسول من أبي سفيان يخبرهم عن سلامة القافلة وأنها في طريقها إلى مكة فأشار عليهم بعضهم بالرجوع لإنتفاء موضوع وعلة الخروج والإستمرار في الزحف والتقدم ، خاصة وأن قريشاً أهل تجارة ومدر ، أي يسكنون المدينة ، إذ يقيمون في مكة ويدّعون ولايتهم للمسجد الحرام ويتولون شؤونه ، مما يلزم حضورهم في المسجد وحواليه ، وقد ذمهم الله عز وجل ونفى ولايتهم له ، وهل زحفهم إلى معركة بدر وإصرارهم على القتال ثم هزيمتهم فيها في تلك المعركة من مصاديق العذاب في قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ]( ) ( )، الجواب نعم ، وعندما التقى الجيشان في ماء بدر ، كانت مناسبة عدم القتال هي الأرجح والأنسب ، واليها يميل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون ، وشطر من جيش المشركين ، ولكن بعض رؤساء جيش المشركين أصرّ على القتال مثل أبي جهل بن هشام وأمية بن خلف .
الثاني : تسمى معركة أحد والتي وقعت في شهر شوال من السنة الثالثة غزوة أحد بمعنى أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي غزا المشركين فيها ، والحق بخلافه ، فمن الشواهد التأريخية الثابتة تعيين وحصر موقع وميدان المعركة وهو في سفح جبل أحد والذي لا يبعد عن المسجد النبوي إلا خمسة كيلو متر ، أي أن المشركين قطعوا نحو أربعمائة وخمسين كيلو متراً على الرواحل والخيل وسيراً على الأقدام في تلك البراري القاحلة والمرتفعات والوديان , ليصلوا الى جبل أحد , ويطلوا بخيلهم وخيلائهم على المدينة المنورة ، والمتبادر أنهم لا يرضون الا بالقتال وغزو واستباحة المدينة .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تهيئوا للخروج اليهم بعد صلاة الجمعة من اليوم الرابع عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة بعد وعظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين , وأمرهم بالتقوى والجد ووعدهم بالنصر إذا صبروا ، وطلب منهم التهيئ والتجهز لملاقاة كفار قريش الذين صاروا بالقرب من المدينة ثم صلى بالناس صلاة العصر ، ثم دخل بيته وتقلد سيفه ولبس لأمته ودرعه ، وألقى الترس على ظهره وتعمم وأخذ قناته بيده ، وخرج من بيته إيذاناً بالتوجه إلى لقاء العدو ، ليكون هذا الخروج نوع ضرورة دفاعية خاصة.
لقد كانت الأخبار تتوالى ولأشهر متعاقبة من مكة بأن قريشاً يستعدون لغزو المدينة ، ولم يعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النفير في أصحابه ، ولم يجعل المدينة في حال عسكرة وتدريب على السلاح وتقشف لشراء الأسلحة والخيول ، إنما كان الإستعداد لملاقاة المشركين بسلاح الصلاة وتعاهد أوقاتها وأدائها جماعة في المسجد النبوي .
وان قلت ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكر فيه الغزو (عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : مَن أعان مكاتباً في رقبته أو غازياً في عسرته أو مجاهداً في سبيله أظله الله سبحانه في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه) ( ) .
والجواب ذكر الغزو هنا من باب المشاكلة والمراد منه الدفاع والصبر في المرابطة ، كما في قوله تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ..] ( ) .
الثالث : تسمى معركة الخندق التي وقعت في شوال من السنة الخامسة للهجرة غزوة الخندق , وقال ابن خلدون : والصحيح أنها في الرابعة ويقويه ان ابن عمر يقول ردني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة ثم أجازني يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فليس بينهما الا سنة واحدة فهى قبل دومة الجندل بلا شك وكان سببها ان نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وسلام بن مشكم وحيى بن أخطب من بنى النضير وهود بن قيس وأبا عمارة من بني وائل .
لما انجلى بنو النضير إلى خيبر خرجوا إلى مكة يحزبون الاحزاب ويحرضون على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرغبون من اشرأب إلى ذلك بالمال فأجابهم أهل مكة إلى ذلك ثم مضوا إلى غطفان والمشهور والمختار أن معركة الخندق في السنة الخامسة للهجرة ، ولا دليل على خروج هؤلاء المذكورين أعلاه الى مكة لتحريض قريش على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
إنما كانت قريش تستعد لقتاله من الأيام الأولى لوصولهم منهزمين من معركة بدر حتى أنهم لم يوزعوا بضائع وتجارات قافلة أبي سفيان على أهلها إلى أن مشوا عليهم وطلبوا منهم جعلها في قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، فرضوا بالأمر ، نعم قام كعب بن الأشرف بالذهاب إلى مكة وصار يلقي الأشعار في مدح قريش وهجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي بيانه في هذا الجزء .
وخرج بهم عيينة بن حصن على أشجع وخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من كنانة وغيرهم ولما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بحفر الخندق حول المدينة من جهات التي يريدون إقتحامها .
وعمل فيه بيده والمسلمون معه وكان سلمان الفارسي هو الذي أشار به ثم أقبلت الأحزاب حتى نزلوا بظاهر المدينة بجانب أحد( )، غزوة الخندق( )، وغزوة الأحزاب( )( )، مع أن المشركين هم الذي زحفوا غازين واحاطوا بالمدينة ، ولم يكن عمل المسلمين في هذه المعركة إلا مصابرة ومرابطة لأكثر من عشرين يوماً ، مع رمي بالنبل من طرف المشركين وتقدم عمرو بن عبد للمبارزة وألح عليها فبارزه الإمام علي عليه السلام وقتله ونزل قوله تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
وقال ابن اسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه خمساً وعشرين غزوة ، وقيل سبعاً وعشرين ، والمختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج في كتائب ولم يكن خروجه غزواً ، وأن الذين يبعثهم من أصحابه هم السرايا.
ولا دليل على أن العلة التامة والسبب الخاص بمعركة الخندق هو تحريض نفر من اليهود لقريش لحرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن قريشاً هجمت في معركة بدر وأحد بمناجاة بينهم لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فأصل الإستصحاب ظاهر في المقام ، وكما أن قريشاً عزمت على الثأر بعد الخسارة في معركة بدر ، ونهوا ذوي قتلاهم من النياحة كي لا تضعف الهمم ، وامتنعوا عن توزيع تجارة قافلة أبي سفيان على أصحابها ليطوفوا عليهم ويسألوهم تسخيرها في معركة أحد من غير تحريض متعدد من اليهود ، فان جيش المشركين ندم على عدم استئصال المسلمين في معركة أحد وهم في الطريق إلى مكة وأرادوا أن يرجعوا ويستبيحوا المدينة لولا أن عصمها الله ، وهذا العزم على الرجوع بمحض إرادة كفار قريش ، وهو من المناجاة بالإثم والعدوان , قال تعالى[فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ) .
وحفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين ، وكانت كتيبة حمراء الأسد ونزل قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
وقد أبدلنا لفظ الغزوة الذي يطلق على خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع اصحابه من المدينة بالكتيبة ، وإن ذهب ابن خالويه إلى القول بأن السرية من خمسين إلى أربعمائة ، أما الكتيبة من أربعمائة إلى ألف من الجنود ( ).
وقال الصاحب بن عباد أنها (جَمَاعَةٌ من الخَيْل مُسْتَحِيْزَةٌ ، تَكَّتبوا: أي اجْتَمَعُوا.) ( ).
وقال الفيروز آبادي (والكَتيبَةُ: الجَيْشُ، أو الجَماعَةُ المُسْتَحيزَةُ مِنَ الخَيْلِ، أو جَمَاعَةُ الخَيْلِ إذا أغارَتْ مِنَ المِئَةِ إلى الْأَلْفِ) ( ).
الحمد لله الذي جعل الحمد زينة للسان يلهج به فيصير ضياءً يملا الآفاق فتراه الملائكة فيكون حجة متجددة في كل ساعة ومصداقاً لقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) عند احتجاج الله عز وجل على الملائكة حينما سألوا عن خلافة الإنسان في الأرض مع أنه يفسد فيها ويقوم بعض الناس بالقتل ظلماً وبغير حق ، ولا يعلم إلا الله ما يصيب أهل وذوي المقتول من الأذى والأسى والحزن على فقده ، وعلى زهوق روحه بغير حق ، وتمادي الظالم في غيه .
لقد أجاب الله عز وجل الملائكة بالقول [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وهل من علم الله عز وجل في المقام توبة المفسد ، وإظهاره الندامة ولجوئه للإستغفار ، واتعاظ الناس منه .
الجواب نعم ، لذا فقد رغّب الله بالتوبة وندب إليها لبيان قانون وهو أنه من فضل الله انقطاع الفساد على نحو القضية الشخصية بادراك الفرد القبح الذاتي للفساد ، والنوعية ببعثة الأنبياء بالدعوة إلى الصلاح , والتذكير باليوم الآخر ، وعالم الجزاء , قال تعالى[ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه]( ).
وهل مواظبة المؤمنين على الحمد لله والإنقطاع إلى شكره واقية من إشاعة القتل ، الجواب نعم ، وهو من أسرار خلافة الإنسان في الأرض ومصاديق الرحمة التي تترشح عن التلفظ بالحمد لله ، ليكون من معاني قوله تعالى [هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ] ( ) أن المؤمنين يحسنون إلى أنفسهم بالنطق بالحمد لله.
فيحسن الله عز وجل إليهم بالأجر والثواب ، وتهيئة مقدمات استدامة نطقهم بالحمد لله .
الحمد لله على كل حال ، وهو الذي يصرف البلاء ويبدله إلى رحمة بالحمد له سبحانه ، لذا تفضل وجعل كل ركعة من الصلاة تتضمن النطق بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) .
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وتخرج الأرض كنوزها ، ومن الآيات أن استخراج هذه الكنوز لا ينحصر بالنبات والزراعة وهطول الأمطار ، فمن الثروات المعدنية ما هو أكبر وأغلى من الزراعات ، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ] ( ).
الحمد لله الذي أنعم على الأجيال المتعاقبة بتوالي بعث الأنبياء ، قال تعالى [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] ( ) .
واتصف أول نبي في الأرض وهو آدم بخصال حميدة وهي :
الأولى : خلق آدم في الجنة .
الثانية : نفخ الله من روحه في آدم ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
الثالثة : كلام الله لآدم قبلاً من غير واسطة ملك .
الرابعة : عيش آدم في الجنة برهة من الزمن هو وحواء .
الخامسة : صلة آدم مع الملائكة في الجنة .
السادسة : آكل آدم من ثمار الجنة .
السابعة : تفضل الله بتحذير آدم من شر ووسوسة ابليس .
(عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله من كان أولهم؟ يعني الرسل قال : آدم قلت : يا رسول الله أنبي مرسل؟
قال : نعم . خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وسوّاه قبلاً .
وأخرج ابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي أمامة الباهلي : أن رجلاً قال : يا رسول الله أنبي كان آدم؟
قال : نعم . مكلم . قال : كم بينه وبين نوح؟ قال : عشرة قرون قال : كم بين نوح وبين ابراهيم؟
قال : عشرة قرون قال : يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً . قال : يا رسول الله كم كانت الرسل من ذلك؟ قال : ثلثمائة وخمسة عشر . جماً غفيراً) ( ).
لقد هجم مشركوا قريش في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة بألف من المقاتلين ، وعندما [الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) أصروا على القتال ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ يتطلع إلى إنصرافهم عن القتال لإنتفاء موضوعه والسبب له ، إذ كان سبب خروج مشركي قريش خشيتهم على قافلة أبي سفيان ومجئ رسوله إلى مكة يحث أهلها على منع تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لها .
وقبل أن يصل المشركون إلى بدر جاءهم رسول آخر من أبي سفيان يخبرهم بسلامة القافلة ، ويدعوهم إلى الرجوع إلى مكة ولكن رؤساء الجيش كأبي جهل بن هشام وأمية بن خلف أصروا على القتال ، فكانت هزيمتهم وخسارتهم ليفضحهم الله عز وجل إلى يوم القيامة ، ونزل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
ولم يتعظ كفار قريش من أحداث معركة بدر ، وكيف أنهم كانوا يعتقدون النصر فيها لرجحان كفتهم في العدد والعدة والسلاح ، وقدرتهم على فنون القتال فأصابهم الإنكسار في أول مبارزة فيها ، ولحقتهم الهزيمة في ذات يوم المعركة ، فأخذوا بعد عودتهم إلى مكة يعدون العدة للهجوم على المدينة ، وزحف ثلاثة آلاف منهم فكانت معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
ولو لم يخرج النبي وأصحابه لذات الموضع والذي يبعد خمسة كيلو متر عن المدينة لقاموا بغزوها والهجوم عليها , علما بأن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعم من أن يكون للدفاع والقتال .
وكان رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول يرى البقاء في المدينة, وقتال الغزاة المشركين في أزقتها ، ولكن طائفة من المسلمين ممن لم يحضروا معركة بدر أصروا على الخروج لهم فاستجاب لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذه الإستجابة شعبة من الوحي , ومن عمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) .
إن حضور ثلاثة آلاف من المشركين وأتباعهم للقتال في معركة أحد بعد هزيمتهم في معركة بدر دليل على ما عندهم من القوة والمنعة والمال ، والقدرة على تسخير القبائل معهم .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعد معركة بدر مرابطين على الصلاة ، مداومين على الذكر والتسبيح ، فكانت المرابطة بالتقوى ، واتخاذها واقية من غزو المشركين للمدينة ، وحالما انتهت معركة بدر صارت الأخبار تصل إلى المدينة بأن المشركين يعدون العدة للهجوم على المدينة ، ويريدون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعض الصحابة وأسر الآخرين ، وهذه الأخبار من وجوه :
الأول : مجئ عدد من المسلمين مهاجرين من مكة ، ويحملون أخبارها .
الثاني : دخول رجال القبائل إلى مكة لأداء الحج والعمرة إذ وقعت معركة بدر في شهر رمضان وهو التاسع من الشهور العربية وأعقبه شهر شوال وهو من أشهر الحج ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
ولا تستطيع قريش منع الناس من الحج والعمرة ولا إخفاء عسكرتهم للبلد , فتشيع أخبار استعدادهم للقتال , وكانوا يتفاخرون به , ويتوعدون المسلمين بالثأر لقتلاهم في معركة بدر .
الثالث : دخول التجار والذين يشترون الميرة إلى مكة ، وإطلاعهم على أحوال الناس فيها ومظاهر مقدمات الغزو , وكانت جعجعة السلاح بادية للعيان فيها.
الرابع : من خصائص المدن دخول الزوار والوافدين لها وزيارة ذوي القربى ، وخروج أهلها في السفر ، ليكون من عمومات قوله تعالى [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ]( ) ، إطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على مكر وكيد الذين كفروا.
وقد ترد أخبار وأحوال مكة إلى المدينة بالواسطة ، كما لو كان بعضهم يذهب إلى قرية قريبة من المدينة فينقل أخبار مكة ليوصلها غيره إلى أسماع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الخامس : توافد أهل أسرى معركة بدر إلى المدينة لفكاك أبنائهم ، ودفع العوض والبدل أو للإطمئنان عليهم .
السادس : خروج المسلمين من المدينة للتجارة والتبليغ , وتلقي الأخبار عن أحوال المشركين ، وكيف أن رجال قريش يطوفون على القبائل لتجنيدهم لقتال النبي ، ويبين قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا]( )، أن بعض الصحابة كان يخرج من المدينة للكسب والتجارة ومنهم دِحية الكلبي الذي وصل في جلبه التجارة الى المدينة أوان صلاة الجمعة كما في قوله تعالى[وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]( ).
السابع : تجاهر كفار قريش بالعزم على غزو المدينة حمية وثأراً ، وبعثهم رسائل التهديد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأهل المدينة قاطبة ، وكذا رسائل الترغيب الى إخوانهم من المهاجرين للعودة إلى مكة.
وقد يتبادر إلى الذهن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقابل هذا التهديد بالإستعداد العالي للقتال ، خاصة وأنه يعرف مكر ودهاء قريش ، وإصرارهم على طلب الثأر ، وتمسكهم بعبادة الأوثان ، وعدم استجابتهم لدعوته .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا يعملون بمضامين آية البحث بالتحلي بالصبر والمصابرة والمواظبة على العبادات ، والتحلي بالتقوى والخشية من الله عز وجل .
ولم يعلم المشركون أن كل أمر من الأوامر الأربعة التي جاءت بها آية البحث أمان لأهل المدينة وواقية للمسلمين من الهزيمة ، وسلاح لنجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
ولم يدرك المشركون أن كل آية من آيات القرآن حرز من غزوهم ، وسبب متقدم لصدّهم وخيبتهم ، وهي إنذار لهم ، قال تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه مجيؤها بصيغة المضارع [لِيَقْطَعَ] .
وكانت معركة أحد ونتائجها والخسارة الكبيرة التي أصابت المسلمين بسقوط سبعين شهيداً أي عُشر عدد جيش المسلمين يومئذ , وكثرة جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه استدراجاً للمشركين ، ولم يجمعوا بين نتائجها ونتائج معركة بدر ، وهي على وجوه :
الأول : نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر ، وعدم هزيمتهم في معركة أحد .
الثاني: خسارة وهزيمة المشركين في معركة بدر , ووقوع سبعين أسيراً منهم في أيدي المسلمين ، وحسن معاملة المسلمين لهم .
الثالث : لحوق الخزي بالمشركين في معركة بدر ، وعجزهم عن تحقيق أسباب الثأر في معركة أحد .
الرابع : عدم وقوع أسرى من المسلمين في أيدي المشركين سواء في معركة بدر أو معركة أحد، وهو من الشواهد على عدم هزيمة المسلمين في معركة أحد.
الخامس : إنقضاء كل من معركتي بدر وأحد في اليوم الذي بدأتا فيه ، مع أن المشركين هم الذين كانوا يبدأون القتال ، ويرغبون في استمراره .
السادس : إنفاق الذين كفروا الأموال الطائلة على الإستعداد لكل من معركة بدر وأحد ، وخصوصاً معركة أحد التي أنفقوا فيها جميع أموال قافلة أبي سفيان ، وكانت تتألف من ألف بعير محملة بالبضائع ومنها الذهب والفضة .
لتصاب تجارتهم بالضعف والنقص ، ويدرك التجار في الشام واليمن وغيرهما ممن يتعامل معهم رجالات قريش النقص في أموالهم وإبطائهم أو عجزهم عن تسديد الديون , وقلة القوافل التي تأتي من مكة ، ليبعث هذا الأمر على الإستفهام التقريري والإنكاري كعادة التجار في كل زمان في صيغ وسبل ضمان طريق وكيفية إسترداد أموالهم ، والطمأنينة بخصوص المعاملة وأطرافها .
فيأتيهم الجواب بقيام قريش بمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، وهو أمر يغيض للتجار لأنهم يريدون السلم المجتمعي والإستقرار كوعاء ومقدمة لإزدهار الأسواق واستدامة المكاسب ، وتحسين فرص العمل والبيع والشراء ، وهو من مصاديق النعمة العامة على الناس في قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ).
لقد أراد الله عز وجل لقريش استدامة النعم وكثرة التجارة بالتقوى وترك عبادة الأصنام والشرك بالله عز وجل ، لكنهم جحدوا واستكبروا فلحقتهم الهزيمة والخزي ، ولم يتعظوا من معركة بدر ونتائجها ، وما أصابهم فيها .
ترى هل لحقت قريش خسارة وخزي من قبل مثل خسارتهم في معركة بدر ، المختار لا ، لتأكيد قانون وهو لحوق الخسارة والخزي العاجل والمستديم بالذي يحارب النبوة والتنزيل , قال تعالى[مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ]( ).
السابع : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل من المعركتين من القتل , نعم رجع الى المدينة بجراحات عديدة في معركة أحد ، ومع هذا فقد استبشر أهل المدينة بعودته .
وعن سعد بن أبي وقاص قال : مرّ رسول الله صلى الله عليه وآله بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قالوا: خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظر إليه.
قال: فأشير لها إليه حتى إذا رأته ، قالت: كل مصيبة بعدك جلل( ).
لقد أراد الله عز وجل أن يتوالى نزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه النفع العام لأجيال الناس إلى يوم القيامة ، ليكون من الإعجاز في نزول القرآن على نحو التدريج والتوالي سلامة النبي محمد من القتل أو الحبس أو الأسر ، وهذه السلامة من مكر الله ولطفه والذي يذكره في قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الثامن : تجلي قانون في الجمع بين معركة بدر وأحد وهو عجز الذين كفروا عن غزو المدينة المنورة أو استباحتها، ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عصمة المدينة من غزو المشركين ، كما أن المسلمين في المدينة لم يخرجوا لغزو المشركين أو استباحة مدنهم ، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
لقد صار الأمن في المدينة سبباً لحفظ المسلمين لآيات القرآن وضبطهم لأفعال الصلاة ، وتحقيق وتوارث المسلمين للإمتثال لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي( ).
التاسع : صيرورة المسلمين في منعة ، وتزايد دخول الناس في الإسلام بعد معركة بدر وأحد ، وأيهما أكثر عدد الذين دخلوا الإسلام بعد معركة بدر ، أم الذين دخلوا الإسلام بعد معركة أحد.
الجواب هو الثاني ، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم :
أولاً : قانون زوال العوائق التي تحول دون دخول الناس الإسلام.
ثانياً : قانون إزالة أسباب صدّ الناس عن الإسلام .
ثالثاً : قانون إصابة أموال الذين كفروا بالنقص .
فيعجزون عن الإنفاق في الباطل والتحريض على الإسلام ، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ]( ).
رابعاً : قانون من مصاديق [تِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ) زيادة عدد المسلمين ونقص عدد المشركين في كل يوم .
العاشر : التباعد الزماني في القتال والمعارك بين المسلمين والمشركين ، فلم تمض سنتان على هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى وقعت معركة بدر ، وبعدها بثلاثة عشر شهراً جرت معركة أحد ، ثم بعدها بسنتين كانت غزوة المشركين للمدينة في معركة الأحزاب ، ثم أصاب القنوط الذين كفروا إلى أن تم صلح الحديبية ، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على أداء الصلاة جماعة في الحل والترحال في كل فرض من الفرائض اليومية الخمسة .
ومن خصائص القراءة في الصلاة أنها واقية دون تحريف القرآن ، أو التغيير في بعض مخارج الحروف خاصة عند كثرة دخول الأعاجم الإسلام بفضل من الله سبحانه.
ومن الآيات أنهم كانوا يجتهدون في التلفظ بكلمات القرآن بصورة صحيحة ، وكثير من علماء اللغة والنحو والقراءة من غير العرب ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، منهم بعض العلماء :
الأول : سيبويه ، وهو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر (765-796) م ولد في قرية البيضاء من بلاد فارس ثم رحل مع أسرته إلى البصرة فنشأ وتلقى تعليمه فيها ، وتوجه في البداية لتعلم الفقه والحديث ولكنه ألحن يوماً، فقال له حماد بن سلمة ألحنت يا أعجمي فكسر القلم باسنانه فأتقن قواعد العربية ، وقال : لا جرم لأطلبن علماً لا تلحنني فيه ابداً .
وقال أبو عثمان المازني : من أراد أن يعمل كتاباً كبيراً في النحو بعد سيبويه فليستحي ) ( ).
وعلى فرض صدور هذا القول من المازني فهو نوع إجحاف للعلم والعلماء لذا قال أبو المحاسن التنوفي ، ويروى أنه قال من أراد أن يعمل كتاباً …) وقوله ( يروى ) تضعيف للخبر .
وليس من حصر وتقييد لما تفضل الله عز وجل به على الناس ، قال سبحانه [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ) ومعنى سيبويه بالفارسية رائحة التفاح لحمرة وجنتيه ، وحضر سيبويه إلى الكوفة وألح على مناظرة الكسائي وعلماء الكوفة بمسائل في اللغة والنحو ، وكان الرجحان لهم ، خاصة مع الإستشهاد باحضار عدد من الأعراب والإستماع الى تلفظهم للكلام العربي.
فعاد إلى شيراز ومات فيها ولم يتجاوز سن الشباب , ونشكل على تسمية كتابه بالكتاب لأن هذا الاسم إذا ورد مطلقاً فالمراد منه القرآن ، نعم يصح القول : كتاب سيبويه .
والذي يتكون من جزئين ، يقع الجزء الأول في علوم النحو أما الجزء الثاني فيتناول الممنوع من الصرف ، والإضافة والمجاز والتصغير ونحوه.
الثاني : أبو علي الفارسي ، الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن سليمان (900-987) ميلادية ، صاحب كتاب إيضاح القواعد , ولد في بلدة فسا في إيران لأب فارسي وأم عربية ، ورحل إلى بغداد لطلب العلم ثم إلى حلب وعاد إلى فارس ليلازم ملك شيراز عضد الدولة ابن بويه .
الثالث : عثمان بن جني الموصلي اللغوي (941-1002) م صاحب كتاب الخصائص وكان أبوه جني عبداً رومياً مملوكاً .
وفي خبر عن حماد أنه كان يملي على طلابه وقال : صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصفا ، فقال حماد : يا فارسي لا تقل الصفاء ، لأن الصفا مقصور.
الرابع : أحمد بن فارس أبو الحسين الرازي القزويني (941-1004)أصله من قزوين وانتقل إلى همذان ، ثم إلى بلاد الري أي قريباً من طهران ، وتوفى فيها لذا يلقب بالرازي ، وله مؤلفات متعددة في اللغة والسيرة منها مقاييس اللغة ، والمجمل واتبع فيهما الأبجدية ، ومنها إعراب القرآن وتفسير أسماء النبي .
الخامس : الزمخشري محمد بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي (1074-1143) هجرية ويطلق عليه لقب جار الله الزمخشري لأنه سافر إلى مكة وأقام فيها شطراً من حياته ، إنما في مكة بيت الله ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( ) .
ولد في مدينة زمخشر بخوارزم (اوزبكستان حالياً ) وكانت فيها لغات متعددة منها العربية وهي لغة العلماء آنذاك ، وله مؤلفات منها أساس البلاغة ، وهو من قواميس اللغة وعلوم المجاز ، وتفسيره الكشاف الذي اشتهر به ، ويتضمن نكات في بلاغة القرآن ، وقد أثنى هو نفسه على تفسيره بقوله :
أن التفسير في الدنيا بلا عدد وليس فيها لعمري مثل كشافي
ان كنت تبغي الهدى فالزم قراءته فالجهل كالداء والكشاف كالشافي
وقد رد عليه العلامة السيد عبد الستار الحسني ببيتين من الشعر بخصوص هذا السِفر المبارك معالم الإيمان في تفسير القرآن , كما مبين في تقريضه المنشور في آخر هذا الجزء( ).
السادس : الجرجاني عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني (1009-1087) م ونشأ بمدينة جرجان في ايران .
وله كتاب (أسرار البلاغة) وكتاب (دلائل الإعجاز ) في بلاغة القرآن وما فيها من الإعجاز .
السابع : الفيروز آبادي محمد بن يعقوب بن محمد مجد الدين الشيرازي الفيروز آبادي (1329-1415م) ولد في بلدة كازرون من نواحي شيراز ، ولكنه اشتهر بلقب فيروز آبادي نسبة إلى البلدة التي كان يقطنها أبوه وجده.
فجماعة من الفرس حينما ينتقل إلى بلدة أو بلد آخر يبقى يحمل ذات اللقب الذي كانت عليه أسرته ويرث أبناؤه ذات اللقب ويعرفون به , ولو لعدة بطون ، وله نحو ستين كتاباً في علوم القرآن والحديث واللغة واشتهر كتابه (القاموس المحيط ).
كانت ولادته سنة 729 هجرية واتصف بكثرة السفر طلباً للعلم وأخذه من كبار العلماء في الفقه والقراءة واللغة فقد رحل إلى واسط ، وبغداد وأخذ عن قاضيها ومدرس المدرسة النظامية عبد الله بن بكتاش ، ثم رحل إلى دمشق والتقى السبكي ، وابن نباته وابن جماع وغيرهم ، ثم رحل إلى حماه وجلب وبعلبك ودخل القدس وأخذ عن علمائها ، ثم رحل إلى غزة ورملة ، ثم إلى القاهرة ، ودخل بلاد الروم ثم الهند واكرمه ملكها ، وعاد من الهند عن طريق اليمن يريد مكة وسمع بها من الضياء خليل المالكي ، ثم استقر في زبيد باليمن ، وأكرمه الملك الأشرف اسماعيل ، وصرف له ألف دينار ، وأمر ناظر عدن بتجهيزه بألف أخرى ، وولاه قضاء اليمن ، فبقى في اليمن العشرين سنة الأخيرة من عمره يزاول مهنة القضاء مع التأليف .
وزار خلالها مكة والمدينة عدة مرات وكان كثير الإنفاق ، ويحمل معه في سفره أحمال من الكتب يراجعها في سفره ، ويبيعها إذا أملق.
وهؤلاء العلماء ونحوهم ليسوا أعاجم إنما هم عرب بالإسلام ولغة القرآن ، والإنتماء الى البلاد العربية والإسلامية التي سكنوها ، وقدموا للإسلام والعربية أحسن الخدمات بقصد القربة الى الله ورجاء الثواب ، وفي التنزيل [وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ) .
كما كان هناك رواد من العلماء العرب في اللغة والبلاغة مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي (100-170هجرية) (718-786م) وهو صاحب كتاب العين وهو أول معجم عربي يؤلف في العربية ، ووضع علم العروض وهو أستاذ سيبويه ، ولد في عمان وانتقل الى البصرة وهو صغير، وتوفى في البصرة ، وعاش فقيراً صابراً وكان شعث الرأس ، ممزق الثياب متقطع القدمين بينما يكسب طلبته الأموال الكثيرة بعلمه .
ووجه اليه سليمان بن علي المهلبي والي الأهواز بدعوة لصحبته ولتأديب ولده وبعث له بمائة ألف درهم ، فرد المائة ألف مع الرسول ، وقدم له (خبزاً يابساً وقال: ما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان، فقال الرسول: فما أبلغه عنك؟ فقال:
أبلغ سليمان أني عنه في سعةٍ … وفي غنىً غير أني لست ذا مال
سخى بنفسي أني لا أرى أحداً … يموت هزلاً ولا يبقى على حال
والفقر في النفس لا في المال نعرفه … ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
فالرزق عن قدرٍ لا العجز ينقصه … ولا يزيدك فيه حول محتال)( ).
ولا أصل لما قاله ابن خلدون بأن العرب انشغلوا بالولاية والحكم ، وتركوا العلم والتحصيل حينئذ ، وهل يحتمل أن أبناء جنس وأمة مخصوصة من غير العرب يتعاونون فيما بينهم بتعضيد بعضهم بعضاً وإبراز ومدّ أصحابهم ، وترويج واستنساخ كتبهم ، والإشارة إليهم بالبنان , الجواب إنه أمر ممكن .
الحمد لله الذي أرسل الأنبياء بالبشارة والإنذار إذ يدل قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
وتدل الآية أعلاه على أن الأنبياء لم يبعثوا للهجوم والغزو إنما جاءوا بالحجة والبرهان ، ومن وجوه الإنذار في المقام الزجر عن الغزو وعن القتال ، وأن عاقبة التعدي على الأنبياء وأهل الإيمان هو الخيبة والخسران في الدنيا ، والحسرة والعذاب في الآخرة .
لقد بعث الله عز وجل الأنبياء وأولهم آدم عليه السلام أبو البشر الذي أقام في الجنة برهة من الزمن لتكون هذه الإقامة عهداً ووعداً من عند الله عز وجل للمؤمنين ، وترغيباً بالعمل الصالح ، بأنه طريق للبعث الدائم في الجنة.
الحمد لله الذي جعل النبي محمداً صلى الله عيه وآله وسلم خاتم الأنبياء وتفضل بذكر سنته وسيرته في القرآن الكتاب السماوي السالم من التحريف والزيادة والنقيصة إلى يوم القيامة ، وفي التنزيل [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] ( ) .
لتكون الآية القرآنية ، وأخبار السنة التي وردت عن طريق أهل البيت والصحابة ثروة علمية ، ومنهاجاً للصلاح والتقوى ، ودفاعاً عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين في كل زمان ، وهو من وجوه تفضيله صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء لصيرورة سنته حجة وشاهد صدق على حسن سمت جميع الأنبياء ، وتنزههم عن الظلم والتعدي والجور .
لقد قاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المشركين ، وكان قتاله دفاعاً وحاجة وضرورة لأنهم سعوا إلى قتله وهجموا بجيوشهم لإستباحة المدينة فقد هجم المشركون في شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة فكانت معركة بدر التي خسروا وانهزموا فيها ، نعم لم يكونوا يقصدون بهجومهم هذا غزو المدينة إذ كانت غايتهم ماء بدر والذي يبعد عن المدينة نحو مائة وخمسين كيلو متراً .
وما يدريك لعلهم لو وصلوا إليه ولم يجدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأستمروا بالهجوم حتى غزو المدينة و أنهم لو تمكنوا في المعركة لتناجوا بالهجوم عليها خاصة وأنهم لما جاءهم رسول أبي سفيان بعد خروجهم من مكة يخبرهم بسلامة ونجاة القافلة ، ويطلب منهم الرجوع لإنتفاء الموضوع بانتفاء سببه وعلته ، فانهم أبوا إلا الوصول إلى ماء بدر ، مع عودة بعض أفراد من الجيش يومئذ منهم جماعة من بني هاشم ، ومنهم بنو زهرة (قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا.
فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرا، وكان بدر موسما من مواسم العرب يعقد لهم فيه سوق كل عام، فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا، فامضوا.
وقال الاخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفى، وكان حليفا لبني زهرة، وهم بالجحفة : ( يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جبنها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة، لا ما يقول هذا.
فرجعوا فلم يشهدها زهري واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعا.
ولم يكن بقى بطن من قريش إلا وقد نفر منهم ناس إلا بني عدي، لم يخرج منهم
رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الاخنس، فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد) ( ).
وتقع الجحفة غرب مكة وتبعد عنها 183 كم ، وقد ذكر في سبب تسميتها أن قوماً من العمالقة فيها أصابهم السيل فاجحفهم ، والجحفة ميقات الشام ومصر والمغرب ومن يمر عليها في الأحرام منها لمن يحرم للحج ، وفي السنة الثالثة للهجرة جاءت قريش بجيوش لا قبل لأهل المدينة بها ، إذ زحفت بثلاثة آلاف رجل لا لشئ إلا لأن المهاجرين والأنصار [قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا] ( ).
ولما صار جيش المشركين على بعد خمسة كيلو متر من المدينة خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إليهم ، متوكلين على الله ، ليس لهم مدد من أهل الأرض ولا ظهير , وليس من بلدة أخرى ينسحبون إليها ، لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالمرابطة كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
وكانت المدينة المنورة المصر الوحيد الذي يرابط فيه وحوله المسلمون ، وكأن خروجهم إلى معركة أحد من المرابطة ، وكان عدد جيش المشركين أربعة أضعاف عدد جيش المسلمين ، وهم مصرون على القتال .
وقد حددوا غاياتهم الخبيثة كما يأتي في الجزء التالي أن شاء الله وهو السابع والسبعون بعد المائة ، ولكن الله عز وجل صرف كيدهم بمعجزة متعددة وحضور ملائكة من السماء مدداً وعوناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
ولم يرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على هجوم المشركين في معركة بدر ولا غزوهم في معركة أحد مع كثرة خسائر المسلمين ونعم خرج إلى حمراء الأسد مع نحو مائتين من أصحابه متعقباً لجيش المشركين في اليوم التالي لمعركة أحد عندما بلغه أن المشركين ندموا على إنسحابهم من معركة أحد من غير أن يحققوا أي غاية جاءوا من أجلها ، وأنهم يتناجون وهم في الطريق إلى مكة بالعدوة للإغارة على المدينة واستباحتهم خاصة مع علمهم بكثرة القتلى المسلمين إذ سقط منهم سبعون شهيداً مع كثرة الجراحات التي أصابت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
لقد كانت قريش مطمئنة لعدم رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بهجوم أو غزو مشابه إنما كان رده بالدعاء وتعاهد الصلاة اليومية ودعوة الناس للهدى والإيمان ، ولم يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باغتيال كبار رجالات قريش الذين غزو المدينة في معركة أحد بل بالعكس فان قائد جيشهم أبا سفيان جاء إلى المدينة , كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوف الفتح (ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)( ).
ويبين القرآن قانوناً وهو أن المسلمين حينما بلغهم نبأ مناجاة جيش المشركين بالعودة للقتال بعد معركة أحد بيوم إزدادوا إيماناً ، قال تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ) فمن عادة المتحاربين تلقي نبأ إرادة العدو الهجوم فانه يقابله بالتحدي بمثله خاصة وأن معركة أحد لم ينتصر بها المشركون إنما رجعوا خائبين بعد فقدهم اثنين وعشرين من رجالهم ، قال تعالى بخصوص نتائج هذه المعركة [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) .
لقد لاقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تهديد ووعيد جيش الذين كفروا بالصبر وحسن التوكل على الله عز وجل ، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن تهديد الذين كفروا ليس صورياً أو على نحو الآجل ، إنما كانوا قريبين من المدينة بأسلحتهم وخيلهم وغرورهم وزهوهم ، فقابلهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بسلاح التوكل على الله ، وفي التنزيل [وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً] ( ) وفيه شاهد على قانون وهو : لم يرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الغزو بمثله إنما يرده بالصبر وحسن التوكل على الله ، وفيه مناسبة لتجلى المعجزات وفرصة للناس للتدبر فيها ، فمع توالي المعجزات تكون النتيجة على وجوه :
الأول : دخول طائفة من الناس الإسلام ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً] ( ) وهل من ملازمة بين تحقق النصر من عند الله للمسلمين وبين دخول الناس في الإسلام على نحو الأفواج ، الجواب لا ، إنما هو فضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالجمع بين النصر ودخول الناس الإسلام قبائل وأفواجاً .
وأثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، فلا تدل الآية على عدم دخول الناس في الإسلام أفواجاً قبل فتح مكة ، إنما سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى فتح مكة بعشرة آلاف مسلم بينما خرج منها ، وليس معه إلا أحد أصحابه بحيطة وحذر من كفار قريش ، قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
ليعود إليها في عمرة القضاء في السنة السابعة ومعه ألفان من المهاجرين والأنصار ، ليطوفوا بالبيت الحرام وينادون مجتمعين ومتفرقين (لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ).
ويقومون بالرمل والهرولة في الاشواط الثلاثة الأولى .
عن (ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه صبيحة رابعة – يعني من ذي القعدة سنة سبع – فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد وهنهم حمى يثرب.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرملوا الاشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الاشواط كلها إلا الابقاء عليهم.) ( ).
والمراد من صبيحة رابعة أي صبيحة الليلة الرابعة من شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة ، وتسمى هذه العمرة أيضاً القصاص لأن المشركين صدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن العمرة في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، فاقتص منهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السنة السابعة ، ولكن ليس في المقام قصاص إذ أن القصاص يتقوم بأطراف :
الأول : الذي يقتص من الجاني .
الثاني : موضوع القصاص سواء في الجروح أو القتلى أو الأنفال .
الثالث : المقتص منه وهو المعتدي والجاني ، وليس من قصاص أو مقتص منه في عمرة القضاء وهي رحمة للناس جميعاً بما فيهم الذين كفروا ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) وفي سبب نزول قوله تعالى [وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ] ( ).
ورد عن ابن عباس أنه قال (نزلت هذه الآية في صلح الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما صد عن البيت ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه القابل ، فلما كان العام القابل تجهز وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا أن لا تفي قريش بذلك ، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم ، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام ، فأنزل الله ذلك) ( ).
ولا يدل موضوع الآية أعلاه وكذا حديث ابن عباس على تسمية عمرة القضاء بعمرة القصاص خاصة وأن الله عز وجل أخبر بأن المشركين ليسوا أولياء المسجد الحرام ، وأن الله يعذبهم ، قال تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
ويحتمل موضوع تعذيب الذين كفروا بلحاظ عمرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً :
الأول : تعذيب الذين كفروا بصلح الحديبية ويسمى (يوم الشجرة ) كما عن عكرمة ( ) لأنهم اضطروا إليه ، وأضروا يومئذ بدولة الإسلام في المدينة .
الثاني : رضا المشركين بمجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة في العام التالي لأداء العمرة عذاب للذين كفروا .
الثالث : موافقة كفار قريش على إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة لمدة ثلاث أيام ، وخرج أغلب المشركين إلى رؤوس الجبال كيلا يروا دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة وطوافهم بالبيت الحرام ، ومع هذا صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الأصنام التي في البيت ، إذ أنعم الله عز وجل عليهم بالفتح في العام التالي لتكسر وتزال عن المسجد الحرام إلى يوم القيامة .
وفي قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ] ( ) قال عكرمة والسدي أنه فتح مكة( ) .
ولكن موضوع الآية أعم وذكر انه يوم بدر .
(عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ كَانُوا يُرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِى أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِى الأَرْضِ وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرَ وَيَقُولُونَ إِذَا بَرَأَ الدَّبَرْ وَعَفَا الْوَبَرْ وَانْسَلَخَ صَفَرْ – أَوْ قَالَ دَخَلَ صَفَرْ – فَقَدْ حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ فَقَدِمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ الْحِلِّ قَالَ « الْحِلُّ كُلُّهُ ) ( ).
والمراد من (الْحِلُّ كُلُّهُ) أي جواز إتيان الأفعال كلها التي في الحل حتى الجماع بين التحلل من المتعة وبين الإحرام للحج .
إذ انظموا أن يجامعوا أزواجهم بين الإحلال من العمرة والإحرام للحج في مكة فأخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه عند الإحلال من عمرة التمتع يباح لهم ما كان مباحاً قبل الإحرام ، وحرم وحظر عند الإحرام للعمرة ، وتستمر هذه الإباحة إلى حين الإحرام للحج .
الرابع : توقف القتال والهجوم من قبل قريش بعد صلح الحديبية عذاب لهم ، فهم ملزمون بوقف العمليات القتالية والغزو والتهديد به .
الخامس : دخول الناس في الإسلام بعد صلح الحديبية من غير خوف من الذين كفروا ، فمن شروط صلح الحديبية أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعهده فليدخل فيه ) ( ).
وفي التنزيل [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
حرر في الخامس عشر من شهر محرم الحرام 1440
25/9/2018
قانون معجزات النبي محمد في الصبر
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار الصبر) فلابد أن يواجه الإنسان فيها ضروب الإبتلاء ويصبر عليها سواء كان مؤمناً أو كافراً ، براً أو فاجراً ، وحينما يقع الإنسان في محنة ومصيبة يغبط أو يحسد غيره لأنه لم يقع في مثلها ، ويستعرض في التصور الذهني بعضاً منهم وكيف أنهم لايهّمون بما يهّم به في ذات الساعة ، أو أنهم لم يصيبهم ما أصابه .
ولم يلتفت إلى نعمة وهي أن أكثر أيام حياته مرت عليه من غير مصيبة وبلاء وفيه مناسبة للدعاء وسؤال الله عز وجل الأمن والسلامة من الأذى والبلاء ، والصبر مدرسة الأخلاق الحميدة ، ومقدمة للهداية ، ووسيلة لجني الحسنات واللجوء الى الله عز وجل بالإستغفار ورجاء كشف الغمة ، ودعوة للمؤمنين للمناجاة والتعاون بالصبر والتصابر .
قال تعالى[وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ]( )، ولقد كان الأنبياء أئمة الناس في الصبر من جهات :
الأولى : موضوع الصبر وأنه في الله ولله .
الثانية : سنخية الصبر وكيفية التحمل .
الثالثة : قانون الملازمة بين النبوة والصبر .
الرابعة : قانون شكر الأنبياء الله عز وجل على الصبر.
الخامسة : استعانة الأنبياء بالله عز وجل ليلهمهم الصبر .
السادسة : قانون الصبر المحمود للأنبياء , وقد ورث المسلمون قوانين الصبر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا ورثة الصبر قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
ولقد تحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد ضروب الأذى في تبليغ الرسالة وأداء الأمانة ، ونصح الناس جميعاً , وترك الأمة على مثل البيضاء ليس من ظلام أو غشاوة ، وأزال أسباب الزيغ والهلاك ، قال سبحانه [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( ).
والصبر على أقسام منها :
الأول : الصبر في تلقي الوحي .
الثاني : قانون جهاد التبليغ صبر .
الثالث : قانون الصبر في حصار شعب أبي طالب .
الرابع : قانون الصبر في طريق الهجرة والأهوال التي تحف به .
الخامس : قانون الصبر في القتال .
ويتجلى في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
قانون معجزة ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان مع قرب العدو منه ووصول حجارتهم له , وهزيمة المشركين بثبات النبي وقتل الله للمشركين أكبر من نزول الملائكة ، قال تعالى [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ).
لقد كره المسلمون الخروج في معركة بدر بينما في معركة أحد التي هي أشد وأمر لم يكرهوا الخروج وهو معجزة حسية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
%%قوله تعالى [وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ] ( ).
من قوانين الحياة الدنيا مصاحبة الصلاة للوجود الإنساني فيها بلحاظ أنها عنوان العبادة والطاعة لله عز وجل وأول من صلى واتخذ الأرض مسجداً هو آدم وأكرمه الله عز وجل بأن جعل البيت الحرام مسكنه وحواء ليتوارث الأنبياء من ذريته واتباعهم الصلاة لتكون الكيفية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي الأتم والأكمل ، وفيها قراءة القرآن الذي انزله الله على صدره ، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (صلّوا كما رأيتموني أصلّي)( ).
وفيه شاهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاهد وبذل الوسع لحمل الناس على أداء الصلاة كاملة ، وتوارث هذه الصلاة جيلاً بعد جيل إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حضور سنته القولية والفعلية في حياة المسلمين كل يوم مع حرصهم على اتباعها .
والمكاء الصفير ، والمكر جمع الرجل أصابع يديه فيدخلها في فيه ، وينفخ ويصيح ليخرج صوت صغير .
(مكا الإنسان مَكْوا،و مُكاء: صَفَر بفيه. قال بعضهم: هو أن يجمع بين أصابع يديه، ثم يدخلها في فيه، ثم يصفر فيها.
ومَكَتِ استُه مُكاء: نفخت، ولا يكون ذلك إلا وهي مكشوفة مفتوحة، وخصّ بعضهم به است الدابة.
والمَكْوة: الاسْتُ، سمِّيت به لصفيرها، وقول عنترة:
تَمكُو فَرِيصتُه كِشْدق الأعلم
يعني طعنة تفيح بالدم.) ( ).
والتصدية : التصفيق (يقال: صَدّى يُصَدِّي تصدية: إذا صفَّق، وأصله صَدّ، ويُصَدِّد، فكثرت الدالات فقُلبت إحداهن ياء، كما قالوا: قَصَّيْتُ أظفاري، والأصل قصصتُ) ( ).
وسمي التصفيق تصدية لأن كلاً من اليدين تصدّ الأخرى وتتلقاها ليخرج صوت منه ، فيكون معنى التصفيق أمراً مركباً من :
الأول : ضرب اليد بالأخرى بقوة وسرعة .
الثاني : خروج صوت من هذا الضرب والتصدية .
وهل يختص التصفيق بقيام الشخص بضرب أحدى يديه بالأخرة ، أم أنه يشمل قيام شخصين كل واحد منهما يضرب بيده الآخرة ، الجواب هو الثاني ، ولكن القدر المتيقن من الآية هو المعنى الأول ، بان يقوم كل شخص من المشركين بالصلاة بالتصفيق وضرب إحدى يديه بالأخرى ، وهو المتبادر من الآية ، بالإضافة إلى المشاكلة بين الصفير والتصفيق .
وسأل نافع ابن الأزرق ابن عباس (أخبرني عن قوله عز وجل { إلا مكاء وتصدية }( ) قال : المكاء ، صوت القنبرة . والتصدية ، صوت العصافير وهو التصفيق . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام إلى الصلاة وهو بمكة ، كان يصلي قائماً بين الحجر والركن اليماني ، فيجيء رجلان من بني سهم يقوم أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله .
ويصيح أحدهما كما يصيح المكاء ، والآخر يصفق بيديه تصدية العصافير ليفسد عليه صلاته . نافع : وهل تعرف العرب ذلك؟
فقال : نعم ، أما سمعت حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه يقول :
نقوم إلى الصلاة إذا دعينا … وهمتك التصدي والمكاء
وقال آخر من الشعراء في التصدية :
حتى تنبهنا سحيراً … قبل تصدية العصافير) ( ).
ومن معاني (التصدية ) في المقام أي صدّ الناس عن المسجد الحرام بصلاة التصفيق ، ونصب الأصنام في البيت ، فصلاة المشركين في المسجد الحرام تصدية من جهات :
الأولى :في صلاة المشركين صدّ للناس عن المسجد الحرام .
الثانية : إرادة صدّ الناس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستهزاء به عند قيامه بالصلاة وخارج الصلاة .
الثالثة : عزم قريش على منع تلاوة القرآن في المسجد الحرام واستماع الناس لها ، وذكر أن عبد الله بن مسعود هو أول من جهر بقراءة القرآن في المسجد الحرام بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانهال عليه المشركون بالضرب .
الرابعة : إتخاذ الذين كفروا ولايتهم على المسجد الحرام وسيلة للقيام بالصفير والتصفيق من غير زاجر لهم ، فتفضل الله عز وجل وأخبر بأنهم ليسوا أولياء المسجد ، وبأنه سبحانه يعذبهم ، قال تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) فاذا استطاعت قريش التمويه والتورية على الناس ، والتمادي في الصدّ عن سبل الإيمان فان الله عز وجل لم يتركهم وشأنهم إنما ينزل بهم العذاب بعد إقامة الحجة عليهم بالبعثة النبوية ، قال تعالى [وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً] ( ) ليكون من معاني الآية أعلاه إخبار الناس عن تخلف الذين كفروا عن ولاية المسجد الحرام .
وتقدير الآية أعلاه بحسب هذا اللحاظ على وجوه :
الأول : يا أيها الناس أن الذين كفروا في عذاب من الله .
الثاني : يا أيها الناس إن الذين كفروا ليسوا أولياء المسجد الحرام .
الثالث : يا أيها الناس لا تحاكوا أو تتبعوا الذين كفروا في صلاتهم من الصفير والتصفيق .
الرابع : يا أيها الناس اتبعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته .
ومن الآيات أن الحق ظاهر في المقام ، إذ تتجلى معاني الخشوع والخضوع لله عز وجل في الصلاة التي جاء بها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وذات كيفيتها معجزة إذ لا يستطيع إنسان الإتيان بها بأركانها وأجزائها ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ).
لقد كانت قريش يطوفون بالبيت الحرام وهم عراة يصفرون ، عن ابن عباس( ) لبيان التحريف الذي جرى على الصلاة ، والتشويه لقدسية المسجد الحرام ، وحاجة الناس والمسجد للبعثة النبوية وتثبيت الشعائر وسنن التوحيد ، فمن معاني قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ] ( ) أنه أول بيت في إقامة الصلاة وشعائر التوحيد والعبودية لله عز وجل .
وصحيح أن معنى الأول في البدء والزمان ، وهو المستقرأ من كلمة [وُضِعَ لِلنَّاسِ] إلا أنه لا ينفي شموله لمعنى أنه الأول من بين بيوت العبادة في النفع والأثر وتعاهد لواء التوحيد وأداء الصلاة ، وأن الله عز وجل جعل المسجد الأول بين مساجد الأرض من جهة العبّاد والعبادة ، وهو الذي يتجلى من جهات:
الأولى : بناء البيت الحرام من قبل جبرئيل عليه السلام ومن أيام آبينا آدم عليه السلام .
الثانية : عمارة آدم وحواء للمسجد الحرام ، فلم ترد الأخبار بأنه أتخذ مساجد في الأرض مثل إقامته في البيت الحرام وقيامه بالحج إليه والطواف به .
الثالثة : حج الأنبياء للبيت الحرام مع تعاقبهم وتوالي أزمانهم لبيان قانون وهو إنفراد المسجد الحرام بتعاهد حج الأنبياء أو أتباعهم له ، فاذا غادر أحد الأنبياء الحياة الدنيا فان أتباعه وأنصاره يقتدون به في سيرته منها حج البيت الحرام (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا ، منهم موسى صلى الله عليه وآله وسلم ، كأني أنظر إليه وعليه عباءتان قطرانيتان ، وهو محرم على بعير من إبل شنوءة ، مخطوم بخطام ليف له ضفيرتان) ( ).
ومن معاني حج الأنبياء أمور :
أولاً : تعاهد المسجد الحرام .
ثانياً : البشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعثته من مكة إذ تقترن أخبار هذه البعثة بحج البيت وتدعو إليه ، كما أن حج البيت دعوة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من معاني بشارة ابراهيم ودعائه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبيت الحرام وبلدة مكة ، وفي التنزيل [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا] ( ).
ثالثاً : منع عبادة الأوثان في الأرض .
رابعاً : دعوة مجاوري البيت الحرام إلى تنزيهه من عبادة الأوثان .
خامساً : دعوة الأنبياء الناس للإقتداء بهم ، وجاء القرآن بترغيب المسلمين والناس بسنن الأنبياء ولزوم عدم التفريط بها ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
وعن أنس بن مالك قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد مرّ بالصخرة من الروحاء سبعون نبيا حفاة عليهم العباءة ، يؤمون بيت الله العتيق ، منهم موسى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم( ) ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ليهلن عيسى بن مريم بفج الروحاء بالحج أو بالعمرة ، أو ليثنينهما جميعاً ( ).
والروحاء واد بين مكة والمدينة وطوله خمسة وعشرون كيلو متراً ، ويبدأ من جهة الميدنة بالسيالة وينتهي عند المنصرف ، تبعد الروحاء عن المدينة ثمانين كيلو متر فهي أقرب الى المدينة ، وسميت بالروحاء لأن المسافرين كانوا يستريحون فيها لأنها محطة للقوافل وقيل سميت على الروحاء لأنفتاحها ورواحا ، وهي من أكثر المواضع التي ذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرّ أو نزل بها إذ مرّ بها في كل من :
الأولى : الخروج إلى بدر الأولى في ربيع الأول من السنة الثانية .
الثانية : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة.
الثالثة : توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأبواء في شهر صفر من السنة الثامنة للهجرة .
الرابعة : توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بحران في ربيع الآخر من السنة الثانية .
الخامسة : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر الموعد في شهر شعبان من السنة الرابعة .
السادسة : توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة .
السابعة : توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني المصطلق في شهر شعبان من السنة الخامسة .
الثامنة : توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عميرة القضاء في شهر ذي القعدة من السنة السابعة .
التاسعة : نزول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الروحاء عند توجهه لأداء حجة الوداع ، وحدثت في الروحاء معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هناك (عن أسامة ابن زيد قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحجة التي حجها حتى إذا كنا ببطن الروحاء نظر إلى امرأة تؤمة فحبس راحلته فلما دنت منه قالت يا رسول الله هذا
ابني ما أفاق من يوم ولدته إلى يومي هذا فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها ووضعه فيما بين صدره وواسطة الرحل ثم تفل في فيه وقال أخرج يا عدو الله فإني رسول الله ثم ناولها إياه وقال خذيه فلا بأس عليه
قال أسامة فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجته انصرف حتى إذا نزل ببطن الروحاء أتته تلك المرأة بشاة قد شوتها ثم قال ناوليني ذراعا فناولته ثم قال ناوليني ذراعا فناولته ثم قال ناوليني ذراعا فقلت يا رسول الله إنما هما ذراعان وقد ناولتك .
فقال : والذي نفسي بيده لو سكت ما زلت تناوليني ذراعا ما قلت لك ناوليني ذراعا ثم قال أنظر هل ترى من نخل أو حجارة فقلت قد رأيت نخلات متقاربات ورضما من حجارة قال انطلق إلى النخلات فقل لهن إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمركن أن تدانين لمخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقل للحجارة مثل ذلك .
فأتيتهن فقلت لهن ذلك فوالذي بعثه بالحق لقد جعلت أنظر إلى النخلات يخددن الأرض خدا حتى اجتمعن وانظر إلى الحجارة يتناقزن حتى صرن رضما خلف النخلات فلما قضى حاجته وانصرف قال عدّ إلى النخلات والحجارة فقل لهن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمركن أن ترجعن إلى مواضعكن) ( ).
ويدل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ينزل بالروحاء في طريق الذهاب إلى مكة ، وطريق العودة منها .
وقد ورد ذكر الروحاء في السيرة النبوية وتعدد المرات التي مرّ بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم الروحاء
وفي الحديث شاهد على بقاء البيت الحرام والمطاف والشعائر ، واستقبال المسلمين له في الصلاة .
وفي أسباب نزول آية البحث وجوه :
الأول : كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف يستهزئون به فيدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون، يخلطون عليه صلاته وطوافه( ) ، قاله مجاهد.
وهل يدل ظاهر الخبر على صلاة الصغير والتصفيق ليست متوارثة عند مشركي قريش ، إنما ابتدعها قوم منهم لمنع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من التبليغ وتلاوة آيات القرآن .
الجواب لا ، قال تعالى [زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
الثاني : عن ابن عباس كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون)( )، لبيان أن الصفير والتصفيق نهج اتبعته قريش في أداء الصلاة تحريفاً لها وبطراً وعزوفاً عن التلبية وكلمات التوحيد ، وكان إتخذ بعض مشركي قريش وسيلة يومية متكررة للخلط على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنع الناس من الإصغاء له ، وهو يتلو القرآن ، فانعم الله عز وجل عليه وعلى المسلمين بأن أمر أجيالهم المتعاقبة بالإصغاء لقراءة القرآن ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الثالث : كانت العرب يقتدون بقريش في باب الطواف والنسك ، لتكون آية البحث توثيقاً سماوياً لقبح فعل كفار قريش وأضراره العامة ، وكيف أنه طريق لنشر الضلالة وتحريف الحقائق .
الرابع : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفع صوته ببسم الله الرحمن الرحيم . وكان مسيلمة الكذاب قد تسمّى الرحمن ، فكان المشركون إذا سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا : قد ذكر مسيلمة إله اليمامة ، ثم عارضوه بالمكاء والتصدية والصفير ، فأنزل الله وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ .
وعن سعيد بن جبير، أي أن المشركين اتخذوا الصفير والتصفيق وسيلة للتشويش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلاوته القرآن .
فمن إعجاز القرآن الغيري ميل النفوس إليه وإنصاتهم لتلاوته ، ومن إعجازه أن معارضة المشركين له بالصفير والتصفيق فضح وخزي لهم ، وسبب لجعل الناس يحرصون على سماع آيات القرآن ، ويتدبرون في معانيها ودلالاتها .
الخامس : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلّى في المسجد قام رجلان من المشركين عن يمينه فيصفران ويصفقان ورجلان كذلك عن يساره ليخلطوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاته ، وهم بنو عبد الدار فقتلهم الله ببدر( )، عن مقاتل.
لقد نزل قوله تعالى [فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ]( )، لبيان أن صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لله عز وجل ، وفيه خزي للمشركين وشاهد على أن الصلاة بقصد القربة إلى الله حرب على الكفر وهو سلاح امضى من السيف ، وفيه غنى عن السيف والرمح والقوس .
وفيه اشارة لكون النحر يوم الأضحى بعد الصلاة (وعن أنس : كان ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة ، فأمر أن يصلي وينحر ، وقال ابن جبير : نزلت وقت صلح الحديبية . قيل له : صل وانحر الهدي ( ).
وفيه حرب على الشرك وفضح لكفار قريش الذين تكون صلاتهم صفيراً وتصفيقاً ، وقيامهم بالنحر للأصنام ، وتدل أسباب نزول الآية على أمرين :
الأول : اتخاذ الذين كفروا الصفير والتصفيق عبادة لهم .
الثاني : إيذاء كفار قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصفير والتصفيق ، وكأنهم يقولون أن الصلاة هي التي يقومون بها ، قال تعالى[وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا]( ).
لقد كانت للبيت الحرام هيبة وقدسية في نفوس العرب ، وهو من مصاديق الآيات في قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ] ( ) لتكون قدسية المسجد الحرام وهيبته في النفوس نوع مقدمة لتبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسالته ، وإمتناع قريش عن الإضرار به خشية سخط الناس عليهم .
فان قلت قد اتفق كبراء قريش على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المبيت واختاروا عشرة شبان من كل قبيلة واحد ، ليضربوه ضربة رجل واحد ، الجواب هذا عندما أدركوا عجزهم عن منع انتشار الإسلام ، ليكون من معاني إختيار التعدد والمشاركة العامة منهم في قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عجز بني هاشم عن الأخذ بثأر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحملهم على قبول ديته .
كما كانت قريش تخشى عموم أهل مكة والقبائل العربية على تجرأهم في قتل النبي ، لأنه لم يقم بقتل أحدهم ولم يأمر بقتل أو إغتيال ، ولم يشهر سيفاً .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحلى بأبهى معاني الصبر ، ويحث أصحابه على الصبر ويخبرهم عن حسن عاقبته بدخول الجنة والإقامة الدائمة فيها ، ليكون من منافع صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في مكة قبل الهجرة أمور :
الأول : تنمية ملكة الصبر عند المسلمين .
الثاني : تجلي مصاديق لإمتثال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لأمر الله عز وجل لهم بالصبر .
فمن الإعجاز في القرآن مجئ الأمر بالصبر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو القضية الشخصية كما في قوله تعالى [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ]( ) وقال تعالى في خطاب للمسلمين [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ]( ).
الثالث : صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في مكة على أذى المشركين ، وفيه منع للصحابة من المناجاة بالهجوم والغزو.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان لا يرضى للسرايا القيام بالهجوم والغزو في غير ما بعثهم إليه فاذا وجدوا قوماً أو قرية أهلها كفار في غفلة فعلى سرايا المسلمين إجتناب الهجوم عليهم أو غزوهم ومصادرة أموالهم غنائم لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعثهم إليهم لبيان الضبط الذي يتقوم بالتقوى ، وهذا الإنضباط دعوة للناس لدخول الإسلام.
الرابع : إقامة الحجة على الذين كفروا بكثرة تعديهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ومقابلة هذا التعدي بالصبر والثبات على الإيمان ، ليكون من معاني قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) لله الحجة على الذين كفروا بصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وتحمل الأذى في جنب الله .
الخامس : توالي نزول آيات القرآن موضوع ومادة للصبر ، وتلك آية من التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في تلقيهم للأذى وانصراف شروره عنهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى.
السادس : صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على أذى قريش في مكة مقدمة لصبرهم على هجوم وغزو قريش بعد الهجرة.
قانون دراسة كل آية بلحاظ قانون (لم يغز النبي ص أحداً)
ويمكن دراسة كل آية قرآنية بلحاظ موضوعيتها في قانون عدم غزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً ، ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعوة المسلمين إلى عدم الغزو والهجوم ، وعدم الدعوة للغزو ومقدماته .
وسنته مرآة للقرآن , فمثلاً آيات سورة الفاتحة والتي تبدأ بالبسملة هي رحمة للمسلمين والناس جميعاً ، والتي تدل بالدلالة التضمنية على السلم والموادعة وتنهى عن القتال والقتل وسفك الدماء .
ولما أحتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لأنه يفسد في الأرض ويفعل المعاصي ، ويقتل النفس التي حرم الله بغير حق ، أجابهم الله عز وجل بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فخر الملائكة لله ساجدين مذعنين مقرين بالحكمة واللطف الإلهي في خلافة الإنسان في الأرض.
ومن علم الله عز وجل في المقام نزول آية البسملة وابتداء القرآن بها ، ولا يعلم عدد تلاوة أجيال المسلمين لها أمس واليوم وغداً وما فيها من المنافع وصرف البلاء إلا الله عز وجل ، فيحصي الملكان تدوين ما يتلفظ به المسلم من البسملة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] ( ) .
وتحتمل الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : تدوين وأحصاء الملك لعدد المرات التي نطق بها المسلم بالبسملة طيلة أيام حياته .
الثاني : تدوين الملك لنطق المسلم بالبسملة على نحو التفصيل من جهة عدد المرات التي نطق بها بالبسملة من جهات :
الأولى : عدد البسملة التي جاء بها في الصلاة .
الثانية : البسملة التي جاء بها خارج الصلاة .
الثالثة : البسملة التي نطق بها في النهار .
الرابعة : البسملة التي نطق بها في الليل .
الخامسة : البسملة التي نطق بها في حال السعة والمندوحة والرخاء .
السادسة : عدد البسملة التي نطق بها المسلم في حال الشدة والضعف .
السابعة : عدد مرات البسملة التي ذكرها المسلم عند الإبتداء بالأكل .
والبسملة سلاح لقهر النفس الغضبية والشهوية , ولمنع الغزو وهي عنوان نشر شآبيب الرحمة بين الناس ،وفيها تأديب للمسلمين والناس بأن الله عز وجل هو الرحمن الرحيم الذي يتغشى عباده برحمته .
وفي الآية بعث للسكينة والطمأنينة لأنها تدل على أن الحياة الدنيا دار الرحمة ، ومن رحمة الله عز وجل التي تدل عليها البسملة دعوة الناس للإيمان بالتراحم والتوادد بينهم .
وجاء بعد البسملة في ترتيب آيات سورة الفاتحة قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) وهل فيه دعوة لنبذ الهجوم والغزو ، الجواب نعم ، لأن المسلمين ينقطعون إلى الحمد لله والشكر له سبحانه ، وفيه رضا بما أنعم الله عليهم ، وحث للكافرين على ترك المسلمين وشأنهم ، لأن الإنشغال بالحمد لله واقية من التعدي والظلم .
وهي باعث ودعوة للناس جميعاً للتدبر في نعم الله عليهم ومن رحمة الله بالناس توالي نعمه عليهم جميعاً وعن (أبي بن كعب أنه قال : يا رسول الله ، إني أكثر الصلاة عليك ، فكم أجعل لك من صلاتي ؟ قال : ما شئت) ( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلاوة كل مسلم ومسلمة لآيات سورة الفاتحة وكل آية منها دعوة للمسلمين والناس جميعاً إلى طاعة الله والثناء عليه سبحانه والإنشغال باستحضار النعم عليهم في الأبدان والأرزاق .
والجامع المشترك من النعم بين الناس ، المؤمن والكافر ، وما اختص به الله المؤمنين منها ، وفيه ترغيب للناس بالإيمان ، وهذا الترغيب برزخ دون هجومهم وغزوهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وبعث الناس على استبيان النعم التي تصاحب الإيمان ، والأضرار التي تترشح عن محاربة المؤمنين وعن قتالهم وغزوهم ، وكل تلاوة للمسلمين للقرآن وأداء الصلاة اليومية دعوة للناس للإيمان وسبب لهداية فوج وطائفة من الناس إلى الهدى ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ) ، وفيه مسائل :
الأولى : إصابة جموع الذين كفروا بالنقص والوهن .
الثانية : إشعار الناس جميعاً بأن الإسلام دين الحمد لله ، ويقوم كل مسلم ومسلمة بالنطق بالحمد لله رب العالمين على نحو الوجوب العيني كل يوم ، وفيه دعوة لعموم الناس إلى ترك إعانة رؤساء الكفر بالحرب والغزو على المسلمين .
وليكون من الإعجاز في أداء المسلمين الصلاة اليومية وتلاوة القرآن فيها حصول النقص في عدد المشركين بدخول طائفة منهم الإسلام .
الثالثة : حين تدخل طائفة من الذين كفروا الإسلام فأن أكثر منها من المشركين يصبحون في حال تدبر بمحاكاتهم في دخول الإسلام ، وهو من أسباب نشر الفرقة و الخلاف في صفوف المشركين وجعلهم في حال قنوط .
الرابعة : رؤية المشركين لحال الذين آمنوا من السكينة والطمأنينة والرضا بفضل وإكرام المسلمين لمن يدخل الإسلام وينتقل من جيش الكفر إلى صرح الهدى والإيمان .
وبعد آية الحمد لله جاء قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) وفيه معجزة في التنزيل في دعوة الناس للرأفة فيما بينهم وتغليب لغة المودة ونشر معاني الإحسان بينهم .
وعندما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) أخبرهم الله عز وجل بأنه يعلم من أحوال الإنسان في الأرض وعاقبته ما لم يعلموا ، ومنها نزول قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) وجعله حياً غضاً طرياً على نحو يومي بأن يتلوه المسلمون في كل يوم .
ومن خصائص هذه التلاوة موضوعيتها في قول وعمل المسلمين ومنه إجتنابهم الغزو ، وإبتعادهم عن القتال إلا في حال الدفاع ، وهل تصرف تلاوة المسلمين والمسلمات لقوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) الذين كفروا عن غزوهم وقتالهم .
الجواب نعم ، ولو على نحو الموجبة الجزئية ، إذ عجز الذين كفروا عن إيجاد الأنصار والأتباع على تكرار الغزو على المسلمين بالإضافة إلى افتقار الذين خرجوا معهم للرغبة في القتال ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
ومن الإعجاز الغيري للقرآن والسنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن أكثر أفراد جيش المشركين الذين يقابلونهم في الميدان غير راغبين في القتال ،وتجلى هذا القانون بانقضاء كل معركة من معارك الإسلام الأولى في ساعات من ذات اليوم الذي ابتدأت فيه وهي :
الأول : معركة بدر .
الثانية : معركة أحد .
الثالثة : معركة الخندق .
فلابد من دراسات نفسية ( في الطب النفسي العسكري ) الشخصي والنوعي لعلة سرعة الفصل بين الجمعين , وإقترانه بهزيمة المشركين .
ثم جاء صلح الحديبية الذي لم يقع في يومه قتال ، وكان بين معارك الإسلام الأولى أعلاه عدة مواجهات بين المسلمين والمشركين ولكن لم يقع قتال في أكثرها ، وعند ملاحظة تواريخ معارك الإسلام الأولى تتجلى مسألة التباعد الزماني بينها وعلى نحو طردي فالمدة بين معركة بدر وأحد ثلاثة عشر شهراً .
أما المدة بين معركة أحد والخندق فهي نحو سنتين ، وإذ قتل من المسلمين سبعون شهيداً في معركة أحد ، فانه لم يقتل منهم في غزوة المشركين للمسلمين في معركة الخندق إلا ستة مع أن جيش المشركين فيه عشرة آلاف رجل ، وهم أكثر من ثلاثة أضعاف عددهم في معركة أحد ، ولم يقع فيه قتال ومبارزة جماعية متعددة ، نعم وقعت مبارزة بين الإمام علي عليه السلام وعمر بن ود العامري ، وهو من أشجع فرسان قريش ، وكان قد تخلف عن معركة أحد لجراحات أصابته في معركة بدر , لتكون إنذارا له ولكنه لم يتعظ .
ليقتله الإمام علي عليه السلام ويفر الذين كفروا وينزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) قال ابن اسحاق (واستشهد من المسلمين يوم الخندق ثلاثة من بنى عبد الاشهل، وهم سعد بن معاذ – وستأتى وفاته مبسوطة – وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو، وعبد الله بن سهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة الجشميان السلميان، وكعب بن زيد النجارى، أصابه سهم غرب فقتله.
قال: وقتل من المشركين ثلاثة وهم: منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة اقتحم الخندق بفرسه فتورط فيه فقتل هناك وطلبوا جسده بثمن كبير.
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبى أن يأخذ مالا عليه ودفعه لهم , وعمرو بن عبد ود العامري، قتله علي بن أبى طالب) ( ).
ومن أسرار القتال وأسباب الهزيمة فيها حضور أكثر أفراد الجيش لخصوص تكثير السواد من غير رغبة أو قناعة في القتال ، وتحقق هذا المصداق في جيش المشركين في معارك الإسلام الأولى ، فينفق رؤساء المشركين الأموال الطائلة لجلب الأفراد ورجال القبائل لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ويخرجون معهم ، وينشد الشعراء القصائد في الطريق لبعث الهمم والتشجيع على القتال , عندما يحضرون في الميدان يتقدم بعض رؤساء المشركين لطلب المبارزة في حث لأفراد الجيش لمحاكاتهم وإظهار شجاعتهم وفروسيتهم .
فيهلك الله عز وجل الكافر الذي تقدم للمبارزة في الأعم الأغلب فيصيب عامة جيش الذين كفروا القنوط والفزع وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ) فمن عذاب المشركين قتل فرسانهم وإقامة الحجة عليهم لأنهم هم الذين اختاروا المبارزة ، ومنهم من أصر عليها ، وكرر الدعوة للمبارزة والقتال وتحدي المسلمين وسط الميدان .
كما في معركة أحد إذ برز حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة ونادى المسلمين هل من مبارز فلم يبرز له أحد ليس خوفاً منهم وقد خرجوا إلى معركة أحد وهم مشتاقون إلى الشهادة ، ولقاء الله عز وجل ، كما يدل على هذه النوايا قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ..] ( ) .
ولكن المسلمين يكرهون القتال والمبارزة ويعلمون أن توالي نزول آيات القرآن وتعدد معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانتشارها وشيوعها بين الناس مناسبة ووسيلة لدخول الناس الإسلام .
وكرر طلحة بن أبي طلحة طلب المبارزة ثم أخذ بتحدي المسلمين وخاطبهم بصيغة التعيير عندئذ برز له الإمام علي عليه السلام وجرت المبارزة بمرآى من الجيشين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) في ذاته وموضوعه ونتيجته وعاقبته إذ صرع الإمام علي عليه السلام صاحب لواء المشركين ، ليكون زاجراً للمشركين عن مواصلة التحدي والقتال ، ودعوة لجيش المسلمين للإستبسال في الدفاع , وباعثاً لأفراد جيش الذين كفروا على ترك القتال .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ) الجواب نعم ، فقتل فرسان الذين كفروا في ميدان المعركة من مصاديق العذاب من الله لكل من :
الأول : الكفار الذين قتلوا في ميدان المعركة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ] ( ) ونسبت الآية أعلاه قطع الطرف وهلاك الطرف والطائفة من الذين كفروا إلى الله عز وجل ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) .
وتقدير آية قطع الطرف أعلاه هو : ليهلك الله طائفة من الذين كفروا ويكبت الذين بقوا أحياء منهم فيرجعوا إلى مكة خائبين ، لم يستطيعوا تحقيق أية غاية خبيثة انفقوا عليها الأموال الطائلة ، وعطلوا أعمالهم التجارية وأسباب الكسب والمعيشة بسببها ، وأذلوا أنفسهم بالتوسل إلى رجال القبائل والطواف عليها للخروج معهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إدراك الناس إنتفاء سبب وموضوع هذا القتال .
وهل من كبت وخيبة الذين كفروا عزوف الجيوش التي خرجت معهم عن القتال وعن المبارزة أو الإكثار من رمي السهام .
الجواب نعم ويصاب القائد بالكبت والخيبة عندما يرى جنوده يمتنعون عن قتال عدوه ، ومن معاني الكبت في المقام خشية رؤساء قريش توجيه اللوم في طريق العودة إلى مكة إلى الجيوش التي معهم على عزوفهم عن القتال خاصة مع تهيئ فرصة لهم بسبب الإرباك والثغرة التي صارت في جيش المسلمين عندما ترك الرماة المسلمون مواضعهم ، ومجئ خيل المشركين من خلف جيش المسلمين ، وسبب خشية رؤساء قريش في المقام هو الخشية من إنقلاب أفراد الجيش عليهم لإنطباع معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آذهان الناس ، ولأن أكثر جيش المشركين مستأجرون إذ استأجر أبو سفيان نحو ألفين ، وعلى مرّ التأريخ يعرف الناس أحوال الجنود المستأجرين ، وتخلفهم عن النصرة والبذل والفداء ، إلى جانب فضل الله إذ بعث الفزع والخوف في قلوب عموم جيش الذين كفروا ومن خلفهم لقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]( ).
إن البحث والتحقيق بمصاديق قانون كل آية قرآنية تدعو إلى نبذ القتال والغزو معجزة ذاتي وغيرية للقرآن فان قلت قد وردت آيات تأمر المسلمين بالقتال كما في قوله [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، الجواب من جهات :
الأولى : الأمر للمسلمين بالقتال بقصد الدفاع وأحكام الضرورة .
الثانية : تدل الآية في ظاهرها ومضمونها على أن قتال المسلمين على نحو الحاجة وأنهم لم يبدأوا القتال ، إنما كان المشركون هم الذين بدأوا القتال واختاروا مكانه وأوانه .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما يلتقي الجمعان ينادي بصوت عال بين الصفين ، يسمعه أفراد الجيشين (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)( )، وفيه مسائل :
الأولى : كلمة التوحيد سور جامع للناس .
الثانية : بكلمة التوحيد يدرء القتال بين الناس .
الثالثة : بيان بغض النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتال .
الرابعة : طاعة المسلمين لله ورسوله في اجتناب القتال .
الخامسة : سواء وقع القتال أم لم يقع ، فان أفراد جيش المشركين يرجعون إلى أهليهم ومدنهم وقراهم بتحفة وقانون هو : قول لا إله الا الله فلاح .
السادسة : يدل نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا على أنه لا يريد الغزو ولا القتال .
السابعة : بيان حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً حتى الذين يقاتلونه لأنه يهديهم إلى الفلاح بارشادهم إلى النطق بكلمة واحدة تجلب الخير المستديم ، فليس من نعمة أعظم من الفوز بالفلاح بكلمة واحدة.
الثامنة : تقدير قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تقاتلوا ولا تحاربوا.
التاسعة : قول لا إلا اله الا الله فلاح لأن فيه سلامة واحترازاً من القتال والقتل ، وحينما أخبر الله الملائكة بخلق الإنسان وجعله [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، تلك المرتبة السامية التي لم ينلها الملائكة أنفسهم سواء الخلافة في السماء التي هي مسكنهم أم الخلافة في الأرض , واحتجوا بأمرين :
الأول : فساد الإنسان في الأرض .
الثاني : قتل الإنسان للنفس التي حرم الله .
والمتعارف في علم التفسير أن سؤال الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، استفهام انكاري والمختار أنه دعاء وتضرع وسؤال ليكون الناس مثل الملائكة في التسبيح والتهليل والعصمة من الفساد والقتال فاجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
وهل في هذا الجواب نوع استجابة لدعاء الملائكة هذا الجواب نعم ، لدلالته التضمنية على تفضل الله عز وجل بتنزيه الأرض من الفساد ومن القتل بغير حق فتفضل وبعث النبي محمداً لينادي (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)( )، وفيه إشاعة للأمن وقضاء على الغزو والإقتتال بين الناس ، وهو مناسبة للتدبر بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويحتمل موضوع الغزو بالنسبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتبليغ رسالته وجوهاً :
الأول : الغزو حاجة ومقدمة ضرورية لتبليغ الآيات والأحكام .
الثاني : الغزو ليس حاجة ولا ضرورة للنبي والمسلمين .
الثالث : التفصيل فقد يكون الغزو حاجة في حال مخصوصة ، وقد لا يكون حاجة .
والمختار هو الثاني فان قلت قد غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض القبائل ، الجواب لم يكن غزواً إنما كان لمنع الغزو والقتال ، فتبلغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أخبار عن تجمع إحدى القبائل أو الجماعات للهجوم والإغارة على المدينة فيخرج لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو يبعث سرية من أصحابه لتفريق جمعهم ، وزجر الذين من خلفهم من القيام بذات الجمع وغاياتهم الخبيثة بالعزم على قتل النبي محمد وأصحابه ، وفيه شواهد عديدة ، ولكنه لا يعني ضرورة الغزو لعدم تحقق مصداق الغزو , وما فيه من معنى الإستباحة ففي الغزو أطراف :
الأول : أسباب الغزو .
الثاني : مقدمات الغزو .
الثالث : الغازي ، وهو الذي يقوم بغزو غيره .
الرابع : كيفية الغزو .
الخامس : الغاية من الغزو .
السادس : المغزو ، وهو الذي يقع عليه غزو والغازي .
السابع : نتائج الغزو .
وكان العرب قبل الإسلام يغزو بعضهم بعضاً ، بسبب أو بدون سبب ، وحتى في حال السبب فانه يكون قضية شخصية ، وأمراً بسيطاً ، كما في حال الثأر سواء على القتل ، أو العصبية والجهالة ، فجاء الإسلام بنسخ ونقض الغزو وأسبابه.
ونزلت آية قرآنية تبين حكم القتل بالقصاص من ذات الجاني بقوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
لينقطع أهم سبب من أسباب الغزو وهو الثأر ، وتنزل الآيات القرآنية بتحريم الغزو والظلم والجور والتعدي ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سرعة التبدل والتغيير في المجتمعات نحو الأحسن والأصلح فتنزل الآية القرآنية بالأمر أو النهي أو هما معاً فيتلقاها المسلمون بالقبول والرضا والإمتثال ، وهذا التلقي من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وتختصر في التحليل استنباط المواعظ والدروس منها في الجزء الخامس والثلاثين بعد المائتين .
وعندما صدرت هذه الأجزاء بقانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) استبشر كثير من المسلمين وأهل الملل الأخرى ممن أطلع على هذا العنوان والبراهين والوقائع التي تدل عليه ، ومنها أمور :
الأول : صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أذى كفار قريش ، هذا الأذى الذي بدأ بعد البعثة النبوية بقليل .
الثاني : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الصبر.
وهل تختص هذه الدعوة بأيام إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة .
الجواب هو مصاحب لأيام النبوة ولحين مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى وهذه الدعوة مرآة وتفسير لآيات القرآن التي تأمر بالصبر سواء تلك التي نزلت في مكة أو التي نزلت في المدينة ، ومنها قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
الثالث : تدل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة على عدة قوانين :
أولاً : هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صبر ، من جهات :
الأولى : ترك جوار المسجد الحرام وحجب الذين كفروا ولايته عنه .
الثانية : مخاطر طريق الهجرة ، وهي مخاطر محتملة بالأصل ، وأخرى عرضية تترشح عن ملاحقة الذين كفروا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لإرادة قتله .
الثالثة : إيذاء كفار قريش للمسلمين والمسلمات الذين بقوا في مكة ، قال محمد بن اسحاق : وكان أبو جهل الفاسق الذى يغري بهم في رجال من قريش، إن سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وخزاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنفيلن رأيك، ولنضعن شرفك.
وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك ،وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به( ).
الرابعة : افتراء قريش على النبي والقرآن ، وفي التنزيل [وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ]( ).
الخامسة : إرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المدينة .
السادسة : تحريض المنافقين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
ثانياً : هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للمسلمين للصبر.
ثالثاً : هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على أنه لا يريد القتال والحرب ، وبين القتال والغزو عموم وخصوص مطلق.
رابعاً : قانون هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأديب للمسلمين باجتناب قتال المشركين ، ليدل بالأولوية القطعية على لزوم إمتناع المسلمين عن الإقتتال فيما بينهم ، بالإعراض عن أسباب وموضوع ومحل القتال ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( ).
خامساً : قانون الهجرة باب لنشر لواء الإسلام.
سادساً : قانون إذا أغلق الناس على النبي والمؤمنين باباً فان الله عز وجل يفتح لهم أبواباً متعددة .
لقد أراد المشركون منع نشر سنن التوحيد ومبادئ الإسلام في مكة المكرمة فحاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أشد المحاربة إلى أن وصل الأمر للعزم على قتله في ليلة المبيت فأمره الله عز وجل بالهجرة إلى المدينة في ذات الليلة لتشع أنوار التنزيل في يثرب وأرجاء الجزيرة ، وينقل المسلمون ورجال القبائل والتجار والأعراب آيات القرآن وأخبار النبوة إلى مكة ، ومنتدياتها وبيوتها بما يجعل كفار قريش يعجزون عن وقفها فأدركوا صيغ صدّهم الوارد في قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( )، وعجز الذين كفروا عن وقف زحف الإسلام فاختاروا الهجوم والغزو والقتال فكانت معركة بدر فانهزموا فيها ، ونصر الله عز وجل النبي محمداً وأصحابه ، ونزل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، وكانت درساً بليغاً وزاجراً لكفار قريش عن طلب القتال من جديد ، ولكن ولاية الشيطان وتخويفه لهم ، وركوبهم جادة العناد والجحود جعلهم يصرون على إعادة الكرة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ]( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : لما قدم جعفر من ارض الحبشة قال : يا رسول الله ألا أحدثك ؟ قال رسول الله بلى ، قال : دخلت يوما على النجاشي وهو في غير مجلس الملك وغير رياشه وزيه ، قال : فحييته بتحية الملك .
وقلت له : يا ايها الملك مالي أراك في غير مجلس الملك وغير رياشه وزيه ، فقال : انا نجد في الانجيل من انعم الله عليه بنعمة فليشكر الله ونجد في الانجيل انه ليس شئ من الشكر الله يعدل التواضع له وانه ورد علي في ليلتي هذه ان محمدا ظفر بمشركي اهل بدر فأحببت ان اشكر الله بما ترى( ).
وقد يقول قائل هل هناك من نَصَحَ كفارَ قريش لإجتناب قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإتعاظ من معركة بدر وهزيمتهم فيها بلزوم عدم الخروج إلى معركة أحد ، الجواب لابد من تعالي أصوات بالإمتناع عن تجدد الغزو على المدينة ، كما أن دخول طائفة من الناس في الإسلام بين معركة بدر ومعركة أحد إنذار للذين كفروا ، وتثبيط لعزائمهم ، ولكنهم اختاروا إقامة الحجة عليهم ، ونزول عذاب الله بهم ، وهذا العذاب من وجوه :
الأول : الإصرار على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظلم وعذاب للنفس إذ يدرك الناس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صادق في دعوته ، وهذا الإدراك من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، ولابد أن المشركين يقرون فيما بينهم ، وفي أنفسهم بالإعجاز القرآني ، والمعجزات الحسية التي تجري على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها نصره في معركة بدر مع أن كل الأسباب المادية الظاهرة تدل على ترجيح كفة الذين كفروا ، قال تعالى[وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( ).
الثاني : حزن قريش على قتلاهم في معركة بدر ، فان قلت قد منعوا النياحة عليهم ، لئلا يكون سبباً للإنشغال عن الثأر لهم ، الجواب يزيد هذا المنع في عذاب الذين كفروا ، وعوائلهم ، كما أن السبب الأصل في المقام هو محاولة منع استحواذ الخوف والفزع على نفوس عامة أهل مكة من الرجال والنساء من قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فتصد النساء الرجال عن الخروج مع رؤساء الكفر من قريش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد .
لقد صدّ الذين كفروا الناس عن المسجد الحرام فابتلاهم الله عز وجل بأن صاروا يخشون النساء وعامة أهل مكة على أنفسهم ، وصدّ الناس عن نصرتهم بالباطل الذي يسعون إليه ، وفيه دعوة لأهل مكة رجالاً ونساءً للإسلام.
وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( )، ليكون من معاني الآية أعلاه تجلي معجزات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل معركة له مع المشركين ، وكل غزوة يقومون بها ، إذ يبغون بها وقف إنتشار الإسلام ، فتكون سبباً لخزيهم ودخول طائفة من الناس الإسلام.
وهل منع أهل مكة من البكاء على قتلاهم من الصد عن المسجد الحرام أم أنه مسألة عذاب خاصة بين الذين كفروا أنفسهم ، الجواب هو الأول ، للغايات الخبيثة من هذا المنع ، ومحاولة إتخاذه مقدمة للهجوم على المدينة وهو الذي وقع في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة إذ زحفت قريش بخيلها وخيلائها لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والهجوم على المدينة.
وهل يمكن احتساب معركة أحد محاولة جماعية لإغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم تختص تلك المحاولات بالقضايا الفردية ، وعزم بعض الإشخاص على الغدر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المدينة أو في حال السفر.
الجواب هو الأول ، فيمكن إدراج كل من معركة بدر وأحد والخندق بمحاولات قتل واغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يتعارض مع كونها معارك بين المسلمين والمشركين .
وتضمن هذا الجزء لقانون (لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدا) في قراءة لآيتين وهما :
الأولى : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) إذ إبتدأت الآية بنداء الإيمان التشريفي لبيان قانون وهو مبادرة المسلمين للعمل بأحكام الآية القرآنية ، والأوامر والنواهي التي وردت فيها وهي :
الأول : الأمر بالصبر على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي والإفرادي بقوله تعالى [اصْبِرُوا] .
الثاني : الأمر بالمصابرة والمناجاة بالصبر بين المسلمين وإظهارهم التحمل والعناء برضا وعدم الملل أو الجزع .
الثالث : الأمر بالمرابطة في الثغور والحرص على أداء الصلوات في أوقاتها ، لأن هذا الأداء مقدمة للدفاع والمرابطة في الثغور برابط الأخوة الإيمانية ، فقد تكون المرابطة سبباً للفرقة والخلاف والشقاق والخيانة ، فتفضل الله عز وجل بابتداء آية الرباط بنداء الإيمان لأنه واقية من الأخلاق المذمومة ، ومن الغدر والخيانة ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل للرباط موضوعية في مؤاخاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار .
الثانية : هل للمؤاخاة موضوعية في تحقيق وتنجز الرباط على أتم وجه.
الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في مصاديق آيات القرآن وانتفاء الدور بينهما مع التأثير المتبادل بينهما ،والنفع المتعدد منهما مجتمعين ومتفرقين بالأمر للمسلمين والمسلمات بتقوى الله في ذات موضوع الصبر والمصابرة والمرابطة ، والإمتناع عن الغزو والهجوم واشعال الحروب ، ومن خصائص التنزيل حث الناس على التنزه عن الفتن قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ]( ).
ونزلت آية الرباط لمنع حدوث الفتن وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين أن نبوته واقية وحرز من الفتن ففي سنوات النبوة المحدودة انقطعت الفتن الخاصة والعامة في الجزيرة ، ليكون من معجزاته إنقطاع الفتن من غير غزو وقصد للقتال والحرب .
فكل آية من القرآن هي صلاح ضد القتال الشديد بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين جيش المشركين من جهة أخرى ، وفي معارك متعددة ، كما في معركة بدر ، ومعركة أحد والخندق وحنين .
والجواب هذا صحيح فتلك المعارك فعل يائس من الذين كفروا ، وصدّ عن المسجد الحرام وإرادة إستدامة الكفر والظلم ، فأخزاهم الله عز وجل بنزول الهزيمة والخسارة بهم في كل معركة إلى أن صار الطريق إلى مكة مفتوحاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الناس تبع لقريش في الخير والشر , كفارهم تبع لكفارهم ومؤمنوهم تبع لمؤمنيهم) ( ).
لقد دفع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن الإيمان والتنزيل في معارك متعددة لتسود أحكام الشريعة في الأرض إلى يوم القيامة ، ويكون العمل بها سبيلاً إلى اللبث الدائم في النعيم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
بحث روائي
أحاديث في الرباط وفضل المرابط في سبيل الله ، وفي بيان وتفسير قوله تعالى[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
عن أبي هريرة قال : قال صلى الله عليه وآله وسلم : مثل المجاهد في سبيل الله ،كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله ،لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد الى أهله( ).
سُئل صلى الله عليه وآله وسلم : أي الأعمال أفضل؟ قال : الإِيمان بالله ورسوله . قيل : ثم ماذا؟ قال : الجهاد في سبيل الله . قيل : ثم ماذا؟ قال : ثم حج مبرور( ).
وعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد ، فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة( ).
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْجُرْحُ يَثْعَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ( ).
قال صلى الله عليه وآله وسلم : وَتَوَكَّلَ اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِ فِى سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ ، أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ( ).
عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( ما من عبد يموت ،له عند الله خير، يسره أن يرجع إلى الدنيا ،وأن له الدنيا وما فيها، إلا الشهيد ،لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا ،فيقتل مرة أخرى ) ( ).
قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( من اغبرت قدماه في سبيل الله حرّمه الله على النار ) ( ).
عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة ( ).
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (من رضي بالله رباً ,وبالإسلام ديناً ,وبمحمد رسولاً ,وجبت له الجنة) ،فعجب لها أبو سعيد ,فقال : أعدها علي يا رسول الله ,فأعادها عليه ,ثم قال : ( وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ,ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ) قال : وما هي يا رسول الله؟ قال ( الجهاد في سبيل الله ,الجهاد في سبيل الله ,الجهاد في سبيل الله ) ( ).
قال صلى الله عليه وآله وسلم (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان ( ).
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ( القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين( ).
وعن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال(كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمي له عمله إلى يوم القيامة ،ويؤمن من فتنة القبر)وزاد ابن حيان في آخره باسناده عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ ، إِلَّا الْمُرَابِطَ فِي سَبِيلِ الله فَإِنَّهُ يُجْرَى لَهُ أجر عَمَلُهُ حَتَّى يُبْعَثَ)( ).
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (كل عمل ينقطع عن صاحبه إذا مات إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمي له عمله ،ويجري عليه رزقه إلى يوم القيامة.
عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال(أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت : مرابط في سبيل الله ، ومن عمل عملا أجري له مثل ما عمل، ورجل تصدق بصدقة فأجرها له ما جرت ورجل ترك ولدا صالحا يدعو فهو له ) ( ).
وعن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (رباط شهر خير من صيام دهر ، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أمنه من الفزع الأكبر ، وغدى عليه برزقه وريح من الجنة ، ويجري عليه أجر المرابط حتى يبعثه الله عز وجل)( ).
وعن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (كل عمل ينقطع عن صاحبه إذا مات إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمي له عمله ،ويجري عليه رزقه إلى يوم القيامة ) ( ).
وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ( من مات مرابطاً في سبيل الله أجري أجر عليه الصالح الذي كان يعمل ،وأجري عليه رزقه ،وأمن من الفتان ،وبعثه الله يوم القيامة آمناً من الفزع)( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال( والمرابط إذا مات في رباطه كتب له أجر عمله إلى يوم القيامة ،وغدي عليه وريح برزقه ، ويزوج سبعين حوراء ،وقيل له قف اشفع إلى أن يفرغ من الحساب) ( ).
وعن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (عينان لا تمسهما النار : عين بكت خشية من الله ،وعين باتت تحرس في سبيل الله)( ).
وعن أنس بن مالك قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( عينان لا تمسهما النار أبداً : عين باتت تكلأ في سبيل الله ،وعين بكت خشية من الله ) ( ).
وعن عثمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها , ويصام نهارها)( ).
عن عثمان بن عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل) ( ).
عن أبي أمامة قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية فقال (والذي نفس محمد بيده ,لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها , ولمقام أحدكم في الصف خير من صلواته ستين سنة ) ( ).
وفي الحديث شاهد بتسمية الكتيبة التي يخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية وليس غزوة .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( مقام أحدكم في سبيل الله خير من عبادة أحدكم في أهله ستين سنة ,أما تحبون أن يغفر الله لكم وتدخلون الجنة ,جاهدوا في سبيل الله ,من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة ) ( ) وقال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) .
وقد تقدم أن قتال المسلمين نوع دفاع لأنه مقيد بملاقاة الذين يقاتلون النبي يصلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
عن معاذ بن جبل انه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فقد وجبت له الجنة ،ومن جرح جرحا في سبيل الله ،أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت ،لونها الزعفران ،وريحها المسك ) ( ).
قال صلى الله عليه وآله وسلم (ثلاثة حق على الله تعالى عونهم، المجاهد في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف) ( ).
قال صلى الله عليه وآله وسلم ( ألا أخبركم بخير الناس ؟ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله ) ( ).
قال صلى الله عليه وآله وسلم ( ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة ) ( ).
عن المقدام بن معْدي كرب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( إن للشهيد عند الله سبع خصال : يُغفر له في أول دفعة .
ويُرى مقعده من الجنة ،ويجار من فتنة القبر .
ويأمن يوم الفزع الأكبر.
ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها .
ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ،ويشفع في سبعين من أقاربه ) وفي رواية أخرى ( للشهيد عند الله ست خصال ) ( )، وفي رواية (تسع خصال أو عشر خصال) ( ).
عن أنس بن مالك قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أجر المرابط.
فقال ( من رابط ليلة حارساً من وراء المسلمين ،كان له أجر من خلفـه ممن صـام وصلى) ( ) .
مسألة المنزلة بين المنزلتين
هذه المسألة من أقوال المعتزلة ، وهي مدرسة في علم الكلام نشأت في أواخر الدولة الأموية في مقابل فرقة الأشاعرة ، وقد لاقى المسلمون الأذى من الإختلاف بينهما .
والمعتزلة مذهب عقائدي وأصحابه ينتمون إلى مذاهب فقهية متعددة فمثلاً الزمخشري صاحب الكشاف معتزلي وهو حنفي وقيل هو زيدي .
وترتب مسألة المعتزلة عن مسألة كلامية في مسجد البصرة إذ جاء رجل إلى الحسن البصري( )، وسأله عن قوله بالإختلاف بخصوص أصحاب الكبائر ، فمنهم من يكفرهم وأن الكبيرة تخرج الإنسان عن الملة ، وهم وعيدية الخوراج ، وآخرون يرجئون صاحب الكبيرة لأنها عندهم لا تضر مع الإيمان ، فأطرق الحسن متفكراً وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء( )، وهو جالس في حلقته ، أن صاحب الكبيرة ليس مؤمناً مطلقاً ، ولا كافراً مطلقاً ، إنما هو منزلة بين المنزلتين ، فلا يصدق عليه أنه مؤمن ولا يصدق عليه أنه كافر ، وقام واعتزل في ناحية من المسجد ، وعند سارية من سواريه، واجتمع عليه جماعة ممن استحسن رأيه .
ليكون من أسباب تسمية المعتزلة وجوه :
الأول : قول الحسن البصري : إعتزَلنا واصلُ ، فسموا المعتزلة .
الثاني : قيام الحسن البصري بطرد واصل بن عطاء من مجلسه لما سمع كلامه بالمنزلة بين المنزلتين .
الثالث : إنضمام عمرو بن عبيد الى واصل بن عطاء وتركه مجلس الحسن البصري ، وقال القاضي عبد الجبار : هذا أصل تلقيب أهل العدل بالمعتزلة) وسمي المعتزلة بالعدلية لقولهم بالعدل الإلهي ، و(الموحدة) لقولهم لا قديم إلا الله ، والأصول التي يقول بها المعتزلة هي :
الأول : التوحيد ، وهو أن الله عز وجل منزه عن الشبيه والشرك ، وفي التنزيل [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] ( ) وهذا حق وصدق ، وقالوا أن الصفات ليست غير الذات وإلا لتعدد القدماء ، ولكن كون الصفات غير الذات لا يعني تعدد القدماء للتسليم بأن الصفة مرآة للذات والموصوف ، وحينما يوصف انسان بأنه عالم ومؤمن وكريم لا يعني تعدد الذوات ، ولنفيهم القدماء ، قالوا أن القرآن مخلوق لله سبحانه لنفيهم عنه تعالى صفة الكلام ، لتكون فتنة خلق القرآن فتنة كبرى لا موضوع أو سبب أو نفع لها ، ولكن ظاهر قولهم بالتوحيد كأصل لا خلاف فيه ، وقد يكون نفي الصفات ونحوه أموراً قال بها بعضهم .
الثاني : العدل.
الثالث : الوعد والوعيد .
الرابع : المنزلة بين المنزلتين .
أي أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر .
الخامس : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقولهم بالتوحيد لتنزيه الباري عن الشريك ، كما يقولون بأنه لا قديم إلا الله ، لذا جعلوا العدل أصلاً .
وقال بعض من خالفهم أن مرادهم من التوحيد نفي الصفات ، ومن العدل نفي القدر ، ومن الوعيد تكفير صاحب الكبيرة ، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الخروج على السلطان الجائر.
وقيل أن انتقال واصل بن عطاء من إسطوانة في المسجد إلى أخرى ليس علة تامة لتسمية فرقة كبيرة بهذا الاسم ، ولكنه أمر ممكن إذ أن هذه الفرقة نمت وازدهرت مع تقادم الأيام ، ووجود بعض الخلفاء من نصرهم مثل الخليفة العباسي المأمون والمعتصم ، وظهور مؤرخين لهم مثل القاضي عبد الجبار .
الرابع : إن واصل بن عطاء وأصحابه اعتزلوا قول الأمة في حكمهم على صاحب الكبيرة بأنها لا تخرج صاحبها من الإيمان ، ولا تدخله بالكفر ما دام غير مستحل لها ، قال تعالى [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا] ( ) .
وقال الخوارج أن مرتكب الكبيرة كافر يخلد في النار لأن ارتكابها فسق ، والفسق كفر ، واستدلوا ببعض الآيات منها قوله تعالى [وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] ( ) ونحوها من الآيات التي تلحق الفسق بالكفر ، أو تساوي بينهما في ظاهرها ، وكذا ببعض الأحاديث ، ولكن الآيات القرآنية تبين التباين بينهما ، وأن الفسوق أعم من الكفر ، وبينهما عموم وخصوص مطلق ، وكل كافر هو فاسق ، وليس العكس ، فالفاسق الذي يخرج عن الطاعة ، ويرتكب المعاصي ، أما الكافر فهو الجاحد بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، ولا يؤمن بالرسالة والتنزيل .
وقد ورد في ذم إبليس قوله تعالى [فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ] ( ) نعم قد يطلق الكفر على الفسق ، وهو دون الكفر الأكبر ، لأن الكفر على وجوه متعددة بينها تباين في الرتبة ، وفي موسى عليه السلام ورد في التنزيل [قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ] ( ) مع أنهم مسلمون ولكنهم قعدوا عن قتال القوم الكافرين وخاطبوا موسى عليه السلام [قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ] ( ).
ولكن هناك آيات عديدة تبين عدم الملازمة بين المعصية والكفر ، وأن المعصية لا تخرج المسلم عن الملة ، قال تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا]( )فسمى الفريقين بالمؤمنين ، ومن الشواهد أنهم جميعاً يحرصون على أداء الصلاة في أوقاتها ، ويسمع أفراد كل فريق منهم تلاوة الفريق الآخر للقرآن في جوف الليل بعد القتال في النهار .
ومراد المعتزلة من المنزلتين : منزلة الإيمان ومنزلة الكفر واحتجوا بقوله [أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا] ( ) وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)( ).
ولكن المراد بالفاسق على مراتب متعددة وهو من الكلي المشكك ، ويعرض المراد منه بلحاظ القرائن ، فتدل الآية أعلاه على تعدد مراتب الفسق ويكون تقديرها على وجوه :
الأول : أفمن كان مؤمناً كمن كان كافراً .
الثاني : أفمن كان مؤمناً يعمل الصالحات كمن كان فاسقاً يرتكب المعاصي .
الثالث : أفمن كان مؤمناً عالماً كمن كان فاسقاً جاهلاً ، وعن الإمام علي عليه السلام (لا خير في عبادة لا علم فيها ) ( ) .
الرابع : أفمن كان كافراً مؤمناً بالنبوة والتنزيل كمن كان فاسقاً جاحداً بالنبوة والتنزيل .
الكبائر
أي الذنوب الفاحشة والمعاصي ،وقد أختلف في تعريف الكبائر على وجهين :
الوجه الأول : حصر الكبائر في عدد مخصوص ، وفيه جهات :
الأولى : أنها واحدة لقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ) .
الثانية :عدد الكبائر اثنتان لما ورد في التنزيل في استفهام الملائكة وخطابهم لله عز وجل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، ليكون الفساد كبيرة وان تعددت أفراده كما تبينه السنة النبوية كما يخرج الكتاب والسنة بالتخصص القتل بالحق من المراد من سفك الدماء في الآية أعلاه.
الثالثة : الكبائر ثلاثة ، وعن أبي أيوب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من عبد الله لا يشرك به شيئاً ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، واجتنب الكبائر ، فله الجنة .
فسأله رجل ما الكبائر؟ قال : الشرك بالله ، وقتل نفس مسلمة ، والفرار يوم الزحف( ).
وعن عبد الله بن أنس قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس. والذي نفسي بيده لا يحلف أحد وإن كان على مثل جناح بعوضة إلا كانت وكنة في قلبه إلى يوم القيامة( ).
وعن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين ومنع فضول الماء بعد الري( )، وعن الإمام علي عليه السلام أنه سئل عن أكبر الكبائر فقال : الأمن لمكر الله ، والإياس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله( ).
الرابعة : أنها أربعة ، (عن أنس قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكبائر فقال : الشرك بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين ، وقال : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ، قول الزور أو شهادة الزور) ( ) .
الخامسة : الكبائر خمسة ، وورد عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الكبائر الإشراك بالله، واليمين الغموس، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس التي حرّم الله ، وقول الزور أو قال شهادة الزور( ).
السادسة : الكبائر سبعة ، وفيه نصوص عديدة مع اختلاف ببعض أفرادها , وعن أبي هريرة (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اجتنبوا السبع الموبقات . قالوا : وما هن يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) ( ).
السابعة : عدد الكبائر تسعة ، وعن (عن عمير الليثي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أولياء الله المصلون ، ومن يقيم الصلوات الخمس التي كتبها الله على عباده ، ومن يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه ، ومن يصوم رمضان يحتسب صومه ، ويجتنب الكبائر .
فقال رجل من الصحابة : يا رسول الله وكم الكبائر؟ قال : هن تسع : أعظمهن الإشراك بالله ، وقتل المؤمن بغير الحق ، والفرار يوم الزحف ، وقذف المحصنة ، والسحر ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، وعقوق الوالدين المسلمين ، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً) ( ).
الثامنة : الإجمال والتنكير قال تعالى [وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى] ( ) كما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم التحذير من فعل الكبائر بقوله ( اجتنبوا الكبائر ، وسسدوا وأبشروا).
التاسعة : الكبائر إحدى عشرة .
العاشرة : كثرة عدد وأصناف الكبائر , قول ابن عباس هن إلى السبعين أقرب منها إلى السبع .
عن طاووس قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن الله ، ما هن؟ قال: هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع( ).
وقد فتح الله عز وجل للمسلمين والناس جميعاً باب التوبة وهي كفارة للذنوب وباب لمحوها بفضل الله ، وجعل الله الصلاة نهراً مطهراً ، وكفارة لما قبلها الى جانب فضل الله عز وجل في الآخرة بالشفاعة و(عن أنس سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ألا إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، ثم تلا هذه الآية { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم . . . } الآية( ) .
وهل هذه الشفاعة من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، الجواب نعم .
لبيان أن أصحاب الكبائر ليسوا كفاراً ، وأن الله عز وجل يأذن لرسوله الكريم بالشفاعة لهم .
وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أكبر الكبائر الإشراك بالله ، وكان ابن عباس يعد الخمر أكبر الكبائر ، وتعددت النصوص بخصوص الكبائر ، ومنهم من لا يكتفي بالسبع الموبقات ويذكر أصنافها ومصاديقها ، إنما يجعل ضابطة لها لتدخل فيها مصاديق لإرادة الحيطة والحذر من السيئات والحوم حول الشبهات :
الوجه الثاني : عدم حصر الكبائر بعدد معين ،إنما يذكر لها حدّ وضابطة , وهي على جهات :
الأولى : الكبيرة كل معصية قرنت بها اللعنة أو الغضب أو السخط أو العذاب الحال أو الوعيد بالعذاب والنار ، وهل من العذاب الحال قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) الجواب نعم .
الثانية : كل ذنب أخبر الشارع عن الحد عليه وجاء الوعيد على فعله .
الثالثة : الكبائر هي التي أجمعت الشرائع السماوية على تحريمها ، وما كان محرماً في شريعة دون أخرى فهو صغيرة ، ويرد على هذا بأن الزواج من الأختين في آن واحد من الكبائر مع جوازه في الملل السماوية السابقة ، قال تعالى [وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ] ( ) وكذا بالنسبة للمحرمات من الرضاعة.
الرابعة : الملازمة بين المعصية والكبيرة ، فكل معصية هي كبيرة .
الخامسة : كل ذنب عن قصد وعمد هو من الكبائر لما فيه من الجرأة والتعدي على حدود الله .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ليس كبيرة بكبيرة مع الاستغفار ، وليس صغيرة بصغيرة مع الإصرار) ( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى [وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا]( )، قال : الإصرار أن يذنب العبد فلا يستغفر ولا يحدث نفسه بالتوبة ، فذلك الإصرار( ).
السادسة : (كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، حتى الطرفة وهي النظرة) عن ابن عباس ( ).
السابعة : عن عبد الله بن مسعود في الكبائر قال : افتحوا سورة النساء، وكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثون آية فهو كبيرة، ثم قال : مصداق ذلك {إِن تَجْتَنِبُوا كبائر مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ} الآية.) ( ).
الثامنة : كل الذنوب كبائر لأنها تجرأ وتعد على حدود الله ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( ) ويمكن تقسيمها إلى كبائر وصغائر بلحاظ التباين الرتبي بينها .
والحرمة دليل المنع ، نعم بين المنع والحرمة عموم وخصوص مطلق ، فكل حرمة هي منع ، وليس العكس .
وبيّن القاضي عبد الجبار وهو من شيوخ المعتزلة وممن أرخ ووثق أقوالهم معنى المنزلة بين المنزلتين بأن صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين ، وحكم بين الحكمين ، فهو لا يسمى مؤمناً ، ولا يسمى كافراً ، وإنما يسمى فاسقاً ، فلا يكون حكمه حكم المؤمن ولا حكم الكافر ، بل يفرد له حكم ثالث وهو المنزلة بين المنزلتين ، ولكن الإيمان اعتقاد قلبي واقرار وتسليم بالتوحيد والنبوة والتنزيل .
والكفر جحود وإنكار وشرك ، أما المعصية كالزنا وشرب الخمر فهو فعل جوارحي فلا يخرج المسلم عن الملة ، قال تعالى [قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] ( ) .
وبخلاف المعتزلة ذهب المرجئة إلى نوع تفريط إذ قالوا لا تضر المعصية مع الإيمان وأن مرتكب الكبيرة مؤمن على نحو الإطلاق ، وأنه يستحق المغفرة في الآخرة لإيمانه ، وقولهم هذا ليس بتام لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أنه قال: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ( ) .
وعن عبادة بن الصامت (قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجلس فقال: “تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم قرأ الآية التي أخذت على النساء { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }( )
فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه، فهو إلى الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه) ( ).
وقال بعض المرجئة لن يدخل النار أحد من أهل التوحيد ، وقالوا لا ينفع مع الكفر عمل صالح وطاعة .
ويلحق بهم الواقفة الذين يقولون : لا ندري هل يدخل من أهل التوحيد النار أحد أم لا ، وقيل ينسب هذا القول إلى طوائف من الشيعة والأشاعرة .
ولكن الواقفة في اصطلاح الشيعة هم الذين وقفوا على إمامة الإمام موسى بن جعفر ، وقالوا انه المهدي ، ولا أصل له لإشتهار موته ، وظهوره بشهادة (القضاة والشهود . ونودي عليه ببغداد على الجسر
وقيل : هذا الذي تزعم الرافضة أنه حي لا يموت مات ، حتف أنفه) ( ).
ويمكن انشاء باب خاص بأكبر الكبائر ، وهو على وجوه :
الأول : أكبر الكبائر الشرك بالله .
الثاني : شهادة الزور .
الثالث : الخمر ، لأن الذي يشرب الخمر يرتكب المعاصي وقد يزني ويقتل , والمختار هو الأول ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ]( ).
لقد أكرم الله عز وجل الأجيال المتعاقبة بأن نفخ سبحانه من روحه في آدم لتدب فيه الحياة ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) فان قلت مضمون الآية صريح بأن النفخ من روح الله كان بخصوص آدم عليه السلام ، وهذا صحيح ، ولكن ذات الروح وأثر النفخ موجود في خلوه وسنخية كل إنسان ذكراً أو أنثى وإن كان أثره في عالم الأفعال والهيمنة على الجوارح على مراتب متفاوتة ، ومن الثوابت فيه امران :
الأول : ميل النفس الإنسانية إلى النبوة ومفاهيم الصلاح ، ولا يختص هذا الميل بالذات ، بل ينبسط على الغير والذرية ، وفي دعاء إبراهيم ورد في التنزيل (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ) ( ) وفي دعاء زكريا ورد قوله تعالى [هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ] ( ) ليكون فيه ترغيباً للناس عامة بالدعاء لصلاح الذرية والأبناء ، وهو مقدمة ودعاء لمنع سفك الدماء والقتل .
الثاني : نفرة الناس وعلى نحو العموم الإستغراقي والمجموعي من سفك الدماء ، ولا عبرة بالقليل .
وكل من الأمرين أعلاه من مصاديق علم الله عز وجل في احتجاجه على الملائكة عندما [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ولما بعث الله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان الأمر الأول أعلاه مدداً وناصراً له ، والأمر الثاني حرزاً وواقية ، ويجتمعان بالرغبة العامة عند الناس بالتحلي بالإيمان ، ونبذ الكفر والضلالة ، ولكن رؤساء الكفر من قريش أصروا على محاربة النبوة من أجل بقائهم مستحوذين على أمور :
الأول : التجارة العامة في مكة .
الثاني : امتلاك القوافل التجارية بين مكة والشام ومكة واليمن ، والشام ومكة ، ومدن أخرى .
الثالث :تولي قيادة قوافل التجارة بأنفسهم فيحنما تسير السيارة في الفيافي والصحارى بين الشام ومكة مثلاً يصيبه الذهول من كون كل قطار من إبل التجارة ممن يقطعها يصل إلى ألف بعير كما في قافلة أبي سفيان التي وقعت بسببها معركة بدر .
وكان عدد الإبل في قافلة أمية بن خلف ألف وخمسمائة بعير ، ومعه من الرجال يومئذ مائة رجل ، والتي ورد ذكرها في كتيبة بواط في ربيع الأول من السنة الثامنة للهجرة .
ولو أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجمتها لخرج لها بالوقت المناسب للتعرض لها ، خاصة وأنه [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
وكذا قافلة أبي جهل في شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة ، ويمكن تصور كثرة الإبل بواسطة كثرة عدد رجال القافلة وهم ثلاثمائة رجل ، وقيل أن سرية حمزة بن عبد المطلب خرجت للتعرض لهذه القافلة ، ولم يثبت خاصة مع التباين في عدد الرجال ، وعدم وقوع قتال بين الفريقين فقد كان عدد أصحاب حمزة ثلاثين .
(قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مقامه ذلك حمزة بن عبدالمطلب بن هاشم إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكبا من المهاجرين، ليس فيهم من الانصار أحد، فلقى أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهنى، وكان موادعا للفريقين جميعا، فانصرف بعض القوم عن بعض ولم يكن بينهم قتال) ( ).
لقد بدأت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس بالدعوة إلى الله بالحجة والبرهان ، مع تجلي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر وتحمله وأهل بيته وأصحابه .
ومن الإعجاز في نبوته ملازمة الصبر لهم حتى مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وتدل عليه آيات كثيرة تأمر بالصبر وتدعو إليه وترّغب به وتبين عظيم ثوابه .
وعن سعد بن أبي وقاص (أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيّ الناس أشدّ بلاء فقال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل من الناس،
فيبتلى الرجل على حسب دينه،
فإن كان صلب الدين اشتدّ بلاؤه،
وإن كان في دينه رقّة فهي على حسب ذلك،
ولا يبرح البلاء عن العبد حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيّة) ( ).
فلا يقال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا في مكة صابرين وعندما كثر عددهم في المدينة وآخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار ، إختار القتال إذ تدل كل من معركة بدر وأحد والخندق على أن المشركين هم الذين يهجمون ويغزون يعدون في كل مرة على أمور :
الأول : إيذاء المسلمين والمسلمات وسقوط بعضهم شهداء تحت التعذيب .
الثاني : تجهيز الجيوش الكبيرة .
الثالث : التهديد والوعيد للمسلمين .
الرابع : الزحف نحو المسلمين للقتال .
الخامس : إرادة الغزو .
السادس : الإصرار على القتال .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن عاقبة هذه الأمور هي هزيمة الذين كفروا في ميدان القتال ولحوق الخزي والهوان بهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) ومن خصائص بعثة الأنبياء أنها حرب على الحرب وبرزخ دون القتال ، فان قلت قد يقاتل الأنبياء وأصحابهم كما في قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) والجواب من جهات :
الأولى : دلالة الآية أعلاه على عدم ملازمة القتال للنبوة ، إذ تبدأ الآية بصيغة التبعيض إذ أن [كَأَيِّنْ] اسم مركب من كان التشبيه (أي)التي تفيد معنى(كم) الخبرية ، وتكثير العدد ، ودخلت من بعده كما لو قلت كأين من ختمة للقرآن أكملت أي ختمت القرآن عدة مرات .
الثانية : بيان الآية لموضوع قتال الأنبياء وأصحابهم وأنه في سبيل الله وهو الغاية ، وقد نهى الله عز وجل عن التعدي والإعتداء ، وفي التنزيل [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
الثالثة : تلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الأذى والجراحات والقتل والخسارة في الأموال والأنفس إذ ذكرت الآية [ِمَا أَصَابَهُمْ] وهو أعم من الإصابة في ميدان المعركة ، ويتجلى بما لاقاه النبي محمد صلى اله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من الأذى سواء عندما كانوا في مكة أو بعد الهجرة ، وهل منه حصار قريش لبني هاشم بسبب تأييدهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته ، وعدم تخليهم عنه أو التخلية بينه وبين قريش ، الجواب نعم ، وهذا الحصار أصاب كلاً من :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : أهل البيت .
الثالث : المسلمون في مكة .
ولما رآى أبو طالب تعضيد بني هاشم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحربهم عليه صار يمدحهم ويبين مفاخر أفعالهم ، ويدعوهم للثبات على نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه ، وقال (
إذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ لِمَفْخَرٍ … فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرّهَا وَصَمِيمُهَا
وَإِنْ حَصَلَتْ أَشْرَافُ عَبْدِ مَنَافِهَا … فَفِي هَاشِمٍ أَشْرَافُهَا وَقَدِيمُهَا
وَإِنْ فَخَرَتْ يَوْمًا فَإِنّ مُحَمّدًا … هُوَ الْمُصْطَفَى مَنْ سِرّهَا وَكَرِيمُهَا
تَدَاعَتْ قُرَيْشٌ غَثّهَا وَسَمِينُهَا … عَلَيْنَا فَلَمْ تَظْفَرْ وَطَاشَتْ حُلُومُهَا
وَكُنّا قَدِيمًا لَا نُقِرّ ظُلَامَةً … إذَا مَا ثَنَوْا صُعْرَ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا
وَنَحْمِي حِمَاهَا كُلّ يَوْمٍ كَرِيهَةً … وَنَضْرِبُ عَنْ أَجْحَارِهَا مَنْ يَرُومُهَا
بِنَا انْتَعَشَ الْعُودُ الذّوَاءُ وَإِنّمَا … بِأَكْنَافِنَا تَنْدَى وَتَنْمَى أُرُومُهَا) ( ).
ومن الأضرار في هذا الحصار إتخاذ قريش له مقدمة لإيذاء وتعذيب مسلمي ومسلمات مكة خصوصاً المستضعفين منهم ، كما في تعذيبهم لكل من :
الأول : بلال بن رباح الحبشي ، وكان أبوه من سبي الحبشة ، وكذا أمه حمامة سبية أيضاً وكنيته أبو عبدد الله ، وكان لأمية بن خلف الجمحي ، ولما علم باسلامه صار يلقيه في رمضاء مكة إذا حميت الشمس وقت الظهيرة مرة على وجهه وأخرى على ظهرة ثم يأمر بصخرة كبيرة توضع على صدره .
(ذكر محمد بن إسحاق قال: كان بلال لبعض بني جمح وهو بلال بن رباح واسم أمه حمامة، وكان صادق الإسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد.
وقال محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه قال: مرّ به أبو بكر يومًا وهم يصنعون به ذلك، وكانت دار أبي بكر في بني جمح، فقال لأمية ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين؟ قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، قال أبو بكر: أفعل! عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك، أعطيك؟ قال: قد فعلت فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذه فأعتقه) ( ).
لتمر الأيام فيتم فتح مكة ، ويصعد بلال ليصدح صوته بالأذان وهو واقف فوق الكعبة معلناً بدء أشراقة جديدة على الأرض تستمر إلى يوم القيامة ، وهو من معاني [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( ).
الثاني : آل ياسر وهم ياسر وزوجته سمية وولده عمار وهم من أوائل الأسر التي أسلمت بأكملها فلاقوا شتى صنوف الأذى من بني مخزوم من قريش الذين قاموا بقتل سمية .
(كنتُ مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم آخِذاً بيدِي بالبَطْحاء فأتى على أبيه وأمه وعليه وهم يُعَذَّبون، فقال أبُوه: يا رسول الله أكُل الدهْرِ هكذا، قال: قال: اصبرْ يَاسِرُ: اللهم اغْفِر لآل يَاسر، وقد فعلت)( ).
الثالث : خبّاب بضم الخاء وتشديد الباء بن الأرث التميمي ، وقد اسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم .
وهو من المستضعفين ، إذ سُبي من تميم وهو صغير ليباع في مكة فاشترته أم أغار الخزاعية وهي من حلفاء بني زهرة من قريش ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجالسه ويتلطف معه وكان خبّاب يمتهن صناعة السيوف ، وكان يكد ويسعى لجلب المال لها ، ولكنها عندما علمت باسلامه صارت تأخذ الحديدة المحماة فتضعها على رأسه ، وكان الكفار يسلقونه بالنار ثم يطرحونه أرضاً ويعتلي رجل على صدره ، فشكا خبّاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال الشعبي (إن خبابًا صبر ولم يعط الكفار ما سألوه، فجعلوا يلزقون ظهره بالرضف حتى ذهب لحم ظهره) ( ) والرضف هي الحجارة المحماة ، فشكا خبّاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يلاقيه من مولاته أم أنمار (اللهم انصر خباباً ” ، فاشتكت مولاته أم أنمار رأسها، فكانت تعوي مثل الكلاب، فقيل لها: اكتوى، فكان خباب يأخذ الحديدة المحماة فيكوي بها رأسها) ( ).
ومع شدة العذاب الذي كان يلاقيه خبّاب عن كفار قريش فانه ثبت على منهاج الإيمان ، ولم يعطهم ما سألوا .
ويروي خبّاب بعد الهجرة كيف أنه صنع يوما سيقاّ للعاص بن وائل السهمي ، وذهب له ليأخذ ثمنه ، فقال العاص وهو والد عمرو بن العاص (لن أقضيك حتى تكفر بمحمد قال فقلت له لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث قال إني لمبعوث من بعد الموت فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد قال فنزل فيه أفرأيتم الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا إلى قوله فردا) ( ).
ولم يقف إيذاء وتعذيب كفار قريش للمستضعفين من المسلمين، بل صارت قريش تحرض القبائل والبطون على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتمنع وتؤذي كل قبيلة من فيها من المسلمين (قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين أسلموا معه.
فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم) ( ).
لقد كان المشركون يعيرون المسلمين على ترك دين آبائهم ويسالونهم أسئلة انكارية عن اتباعهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من نسخ ونقض لدين الآباء وفي التنزيل [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ] ( ).
بعد أن صدر بفضل الله الجزء الخامس والسبعون بعد المائة في تفسير الآية (177) من آل عمران وهو قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) صدر الجزء السابق وهو السادس والسبعون بعد المائة بفيض ولطف من الله .
ويتضمن قراءة في آيتين من القرآن بما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يسعى إلى الغزو ولم يقصده ولم يدع إليه ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
وجاء هذا الجزء الذي بين أيديكم في ذات المنهاج الكاشف عن حقائق نبوية ، ومباني عقائدية تبعث السكينة في نفوس الناس جميعاً بخصوص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتبين بالآيات القرآنية والوثائق والأخبار والثأر .
ويتضمن هذا الجزء قراءة وبياناً في وقائع وكتائب خرج بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سرايا من أصحابه بعثها حول المدينة .
والجامع المشترك بينهما أنها لم تكن بقصد الهجوم والغزو ، انما بعثه الله عز وجل بتلقي آيات القرآن ودعوة الناس لتلاوتها وشكر الله عز وجل على تفضيله بتنزيلها والعمل بما فيها من الأوامر والنواهي وسنن الآداب الحميدة ، ومكارم الأخلاق والسعي للخلود في النعيم في الدار الآخرة ، قال تعالى [وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا] ( ) .
(عن أبي بكر الصديق قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أحب أن يسمع الله دعوته ، ويفرج كربته في الآخرة ، فلينظر معسراً أو ليدع له ، ومن سره أن يظله الله من فور جهنم يوم القيامة ، ويجعله في ظله فلا يكونن على المؤمنين غليظاً ، وليكن بهم رحيماً) ( ).
والكتائب السرايا التي يتضمن هذا الجزء قراءة فيها هي :
الأولى :توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني سليم.
الثانية : كتيبة السويق.
الثالثة : سريد زيد بن حارثة إلى القردة.
الرابعة : سرية محمد بن سلمة إلى كعب بن الأشرف.
بحث أخلاقي
لقد جعل الله عز وجل سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة لآيات القرآن والتي جاءت بالفضائل وحسن السمت وتضمنت الزجر عن القبائح والسيئات ، فكانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية مصداقاً لقوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) ، وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : وأنك على خلق عظيم بما أوصيناه إليك .
الثاني : وأنك لعلى خلق عظيم لعلمك حسب آيات وأحكام القرآن .
الثالث : وانك لعل خلق عظيم بفضل من الله .
الرابع : وأنك لعلى خلق عظيم لتكون أسوة للناس ، وقال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
الخامس : وانك لعلى خلق عظيم في حال السلم والحرب .
السادس : وأنك لعلى خلق عظيم فلا تبدأ قتالاً .
السابع : وأنك لعلى خلق عظيم وأدب رفيع .
الثامن : وأنك لعلى خلق عظيم مع نسائك وعنه صلى الله عليه وآله وسلم (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ، وأنا خَيْرُكُم لأهْلي) ( ).
التاسع : وأنك لعلى خلق عظيم مع أهل البيت ومنه عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ).
العاشر : وأنك لعلى خلق كريم مع أصحابك من المهاجرين والأنصار ، فقد كان حسن السمت الذين ينصف به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مانعاً من وقوع الخلاف والخصومة بين كل من :
الأول : المهاجرون والأنصار .
الثاني : المهاجرون فيما بينهم .
الثالث : الأنصار من الأوس والخزرج فيما بينهم .
الرابع : دفع أسباب الفتن الشخصية والتي يسعى المنافقون لإثارتها .
ان حسن خلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للصلاح وبرزخ دون الخصومة (عن أنس : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أحسن الناس خلقا) ( ) .
وعن أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب (ما رأيت أحدا أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لقد رأيته وقد ركب بي من خيبر على عجز ناقته ليلا ، فجعلت أنعس فيضرب رأسي مؤخرة الرحل ، فيمسني بيده ، ويقول : يا هذه ، مهلا . يا بنت حيي ، مهلا ، حتى إذا جاء الصهباء قال : أما إني أعتذر إليك يا صفية مما صنعت بقومك ، إنهم قالوا لي كذا ، وقالوا لي كذا) ( ).
وتتجلى مكارم الأخلاق في حال المنعة والقوة ، وفي ميدان المعركة ، وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتجنب الإبتداء بقتال المشركين حتى مع ضمان إحراز النصر ، وكان يعفو ويغفر في حال السلم والحرب .
وكانت مناداته بكلمة التوحيد متصلة ومتجددة (عن عائشة قالت: كنت قاعدة اغزل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخصف( ) نعله فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولد نورا فبهت فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال مالك يا عائشة بهت قلت جعل جبينك يعرق وجعل عرقك يتولد نورا ولو راك أبو كبير الهذلي لعلم انك احق بشعره .
قال وما يقول أبو كبير قالت قلت يقول –
ومبرأ من كل غبر حيضة وفساد مرضعة وداء مغيل
فإذا نظرت إلى اسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل) ( ) .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتصف بالخلق الحميد ، وكان يحكم بالعدل بين الناس ، وهذا الحكم من الخلق الحميد وباعث للطمأنينة في النفوس ، وزاجر من التعدي والظلم .
ومنها في باب السنة الدفاعية :
أولاً : قتل الله عز وجل للمشركين الذين يقاتلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
ثانياً : رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحفنة من تراب بكفه على جيش المشركين وقوله (شاهت الوجوه)( )، وبلوغ ذراتها لوجوه وعيون ومناخر أفراد جيش المشركين ، وهو مصداق قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) .
ثالثاً : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان مع كون الجولة للذين كفروا ، وانسحاب أكثر أصحابه عنه في معركة أحد .
رابعاً : النصر للإسلام في كل معركة يدخلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشركي قريش .
خامساً : إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الغزو والنهب .
سادساً : فك كثير من الأسرى من غير عوض أو بدل .
سابعاً : إخلاص أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين يحيطون به .
ثامناً : تشريع صلاة الخوف .
تاسعاً : المدد من الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برزخ من الغزو من الطرفين ، إذ يمتنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن الغزو لأن الله عز وجل يكفيهم ويجتنب الذين كفروا الغزو لأن الله عز وجل يقتلهم إذا غزوا ، قال تعالى [وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا] ( ).
عاشراً : قلة عدد قتلى المسلمين في معارك الإسلام ، إذ قال الله تعالى [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ] ( ) لبيان كفاية الله للمؤمنين , ودفع أذى المعتدين عنهم .
ولو لم يقتل الله المشركين لفتكوا بالمسلمين .
الحادي عشر : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد وحنين ليكون الإمام في طاعة الله عز وجل بقوله [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ] .
أسرى بدر وقانون دخول أكثرهم الإسلام
لقد خرج جيش قريش من مكة قبل معركة بدر بأيام وهم ينوون إنقاذ قافلة أبي سفيان بعد أن بعث رسولاً لقريش يخبرهم بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يريدون التعرض للقافلة ، وسارعوا في الإستعداد للخروج ، ولم يبق أحد منهم إلا وقد خرج أو أرسل بديلاً عنه بدفع المال له أو أسقاط دَين عليه .
وسارت قريش بزهو وخيلاء وهم يعلمون أن أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أقل منهم عدداً وعدة ، وأنهم لم يخرجوا من المدينة بقصد القتال والمناجاة بخلاف قريش التي استعدت لهذا اللقاء ، وهو من الأسباب التي أغرت قريش على القتال يوم بدر.
وعندما وصل جيش قريش إلى الجحفة والتي تبعد عن مكة 204 كم جاءهم رسول من أبي سفيان يخبرهم بأمور :
الأول : أحراز نجاة القافلة ، وأنها صارت قريبة من مكة ودخول الحرم ، ولم يطاردها المسلمون .
الثاني : انتفاء علة خروج جيش قريش هو لمنع عيرهم ورجالهم وأموالهم وقد نجّاها الله( ) .
الثالث : طلب أبي سفيان من جيش قريش الرجوع إلى مكة ، وعدم الإستمرار بالمسير .
ولكن أبا جهل بن هشام أصر على الوصول إلى ماء بدر والإقامة فيه ثلاثاً . فتسمع بهم العرب فتهابهم ، فهذا الجمع العظيم يجب ألا يعود بسرعة من غير أن يحقق أمراً ورجع بعض أفراد الجيش منهم عدد من بني هاشم ، وعاد بنو زهرة بمشورة من الأخنس بن شريق.
ولما رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً قد أقبلت ، وهو يعلم حنقهم وغيظهم ، ورغبتهم في قتاله ، لجأ إلى الدعاء وتوجه إلى الله عز وجل مستجيراً فقال (اللهم هذه قريش قد اقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك .
اللهم فنصرك الذى وعدتني اللهم احنهم الغداة( ).
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما رآى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له احمر ان يك في احد من القوم خير فعند صاحب الجمل الاحمر ان يطيعوه يرشدوا) ( ).
وفيه شاهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد القتال وأن ترك كفار قريش القتال رشاد واختيار للصواب , ولما امتنعوا عن الإنصات لعتبة نزلت بهم أمور :
الأول : قتل صناديق قريش ، ومنهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة ، أي قتل الذي كان أكثرهم أصراراً على القتال ، والذي يدعو إلى ترك القتال .
الثاني : الهزيمة النكراء لقريش .
الثالث : لحوق الخزي بقريش .
الرابع : تجلي معجزات حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : نزول آيات قرآنية توثق هذا النصر لتبقى شاهداً سماوياً إلى يوم القيامة .
وجاءت في عدة سور من القرآن وهي :
الأولى : سورة آل عمران ، ومنها قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) ومنها [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ]( ) قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ).
الثانية : سورة النساء كما في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا* إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً] ( ) .
(عن ابن عباس : أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيأتي السهم يرمي به ، فيصيب أحدهم فيقتله ، أو يضرب فيقتل . فأنزل الله { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم })( ).
الثالثة : سورة الأنفال حتى قال ابن عباس أن هذه السورة نزلت في بدر.
وعن سعيد بن جبير قال ، قلت (عن أبي أمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال؟ فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أخلاقنا ، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين عن براءة ، يقول : عن سواء) ( ).
ومن الإعجاز أن ذات السورة ابتدأت بآية الأنفال ، وسميت باسمها لقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ] ( ) .
ونزلت آيات سورة الأنفال أثناء وبعد معركة بدر , وتبين كيفية القتال وبعض الثغرات التي يجب تداركها ، وأن تكون الغاية في الدفاع قصد القربة وطلب مرضاة الله ، قال تعالى [كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
ليأمن الناس من جيوش الإسلام ، ويرجون ظهوره ومع الأمن يأتي الإستقرار والتكاثر والإزدهار التجاري , وعمارة المدن والقرى والأسواق وحسن المعاملة بين الناس .
وتبين سورة الأنفال قانوناً وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يرغبوا بالقتال ، ولم يستعدوا له ولم يطلبوه ، إنما كانوا يكرهون وقوعه ، قال تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ) .
وكان بعض الصحابة يجادل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص القتال لأنهم لم يستعدوا له ،وأخبر الله في سورة الأنفال عن نزول ألف من الملائكة لنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر بعد دعائهم واستغاثتهم بقوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
وبينت آية الأنفال قانوناً وهو أن فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر أعم من أن يختص بنزول الملائكة إنما آوى الله المسلمين إليه وأمدهم بالنصر وجعله مقدمة لأبواب من الخير ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
ونزلت في معركة بدر آية الخمس من سورة الأنفال ، وتفضل الله عز وجل وجمع بين مسألة الخمس ونزول آيات القرآن يوم بدر ، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) .
الرابعة : سورة إبراهيم ومنها قوله تعالى [أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ] ( ) .
(وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن أبي حسين قال : قام علي بن أبي طالب عليه السلام فقال : ألا أحد يسألني عن القرآن؟
فوالله لو أعلم اليوم أحداً أعلم به مني ، وإن كان من وراء البحور لأتيته . فقام عبد الله بن الكواء فقال : مَنْ { الذين بدلوا نعمة الله كفراً }( ) قال : هم مشركوا قريش ، أتتهم نعمة الله الايمان فبدلوا قومهم دار البوار)( ).
ولم يرد لفظ [الْبَوَارِ] في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان أن قريشاً أضروا بأنفسهم وقومهم أكثر من غيرهم من المشركين وأهل الضلالة .
الخامسة : سورة الحج ، إذ ورد في هذه السورة بخصوص معركة بدر قوله تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ] ( ).
وفي موضوع نزول الآية ورد (عن قيس بن عبادة قال: سمعت أبا ذر يُقْسم قَسَما أن هذه الآية( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ) ( ) نزلت في الذين بارزوا يوم بدر: حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة، قال: وقال علىّ: إني لأوّل، أو من أوّل من يجثو للخصومة يوم القيامة بين يدي الله تبارك وتعالى) ( ).
نعم المدار في الآية القرآنية على عموم المعنى وليس سبب النزول وحده ، لتكون معركة بدر مرآة وقاعدة البيان في ماهية القتال بين المسلمين والمشركين ، وفيه دعوة للناس للتفقه في الأمور والفصل بين الحق والباطل ، والإمتناع عن نصرة كفار قريش ، كما تبعث الآية على التنزه من النفاق .
وقد تقدمت قراءة في الآية أعلاه تبين أنها حجة بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الحق , ولم يسعوا للقتال أو الهجوم أو الغزو .
ونزلت الآية أعلاه بخصوص معركة بدر وورد (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في قبة يوم بدر اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد هذا اليوم أبداً فأخذ ابو بكر بيده .
فقال : حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك فخرج وهو في الدرع وهو يقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر { بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر }( ) فصدق الله وعده وهزمهم يوم بدر) ( ).
وذكر أن قوله تعالى [سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ] ( ) نزلت في مكة قبل الهجرة (فقال عمر بن الخطاب: أي جمع يهزم.
وذلك قبل بدر – فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش ، نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آثارهم مصلتاً بالسيف ويقول : { سيهزم الجمع ويولون الدبر }( ) فكانت بيوم بدر ، فأنزل الله فيهم { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب }( ) الآية) ( ).
السابعة : سورة المجادلة اذ نزل قوله تعالى [لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) .
ومن أسباب نزول الآية أعلاه قتل أبي عبيدة عامر بن عبد الله الجراح لأبيه يوم بدر ، إذ كان والده يتصدى له يوم بدر ، فيحيد عنه أبو عبيدة ، ولكنه أكثر قصده فقتله .
ترى لماذا جاء موضوع وقصة معركة بدر موزعاً في عدة سور من القرآن ولم ينحصر في سورة واحدة ، الجواب إنه من إعجاز القرآن وفيه مسائل :
الأولى : بيان موضوعية واقعة بدر في تأريخ الإسلام وتثبيت أحكام الحلال والحرام .
الثانية : دعوة المسلمين لاستحضار وقائع معركة بدر ، وكيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا في حال دفاع .
الثالثة : التداخل في أثر ونفع الوقائع والأحداث أيام النبوة .
الرابعة : بعث المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة النصر في معركة بدر .
الخامسة : من خصائص السورة القرآنية تعدد نعم اختصاص سورة يوسف بالوقائع الخاصة بقصته ، لبيان إعجاز القرآن في مجئ بعض السور في موضوع خاص مع طولها ، كما في سورة يوسف ، ومع هذا فهي تشمل البيان والمواعظ والسنن وكذا كل سورة من القرآن .
أسرى بدر وترجمة بعض من أسلموا منهم
لقد بغى كفار قريش بمحاربتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار , وحينما وقع سبعون من المشركين في الأسر يوم بدر تلّقاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم باللطف والكرم .
من بني هاشم أربعة نفر، وهم:
الأول : العباس بن عبد المطلب .
الثاني : عقيل بن أبي طالب أخو علي بن أبي طالب.
الثالث : نوفل بن الحارث بن عبد المطلب .
الرابع : رجل اسمه عتبة حليف لهم -.
ومن بني المطلب بن عبد مناف خمسة نفر، وهم:
الخامس : السائب بن عبيد بن عبد يزيد .
السادس : نعمان بن عمرو بن علقمة بن المطلب.
السابع : عقيل بن عمرو حليف لهم.
الثامن : أخوه تميم حليف لهم .
التاسع : ابن لتميم، لا يعرف اسمه حليف لهم .
ومن بني عبد شمس بن عبد مناف تسعة نفر، وهم:
العاشر : عمرو بن أبي سفيان بن حرب.
الحادي عشر : الحارث بن أبي وجزة.
الثاني عشر : أبو العاص بن الربيع .
الثالث عشر : أبو العاص بن نوفل بن عبد شمس.
الرابع عشر : أبو ريشة بن عمرو حليف لهم.
الخامس عشر : عمرو بن الأزرق حليف لهم.
السادس عشر : عقبة بن عبد الحارث بن الحضرمي حليف لهم.
السابع عشر : خالد بن أسيد بن أبي العيص.
الثامن عشر : أبو العريض، يسار مولى العاص بن أمية -.
ومن بني نوفل بن عبد مناف أربعة نفر، وهم:
التاسع عشر: عدي بن الخيار بن عدي بن نوفل.
العشرون : عثمان بن عبد شمس ابن أخي غزوان بن جابر – حليف لهم من بني مازن بن منصور -.
الحادي والعشرون : أبو ثور حليف لهم -.
الثاني والعشرون : نبهان مولى لهم :
ومن بني عبد الدار بن قصي، ثلاثة نفر، وهم:
الثالث والعشرون : أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير
الرابع والعشرون : الأسود بن عامر حليف لهم.
الخامس والعشرون : عقيل رجل من اليمن حليف لهم.
ومن بني أسد بن عبد العزى أربعة نفر، وهو:
السادس والعشرون : السائب بن أبي جيش بن المطلب بن أسد.
السابع والعشرون : الحويرث بن عباد بن عثمان بن أسد.
الثامن والعشرون : سالم بن شماخ حليف لهم.
التاسع والعشرون : عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث.
ومن بني مخزوم بن يقظة عشرة نفر، وهو:
الثلاثون: خالد بن هشام بن المغيرة.
الحادي والثلاثون: أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة.
الثاني والثلاثون : عثمان بن عبد الله بن المغيرة.
الثالث والثلاثون : أبو المنذر بن أبي رفاعة.
الرابع والثلاثون : أبو عطاء عبد الله بن أبي السائب.
الخامس والثلاثون : المطلب بن حنطب بن الحارث.
السادس والثلاثون : خالد بن الأعلم حليف لهم وهو الذي كان أول من فرّ منهزماً من المعركة، مع أنه صاحب البيت المشهور الذي يضرب به المثل للثبات :
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومُنا…. ولكن على أقدامنا يتقطر الدم( ).
ومع أنه قتل عدداً من المسلمين يوم بدر فان المسلمين اكتفوا بأسره إذ قتل زيد بن حرام الأنصاري الأسلمي الذي آخر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين عبيدة بن الحارث( )، فقتلا يوم بدر شهيد بن كما قتل عمير بن الحمام ( )، ولكن خالد بن الأعلم العقيلي قتل يوم أحد كافراً( ).
السابع والثلاثون : الوليد بن الوليد بن المغيرة أخو خالد بن الوليد.
الثامن والثلاثون : صيفي بن أبي رفاعة بن عابد.
التاسع والثلاثون : قيس بن السائب.
ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص خمسة نفر، وهم:
الأربعون : أبو وداعة بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم.
الحادي والأربعون: وفرة بن قيس بن عدي بن حذافة بن سعد بن سهم.
الثاني والأربعون : حنظلة بن قبيصة بن حذافة بن سعيد بن سهم.
الثالث والأربعون : الحجاج بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم.
الرابع والأربعون : رجل اسمه أسلم مولى نبيه الحجاج.
ومن بني جمح بن عمرو بن هصيص أحد عشر رجلاً وهم:
الخامس والأربعون : عبد الله بن أبي خلف بن وهب.
السادس والأربعون : أبو عزة – عمرو بن عبد الله بن عثمان بن وهيب.
السابع والأربعون : الفاكهة – مولى أمية بن خلف -.
الثامن والأربعون : وهب بن عمير.
التاسع والأربعون : ربيعة بن دراج بن العنبس بن أهبان بن وهب.
الخمسون : عمرو بن أبي بن خلف.
الحادي والخمسون : أبو رهم بن عبد الله حليف لهم -.
الثاني والخمسون : رجل حليف لهم .
الثالث والخمسون : نسطاس مولى لأمية بن خلف -.
الرابع والخمسون : مولى آخر لأمية بن خلف لا يعرف اسمه.
الخامس والخمسون : أبو رافع غلام أمية بن خلف -.
ومن بني عامر بن لؤي خمسة نفر، وهم:
السادس والخمسون : سهيل بن عمرو أسره مالك بن الدُّخْشُم.
السابع والخمسون : عبد بن زمعة بن قيس.
الثامن والخمسون : عبد الرحمن بن منشوء بن وقدان.
التاسع والخمسون : حبيب بن جابر.
الستون :السائب بن مالك.
ومن بني الحارث بن فهر أربعة نفر، وهم:
الحادي والستون : الطفيل بن أبي قنيع.
الثاني والستون : عتبة بن عمرو بن جحدم.
الثالث والستون : شافع رجل من اليمن حليف لهم -.
الرابع والستون : شفيع رجل أيضاً من اليمن حليف لهم.
وأدناه ترجمة لبعض كبار الأسرى وكيف أنهم أدركتهم التوبة وأسلموا , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ):
الأول : العباس بن عبد المطلب الهاشمي القرشي ، ويكنى أبا الفضل ، وهو عم النبي محمد صلى الله عليه (أمه نثيلة أم الربيع ، وقيل : نثلة بنت حباب بن كليب بن مالك بن عمرو بن زيد مناة ، وقال القاسم بن معن : اسمها نثيلة بنت كليب بن مالك بن حباب بن حطائط بن النمر بن قاسط ، وقيل : إن أمه نتيلة بنت جناب بن كليب بن مالك بن عبد مناف بن عمرو بن عامر بن زيد مناة بن عامر بن سعد بن الخزرج بن تيم اللات بن النمر بن قاسط بن أفصى بن جذيلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان( ).
ولد العباس في مكة قبل عام الفيل بثلاث سنين ، وهو أسن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث سنين ، وكانت له السقاية .
إذ كانت لقريش في الجاهلية مناصب ومراسم تقاسموها بينهم للشرف والمفاخرة لتحصيل التوازن ، وتقديم الخدمات لوفد الحاج ، وترغيب الناس بالحج والعمرة ، وتعاهد سلامتهم وأمنهم ، وهذه المناصب طوعية لا يأخذون عليها أجراً ومن أهمها :
الأول : السقاية والرفادة لبني عبد مناف ، والمراد من الرفادة اعانة الحجاج المعوزين بالمال ليعودوا لأهليهم وديارهم .
الثاني : الندوة والحجابة واللواء لبني عبد الدار .
الثالث : الإيسار أي تولية أقداح الأصنام للأستقسام ، وكان في بني جمع ، قال تعالى [وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ] ( ) وقال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
فاذا أراد الفرد أو الجماعة منهم أمراً أو سفراً عمد إلى الأزلام وهي أقداح ثلاثة مكتوب على أحدها : أمرني .
وعلى الآخر إنهني .
أما الثالث فهو محلل وخال من الأمر أو النهي .
ثم يجيلونها بما يشبه القرعة ، فاذا خرج الذي عليه أمرني مضوا لأمرهم، وإن خرج الذي عليه إنهني كفوا ، أما اذا خرج الثالث المحلل فأنهم يعيدونها.
(عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لن يلج الدرجات العلى من تكهَّن ، أو استقسم ، أو رجع من سفر تطيراً) ( ).
والضرب بهذه القداح خاص بالرجال فاذا أرادت المرأة أمراً أو حاجة فلا تضرب بالقداح .
الرابع : الشورى , وهي لبني أسد إذ يلجأون إليهم في المهمات والملمات للمشورة .
الخامس : الديات والمغارم وكانت لبني تيم .
السادس : الحكومة والقضاء والأموال المحجرة لبني سهم .
السابع : العقاب ولواء الحرب لبني أمية إذ كانوا إذا حمى الوطيس أخرجوا العقاب وكان صاحبها يسير أمام الركب في الأسفار للقتال .
الثامن : القبة وأعنة الجيش ونظم العسكر في معركة بدر .
التاسع : السفارة لبني عدي ، فاذا وقعت بين قريش وغيرهم من القبائل حرب وأرادوا المفاوضات والصلح بعثوا سفيراً ، وان نافرتهم بعض القبائل لمفاخرة ، جعلوا السفير منافراً.
ونشأ العباس في بيت أبيه عبد المطلب ، وهو أصغر أعمام النبي
إذ ولد لعبد المطلب اثنا عشر رجلاً منهم العباس وست نسوة ، وكان العباس من تجار مكة ، وكان من بني هاشم الذين حضروا دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل البيت في السنة الثالثة للبعثة النبوية عندما نزل قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ) .
فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام أن يصنع لهم طعاماً ولبناً ليعرض عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام ، وكان عددهم نحو أربعين رجلاً .
وكان العباس يذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحضر بيعة العقبة الثانية التي التقى بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار ، مع أن العباس لم يسلم يومئذ .
وكان العباس أبيض جميلاً ، له ظفيرتان معتدل القامة ، ويقال معتدل القناة أي أنه طويل حسن الإنتصاب (عن أبي رزين قَال : سئل العباس : أنت أكبر أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قَال : هو أكبر مني ، وأنا ولدت قبله.
حَدَّثَنَا عبيد الله بن موسى وعبد الله بن رجاء عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة عن علي قَال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر : انظروا من استطعتم أن تأسروا من بني عبد المطلب فإنما أخرجوا كرها) ( )( ).
والعباس جدّ خلفاء الدولة العباسية الذين حكموا العالم الإسلامي لمدة خمسة قرون متوالية (132-656)هجرية 750-1258 ميلادية .
وعندما خرجت قريش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر أخرجوا معهم بني هاشم ومنهم العباس خاصة وأن له تجارة مع الشام ليقع اسيراً بأيدي المسلمين ، وأختلف في تأريخ اسلام العباس على وجوه :
الأول : أسلم في أول البعثة النبوية .
الثاني : أسلم ليلة هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة أي قبل معركة بدر بنحو سنتين .
الثالث : أسلم قبل معركة بدر وإليه يذهب ابن الأثير .
الرابع : أسلم قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وكتم اسلامه إلى أن أسر ببدر فأظهر اسلامه( ) .
الخامس : أسلم العباس ليلة الغار ( ).
السادس : أسلم بعد وقوعه في الأسر يوم بدر .
السابع : أسلم بعد رجوعه إلى مكة بعد فكاكه من الأسر في معركة بدر.
الثامن : أسلم بعد رجوعه إلى مكة بعد فكاكه من الأسر في معركة بدر بمدة مديدة.
التاسع : أسلم أيام فتح خيبر ، وقد أسلمت زوجته أم الفضل قبله ، ولعل القول بتقدم زمان اسلامه بسبب الولاء والتقرب إلى العباسيين في أيامهم .
(قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبدالله بن معبد، عن بعض أهله، عن عبدالله ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لاصحابه يومئذ ” إنى قد عرفت أن رجالا من بنى هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا.
فمن لقى منكم أحدا من بنى هاشم فلا يقتله، ومن لقى أبا البخترى بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبدالمطلب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يقتله، فإنه إنما خرج مستكرها( ).
ولا يدل الخروج عن كره على دخول الإسلام , ومن الناس من لم يستجب لدعوة المشركين للخروج إلى بدر حتى مع الالحاح .
وعن محمد بن إسحاق قال : قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للعباس بن عبد المطلب حين انتهي به إلى المدينة: يا عباس أفد نفسك وابن أخيك عقيل بن أبي طالب , ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمرو
أخا بني الحارث بن فهر فإنك ذو مال .
قال: يا رسول الله إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني. قال: الله اعلم بإسلامك إن يك ما تذكر حقا فالله يجزيك به، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافد نفسك. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أخذ منه عشرين أوقية من ذهب .
فقال العباس: يا رسول الله، احسبها لي من فداي. قال: لا، ذاك شيء أعطاناه الله منك، قال: فإنه ليس لي مال، قال: فأين المال الذي وضعت بمكة حين خرجت عند أم الفضل بنت الحارث ليس معكما أحد ثم قلت لها إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا ولعبد الله كذا وكذا؟ قال: والذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيري وغيرها وأني لأعلم انك رسول الله .
ففدى العباس نفسه وابن أخيه وحليفه( ).
وكانت للعباس السقاية وعمارة البيت , والعمارة تعاهد بناء المسجد الحرام ، ، والدعوة إلى عمارته في الخير وأن لا يقول فيه أحد هجراً وكان للعباس فيها أعوان .
ولما أسر العباس شدّ المسلمون وثاقه ، فكان يأن بما يجعل رسول الله يسمع أنينه ، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفك وثاقه من بين الأسرى الآخرين ، ولكنه لم يستطع النوم تلك الليلة , إلى أن فكوا وثاقه .
وتوفى العباس في السنة السادسة من أيام عثمان بن عفان .قال (عبد الله بن إبراهيم القرشي قال: لما نزل بالعباس بن عبد المطلب الموت قال لابنه : يا عبد الله، اني والله ما متُّ موتاً ولكنني فنيت فناء، وإني موصيك بحب الله وحب طاعته، وخوف الله وخوف معصيته، فإنك إذا كنت كذلك لم تكره الموت متى أتاك. وإن استودعتك الله يا بني، ثم استقبل القبلة فقال: لا إله إلا الله ثم شخص ببصره فمات.
وعن عبد الرحمن بن يزيد بن حارثة قال: جاءنا مؤذن يؤذنا بموت العباس بن عبد المطلب بقباء على حمار، ثم جاءنا آخر على حمار فقلت: ما الأول؟ قال: مولى لبني هاشم، والثاني رسول عثمان بن عفان، فاستقبل قرى الأنصار قرية قرية حتى انتهى إلى السافلة: بني حارث وما والاها، فحشد الناس فما غادرنا النساء… فلما أُتي به إلى موضع الجنائز تضايق فتقدموا به إلى البقيع، فلقد رأيتنا يوم صلينا عليه بالبقيع وما رأت مثل ذلك الخروج على أحد من الناس قط، وما يستطيع أحد من الناس أن يدنو إلى سريره، وغلب عليه بنو هاشم.
فلما انتهوا إلى اللحد ازدحموا عليه فأرى عثمان اعتزل وبعث الشرطة يضربون الناس عن بني هاشم حتى خلص بنو هاشم، فكانوا هم الذين نزلوا في حفرته ودلّوه في اللحد، ولقد رأيت على سريره بُرْدَ حِبَرةٍ قد تقطع من زحامهم) ( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ منه عشرين أوقية من الذهب (فقال العباس يا رسول الله احسبها لي من فداي قال لا ذاك شيء أعطاناه الله منك قال فإنه ليس لي مال قال فأين المال الذي وضعت بمكة حين خرجت عند أم الفضل بنت الحارث ليس معكما أحد ثم قلت لها ان أصبت في سفري هذا فللفضل كذا وكذا ولعبد الله كذا وكذا قال والذي بعثك بالحق ما علم بهذا أحد غيري وغيرها واني لاعلم انك رسول الله ففدى العباس نفسه وابن أخيه وحليفه) ( ).
ورجع العباس إلى مكة وبعث بفدائه وفداء عقيل ثمانين أوقية من الذهب ويقال ألف دينار ، ولم يبعث بفداء حليفه فدعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسان بن ثابت وأخبره ، فلما عاد الرسول إلى العباس وأخبره بادر إلى إرسال فداء حليفه.
وتمر الأيام ويتم فتح مكة وينتقل العباس في سكناه إلى المدينة ، ويبعث العلاء بن الحضرمي من البحرين بثمانين ألف (ولم يأت قبله ولا بعده أكثر منه) ( ) فأمر النبي بهذا المال الكثير فنشر على حصير ونودي بالصلاة ليحضر المسلمون ويرون المال فضلاً من عند الله.
فقال العباس : يا رسول الله أني أعطيت فداي وفداء عقيل بن أبي طالب يوم بدر ، وليس لعقيل يومئذ مال ، فأعطني من هذا المال ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : خذ فحثا العباس في خميصه( ) يوم كانت عليه ، ولما أراد أن ينهض لم يستطع ، فوقع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ارفع لي : فتبسم رسول الله وقال : أعد في المال طائفة وقم بما تطيق ، فانطلق بالمال (أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزنا، وما ندري ما يصنع في الأخرى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى }( ) الآية، ثم قال: هذا خير مما أخذ منا، ولا أدري ما يصنع الله في الأخرى فما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مائلا على ذلك المال، حتى ما بقي منه درهم، وما بعث إلى أهله بدرهم، ثم أتى الصلاة فصلى) ( ).
وعندما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معركة بدر لم يقم في المدينة إلا سبع ليال ، وخرج بنفسه يريد بني سليم كما عن ابن اسحاق( ).
وكان خروجه من المدينة في الثاني من شهر شوال من السنة الثانية للهجرة الموافق لسنة 624 م ومعه مائتان من الصحابة وحمل اللواء الإمام علي بن أبي طالب واستخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري ، وقيل ابن أم مكتوم .
لقد حلت الغبطة بين المسلمين ومن يميل إلى الحق والهدى بنصر النبي وأصحابه في معركة بدر وأصاب الغيظ الذين كفروا وأدركت بعض القبائل الموالية لقريش والتي تقوم بالنهب والسلب أن الإسلام سيستأصل هذه العادات المذمومة ، وينشر لواء السلام والأمن في الجزيرة فصاروا يعدون العدة لغزو المدينة بمعاونة قبيلة غطفان ، وتحريض وامداد بالأموال من قريش ، وصاروا يعدون العدة لغزو المدينة ومباغتة المسلمين ، كما لو أرادوا الإغارة عليها وقت السحر .
وتقع ديار بني سليم بين مكة والمدينة على طريق التجارة بين مكة والشام وهي للمدينة أقرب ، فلابد من الإحتراز منهم ، ومنع مداهمتهم لها ولأطرافها.
وهذا الإحتراز من عمومات قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ولم تمر الأيام حتى تم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ، وكان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعمائة من بني سليم ،ويقول بعضهم الف ، كما عن ابن اسحاق( ).
فبلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مكرهم وما يعدون له فبادر إلى الخروج إليهم والوصول إلى ديارهم ليقطع عليهم كيدهم ، ويمنع من تجهزهم لغزو المدينة ، ووصل إلى قرقرة الكدر وهي ديارهم ، وفيها ماء لهم يسمى (الكُدر) لأن به طيراً في الوانها كدرة ، وحينما سمع بنو سليم بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فروا إلى رؤوس الجبال متفرقين .
فأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المحل ثلاث ليال ، وأرسل أصحابه حول المكان ليتأكد من عدم وجود كمين ورصد ، فلم يجدوا أحداً ، ووجدوا خمسمائة بعير قد تركها بنو سليم فساقوها ، وقسمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه ليكون نصيب كل واحد منهم بعيرين بعد إخراج خمس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما ورد في قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) وأصابوا عبداً اسمه يسار فبادر إلى الإسلام ، ولما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي أعتقه .
ولم يلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الكتيبة قتالاً ، وفيها مسائل :
الأولى : بيان شاهد ومصداق جلي لقانون (لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً) فيسمى هذا الخروج من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه غزوة بني سليم ، وليس فيها غزو أو قتال .
الثانية : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتيبة مع أصحابه إلى بني سليم لمنع الغزو والقتال ، فما يسمى اصطلاحاً غزوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو دفع للغزو ، وصرف له ، وفيه سلامة لعامة أهل المدينة من المسلمين واليهود والمنافقين والكفار ، وهذه السلامة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
الثالثة : توجيه رسالة إنذار للقبائل بعدم الإنجرار خلف قريش في معاداتها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
إن الفصل بين رؤساء الكفر من قريش وعامة الناس مناسبة لأمور :
أولاً : إدراك رؤساء الكفر لقلة الناصر ، والنقص في الأتباع .
ثانياً : التباعد بين أوقات المعارك فيتهيأ كفار قريش للقتال ، ولكنهم يعجزون عن جمع الأتباع وأفراد الجيش .
ثالثاً : تدبر الناس بمعجزات النبوة وإنصاتهم لآيات القرآن ، وتلقي أخبار المسلمين وإجتماع المهاجرين والأنصار فيها ، ودلالتها على صدق النبوة ، وفي التنزيل [وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ *وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
رابعاً : التخفيف عن المسلمين والمسلمات بالوهن الذي يصيب الذين كفروا , والتناقص في وعيدهم للمسلمين .
خامساً : دخول طائفة من الناس في الإسلام .
لقد نزل قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً] ( ) أوان فتح مكة في السنة الثامنة ، وقد كان الناس قبله يدخلون الإسلام فراداً وجماعات في مدة البعثة النبوية قبل وبعد الهجرة .
لقد أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في قرقرة الكدر ثلاثة أيام , وفيه مسائل :
الأولى : بيان منفعة المسلمين .
الثانية : إبلاغ القبائل بعدم التعدي على حرمات الإسلام .
الثالثة : التأكد من تفرق جمع الذين كفروا من بني سليم ، وهل منه حرمانهم من الورود إلى الماء ، الجواب لا دليل عليه خاصة مع احتمال وجود ماء آخر يستقون منه.
الثاني : عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي وهو أسن من الإمام علي عليه السلام بعشرين سنة ، وأسن من جعفر الطيار بعشر سنين ، ولعقيل أولاد هم :
الأول : يزيد ، وبه كان يكنى .
الثاني : سعيد .
الثالث : جعفر الأكبر .
الرابع : أبو سعيد الأحول .
الخامس : مسلم بن عقيل وأمه أم ولد ، يقال لها : حلية ،وهو الذي أرسله الإمام الحسين عليه السلام من مكة إلى الكوفة ليأخذ له البيعة ، فنزل على هانئ بن عروة المرادي ، فقتلهما ابن زياد ظلماً وجوراً سنة 61 للهجرة : قال الشاعر :
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري … إلى هانئ في السوق وابن عقيل
ترى جسدا قد غير الموت لونه … ونضح دم قد سأل كل مسيل( ).
السادس : عبدالله بن عقيل .
السابع : عبد الرحمن بن عقيل .
الثامن : عبدالله الأصغر.
التاسع : علي بن عقيل .
العاشر : جعفر الأصغر .
الحادي عشر : حمزة .
الثاني عشر : عثمان .
الثالث عشر : محمد .
ومن البنات رملة وأم هانئ وأسماء وفاطمة وأم القاسم وزينب وأم النعمان.
وفي رواية اسحاق بن الفضل عن أشياخه قال : قال عقيل بن أبي طالب للنبي صلى الله عليه و سلم من قتلت من أشرافهم أنحن فيهم قال قتل أبو جهل فقال الآن قد صفا لك الوادي) ( ) .
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل له أني قتلت ، ولم ينسب القتل له إنما ذكر قتل أبي جهل بصيغة المبني للمجهول للدلالة على أن الله هو الذي قتله ، وفي التنزيل[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر انظروا من ههنا من أهل بيتى من بنى هاشم قال فجاء علي بن أبى طالب عليه السلام فنظر إلى العباس ونوفل وعقيل ثم رجع .
فناداه عقيل : يا ابن أم علي , أما والله لقد رأيتنا فجاء علي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فقال يا رسول الله رأيت العباس ونوفلا وعقيلا فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قام على رأس عقيل فقال أبا يزيد قتل أبو جهل قال ، إذا لا تنازع في تهامة إن كنت أثخنت القوم وإلا فاركب أكتافهم ( ).
وبقي عقيل في مكة ، وخرج في السنة الثامنة مهاجراً الى المدينة ، وشهد غزوة مؤتة ثم عرض له مرض .
وكان عقيل يكثر من بيع الدور التي تحت يده (خرج عبد الملك بن عمير، هو ورجل من أهل الكوفة يريدان شراء دار عقيل بن أبي طالب فدخلا مسجد المدينة، وانطلق صاحب عبد الملك ليضع عنه ثياب السفر وأقبل عبد الملك في ثيابه حتى جلس إلى عقيل، فقال: من أنت ؟
قال: من أهل الكوفة , قال عقيل : أتعرف داراً لنا بها ؟
قال: نعم: أتبيعها ؟ قال: نعم. قال: بكم ؟
قال: بعشرة آلاف، فصفق على يديه، فهي دار عبد الملك بن عمير، وما زالت لولده حتى باعوها) ( ).
أي ان عبد الملك سبق صاحبه إلى عقيل ، ولم يتأن عقيل في البيع أو يطلب منه ثمناً باهضاً ، فعجل عبد الملك بالشراء ،وتولى عبد الملك هذا قضاء الكوفة .
ومن حسن الخلق الذي يتحلى به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه يوم الفتح لم يسترجع منزله الذي باعه عقيل بن أبي طالب بغير حق كما باع منازل أخوته من الرجال والنساء .
و(عن أسامة بن زيد، أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله أين تنزل غدا ؟ فقال: ” وهل ترك لنا عقيل من رباع) ( ) ، وفي رواية وهل ترك لنا عقيل منزلاً ، وقيل له : يا رسول الله فانزل في بعض بيوت مكة غير منزلك فأبى ، وقال : لا أدخل البيوت ، وظل مضطرباً بالحجون لم يقم في بيت .
وكان يأتي المسجد الحرام كل صلاة من الحجون ، وفيه مواساة لأفراد جيشه إذ كان عددهم عشرة آلاف ، فلا يقول بعضهم أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيوت مكة وعند أهله وتركنا في العراء ، وفي التنزيل [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( )
وذكر أن عقيلاً أصاب خاتماً يوم مؤته ، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنفله إياه فكان في يده( ) .
(عن أبي إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعقيل بن أبي طالب يا أبا يزيد إني أحبك حبين حبا لقرابتك وحبا لما كنت أعلم من حب عمي إياك) ( ) وأصيب عقيل في أخر أيامه بالعمى .
توفى عقيل أيام معاوية في سنة خمسين للهجرة في المدينة المنورة وعمره ست وتسعون سنة ودفن في بقيع الغرقد.
الثالث : نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ويكنى أبا الحارث وهو أسن من أسلم من بني هاشم ، أي أكبر في العمر من عمه حمزة والعباس ، وأكبر من أخوته ربيعة ، وابي سفيان وعبد شمس بني الحارث .
عن الإمام علي عليه السلام (فأسرنا من بني عبد المطلب العباس وعقيل ونوفل بن الحارث) ( ).
ولما أسر نوفل يوم بدر قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أفد نفسك يا نوفل ، قال : ما لي شئ أفدي به نفسي يا رسول الله ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أفد نفسك برماحك التي بجدة .
قال : أشهد أنك رسول الله أي أنه لا يعلم بها أحد ، ففدى نفسه بها وكانت ألف رمح .
وقيل أن (قدوم العباس بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة كان أيام الخندق وشيعهما ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب في مخرجهما الى الأبواء ثم أراد الرجوع الى مكة فقال له عمه العباس وأخوه نوفل بن الحارث أين ترجع الى دار الشرك يقاتلون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويكذبونه وقد عز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكثف اصحابه امض معنا فسار ربيعة معهما حتى قدموا الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسلمين مهاجرين) ( ).
وآخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهما واقطنهما في المدينة في موضع واحد بالقرب من المسجد النبوي ، وفرع بينهما بحائط فكانا متجاورين ، وكانا شريكين في الجاهلية في المال .
وشهد نوفل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكة وحنين والطائف ، وهو من ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين ، وكان عن يمينه ، وأعان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ بثلاثة آلاف رمح .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كأني أنظر إلى رمحك تقصف أصلاب المشركين ( ).
وتوفى نوفل بن الحارث سنة أربع عشرة للهجرة .
الرابع : السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف ، وكان السائب صاحب راية بني هاشم في جيش المشركين يوم بدر والذي أسر السائب بوم بدر هو سلمة بن أسلم من الأنصاري كما قام بأسر النعمان بن عمرو ، ثم أسلم السائب .
الخامس : عمرو بن أبي سفيان أسر يوم بدر وهو أخو معاوية بن أبي سفيان ، ولما طلب من الأسرى دفع العوض لفكاكهم من الأسر قيل لأبي سفيان (أفد عمراً .فأبى واستكبر ، وقال أيجمع علي دمي ومالي قتلوا ولدي حنظلة وأفدي عمرا ، دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم ).
وكان ولده الآخر أبو حذيفة مؤمناً مهاجراً قاتل إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر واسر عمرو .
وبينما عمرو بن أبي سفيان محجوز في المدينة خرج سعد بن النعمان بن أكال أخو بني عمرو بن عوف معتمراً وكان شيخاً كبيراً مسلماً ، وكانت قريش لا تعترض حاجاً أو معتمراً إلا بخير ، ولكن أبا سفيان عدا عليه وحبسه في مكة بابنه عمرو ، وقال شعراً :
(أرهط ابن أكال أجيبوا دعاءه … تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا.
فإن بني عمرو لئام أذلة … لئن لم يكفوا عن أسيرهم الكبلا) ( ).
فمشى بنو عوف إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأخبروه الخبر وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان ، فيفكوا شيخهم , فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودفع لهم عمرو بن أبي سفيان فخلوا عن سعد.
ثم أسلم عمرو وسار مع أبيه إلى معاوية في إمارته على الشام أيام عمر بن الخطاب وبلغ الخبر هنداً وقيل قد طلقها أبو سفيان وهو بعيد ، نعم كانت قبله تحت فاكه بن المغيرة وطلقها بعد قصة , ونصحت هند معاوية أن لا يدفع لهما مالاً كثيراً فيؤاخذه الناس ويحاسبه عمر ، فدفع لكل واحد منها مائة دينار ، فقال أبو سفيان لم تغب هند عن هذا الأمر , وتوفت هند بنت عتبة بن ربيعة في السنة الرابعة عشرة للهجرة في ذات اليوم الذي توفى فيه أبو قحافة .
السادس : أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس ، وهو زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان تاجراً وذا أمانة ، وكانت خديجة زوج النبي صلى الله عليه وآله تعده بمنزلة ولدها ، وهي التي أشارت بزواجه من زينب ، وعندما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآمنت برسالته خديجة وبناته .
وطلبت قريش من أبي العاص أن يفارق زينب ويزوجوه أي امرأة يريد من قريش فابى عليهم ، وعندما وقع أبو العاص في الأسر وبعث أهل مكة بالعوض عن أسراهم بعثت زينب بقلادة لها كانت خديجة وهبتها لها ليلة عرسها .
وعن عائشة قالت : (فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رق لها رقة شديدة , وقال إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذى لها فافعلوا .
فقالوا نعم يا رسول الله فأطلقوه وردوا عليها الذى لها وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ عليه أو أنه وعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخلى سبيل زينب إليه أو كان فيما شرط عليه في اطلاقه ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيعلم ما هو إلا أنه لما خرج أبو العاص إلى مكة وخلى سبيله بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الانصار فقال كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتياني بها فخرجا مكانهما وذلك بعد بدر بشهر أو شيعه( ) فلما قدم أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها فخرجت تجهز) ( ).
ولبث أبو العاص في مكة كافراً حتى خرج إلى الشام قبل الفتح في تجارة ، وكان الناس يأمنونه على أموالهم .
وعندما أقبل قافلاً من الشام لقيته سرية للمسلمين ، فأصابوا ما معه ، فهرب منهم فاقبل أبو العاص تحت الليل ، فدخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستجار بها .
فلما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى صلاة الصبح نادت زينب من صفة النساء : أيها الناس قد أجرت أبا العاص بن الربيع .
فلما فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة أقبل على المصلين (أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا نعم؛ قال: أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء مما كان حتى سمعت منه ما سمعتم، إنه يجير على الناس أدناهم .
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على زينب فقال: أي بنية، أكرمي مثواه، ولا يقربنك فإنك لا تحلين له ولا يحل لك. وقيل: إن زينب قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن أبا العاص إن قرب فابن عم، وإن بعد فأبو ولد، وإني قد أجرته. فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس: رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم زينب ابنته على أبي العاص على النكاح الأول بعد ست سنين) ( ).
لقد كان وقوع عدد من رجالات قريش في الأسر موعظة ومناسبة لدخولهم الإسلام وصيروتهم دعاة لنشر الإسلام طوعاً وقهراً ، إذ كانوا يبينون للناس الأخلاق الحميدة التي صار عليها المسلمون ، وهو من عمومات ورشحات قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
ويرون حرص المسلمين على أداء الصلاة في أوقاتها اليومية الخمسة بشوق وإيمان راسخ ، يستقرأ منه عزمهم على الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
فان قلت لم تثن هذه الحال والبيان قريشاً عن الهجوم بعد ثلاثة عشر شهراً من معركة بدر ، ويسيرون إلى مشارف المدينة ، فتقع معركة أحد ، الجواب لوقوع سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً من قريش في معركة بدر أثر بالغ في تردد وتواني قريش عن الهجوم على المدينة من جهات :
الأولى : بينما تجهزت قريش لمعركة بدر في ثلاثة أيام فأنهم احتاجوا سنة كاملة ليتجهزوا لمعركة أحد .
الثانية : ثقل وقع الهزيمة على كفار قريش في معركة بدر .
الثالثة : صدود الناس عن نصرة كفار قريش بعد خسارتهم في معركة بدر ، مع رجحان الأسباب مع الكثرة في الرجال والسلاح يومئذ إلى كفتهم.
الرابعة : حاجة قريش لاسترداد وفكاك أسرى بدر والذي أخذ نحو مدة سنة .
الخامسة : إصابة الذين كفروا بالخوف والفزع والخشية من ملاقاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ميدان المعركة ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
السادسة : الحزن الذي تغشى أهل مكة بعد فقد سبعين قتيلاً منهم ، وبعضهم من رؤسائهم وكانوا يتولون شؤون المسجد الحرام ، ويسيّرون القوافل .
السابعة : بلوغ كفار قريش استعداد المسلمين للقائهم من غير خوف أو خشية ، وعصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة من الخوف من لقاء الذين كفروا من مصاديق القوة في قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] ( ) .
السابع : سهيل بن عمرو( ) أحد أبرز خطباء قريش ، وكنيته أو زيد ، وأمه حبّى بنت قيس الخزاعية ويسمى ذا الأنياب ، وهو من أشراف قريش ، وكان أعلم الشقة .
أي أن شفته العليا مشقوقة( ) ، أما مشقوق الشفة السفلى فهو أفلح.
(وكان عنترة بن شداد العبسي الفارس المشهور أفلح، فكان يقال له الفلحاء لفلحة كانت به، وإنما ذهبوا به إلى تأنيث الشفة والله أعلم) ( ).
ولسهيل بن عمرو بن اسمه حاطب بن عمرو اسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم ، وهاجر إلى الحبشة الهجرتين وقيل (هو أول من قدم أرض الحبشة في الهجرة الأولى) ( ).
وكذا سكران بن عمرو أخو سهيل لأمه وأبيه فقد هاجر إلى الحبشة مع زوجته سودة بنت زمعة ومات هناك ليتزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، (وقال ابن اسحق والواقدي: رجع السكران إلى مكّة فمات بِهَا قبل الهجرة إلى المدينة، وخَلَفَ رسولً الله صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى زوجته سَوْدَة( ).
وابنته سهلة بنت سهيل بن عمرو اسلمت بمكة ، وهاجرت إلى الحبشة في الهجرة الأولى مع زوجها أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وولدت له في الحبشة محمد بن أبي حذيفة ، وروت سهلة عن النبي حديث رضاع الكبير والخاص بها .
وابن سهيل بن عمرو هو أبو جندل المؤمن الذي رده أبوه في قيوده يوم الحديبية إلى مكة ، والذي استشهد هو وأبوه سهيل بن عمرو فيما بعد بطاعون عمواس بمرج الصفر سنة ثمان عشرة للهجرة.
وابنه الآخر عبد الله بن سهيل اسلم قبل الهجرة ، وفي يوم فتح مكة خشي سهيل بن عمرو على نفسه لشدة إيذائه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالخطابة والفعل ، فارسل إلى ابنه عبد الله هذا ليستأمن له من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فآمنه وأسلم يومها سهيل بن عمرو وهو من المؤلفة قلوبهم ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ليلة قربه من مكة (إن بمكة لأربعة نفر من قريش أربأ بهم عن الشرك، وأرغب لهم في الإسلام.
قيل: ومن هم يا رسول الله ؟ قال: عتاب بن أسيد، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو) ( ).
ويمكن إنشاء علم مستقل لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاص باسلام الأفراد أو الجماعات تتجلى فيه دلالات باهرات على صدق نبوته .
وعندما جاء رسول الله أبي سفيان إلى مكة يستقرأ قريشاً بعدها ، قام سهيل بن عمرو خطيباً يحض الناس على الخروج ، ويذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسوء إذ قال : (يال غالب، أتاركون أنتم محمد والصباة من أهل يثرب يأخذون عيرانكم وأموالكم؟! من أراد مالاً فهذا مال، ومن أراد قوة فهذه قوة، فقال في ذلك أمية بن أبي الصلت: من الكامل
أأبا يزيد رأيت سيبك واسعاً … وسجال كفك تستهل وتمطر
بسطت يداك بفضل عرفك والذي … يعطي يسارع في العلاء فيظفر
فوصلت قومك واتخذت صنيعة … فيهم تعد وذو الصنيعة يشكر
ونمى ببيتك في المكارم والعلا … يابن الكرام فروع مجد تزخر
وجحاجح بيض الوجوه أعزة … غر كأنهم نجوم تزهر
إن التكرم والندى عامر … أخواك ما سلكت لحج عزور) ( ).
وقوع سهيل في الأسر
مع أن سهيلاً كان خطيباً فصيحاً فهو محارب ، قاتل في صفوف المشركين يوم بدر ، ورماه سعد بن أبي وقاص بسهم فقطع نساه ( ) فاتبع سعد أثر الدم إلى أن وجد سهيل بن عمرو وقد أخذه مالك بن الدخشم ، وهو قابض على ناصيته للإعلان عن كونه أسيره.
قال سعد (أسيري أخذته فأتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذه منهما جميعاً) ( ).
وفيه تخفيف عن سهيل ومقدمة للتيسير بخصوصه ، ولكنه حينما وصل الروحاء ، إبتعد بذريعة طلب الخلاء ، فافلت من مالك بن الدخشم الذي صاح في الناس ، فصاروا يطلبونه ، فوجده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه بين سمرات أي شجيرات ، فجاء به وأمر بربط يديه إلى عنقه ، وقرّبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى راحلته ، ولم يركب سهيل خطوة حتى قدم المدينة .
مع أن الأسرى جاءوا إلى المدينة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيوم ( ) ولم تربط أياديهم .
وخرج المسلمون الذين في المدينة لإستقبال النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ناقته القصواء يهنئونه بالظفر ويعتذرون اليه بأنهم لا يعلمون بأن قتالاً سيقع إنما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة ، إذ استصحبوا خروجه وأصحابه في كل مرة ، وعودتهم من غير قتال ، ولم ترد أخبار من مكة إلى المدينة بأن قريشاً خرجت لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم تجهزوا في ثلاثة أيام فلم يتيسر للركبان نقل الخبر غلى المدينة .
تلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسامة بن زيد فحمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين يديه ، ونظر اسامة إلى سهيل وهو مجنوب( ) ويداه إلى عنقه ، فقال أسامة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الإستفهام لما رآى من حاله : يا رسول الله أبو زيد ؟!
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : نعم هذا الذي كان يطعم بمكة الخبز ، ولم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سهيلاً على إيذائه له ، وتحريضه الناس عليه وعلى أصحابه ، ولكن لأنه هرب وفّر وهو في الأسر ، فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم باحضاره معه سلامته , والمحافظة عليه .
ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدخله معه إلى بيته .
وعن ابن اسحاق قال (قُدِمَ بِالْأُسَارَى حِينَ قُدِمَ بِهِمْ وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمَعَةَ زَوْجُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عِنْدَ آلِ عَفْرَاءَ ، فِي مَنَاحَتِهِمْ عَلَى عَوْفٍ وَمُعَوّذٍ ابْنَيْ عَفْرَاءَ ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِنّ الْحِجَابُ . قَالَ تَقُولُ سَوْدَةُ وَاَللّهِ إنّي لَعِنْدَهُمْ إذْ أُتِينَا .
فَقِيلَ هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى ، قَدْ أُتِيَ بِهِمْ .
قَالَتْ فَرَجَعْت إلَى بَيْتِي ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِيهِ وَإِذَا أَبُو يَزِيدَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي نَاحِيَةِ الْحُجْرَةِ مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ.
قَالَتْ فَلَا وَاَللّهِ مَا مَلَكْتُ نَفْسِي حِينَ رَأَيْت أَبَا يَزِيدَ كَذَلِكَ أَنْ قُلْت : أَيْ أَبَا يَزِيدَ أَعْطَيْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ أَلَا مُتّمْ كِرَامًا ، فَوَاَللّهِ مَا أَنْبَهَنِي إلّا قَوْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِنْ الْبَيْتِ يَا سَوْدَةُ أَعَلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ تُحَرّضِينَ.
قَالَتْ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ مَا مَلَكْتُ نَفْسِي حِينَ رَأَيْتُ أَبَا يَزِيدَ مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ أَنْ قُلْت مَا قُلْت) ( ).
لقد أدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم سهيلاً معه إلى بيته وهو نوع إكرام له ، وإشارة إلى منزلته وشأنه ، ودعوة للمسلمين لعدم إيذائه والأسرى ، وهل هو من مصاديق [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا] ( ) الجواب نعم ، وان كانت الآية أعلاه نزلت بعد معركة بدر ، وهل فيه أمارة على أنه يحسن إسلامه ، الجواب نعم .
وبدل أن يتعظ سهيل بن عمرو من أسلام وابنائه وأخيه وينصت للبراهين وتنجذب نفسه إلى كلمة التوحيد التي تتقوم بها الحياة الإنسانية في الأرض ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) فانه أظهر الحنق والعداوة للإسلام والنبوة ، فخرج في معركة بدر وكان مع المشركين وكان خطيباً مفوهاً وفصيحاً ، فوقع اسيراً بيد المسلمين يوم بدر .
والذي أسر سهيل بن عمرو الدخشم هو مالك بن :
أسرت سهيلاَ فلن أبتغي … أسيراً به من جميع الأمم
وخندف تعلم أن الفتى … سهيلاً فتاها إذا تصطلم
ضربت بذي الشفر حتى انثنى … وأكرهت سيفي على ذي العلم) ( ).
وعن سهيل بن عمرو قال: لقد رأيت يوم بدر رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون.) ( ).
وذات الرؤية حدثت لأحد مسلمي الفتح وهو إلى جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين ، وهو شيبة بن عثمان قال (خرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين والله ما خرجت إسلاما ولكن خرجت إتقاء ان تظهر هوازن على قريش فوالله إني لواقف مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قلت يا نبي الله إني لأرى خيلا بلقا قال يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر قال فضرب بيده صدري .
فقال اللهم اهد شيبة ففعل ذلك ثلاثا فما رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده عن صدري الثالثة حتى ما اجد من خلق الله احب) ( ).
وبعثت قريش سهيل بن عمرو ليجري عقد الصلح في الحديبية مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شهر ذي القعدة من السنة السادسة .
وقال حويطب (خرجت قريش من مكة، وكنت فيمن تخلف بمكة أنا وسهيل بن عمرو، لأن يخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مضى الوقت وهو ثلاث، فلما انقضت الثلاث.
أقبلت أنا وسهيل بن عمرو فقلنا: قد مضى شرطك فاخرج من بلدنا، فصاح: يا بلال، لا تغيب الشمس وأحد من المسلمين بمكة ممن قدم معنا)( ).
لبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يفي بالوعد حتى للمشركين الذين هم ليسوا أولياء للمسجد الحرام .
وعن عمر بن ميمون عن أبيه أنه كان لبلال أخ ينسب نفسه إلى العرب ويقول أنه منهم .
وخطب امرأة من العرب ، فقال أهلها : إن حضر بلال زوجناك فذهب ، إليه وأخبره بأن زواجه متعلق بحضوره .
فجاء بلال وقال لهم : أنا بلال بن رباح ، وهذا أخي وهو أمرؤ سوء في الخلق وان شئتم أن تزوجوه فزوجوه ، وإن شئتم أن تدعوا فدعوا ، فقالوا كلمة خالدة : من تكن أخاه نزوجه فزوجوه ) ( ).
وعن أم وبرة بنت الحارث قالت (جئنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة، وهو نازل بالأبطح، وقد ضربت عليه قبة حمراء، فبايعناه واشترط علينا، قالت: فنحن كذلك، إذ أقبل سهيل بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي كأنه جمل أورق، فلقيه خالد بن رباح أخو بلال بن رباح، وذلك بعد ما طلعت الشمس.
فقال: ما منعك أن تعجل الغدو على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا النفاق، والذي بعثه بالحق، لولا شيء لضربت بهذا السيف فلحتك، وكان رجلاً أعلم أي مشقوق الشفة العليا .
فانطلق سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ألا ترى ما يقول لي هذا العبيد ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعه، فعسى أن يكون خيراً منك، فالتمسه فلا تجده. وكانت هذه أشد عليه من الأولى)( ).
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد على صدق نبوته مراتب حياة خطيب قريش سهيل بن عمرو وهي :
الأول : دخول أخ وابناء سهيل بن عمرو في الإسلام ، ومنهم ابنته سهلة .
الثاني : إصرار سهيل بن عمرو على الكفر .
الثالث : إتخاذ سهيل بن عمرو من فصاحته وخطابته آلة ووسيلة لمحاربة الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتحريض عليه .
الرابع : هجرة أخ وأبناء سهيل بن عمرو إلى الحبشة .
الخامس : خروج سهيل بن عمرو في جيش المشركين إلى معركة بدر .
السادس : وقوع سهيل بن عمرو في الأسر يوم بدر ثم فكاكه قبل ان يدفع العوض .
السابع : قيام سهيل بن عمرو بتقييد ابنه أبي جندل بالسلاسل والحديد لمنعه من الخروج من مكة مهاجراً إلى المدينة باسلامه .
الثامن : حضور سهيل بن عمرو ممثلاً لقريش في صلح الحديبية وتشديده في ألفاظ العقد ، ومن وجوه تشديده في العقد :
الأول : امتناع عمرو عن كتابة بسم الله الرحمن الرحيم في العقد وطلب أن يكتب باسمك الله .
الثاني: لم يرض بكتابة اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة ، ولما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام (اكتب باسمك اللهم ثم قال هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، اكتب محمد بن عبد الله.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، أكتب محمد بن عبد الله) ( ).
الثالث : شرط سهيل بن عمرو أنه لا يأتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرجل من قريش إلا رده عليهم ، وهو الشرط الذي أغاظ المهاجرين والأنصار ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أظهر الصبر والحلم مع رجاء الفضل من عند الله ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] ( ).
الرابع : أثناء صلح الحديبية وقبل امضاء العقد وصل أبو جندل بن سهيل بن عمرو إلى الموضع وهو يرسف في قيوده ، فأصر سهيل بن عمرو على إعادته إلى قريش ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنا لم نمض العقد بعد ) .
أي لم يتم إمضاء وتوقيع العقد والشهادة عليه ، فكان جواب سهيل أنه لا يصالح النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على شئ ابداً إلا أن يرد ابنه أبا جندل بقيوده ، مع طلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بميزة له .
وسيأتي بيانه ، وفيه حجة على المشركين ، لقد رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا جندل ولا يعلم إلا الله إنجذاب الناس إلى الإسلام في هذه الواقعة وبعدها , وسرعان ما فتح الله عز وجل باباً من الرحمة والفرج لأبي جندل .
الخامس : لقد طلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية أن تخلي قريش بينهم وبين البيت الحرام لأداء العمرة ، ولكن سهيلاً لم يرض بهذا الطلب مع أنه حق لكل انسان ، وقال (والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل) ( ).
وأسلم سهيل بن عمرو يوم الفتح ، وهو على خوف من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من شدة إيذائه له ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعله ممن استباح دمه يومئذ ، بل قبل اسلامه وأكرمه .
السادس : خروج سهيل بن عمرو مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حنين .
وهل بقي سهيل بن عمرو من [الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ]( )، الجواب إذ حسن اسلامه ، وكان أبو بكر يقول (ما كان فتح أعظم في الإسلام من فتح الحديبية، ولكن الناس يومئذ قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه. والعباد يعجلون، والله لا يعجل كعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد.
لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائماً عند المنحر يقرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هدية ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينحرها بيده، ودعا الحلاق فحلق رأسه، ونظر إلى سهيل يلقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه .
وأذكر إباءه أن يقرّ يوم الحديبية بأن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، ويأبى أن يكتب محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمدت الله الذي هداه للإسلام، وصلوات الله وبركاته على نبي الرحمة الذي هدانا به وأنقذنا به من الهلكة.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سهيل بن عمرو يستهديه من ماء زمزم، فبعث إليه براويتين وجعل كرا غوطيا.) ( ) .
لقد أقام سهيل بن عمرو في مكة إذ (كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سهيل بن عمرو إن جاءك كتابي ليلاً فلا تُصبِحَنَّ ، وإن جاءك نهارا فلا تُمْسِيَنَّ حتى تبعث إليَّ بماء من زمزم ، فملأ له مزادتين وبعث بهما على بعير) ( ).
لقد خصّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سهيلا بن عمرو بهذا الطلب من بين رجالات قريش في مكة , ومنهم بعض بني هاشم إكراماً لسهيل بشخصه وابنائه وأخيه حاطب السابقين في الإسلام .
ولسهيل أخ آخر اسمه سهل وهو من مسلمة الفتح .
ولما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة يوم الفتح أسرع سهيل بن عمرو إلى بيته وأغلق بابه وأرسل في طلب ابنه عبد الله بن سهيل ليسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم جواره ، ويطلب له الأمان ، إذ كان سهيل خائفاً على نفسه من القتل من شدة إيذائه للنبي وأصحابه ، وتشديده في عقد صلح الحديبية مع أن قريشاً فوضوا إليه بنود الإتفاق .
وقد تبين لهم وللناس عامة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يأتوا إلا للعمرة في شهر حرام وهو شهر ذي القعدة ، ولم يكن معهم سلاح .
وقال سهيل (وجعلت أتذكر أثري عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فليس أحد أسوأ أثراً مني، وإني لقيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية بما لم يلقه أحد، وكنت الذي كاتبه مع حضوري بدراً وأحداً، وكلما تحركت قريش كنت فيها) ( ).
وكان عبد الله بن سهيل قد أسلم قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وهاجر عبد الله إلى الحبشة ورجع إلى مكة عندما شاع بأن قريشاً دخلت الإسلام .
فقام أبوه سهيل بن عمرو بشد وثاقه وحبسه ، وأمره أن يترك دينه ، فأظهر عبد الله التقية واللين إلى أن جاءت معركة بدر فخرج عبد الله مع أبيه سهيل إلى معركة بدر ، وكان الأبناء لا يعصون آباءهم ، مما يدل على معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إسلام الأبناء مع إقامة آبائهم على الشرك وعبادة الأوثان .
السابع : خروج سهيل بن عمرو إلى الشام مرابطاً ومجاهداً .
في جماعة من أهل بيته ومات هناك .
ويروى سهيل حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الرباط (حدث أبو سعد أبي فضالة الأنصاري، وكانت له صحبة قال: اصطحبت أنا وسهيل بن عمرو إلى الشام ليالي أغزانا أبو بكر الصديق، فسمعت سهيلاً يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: مقام أحدكم في سبيل الله ساعة خير من عمله عمره في أهله.
قال سهيل: وأنا أرابط حتى أموت ولا أرجع إلى مكة أبداً، فلم يزل بالشام حتى مات بها في طاعون سنة ثمان عشرة في خلافة عمر بن الخطاب)( ).
وعندما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مغادرة مكة سلّم إمارتها إلى عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ، وأمه زينب بنت عمرو بن أمية ، وهو شاب يبلغ من العمر نيفاً وعشرين سنة ، وكان أسيد يوم فتح مكة مشركاً ، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح بلالاً أن يؤذن فصعد على الكعبة وآذن ليعلن انقطاع عهد الأوثان في البيت وبدئ إشراقات الشهادتين على الأرض من ذات الكعبة ، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
وكان عتاب بن أسيد جالساً مع سفيان بن حرب والحارث بن هشام بفناء الكعبة ، فلما سمعوا الأذان قال عتاب : لقد أكرم الله أسيداً ألا يكون سمع هذا ، فيسمع منه ما يغيظه أي لو كان أبوه أسيد حيا لغلظ الكلام لبلال .
(وقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته. فقال أبو سفيان: لا أقول شيئًا لو تكلمتُ لأخبرت عني هذه الحصى. فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: “قد علمت الذي قلتم” ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، [والله] ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك) ( ).
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوليته بالوحي عتاب بن أسيد على مكة أموراً :
الأول : تولي الشباب المسؤليات الجسام .
الثاني : عدم صيرورة العداء للإسلام قبل دخوله برزخاً وعقبة دون هذه التولية .
الثالث : إرادة بيان قانون من الوحي ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يختار من نفسه إنما الإختيار والتعيين بالوحي ، قال تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ] ( ) .
الرابع : ترغيب الشباب بدخول الإسلام .
الخامس : بيان مصداق جلي لقانون : الإسلام يجّب ما قبله .
السادس : دعوة المسلمين شباباً وكهولاً وشيوخاً للسعي في بناء دولة الأحكام الشرعية والسنن الإيمانية ،وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (ان بمكة لاربعة نفر من قريش اربأ بهم عن الشرك وأرغب لهم في الاسلام قيل ومن هم يا رسول الله قال عتاب بن أسيد ، وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام وسهيل بن عمرو) ( ).
وحمل عتاب الناس في مكة على الصلاة في أوقاتها ، وتوعد الذي يتخلف عنها ، وقال : لا يتخلف عنها إلا منافق .
وذهب بعض أهلها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشكوا من عتاب ، وقالوا : يا رسول الله استعملت على أهل الله أعرابياً جافياً.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أني رأيت فيما يرى النائم أنه أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب فقعقعها حتى فتح له ودخل.
وبينما أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤلفة قلوبهم كل واحد منهم مائة ناقة عند توزيع النبي صلى الله عليه وآله وسلم غنائم حنين رضي عتاب بدرهمين عن كل يوم رزقاً عينه له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند إمارته شؤون مكة وقيل درهم واحد عن كل يوم .
(عن عتاب بن أسيد قال: أصبت في عملي الذي استعملني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بردين معقدين، كسوتهما غلامي كيسان، فلا يقولن أحدكم: أخذ مني عتاب كذا! فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل يوم درهمين، فلا أشبع الله بطناً لا يشبعه كل يوم درهمان) ( ).وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعين عطاءً للأمير القائم بالإمارة .
وهل في ولاية عتاب للبيت الحرام عذاب للذين كفروا ، الجواب نعم لأنها مصداق لتولي المتقين ولاية المسجد الحرام ، قال تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وكان معاذ بن جبل مع عتاب في مكة ، وقيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه إلى حنين استخلف معاذاً وبعد حنين أعتمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الجعرانة في ذي القعدة وتعني عمرته ، وعندما خرج من مكة متوجهاً إلى المدينة استخلف عتاب بن أسيد ، وبقي معه معاذ ليتفقه الناس في الدين ويعلمونهم القرآن ، لأن عتاباً حديث عهد بالإسلام .
ولما بلغ أهل مكة نبأ وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الحادية عشرة للهجرة وتوافق السنة 632 م هاج الناس وازدحموا في المسجد الحرام ، وقيل لجأ عتاب إلى شعب من شعاب مكة خشية على نفسه ، وأن سهيلاً فتش عنه فوجده وجاء به إلى المسجد ، وقال أنا أكفيك ، وهذا بعيد ، وكذا القول بارتداد جماعة من العرب في مكة .
وبادر سهيل بن عمرو فقام خطيباً في المسجد وأخبرهم بأنهم يعبدون الله عز وجل وهو حي لا يموت ، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وافاه الأجل وانتقل إلى جوار ربه فقال (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) ( ).
وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جرت على لسان وفعل أصحابه فعندما وقع سهيل في الأسر ، قال عمر بن الخطاب ( لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا رسول الله انتزع ثنيتى سهيل بن عمرو السفليين يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا قال وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لّعمر في هذا الحديث : إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه) ( ).
وعن طريق محمد بن علي بن أبي طالب ، قال (قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: دعني أنزع ثنيتي ، سهيل فلا يقوم علينا خطيباً ، فقال: ” دعها فلعلها أن تسرك يوماً “)( ).
وعن ابن اسحاق (أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَا رَسُولَ اللّهِ دَعْنِي أَنْزِعْ ثَنِيّتَيْ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَيَدْلَعُ لِسَانَهُ فَلَا يَقُومُ عَلَيْك خَطِيبًا فِي مَوْطِنٍ أَبَدًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهِ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لَا أُمَثّلُ بِهِ فَيُمَثّلُ اللّهُ بِي وَإِنْ كُنْتُ نَبِيّا.
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَقَدْ بَلَغَنِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالَ لِعُمَرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إنّهُ عَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَامًا لَا تَذُمّهُ) ( ).
وعن عبد الله بن أبي سلول قال : اندقت ثنيتي يوم أحد فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني فاتخذت ثنية من ذهب( )، أي حتى لو نزعت تنيتي سهيل بن عمرو لرّكب بديلاً من ذهب وواصل خطابته وهجاءه ولإزداد حنقاً وسخطاً .
وعندما جاء رسول أبي سفيان إلى مكة يستنفرهم لنصرة قافلته قبل معركة بدر قام سهيل بن عمرو خطيباً في مكة يحرض على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال : يا آل غالب أتاركون انتم محمداً والصباة معه من شبابكم وأهل يثرب يأخذون عيرانكم وأموالكم ، من أراد مالاً فهذا مالي ، ومن أراد قوة فهذه قوتي ، ومدحه أمية بن أبي الصلت .
ومع هذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكرمه مدة الأسر وأدخله إلى بيته.
وهل لوقوع سهيل بن عمرو في الأسر يوم معركة بدر من موضوعية في هدايته وحسن إسلامه ، الجواب نعم .
ولا ينخرم هذا المعنى بكونه ممثل قريش في صلح الحديبية ، ثم لا يعلم إلا الله ما سعى إليه سهيل من التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم صلح الحديبية ، ورد جيوش قريش يومئذ .
وقد روى سهيل بن عمرو عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث منها ما رواه وهو في طريقه إلى الشام مرابطاً أيام أبي بكر قال (سمعت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: مقام أحدكم في سبيل الله ساعة خير من عمله عمره في أهله.
قال سهيل: فأنا أرابط حتى أموت ولا أرجع إلى مكة أبدا. فمات في طاعون عمواس بالشام سنة ثماني عشرة) ( ) ليرزق أجر الرباط وثواب الموت في سبيل الله اثناء الرباط ، وهو من بركات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
الثامن : أبو وداعة واسمه الحارث بن صبيرة بن سعيد بن سعد بن سلم ، وهو أول أسير دُفع فداؤه وفك من الأسر ، إذ أن رجالات قريش أمروا بالتأني في دفع فداء الأسرى خشية أمور :
الأول : رغبة وطمع صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بطلب مبالغ كبيرة في فداء الأسرى .
الثاني : إنتفاع المسلمين من أموال فداء الأسرى ، وتسخيرها في بناء الإسلام وتحسين معيشة المؤمنين .
الثالث : شماتة العرب بقريش .
الرابع : تردد قريش في دفع الأموال في ساعة طارئة لم تكن بالحسبان .
الخامس : اجتماع المصائب على قريش في المقام وهي :
الأولى :الهزيمة في معركة بدر .
الثانية : كثرة القتلى من قريش .
الثالثة : فقد عدد من رؤساء قريش .
الرابعة : المنعة والعز الذي ناله المسلمون بمعركة أحد .
الخامسة : إدراك عامة الناس بالعقل الجمعي لقانون وهو أن نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر معجزة له .
السادسة : وقوع سبعين من قريش أسرى في أيدي المسلمين .
السابعة : دفع قريش لبدل الأسرى ، وجهالة مقادير الأموال التي يطلبها المسلمون في الفداء ، والتي تحتمل وجوهاً :
أولاً : تعيين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقداراً من المال بدلاً عن كل أسير .
ثانياً : طلب مبلغ كلي من المال عن جميع الأسرى .
ثالثاً : جعل مبلغ مقدر من المال عن كل أسير حسب شأنه ومنزلته .
رابعاً : التشديد في بدل بعض الأسرى الذين أسرفوا في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم بدر .
خامساً : لحاظ إيذاء الأسرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عندما كانوا في مكة ، فالذي كان يؤذيهم يضاعف بدل فكاكه من الأسر .
سادساً : ظن قريش بأن الذي يبادر لفكاك اسيره يطلبون منه مبلغاً كبيراً.
سابعاً : ترك الأسرى عند المسلمين مدة مديدة يكلفهم إطعامهم والسهر عليهم وحراستهم ومنعهم من الفرار .
وتدل دعوة قريش للتأني والإبطاء في فكاك الأسرى على الإطمئنان عليهم ، وعدم الخشية من إجهاز المسلمين على قتل أي منهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الأسير أبي وداعة السهمي (إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاء في طلب فداء أبيه ” فلما قالت قريش: لا تعجلوا بفداء أسراكم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه، قال المطلب بن أبي وداعة، وهو الذى كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عني: صدقتم لا تعجلوا.) ( ).
وأبو وداعة هذا نسيب بني هاشم ، إذ أن زوجته ابنه عم النبي محمد أروى بنت الحارث بن عبد المطلب (وولدت لأبي وداعة: المطلب وأبا سفيان وأم جميل وأم حكيم والربعة) ( ) .
ودخل المطلب بابيه أبي وداعة إلى مكة فرآى الناس حلاوة عودة الأسير وأدركوا قبح قرار قريش بالتأني بفكاك الأسرى ، فمع أنهم أخذوهم للقتال وعرضوهم للقتل ، ووقعوا بالأسر فانهم يزيدون في ظلمهم بمنع فكاك الأسرى ، وبيّن المطلب وأبوه لأهل مكة السمت الذي يتصف به المسلمون وحسن معاملة الأسرى الذين يتطلعون إلى فكاكهم من الأسر ، وحمل أبو وداعة وابنه المطلب الرسائل من الأسرى يحثون أهليهم بالمجيئ إلى المدينة وفكهم من الأسر .
ولا يتعارض هذا الحث مع إقرارهم بحسن معاملة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لهم والميل إلى الإسلام ، كما أخبرهم المطلب بمقدار البدل وهو أربعة آلاف درهم من الفضة أي أربعمائة دينار ذهباً وأن المبلغ يدفع إلى المؤسر ، وليس إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا يأخذ من أموال قريش في فكاك الأسرى شيئاً ، وأدركت قريش الرفعة والسمو الذي يتصف به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) وهو من أسباب دفع الحسد والحنق من قريش نحو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبني هاشم بمن فيهم الذين بقوا في مكة .
كما أدركوا أن ترك بدل الأسير من النقد إلى الذي أسره دعوة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه للخروج في كتائب الدفاع وإلى الميل إلى أسر العدو بدل قتله بالسيف أو رميه بالسهام .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) لأنه زجر عن القتل وسفك الدماء ، وهو من مصاديق احتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
حينما علموا بأن الله عز وجل [جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )وصيرورته سبباً بالفساد وسفك الدماء في بعض ذرية آدم ، فمن علم الله عز وجل في المقام أن الله عز وجل يبعث الأنبياء ليمتنع الناس عن الظلم والقتل حتى من القتل بالحق ، بأن يرغب أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأسر المشركين ، لتكون عاقبة هؤلاء الأسرى دخول الإسلام والإخلاص في الإيمان ، وربما اسلم بعض الأسرى فاصبح أميراً في سرية على من أسره أو على أخيه أو ولده أو يقوم بايذاء ابنه ليترك الإسلام واتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيهاجر الابن ثم لا يلبث الأب أن يتوب ويخرج في السرايا وابنه معه .
وهل صار هناك وسطاء للتجارة والكسب في مسألة الأسرى ، كما لو كانوا يأخذون من أهل الأسير مبلغاً كبيراً ويتصالحون مع الذي أسره على مبلغ معين ، الجواب لا دليل عليه .
وكان ابوه صبيرة قد عمر طويلاً ولم يظهر الشيب عليه ، وقيل مات وله مائة وثمانين سنة ( )، وأدرك الإسلام وأختلف فيه هل أسلم أو لا وقالت ابنته
(من يأمن الحدثان بعد صبيرة السهمي ماتا
سبقت منيته المشيب وكان ذلكم انفلاتا) ( ).
وبقي أبو وداعة في مكة ، وأسلم يوم الفتح , ومات أيام عمر بن الخطاب .
التاسع : (وهب بن عمير بن وهب بن خلف بن حذافة بن جمح الجمحي) ( ) حضر وهب هو وأبوه عمير معركة بدر مع الكفار ، وكان أبوه ذا قدر وشأن في قريش ، ومن شجعانهم وشياطينهم , وبعثته قريش ليستطلع جيش المسلمين من جهة عدده وعدته ، وهل له مدد أم لا ، فاجال بفرسه حول جيش المسلمين الذين كانوا يرونه ، ويدركون وظيفته وقصده ولكنهم لم يرموه بسهم ، ولم يتعرضوا له لقانون وهو أن الأنبياء لا يبدأون القتال .
وحينما عاد من دورانه حول معسكر المسلمين أخبر بأن عددهم نحو ثلاثمائة أو يرغبون قليلاً ولكنه حذر قريشاً وأنذرهم إذ قال (إني أرى وجوهاً كوجوه الحيات لا يموتون ظمأ أو يقتلون منا أعدادهم، فلا تتعرضوا لهم بهذه الوجوه التي كأنها المصابيح) ( ).
لقد حذرهم ونهاهم عن القتال وبيّن الخطأ والضلالة فيه ، وأنه لا يؤدي إلا لكثرة القتلى من قريش ، فقالوا له : دع هذا عنك وحرش بين القوم فاستجاب لطلبهم ورمى بنفسه عن فرسه بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأشعل فتيل القتال .
وقاتل معه ابنه وهب بن عمير يوم بدر , والذي وقع في الأسر بيد المسلمين .
وقيل أن وهب بن عمير كان من أحفظ الناس ، وكانت قريش تقول له قلبان لما عليه من شدة الحفظ فنزل قوله تعالى [مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ] ( ) ولكن الآية نزلت في غير وهب هذا .
وذكرت أسباب متعددة لنزولها ، منها أنها نزلت في رجل اسمه جميل بن معمر من بني جمح وهم قبيلة وهب بن عمير إذ إنهزم من معركة بدر ، ونعلاه واحدة في يده , والأخرى في رجله ، فسألوه أين نعلاك ؟
قال في رجليّ ، قالوا فما في يدك ؟
قال : ما شعرت ، فعلموا أن ليس له قلبان .
وموضوع الآية أعم لبيانها الإعجاز في خلق الإنسان وأنه لا يكون في بدنه قلبان .
ولما جاء عمير بن وهب من مكة بقصد اغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتدبير من صفوان بن أمية ، وخشي الصحابة منه ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (أدخلوه عليّ فقام عمر بأخذ حمالة سيفه في عنقه ولبيه بها ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أرسله يا عمر .
وجلس عدد من الأنصار عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدنو يا عمير (فدنا ، ثم قال : انعموا صباحا ، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير ، بالسلام ، تحية أهل الجنة ، قال : أما والله إن كنت يا محمد لحديث عهد بها) ( ).
وأسلم وهب بن عمير , وروى بالقول : سمعت عثمان يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تحلق المرأة رأسها ، ولم يرو وهب حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير واسطة .
العاشر : عبد بن زمعة بن قيس بن عبد شمس ، وأمه عاتكة بنت الأحنف بن علقمة ويرجع نسبه إلى عامر بن لؤي ، وهو من سادات قريش ، وهاجر أخوه يزيد بن زمعة وأخته لأبيه سودة إلى الحبشة مسلمين في الهجرة الثانية .
وتزوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أخته سودة بنت زمعة بعد أن مات زوجها سكران بن عمرو والذي أنجبت منه ولده عبد الله ، إذ عاد سكران إلى مكة ومات فيها ، وحينما علم عبد بن زمعة بزواج أخته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل يحثو التراب على رأسه ، وقال بعد أن أسلم (إني لسفيه يوم أحثو التراب على رأسي أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سودة) ( ) .
مع أن أباه زمعة بن قيس هو الذي زوجها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ اشارت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد موت خديجة أن يتزوج وذكرت له سودة بنت زمعة خاصة ، وقالت له أنها آمنت بك واتبعتك على ما أنت عليه أي في الأذى والإستضعاف .
فدخلت خولة على سودة وقالت لها : قد أدخل الله عليك من الخير والبركة ؟ قالت سودة وما ذاك ؟
قالت : أرسلني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخطبك عليه ، فلم تتردد سودة في الموافقة وأعلنت رضاها إذ قالت وددت , أدخلي على أبي فأذكري ذلك له .
وكانت أيام حج وخروج الناس إلى عرفة ومنى ، وتخلف زمعة عن الخروج لأنه شيخ كبير ، فدخلت عليه خولة وحيته بتحية الجاهلية ، وهي على وجوه :
الأول : أنعم صباحاً وللجمع أنعموا صباحاً ومنه قول أمرئ القيس :
ألا عِمْ صباحاً أيُّها الطللُ البالي … وهل يَعِمْنَ من كان في العُصُرِ الخالي( )
الثاني : حييت صباحاً .
الثالث : عم صباحاً ومنه قول عنترة بن شداد :
يا دَارَ عَبْلَةَ بالْجِواءِ تَكَلَّمِي … وعِمِي صَباحاً دَارَ عَبْلَةَ واسْلَمِي) ( )
وكأنه استسقى لأرضهم وسأل الله كثرة المطر والسلامة .
الرابع : حييت مساءً إذا كان في المساء .
الخامس : أنعم الله بك عيناً .
السادس : أسلم .
السابع : عش ألف عام .
الثامن : أبيت اللعن .
وقد أبدل الله المسلمين هذه التحيات بالسلام الذي هو تحية الملائكة ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا سلم عليه بعضهم بتحية الجاهلية ينبهه إلى فضل الله في إبدال التحية بالسلام.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : خلق الله آدم وطوله ستون ذراعاً قال : اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة فاسمع ما يحيونك ، فإنها تحيتك وتحية ذريتك . فذهب فقال : السلام عليكم فقالوا : السلام عليك ورحمة الله ، فزادوه ورحمة الله ( ).
والسلام تحية الأنبياء ، وفي ضيف ابراهيم من الملائكة ورد قوله تعالى [وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ]( ).
وهل شرعت تحية الإسلام في المدينة أم أنها شرعت في مكة وقبل الهجرة ، الجواب هو الثاني فحينما هاجر نفر من الصحابة إلى الحبشة كانت تحيتهم السلام ، وعندما لحقهم وفد من مشركي قريش واشتكوهم عند ملكها النجاشي احتجوا بأن هؤلاء النفر من المسلمين إذا دخلوا عليه لايسجدون له كما يسجد الناس، ولا يحيونه بذات تحيتهم ، فلما استدعى النجاشي جعفر الطيار وأصحابه ودخلوا عليه , لم يسجدوا له ، وحيوه بتحية الإسلام ، وحينما سألهم النجاشي قالوا : نسجد للّه الذّي خلقك وملكك قال وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان. فبعث اللّه فينا نبياً صادقاً.
وأمرنا بالتحية التي رضيها اللّه لنا. وهو السلام تحية أهل الجنّة. فعرف النّجاشي أن ذلك حق فيما جاء في التوراة والانجيل( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ( أن اللَّه تعالى خلق آدَمَ ، ثم قَالَ لَهُ : اذْهَبْ إِلى أُولَئِكَ النَّفَر مِنَ المَلاَئِكَةِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ ، فَجَاءَهُمْ ، فَقَالَ لَهُمْ : سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ، فَقَالُوا لَهُ : وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ : هَذِهِ تَحِيَّتُكَ ، وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتَكَ مِنْ بَعْدِكَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ) ( ).
وسأل زمعة عن المرأة من هذه ؟
أي التي دخلت وسلمت عليّ .
فقالت : أنا خولة ابنة حكيم ، قال : ما شأنك ؟
قالت : ارسلني محمد بن عبد الله اخطب عليه سودة ، ولم تذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة والرسالة لأن زمعة كافر ، فقال كفّ كريم .
ثم سألها ، فماذا تقول صاحبتك ؟ أي سودة .
قالت : تحب ذلك ، أي أنه لم يسمع من سودة إنما اكتفى بسؤاله لخولة ، لصغر بيوت مكة وعلمه بأن سودة تسمع كلامه , وللوثاقة بها .
قال : أدعيه لي : أي من غير ابطاء وارجاء وانتظار الإخوان ، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فزوجه إياها وفي الحكم الشرعي أن الثيب أمرها بيدها ، ولا يشترط إذن الأب والجد.
وفي يوم الفتح تخاصم عبد بن زمعة مع سعد بن أبي وقاص في عبد الرحمن بن زمعة ، إذ أخذه سعد وقال أن أخي عتبة عهد بي اليه وقال لي أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه فهو ولدي ، فحضر سعد وعبد بن زمعة عند رسول الله فذكر سعد وصية أخيه وقال عبد بن زمعة : أخي وابن وليدة أبي ، وولد على فراشه .
ومع أن سعداً له سابقة في الإسلام وعبد بن زمعة أسلم يوم الفتح فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن عبد الرحمن لعبد بن زمعة وهو أخوه ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قال لسودة ” احتجبي منه “) ( )والوليدة هي الأمة ، وقد يطلق هذا اللفظ على الأمة وأن كانت كبيرة ، والملاك أنها ولدت بين العرب ، ولم تأتهم بالسبي ونحوه .
ويقال في ترتيب سن المرأة : هي طفلة ما دامت صغيرة ثم وليدة إذا تحركت ثم كاعب إذا كعب ثديها ثم ناهد إذا زاد ثم معصر إذا أدركت ثم عانس إذا ارتفعت عن حد الإعصار ثم خود إذا توسطت الشباب ثم مسلف إذا جاوزت الأربعين ثم نصف إذا كانت بين الشباب والتعجيز ثم شهلة وكهلة إذا وجدت مس الكبر وفيها بقية وجلد ثم شهبرة إذا عجزت وفيها تماسك ثم حيزبون إذا صارت عالية السن ناقصة القوة ثم قلعم ولطلط إذا انحنى قدها وسقطت أسنانها) ( ).
لقد أكرمها وأسرتها الله عز وجل إذ ذكرها في القرآن بصفة أم المؤمنين ، قال تعالى [وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] ( ).
وسودة هي ثاني زوجة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ تزوجها في شهر رمضان في السنة العاشرة للهجرة ، وبعد وفاة خديجة ، وقيل تزوجها في شهر ربيع الأول من ذات السنة ، لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتزوج على خديجة في أيام حياتها .
وأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة وأبا رافع الأنصاري بالإتيان بسودة بنت زمعة من مكة مهاجرة إلى المدينة ، وحينما يذكر عبد بن زمعة يقال : أخو سودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم تشريفاً له ، ولبيان تمييزه عن آخر اسمه زمعة بن الأسود ، إذ كان هناك شخص من رؤساء قريش اسمه زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد .
ويعرف بزاد الراكب أي أن الذي يسافر معه لا يشتري أو يطبخ زاداً أنما يتكفله زمعة ، وكان ثرياً ومتجره إلى الشام ، وهو ممن يستهزي برسول الله صلى الله عيه وآله وسلم ويساهم في تدبير المكائد له ، وكان ممن حاصر دار النبي صلى عليه وآله وسلم ليلة المبيت بغية قتله , فهاجر النبي صلى عليه وآله وسلم ليلتها .
وحينما خرجت قريش إلى معركة بدر كان زمعة بن الأسود من رؤسائهم ومن المطعمين لجيش المشركين يومئذ ، وفيهم نزل قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] ( ) .
وهو من الذين يمنعون الناس عن الإنصات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أيام موسم الحج إذ يتوزعون على مداخل مكة ، كما في قوله تعالى [كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ] ( ) وقال مقاتل (كانوا ستة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا عقاب مكة وطرقها وقعدوا على أبوابها وأبقابها وإذا جاء الحجاج،
قال فريق منهم : لا تغتروا بخارج منّا يدعي النبوة فإنه مجنون.) ( ).
وأسلم الحارث أخو عبد بن زمعة ، ولكن أباه الأسود حبسه ، وأمره أن يترك الإسلام حتى فتنه يترك الإسلام ، وخرج الحارث وعبد إلى معركة بدر فقتل الحارث وذكر أنه ممن نزل فيهم قوله تعالى [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ) .
كما قتل في المعركة أخوه عقيل بن الأسود بينما هاجر يزيد بن الأسود إلى الحبشة بدينه واستشهد فيما بعد في معركة حنين .
وكان حزن الأسود على أولاده شديداً وكان قد أصيب بالعمى .
وزوجته قريبة بنت أبي أمية أخت أم سلمة أم المؤمنين فولدت له عبد الله وهو من الصحابة وكان يأذن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وروي عنه أحاديث منها (يضرب أحدكم المرأة ضرب العبد، ثم يضاجعها من آخر يومه) ( ).
وقتل لعبد الله بن زمعة أولاد في طريق الحرة منهم يزيد بن عبد الله ، قتله مسرف بن عقبة صبراً مع أنه صديق وصفي ليزيد بن معاوية ، كما شفع له مروان بن الحكم لأنه لم يرض أن يبايع على أنه خول وعبد ليزيد بن معاوية أنما قال :أبايعه على الكتاب والسنة وأنا ابن عمه ( يحكم في دمي وأهلي ومالي) ( ).
وقال الشاعر :
(حجاج بيت الله إ … ن صبيرة القرشي ماتا
سبقت منيته المشيب … وكان ميتته افتلاتا) ( ).
ويروى عن أبي وداعة أنه قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في باب بني سهم والناس يصلون بصلاته) ( ).
ويسمى هذا الباب باسم باب العمرة ، ويحمل في هذا الزمان رقم (62) ويقع في الساحة الشمالية .
وقال عمر بن الخطاب من له علم بموضع المقام أي مقام إبراهيم إذ كان ملاصقاً للكعبة ويسبب نوع حرج للطائفين من جوار جدار الكعبة ، فقال أبو وداعة بن صبيرة السهمي :عندي أنا قدرته إلى الباب , وقدرته إلى ركن الحج, وقدرته إلى الركن الأسود، وقدرته إلى زمزم ، أي أني أعلم المسافة بينه وبين كل من حجر اسماعيل ، وركن الحجر الأسود والمسافة بينه وبين بئر زمزم .
فقال عمر هاته أي بينّه لنا وعين موضعه، فلما عينه أخذه عمر في الموضع الذي ذكره أبو وداعة وهو الذي عليه إلى اليوم ، قال تعالى [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى] ( ).
وفي يوم الفتح خاطبت هند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما معناه أنك قتلت أبناءنا فأعرض عن قولها ولم يجادلها وأنهم هم الذين اعتدوا وقتلوا مشركين .
وعن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، وقال: “فإن وَفَيتم فلكم الجنة( ).
معجزة بدر
من مصاديق قوله تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] ( ) في باب المعجزة أمور :
الأول : تعدد وكثرة معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية .
الثاني : توالي المعجزات العقلية بنزول آيات القرآن من جهة البيان والبلاغة والتركيب وتعدد معاني اللفظ القرآني ودلائل الآية القرآنية والحجة في الجمع بينها وبين غيرها من الآيات ، قال تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ) .
الثالث : صيرورة السنة النبوية القولية والفعلية مرآة للقرآن وشاهداً على صدق نزول من الله عز وجل , قال تعالى[وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ] ( ) .
الثالث : تجلي معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسية للناس وعجز المشركين عن طمسها أو اخفائها .
صارت هذه المعجزات سبباً لصد المشركين , ومنعهم من توالي الهجوم على المدينة من جهات :
الأولى : إنشغال الناس بالتدبر بالمعجزات .
الثانية : تبعث ذات المعجزة النفرة في النفوس من الهجوم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالثة : إثارة أسباب الجدال والإحتجاج في صفوف الذين كفروا خاصة وأنهم على قسمين :
أولاً : المتبوعون .
ثانياً : الأتباع .
وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ] ( ) ومن منافع المعجزة النبوية في المقام النقص في عدد كل من المتبوعين والأتباع ، وعلى نحو يومي وهذا النقص على وجوه :
أولاً : دخول طائفة من الناس الإسلام وإنتقالهم من مستنقع الكفر والضلالة إلى رياض الإيمان ، ومن اتباع الذين كفروا إلى إتباع الكتاب والسنة وفيه خير الدنيا والآخرة .
ثانياً : إمتناع فريق من اناس عن نصرة رؤساء الكفر لأن المعجزة زاجر شخصي ونوعي عن نصرتهم ، ويتجلى الزجر النوعي بتدبر الناس في المعجزات .
ثالثاً : عجز الذين كفروا عن صرف الناس عن معجزة النبوة ، قال تعالى [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
رابعاً : ابتلاء الذين كفروا بنقل الأموال وتعطيل التجارات وضعف الأموال ، وهذا الإبتلاء من جهات :
الأولى : إنفاق الذين كفروا على الجيوش ، فمثلاً في معركة بدر كان هناك مطعمون للجيش يتولى كل واحد منهم لإطعام العام ، فيذبح بين تسعة إلى عشرة من الإبل .
الثانية : إرجاء تقسيم أموال التجارة والأرباح على أهلها ، كما جرى بحقوق قافلة أبي سفيان التي قدمت من الشام ، وكانت السبب في معركة بدر إذ بقيت أياماً عديدة ، ثم خاف رجال قريش من أصحاب الأموال فيها وسألوهم بتسخيرها لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة أحد ، فرضوا به .
الثالثة : دفع كفار قريش بدل فكاك الأسرى ، وليس الأسرى وأهليهم عندهم أموال تكفي لفكاكهم ، فمنهم من تقرض واستلف بدل فكاكه ، ومنهم من باع ما يملك ، ومنهم من قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يملك مالاً وسأله العفو عنه ، فعفى النبي عنهم ، ومنهم من اختار تعليم صبيان المدينة القراءة والكتابة .
ولو كان عند هؤلاء الذين اختاروا تعليم أبناء المدينة أموال لفكاكهم من الأسر لبادر بعضهم إلى دفعها والعودة إلى أهله ، نعم منهم من اختار البقاء في رحاب دولة التوحيد وتوالي نزول الذكر بما يبهر العقول .
خامساً : إنشغال أهل مكة وغيرهم عن الشراء والتسوق والتبعض .
سادساً : من خصائص المجتمعات ميل الناس إلى إدخار ما عندهم من المال عند الفتن والإبتلاء العام لجهالة الغيب ، وما يحمله الجديدان النهار والليل معهما من أسباب الحاجة والأمور الطارئة ذات الأثر في الحياة اليومية ، وفي التنزيل [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً] ( ).
الجهة الرابعة : إنذار المعجزات النبوية للناس من الهجوم على المدينة وقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وهل تمنع المعجزات من تعذيب المسلمين في مكة .
الجواب نعم ، وهذا المنع من جهات منها :
أولاً : نفرة الناس من الذين يعذبون المسلمين .
ثانياً : القبح الذاتي للتعذيب والإيذاء وكانت قريش تخرج عدداً من المسلمين خصوصاً المستضعفين في رمضاء مكة وقت الظهيرة ، ووضع الأثقال على صدورهم والطلب منهم بترك إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : المعجزة شاهد صدق على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه دعوة للناس للكف عن تعذيب المسلمين .
رابعاً : من أسرار قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) إكرام الإنسان بصفة وخصلة غير موجودة عند غيره من الخلائق ، وهي تفضل الله بالنفخ من روحه في آدم ومنه ميل الناس بالفطرة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ليبعث الله عز وجل الأنبياء ، ويكون كل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا ، وهو الذي تدل عليه آيات القرآن ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
خامساً : صبر المسلمين على التعذيب وامتناعهم عن الإرتداد وترك الإسلام .
لقد كان حسن سمت الصحابة عند التعذيب مدرسة في الهداية والرشاد .
سادساً : مواساة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين والمسلمات الذين كانوا يلاقون التعذيب (وعن عثمان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لعمار ولأبيه ولأمه وهم بمكة والمشركون يعذبونهم: ” صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة ” .
وفي رواية أخرى: ” اللهم، اغفر لآل ياسر وقد فعلت) ( ) ولم يكن عمار وأخوه عبد الله وأبوهما ياسر بن عمار العنسي أرقاء أو عبيداً إنما كان ياسر قد قدم من اليمن ، وهو حليف لبني مخزوم وزوجه أبو حذيفة بن المغيرة سمية فاعتقها بعد أن ولدت عماراً ، وكان أبو حذيفة ممن شارك في بناء البيت الحرام بعد هدمه وإعادة بنائه بعد تصدعه ولسرقة بعض ذخائره ومنها غزال من ذهب كان عليه در وجوهر ، ولم يكن يومئذ در وجوهر صناعي , وخشية انهدامه وتولت كل قبيلة بناء ضلع منه بعد أن أقرعوا بينهم .
وعندما حان وقت وضع الحجر الأسود في محله اختلفوا وخشوا الفتنة والقتال بينهم ، ثم جعلوا بينهم ان أول داخل من باب بني شيبة يتولى وضعه ، ورضوا بهذا الحل ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذاب باب بني شيبة ، ويحتمل دخوله هذا في تلك الساعة وجوهاً :
أولاً : إنه من الوحي .
ثانياً : إنه من التوفيق والرشاد من عند الله .
ثالثاً : الصدفة والإتفاق .
والمختار هو ثانياً أعلاه ، وكان عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ خمسة وثلاثين سنة ، وجاءه الوحي في سن الأربعين ، فلما رأوه قالوا (هذا الأمين قد رضينا بما قضى بيننا) ( ) وهو من مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديق الناس بما جاء به ، فلم يلتفت رجال قريش إلى كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بني هاشم وخشية إنحيازه لهم من بين قبائلهم ، إنما ذكروا صفة الأمين وهو سور الموجبة الكلية في بعث الطمأنينة في نفوس الناس فيما يحكم به سواء لهم أو عليهم .
وقيل أن الذي أشار بتحكيم أول من يدخل هو أبو حذيفة بن المغيرة ، وهو الذي أشار عليهم برفع باب الكعبة حتى لا يدخل إلا بسلم ولا يدخلها إلا من تريد قريش ) ( ) وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ] ( ) الجواب نعم لتعهدهم بعدم دخول الكعبة إلا من يرضون ورمي من يكرهون حتى يسقط ، فيكون عبرة ونكالاً لغيره .
فاخبروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما اختلفوا فيه ، وكيف أنهم رضوا بأول داخل من باب بني شيبة ، وتطلعوا إلى حكمه .
والأصل أن الذي يتولى الحكم يقضي بينهم ولا يكون هو طرف في الحكم ، وجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين هذا القانون وبين إكرام النبوة ، وبما يكفي لدفع الفتنة ، إذ بادر ومن غير إبطاء أو تراخ إلى وضع رداءه وبسطه على الأرض وقيل (طلب ثوباً فاتوه به) ( ).
ثم وضع الحجر الأسود فيه ، ثم قال : ليأتي من كل ربع من أرباع قريش رجل ، أي رباع الذين تولوا بناء الأضلاع الأربعة للبيت ، فكان أبو حذيفة بن المغيرة عن ربع تيم ومخزوم ، وكان عن ربع عبد مناف وزهرة عتبة بن ربيعة إذ كان عليهم بناء الجدار الذي بين ركن الحجر الأسود وركن حجر اسماعيل ويسمى وجه البيت .
وكان في الربع الثالث أبو زمعة ، وكان في الربع الرابع قيس بن عدي ، فرفعوا الثوب جميعاً ، وحينما وصلوا إلى موضع الحجر الأسود من الركن ، رفعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووضعه بيده الشريفة في ذات الموضع .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ] ( ) الجواب نعم ، وإن كان هذا الفعل متقدماً زماناً على نزول آيات القرآن .
وكان من بين الحضور رجل من نجد ، فجاء بحجر ليشد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم الركن ويمنع من حركته ، فقال العباس بن عبد المطلب إلا وقام بتنحية هذا الرجل وتناول حجراً من الأرض وناوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم فغضب النجدي ( فقال له إنه ليس يبني معنا في البيت إلا منا).
فبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قانوناً بصيغة الإعتذار للنجدي الذي إمتلأ قلبه حسداً وغيظاً فقال النجدي : يا عجبا لقوم أهل شرف وعقول وشيبة وأموال عمدوا إلى أصغرهم سناً .
فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحررهم كأنهم خدم له ، ويقصد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهك برفع أطراف الرداء ثم وضعه ، وقام هو بوضعه في محله من الركن ، وكان العرب يعتمدون علم الزجر والتفاؤل والطيرة ، فقال النجدي (أما والله ليفوتنهم سبقاً وليقسمن بينهم حظوظاً وجدوداً! ويقال انه إبليس، فقال أبو طالب:
إن لنا أوله وآخره … في الحكم والعدل الذي لاننكره
وقد جهدنا جهده لنعمره … وقد عمرنا خيره وأكثره فإن يكن حقاً ففينا أوفره) ( ).
واسم أبي حذيفة مهشم ( )، وهو أخو هاشم وهشام ابني المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ، أي أن أبا حذيفة عم أبي جهل , وأسر ولده حذيفة أبي حذيفة يوم بدر .
ومجموع من قتل أو أسر من بني مخزوم وحلفائهم من المشركين يوم بدر أربعة وعشرون رجلاً منهم أبو أمية بن أبي حذيفة قتله الإمام علي عليه السلام وكان ولده هشام بن أبي حذيفة ممن هاجر إلى الحبشة وقيل اسمه هاشم ، وأن هشاماً بن أبي حذيفة ممن قتل يوم بدر .
وكان بنو مخزوم يعذبون كلاً من :
الأول : ياسر بن عامر وهو والد عمار .
الثاني : عمار بن ياسر .
الثالث : عبد الله بن ياسر .
الرابع : سمية بنت خياط أم عمار .
وذكر أن لعمار أخوين آخرين هما (الحويرث وعبود )( ).
وهل كان لمواساة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة موضوعية في صبر وتحمل المسلمين التعذيب ، الجواب نعم ، وهو من البركة والفيض النبوي .
سادساً : قيام المسلمين بشراء بعض المسلمين العبيد وعتقهم ، ليتخلصوا من التعذيب ، ويثبتوا في منازل الإيمان ، كما في إستبدال أبي بكر بلالاً بغلام أسود وقيل اشتراه بسبع أوراق من الفضة وأعتقه بتكراره القول : أحد أحد ، ليكون العتق جزاء عاجلاً له على اسلامه وتحمله العذاب الشديد في سبيل الله مع حسن إيمانه .
وماتت سمية بنت خياط تحت التعذيب إذ كانت عجوزاً كبيرة ضعيفة ولا تقدر على تحمل التعذيب الشديد وتواليه وواجهت أبا جهل فطعنها بحربة في قلبها وهي أول شهيد في الإسلام ، وليلقى أبو جهل جزاءه في معركة بدر ، كما مات ياسر في عذاب بني مخزوم له ، وبدل أن يخففوا العذاب على عمار بن ياسر قاموا بتشديده عليه من وجوه :
أولاً : كثرة إقامته في البرية في الحر ، ووقت الظهر .
ثانياً : وضع الصخرة على صدر عمار .
ثالثاً : غط عمار في الماء إلى أن يفقد وعيه مع الإلحاح عليه بالطلب بأن يسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقول في اللات والعزى خيراً ، فاعطاهم بعض ما يريدون مكرهاً ، ومضطراً ، ثم جاء إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باكياً معتذراً ، وأنزل الله [مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ] ( ).
الأمر الثاني : استجابة الناس لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذه الاستجابة والقبول من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فمن مراتب السمو بعد دخول الإسلام ما يأتي على نحو دفعي ومن غير تردد ، لتجلي المقتضي وانعدام المانع ، فذات المعجزة تملي على أرباب العقول دخول الإسلام ، إذ أنها واسطة مباركة بين الله عز وجل وعباده ، وفي التنزيل [طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى] ( ) ليكون في دخول كل إنسان الإسلام غبطة وسعادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وتخفيفاً عنهم ، ودعوة للصبر من أذى المشركين .
وهل من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دخول الناس في الإسلام على نحو متوال ، فينقص في عدد الذين كفروا ويصيبهم الضعف والوهن ، بينما الذي يدخل الإسلام لا يفارق الصلاة والصيام ، ويقوم بدفع الزكاة عن رضا وبقصد القربة إلى الله ، ومن الناس من يقبل المعجزة ويدرك أنها أمر خارق للعادة ، وأنه شاهد على صدق دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من عند الله ، ولكنه يتردد في دخول الإسلام ويسوّف النطق بالشهادتين سواء بسبب الخشية من الذين كفروا أو لأنه لا يريد مغادرة ما وجد عليه آباءه ، وفي التنزيل [قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ] ( ) فيتفضل الله عز وجل بتوالي المعجزات من اللطف الإلهي به وبالناس جميعاً لوجوه :
أولاً: قانون صرف المعجزة للشك والريب من النفوس .
ثانياً : قانون تقريب المعجزة الناس إلى الإيمان .
ثالثاً : قانون قذف المعجزة الإيمان في القلوب .
رابعاً : قانون تثبيت المعجزة مفاهيم الهدى والإيمان في الأرض .
خامساً : قانون دفع المعجزة كيد ومكر الذين كفروا عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، قال تعالى [وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ] ( ).
ترى ما هي نسبة قبول واستجابة الناس لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ استجابة أهل زمان كل نبي لمعجزاته ، الجواب يتجلى في هذا الباب قانون تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين لكثرة من آمنوا به من جهات :
الأولى : أهل بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : أبناء عمومة وقبيلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بني هاشم وقريش .
الثالثة : خيبة الذين حاربوه من قومه وغيرهم .
الرابعة : سرعة إيمان المسلمين به إذ آمنت به زوجته خديجة في اليوم الثاني لبعثته وآمن الإمام علي عليه السلام في اليوم الثالث لنبوته .
الخامسة : إيمان طائفة من الوافدين إلى مكة للحج أو العمرة .
السادسة : معجزة بيعة العقبة الأولى والثانية ، وتعهد وفد الأوس والخزرج بالذب والدفاع عنه .
السابعة : هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنصاره واتباعه المسلمين في المدينة .
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل القبائل الذين يفدون إلى مكة لحج البيت الحرام إجارته في ديارهم من كفار قريش من غير أن يشترط عليهم دخول الإسلام ، فيمتنعون عن الإستجابة خشية من أذى وبطش قريش ، فأنعم الله عز وجل عليه بالأنصار ، وهم يتصفون بأمور :
الأول : كثرة عدد الأنصار ، فقد كان عددهم في بيعة العقبة الثانية كما عن ابن إسحاق ( ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان فمن الاوس أحد عشر رجلا: أسيد بن حضير أحد النقباء، وأبو الهيثم بن التيهان بدرى أيضا، وسلمة بن سلامة ابن وقش بدرى، وظهير بن رافع، وأبو بردة بن نيار ، ونهير بن الهيثم بن نابى بن مجدعة بن حارثة، وسعد بن خيثمة أحد النقباء، بدرى وقتل بها شهيدا، ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير نقيب بدرى، وعبد الله بن جبير بن النعمان بن أمية بن البرك بدرى، وقتل يوم أحد شهيدا أميرا على الرماة، ومعن بن عدى بن الجد بن عجلان بن الحارث ابن ضبيعة البلوى حليف للاوس شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة شهيدا، وعويم بن ساعدة شهد بدرا وما بعدها.
ومن الخزرج اثنان وستون رجلا: أبو أيوب خالد بن زيد، وشهد بدرا وما بعدها ومات بأرض الروم زمن معاوية شهيدا، ومعاذ بن الحارث، وأخواه عوف ومعوذوهم بنو عفراء بدريون، وعمارة بن حزم شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة، وأسعد بن زرارة أبو أمامة أحد النقباء، مات قبل بدر، وسهل بن عتيك، بدرى، وأوس بن ثابت بن المندر بدرى، وأبو طلحة زيد بن سهل، بدرى، وقيس بن أبى صعصعة عمرو بن زيد بن عوف ابن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن كان أميرا على الساقة يوم بدر، وعمرو بن غزية، وسعد بن الربيع أحد النقباء شهد بدرا وقتل يوم أحد، وخارجة بن زيد شهدبدرا وقتل يوم أحد.
وعبد الله بن رواحة أحد النقباء، شهد بدرا وأحدا والخندق، وقتل يوم مؤتة أميرا، وبشير بن سعد، بدرى، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الذى أرى النداء، وهو بدرى.
وخلاد بن سويد بدرى أحدى خندقي، وقتل يوم بنى قريظة شهيدا، طرحت عليه رحى فشدخته، فيقال إن رسول الله صلى الله عيله وسلم قال: ” إن له لاجر شهيدين.
وأبو مسعود عقبة بن عمرو البدرى.
قال ابن إسحاق: وهو أحدث من شهد العقبة سنا ولم يشهد بدرا.
وزياد بن لبيد، بدرى، وفروة بن عمرو بن وذفة وخالد بن قيس بن مالك بدرى، ورافع بن مالك أحد النقباء، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق، وهو الذى يقال له مهاجري أنصارى، لانه أقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة حتى هاجر منها، وهو بدرى قتل يوم أحد، وعبادة بن قيس بن عامر بن خالد بن عامر بن زريق بدرى، وأخوه الحارث بن قيس بن عامر بدرى أيضا.
والبراء بن معرور أحد النقباء وأول من بايع فيما تزعم بنو سلمة، وقد مات قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأوصى له بثلث ماله فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم على ورثته. وابنه بشر بن البراء، وقد شهد بدرا وأحدا والخندق ومات بخيبر شهيدا من أكله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الشاة المسمومة، رضى الله عنه، وسنان بن صيفي
ابن صخر بدرى، والطفيل بن النعمان بن خنساء بدرى، قتل يوم الخندق، ومعقل بن المنذر بن سرح بدرى، وأخوه يزيد بن سنان المنذر بدرى، ومسعود بن زيد بن سبيع، والضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بدرى، ويزيد بن خذام بن سبيع، وجبار بن صخر (بن أمية) بن خنساء بن سنان بن عبيد بدرى، والطفيل بن مالك بن خنساء بدرى.
وكعب بن مالك، وسليم بن عامر بن حديدة بدرى، وقطبة بن عامر بن حديدة بدرى، وأخوه أبو المنذر يزيد بدرى أيضا، وأبو اليسر كعب بن عمرو بدرى، وصيفى ابن سواد بن عباد.
وثعلبة بن غنمة بن عدى بن نابى، بدرى واستشهد بالخندق، وأخوه عمرو بن غنمة بن عدى، وعبس بن عامر بن عدى، بدرى، وخالد بن عمرو بن عدى بن نابى، وعبد الله بن أنيس حليف لهم من قضاعة.
وعبد الله بن عمرو بن حرام أحد النقباء، بدرى واستشهد يوم أحد، وابنه جابر ابن عبدالله، ومعاذ بن عمرو بن الجموح بدرى، وثابت بن الجذع، بدرى وقتل شهيدا بالطائف، وعمير بن الحارث بن ثعلبة بدرى، وخديج بن سلامة حليف لهم من بلى، ومعاذ بن جبل شهد بدرا وما بعدها ومات بطاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب.
وعبادة بن الصامت أحد النقباء شهد بدرا وما بعدها، والعباس بن عبادة بن نضلة، وقد أقام بمكة حتى هاجر منها، فكان يقال له مهاجري أنصارى أيضا، وقتل يوم أحد
شهيدا، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم حليف لهم (من بنى غصينة) من بلى وعمرو بن الحارث بن لبدة ، ورفاعة بن عمرو بن زيد بدرى، وعقبة
ابن وهب بن كلدة حليف لهم بدرى وكان ممن خرج إلى مكة فأقام بها حتى هاجر منها، فهو ممن يقال له مهاجري أنصارى أيضا، وسعد بن عبادة بن دليم أحد النقباء، والمنذر بن عمرو نقيب بدرى أحدى وقتل يوم بئر معونة أميرا وهو الذى يقال له: أعتق ليموت.
وأما المرأتان فأم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو ابن غنم بن مازن بن النجار، المازنية النجارية( ).
الثاني : لقد بعث النبي مصعب بن عمير سفيراً إلى المدينة (يثرب ) مع وفد الأوس والخزرج في بيعة العقبة الأولى ليعلمهم القرآن والتفقه في الدين ، ويدعو أهل يثرب إلى الإسلام ، وقد دخله على يده عدد من أشراف ورجال المدينة إذ كان يذهب إلى مجالسهم ، ويتلو عليه القرآن ، ويرّغبهم بدخول الإسلام يؤازره رجال العقبة من الأنصار , فكان أحدهم يدعو أباه وأخاه وأمه إلى الإسلام .
الثالث : توطئة الأنصار لقدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة والمناجاة بلزوم الذب والدفاع عنه .
الرابع : مع دخول الأنصار في الإسلام زال التردد الذي كان يصاحب طائفة من أهل مكة وأفراد القبائل ، فدخلوا الإسلام ، ليكون الأنصار شاهد صدق وحجة على الناس ، لتكون نصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) ولبيان قانون وهو أن الفعل الإيماني متعدد النفع والقصد والغاية الكريمة والأثر الحميد ، ولا يعلم إلا الله ماذا يحدث لو لم يؤمن الأنصار ويهاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يثرب ، نعم يتفضل الله عز وجل بأسباب أخرى لنصر الإسلام ، إذ أنه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة .
الخامس : إستقبال الأنصار للمهاجرين ، وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بينهم ، ومن الإعجاز وقوع هذه المؤاخاة قبل معركة بدر ، لتكون زاجراً للمشركين عن الهجوم على المدينة وسبباً للمناجاة في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند قيام المشركين بالغزو وإختيارهم القتال .
الأمر الثاني : لولا دخول الناس طواعية في الإسلام ، ومما هو ثابت كتاباً وسنة وتأريخياً دخول المهاجرين والأنصار الإسلام طواعية من غير إكراه أو إغراء بمال ونحوه ، ولم يكن عند النبي أموال ، وبقي إلى آخر أيام حياته يقترض أحياناً , مع أنه قد يوزع في اليوم الواحد مائتي أو ثلاثمائة الف .
وهو من خصائص وعلامات النبوة ، وحسن التوكل على الله ، ورجاء رفده وفضله ، وبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يطلب الدنيا ، ولم يسع إليها ، ولم يغادرها عن تركة وأموال وعقارات .
وعن عمرو بن الحارث أخي جويرية ، وكانت له صحبة : ( قال: ما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم إِلا سلاحه وبغلته البيضاء- قال أَبو أَحمد الشهباء- وأَرضًا جعلها صدقة.) ( ).
وكانت بيوت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي الغرف التي كانت تسكن فيها أزواجه لهن حق السكن فيها إلى حين وفاتهن ، وليست هي ميراثاً لهن ، ولو كانت ميراثاً لتقاسمن الثُمن منها ، ولم يطلب ورثتهن بهذه الغرف أو الثمن .
ولما توفاهن الله عز وجل في آجالهن جعلت تلك البيوت زيادة في المسجد النبوي لينتفع المسلمون جميعاً من فيوضات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ، ثم تضاعفت مساحة المسجد النبوي أضعاف كثيرة .
وقال طائفة أن تلك البيوت ملك لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدليل أنهن سكّن فيها بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى إلى وفاتهن.
الوقوف في عرفة
من معاني صدّ الذين كفروا عن المسجد الحرام منع الناس من الوقوف في عرفة بصيغة الإيمان ، وتبعد عرفة أو عرفات عن المسجد الحرام أربعة وعشرين كيلوا متراً تقريباً ، وسمي عرفة لوجوه منها :
الأول : اعتراف آدم بذنوبه على عرفات بأمر وإرشاد من جبرئيل ، ليصبح الإعتراف بالذنوب على عرفة سنة في ولد آدم ، وهل في منسك الوقوف على عرفة دعوة للذين كفروا للإعتراف بذنوبهم ، ومنها صدّ الناس عن المسجد الحرام .
الجواب نعم ، سواء كان وقوف ذات الكفار ، أو وقوف المؤمنين لما فيه من الإتعاظ .
فلا يشترط في التوبة وقوف الإنسان على عرفة إنما يكون هذا الوقوف تذكيراً للناس بلزوم التوبة ، وحثاً للذين كفروا بلزوم الكف عن إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لما في يوم عرفة من التعريف بالواجبات والأوامر والنواهي .
ومن أسباب تسمية عرفة أن جبرئيل قال لآدم عليه السلام هذه عرفات فاعترف بذنبك وأعرف مناسكك ، ومن معاني وأسباب نزول قوله تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ] ( ) أن قريشاً كانوا يقفون يوم عرفة فانها أبعد وليست من الحرم .
ويقولون نحن قطان بيت الله فلا نخرج من الحرم في الحج ، بينما يقف عامة الناس بعرفات ، فنزلت الآية لتتضمن الأمر من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن يفيضوا جميعاً من عرفات لتبقى هذه الشعيرة إلى يوم القيامة من غير تحريف أو تغيير .
(عن جابر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول : لتأخذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) ( ).
ليكون من معاني الجمع بين الآية أعلاه وبين هذا الحديث أن المناسك التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هي من عند الله عز وجل.
ومن لطف الله عز وجل بالناس تهيئة مقدمات وأسباب معرفة المناسك ، سواء كان المتولون للمسجد من المتقين أم من الذين كفروا ، لبيان قانون وهو أن تولي الذين كفروا للمسجد الحرام لا يقف عائقاً دون معرفة الناس لمناسكهم ، وهذه المعرفة من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
الثاني : تعارف آدم وحواء عند جبل عرفات بعد هبوطها إلى الأرض .
الثالث : معرفة آدم عليه السلام بقبول مناسكه والذي يدل على صحة أدائه لها (عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن آدم أتى هذا البيت ألف أتية ، لم يركب قط فيهن من الهند على رجليه ، من ذلك ثلثمائة حجة وسبعمائة عمرة ، وأول حجة حجها آدم وهو واقف بعرفات أتاه جبريل فقال : يا آدم برّ نسكك ، أما إنا قد طفنا بهذا البيت قبل أن تخلق بخمسين ألف سنة) ( ).
الرابع : طواف جبرئيل بابراهيم عليه السلام ليعرف المشاهد في الحرم ، وهو يقول له أعرفت أعرفت ، فيقول إبراهيم : عرفت عرفت (عن مجاهد قال : قال إبراهيم عليه السلام : رب أرنا مناسكنا . فاتاه جبريل فأتى به البيت .
فقال : ارفع القواعد . فرفع القواعد وأتم البنيان ، ثم أخذ بيده فأخرجه ، فانطلق به إلى الصفا قال : هذا من شعائر الله ، ثم انطلق به إلى المروة فقال : وهذا من شعائر الله ، ثم انطلق به نحو منى ، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة .
فقال : كبر وارمه . فكبر ورماه ، ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى ، فلما حاذى به جبريل وإبراهيم قال له : كبر وارمه . فكبر ورمى ، فذهب إبليس حتى أتى الجمرة القصوى ، فقال له جبريل : كبر وارمه . فكبر ورمى ، فذهب إبليس وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئاً فلم يستطع ، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام ، فقال : هذا المشعر الحرام ، ثم ذهب حتى أتى به عرفات قال : قد عرفت ما أريتك؟ قالها ثلاث مرات .
قال : نعم . قال : فأذن في الناس بالحج . قال : وكيف أؤذن؟ قال : قل يا أيها الناس أجيبوا ربكم ثلاث مرات ، فأجاب العباد لبيك اللهم ربنا لبيك ، فمن أجاب إبراهيم يومئذ من الخلق فهو حاج) ( ).
وورد عن ابن عباس ما يدل على أن جبرئيل عليه السلام كان يخبر إبراهيم عليه السلام عن اسماء المواضع في مكة والحرم وعرفة : قال (إنما تسمى عرفات لأن جبريل كان يقول لإِبراهيم عليهما السلام : هذا موضع كذا ، وهذا موضع كذا . فيقول : قد عرفت قد عرفت ، فلذلك سميت عرفات) ( ).
الخامس : في عرفات يعرف الواقف على الجبل أنه أدرك الحج .
(عن عبد الله بن يعمر الديلمي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول وهو واقف بعرفة وأتاه أناس من أهل مكة فقالوا : يا رسول الله كيف الحج؟ .
فقال : الحج عرفات ، الحج عرفات ، فمن أدرك ليلة جمع قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك أيام منى ثلاثة أيام { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه }( ) ثم أردف رجلاً خلفه ينادي بهن) ( ).
لقد جعل الله عز وجل التعاطف والتوادد سمة وصفة المؤمنين في يوم عرفة بصيغة الإيمان لأنه الجامع المشترك ، وعلة وقوفهم على عرفات ، فلا يضر بهذا الوقوف استيلاء الذين كفروا على ولاية المسجد الحرام ،فمع تباعد البلدان وتعدد الإنتساب القبلي واختلاف الألسن والألوان يتعارف المسلمون فيما بينهم ، فاراد الله عز وجل لهذا التعارف أن يكون لواء تولية المتقين ، ليكون مناسبة للتوبة والإنابة ووسيلة للأجر والثواب ، ومانعاً من الفرقة والفتنة .
لقد جعل الله عز وجل يوم عرفة لمعرفة أحكام الدين والتوحيد ، ولكن الذين كفروا نصبوا الأوثان في البيت ، وهي من مظاهر الشرك والضلالة ، فنزلت آية البحث .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) وقوف الناس على جبل عرفة طاعة لله وتقرباً إليه ، لبيان قانون تعدد منافع دعوة المؤمنين لله عز وجل ، ومنها في المقام :
الأول : الهداية للعمل الصالح .
الثاني : معرفة الناس بأن الذين كفروا ليسوا أولياء للمسجد الحرام .
الثالث : العبادة طريق لتنزه الناس عن النفاق .
الرابع : نزول البركة على الناس عامة ، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]( ).
والوقوف على عرفات ركن من أركان حج البيت الحرام وليس هو من أفعال العمرة سواء عمرة التمتع أو العمرة المفردة
ومن خصال المؤمنين تعاهد هذا الركن سواء بالوقوف فيه أو تهيئة مقدماته أو الحفاظ على السنة مدة الوقوف وهي من أوان الظهر إلى غروب الشمس من يوم عرفة .
ومن واجبات أولياء المسجد الحرام تعاهد يوم عرفة والعلامات المنصوبة لها ، وعدم جعل الأوثان والأصنام فيها، ويتخلف الذين كفروا عن هذه الوظيفة العبادية .
ولو ترك المكلف المسمى القليل منه بطل حجه (عن عبد الرحمن بن يعمر ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعرفة ، وأتاه ناس من أهل نجد وهو بعرفة فسألوه فأمر مناديا فنادى : الحج عرفة ، ومن جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك أيام منى ، ثلاث من تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه) ( ).
يمكن تقسيم الوقوف بعرفة تقسيماً إستقرائياً إلى قسمين بينهما عموم وخصوص مطلق:
الأول : مسمى الوقوف وهو الركن.
الثاني : الوقوف المستوعب للوقت ما بين الزوال إلى الغروب وهو واجب، لأن ترك بعض الوقوف بعرفة لا يبطل الحج.
من ترك الوقوف بعرفات نسياناً تداركه ما دام وقته الإختياري والإضطراري باقياً .
وقت الوقوف الإختياري لوقوف عرفة من زوال الشمس في تاسع ذي الحجة إلى الغروب، ووقته الإضطراري من الغروب إلى الفجر من يوم النحر، ولا يجب في الإضطراري إستيعاب هذا الوقت بل يكفي المسمى القليل.
والوقوف على عرفة شاهد وجداني على أن أرضه منسك للعبادة ، وأن هذا الوقوف في أوانه طاعة لله عز وجل ، ومن الآيات إرتفاع جبل عرفة ، وهو جبل الرحمة ليكون معلماً على عز ورفعة المؤمنين .
وفي الوقوف على عرفة تعاهد لأداء ابراهيم واسماعيل المناسك وسعيهما في بناء البيت الحرام ، وفيه عهد وتعاهد لفريضة الحج .
ويلزم الوقوف على عرفة الإنضباط العام بآداب التقوى والتقيد بذات الأحكام والأفعال الواجبة ، ولا يتقيد الذين كفروا بالواجبات المنصوصة في أنفسهم وغيرهم .
وهو من الشواهد على عدم أهليتهم لولاية المسجد الحرام وعلى لزوم تنحيهم عن هذه الولاية ، وليكون من معاني قوله تعالى [إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ] ( ) ان المؤمنين يؤدون المناسك كما جاء بها ابراهيم عليه السلام وكما أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ) .
والوقوف بعرفة حفظ لمبادئ التوحيد والذين كفروا يجحدون بهذه المبادئ ويفرطون بها ، فأراد الله عز وجل للناس أداء المناسك بازاحة الذين كفروا عن ولاية المسجد الحرام .
لقد أخبر الله عز وجل عن جعل البيت للناس جميعاً بقوله [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ) فيتفضل الله عز وجل بتهيئة أسباب تعاهد البيت الحرام وأداء المناسك فيه وحوله ، كما أداها الأنبياء ليقوم المتقون بأداء تلك المناسك ، وصيرورتهم أسوة للناس في التولية وأداء المناسك ، فتفضل الله عز وجل وأخبر بأن العذاب نازل بالذين كفروا لجحودهم وصدّهم الناس عن المسجد الحرام وعن عرفة والمشعر الحرام .
والوقوف على عرفة مظهر للتقوى والزهد والإنقطاع عن الدنيا في ذات يوم عرفة وعند مقدماته والتهيئ له ، ومن خصائص الذين كفروا الإنشغال بالدنيا والجمع لها .
وفي الوقوف في عرفة زوال للفوارق في الغنى والفقر , والجاه والمنصب ،ويقف الحاكم والمحكوم والسيد والعبد بموضع واحد وبلباس بسيط واحد يذكر الناس بحال وإحتضار وغربة القبر وعالم الآخرة ، والوقوف على عرفة حرب على الكفر والجحود ، ومانع من صدّ الناس عن المسجد الحرام ودعوة لإزاحة الذين كفروا عن ولايته طوعاً وقهراً ، فما دام الناس يواظبون على الوقوف على عرفة كل سنة فان الكفار لا يستطيعون البقاء في ولاية المسجد الحرام .
وهل ذات الوقوف على جبل عرفة من تعذيب الذين كفروا الذين تذكره آية البحث بقوله تعالى[وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ] ( ) الجواب نعم ، فان هذا العذاب أعم من أن يختص بما يأتي من الله عز وجل من غير واسطة ، فقد يأتي على أيدي عمار المسجد أنفسهم , قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
لقد جعل الله الملائكة يكتبون الحسنات التي يفعلها بنو آدم , وشاء الله عز وجل أن تحضر الملائكة موسم الحج وتكتب طواف المسلمين بالبيت الحرام ، ولا يرضى الملائكة بولاية الذين كفروا للمسجد الحرام وتوليهم لشؤون المؤمنين في المناسك ، فيكتبون على الذين كفروا الإثم والمعصية بتوليهم قهراً المسجد الحرام ، ونصبهم الأوثان فيه ، وهل يقوم الملائكة بالدعاء والمسألة لتقريب وتيسير فتح مكة وتحقيق مصداق آية البحث بتولي المتقين ولاية المسجد الحرام ، الجواب نعم ، ومن خصائص هذه التولية العناية بأمور :
الأول : إتحاد أفعال الحج .
الثاني : التقيد بأفعال الحج من جهة الزمان والمكان , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
الثالث : طهارة عرفات والمشعر الحرام من الأوثان ومظاهر الكفر والصدود .
الرابع : إجتهاد الواقفين على عرفات بذكر لله عز وجل قيامهم بالتسبيح والتهليل والتلبية وسؤال حاجات الدنيا والآخرة ، وقد قام الأنبياء بالتلبية في الحج .
وعن الباقر عليه السلام: “حج موسى بن عمران ومعه سبعون نبياً من بني اسرائيل خطم إبلهم من ليف، يلبون وتجيبهم الجبال وعلى موسى عبائتان قطوانيان يقول: لبيك عبدك وابن عبدك، ومرّ يونس بن متى بصفائح الروحاء وهو يقول: لبيك كشاف الكرب العظام لبيك، ومرّ عيسى بن مريم بصفائح الروحاء وهو يقول: لبيك عبدك وابن أمتك لبيك…”.) ( ) .
وهل يختص حج البيت الحرام في الأزمنة السابقة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأنبياء أم يشمل أنصارهم وأتباعهم وذرياتهم ، الجواب هو الثاني لتولي ابراهيم واسماعيل باعادة بناء البيت الحرام , ودعوتهما الناس لحجه , وهداية الناس للاستجابة , قال الله في خطاب لإبراهيم [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
ثم توارث الأنبياء حج البيت والطواف به ، وتجديد عهد الناس بالتلبية وان كانت بغير صيغة التلبيات الأربعة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك).
وهل يستطيع الذين كفروا تعاهد المناسك التي أداها الأنبياء بشرطها وشروطها ، الجواب لا ، لذا نزلت آية البحث لتعاهد هذه المناسك ولبيان قانون وهو ان ولاية المتقين للمسجد الحرام سبيل لأداء المسلمين المناسك كما أداها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء الآخرين ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال وهو يؤدي المناسك (خذوا عني مناسككم )( ).
ترى ماذا لو بقي المشركون يتولون شؤون المسجد الحرام , الجواب هو قيامهم بالتفريط بالمناسك وسنن التوحيد على الأرض حتى أنهم كانوا يبدلون أوان الحج بالنسيئة والإرجاء في الشهور ، قال تعالى [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ) .
وهل هذا النسئ من مفاهيم وسنن الكفر، وولاية الذين كفروا للمسجد الحرام ، الجواب نعم ، وفي حجة الوداع قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض)( ).
فمن ظلم الذين كفروا في ولايتهم للبيت تبديل أوان الأشهر الحرم وهي شهر ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ثلاثة شهور سرد ، وشهر رجب منفصل , وأي زحف في أحد الشهور هو تبديل فيها جميعا للتعاقب بينها .
فتفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمنع هذه الفتنة وسبب الضلالة الذي لو استمر بتبديل الأشهر الحرم كي يستمر القتال والقتل لجاءت ذات الأشهر الحرم في غير أوانها فيتجرأ الناس بالتعدي في الأشهر الحرم الأصلية والبديلة ، فمن أضرار النسئ النسخ في الأشهر الحرم وأداء المناسك في وقتها ، فتفضل الله بصرف هذا النسخ ، وهذا الصرف من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ، وقد قال الله [وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
وهل هذا التبديل من مصاديق قوله تعالى [وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : لا يعلم الذين كفروا حرمة تبديل الأشهر الحرم .
الثانية : تبديل أوان الأشهر الحرم سبب بوقوع الحج في غير أوانه .
الثالثة : ظهور النقص في وفد الحاج بسبب التأجيل والتسويف والإنشغال بالقتال.
الرابعة : تبديل الأشهر الحرم عن أوانها صدّ عن المسجد الحرام ، وفيه شاهد على حاجة الناس لتولي المؤمنين أمور المسجد الحرام ، وأداء الناس الحج بشرائطه عند تولي المؤمنين أمور المسجد الحرام وأداء الناس الحج في أوانه .
فمن الإعجاز بحصر ولاية المسجد الحرام بالمتقين التقيد بأحكام الأشهر الحرم ، وحمل الناس على الإمتناع عن الخصومة والقتال والثأر في الأشهر الحرم ، وأداء الناس الحج في أوانه مناسبة لنزول الملائكة لتطلع على الواقفين على عرفة والشهادة لهم يوم القيامة .
وهو من البشارات بقرب فتح مكة ، ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم دخل البيت الحرام من غير قتال يذكر ، وهل من موضوعية لقوله تعالى [إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ]( )، في هذا الفتح وتيسيره الجواب نعم ، إذ تدل الآية على تعذيب الذين كفروا على صدّهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن فتح مكة ،وولاية المسجد الحرام وفيه بيان لقانون وهو لم تتم ولاية المتقين للمسجد الحرام إلا باذن وتيسير ومدد من الله عز وجل .
والوقوف على عرفة إجتماع عبادي عام يعرف المسلمون بواسطته واجباتهم ، وفيه ارتقاء في المعرفة الإلهية ، ويطلعون على أخبار البلدان وأحوال الأمم ، ويتدارس فيه المسلمون آيات التنزيل ، ويستحضرون عالم الآخرة ، ولزوم الإستعداد له .
ويدل قوله تعالى [إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ]( )، على قانون وهو بقاء ولاية المتقين للمسجد الحرام إلى يوم القيامة والوقوف على عرفة شاهد على الوحدة في طاعة الله وللوقوف في عرفة آداب خاصة تدل على الإنقطاع إلى الله ورجاء رحمته وعفوه .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام :
ألا أعلمك دعاء يوم عرفة وهو دعاء من كان قبلي من الأنبياء؟ فقال علي عليه السلام: بلى يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: تقول:
(لاَ إله الاَ الله وحده لاَ شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، ويميت ويحيي وهو حي لاَ يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، اللهم لك الحمد أنت كما تقول وخير ما يقول القائلون، اللهم لك صلاتي وديني ومحياي ومماتي، ولك تراثي، وبك حولي ومنك قوتي، اللهم اني أعوذ بك من الفقر، ومن وسواس الصدر، ومن شتات الأمر، ومن عذاب النار، ومن عذاب القبر، اللهم اني أسألك من خير ما يأتي به الرياح، وأعوذ بك من شر ما يأتي به الرياح، وأسألك خير الليل وخير النهار).
الوقوف بالمشعر الحرام
وهو من أفعال ومناسك الحج ويدل تعدد تسميته على أنه من المناسك من أيام أبينا آدم عليه السلام وأسمائه هي :
الأول : المشعر بفتح وكسر الميم ، وورد في الرسم القرآني بالفتَح كما في قوله تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ]( ) ، وسمي المشعر بالحرام لأمرين :
أولاً : حرمة ذات المشعر الحرام .
ثانياً : لجزئية المشعر من الحرم ، وللمشعر ثلاثة أسماء :
الأول : المشعر الحرام .
الثاني : جمع ، وفي تسميته هذه وجوه :
أولاً : إجتماع آدم وحواء فيه .
ثانياً : إجتماع الناس في المشعر ليلة الحج الأكبر .
ثالثاً : لما انتهى آدم إلى المشعر جمع فيه بين صلاة المغرب وصلاة العشاء فسمي جمعاً.
رابعاً : اعترف آدم فيه بذنوبه سبع مرات أي أنه جمع ذنوبه وكرر الإستغفار منها .
خامساً : فيه يجتمع وفد الحاج ليلاً بعد الإفاضة من عرفات ، ويتكرر هذا الجمع كل سنة وإلى يوم القيامة ، مما يلزم تولي المتقين لأمور وشؤون المسجد الحرام .
الثالث : يسمى المشعر مزدلفة ، وفي سبب وموضوع هذه التسمية وجوه:
أولاً : إزدلاف الناس أي إقترابهم إلى منى بعد الإفاضة من عرفات ، ويقال : والزلفة : القربة (وازْدَلَفَ القَوْمُ: اقْتَرَبُوا( ).
ثانياً : مجئ الحاج في زلف من الليل ، أي ساعة بعد ساعة ويقال : مضت زلفة من الليل أي طائفة منه .
ثالثاً : إزدلاف واقتراب جبرئيل من المشعر الحرام .
رابعاً : قال جبرئيل عليه السلام لإبراهيم وهو في عرفات مزدلف إلى المشعر الحرام ، فسميت مزدلفة.
خامساً : هو الموضع الذي إزدلف فيه آدم إلى حواء ، أي تقدم وقرب إليها.
ومن بين هذه الأسماء الثلاثة ، المشعر الحرام ، وجمع ، ومزدلفة ، في القرآن إلا اسم المشعر ، وقيدته الآية بأنه حرام مما يدل على عدم أهلية الذين كفروا لولايته ، وتخلفهم عن الحفاظ على حرمته ، ترى لماذا ذكرت آية البحث خصوص المسجد الحرام وولايته ، الجواب من وجوه :
الأول : تبعية المشاعر للمسجد الحرام .
الثاني : اتيان الناس والمعتمرين المسجد الحرام كل يوم من أيام السنة ، بينما يأتي وفد الحاج مرة في السنة ، وفي مرسلة مجاهد : أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال : اللّهمّ اغفر للحاجّ ولمن إستغفر له الحاجّ( ).
الثالث : أكثر أعمال الحاج في المسجد الحرام ، بالطواف به ، وصلاة ركعتين عند مقام إبراهيم والسعي بين الصفا والمروة ، والحلق أو التقصير في عمرة التمتع أو العمرة المفردة .
الرابع : إتخاذ المسلمين في مشارق ومغارب الأرض المسجد الحرام قبلة في الصلاة اليومية والصلاة المستحبة .
الخامس : ذكر آيات القرآن لوضع البيت الحرام للناس جميعاً ، لبيان أنه مظهر من مصاديق رحمة الله بالناس جميعاً ، وهل البيت موضوع للناس بخصوص الحياة الدنيا أم يشمل عالم الآخرة .
الجواب هو الثاني , وفي التنزيل[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
السادس : عمارة المسجد الحرام كل يوم ، وميل النفوس إليه .
السابع : البيان والوضوح وإقامة الحجة في تسمية المسجد الحرام بالذات ، لأن المسجد اسم من السجود والخضوع والخشوع لله عز وجل .
الثامن : بيان آية البحث لحقيقة يدركها كل إنسان بلحاظ الوقائع , وهي صدّ الذين كفروا الناس عن المسجد الحرام ومنعهم من العبادة فيه وإقامة الصلاة .
التاسع : إرادة المعنى الأعم من المسجد الحرام ، ومنه هدى الإيمان ، وسبل الرشاد ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن مستحبات الإفاضة من عرفات الكون على الوقار والسكينة مع الإستغفار ، ولكن الذين كفروا يصرون على الجحود.
وكانت قريش لا تقف في عرفة ، لانفرادهم عن الناس ، وعزل أنفسهم عن وفود القبائل والحجيج فكانوا يقفون على جبل في المشعر الحرام ويسمى قُزَح ، بضم القاف وفتح الزاء ، وهو جبل في مزدلفة ، وقيل هو الموقف الذي توقد فيه النيران في الجاهلية .
وعن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر الصديق على الحجّ وأمره أن يخرج بالناس جميعاً إلى عرفات فيقف بها فإذا غربت الشمس أفاض بالناس منها حتّى يأتي بهم جمعاً فيبيت بها حتّى إذا أصبح بها وصلى الفجر ووقف الناس بالمشعر الحرام ثمّ يفيض منها إلى مِنى قال : فتوجه أبو بكر نحو عرفات فمَّر بالحمس( )، وهم وقوف بجمع فلمّا ذهب يتجاوزهم .
قالت له الحمس : يا أبا بكر أين تُجاوزنا إلى غيرنا هذا مفيض آبائك فلا تذهب حتّى تفيض أهل اليمن وربيعة من عرفات فمضى أبو بكر لأمر الله وأمر رسوله حتّى أتى عرفات وبها أهل اليمن وربيعة وهم الناس في هذه الآية فوقف بها حتّى غربت الشمس ، ثمّ أفاض بالناس إلى المشعر الحرام حتّى وقف بها حتّى إذا كان عند طلوع الشمس أفاض منها( ).
ومن مناسك الحج استحباب السعي (في وادي مُحَسِّر – بضم الميم وكسر السين المشددة ولو مائة خطوة، ولو تركه الحاج أستحب له الرجوع للسعي فيه وإن كان قد دخل مكة، وقد أفاض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليه السكينة وأوضع ( )في وادي محسر)( ).
ووادي محسر- اسم فاعل من التحسير أي الإيقاع في الحسرة، سمى به لأن أصحاب أبرهة الأشرم أصابتهم الحسرة في هذا الموضع لما أبتلوا به في محاولتهم الوصول إلى الكعبة وقد سعى في هذا الوادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقع بين مزدلفة ومنى ، وهو حد من حدود منى فهو أقرب إلى منى ، وتدعو عند تجاوزه أو عند الركوب بعد السعي فيه كما في الصحيح: اللهم سلّم لي عهدي، وأقبل توبتي وأجب دعوتي وأخلفني فيمن تركت بعدي.
وفي المسجد الحرام الحجر الأسود وهو يمين الله في الأرض وورد ( عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق ( ).
ومن يستلمه بيده يستحب له تقبيله مع السعة والمندوحة وعدم الضرر وانتفاء الزحام ، وإذا لم يستطع استلامه يستقبله ويكبر ويقول (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ومَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَولاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ولاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ واللَّهُ أَكْبَرُ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِهِ وأَكْبَرُ مِمَّنْ أَخْشَى وأَحْذَرُ وَلاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ ولَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي ويُمِيتُ ويُمِيتُ ويُحْيِي بِيَدِهِ الْخَيْرُ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ).
ومن بديع قدرة الله عز وجل نزول آية البحث لبعث النفرة في نفوس وفود الحاج والقبائل من الذين كفروا وولايتهم للمسجد بغير حق ، فمن إعجاز القرآن نزول الآية منه لتزلزل الأرض من تحت أقدام الذين كفروا ، وتنذرهم بازاحة سلطانهم عن المسجد الحرام ، وتخبرهم عن ملاحقة العذاب لهم.
فمن إعجاز آية البحث ذكرها للعذاب بصيغة الإجمال من غير بيان لموضوعه وكيفيته وأوانه لإرادة أصالة الإطلاق فيه , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
رمي الجمرات
وتجب في رمي الجمرة أمور :
الأول : قصد القربة ويكفي في النية العنوان الإرتكازي .
الثاني : الرمي لسبع حصيات في كل جمرة وعليه النص والإجماع.
الثالث : القاء الحصاة (يسمى رمياً فلا يكفي مجرد الوضع، وفيه نصوص مستفيضة.
الرابع : الرمي باليد، فلا يصح بالفم أو بآلة مُعدة لرمي الحصى.
الخامس : إصابة الجمرة، فلو لم يصبها لم يجز , وعليه النص والإجماع.
السادس : تلاحق الحصيات في الرمي.
السابع : كون الإصابة والرمي بفعل الرامي عرفاً.
(مسـألة644) يجب إصابة البناء المخصوص، ومع زواله يجزي إصابة محله، ولو فرض زيادة البناء وإرتفاعه مما كان عليه في القديم، فيجزي الرمي عليه مع عدم إمكان حصر الرمي على ما كان سابقاً والوسط ومع المشقة والزحام.
(مسـألة645) تكفي نية واحدة لرمي الحصيات السبعة في كل جمرة لأنه عمل واحد.
(مسـألة646) يجب أن تكون الإصابة منسوبة إلى فعل الرامي عرفاً، فلو وقعت الحصاة على شخص وتحرك ذلك الشخص فأصابت الجمرة بحركته فلا تجزي إذا كانت الإصابة منسوبة لحركة الشخص، أو لحصاة أخرى إلتقت بها أثناء الرمي، أما لو أصابت إنساناً أو غيره وهي في طريقها إلى الجمرة وأصابتها فانها تجزي.
(مسـألة647) لو شك في الإصابة تجب إعادة ما شك فيه.
(مسـألة648) لا يجوز رمي الحصيات السبعة دفعة واحدة بل يجب تفريقها، وإن لم يحصل التلاحق في الإصابة، ولو رمى حصاتين دفعة واحدة كانت رمية واحدة وإن تلاحقا في الإصابة، ولو رماهما متفرقتين فهما رميتان وإن إتفقتا في الإصابة.
(مسـألة649) يجوز الرمي راكباً وماشياً وقائماً وقاعداً.
(مسـألة650) يستحب في الرمي أمور:
الأول : الطهارة.
الثاني : الدعاء ، فمن خصائص عرفة والحرم أنهما من مظان الإستجابة ، وذكر أن استحباب الدعاء عند رمي الجمرة الثانية .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : الحجاج والعمار وفد الله عزّ وجلّ إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم ( ).
الثالث : أن تكون بينه وبين الجمرة عشرة أذرع إلى خمسة عشر ذراعاً.
الرابع : رميها خذفاً أي يضع الحصاة على بطن إبهام اليد اليمنى ويدفعها بظفر السبابة، وإن تعذر أو شق عليه ذلك وضعها بين السبابة والإبهام.
الخامس : أن يكون مستقبل القبلة حال الرمي، نعم في رمي الجمرة العقبة يوم النحر يجوز أن يستقبلها وإن إستدبر القبلة.
السادس : التكبير مع كل حصاة أي يقول عند رمي كل حصاة: “الله اكبر”، والدعاء بالمأثور.
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام تقول والحصى في يدك:
(اللَّهُمَّ هَؤُلاَءِ حَصَيَاتِي فَأَحْصِهِنَّ لِي وارْفَعْهُنَّ فِي عَمَلِي) ( ).
ثم ترمي فتقول مع كل حصاة:
(اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ ادْحَرْ عَنِّي الشَّيْطَانَ اللَّهُمَّ تَصْدِيقاً بِكِتَابِكَ وعَلَى سُنَّةِ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وآله وسلم، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجّاً مَبْرُوراً وعَمَلًا مَقْبُولًا وسَعْياً مَشْكُوراً وَذَنْباً مَغْفُوراً)
فاذا أتيت رحلك ورجعت من الرمي فقل:
(اللَّهُمَّ بِكَ وَثِقْتُ وعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ فَنِعْمَ الرَّبُّ ونِعْمَ الْمَوْلَى ونِعْمَ النَّصِيرُ).
لقد أراد الذين كفروا تحريف ونقض مناسك الحج في كيفيتها وفي زمانها بالنسئ مع موضوعية التعيين الزماني في صحة المناسك فاستحقوا من الله العذاب لظلمهم ، وهذا الظلم من وجوه :
الأول : ظلم الذين كفروا لأنفسهم بأداء مناسك الحج ناقصة مع نصب الأصنام في البيت والعناية بها في موسم الحج خاصة ، وليأتي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتلبيات الأربعة (لبيك اللهم لبيك ، لبيك لاشريك لك لبيك) فيهدم ويمحو أثر الأصنام في الواقع والنفوس .
وهل فيه رحمة بذات الذين كفروا الذين يتولون شؤون المسجد الحرام ، الجواب نعم ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ]( )، فبعثنا محمداً رحمة لهم ، ونجاة لهم من ظلمهم لأنفسهم بالتوبة والإنابة .
الثاني : ظلم رؤساء الكفر للناس بتغيير أوان الأشهر الحرم ، وقبح الغاية التي من أجلها يكون هذا التغيير بأن يستمر القتال والقتل في الأشهر الحرم المتصلة بالحل .
الثالث : تعدي الذين كفروا على مناسك الحج ، وحمل الناس على أتيانها في غير أوانها ، وهو من مصاديق عدم استحقاق الذين كفروا للولاية على المسجد الحرام .
من مناسك حج بيت الله الحرام رمي الجمرات سواء الحج الواجب بالذات
وهو للصرورة أو الحج الواجب بالعرض كالنذر واليمين أو الحج المستحب أو حج النيابة عن الغير ميتاً كان أو حياً عاجزاً عن أداء الحج مع توفر شرط الإستطاعة .
و(الْجَمْرَةُ وَهِيَ مُجْتَمَعُ الْحَصَى بِمِنًى فَكُلُّ كُومَةٍ مِنْ الْحَصَى جَمْرَةٌ وَالْجَمْعُ جَمَرَاتٌ وَجَمَرَاتُ مِنًى ثَلَاثٌ بَيْنَ كُلِّ جَمْرَتَيْنِ نَحْوُ غَلْوَةِ) ( ).
ويكون الرمي في ثلاث مواضع متقاربة من منى بكسر الميم ، وهو موضع مبارك يبعد عن البيت الحرام نحو ستة كيلو متر (والغالب عليه التذكير، وحدّه من العقبة الى وادي محسر .
و(عن ابن عباس ، قال : جاء جبريل عليه الصلاة والسلام إلى إبراهيم عليه السلام ؛ ليريه المناسك قال : فلما ذهب به انفرج له ثبير فدخله ، فأتى عرفات ، فقال له : أعرفت ؟ قال : نعم .
قال : ثم أتى جمعا فجمع به بين الصلاتين قال : فمن هناك سميت جمعا ، ثم أتى به منى فعرض له الشيطان عند الجمرة الأولى ، فقال له جبريل عليه الصلاة والسلام : خذ سبع حصيات ، فارمه بها ، وكبر مع كل حصاة ، ففعل ذلك ، فساخ الشيطان .
ثم عرض له عند الجمرة الثانية ، فقال له : خذ سبع حصيات فارمه ، وكبر مع كل حصاة ، ففعل فساخ الشيطان ، فعرض له عند جمرة العقبة ، فأمره بمثل ذلك ، ففعل فساخ الشيطان ، ثم لم يزل يعرض له) ( ) .
وسمُي منى لوجوه:
الأول : ان جبرئيل لما اراد مفارقة آدم عليه السلام قال له تمن قال: اتمنى الجنة.
الثاني : ان جبرئيل قال عندها لإبراهيم عليه السلام تمن على ربك ما شئت، فتمنى ان يجعل الله مكان ولده اسماعيل كبشاً يأمره بذبحه فداء له، فاعطاه الله مناه.
الثالث : سمي منى للدماء التي تمنى به أي تراق يوم النحر.
الرابع : التسمية دعوة للتمني والرجاء والمسألة فيه.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وأسباب هذه التسمية اذ انها تتضمن البشارة والوعد الكريم بالإستجابة بالجنة ودفع البلاء، وفيها اخبار عن اتصال ودوام عطاء وفضل الله تعالى ) ( ).
وواجبات منى على أقسام :
الأول : رمي الجمرات .
الثاني : ذبح الهدي قربة إلى الله ، وفي التنزيل بخصوص اسماعيل [وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ] ( ).
الثالث : تقصير الشعر أو حلقه ، وفي التنزيل [مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ]( ) .
الرابع : المبيت في منى ليالي التشريق وهي :
الأولى : ليلة الحادي عشر من شهر ذي الحجة .
الثانية : ليلة الثاني عشر من شهر ذي الحجة .
الثالثة : مبيت ليلة الثالث عشر من شهر ذي الحجة لمن بقي في منى لوقت الغروب من يوم الثاني عشر ولم ينفر قبل الغروب ، وقد ذكرنا في رسالتنا (مناسك الحج ) مسائل بخصوص المبيت في منى ومنها :
مسألة 548 : (يجب أن يبيت الحاج بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر مطلقاً، وإن جاء إلى مكة للطواف والسعي وجب عليه العود إلى منى ولو قبل الغروب للبيتوتة فيها إلا أن يبقى في مكة للعبادة.
مسألة : لا شيء عليه لو قضى شطراً من الليل في الطواف لأنه عبادة كما لو ابتدأ طواف الحج أو الوداع أو النساء بعد صلاة المغرب والعشاء من ليلة الحادي عشر أو الثاني عشر، وكذا بالنسبة للسعي بين الصفا والمروة.
مسألة : لو أكره على عدم المبيت في منى لا يجب عليه شيء.
يجوز أن يجعل الحاج طوافه في النصف الأول من ليلة الحادي عشر أو الثاني عشر، وكذا في النصف الثاني منه.
الواجب من المبيت في منى من أول الليل إلى أن يمضي النصف منه، وينبغي ضم شيء من النهار مما قبل الغروب إليه مقدمة علمية، ويجوز أن يخرج من منى بعد نصف الليل ويدخل مكة قبل الفجر.
الأفضل مبيت تمام الليل بمنى، بل يكره الدلجة منها قبل الصبح إلا أن تكون بقصد العبادة في مكة.
تجب النية في المبيت في منى، ويكفي فيها مجرد الداعي.
يجوز ترك المبيت في منى مع العذر ولا إثم عليه حينئذ.
كفارة عدم المبيت في منى
مسألة : لو بات في غير منى كان عليه عن كل ليلة شاة، سواء كان عامداً أو جاهلاً أو ناسياً، ولا شيء على المضطر والمنقطع إلى العبادة ليلتها.
لو بات في طريق منى ولو بعد عقبة المدنيين واصبح في غير منى وجب عليه الدم أيضاً وإن كان متوجهاً إليها على الأقوى، إلا في حال الإضطرار فلا شيء عليه.
لو بات في مكة مشغولاً بالعبادة والنسك والطواف والسعي والصلاة والدعاء والتسبيح لا كفارة عليه، ولا بأس بما يحتاج إليه من الأكل والشرب والنوم الغالب عليه ونحوه من المتعارف ما دام يصدق عليه عرفاً أنه منقطع الى الطاعة، ويصح مفهوم العبادة بالنظر إلى الكعبة الشريفة، وبالطواف الواجب والمستحب والسعي بين الصفا والمروة, وتلاوة القرآن.
مسألة : لا فرق فيما تقدم من الاحكام بين الحج الواجب والمندوب، ولو حج الولي بالصبي يجري عليه جميع ما تقدم.
مسألة : من وجب عليه ذبح شاة بسبب مبيته خارج منى، يجوز ذبحها في أي محل كان، ولا يجب فيها سن معين بل يكفي صدق المسمى، ولا يجوز التأخير من غير مسوغ بل يجب فوراً ففوراً.
مسألة : يجب التصدق بلحمها، ولا يجوز أكل صاحبها منها لأنها ليست من الهدي الذي يقسم أثلاثاً، نعم لو كان صاحب الكفارة والتي تذبح جبراناً محتاجاً جاز أكله منها.
مسألة : من مات وعليه الكفارة تخرج من أصل المال والتركة لأن الكفارات ديون.
مسألة : من لا يتمكن من الكفارة تسقط عنه، ويستغفر الله تعالى لأن الإستغفار كفارة.
مسألة : تدور الكفارة مدار الإثم إلا مع الدليل على الخلاف، أما الجبران بشاة أو دم مطلقاً فلا ملازمة بينه وبين الإثم.
ليلة الثالث عشر
مسألة : من غربت عليه الشمس ليلة الثالث عشر وهو بمنى وجب عليه المبيت تلك الليلة بها أيضاً، ولو خالف ولم يبت فيها بعد غروب الشمس فعليه الفداء على الأحوط.
مسألة : لو خرج منها قبل الغروب ثم رجع إليها لأخذ شيء نسيه مثلاً، أو لإتيان عمل لا يجب عليه المبيت وإن إتفق رجوعه مع الغروب، أما لو غربت عليه الشمس وهو مشغول للتهيؤ للخروج فيجب عليه المبيت.
مسألة : لو إتفق الغروب وهو يرمي الجمرات، وكان التأخر بسبب الزحام والضرورة فالأقوى عدم الكفارة.
مسألة : يشترط في جواز النفر في اليوم الثاني عشر أمران:
الأول: أن لا يدرك المساء.
الثاني: إتقاء الصيد والنساء.
فمن قام بالصيد، أو وطئ إمرأة، ولم يطف طواف النساء فيجب عليه المبيت ليلة الثالث عشر في منى.
مسألة : الأقوى أن الحكم أعلاه مختص بالعامد العالم، أما الجاهل والناسي والمعذور فلا يجب عليه المبيت، كما انه بالنسبة لحج التمتع مختص بإحرامه دون إحرام عمرة التمتع، وان كانت عمرة التمتع داخلة في حجه.) ( ).
أما رمي الجمار فهو رمي حصيات يجمعها الحاج بيده أو من ينوب عنه من مزدلفة ويجوز من عموم الحرم ، وتتصف هذه الحصى بصفات من جهة حجمها ولونها وشكلها وفيه مسائل:
(يستحب إلتقاط حصى الجمار من المشعر ودونه في الفضل أخذها من منى، ويجزي من الحرم مطلقاً ولو من وادي محسر.
مسألة : لا تؤخذ الحصى من المساجد ومنها مسجد الخيف لعمومات قوله تعالى [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ] ( ) ولقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام .
يعتبر في الحصى ان تكون بحيث يصدق عليها الحصى عرفاً، وان تكون ابكاراً لم يرم به سابقاً، فلا يجزي بغير الحصى سواء كان من الأرض كالآجر والخزف او غيرها، ولو شك في حصاة انها بكر او لا، يجوز الرمي بها.
مسألة : عدد الحصى سبعون، سبعة ليوم النحر، واحدى وعشرون لكل يوم من ايام التشريق الثلاث ، وعن الزهري قال (بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رمى الجمرة التي تلي المسجد مسجد منى رماها بسبع حصيات يكبر كلما رمى بحصاة ثم تقدم أمامها فوقف مستقبل البيت رافعا يديه يدعو يطيل الوقوف .
ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات يكبر كلما رمى بحصاة ثم ينحدر ذات الشمال فيقف مستقبل البيت رافعا يديه يدعو ثم يرمي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات يكبر كلما رمى بحصاة ثم ينصرف ولا يقف عندها) ( ) .
مسألة : يشترط في الرمي قصد القربة لأنه عبادة.
مسألة : لو رمى الحصاة ولم يكن الرمي صحيحاً أو أنه فاقد لشرط، فالأحوط إستحباباً عدم الرمي بها ثانياً من قبل الرامي نفسه، أو من قبل غيره ممن يعلم أنها من حصى الجمار.
مسألة : من إلتقط حصاة فإنه يملكها بالحيازة , وليس لغيره الرمي بها أو التصرف بها إلا بإذنه ورضاه، ولو رمى بها بدون رضاه كان رميه باطلاً، ويجوز التوكيل في الإلتقاط.
مسألة : لا تعتبر في الحصى الطهارة ويجوز تطهيرها بالغسل.
مسألة : لا يجوز إخراج الحصى من الحرم.
مسألة : يستحب أن تكون الحصاة برشاء أي منقطة، كُحلية اللون، ولا تكون صماء غير رخوة ولا سوداء ولا بيضاء ولا حمراء، ويكره أن يكسر من الحجارة والحصى.
مسألة : يستحب أن يكون حجمها مثل رأس الأنملة، وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن يرموا بمثل حصى الخذف.
ولو أنشئت شركات لبيع حصى الجمار بجمعها من مواضعها وبصفاتها الخاصة فهل يصح شراؤها واستعمالها ، أم لابد من قيام الحاج بالتقاطها بيده ، الجواب هو الأول وهو يلحق بالتوكيل بالإلتقاط ، ولعمومات قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( ) ولقاعدة نفي الحرج في الدين ، فيصح شراؤها نعم لا يصح عرضها وبيعها إلا في الحرم ولا يجوز اخراجها من الحرم .
وعن ابن عباس عن الفضل (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ) ( ).
لقد أراد الذين كفروا من قريش تحريف ونقض مناسك الحج في كيفيتها وفي زمنها بالنسئ مع موضوعية التعيين الزماني في صحة المناسك فاستحقوا من الله العذاب لظلمهم ، وهذا الظلم من وجوه :
الأول : ظلم الذين كفروا لأنفسهم بأداء مناسك الحج ناقصة محرفة ، مع نصب الأصنام في البيت والعناية بها في موسم الحج خاصة ، ليأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتلبيات الأربعة (لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك)
وهل التلبية رحمة بذات الذين كفروا الذين يتولون شؤون المسجد الحرام ، الجواب نعم لما فيها من الإجهار بالتوحيد والتذكير بوجوب نبذ عبادة الأوثان .
ليكون من معاني الآية [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ] ( ) فبعثنا محمداً رحمة لهم ونجاة لهم من ظلمهم لأنفسهم بالتوبة والإنابة .
توجه النبي محمد (ص) إلى بني سليم
لقد عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من معركة بدر بالظفر والعز مع الإنقطاع إلى الله عز وجل بالشكر والثناء عليه سبحانه ، وصار المشركون في معركة بدر على أقسام :
الأول : الذين قتلوا في المعركة وعددهم سبعون ، ومن الشواهد على قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ) أن عدداً من رؤساء قريش من بين القتلى ، وهم معروفون في مكة والمدينة والطائف وبلاد الشام واليمن ، مثل عتبة بن ربيعة ، أمية بن خلف ، أبو جهل ، عقبة بن أبي معيط .
ومن أسرار هذه المعرفة مسائل :
الأولى : لحوق الخزي بالمشركين في عامة الأمصار .
الثانية : إصابة الذين كفروا بالذل والهوان .
الثالثة : عزوف الناس عن نصرة الذين كفروا .
الرابعة : نزول الكساد بتجارة الذين كفروا , قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ]( ) .
الخامسة : تجرأ رجال القبائل على قريش ، وصيرورة سادات قريش في حال خشية على قوافلهم في البراري الشاسعة التي تقطعها بين مكة والشام ، وبين مكة واليمن .
السادسة : حال الحزن والبؤس عند أهل مكة وفي بيوت الذين كفروا ، فهذا الذي فقد ابنه وهذا الذي فقد أباه ، ومنهم من له أسير في المدينة .
السابعة : قيام المسلمين والمسلمات في مكة بالجهر باسلامهم ، وتلاوة آيات القرآن .
الثامنة : تجلي معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً بالنصر في معركة بدر مع أن أسباب الترجيح الظاهرة للحواس تميل إلى كفة جيش الذين كفروا من جهة كثرة العدد والعدة .
الثاني : وقوع سبعين من المشركين أسرى بيد المسلمين في نهار اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، فما أن انهزم المشركون حتى أخذوا يتفقدون أصحابهم .
فمنهم من قال رأيت فلاناً قد قتل ، وقال آخر : رأيت فلاناً وقع اسيراً ، وقال آخر تركت فلاناً جريحاً .
ومنهم من كانوا يجهلون أمره هل قتل في ميدان المعركة أو وقع أسيراً بيد المسلمين ، حتى جاء نفر منهم إلى المدينة لفكاك الأسرى فعلموا حاله ، فمن لم يخبروا عن كونه أسيراً علموا أنه مقتول .
مما يدل على حال الهلع والفزع والأسى التي كانت عليها قريش ، وهو جزاء عاجل لمن حارب النبوة والتنزيل ، وزاجر عن العودة إلى القتال مرة أخرى [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
الثالث : الذين عادوا إلى مكة بعد المعركة من بقية عامة الجيش الذي كان عدده نحو ألف ومنهم من عاد إلى مكة من وسط الطريق قبل المعركة وفقد كفار قريش في معركة بدر مائة وأربعين بين قتيل وأسير .
لقد تشتت أمر قريش في معركة بدر وقبلها وبعدها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ).
وهل دفعهم الأموال لفكاك الأسرى من هذا العذاب .
الجواب نعم ، فبعد أن كانت قريش تجني الأرباح من المكاسب والتجارات ، وتجمع الأموال من الربا ، وتأخذ الفائدة على القروض التي تدفعها لرجال القبائل صارت تخرج ما عندها من الذخائر لتدفعها لفكاك أسراهم الذين عند المسلمين ويضطرون لتأخير الديون التي عليهم لتجار الشام واليمن .
وقد أفزعهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأخذ لنفسه أو لبيت المال من بدل أو عوض الأسرى بل كان الذي أسرّ أسيراً هو الذي يعين مقدار البدل ويقوم باستلامه .
ليكون هذا الأمر من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ) ففي عدم أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عوض الأسرى مسائل :
الأولى : بيان مصداق لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والتنزه عن حب الدنيا وجمع الأموال .
الثانية : زيادة حب المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : تحسن الحالة المعاشية للمسلمين في المدينة , وتدفق الأموال على البيوت والعوائل .
الرابعة : شوق المسلمين للدفاع عن بيضة الإسلام لذا ورد بخصوص معركة أحد قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ) .
الخامسة : إدراك كفار قريش والناس جميعاً لقانون وهو إنتفاء الخلاف والخصومة بين المسلمين في غنائم الحرب ، وبدل فكاك الأسرى .
السادسة : ترغيب المسلمين بابقاء الذين كفروا أحياء عند وقوع القتال ، وعدم قتلهم اثناء المعركة إلا على نحو الإضطرار في الدفاع ، وعدم الإجهاز على الجريح والسليم بعد المعركة .
وقد عاد بعض الأسرى من المدينة ليخبروا أهليهم والناس عن حسن معاملة الصحابة وعوائلهم لهم ، وكيف أنهم كانوا يؤثرونهم على أنفسهم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) .
لقد نزل القرآن بعد معركة بدر بحض المسلمين على التقوى بقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
ومن التقوى عدم القعود في المدينة بانتظار غزو المشركين لها، فما أن عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من معركة بدر إلا وقد خرجوا الى بني سليم بعد مجئ الأخبار بعزمهم على الإغارة على المدينة .
وتحتمل الصلة بين هذا العزم ومعركة بدر وجوهاً :
الأول : استحداث عزم بني سليم غزو المدينة بعد هزيمة قريش في معركة بدر .
الثاني : قيام كفار قريش بتحريض بني سليم وغطفان على غزو المدينة.
الثالث : عزم بني سليم الهجوم على المدينة ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سابق في زمانه لمعركة بدر.
الرابع : عجلت معركة بدر ونتائجها في سعي بني سليم للإغارة على المدينة.
والمختار هو إجتماع الوجوه الثلاثة الأخيرة أعلاه .
وتوارث العلماء والمفسرون ومؤرخوا السيرة النبوية وصف خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الى بني سليم بتسميته غزوة بني سليم .
ولكن الحق هو أن هذا الخروج مانع من غزوة بني سليم على المدينة ، ولو قام بنو سليم بغزو المدينة لتبعتهم غطفان وقريش والأحباش جنوداً لا طاقة للمسلمين بهم .
فمن مكر قريش جعلهم بني سليم طلائع إغارة ، ومقدمة هجوم .
فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى بني سليم ولم يقاتلهم ولم يطاردهم بل اكتفى بالإقامة في الموضع ثلاثة أيام لتكون هذه الإقامة رسالة الى عموم الذين كفروا للعزوف عن الهجوم على المدينة وعن القتال .
وهو من الإعجاز في السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يكون خروجه ليس غزواً إنما دفعاً وبرزخاً دون الغزو واستئصالاً له ، مما يستلزم قراءة جديدة للتأريخ تتقوم بالإستدلال على أن النبي محمداً جاء للقضاء على الغزو ، من وجوه :
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرب على الغزو بين القبائل للثأر .
الثاني : رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مانع من الغزو للطمع والنهب والسلب .
الثالث : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن واقية من سبي النساء والصبيان.
الرابع : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب ، وبعثه السرايا مانع من غزو الذين كفروا للمدينة وأطرافها.
توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني قينقاع ، ويرجع نسب بني قينقاع بن عمشيل بن منشي إلى ذرية منشا بن النبي يوسف بن النبي يعقوب بن النبي إسحاق بن ابراهيم , وقد أسلم حبرهم الأكبر عبد الله بن سلام وبشر بالجنة .
وكان يهود المدينة على ثلاث طوائف هم :
الأولى : بنو قريظة .
الثانية : بنو النضير .
الثالثة : بنو قينقاع .
ومنهم من عدّ بني قينقاع من اليهود العرب ، وليس كل يهود المدينة من نسب اسرائيل أي يعقوب عليه السلام ، فمثلاً بنو عوف الذين ورد ذكرهم في وثيقة العقد أدناه هم قبيلة من العرب ، ولكن كانت المرأة منهم إذ لم يعش لها ولد ، تجعل على نفسها إن انجبت ولداً وعاش أن تهوّده ، فصار بعض ابناء العرب يهوداً وعاشوا مع قبائل اليهود .
وورد (عن سعيد بن جبير في قوله { لا إكراه في الدين }( ) قال : نزلت في الأنصار خاصة .
كانت المرأة منهم إذا كانت نزورة أو مقلاة تنذر : لئن ولدت ولداً لتجعلنه في اليهود تلتمس بذلك طول بقاءه ، فجاء الإِسلام وفيهم منهم .
فلما أجليت النضير قالت الأنصار : يا رسول الله أبناؤنا وإخواننا فيهم ، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت { لا إكراه في الدين }.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم ، فأجلوهم معهم) ( ).
وورد مثله عن ابن عباس( ).
وحينما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة حرص على عدم التعرض لليهود في أشخاصهم ودينهم وأموالهم ، ولم يطلب منهم الجزية ، إنما وادعهم وعقد معهم نوع عقد وكتاب يتضمن شروطاً وبنوداً وهي :
الأول : إنَّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
الثاني : إنَّ يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم موالهيم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأثم فإنه لا يُوْتغ أي لا يهلك إلا نفسه وأهل بيته.
الثالث : إنَّ لِيهود بني النجار مثل ما لِيهود بني عوف.
الرابع : إن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
الخامس : إن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
السادس : إن ليهود بني جُشم مثل ما ليهود بني عوف.
السابع : إن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
الثامن : إن ليهود بن ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
التاسع : إنَّ جَفْنة بطن من ثعلبة كأنفسهم( ).
العاشر : إنَّ لبني الشُّطبة مثل ما ليهود بني عوف، وإنَّ البر دون الإثم ( ).
الحادي عشر : إنَّ موالي ثعلبة كأنفسهم ( ).
الثاني عشر : إنَّ بطانة يهود كأنفسهم ( ).
الثالث عشر : إنه لا يخرج منهم أحدٌ إلا بإذن محمد( )، وإنه لا ينحجز على ثأر جُرحٍ ( ).
الرابع عشر : إنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظلم، وإن الله على أبرِّ هذا( ).
الخامس عشر : إنَّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإنَّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإنَّ بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
السادس عشر : إنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.
السابع عشر : إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.
الثامن عشر : إن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
التاسع عشر : إنَّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
العشرون : إنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
الحادي والعشرون : إنَّ ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو شجار يُخاف فساده فإنّ مردَّه إلى الله وإلى محمد رسول الله وإنَّ الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرِّه.
الثاني عشرون : إنه لا تُجار قريش ولا من نصرها.
الثالث والعشرون : إنَّ بينهم النصر على من دهم يثرب.
الرابع والعشرون : إذا دُعُوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دُعُوا إلى مثل ذلك، فإنَّ لهم ما على المؤمنين إلا من حارب في الدين على كل أُناس حصَّتهم من جانبهم الذي قِبلهم.
الخامس والعشرون : إنَّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإنَّ الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرِّه.
السادس والعشرون : إنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإن الله جار لمن برَّ واتقى، ومحمد رسول الله.
وكان شطر من رجال القبائل العربية في المدينة تدين باليهودية قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويمكن تقسيم اليهود بحسب محل السكن إلى أقسام :
الأولى : يهود يثرب ، وترجع طوائف عديدة منهم في أصولها إلى العرب.
الثاني : يهود خيبر ، وذكر انهم من مهاجري اليمن .
وكان فارسهم مرحب وأسرته من قبيلة حمير العربية في اليمن .
الثالث : يهود فدك وهم من بني عبس القحطانية ، وعلى دين اليهود .
وقد أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم الإمام علي عليه السلام ، وتمت مصالحتهم ودخل أغلبهم الإسلام .
الرابع : يهود وادي القرى ، ويقطنون قرى متعددة بين تيماء وخيبر ، وهم من قبيلة بني عذرة ، وذكر أنهم زحفوا مع الأحزاب في حصارهم للمدينة في واقعة الخندق ، وكان اليهود في الجزيرة يتكلمون العربية ، ويتلون التوراة بالعبرية , بما فيهم بنو قينقاع .
الخامس : يهود البحرين أي الإحساء وتوابعها ، واليهود في تلك المدن أقلية بين العرب والنصارى والمجوسية وعبدة الأوثان .
كما في كتاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المنذر بن ساوي أمير البحرين .
فبعد أن انصرف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية بعث بالرسائل إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام ، وحينما وصل كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجابه المنذر بن ساوي :
(أما بعد يا رسول الله فانى قرأت كتابك على أهل البحرين فمنهم من أحب الاسلام وأعجبه ودخل فيه ومنهم من كرهه وبأرضي مجوس ويهود فأحدث إلى في ذلك أمرك .
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى سلام عليك فانى أحمد اليك الله الذى لا إله إلا هو وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد فانى أذكرك الله عز وجل فانه من ينصح فانما ينصح لنفسه فانه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني ومن نصح لهم فقد نصح لي ،وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا ، وإنى قد شفعتك في قومك ، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه وعفوت عن أهل الذنوب ، فاقبل منهم .
وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك ، ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية) ( ).
وبعد معركة بدر ونصر الإسلام على الشرك ، جمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اليهود في سوق بني قينقاع ، وهو سوق كبير وأكثرهم يعملون بالصياغة ، فحذرهم ودعاهم إلى تعاهد الموادعة التي بينه وبينهم ، ولكنهم .
قالوا : انا لسنا مثل قومك ، ولا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب فنلت منهم (والله لو حاربتنا لتعلمن انا نحن الناس)( ).
وكان بنو قينقاع مع عملهم بالصياغة والصناعة أشجع يهود المدينة.
ومن كبار رؤساء وعلماء بني قينقاع عبد الله بن سلام بن الحارث وكنيته أبو يوسف وهو من ذرية النبي يوسف عليه السلام ، وكان اسمه قبل اسلامه حصيناً فسماه رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله .
ولما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مهاجراً كان يمر على أحياء الأنصار فيدعونه للنزول عندهم واستضافته ويتعهدون بالذّب عنه ، فمثلاً (اعْتَرَضَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو ، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هَلُمّ إلَيْنَا إلَى الْعَدَدِ وَالْعِدّةِ وَالْمَنَعَةِ.
قَالَ خَلّوا سَبِيلَهَا ، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ فَخَلّوْا سَبِيلَهَا) ( ).
إلى أن وصلت الناقة إلى موضع المسجد النبوي فبركت فلم ينزل عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى نهضت وسارت قليلاً ، ثم رجعت وبركت في موضعها الأول ( )، فنزل عنها عند دار بني مالك من بني النجار الذين هم أخوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان هذا الموضع مربداً للتمر يعود لغلامين يتيمين من بني النجار ، وأخذ أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد رحل النبي فوضعه في بيته .
وتنادى الناس بينهم أن قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصارت الوفود تتوافد عليه لرؤيته وتهنئته بسلامة الوصول وسؤاله النزول عندهم ، وكان ممن دخل عليه عبد الله بن سلام والذي قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة فانجفل( ) الناس إليه فكنت فيمن انجفل فلما رأيت وجهه صلى الله عليه وآله وسلم عرفت ان وجهه ليس بوجه كذاب فأول ما سمعته يقول افشوا السلام وأطعموا الطعام ، وصلوا الارحام ، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام) ( ).
وتوجه عبد الله بن سلام إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال قائلاً له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي :
الأولى : ما أول أشراط الساعة .
الثانية : ما أول طعام يأكله أهل الجنة .
الثالثة : ما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه ، فنزل جبرئيل وأخبر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بها .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرني جبرئيل آنفا ، فقال عبد الله بن سلام : ذلك عدو اليهود من الملائكة.
إلا أن عبد الله بن سلام لم يمتنع من الإصغاء لإجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على أنه ينطق عن الوحي من عند الله بواسطة الملائكة ويدل قوله ذاك عدو اليهود من الملائكة على التسليم بأن جبرئيل من ملائكة السماء وأنه لا ينزل إلا بأمر من عند الله ، قال تعالى[نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ]( ).
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أما أوّل أشراط الساعة فنار تخرج من المشرق فتحشر الناس إلى المغرب ، وأما أول ما يأكل أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وأما ما ينزع الولد إلى أبيه وأمه فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع إليه الولد ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع إليها .
قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله( ).
وعن عبد الله بن سلام قال : لما سمعت بقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة كبّرت ، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري : خيبك الله والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادماً ما زدت فقال لها : أي عمة هو والله أخو موسى بن عمران ، وعلى دينه بما بعث به .
فقالت له : أي ابن أخي هو النبي الذي كنا نخبر عن بعثته ، قال نعم ، فخرجت معه واسلمت ولما عاد عبد الله بن سلام الى بيته أمر أهله أن يسلموا أي أنه اسلم أول دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ومن غير إكراه ولم يقع قتال آنذاك.
فذمه اليهود ، وحاولوا الإنتقاص من شأنه حينما أعلن اسلامه وكذا ذموا الذين أسلموا منهم مثل ثعلبة بن وأسيد ابني سعية , وأسد بن عبيد (وهم من بني هذيل ليسوا من بني قريظة ولا النضير) ( ).
وقد بشرّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن سلام بالجنة.
وعن خرشة بن الحر قال كنت جالسا في حلقة في مسجد المدينة وفيها شيخ حسن الهيئة وهو عبد الله بن سلام قال فجعل يحدثهم حديثا حسنا قال فلما قام ، قال القوم : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا : فقلت والله لأتبعنه فلأعلمن مكان بيته قال فاتبعته فانطلق حتى كاد يخرج من المدينة.
ثم دخل منزله .
فاستأذنت عليه فأذن لي .
فقال ما حاجتك يا ابن أخي قلت له سمعت القوم يقولون لك لما قمت من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا فأعجبني أن أكون معك.
فقال الله بأهل الجنة وسأحدثك مم قالوا ذلك إني بينا أنا نائم إذ أتاني رجل فقال لي قم قال فأخذ بيدي فانطلقت معه فإذا أنا بجواد عن شمالي فقال لا تأخذ فيها فإنها طرق أصحاب الشمال قال وإذا أنا بجواد منهج عن يميني .
فقال لي خذ ها هنا قال فأتى بي جبلا فقال لي اصعد قال فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت على استي فعلت ذلك مرارا قال ثم انطلق بي حتى أتى بي عمودا رأسه في السماء وأسفله في الأرض وفي أعلاه حلقة.
فقال لي اصعد فوق هذا فقلت له كيف أصعد فوق هذا ورأسه في السماء فأخذ بيدي فزجل بي فإذا أنا متعلق بالحلقة قال ثم ضرب العمود فخر قال وبقيت متعلقا بالحلقة .
حتى أصبحت قال فأتيت النبي صلى الله عليه آله وسلم فقصصته عليه قال فقال أما الطرق التي رأيت عن يمينك فهي طرق أصحاب اليمين وأما الجبل فهو منازل الشهداء ولن تناله وأما العمود فهو عمود الإسلام وأما العروة فهي عروة الإسلام لم تزل مستمسكا به حتى تموت ثم قال أتدري كيف خلق الله الخلق قال قلت لا قال خلق الله آدم فقال تلد فلانا وتلد فلانا ويلد فلانا فلانا ويلد فلان فلانا أجله كذا وكذا وعمله كذا وكذا ورزقه كذا وكذا ثم ينفخ فيه الروح( ).
وكان بنو قينقاع أغنى سكان المدينة ، وهم يعملون بالصياغة ولهم سوق كبير ، وكانت بينهم وبين بني النضير وبني قريظة عداوة في الجاهلية لأن بني قينقاع حاربوا يوم بعاث إلى جانب الخزرج , ونصر بنو النضير الأوس .
وقدمت امرأة مسلمة من العرب إلى سوق بني قينقاع بجلب فباعته ، ثم جلست الى صائغ ، فأرادوا حملها على كشف وجهها ، ولكنها أبت ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها من غير أن تعلم ، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا منها سخرية بها عندئذ صاحت واستغاثت , فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله ، فشدّ اليهود على المسلم فقتلوه .
وقيل لم يذكر ابن اسحاق هذه الواقعة ، ولا الطبري في تأريخه وابن سعد في طبقاته ولا اسم المسلم الذي قتل ، وممن ذكرها الواقدي( ) ، وقد ذكر أن المرأة التي شدوا طرف ثوبها لتظهر عورتها أنها امرأة نزيعة من العرب تحت رجل من الأنصار ، ومعنى امرأة نزيعة ، أي زوجت في غير قبيلتها ، وكأنها انتزعت من قبيلتها .
واستصرخ أهل المسلم المسلمين ، وحدثت الفتنة ، ووقع الشر بين الطرفين ، وتبرأ عبادة بن الصامت الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حلف اليهود , وبقي عبد الله بن أبي بن أبي سلول متشبثاً به.
ونزل قوله تعالى [وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ]( )، وأوجس النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيفة فسعي إلى درء الفتنة ، فسار إليهم وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب وكان لونه أبيض ، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر ، وحاصرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة من السنة الثانية للهجرة إذ أنهم تحصنوا في حصنهم ، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن أموالهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولهم النساء والذرية ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فجاء عبد الله بن أبي بن أبي سلول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليشفع لهم.
وقال : يا محمد أحسن في موالي.
فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا محمد أحسن في موالي فأعرض عنه.
قال: فأدخل يده في جيب درع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال ابن هشام: وكان يقال لها ذات الفضول.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أرسلني.
وغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا ثم قال: ويحك أرسلني.
قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلثمائة دارع قد منعوني من الاحمر والاسود، تحصدهم في غداة واحدة ! إني والله امرؤ أخشى الدوائر.
قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هم لك)( ).
وذكر ان عبد الله بن أبي أمرهم أن يتحصنوا ووعدهم بأن يدخل معهم ولكنه خذلهم ولم يدخل معهم ، وعدم دخوله هذا لأن عامة الخزرج دخلوا الإسلام وأخلصوا للنبوة والتنزيل ، ومع ان بني قينقاع أشجع يهود المدينة فقد لزموا حصنهم ، ولم يرموا بسهم ولم يقاتلوا حتى نزلوا على صلح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه دعوة لبني النضير وبني قريظة لعدم نقض العهود التي عقدوها مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجلائهم من المدينة لأنهم نقضوا العهد ، وبينما همّ بعض بني قينقاع بالخروج من المدينة جاء عبد الله بن أبي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومعه طائفة منهم يريد أن يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقاءهم في المدينة لأنهم حلفاؤه وفيهم منعة وقوة له ,فوجد على باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عويم بن ساعدة ، فلم يلتفت إليه عبد الله بن أبي وذهب ليدخل على النبي .
فقال عويم : لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن عبد الله بن أبي دفعه ، فغلظ عليه عويم وتدافعا وجحش وجه عبد الله بن ابي الجدار فسال الدم فتطير من معه من بني قينقاع ، وصاحوا : (لا نقيم أبداً بدارٍ أصاب وجهك فيها هذا) ( ).
لقد أخبر عبد الله بن أبي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ان بني قينقاع منعوه يوم الحدائق( ) ويوم بعاث من الأحمر والأسود ( )،
ولو أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مواصلة حصار بني قينقاع حتى ينزلوا على حكمه لفعل ، ولكنه إختار الصلح معهم ، كما أنه لو أراد أن يؤسر أو يقتل الرجال والإمتناع عن قبول شفاعة عبد الله بن أبي الفعل ، ولكنه قبل بالصلح والإنفاق ، ولم يعجل بقتلهم قبل أن يشفع لهم عبد الله بن أبي ، ولكنه أطلقهم وتركهم وشأنهم بعد مخالفتهم للشرط والقصد الذي بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبينهم .
لقد كان بنو قينقاع حلفاءً للخزرج ، وهل طمعوا بأن الخزرج تنتصر لهم عن قتالهم مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الأقرب نعم ، ولكن عبادة بن الصامت من رؤساء الخزرج تبرأ من فعلهم ، بينما اكتفى عبد الله بن أبي بالشفاعة لهم عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسأل سلامتهم فأجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وذكر أن عددهم يوم أسرهم أربعمائة دارع وثلاثمائة حاسر( ) ، وقيل المجموع أربعمائة .
ولما فتحوا حصنهم دخل محمد بن مسلمة وقبض أموالهم ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سلاحهم ثلاث أقواس هي :
الأول : قوس تدعى الكتوم ، ولا يسمع لها صوت عند الرمي وكُسرت يوم أحد .
الثاني : قوس تسمى الروحاء .
الثالثة : قوس تسمى البيضاء .
وأخذ درعين :
الأول : درع تسمى السعدية (وهي درع عكير القينقاعي) ( ) وقيل هو الدرع التي كان يلبسها داود يوم قتل جالوت ، وقال تعالى [وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( ) .
الثاني : درع تسمة فضة ، و (عن مروان بن أبي سعيد بن المعلي ، قال : أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سلاح بني قينقاع درعين ؛ درع يقال لها السعدية ، ودرع يقال لها فضة .
حدثني الحارث ، قال : حدثني ابن سعد ، قال : أخبرنا محمد بن عمر ، قال : حدثني موسى بن عمر ، عن جعفر بن محمود ، عن محمد بن مسلمة ، قال : رأيت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد درعين : درعه ذات الفضول ودرعه فضة ، ورأيت عليه يوم خيبر درعين : ذات الفضول والسعدية) ( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال (ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رهن درعا له عند أبى الشحم اليهودي رجل من بني ظفر في شعير) ( ).
وعن عائشة توفى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحدى أدرعه وهي ذات الفضول مصنوعة من الحديد مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعاً من الشعير لعياله ، وكان أجل الدين إلى سنة .
ومجموع أدرع النبي سبعة وهي :
الأول : ذات الفضول .
الثاني : ذات الوشاح .
الثالث : ذات الحواشي .
الرابع : البتراء .
الخامس : الخرنق .
السادس : السعدية .
السابع : فضة .
والأخيران مما جمع من سلاح بني قينقاع .
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه يرهن درعه الذي هو حاجة في القتال ، لبيان قانون أنه لا يسعى للقتال ، ولا يطلبه ، ويرهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم درعه على نحو تسعين كيلو من الشعير ، زاداً لأهله ، وكان ينفق ويوزع الذهب والفضة والإبل والشياه على المسلمين ، وهو من الشواهد على صدق نبوته وأنه لم يرد الدنيا ، وأنه يؤدب المسلمين وأمراءهم ، ويدعوهم إلى الزهد والشكر لله عز وجل على النعم التي تأتيهم .
(عن أبي سعيد ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن أخوف ما أخاف عليكم ، ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا . قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قال : بركات الأرض ) ( ).
وليس لبني قينقاع نخيل أو زراعات ، وأخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخمس مما أصاب منهم وقسم الباقي بين أصحابه (قال محمد بن مسلمة: فوهب لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم درعاً من دروعهم، وأعطى سعد بن معاذ درعاً له مذكورة، يقال لها السحل) ( ).
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحابي عبادة بن الصامت أن يجليهم ويخرجهم من المدينة .
فجعلوا يعاتبون عبادة وقالوا له : يا أبا الوليد اخترناك من بين الأوس والخزرج وصرنا مواليك ، وفعلت بنا هذا وتخليت عنا ، وتقوم بجلائنا ، فقال لهم عبادة : لما حاربتهم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقلت : يا رسول الله إني أبرأ إليك منهم ومن حلفهم .
وكان عبد الله بن أبي حليفهم أيضاً وبمرتبة واحدة مع عبادة بن الصامت ، فقال له عبد الله بن أبي ، تبرأت من حلف مواليك ، أي أيديهم عندك ، ثم أخذ يذكره بمواطن أبلى فيها بنو قينقاع .
(فقال عبادة: أبا الحباب، تغيرت القلوب ومحا الإسلام العهود، أما والله إنك لمعصم بأمرٍ سترى غبه غداً! فقالت قينقاع: يا محمد، إن لنا ديناً في الناس. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: تعجلوا وضعوا! وأخذهم عبادة بالرحيل والإجلاء، وطلبوا التنفس .
فقال لهم: ولا ساعةً من نهار، لكن ثلاث لا أزيدكم عليها! هذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ولو كانت أنا ما نفستكم. فلما مضت ثلاث خرج في آثارهم حتى سلكوا إلى الشام، وهو يقول: الشرف الأبعد، الأقصى، فأقصى! وبلغ خلف ذباب، ثم رجع ولحقوا بأذرعات) ( ) .
أي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أذن لهم باستيفاء ديونهم التي على المسلمين واليهود وغيرهم ، وأمرهم أن يضعوا ويطرحوا منها لتيسير القضاء ، وأمهلهم ثلاث ليال ، ولم يتعرض لنسائهم وذراريهم ، وأذرعات جنوب سوريا ، وتسمى في هذا الزمان مدينة درعا ، وهي من أرض كنعان .
وذكرت في مواطن التوراة باسم اذرعي ، (ثم تحولوا وصعدوا في طريق باشان فخرج عوج ملك باشان للقائهم , هو وجميع قومه الى الحرب في اذرعي) ( ).
وعن الربيع بن سبرة عن أبيه أنه كان مقبلاً من الشام فلقي بني قينقاع يحملون الذرية والنساء على الإبل والرجال يمشون .
وكان يعرف رجالاً منهم ، فسألهم فقالوا : أجلانا محمد وأخذ أموالنا .
قال : فاين تريدون ؟
قالوا : الشام : فلما نزلوا بوادي القرى أقاموا شهراً ، وحملت يهود وادي القرى من كان راجلاً بأن جاءوا له براحلة ، وأعانوهم وسارعوا إلى أذرعات .
كتيبة السويق
لقد انصرف المشركون منهزمين من معركة بدر ، ولحقتهم الخسارة في النفوس والأموال وأصابهم الخزي والخيبة ، وهو من عمومات قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وإن كان موضوع الآية أعلاه يتعلق بمعركة أحد فانه بيان لقانون في انقلاب ورجوع المشركين بالحسرة والندامة من معاركهم وهجومهم على المسلمين من غير أن يظفروا بمبتغاهم ، وسبب وموضوع نزول الآية أعلاه على وجوه :
الأول : معركة بدر إذ قُتل من الذين كفروا سبعون .
الثاني : معركة أحد حيث قتل منهم اثنان وعشرون رجلاً ، ولا تختص الخيبة التي أصابتهم بعدد القتلى وحده بل بكثرة الجيوش التي زحفوا بها ، إذ كان عددهم ثلاثة آلاف رجل وأطلوا على المدينة ، وما أن بدأت معركة أحد حتى بادر المشركون إلى الهزيمة لولا أن الرماة المسلمين تركوا مواضعهم ، ومن خيبة المشركين تأكدهم من قانون وهو نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد أختتمت الآية السابقة لآية قطع الطرف أعلاه بقوله تعالى [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] ( ).
الثالث : إرادة العنوان الجامع لمعركة بدر ومعركة أحد .
الرابع : بيان قانون وهو في كل مرة يقع قتال بين المسلمين والذين كفروا يرجع الذين كفروا بالخيبة والتسليم بالعجز عن تحقيق غاياتهم ، ومنها قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والصحيح هو الأخير ، وفيه نوع تذكير للذين كفروا بخسارتهم وحسرتهم في معركة بدر التي وقعت في السنة الثانية من الهجرة ، وحسرتهم بخصوص معركة أحد التي جرت في السنة الثالثة للهجرة ، وهي إنذار ووعيد لهم من الإقدام على معارك جديدة ومنها معركة الخندق والتي رجعوا منها بالخيبة أيضاً .
ولم يكن أبو سفيان حاضراً معركة بدر ، إنما وقعت بسبب قافلته والرسول الذي بعثه لقريش ، ولا بد أنهم وجهوا له اللوم على التعجيل ببعث رسول منه يحضهم على الخروج لإنقاذ القافلة من تعرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لها ، وقد تبين أنهم لم يتعرضوا لها ، وكونه أرسل رسولاً ثانياً يخبرهم بنجاة القافلة لم ينجه من المساءلة واللوم والذم والإفتقار إلى التأني في الأمر .
وقد خسر أبو سفيان في معركة بدر اثنين من أولاده :
الأول : حنظلة بن أبي سفيان ،وبه كان يكنى ، قتل في المعركة ، اشترك في قتله الإمام علي وحمزة وزيد ، وقيل قتله زيد .
الثاني : عمرو بن أبي سفيان بن حرب وقع أسيراً بيد المسلمين واسم أبي سفيان صخر ، وقيل المغيرة( ) أما أبو حذيفة بن أبي سفيان فمن أول من أسلم في مكة .
فآلى أبو سفيان أن يغزو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج في مائتي راكب( ) ، وعليه اجماع المؤرخين مما يدل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز قريشاً في غزوة السويق .
لقد نذر أبو سفيان ألا يمس رأسه ماء من جنابة كناية عن عدم ملامسته النساء حتى يغزو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فخرج مع مائتي راكب يريد المدينة ، وبينما خرجت قريش إلى معركة بدر بألف وهم في عجالة فان أبا سفيان لم يستطع الخروج إلا بمائتي رجل .
وتقدم نحو المدينة ليلاً ونزل طرف العريض وطرق باب حيي بن أخطب رئيس بن النضير ليلاً فلم يفتح له ، وبات ليلة واحدة في بني النضير عند سلام بن مشكم النضري أبي غنم ، وهو صاحب كنز بني النضير .
وذكر أن امرأته زينب بنت الحارث هي التي قدمت شاة مشوية مسمومة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتقتله .
وسقي سلام بن مشكم أبا سفيان الخمر ، وأخذ يحدثه عن أحوال أهل المدينة وأطرافها ، وكيف أن الناس يدخلون الإسلام ، وذكر له المهاجرين ، واستقبال واستضافة الأنصار لهم بمعاني الأخوة ، وتعاهدهم جميعاً للصلاة اليومية بامامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،وتلقيهم آيات القرآن بشوق ويؤكد هذا الأمر استبسالهم في القتال في معركة بدر ، ونيلهم النصر المبين فيها .
وهل ذكر له مسألة الأسرى وعناية المسلمين بهم ، الجواب نعم خاصة وأن حنظلة بن أبي سفيان من ضمن الأسرى ، ويدل على هذه المعاني امتناع أبي سفيان عن مواصلة الهجوم ، وإرادة غزو المدينة ، إنما عجل بالعودة إلى مكة منهزماً وترك مؤناً كثيرة بعد أن قام بقطع اصوار من النخيل( ) أي مجموعة من النخيل ، وقيل (الصَّوْر: جماع النخل) ( ).
مع أنهم في شهر ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة ، وهذا الشهر من الأشهر الحرم التي لا يجوز فيها القتال والقتل (و ذكر ابن سعد خروج النبي صلى الله عليه وآله سلم من المدينة لخمس خلون من ذي الحجة يوم الأحد على رأس اثنين و عشرين شهرا من مهاجره) ( ).
وقام أبو سفيان وأصحابه بقتل رجل من الأنصار وحليف له ، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه غزو أبي سفيان وأصحابه ، فخرج في طلبه مع طائفة من أصحابه في ذات شهر ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة ، ولكنه هرب وطرح وأصحابه من أهل مكة سويقاً كثيراً ، ليتخففوا في الإنسحاب والفرار ، فأخذها المسلمون.
والسويق هو الطعام المعمول من دقيق الحنطة أو الشعير أو الأرز بالدهن بعد أن يقلى على النار ، ويحمص ، ومن خصائصه انه يحتفظ بصلاحيته للأكل مدة طويلة كما يسهل حمله في الأسفار كطعام حاضر .
وفي بعض الأخبار بأن السويق من تعليم الوحي وهو طعام الأنبياء ، وعن الإمام الصادق عليه السلام : إن السويق الجاف إذا أخذ على الريق أطفأ الحرارة ، وإذا لُتّ( ) ثم شرب لم يفعل ذلك .
ليكون السويق الذي تركه أبو سفيان وأصحابه من نصيب المسلمين ، ويحضرونه معهم إلى المدينة كشاهد ودليل على فرار أبي سفيان ، وتحتمل غزوة السويق وجوهاً :
الأول : إنها غزوة أبي سفيان وأصحابه على المدينة .
الثاني : انها غزوة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إنها غزوتان الأولى لأبي سفيان ، والثانية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رداً على غزوة أبي سفيان .
الرابع : ليس بغزوة لعدم إجتماع شروط الغزوة فيها .
والمختار أنها غزوة لأبي سفيان والذين معه من الكفار فهم الذين غزوا أطراف المدينة وأرادوا اقتحامها ، ولكن عجزوا عنه فخرج في النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طلبهم ليفروا منهزمين ، وهل القاؤهم السويق من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) الجواب نعم .
وليس من سبب أو علة لغزو أبي سفيان للمدينة ، وهل رجوعه وأصحابه خائبين نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم.
لقد قطع أبو سفيان ومعه مائتان من قريش ومواليهم نحو أربعمائة وخمسين كيلو متراً إلى أطراف المدينة وجلبوا معهم السلاح والمؤون الكثيرة والسويق مما يدل على عزمهم على الإغارة المتكررة على المدينة وسروح أهلها ، ولكنهم فوجئوا بعجزهم عن الوصول إلى المدينة ، ولم تكن هناك خطوط دفاع حول المدينة ، ولكن المسلمين كانوا على حيطة وحذر ، وكانت تخرج بعض الدوريات حول المدينة ، كما كان الرعاة يقومون بوظيفة الرصد ، وهو من عمومات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ويحتمل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه متعقبين أبا سفيان وأصحابه وجوهاً :
الأول : إنه من مصاديق الإيمان الذي يتجلى في النداء التشريفي في أول الآية أعلاه .
الثاني : إنه من المصابرة .
الثالث : انه من المرابطة .
الرابع : إنه من الغزو .
الخامس : إنه من الرد على الغزو بمثله .
السادس : انه من الدفاع ، والرد على الغزو ولكن ليس بمثله .
والمختار هو الأول والثاني والثالث والسادس أعلاه ، إذ لم يلاحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أبا سفيان وجيشه إلى مكة ، ولم يقم في محله ، ويطلب من أصحابه في المدينة النفير للإغارة على مكة ، والتي لم يأذن له الله عز وجل له بدخولها إلا ساعة من نهار اليوم العشرين من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة .
وكانت غيبة النبي عن المدينة في هذه الكتيبة خمسة أيام ، وسيأتي مزيد كلام في ذات هذه الكتيبة في الجزء الثاني والتسعين بعد المائة .
سرية زيد بن حارثة إلى القَردة
بعد أن رجع أبو سفيان إلى مكة من غزوة السويق خرج في تجارة إلى الشام ، ومعه جمع من تجار قريش واستأجروا رجلاً من بني بكر بن وائل اسمه فُرات بن حيّان يدلهم على الطريق ( )، ليأخذ بهم على طريق آخر غير الجادة العامة التي تسير فيها القوافل بين مكة والشام ، وتمر قريباً من المدينة خشية أن يتعرض لهم المسلمون خاصة بعد تعدي كفار قريش في معركة بدر ثم في غزوة السويق .
فصحيح أن المسلمين انتصروا في معركة بدر ، وأن المشركين فروا في غزوة السويق والتي لم يقع فيها قتال إلا أنهم قتلوا رجلين من المسلمين أحدهما من الأنصار ، وقطعوا طائفة من النخيل .
فسلك بهم الدليل طريقاً آخر يسمى طريق العراق ، ويسمى طريق ذات عرق ، وخرج مع أبي سفيان كل من :
الأول : صفوان بن أمية بمال كثير من الفضة وزن ثلاثين ألف درهم وقيل كان صفوان بن أمية رئيس القافلة .
الثاني : عبد الله بن أبي ربيعة .
الثالث : حويطب بن عبد العزى .
وأرسل معهم أبو زمعة ثلاثمائة مثقال ذهب ونقر فضة( ) .
فارسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم سرية برئاسة زيد بن حارثة في الأول من شهر جمادي الأولى من السنة الثالثة .
إذ بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبرهم وطريق سير القافلة حيث قدم نعيم بن مسعود من مكة وهو على دين قومه فنزل على كنانة بن أبي الحقيق في بني النضير وكان معهما سليط بن النعمان من اسلم من الأنصار ، فشربوا الخمر قبل أن تحرم .
فتحدث نعيم بن مسعود عن القافلة والأموال الكثيرة التي فيها وخروج صفوان معها وإختيارهم طريق ذات عرق ، فبعث زيداً ومعه مائة راكب ، أي ليس فيهم راجل مما يدل على كثرة الرواحل التي صارت عند المسلمين فسار زيد وأصحابه واعترضوهم عند ماء في نجد يسمى القَردة ، فانهزم أبو سفيان وأصحابه وتركوا العير والإبل , وإذا كانت محملة بالأثقال تسمى العير وأسروا رجلين منهم الدليل فرات بن حيان الذي سبق وأن أسر يوم بدر فافلت على قدميه هارباً .
فلما رآه المسلمون أدركوا مكر الله عز وجل به ، قال تعالى [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) وكانت له صلة مع أبي بكر فاشار عليه أبو بكر أن يسلم لينجوا فاسلم , فتركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخمس فكان خمساً وعشرين ألفاً ، وقسّم أربعة أخماس على السرية .
وحتى الخمس الذي يأخذه فانه سرعان ما ينفقه في سبيل الله .
وقال حسان بن ثابت يذكر قريشاً لأخذهم تلك الطريق
(دَعُو فَلَجَاتِ الشّامِ قَدْ حَالَ دُونَهَا … جَلّادٌ كَأَفْوَاهِ الْمَخَاضِ الْأَوَارِكِ
بِأَيْدِي رِجَالٍ هَاجَرُوا نَحْوَ رَبّهِمْ … وَأَنْصَارِهِ حَقّا وَأَيْدِي الْمَلَائِكِ
إذَا سَلَكَتْ لِلْغَوْرِ مِنْ بَطْنِ عَالِجٍ … فَقُولَا لَهَا لَيْسَ الطّرِيقُ هُنَالِكَ) ( ).
ترى لماذا تعرض أصحاب النبي لهذه القافلة ، الجواب من جهات :
الأول : فيه رد على تعدي قريش في اشعال معركة بدر وسقوط أربعة عشر شهيداً من المسلمين .
الثاني : إصرار كفار قريش على الغزو والهجوم ، كما في قيام أبي سفيان بغزو أطراف المدينة في غزوة السويق ،وقتله لرجلين من المسلمين ، أحدهما من الأنصار واخر حليف له ، مع حرقهم لعدد من النخيل ، وفي التنزيل [وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ]( ).
الثالث : تسخير كفار قريش أموال التجارة للإعداد لمعركة أحد ، وتجهيز المقاتلين بالسلاح والمؤون ، خاصة وأنهم استأجروا الفي رجل للقتال يومئذ .
لقد رزق الله عز وجل قريشاً الأموال وهيئ لهم أسباب الكسب بالتجارة بين الشام ومكة ، وبين مكة واليمن لتكون هذه الأموال وسيلة ومادة لطاعة الله وعبادته .
ولكنهم اتخذوها وسيلة لمحاربة النبوة والتنزيل ، فخرج المسلمون للإستيلاء على تلك القافلة لزجر كفار قريش عن الهجوم على المدينة ، ولإخبارهم بأن تلك الأموال تسخر في الدفاع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، وعن أداء الفرائض والعبادات .
سرية محمد بن سلمة إلى كعب بن الأشرف
تتصف هذه السرية بقلة عدد أفرادها ، وكان شخصاً واحداً ، وكذا الجهة التي توجهت إليها.
إذ بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم محمد بن سلمة في اليوم الرابع عشر من شهر ربيع الأول من السنة الثالثة للهجرة إلى كعب بن الأشرف ، وهو عربي من بني نبهان من قبيلة طئ وأمه يهودية ، فصار رئيساً لبني النضير خلفاً لمالك بن الصيف الذي كان يجادل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً .
وعن سعيد بن جبير قال (جاء رجل من يهود الأنصار يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي : أتشرك باللّه الذي أنزل التوراة على موسى؟
ما تجد في التوراة إن اللّه يبغض الحبر السمين وكان حبراً سميناً فغضب وقال : ما أنزل اللّه على بشر من شيء،
فقال أصحابه الذين معه : ويحك ولا موسى؟
فقال : (واللّه) ما أنزل اللّه على بشر من شيء. فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية.) ( ).
فازاحوه عن الرياسة وجعلوا بدلاً عنه كعب بن الأشرف وكان صاحب أموال ومخازن حبوب ، وكان ينفق على أحبار اليهود ، ولما جاءوه لأخذ العطايا على عادتهم سألهم ما تقولون في هذا الرجل وما هي أخباره ويقصد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فقال شطر منهم له : هو الذي كنا ننتظر ما انكرنا من نعوته شيئاً ، فحجب عنهم عطاياهم .
ثم عادوا إليه وقالوا قد تسرعنا فيما أخبرنا وليس هو المنتظر فوصلهم وإعطاهم ، وكان كعب بن الأشرف ممن يأتي لجدال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعندما نزل قوله تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ] ( ) .
تحول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في استقبالهم إلى الكعبة .
ورد(عن ابن عباس قال : صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة في رجب ، على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة بن قيس ، وقردم بن عمرو ، وكعب بن الأشرف ، ونافع بن أبي نافع ، والحجاج بن عمرو ، حليف كعب بن الأشرف ، والربيع بن أبي الحقيق ، وكنانة بن أبي الحقيق . فقالوا له : يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ، ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك ، وإنما يريدون فتنته عن دينه . فأنزل الله { سيقول السفهاء من الناس }( ) إلى قوله { إلاَّ لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه }( ) أي ابتلاء واختباراً { وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله }( ) أي ثبت الله { وما كان الله ليضيع إيمانكم }( ) يقول : صلاتكم بالقبلة الأولى ، وتصديقكم نبيكم ، واتباعكم اياه إلى القبلة الآخرة ، أي ليعطينكم أجرهما جميعاً { إن الله بالناس لرؤوف رحيم }( ) إلى قوله { فلا تكونن من الممترين }( ) .) ( ).
ولما جاء البشير بنصر المسلمين في معركة بدر وتولى البشارة اثنان من الصحابة سبقا دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، فتوجه زيد بن حارثة إلى أهل السافلة ، وعبد الله بن رواحه إلى أهل العالية يزفون لهم بشرى النصر وفتح الله سبحانه على كفار قريش ، ويخبرون بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه صاروا قريبين من المدينة ومعهم نحو سبعين من الأسرى والغنائم .
وبلغ نبأ البشارة كعب بن الأشرف فقال (أَحَقّ هَذَا ؟ أَتَرَوْنَ مُحَمّدًا قَتَلَ هَؤُلَاءِ الّذِينَ يُسَمّى هَذَانِ الرّجُلَانِ – يَعْنِي زَيْدًا وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ رَوَاحَةَ – فَهَؤُلَاءِ أَشْرَافُ الْعَرَبِ وَمُلُوكُ النّاسِ وَاَللّهِ لَئِنْ كَانَ مُحَمّدٌ أَصَابَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرِهَا) ( ).
وكان أبو كعب بن الأشرف عربياً من نبهان فشرف فيهم ، وتزوج بنت أبي الحقيق ، فاولدها كعباً ( )، وكان جسيماً وسيماً وشاعراً وبراعته بالشعر أمارة رجحان كونه عربياً .
وكان كعب بن الأشرف غنياً ويقيم في حصن في المدينة المنورة من الجهة الجنوبية الشرقية منها ،ولا تزال آثاره ، وأطلاله باقية إلى الآن ، وفي التنزيل [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ).
وهذا الحصن نوع قلعة صغيرة وطول ضلعه ثلاثة وثلاثون متراً وما بقي من ارتفاع جدرانه نحو أربعة أمتار وسمك الجدار متر واحد وعليه ثمانية أبراج ، وللحصن باب واحد من الجهة الغربية ، وتلتصق بجدار الحصن من الداخل عشرة غرف تطل أبوابها على داخله ، وفيه بئر .
وحينما علم كعب بن الأشرف صدق الأخبار بهزيمة قريش في معركة بدر ، وكثرة قتلاهم ووقوع سبعين منهم في الأسر لم يطق الأمر ، فصار يهجو النبي محمداً والمسلمين ، ويمدح صناديد قريش ، ولم يكتف بهذا الهجاء ، إنما خرج إلى مكة في أربعين راكباً فخالفوا قريشاً عند الكعبة في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ليكون هذا الحلف من مصاديق عدم أهلية المشركين لولاية المسجد الحرام ، قال تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) لبيان قانون وهو أن العذاب الذي تذكره الآية أعلاه يشمل الذين أعانوهم على قتال وحرب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإيذاء المؤمنين .
وصار كعب بن الأشرف ينشد الأشعار لتحريض قريش على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويهجوه والمؤمنين ، ويبكي أصحاب القليب أي الكفار الذين قتلوا في معركة بدر والقاهم المسلمون في القليب .
ونزل في مكة على المطلب بن أبي وداعة السهمي (وأمه بنت عفان بن العاصي أخت عثمان ) ( )، وهو متزوج من عاتكة بنت أبي العيص بن أمية فانزلته عاتكة وأكرمته .
ومن شعر كعب بن الأشرف وهو ضاعن في مكة يرثي قريشاً .
(طحنت رحى بدر لمهلك أهله … ولمثل بدر تستهل وتدمع
قتلت سراة الناس حول حياضهم … لا تبعدوا إن الملوك تصرع
كم قد أصيب به من أبيض ماجد … ذي بهجة يأوي إليه الضيع
طلق اليدين إذا الكواكب أخلفت … حمال أثقال يسود ويربع
ويقول أقوام أسر بسخطهم … إن ابن الاشرف ظل كعبا يجزع
صدقوا فليت الأرض ساعة قتلوا … ظلت تسوخ بأهلها وتصدع
صار الذي أثر الحديث بطعنه … أو عاش أعمى مرعشا لا يسمع
نبئت أن بني المغيرة كلهم … خشعوا لقتل أبي الحكيم وجدعوا
وابنا ربيعة عنده ومنبه … ما نال مثل المهلكين وتبع
نبئت أن الحارث بن هشامهم … في الناس يبني الصالحات ويجمع
ليزور يثرب بالجموع وإنما … يحمى على الحسب الكريم الأروع) ( ).
لقد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون الضرر الفادح الذي يأتي من تحريض كعب بن الأشرف لقريش على القتال ،وإثارة الحماسة عندهم ، وتذكيرهم بقتلاهم وسخريته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، فصار حسان يذم كعباً ويهجو الذين استضافوه ، ولما علمت عاتكة بنت أبي العيص بهجاء حسان لها ولزوجها بسبب إيوائهما كعباً .
قالت : ما لنا ولهذا اليهودي ، ورمت رحلة خارج بيتها ، ولكنه استمر يتنقل بين بيوت قريش وصار حسان يلاحقه والذين يؤونه بشعره لعلهم يفعلون مثلما فعلت عاتكة معه.
وأسلمت عاتكة هذه يوم الفتح ، وهي ممن بايعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ، وقال ابن إسحاق (وقالت امرأة من المسلمين من بني مريد بطن من بلى كانوا حلفاء في بني أمية بن زيد يقال لهم الجعادرة تجيب كعبا – قال ابن إسحاق : اسمها ميمونة بنت عبد الله وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه الأبيات لها وينكر نقيضتها لكعب بن الأشرف :
تحنن هذا العبد كل تحنن … يبكي على قتلى وليس بناصب
بكت عين من يبكي لبدر وأهله … وعلت بمثليها لؤي بن غالب
فليت الذين ضرجوا بدمائهم…يرى ما بهم من كان بين الأخاشب( ).
فيعلم حقا عن يقين ويبصروا … مجرهم فوق اللحى والحواجب ما أجابها به كعب بن الأشرف فأجابها كعب بن الأشرف فقال :
ألا فازجروا منكم سفيها لتسلموا … عن القول يأتي منه غير مقارب
أتشتمني أن كنت أبكي بعبرة … لقوم أتاني ودهم غير كاذب
فإني لباك ما بقيت وذاكر … مآثر قوم مجدهم بالجباجب ( )
لعمري لقد كانت مريد بمعزل … عن الشر فاحتالت وجوه الثعالب
فحق مريد أن تجد أنوفهم … بشتمهم حيي لؤي بن غالب
وهبت نصيبي من مريد لجعدر … وفاء وبيت الله بين الخاشب) ( ).
لقد كان كعب بن الأشرف يحرض قريشاً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووعدهم بالنصرة إن قاموا بغزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمدينة .
(عن عكرمة أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش ، فاستجاشهم ( )، على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمرهم أن يغزو وقال : إنا معكم نقاتله.
فقالوا : إنكم أهل كتاب وهو صاحب كتاب ، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم ، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل.
ثم قالوا : نحن أهدى أم محمد ، فنحن ننحر الكوماء ( )، ونسقي اللبن على الماء ، ونصل الرحم ، ونقري الضيف ، ونطوف بهذا البيت ، ومحمد قطع رحمه وخرج من بلده . قال : بل أنتم خير وأهدى . فنزلت فيه[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ]( ) الآية( ).
ولو تُرك كعب وحاله فان الضرر الذي يأتي من جهته كثير وبالغ ، ويصيب المؤمنين وعموم أهل المدينة ومنهم اليهود ، كما يلحق الشر أهل مكة.
وتفضل الله عز وجل وقال لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى.
وفي الآية أعلاه وعد وعهد وتحد وشاهد على صدق نزول القرآن من عند الله وأنه سبحانه يحفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ويذب عنهم ، فكان تمادي كعب بن الأشرف في أمور :
الأول : هجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثاني : ندب قتلى قريش والإشادة بهم ، والتحريض على الثأر لهم ، وهذا التحريض بالشعر والنثر .
الثالث : الوعد لقريش باعانتهم ونصرتهم إن هم غزوا المدينة ، ولما كان كعب بن الأشرف رئيس قومه بني النضير ، وصاحب أموال طائلة فانهم يرجون منه إنفاقاً وبذلاً كثيراً ، خاصة وأنه لم يأتهم إلى مكة بمفرده ، إنما جاء معه أربعون راكباً مما يدل على كثرة الأتباع والأموال .
وكانت أخبار كعب بن الأشرف في مكة تصل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، لذا هجاه حسان ، ولما عاد كعب بن الأشرف إلى المدينة إزداد هجاؤه للنبي وأصحابه ، وصار يشبب بنساء المسلمين .
وعن (جابر بن عبدالله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لكعب بن الاشرف ؟ فإنه قد آذى الله ورسوله.
فقام محمد بن مسلمة فقال : أنا وسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأذن له أن يقول شيئاً فاذن له.
أي أقول ما ينافي العقيدة تورية ، واستدراجاً لكعب فاذن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فرجع محمد بن سلمة أخو بني الأشهل من لقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمكث ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب إلا ما تعلق به نفسه ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمره ، فارسل إليه ، فلما جاء قال (لم تركت الطعام والشراب ؟ قال يا رسول الله قلت لك قولا لا ادري هل أفين لك به ام لا ، قال انما عليك الجهد .
قال : يا رسول الله انه لا بد لنا من ان نقول، قال : قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك) ( ).
وكان مع محمد بن سلمة كل من :
الأول : سلكان بن سلامة .
الثاني : عباد بن بشر بن وقش من بني الأشهل.
الثالث : الحرث بن أوس بن معاذ .
الرابع :ابو عبس بن جبر .
ترى لماذا يكف كعب بن الأشرف عن إيذائه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فيه وجوه :
الأول : درء الفتنة والإقتتال في مكة والمدينة ، وفي دعاء ابراهيم في التنزيل[رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ]( )، قال تعالى في وصف مكة انها [أُمَّ الْقُرَى] ( ).
وهل من معاني الإنذار العام في قوله تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ) أن ابن الأشرف أراد الفتنة لأهل مكة وما حولها ، وكان بقاؤه في المدينة مناسبة للثأر بدخول القبائل الذين يأتون إلى مكة للعمرة والتبضع وغيره .
الثاني : إشعار كفار قريش بأن الرصد والعون الذي لهم في المدينة ويعولون عليه الآمال والظنون بأنه سيمدهم بالسلاح والرجال والمال لم يكن موجوداً ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو حال عودة الذين كفروا من الغزو والقتال.
المختار هو الأول ، ليكون من الإعجاز الحسرة والأسى الذي يلحق الذين كفروا وأنهم من حين يخرجون إلى الغزو تصيبهم الندامة على فوات منفعة.
الثالث : بعث الحماس والمعنوية العالية عند المسلمين ، ومنع دبيب الوهن إليهم ودفع النفس ومنع غلبة النفس الغضبية خاصة مع إصرار كعب بن الأشرف على هجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والتشبيب بنساء المسلمين .
الرابع : منع أهل الكتاب الذين في المدينة من إعانة كفار قريش في هجومهم وتعديهم على المدينة ، لذا حينما تسلل أبو سفيان إلى المدينة غازياً وطرق باب حيي بن أخطب أبي أن يفتح له كما تقدم .
الخامس : منع المنافقين ونحوهم من الذهاب إلى المشركين في مكة وإباحة أخبار المسلمين وجمعهم وأسلحتهم .
ترى كيف هجا حسان المطلب بن أبي وداعة وزوجته عاتكة بنت أسيد ، الجواب أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أخبر حسان بنزوله عليهم وأن عاتكة تكرمه .
فذكر حسان أسيداً أبا عاتكة في هجائه فقال :
(ألا أبلغوا عني أسيداً رسالةً … فخالك عبدٌ بالسراب مجرب
لعمرك ما أوفى أسيدٌ بجاره … ولا خالدٌ ولا المفاضة زينب
وعتاب عبدٌ غير موفٍ بذمة … كذوب شؤون الرأس قردٌ مدرب) ( ).
فتحول كعب بن الأشرف إلى غيرهم من أهل مكة واستمر بهجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وتحريض قريش على قتاله مع الوعد بنصرتهم .
فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث إلى حسان ويخبره باسماء الذين تحول عندهم كعب ويقول له : نزل ابن الأشرف على فلان ، فلا يزال حسان يهجوهم فينبذون رحله إلى أن لم يجد من يأويه في مكة ، وهو ممن أثار الفتنة في عموم مكة .
وأظهر الولاء للمشركين ووعدهم بالنصرة ، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدوم كعب بن الأشرف قال (اللهم، اكفني ابن الأشرف بما شئت في إعلانه الشر وقوله الأشعار) ( ) .
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم توجهه بالدعاء عشية وصباح يوم المعركة كما في معركة بدر وسؤاله الله عز وجل النصر والغلبة كما تقدم بيانه في الأجزاء السابقة ، وقد بنى له أصحابه عريشاً ليناجي به الله سبحانه وينشغل بالدعاء ، وفيه شاهد على تسليم أهل البيت والصحابة بأمور :
الأول : الحاجة إلى دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم واقية لشخصه الكريم وأصحابه .
الثالث : الإقرار بأن الدعاء سلاح الأنبياء ، وحاجة للمؤمنين ، قال الإمام الصادق عليه السلام: ما فعل عمر بن مسلم ، قيل : اقبل على العبادة وترك التجارة , فقال : ويحه اما علم ان تارك الطلب لا يستجاب له دعوة ، ان قوماً من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( )، اغلقوا الأبواب واقبلوا على العبادة وقالوا قد كفينا .
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فارسل اليهم فقال ما حملكم على ما صنعتم.
فقالوا : يا رسول الله تكفل الله لنا بارزاقنا فاقبلنا على العبادة .
فقال انه من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب.
الرابع : تفقه المسلمين في المعارف الإلهية .
الخامس : التصديق العام بقوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
ومن الإعجاز في المقام أن الإستجابة لدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تفوق التصور الذهني إذ أنزل الله عز وجل ألف ملك لنصرتهم ، وأخبر الله عز وجل بأن نزول الملائكة إنما هو استجابة من الله عز وجل لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) وفيه تأديب للمسلمين بأن يتصف منهاج الدعاء عند الشدة والمحنة الخاصة والعامة بأمور :
الأول : الإستغاثة بالله والإستجارة به سبحانه .
الثاني : التفرغ للدعاء قدر الإستطاعة ، ومن غير تعارض مع الواجبات والمندوبات الأخرى .
الثالث : الإلحاح بالدعاء .
الرابع : حسن المسألة .
الخامس : الدعاء عن قلب واع ، ومن غير انشغال بالدنيا .
السادس : استحباب الصدقة مقدمة للدعاء .
السابع : إتيان الدعاء بصورة فردية وجماعية ، فاجتماع النفر من المسلمين في الدعاء أقرب للإستجابة .
ولما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) بأن من الناس من يفسد في الأرض ويسفك الدماء بغير حق أجابهم الله عز وجل بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل في المقام توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصالحين بالدعاء ، وتفضل الله عز وجل بالإستجابة لهم بالنصر بما يخالف قواعد القتال ورجحان كفة الأكثر عدداً وسلاحاً على نحو الأضعاف المتعددة مع مهارة في القتال كما في حال جيش المشركين وكثرتهم في معركة بدر ومعركة أحد والخندق لولا فضل الله عز وجل ، إن قوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ) شاهد على أن النبي محمداً لم يغز المشركين ولم يحتاج لهذا الغزو ، إنما ينصره الله عز وجل بسلاح الدعاء .
ومع إزدياد عدد المسلمين والمسلمات في مكة بعد معركة بدر واعلان بعضهم إسلامهم وتلاوتهم لآيات القرآن ، وبيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صار المسلمون أقرب إلى النصر والظفر .
ومنها النصر في معركة بدر فانهم لم يقدموا على قتل كعب بن الأشرف ، ولم يعتدوا عليه ، ولم يبلغهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بايذائه ومنعه من التحريض على النبوة والتنزيل ، وأشعال نار الفتنة ، إنما اكتفى بقيام حسان بهجائه ، وهجاء من يأويه ويستضيفه .
وعندما عاد كعب بن الأشرف وهو رئيس بني النضير إلى المدينة بعد لقاءاته بأقطاب الكفر من قريش ، ويحتمل إتفاق كعب بن الأشرف مع قريش على غزو المدينة وجوهاً :
الأول : تعجيل كفار قريش بالهجوم على المدينة في معركة أحد .
الثاني : إزدياد عدد جيش المشركين وإندفاعهم بحماس للقتال .
الثالث : المناجاة بين المشركين على القتال ، فحينما تسأله قريش من الذي على حق نحن أم محمد فيقول لهم أنتم .
آيات قيل أنها نزلت في كعب بن الأشرف
وذكر في أسباب النزول عدة آيات من القرآن في كعب بن الأشرف وهو بعيد ، وقد تقدم ذكر عدد من الآيات قالوا أنها نزلت في النضر بن الحارث وقد ذكرناها ، وقلنا بضعف هذه النسبة ، نعم ورد في أكثرها أسباب نزول أخرى ، وهذه الآيات هي :
الأولى : قوله تعالى [وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا] ( )، قال ابن عباس (نزلت في رؤوس يهود أهل المدينة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وأبي ياسر بن أخطب ، وفي نصارى أهل نجران : السيّد والعاقب وأصحابهما وذلك إنّهم خاصموا المسلمين في الدين كلّ فرقة تزعم إنّها أحقّ بدين الله من غيرها ، فقالت اليهود ديننا خير الأديان ونبيّنا موسى أفضل الأنبياء ، وكتابنا التوراة أفضل الكتب ، وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمّد والقرآن.
وقالت النصارى : نبينّا عيسى أفضل الأنبياء ، وكتابنا الانجيل أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفرت بمحمّد والقرآن،
وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين كونوا على ديننا فلا دين إلاّ ذلك دعوهم إلى دينهم إلا الحنيفية .
فقال الله تعالى : قل يا محمّد {بَلْ مِلَّةَ}( ) أي بل نتبع ملّة {إِبْرَاهِمَ} وقرأ الأعرج : (بل ملّة) رفعاً على الخبر.
{حَنِيفًا} نصب على القطع. أراد بل ملّة إبراهيم) ( ).
الثانية : عن ابن عباس قال (كان الحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف ، وابن أبي الحقيق ، وقيس بن زيد ، قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر ، وعبدالله بن جبير ، وسعد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم . فأبى أولئك النفر ، فأنزل الله فيهم { لا يتخذ المؤمنون الكافرين }( ) إلى قوله { والله على كل شيء قدير }( ).
الثالثة : في قوله تعالى [وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي] ( ) قال ابن عباس يعني بالطاغوت الشيطان ، وقال مقاتل يعني كعب بن الأشرف وسائر رؤساء الضلالة( ).
الرابعة : قوله تعالى [ُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ) وقال ابن عباس (في رواية شاذان : المتشابه حروف التهجَّي في أوائل السَّور،
وذلك بأنَّ حكام اليهود هم حُيي بن أحطب، وكعب بن الأشرف ونظراءهما أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلَّم فقال له حيَّي : بلغنا أنَّه أُنزل عليك (آلم) أأُنزلت عليك؟
قال : نعم،
فإن كان ذلك حقَّاً فإنَّي أعلم من هلك بأُمَّتك وهو إحدى وسبعون سنة فهل أنزلت عليك غيرها؟
قال : نعم والى {المص} ( )،
قال : هذه أكبر من تلك هي إحدى وستون ومائة سنة فربما غيرها؟
قال : نعم [الر]( )، قال : هذه أكثر من مائة وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليله ، ونحن ممَّن لا يؤمن بهذا ، فأنزل تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ]( )، أي ميل عن الحق ، وقيل : شك)( ).
الخامسة : قوله تعالى [سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ]( ) وورد عن ابن عباس (إنَّ يهود أهل المدينة قالوا لمَّا هَزَمَ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم المشركين يوم بدر : هذا واللّه النبي الأمَّي الذي بشَّرنا به موسى ونجده في كتابنا بنعته وصفته،
وأنَّه لا تردُّ له راية،
وأرادوا تصديقه واتَّباعه،
ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتى إلى وقفة أخرى به،
فلمَّا كان يوم أُحدْ ونكب أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم شكَّوا , وقالوا : لا واللّه ما هو به فغلبَ عليهم الشقاء ولم يسلموا،
وقد كان بينهم وبين رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عهدُ الى مدة لم تنقضِ فنقضوا ذلك العهد من أجله.
وإنطلق كعب بن الإشرف في ستين راكباً الى أهل مكَّة،
أبي سفيان واصحابه،
فوافقوهم وأجمعوا أمرهم على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لتكون كلمتنا واحدة،
ثم رجعوا الى المدينة،
فأنزل اللّه فيهم هذه الآية.) ( ).
السادسة : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ]( ) فيه أقوال :
الأول : الآية عامة من غير تعيين طائفة وهو الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن عبد الله بن عمرو قال : قيل يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ، ونقرأ فنكاد نيأس فقال : ألا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ قالوا بلى يا رسول الله قال {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}( ) إلى قوله { المفلحون } هؤلاء أهل الجنة قالوا : إنا نرجو أن نكون هؤلاء . ثم قال : { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم } إلى قوله { عظيم } هؤلاء أهل النار . قلنا لسنا هم يا رسول الله؟ قال أجل( ).
وصحيح أنه لا تعارض بين سبب النزول وعموم المعنى ، والمدار على الأخير ، وظاهر قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المراد بالذين كفروا الذين جحدوا الربوبية والنبوة والتنزيل .
الثاني : نزلت في رؤساء اليهود منهم كعب بن الأشرف وحي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب الذي اختلف فيه هل هو أخو حيي بن أخطب أم لا ، قاله الكلبي( ) .
إذ دخلوا على النبي فسألوه عن الحروف المقطعة ، ومعنى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] أي جحدوا بالقرآن ونزوله من عند الله.
كما ورد عن ابن عباس في الآية ما يفيد أنها مطلقة من غير أن يكون لها سبب نزول يتعلق بأشخاص معينين ، قال : في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ] .
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحرصُ أن يؤمن جميع النَّاس ويُتَابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذكر الأوّل، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأوّل( ).
الثالث : نزلت في مشركي قريش منهم عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة وأبو جهل وغيرهم ، قاله مقاتل .
الرابع : نزلت في الكافرين ، قاله مجاهد .
الخامس : نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته ( ).
السادس : نزلت في أهل القليب قليب بدر نسبه إلى القيل ، وهو تضعيف له .
والمختار هو الأول لنسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولأن المراد بالذين كفروا أي كفروا بالله لأصالة الإطلاق وعدم وجود قرينة على التقييد ، قال تعالى [وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
السادسة : عن الزهري في قوله { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم }( ) قال : هو كعب بن الأشرف ، وكان يحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في شعره ، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه( ).
السابعة : ما ورد (عن ابن عباس قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش : أنت خير أهل المدينة وسيدهم؟ قال : نعم . قالوا : ألا ترى إلى هذا المنصبر المنبتر من قومه ، يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج ، وأهل السدانة ، وأهل السقاية! قال : أنتم خير منه . فانزلت { إن شانئك هو الأبتر }( ) وأنزلت { ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت }( ) إلى قوله { نصيراً })( ) .
الثامنة : عن جابر بن عبد الله قال : لما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ، اعتزل كعب بن الأشرف ولحق بمكة وكان بها ، وقال : لا أعين عليه ، ولا أقاتله . فقيل له بمكة : يا كعب أديننا خير أم دين محمد وأصحابه؟ قال : دينكم خير وأقدم ، ودين محمد حديث . فنزلت فيه { ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب . . . } الآية( ).
التاسعة : قوله تعالى [يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ]( ) ( قال : الطاغوت . رجل من اليهود كان يقال له كعب بن الأشرف ، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا : بل نحاكمهم إلى كعب . فذلك قوله[يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ]( ).
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : تنازع رجل من المنافقين ورجل من اليهود فقال المنافق : اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف ، وقال اليهودي : اذهب بنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله { ألم ترَ إلى الذين يزعمون . . }الآية ( ).
العاشرة : قوله تعالى [لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ]( )، قال : قريش وكعب بن الأشرف .
الحادي عشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( )، عن أبي مالك في الآية قال (نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه حين أرادوا أن يغروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
الثانية عشرة :[ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ] ( ) نزلت الآية في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأضرابهما .
الثالثة عشرة : [الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ) نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وجماعة( ).
الرابعة عشرة : قوله تعالى [وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ]( )، أي لم يخطر ببالهم قتل رئيسهم كعب بن الأشرف( ) .
ولا أصل لحصر أسباب نزول عدة آيات بكعب بن الأشرف أو غيره سواء من المشركين من قريش أو يهود المدينة .
لقد عزم محمد بن مسلمة على قتل كعب لن الأشرف ، ولكن لابد من مكيدة وخدعة لإجتناب كثرة القتل وسفك الدماء (وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: شاور سعد بن معاذ في أمره. فاجتمع محمد بن مسلمة ونفرٌ من الأوس منهم عباد بن بشر، وأبو نائلة سلكان بن سلامة، والحارث بن أوس، وأبو عبس بن جبر، فقالوا: يا رسول الله نحن نقتله، فأذن لنا فلنقل، فإنه لا بد لنا منه) ( ).
وكان ذهابهم إلى كعب على مرتين ليطمئن لهم ، ففي المرة الأولى جاءه أبو نائلة ، فلما رآه كعب أنكر شأنه وأوجس في نفسه وخشي أن يكون في قدومه مكر ومكيدة .
ولكن أبا نائلة بادره بالقول : حدثت لنا حاجة اليك ، وكان كعب بين أصحابه وجماعته .
فقال : أدن إلي فخبرني بحاجتك ، ولكن لا يزال خائفاً منهم.
فصحيح أن سلكان أخوه من الرضاعة ، ولكنه يعلم أنه من الأنصار ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعلم كعب أن سعيه ومكره في مكة قد وصل إلى المدينة وعلم به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنصار والمهاجرون خاصة وان حسان بن ثابت كان يذكر البيوت والأسر من أهل مكة التي ينتقل إليها كعب بن الأشرف فيهجوهم ويذمهم بما يفيد التوبيخ على إستضافته .
قال سلكان : فتحدثنا ساعة وتناشدنا الأشعار ، فانبسط كعب ( )، وقال : حاجتك ، لكن سلكان استمر بانشاد الشعر كما بادله كعب القاء الشعر ، وكان كل منهما شاعراً معروفاً .
ثم قال كعب : حاجتك ، فأعرض عن الإجابة ، وكأنه لم يسمع السؤال ، فقال كعب : لعلك أن تحب أن يقوم من عندنا ؟
فلما سمع الحضور كلام كعب قاموا وانصرفوا عندئذ ، (قال أبو نائلة: إني كرهت أن يسمع القوم ذرو كلامنا، فيظنون! كان قدوم هذا الرجل علينا من البلاء.
وحاربتنا العرب ورمتنا عن قوسٍ واحدةٍ، وتقطعت السبل عنا حتى جهدت الأنفس وضاع العيال، أخذنا بالصدقة ولا نجد ما نأكل)( ).
واستبشر كعب بما سمع خاصة وان سلكان أخوه من الرضاعة وأنه يذكر حقائق لا يطيقها إلا أهل الإيمان والتقوى.
فقال كعب : ود والله كنت أحدثك بهذا يا ابن سلامة ، أي أنكم ستندمون على نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال أبو نائلة : ومعي رجال من أصحابي على مثل رأيي ، وأردنا أن نبتاع منك طعاماً أو تمراً ونرجو أن تحسن الينا من جهة الثمن وأجل القضاء ، ثم أخذ كعب يثني على التمر الذي عنده ويرغب أبا نائلة سلكان به وقال: ما أخب يا أبا نائلة أن أرى هذه الخصاصة بك وذكر أنه أخوه من الرضاعة ونازعه الثدي .
وقيل كان نديمه في الجاهلية ويطمئن إليه فقال : سلكان : أكتم عنا ما حدتثك من ذكر محمد فوعده كعب بأنه لا يبوح به ، ثم سأله ما الذي تريدون في أمر محمد .
فقال سلكان : خذلانه والتنحي عنه.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : الحرب خدعة ، ومن ذخائر السنة النبوية ورود هذا القول من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص عمل فرد واحد من السبب إذ أن (نعيم بن مسعود بن عامر بن (أنيف) بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن حلاوة بن أشجع بن زيد بن غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله إنّي قد أسلمت وإنَّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت،
فقال له رسول الله صلّى الله عليه : إنّما أنت فينا رجل واحد،
فخَذِّل عنّا إنْ استطعت فإنّ الحرب خدعة ) ( ).
قال كعب : سررتني يا أبا نائلة ، ثم طلب رهناً على التمر الذي يقرضهم ، فقال سلكان : رهنك من الحلقة ما ترضى به .
فقال كعب : إن في الحلقة لوفاء( ).
والحَلْقَة : السلاح ( وتأتي بمعنى الدروع ) ( )، وأراد سلكان التورية على كعب كيلا يفرع إنما يأتي وأصحابه بسلاحهم ، ثم اتفقا على موعد وزمان يلتقيان به ليأتوا بالسلاح رهينة لإستلام التمر .
وعاد سلكان لأصحابه واتفقوا على أن يأتوا في المساء .
وخرجوا في ليلة مقمرة هي الليلة الرابعة عشرة من شهر ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهراً ولما وصلوا الى الحصن نادى أبو نائلة بصوت عال : يا أبا سعيد فقال كعب : سمعاً دعوت.
وكان ابن الأشرف حديث عهد بعرس ، فوثب فاخذت امرأته بطرف ملحمته ، وقالت : مكانك ، فو الله اني لأرى حمرة الدم مع الصوت .
وقالت : أنت رجل محارب لا تنزل في هذه الساعة ، فقال كعب : أبو نائلة ، لو وجدني نائماً لما أيقظني ، وفي رواية قال لها : إنه أخي محمد بن مسلمة ورضيعي ابو نائلة وقال لها : انا على ميعاد معه .
وظلت متمسكة به فضرب بيده الملحفة وهو يقول : لو دُعي الفتى لطعنة أجاب ، فنزل اليهم فحياهم وجلس معهم ، وتحدثوا ساعة حتى انبسط إليهم وهو يظن أنهم أظهروا الندامة عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم في طريق الإرتداد فقالوا له : يا ابن الأشرف ، هل لك أن تتمشى إلى شرج العجوز فنكمل حديثنا.
وشرج العجوز موضع بظاهر المدينة ، وحينما ضربوا كعباً صرخ صرخة فزع أهل الحصون منها ، وسمعت على بعد ثلاثة أميال ، وأوقدت في الصوت النار، وقد ذكرت كتب السيرة تفاصيل قتله .
وجاء بعض رؤساء يهود المدينة الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشكوا إليه قتل كعب بن الأشرف ، فذكر لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يقول ويفعل كعب ثم دعاهم إلى كتاب بينه وبينهم .
وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من لكعب بن الاشرف ؟ فإنه قد آذى الله ورسوله( ).
وقيل معنى كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الذي ينتدب لقتل كعب ، ولا دليل على حصر الكلام بهذا المعنى والأصل الإطلاق لتعدد وجوه وكيفية صرف كعب عن مواصلة الشر والأذى.
وحينما يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل شخص يأمر بقتله صراحة مع بيانه لأسباب القتل ، ومعرفة الناس لها ، ومع هذا فقد يأمر بالقتل ثم يعفو ، كما جرى في فتح مكة أذ أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمن الناس جميعاً حاشا جماعة ذكرهم بالأسماء وليس بالصفات لأن ذكرهم بالصفات قد يكون سبباً لإشاعة القتل وتعدد التأويل ، وسيأتي بيانه وذكر أسمائهم في الجزء التالي وهو الثامن والسبعون بعد المائة.
وعن حزام بن هشام، عن أبيه، قال: أخذ رجلٌ من بني كعب درعه، وصففه ، ومغفره، وبيضته، وسيفه، وأدرك فرسه غائراً فأدركه فاستوى عليه، ولحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحجون( ).
ولم يامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتل كعب بن الأشرف إنما أخبر بأنه تمادى في الإضرار العام وشكى منه للصحابة ، وبيّن مسألة وهي أن كثرة إيذاء كعب بن الأشرف لله ورسوله يجب أن تقف عند حد مخصوص وهذا الوقوف أعم من أن ينحصر بالقتل وإن كانت الجناية التي فعلها كعب بن الأشرف باثارة الفتنة وهجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، والتشبيب بنساء المسلمين ، وتحريضه على الحرب والهجوم على المدينة ظلم عظيم .
واختار محمد بن مسلمة وأصحابه قتل كعب ليكون قتله موعظة لغيره ، وزاجراً لكفار قريش عن مواصلة التعدي على المسلمين والزحف بآلاف الرجال لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، قال تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( )، وقال تعالى[وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ]( ).
لقد كان الناس بحاجة الى السكينة والتدبر بمعجزات النبي ومنع الضجيج والضحب الذي يقصد منه حجب الناس عن التفكر بالخلق ونعمة بعث الأنبياء ، ومن هذا الضحب المقصود كيفية صلاة الذين كفروا في مكة ، قال تعالى[وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً]( ).
لقد كان منع كعب بن الأشرف من اثارة الضغائن والتحريض على القتل ،قطعاً لدابر الفتنة ، وسبباً للحيلولة دون تكرار المعارك وسفك الدماء.
قانون المعجزات الحسية في معركة بدر
لقد كانت معركة بدر فيصلاً بين الحق والباطل ، وتغيير في سنن الأرض نحو الهداية والصلاح وحاجة الناس فلا غرابة أن تنزل الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ومن المعجزات الحسية في معركة بدر إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء والمسألة ، وكأن الدعاء مقدمة القتال ، والتوطئة له ، فما من قائد في معركة إلا ويتهيأ لها ببذل الوسع في تنظيم صفوف الجيش وتوجيه الأوامر ، والترغيب بالقتال وأسبابه وبيان الذل الذي يصاحب الهزيمة.
نعم قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيه اصحابه وتنظيم صفوفهم ، واصلاحهم للدفاع ، ولكنه امضى أكثر وقته بالدعاء وسؤال النصر من عند الله ونزول قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، أي استجاب الله عز وجل لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجلب بالنصر القاطع فليس بعد نزول الملائكة إلا النصر المبين ، ليصاب الكفار الذين في ميدان المعركة وغيرهم بالذهول والبهت قال تعالى [فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية في معركة بدر وجوه :
الأول : لم يقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين خروجه من المدينة القتال وملاقاة جيش المشركين ، ولم تكن يومئذ قريش قد استعدت للمعركة .
لقد جاءت معركة بدر كأمر عرضي وحال انفعال نوعي عام عند رؤساء قريش والذين لهم بضائع وتجارات في قافلة أبي سفيان ، وبتحريض من الشيطان لهم ، كمحاولة لمنع دخول الناس الإسلام ، وإراقة الدماء.
وهل يدل هذا المعنى على قصد الملائكة اشتراك ابليس في احتجاجهم على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، بقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ]( ) .
المختار هو الإيجاب وان الملائكة كانوا يقصدون عامة الناس وابليس ، قال تعالى [ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
فان قلت لا يقدر إبليس بمباشرة القتل إنما يسعى في الفساد والإفساد ويحرض على القتل والقتال ، ومنه تحريضه لكفار قريش في معركة بدر ، وحينما همّ الذين كفروا الخروج الى معركة بدر خشوا من كنانة وأن تقوم بالغدر بهم من الظهر بسبب خصومة وخلاف بينهم فجاء إبليس بهيئة سراقة بن مالك وهو من أشراف كنانة وقال : أنا جار لكم أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعاً( ).
ليكون من تقدير الآية أعلاه من سورة البقرة : اتجعل فيها ابن آدم وابليس فيفسدان في الأرض ، وجاء الجواب من عند الله باحاطته بكل شئ ، وأن عاقبة الخلافة في الدنيا إلى خير ببعثة الأنبياء وانحسار الفساد ، وتحذير الناس من الشيطان ، والإنذار من اتباع خطواته والإنقياد باغوائه.
ومن الآيات في المقام مجئ القرآن بتحذير الناس جميعاً من الشيطان ، وقال تعالى [يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ..] ( ) وأقام الله الحجة على الذين كفروا يوم بدر وقبح فعلهم بالمناجاة بالهجوم والقتال ، قال تعالى [فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
الثاني : نزول المطر في ليلة معركة بدر مرة واحدة ، فكان على المسلمين رحمة , وللذين كفروا بلاء إذ نزل المسلمون يومئذ كثيباً وأرضاً مرتفعة في بدر تتصف بأن الأقدام وحوافر الدواب تسوخ فيها وسبقهم المشركون الى الماء وآبار بدر ، ومنعوا المسلمين منه وهل هذا المنع من مصاديق [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ).
الجواب نعم لتكون خسارة قريش في معركة بدر من ضروب العذاب التي نزلت بهم وأصبح المسلمون وبعضهم محدثين ، وبعضهم على جنابة ، وأصابهم الظمأ .
وعن ابن مسعود قال : ووسوس لهم الشيطان فقال تزعمون أن فيكم نبي الله وأنّكم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تُصلّون مجنبين ومحدثين فكيف ترجون أن يظفركم عليهم.
قال : فأرسل الله عزّ وجلّ مطراً سال منه الوادي فشرب منه المؤمنون واغتسلوا وتوضّأوا وسقوا الركاب وملؤوا الأسقية وأطفى الغبار ولبّد الأرض حتّى ثبّت عليه الأقدام وزالت وسوسة الشيطان وطابت أنفسهم فذلك قوله [وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ]( )، من الأحداث والجنابة( ).
ليتجلى المدد من الله للمسلمين قبل بدء القتال ، وقبل أن يلتحم الفريقان وفيه تأكيد لقانون وهو أن المدد من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أعم من أن يختص بنزول الملائكة .
لقد كان نزول المطر في ليلة معركة بدر معجزة وحاجة للمسلمين في طهارتهم وسقايتهم , أنه نفع للمسلمين في أرضهم , وأضر بالذين كفروا .
الثالث : اعانة الملائكة للمسلمين في القبض على بعض المشركين أسرى ، ومن معاني هذا الإعانة الملكوتية رأفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالأسرى .
الرابع : تعيين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمواضع مصارع بعض رؤساء جيش المشركين قبل بدء القتال .
وعن أنس بن مالك في حديث : وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هذا مصرع فلان، يضع يده على الارض ها هنا , وها هنا، فما أماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
الخامس : نزول النعاس على الصحابة من المهاجرين والأنصار يوم بدر ، قال تعالى [إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ]( )، أي قذف الله عز وجل النعاس في قلوب المسلمين للأمن والسكينة ، ولتتجلى مصاديق لقانون نسبة نصرهم يوم بدر لله عز وجل بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
السادس : رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام قلة عدد المشركين ، كما رآهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون في حال اليقظة وكأن عددهم قليل ، قال تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ).
السابع : عدم إعلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النفير بين أصحابه من المهاجرين والأنصار عند الخروج إلى معركة بدر ، حتى أن وجوه الأنصار استقبلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند رجوعه من بدر واعتذروا عن عدم الخروج معه لأنهم لايعلمون بأن قتالاً سيقع بينه وبين المشركين ، وفيه مسائل :
الأولى : دلالة عدم النفير على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاينوي القتال في معركة بدر , وهل يمكن أن يكون السبب هو حسن توكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الله ، وعلمه بنزول الملائكة لنصرته الجواب ليس من تعارض بين الأمرين ، فلو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناوياً القتال في معركة بدر لأستعد وأصحابه للقتال لعمومات قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ]( ).
الثانية : تجلي موضوع خروج النبي في الطريق إلى ماء بدر باستصحاب خروجه وأصحابه المتكرر قبله ، إذ كانوا يعودون إلى المدينة من غير أن يلقوا قتالاً ، ومن دون القيام بالهجوم والغزو للقبائل والقرى ، والإستصحاب أصل عقلي يتبادر الى الذهن قبل أن يكون دليلاً في علم الأصول( ).
الثالثة : مع عدم قصد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه من المدينة القتال ، كما في الوجه الأول أعلاه ، وعدم إعلانه النفير , ومع قلة عدد أصحابه الذي يقاتلون تحت لوائه والنقص في اسلحتهم فانه انتصر على الذين كفروا في معجزة حسية ظاهرة على صدق النبوة ، وتجليات المدد من عند الله عز وجل، ليكون هذا النصر دعوة للناس للإسلام ونبذ عبادة الإصنام.
ولا يعلم منافع النصر في معركة بدر ، ونزول قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )، إلا الله عز وجل .
ومن الإعجاز العقلي للآية أعلاه استدامة فوائد معركة بدر إلى يوم القيامة ، وتتصف هذه الفوائد بصفات :
الأولى : فوائد ومنافع ذات صبغة حسية تتبين وتدرك بالجوارح كالنظر والسمع ، قال تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ]( ).
الثانية : منافع بصفة عقلية تتجلى بالإستنباط والإستقراء والتحليل ونحوه .
الثالثة : فوائد جامعة تعرف باشتراك العقل والجواب في التدبر فيها ، إذ أن تقسيم الأمور والمعارف إلى حسية وعقلية إنما هو تقسيم استقرائي ، لا يمنع من التداخل بينها ومنها علوم التفسير ، ووجوه البيان فيها.
الرابعة : تجلي شواهد تدل على أن النبي محمداً لا يريد القتال ، ولا يرغب فيه ويرجو دفعه وانصراف الكفار من غير قتال .
فان قلت لماذا لم يبدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالإنصراف عن ميدان المعركة , الجواب مع إرادة الطرف الآخر القتال لا يمكن الإنصراف لأن هذا الإنصراف يجعلهم هدفاً وكأنهم في حال فرار وانهزام .
وحتى في معركة أحد ومع الخسارة الفادحة في صفوف المسلمين فان النبي محمداً ثبت في موضعه لم ينسحب من المعركة ليكون هذا الثبات سنة تقتدى عند أصحابه ، وليحضر في الوجود الذهني العام لديهم في معركة حنين ز
فحينما باغتت هوازن وثقيف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وانهزمت الكتائب الأولى من جيش المسلمين ثبت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه ، فسارعوا الى الرجوع إليه لأصل التبادر بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم ينسحب من موضعه ، وأن الرجوع إليه ونصرته والذب عنه واجب ، وهو من المصاديق الفعلية الحاضرة لقوله تعالى [فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ]( ).
فان قلت إنما رجع الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه ثبت في الميدان ، الجواب أنه لم يثبت في الميدان إلا بالوحي وأمر من عند الله ، وهذا الثبات من مصاديق [أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ] في الآية أعلاه.
لقد نزل قوله تعالى [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( )، لتثبيت حقيقة عقائدية في السنة الدفاعية ، وهي أن النبي وأصحابه مجتمعين لم يطلبوا القتال ولم يسعوا إليه ، وكانوا يرجون عدم وقوعه لوجوه :
الأول : القبح الذاتي للقتال والحرب ونفرة النفوس منه ، وهذه النفرة من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )في احتجاج الله عز وجل على الملائكة عندما قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
فمن علم الله تعالى في المقام أنه جعل الله عز وجل نفوس عامة الناس تنفر من القتال ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) إتصاف هذه الروح بخصائص وأسباب للرزق الكريم منها :
أولاً : تقوم الفطرة الإنسانية بالإيمان , فالأصل في الخلق هو الإيمان ، قال تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً] ( ).
ثانياً : ميل النفوس لأهل الإيمان ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا] ( ) ليكون من الإعجاز بورود اسم [الرَّحْمَنُ] للدلالة على انتفاع الناس جميعاً برهم وفاجرهم من هذا الود فهو رحمة عامة وسبب للصلاح ، وهو من أسباب عزوف الناس عن نصرة الذين كفروا في معارك الإسلام الأولى ، وهذا العزوف تدريجي في زيادته ، حتى جاء أوان فتح مكة ، فلم تكن هناك قبيلة تنصر قريشا ، فكما خرج الذين كفروا من قريش إلى معركة بدر من غير استعانة بحلفائهم من القبائل للعجالة ،ولترجيحهم النصر وكسب المعركة مع قلة عدد الصحابة الذين يصاحبون النبي محمداً يومئذ ، وقلة أسلحتهم ولأنهم لم يخرجوا لقتال ، فأصابتهم الهزيمة الذين كفروا ، وبعد معركة بدر والخندق وصلح الحديبية وعمرة القضاء التي هي من معجزات النبي محمد الحسية امتنع الناس عن نصرة قريش وتطلعوا إلى فتح مكة فدخلت جيوش المسلمين لها من غير قتال يذكر .
ثالثاً : نفرة عامة النفوس من الكفر ومفاهيم الضلالة ، وهذه النفرة واقية لسنن العبادة في الأرض .
رابعاً : اللطف الإلهي بالناس جميعاً بما يقربهم من منازل الإيمان ، ويصرفهم عن فعل السيئات .
الثاني : تجلي معجزات النبوة الحسية ، وتوالي نزول آيات القرآن ، وكل آية ومعجزة تدعو الناس إلى الهدى والإيمان ، فما تحققه المعجزة يعجز عنه السيف ، وهو من فضل الله ببعثة الأنبياء لذا وصفهم الله عز وجل بأنهم مبشرون ومنذرون ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ).
الثالث : حال الخوف والوهن التي يتصف بها المشركون فمن مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) إصابة الذين كفروا بالضعف والإرباك وأسباب الشقاق فيما بينهم .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتطلع ويرصد ما يحدث في معسكر جيش المشركين بخصوص العزم على القتال أو عدمه ، وحينما رآى أحدهم يسعى بينهم على جمله سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه عمه حمزة بن عبد المطلب الذي كان قريباً من العدو ، فقال أنه عتبة بن ربيعة , فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن يك في أحدٍ من القوم خيرٌ ففي صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا( ).
وقد يتبادر الى الذهن أن الذي يرغب بعدم القتال إنما بسبب النقص في عدد أفراد جيشه وقلة اسلحتهم وخشية الهزيمة والإنكسار ، ولكن النبي محمداً كان موعود بالنصر.
ليكون من الإعجاز في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجئ الوعد له بالنصر ومع هذا لا يرغب بالقتال ، ويرجو منعه ومقدماته ، وهو من منهاج الأنبياء ، وفي نوح ورد قوله تعالى [إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ]( ).
وإذا كان في معركة بدر إصلاحاً للمجتمعات وإستئصالاً لمفاهيم الكفر والضلالة أما في حال عدم وقوع معركة بدر ففيهم وجوه :
أولاً : عدم تحقق أي من المنافع التي ترشحت عن معركة بدر .
ثانياً : تنجز شطر من منافع التي جاءت بها معركة بدر .
ثالثاً : ترتب ذات النفع الذي تفرع في معركة بدر .
والمختار هو الثاني أعلاه.
لقد جاءت معركة بدر بمنافع على الإسلام والمسلمين صارت مفتاحاً لأبواب من النصر والفرج وأسباب الرحمة ومقدمات العز ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن النادر في التأريخ أن يندفع أحد طرفي اللقاء للقتال مع كثرة عدده وأسلحته ، ويحرص الطرف الثاني ذو القلة في العدد والأسلحة والتمرين على اجتناب القتال ، فينتصر الطرف الثاني خاصة وأن الحرص عن اجتناب القتال قد يبعث على التراخي والوهن ، فنزل قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، لبيان قانون وهو عدم وهن المسلمين مع أنهم يريدون صرف القتال ولا يبدأون به .
وهل نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفين (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)( )دعوة لصرف القتال , الجواب نعم .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يحرصون على إجتناب القتال والإمتناع عن الغزو مع إمكان تحقيق الغنائم فيه ، وفيه دعوة للذين كفروا للإيمان ، فعندما يعلم أهل قرية أنهم بين أحد أمرين :
الأول : غزو المسلمين لهم ، والإستيلاء على أموالهم ، وقتل بعضهم إن اختاروا القتال .
الثاني : دخول الإسلام وشراء سلامتهم وأهليهم والحفاظ على أموالهم.
فانهم لا يختارون إلا الإسلام ، وفيه خير الدنيا والآخرة لهم ، ومع هذا فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يمرون على القرى حول المدينة ، ولا يتعرضون لأهلها ولا لأموالهم ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعقد معهم عقود موادعة ومصالحة ، وفيه قطع لسعي كفار قريش وغيرهم لبعث النفرة في نفوس الناس من الإسلام والنبوة ، وهذه العقود سبب لتنمية ملكة المودة للمسلمين في قلوب الناس ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا] ( ).
الرابع : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية في معركة بدر انقطاعه للدعاء عشية ويوم المعركة ، فلم يشغله عن الدعاء الإستعداد والتهيئ للمعركة ، وتوجيه أصحابه وتنظيم صفوفهم وحثهم على القتال .
ومن الإعجاز في القرآن أن ذات الدعاء أعظم استعداد للمعركة لقوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، وقانون سلاح الأنبياء الدعاء الذي هو مرآة وهو تفسير للآية أعلاه سابقاً , ومصاحب لاوان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومقارن لها ومتأخر عنها زماناً وهو من الشواهد على قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
لقد كان المسلمون في ميدان المعركة يتطلعون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكيف أنه منقطع إلى الدعاء ، وعن ابن مسعود قال : ما سمعت مناشدا ينشد حقا له أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر وجعل يقول :
اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم ان تهلك هذه العصابة لا تعبد ثم التفت كأن شق وجهه القمر فقال كأنما أنظر إلى مصارع القوم عشية( ).
فيزداد المسلمون إيماناً ويدركون قانوناً وهو حاجة المؤمنين إلى الدعاء في المهمات ، وهل علم أفراد جيش الذين كفروا يومئذ بانشغال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء.
الأقرب نعم ، فقد كانوا يتراءون , وبعضهم يرى بعضهم الآخر.
وقد بنى الصحابة عريشاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لينقطع فيه إلى الدعاء , وفيه بعث للخوف في قلوب الذين كفروا ، ودعوة لهم لدخول الإسلام .
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علم أعدائه بانقطاعه إلى الدعاء في ساعة القتال ، فيخافون منه ، ويتوقعون هزيمته مع أن الأصل هو أن توجه القائد للدعاء انشغال عن وقائع الميدان ، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يوكل أمور القتال إلى غيره من الصحابة أو يفوض لبعضهم تولي شؤون القتال ، إنما كانت الأوامر والنواهي في ميدان المعركة بيده صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه نكتة وهي أن هذه الأوامر والنواهي من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) .
فينتفع المسلمون من الوحي في الميدان ليكون من مصاديق وتقدير قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )على وجوه :
أولاً : يوم التقى الجمعان , جمع يدافع بالوحي , وجمع يقاتل باتباع خطوات الشيطان، ولا بد أن يكون النصر إلى جانب أهل الإيمان والتقوى ، قال تعالى [فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ]( )، وهل دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ساحة وساعة معركة بدر من مصاديق الآية أعلاه من طرفيها ، الجواب نعم ، للملازمة بين الإيمان وبين الدعاء ، ولأن الدعاء مقدمة للنصر والغلبة ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد بالدعاء وسؤال النصر له ولأصحابه ولهزيمة المشركين ، ولم يدفعه هذا الدعاء والإستجابة للبدء بالهجوم على جيش الذين كفروا لقانون وهو أن الأنبياء لا يبدأون قتالاً.
ثانياً : يوم التقى الجمعان جمع يتضرع إلى الله بالدعاء وجمع يتوسل بالأصنام ، ويتزلف لها .
لقد تجلت حقائق جديدة واشراقات سماوية في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يحل الدعاء والتضرع الى الله محل عبادة الأصنام ، ويكون النصر إلى جانب الذين يتوكلون على الله , وفي التنزيل[وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( ).
ثالثاً : يوم التقى الجمعان جمع يدافع عن النبوة والتنزيل وجمع يصر على الإقامة على عبادة الأوثان .
وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ممن يدافع عن شخصه الكريم والنبوة أم أنه مُدافَع عنه.
الجواب هو الأول ، ليكون من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يقاتل في الميدان ، ترى لماذا لم يقف خلف الجيش حفاظاً على حياته وعلى استدامة الوحي بل كان في بداية الصفوف كما في معركة أحد والخندق وحنين .
الجواب هو تجلي معجزات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : حفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو وسط الميدان وفيه دعوة للناس للإيمان ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
الثانية : إرادة الأجر والثواب للمؤمنين في دفاعهم واخلاصهم في الذب عن النبي وتوالي نزول القرآن ، ليكون من معاني قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) تفضل الله عز وجل ببعث المهاجرين والأنصار على الإخلاص في الدفاع .
الثالثة : بيان مصداق لعظيم سلطان الله وأنه سبحانه [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )بأن يحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة مثلما يحفظه في حال الحضر وإحاطة أهل بيته وأصحابه به .
الرابعة : لقد كان كفار قريش يسعون لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أيام إقامته في مكة وقبل هجرته إلى المدينة ، فلما هاجر إلى المدينة ، وصار شباب مكة المسلمون يهاجرون إلى المدينة في ذات الوقت الذي تجهز فيه قريش للمكر والكيد والسعي لغزو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
فحينما وقعت معركة بدر وسعي رؤساء الكفر في قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يرميهم بحفنة من تراب فكانت بداية لهزيمتهم ، قال تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
ليكون من وجوه تقدير آية التقى الجمعين : يوم التقى جمع يدافع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وجمع يريد قتله ) .
رابعاً : يوم التقى الجمعان ، جمع يدافع لتكون كلمة الله هي العليا ، وجمع ظالم يقاتل لبقاء عبادة الأوثان في الأرض ، لذا تفضل الله عز وجل وبشّر الذين يقتلون من المؤمنين في هذا الدفاع شهداء وأحياء عند الله ، قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ) .
خامساً : يوم التقى الجمعان في ميدان معركة بدر , ليكون هذا اللقاء بداية ظهور كلمة التوحيد في الجزيرة ومقدمة لعودة تولي المتقين لشؤون المسجد الحرام .
سادساً : يوم التقى الجمعان لتتجلى معجزات النبوة الحسية والعقلية في ميدان القتال ، ويكون موعظة للأجيال ، وسبباً للهداية والإيمان .
لقد أصر الذين كفروا على القتال يوم بدر ولم يعلموا أن هذا القتال حجة عليهم ومناسبة لتدبر الناس في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومدخل لدخولهم الإسلام .
وهل لمعركة بدر ونتائجها موضوعية في فتح مكة وقوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ).
الجواب نعم وسيأتي مزيد كلام في قانون من أسباب دخول الناس أفواجاً في الإسلام ، تلك الأسباب التي تبدأ من نفرة النفوس من عبادة الأصنام ومن الإستهجان النفسي العام لنصب مئات الأصنام في المسجد الحرام مع توارث العرب لقصة بناء إبراهيم وإسماعيل البيت الحرام .
سابعاً : يوم التقى الجمعان جمع يجمعهم حبهم لله وإيمانهم به وبانبيائه وجمع يحاربون الله ورسوله ، ليكون في معركة بدر ونصر المؤمنين فيها ونزول المصيبة والهزيمة بالذين كفروا من قريش إنذاراً للكفار من محاربة أهل الإيمان والتقوى ، وتبكيتاً لرؤساء الكفر من قريش وزجرا للإمتناع عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجهيز الجيوش لغزو المدينة المنورة .
وهناك مسألتان :
الأولى : ترى ماذا لو لم تقع معركة بدر .
الثانية : ماذا لو لم يعد الذين كفروا للهجوم والغزو في معركة أحد .
أما المسألة الأولى فدفع معركة بدر رحمة ورأفة من عند الله وبرزخ دون سقوط القتلى من المهاجرين والأنصار يومئذ ، إذ استشهد يومئذ أربعة عشر من المسلمين ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار مع توالي دخول الناس في الإسلام بتجلي معجزات النبي محمد صلى الله على الله عليه وآله وسلم للناس .
ولم يعلم كفار قريش أن كل قطرة دم من الشهداء دعوة للناس لدخول الإسلام ، وهو من مصاديق حياة الشهداء عند الله كما في قوله تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ) ، ولكن شاء الله عز وجل أن تفتح معركة بدر أبواب الهدية للناس.
لقد كانت قريش تحيط نفسها بهالة من الهيبة بين العرب بجوارها وتوليتها للبيت الحرام وحين هجموا في معركة بدر وأحد لاصرارالرؤساء منهم على الغزو والقتال جاءتهم الهزيمة مسرعة , لتكون من مصاديق العذاب في قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( ).
ومن خصائص المجتمعات أن الذي يتعرض للتعذيب يسقط سلطانه على الناس ، فكيف وقد نزل تعذيب الذي كفروا من عند الله حيث لا راد ولا دافع له ، وهو عنوان غضب الله عز وجل عليهم ، أن لو جاء البلاء للذين آمنوا فانه مصيبة وباب للأجر والثواب ، وليس عقابا ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ).
لقد كانت في معركة بدر منافع عظيمة تتجلى في كل زمان وإلى يوم القيامة ، ومن أسرارها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه لم يقصدوا القتال عندما خرجوا من المدينة حينئذ ، وعندما التقى الجمعان لم يهجموا ولم يبدأوا برمي السهام والنبال ، بل بالعكس فان الذين كفروا هم الذين بدأوا برمي السهام ليسقط مهجع مولى عمر بن الخطاب وهو أول قتيل من المسلمين ( )، وأول قتيل من الفريقين .
لقد أدرك الكفار أن الإسلام قادم إليهم وأن الناس في طريق الهداية والرشاد فعجلوا باللقاء في معركة بدر لوقف زحف مبادئ ومعالم الإيمان وفي التنزيل [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
ويمكن استنتاج قانون وهو سواء وقعت معركة بدر أو لم يقع فان الله عز وجل يظهر الإسلام ، وأن الناس تتجه للعمل بأحكام القرآن والتنزيل .
وأما المسألة الثانية فلو لم يهجم الذين كفروا في معركة ففيه تخفيف من أوزار وآثام تلك المعركة ، وما لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجراحات الشديدة ، واستشهاد طائفة من أهل بيته وأصحابه ، وكثرة إصابات الذين بقوا أحياء ، فكانت هذه الخسارة على وجوه :
أولاً :إنها حجة على الذين كفروا لتعديهم وإصرارهم على الظلم ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
ثانياً : بيان قانون وهو أن كلاً من النصر في معركة بدر والخسارة في معركة أحد سبب لزيادة إيمان المسلمين ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعمومات قوله تعالى [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ) .
ثالثاً : لقد خرج المسلمون من معركة بدر بالنصر ، وفيه زيادة لإيمانهم وخرجوا من معركة أحد بالخسارة , وكان فيها زيادة في الإيمان خاصة وأنهم انتصروا في بداية المعركة , ولم يتعرضوا لهزيمة يومئذ ، قال تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( ).
مع شدة هجوم الذين كفروا وحصول ثغرة في جيش المسلمين بترك الرماة لمواضعهم مما جعل خيالة المشركين يزحفون من خلف جيش المسلمين ، فيفر أكثر المسلمين ، ويبقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع قلة قليلة من أهل بيته وأصحابه وسط الميدان ليكون هذا البقاء والثبات معجزة حسية أخرى له ودعوة للناس لدخول الإسلام .
السادس : من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر إنقضاء المعركة بسرعة في ذات اليوم الذي بدأت فيه ، وكانت المعارك عند العرب تستمر أياما وسنوات .
وتظهر فيها ملاحم وبطولات وآلام وجراحات ، وهي من مصاديق احتجاج الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) فتفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتتغشى الجزيرة معالم الرحمة والأخوة الإيمانية والوقوف صفوفاً بين يدي الله خمس مرات في اليوم .
ومن معارك العرب والوقائع المشهورة في الجاهلية :
الأولى : حرب البسوس واستمرت هذه الحرب عشرين سنة وقيل أربعين , بين أبناء عم وهم قبيلة بكر بن وائل ، وقبيلة تغلب بن وائل وسببها رمي كليب بن ربيعة ناقة تعود للبسوس خالة كليب ، بينما آخى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الأولى من الهجرة بين المهاجرين والأنصار .
الثانية : حرب أو يوم داحس والغبراء بين فرعين من قبيلة غطفان وهما عبس وذبيان ، وقيل استمرت أربعين سنة ، وكان سببها مسابقة في الخيل فداحس حصان يعدو بسرعة ، والغبراء فرس وقد تقدم التفصيل في جزء سابق .
الثالث : حرب باعث بين الأوس والخزرج قبل أن ينعم الله عليهم بهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليشتركوا باسم واحد وهو الأنصار ، وينفردوا به إلى يوم القيامة ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] ( ).
بينما كانت معركة بدر بسبب عقائدي وهي صراع بين الحق والباطل وإرادة كل من الطرفين استئصال الآخر ، كما أن عدد جيش المشركين كبيراً فاذا كان عدد جيش المسلمين هم ثلاثمائة وثلاثة عشر فان جيش المشركين نحو ألف رجل .
وقد سبق المعركة نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للكفار قوله ( لا إله إلا الله تفلحوا )فكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يطوف في سوق ذي المجاز وأسواق مكة في الموسم وهو ينادي بكلمة التوحيد .
(عن ربيعة بن عباد الدؤلى ، ومن حدثه أبو الزناد عنه، وحدثني حسين بن عبدالله بن عبيد الله بن عباس قال: سمعت ربيعة بن عباد يحدثه أبى، قال: إنى لغلام شاب مع أبى بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: ” يا بنى فلان إنى رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الانداد، وأن تؤمنوا بى وتصدقوا بى، وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثنى به “.
قال: وخلفه رجل أحول وضئ له غديرتان، عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله وما دعا إليه، قال ذلك الرجل: يا بنى فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه.
قال: فقلت لابي: يا أبت من هذا الرجل الذى يتبعه ويرد عليه ما يقول ؟ قال: هذا عمه عبدالعزى بن عبدالمطلب أبو لهب.
وقد روى الامام أحمد هذا الحديث، عن إبراهيم بن أبى العباس، حدثنا عبد الرحمن بن أبى الزناد، عن أبيه أخبرني رجل يقال له ربيعة بن عباد من بنى الديل، وكان جاهليا فأسلم .
قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية في سوق ذى المجاز وهو يقول: ” يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ” والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضئ الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب.
يتبعه حيث ذهب.
فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب.) ( ) .
وفيه دعوة للإمتناع عن القتال وبيان لقانون وهو أن إصرار الذين كفروا على القتال خلاف الفلاح ، وهو سبب يجلب الضرر لأنفسهم في النشأتين ، ولم يستجب الذين كفروا لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالنطق بكلمة التوحيد ، وردوا عليه برميه وجيش المسلمين بالسهام والنبال ، فلم يتركهم وشأنهم إنما رد عليهم بمصداق عملي لقوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) إذ أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حفنة من التراب ورمى بها صوب جيش المشركين فدخلت ذرات منها في عيني وأنف كل فرد من جيش المشركين في آية لا تتكرر إلى يوم القيامة ، ولتكون مقدمة لهزيمة المشركين ، وصحيح أنها لا تتكرر ولكن نفعها باق ومتجدد إلى يوم القيامة لبيان قانون أن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية غضة طرية إلى يوم القيامة ، وأن الناس ينتفعون منها ، وهي باب للهداية والصلاح ، لذا أختتمت آية ببدر بالإخبار عن كون معركة بدر باباً للتقوى والهداية , وجاء قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ] في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) خطابا إلى أجيال المسلمين والمسلمات المتعاقبة إلى يوم القيامة ، وهو من المعجزات في معركة بدر .
وبعد أن قام المشركون برمي السهام على المسلمين تقدم عدد من وجهاء المشركين للمبارزة , وهم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد وطلبوا المبارزة وتقدم لهم ثلاثة شبان من الأنصار ، ولم يعّرفوا أنفسهم بأنهم من الأوس أو الخزرج ، أو من أهل يثرب ، إنما قالوا نحن من الأنصار .
وهل هذا القول من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) الجواب نعم ليكون إنذاراً للمبارزين من المشركين بالكف عن القتال والإنسحاب من المبارزة لدلالة هذا القول على واقع إيماني جديد يتغشى الناس وانسلاخ من القبلية والبلدية وإرتقاء إلى صفات الإيمان وصيرورة الناس إلى أقسام وهم :
الأول : المسلمون ، وهم على شعبتين :
الأولى : المهاجرون .
الثانية : الأنصار .
الثاني : أهل الكتاب .
الثالث : الذين كفروا ليكون فيما بعد قسم آخر وهم المنافقون .
وهل يكون المنافقون قسيماً رابعاً ، الجواب لا ، لأنهم ذكروا في القرآن ، ويتصفون بخصوصية إخفاء الكفر في ذات الوقت الذي يظهرون فيه الإيمان .
وحينما سمع عتبة بن ربيعة وأخوة شيبة وابنه الوليد نسبة معاذ ومعوذ وعبد الله بن رواحة أنفسهم إلى الأنصار والإعلان عن نصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يطلبوا مبارزة المهاجرين ، ولكنهم قالوا نريد مبارزة بني هاشم ليفجعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولأنهم إذا قتلوا واحداً من بني هاشم شاع أمر هذا القتل بين أهل مكة وعدّه المشركون نصراً لهم فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة من أهل بيته على مبارزتهم .
وكانت النتيجة معجزة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قُتل المشركون الثلاثة دفعة واحدة ، وإذا كانت المعركة على نحو المبارزة الفردية فانها قد تستمر أياماً وأشهراً وكان المشركون قد جلبوا معهم المؤون الكثيرة ، وحال استيلاؤهم على آبار الماء في موضع المعركة لحرمان المسلمين منها ، ولكن المشركين سرعان ما انهزموا .
وفيه آية في التخفيف عن المسلمين والذين كفروا أيضاً في ميدان المعركة ، ويمكن تسمية الحياة الدنيا (دار التخفيف ) فلا ينحصر هذا التخفيف الذي يتفضل به الله عز وجل بالمسلمين أنما يشمل الناس جميعاً .
فليس بعد نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلا القتل للذين كفروا لو أصروا على البقاء في الميدان ومواصلة القتال ، قال تعالى [فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ] ( ) فاذا بدأ الذين كفروا القتال فان الله عز وجل تفضل بتعجيل انتهاء المعركة .
ولم يكن هذا الإنتهاء إلا آية ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه بذاته نصر له ولأصحابه وشاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً ، واذا غزاه أو هجم عليه الذين كفروا فان عاقبتهم الإنهزام العاجل ، فليس بين بدأ المعركة وانتهائها إلا ساعات قليلة ، فان قلت هذا صحيح بخصوص معركة بدر وأحد ، فاما في معركة الخندق فقد استمر حصار الذين كفروا للمدينة نحو عشرين ليلة ، والجواب من جهات :
الأولى : هناك تباين بين القتال والحصار ، فلم يقع قتال يعتمد في معركة الخندق .
الثانية : معركة الخندق شاهد على أن الذين كفروا هم الذين يقومون بغزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في عقر دارهم .
الثالثة : لقد كان في الحصار أذى وخسارة لذات الذين كفروا ، فكان عدد جيش الذين كفروا عشرة آلاف رجل بقوا محاصرين المدينة يعجزون عن اقتحامها ، وعندما اقتحم عمرو بن ود العامري الخندق بفرسه , ودعا المسلمين للمبارزة فتقدم له الإمام علي عليه السلام فقتله في واقعة متواترة في كتب التفسير والسنة والسيرة ، وأنزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) وهذه الكفاية شاهد على أن المشركين لم يجنوا أي نفع من معركة الخندق .
الرابعة : نتيجة معركة الخندق من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
فصحيح أن الآية أعلاه نزلت في معركة أحد ونتائجها إلا أنها تشمل الخندق من باب الأولوية القطعية من وجوه :
أولاً :لقد حقق جيش المشركين غلبة في بعض جولات معركة أحد ومع هذا أخبرت الآية أعلاه عن خيبتهم وحسرتهم عند الرجوع إلى مكة ، وفقد المسلمون فيها سبعين قتيلاً منهم عدد من المهاجرين الذين يعرفهم أهل مكة وقد تقدم ذكرهم .
ثانياً : لقد كان عدد جيش المشركين في معركة أحد ثلاثة آلاف رجل وحققوا غلبة في بعض جولات المعركة ، بينما زحفوا بعشرة آلاف رجل في معركة الخندق ولم يحققوا أي نصر ، وفيه خيبة وخسارة لهم ، لتكون مصاديق الخيبة أعم من أن تختص بأفراد جيش المشركين من جهات :
الأولى : فينقلبوا خائبين لتلحق الخيبة بذويهم وأهليهم إلا المؤمنين منهم.
الثانية : فينقلبوا خائبين فتصيب الخيبة عموم الذين كفروا .
الثالثة : فينقلبوا خائبين لتصاحبهم الخيبة في الدنيا والآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( ).
الرابعة : فينقلبوا خائبين مع أنهم هم الغزاة والمهاجرين ، إذ اختار المشركون أوان ومكان المعركة ، وجندوا أعظم وأكبر جيش في تأريخ المعارك في الجزيرة .
فان قلت قد كان جيش أبرهة عشرة آلاف رجل ، والجواب هذا صحيح ولكنه لم يقع قتال يومئذ ، إذ انسحبت قريش إلى رؤوس الجبال فارسل الله عز وجل طيوراً تحمل في مناقيرها وأرجلها حجارة صغيرة لترميها على أبرهة وجنوده فتنفذ في أجسامهم ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ] ( ).
الخامسة : فينقلبوا خائبين كما انقلبوا في معركة أحد .
السادسة : فينقلبوا خائبين لتكون هذه الخيبة برزخاً دون تكرار هجومهم على المدينة مرة أخرى .
ثالثاً : لقد سقط سبعون شهيداً من المسلمين في معركة أحد التي لم تستمر إلا يوماً واحداً ، وحاصر المشركون المدينة نحو عشرين ليلة ولكن المسلمين لم يفقدوا إلا ستة شهداء وهم :
الأول : سعد بن معاذ الذي مات خارج المعركة بعد نزف جرحه .
الثاني : أنس بن أوس بن عتيك .
الثالث : عبد الله بن سهل .
الرابع : الطفيل بن النعمان .
الخامس : ثعلبة بن غنمة بن عدي .
السادس : كعب بن زيد .
لتصير مسألة شهداء المسلمين يومئذ من أسباب عودة الذين كفروا خائبين ، وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة الفعل المضارع [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ].
ليكون تقدير الآية أعلاه : فينقلبوا في كل معركة مع النبوة والتنزيل ، ومن معاني قوله تعالى أعلاه جهات :
الأولى : إنه وعد وعهد من عند الله عز وجل للمؤمنين ، وفي التنزيل [وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ] ( ).
الثانية : إنه إنذار وتحذير للذين كفروا .
الثالثة : انه معجزة متجددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حيث يعلم الناس بقانون وهو : في كل مرة يزحف المشركون للقتال تكون العاقبة خيبة الذين كفروا .
وبين الخيبة والخسارة عموم وخصوص مطلق ، إذ أن مصاديق الخيبة متعددة وكثيرة ، وأيهما أكثر خيبة بالنسبة للمشركين :
الأولى : عودة المشركين من معركة بدر واصرارهم على القتال يومئذ .
الثانية : رجوع المشركين من معركة أحد وغزوهم المسلمين فيها
الثالثة : إنقلاب المشركين وجيش الأحزاب من غزوهم وحصارهم المدينة في معركة الخندق .
المختار هو الثالثة أعلاه ، قال تعالى [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا]( ) وفيه وجوه :
أولاً : خيبة المشركين في معركة الخندق جامعة لخيبتهم في كل من معركة بدر وأحد ، ووقعت معركة الخندق في شوال من السنة الخامسة للهجرة (شباط سنة 627 م ) ، وقد حشد المشركون لها كل جهودهم وبذلوا أموالهم فعادوا خائبين .
ثانياً : كثرة جيش المشركين في معركة الخندق إذ كان عددهم عشرة آلاف رجل ، وهو نحو عشرة أضعاف عددهم في معركة بدر وثلاثة أضعاف عددهم في معركة أحد .
ثالثاً : طول مدة حصار جيش المشركين للمدينة ، وفيه تعطيل لأعمالهم وتجارتهم ، وهو سبب لحدوث الملل والضجر في نفوس عامة الجيش .
رابعاً : حصار المدينة مناسبة بين أفراد جيش المشركين خاصة وأنهم يدركون سوء اختيارهم بمحاربة النبوة والتنزيل .
خامساً : نصر المسلمين بقتل الإمام علي عليه السلام عمرو بن ود العامري وهو من فرسان قريش ، وقد تخلف في معركة أحد لجراحاته في معركة بدر ، وعاد في غزوهم للمدينة في الأحزاب ، لتتجلى في هذه المبارزة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية بعد أن أصر عليها وتحدى المسلمين وجال بفرسه متبختراً بزهو ، وعندما التقيا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : برز الإيمان كله إلى الشرك كله ) ( ).
سادساً : صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عن الرد على سهام المشركين حتى مع سقوط بعضهم بهذه السهام لبيان قانون وهو أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يرجو أموراً :
الأول : منع أسباب ومقدمات القتال .
الثاني: دفع القتال حتى عند التقاء الصفين .
الثالث : منع استدامة القتال عند وقوعه .
سابعاً : امتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مطاردة جيش الذين كفروا في عمق الصحراء ، بل اكتفوا بأسر سبعين منهم وجلبوهم إلى المدينة ، ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسية يومئذ حسن معاملة الأسرى ، وعدم إيذائهم أو قتلهم ، إنما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم للذين أسروهم مقدار الفدية والبدل مع الحث على العناية بهم ، لتشمل هذه العناية التسامح في مقدار البدل , ويحتمل هذا الأمر وجوهاً :
الأول : ترك تعيين البدل للمؤسر ، وعدم أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه سهماً ومقداراً من مصاديق قوله تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا] ( ) .
الثاني : إنه من رشحات الآية أعلاه بلحاظ كبرى كلية وهي أن الآية أعلاه تدعو في مفهومها إلى عدم قتل الأسرى .
الثالث : ليس من صلة بين الآية أعلاه ومسألة مقدار البدل عن الأسرى.
الرابع : إنه من مقدمات نزول الآية أعلاه إذ وقعت معركة بدر في السنة الثانية للهجرة بينما نزلت الآية أعلاه فيما بعد ، والمراد من قوله تعالى [أَسِيرًا] في الآية أعلاه هم الأسرى من المشركين ، فليس بين المسلمين أسر وتأسير خاصة وأن الآية تتوجه للمسلمين جميعاً بأن تصفهم بالأبرار ، وصحيح أن الآية نزلت في أهل البيت عليه السلام إلا أن المدار على عموم المعنى ، والمختار هو الأول والثاني والرابع أعلاه .
لتكون مدة إقامة الأسرى في المدينة مناسبة لإطلاعهم على مبادئ الإسلام وأحكام الشريعة ، ويعودون إلى مكة دعاة إلى الله بحكاية سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنقياد المسلمين للأوامر الإلهية ، ومحذرين من تجديد الهجوم على المدينة ، ولكن رؤساء الكفر أصروا على العودة إلى القتال في معركة أحد مثلما عمدوا إلى إشعال معركة بدر مع الأصوات التي نادت باجتناب القتال .
ولا تختص معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية في معركة بدر بأوان المعركة بل هي مستمرة ومتجددة لأنها نعمة من عند الله ، وإذا أنزل الله عز وجل نعمة فانه أكرم من أن يرفعها ، ومن وجوه الإعجاز في معركة بدر ونصر المسلمين فيها إمتناع المدد من القبائل عن الإغارة على المدينة وعن نصرة قريش في حربها على النبي والصحابة .
ومنها تنامي الإسلام داخل مكة ، وإجهار بعض المسلمين والمسلمات بالإيمان وتلاوة القرآن وأداء الصلاة وبيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل كان المسلمون الذين في مكة يذكرون معركة بدر كمعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتلمسون منافعها ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ اً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ] ( ) .
لقد جعل الله عز وجل معركة بدر حجة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حرصه على الإمتناع عن القتال لأنه يعلم بأن معجزاته العقلية والحسية كافية لهداية الناس إلى سبل الإيمان ، وأن الذين يعرضون عن دعوته سيدخلون الإسلام ولو بعد حين .
ولكن رؤساء الكفر اختاروا التعجيل بالقتال لحشد الناس إلى جانبهم ومنعهم من التدبر في معجزات النبي محمد ، فاذا اشتركوا في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وسقط منهم قتلى فان العداء بينهم وبين المسلمين قد يستديم ويرغبون في طلب الثأر لقتلاهم ، ويعدون العدة للخروج مع قريش للقتال خاصة , فمن مكر قريش السعي لتأليب القبائل على المسلمين وإثارة العصبية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ] ( ) وأن تجار قريش يبذلون الأموال للمقاتلين الذين يرجعون معهم ، ويوفرون لهم الأسلحة والدروع والرواحل والمؤمن ، ومع هذا تجدهم ينسحبون من أول يوم تبدأ فيه المعركة.
وهل لمعجزات النبي في معركة بدر موضوعية في إنسحاب جيش الكفار من ميدان معركة أحد في ذات اليوم الذي ابتدأت به ، الجواب نعم لبيان إمكان تقسيم معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر إلى أقسام :
الأول : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقدمات معركة بدر .
الثاني : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشية وصباح معركة بدر وقبل ابتداء المعركة .
الثالث : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أثناء القتال يوم بدر .
الرابع : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند إنتهاء المعركة .
الخامس : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد انهاء المعركة وفي الطريق إلى المدينة .
السادس : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المتجددة بخصوص معركة بدر ، فمن أسرار الوقائع النبوية الـتأريخية انقضاء أيامها ولكن موضوعها ومنافعها تبقى إلى يوم القيامة.
إن قوله تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ) شاهد على أن الله عز وجل أراد للإسلام الثبات والبقاء ، وللمسلمين العز بالظفر في بدر من غير أن يسعوا إليها ، إنما كانوا يرجون أن يحوزوا ما في قافلة أبو سفيان من البضائع ، ولا يدل هذا الرجاء على سعيهم في طلب القافلة وقيامهم بالتعرض لها .
ولو أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا التعرض وإدراك القافلة لخرج إليها في الوقت الملائم ، ولكنه تأخر في الخروج حتى إجتازت إلى مكة ، وكأنه من مكر الله عز وجل بالذين كفروا وعمومات قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) إذ صارت هذه القافلة واحتمال تعرض المسلمين لها سبباً لخروج قريش من مكة بقصد القتال ، وعندما وصلهم خبر سلامة القافلة لم يرجعوا فان الله عز وجل أقام عليهم الحجة ، إذ أختاروا بأنفسهم أوان ومكان المعركة .
فلحقتهم الهزيمة فيها ليتبعهم الذل في الدنيا والعذاب في الآخرة ، وتكون معركة بدر ونتائجها من مصاديق قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ) .
وإبتداء المشركين القتال في معركة بدر من صدّهم عن المسجد الحرام وهزيمتهم وسقوط سبعين قتيلاً منهم وأسر سبعين آخرين من العذاب الذي ذكرته الآية أعلاه وهم معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون وهو كل آية قرآنية تتعلق بمعركة بدر معجزة عقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتحكي وتوثق معجزات حسية له في ذات المعركة .
ويمكن انشاء قانون وهو : المعجزات الحسية مرآة للمعجزة العقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد عليها وتوكيد لها ، وهو من عمومات قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ).
وفي قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ) ورد أنها (نزلت في أبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي الاعور عمرو بن (أبي) سفيان السلمي، وذلك أنّهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أُبي رأس المنافقين بعد قتال أُحد، وقد أعطاهم النبيّ صلّى الله عليه الأمان على أنْ يُكلّموه،
فقام معهم عبدالله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق،
فقال للنبيّ صلى الله عليه آله وسلم : ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزّى ومنات وقل : إنّ لها شفاعة ومنفعة لمن عَبَدَها وندعك وربّك،
فشقّ على النبي صلّى الله عليه قولهم،
فقال عمر بن الخطّاب : ائذن لنا يارسول الله في قتلهم،
فقال النبي (عليه السلام) : إنّي قد أعطيتهم الأمان) ( ) وكان رؤساء الكفر ينزلزن على رأس النفاق في المدينة .
وهل يمكن تسمية الدنيا (دار التقوى ) الجواب نعم لتكون الآخرة (دار الثواب على التقوى ) ولأن الله عز وجل يريد لعباده اكتناز الحسنات والفوز بالأجر والثواب بالتقيد بسنن التقوى ، وجعل الله عز وجل الحياة الدنيا مناسبة للتحلي بها ، وإتخاذها رداءً وزاداً ، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ).
و(عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اتقِ الله حيثما كنت ، وأتبعِ السيئة الحسنة تمحُها ، وخالقِ الناس بخلق حسن)( ).
وعن اتحاد سنخية النبوة صدور الأمر من الأنبياء للناس بذات كلمات واتق الله حيث كنت .
وفي عيسى عليه السلام ذكر أنه قال (يا ابن آدم الضعيف، اتق الله حيثما كنت، وكُنْ في الدنيا ضَيْفًا، واتَّخِذِ المساجدَ بيتا، وعَلِّم عينيك البكاء، وجَسَدك الصَّبْر، وقلبك الفِكْر، ولا تهتم برزق غد) ( ).
والتقوى ليست سراً بين العبد وربه تعالى إنما هي خوف ووجل وفعل عبادي دؤوب ظاهر ومستور ، ويأتي العبد بمصاديق التقوى في السر والعلانية ، وقد ورد بخصوص الصيام (عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله جعل حسنة ابن آدم عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم ، والصوم لي وأنا أجزي به) ( ) .
بلحاظ نكتة عقائدية وهي أن المكلف يستطيع الإنفراد والخلوة فيمسك في خلوته عن المفطرات فيجعل الله عز وجل ثوابه عليه ، لبيان أن التقوى واقية تصاحب الإنسان في كل حال .
لقد صبر المسلمون على تعذيب طائفة من الصحابة مثل بلال وعمار وأبويه وخباب ، وإرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تجهيزهم الجيوش لقتاله في معركة بدر وأحد والخندق إنما أجابهم بالقول (فإني أقول كما قال أخي يوسف: ” لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ” ألا إن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي إلا سدانة البيت وسقاية الحاج) ( ) .
فخرج سهيل بن عمرو من بيته وصار يغدو ويروح لا يخشى القتل أو الإيذاء أو الذم والتقبيح على فعله مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
السابع : بعد فتح مكة خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها متوجهاً إلى المدينة مع إحتمال قتال ثقيف وهوازن إذ وصلت الأخبار إلى مكة بأنهم يستعدون لغزوها والهجوم على جيش المسلمين ، وخرج سهيل بن عمرو مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة حنين ، وهو شرك.
وقيل اشترك مع المسلمين بالقتال وبعد أن تحقق النصر للمسلمين أعلن اسلامه وأعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غنائم حنين مائة من الإبل وحسن إسلامه ، وعاد إلى مكة ليقيم فيها .
لقد دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم الفتح ومعه عشرة آلاف من أصحابه ، ترى لماذا هذه الكثرة مع ظهور الضعف والوهن على قريش يومئذ ، الجواب من وجوه :
أولاً : بيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
ثانياً : كثرة عدد المسلمين شاهد على صدق النبوة ، إذ أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبين لأهل مكة آية حسية وهي أن عدد الذين آمنوا بالآلاف المؤلفة ، ويتبادر إلى الأذهان أن الذين بقوا في المدينة حضروا إلى مكة مع النبي او مثلهم أو أقل منهم قليلاً .
ثالثاً : لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ليلة الهجرة خائفاً ليس معه إلا أبو بكر ليعود بعد ثمان سنوات ومعه عشرة آلاف مدججين بالسلاح .
وتخفق الرايات فوق رأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمامه وخلفه ومن بينه وشماله ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الزحام من جهة الحجر الأسود في الطواف
الحمد الذي جعل الطواف ركناً من أركان الحج ، ومن الآيات انسياب الطواف مع كثرة الطائفين ويبدأ الطواف من جهة الأسود ومحاذاته ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الحجر الأسود من حجارة الجنة وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ليأتين هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به ، يشهد على من استلمه بحق ( )، قال تعالى [وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ] ( ).
ولكن يلاحظ عند الطواف الزحام مقابل الحجر الأسود بسبب وقوف أكثر الطائفين عنده ، والإشارة باليدين والتكبير عدة مرات ، والصواب أن التكبير مرة واحدة ، ومنهم من يبدأ بالتكبير قبل الوصول الى محاذاة الحجر الأسود ولا يصح هذا الوقوف خاصة عند الزحام لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ولنفي الحرج في الدين ، ولما فيه من الإيذاء العام وإعاقة حركة الطواف وسير الطائفين .
فنرجو من الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام جعل مرشدين في الطواف بين الحجر الأسود ونهاية المطاف في الطابق الأرضي من جهة جبل الصفا ، يصعد كل واحد منهم على دكة فيأمر الطائفين بمواصلة السير والطواف وعدم الوقوف .
وكذا في الطابق الأول والطوابق الأخرى عند الزحام فيها.
إن قيام بضعة منتسبين بحث الطائفين على عدم الوقوف مقابل الحجر الأسود سيمنع من حالات اختناق ، وسيوفر نحو ربع وقت الطواف ويخفف من الزحام في موسم الحج والعمرة خاصة في شهر رمضان ، وعَنِ ابن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم اضْطَبَعَ فَاسْتَلَمَ وَكَبَّرَ ثُمَّ رَمَلَ ثَلاَثَةَ أَشواط وَكَانُوا إِذَا بَلَغُوا الرُّكْنَ الْيَمَانِىَ وَتَغَيَّبُوا مِنْ قُرَيْشٍ مَشَوْا ثُمَّ يَطْلُعُونَ عَلَيْهِمْ يَرْمُلُونَ تَقُولُ قُرَيْشٌ كَأَنَّهُمُ الْغِزْلاَنُ قَالَ ابن عَبَّاسٍ فَكَانَتْ سُنَّةً( ).
إن الذي يعانيه الطائفون من هذا الوقوف قد لا يحس به غيرهم .
وللبيت الحرام أربعة أركان هي :
الأول : ركن الحجر الأسود ويسمى أيضاً الركن الشرقي ، ويتصف بفضائل .
الأولى : الإنفراد بكون الحجر الأسود فيه والذي نزل اشد بياضاً من الثلج فسودته خطايا بني آدم كما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم( ).
الثانية : إنفراد هذا الركن والحجر بالإستلام والتقبيل .
الثالثة : بني ركن الحجر الأسود على قواعد إبراهيم .
الرابعة : إبتداء الطواف من ركن الحجر الأسود .
الخامسة : التكبير والإشارة إلى الحجر عند تعذر الوصول إليه أثناء الطواف , وفي استحباب السلام على الحاج عند عودته ، ورد عن الإمام علي بن الحسين قال : من عانق حاجاً بغباره كان كأنما استلم الحجر الأسود.
السادسة : انتهاء الطواف بعد تمام الشوط السابع عند ركن الحجر الأسود ، ليشهد للمسلم على أداء الحج ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
الثاني : الركن اليماني ، وهو الذي يقع قبل الحجر الأسود في الطواف من الشوط الثاني وما بعده ، وله فضيلة وهي بناؤه على قواعد إبراهيم عليه السلام أيضاً، أي بين ركن الحجر الأسود وبينه عموم وخصوص مطلق ، ففضائل ركن الحجر الأسود أكثر.
الثالث : الركن العراقي ، وهو الذي يلي ركن الحجر الأسود وتسميته الركن العراقي معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم للدلالة على فتح العراق وقدوم وفد الحاج منه.
وفي حديث عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود [رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً]( ) الآية، ويقول إذا انتهى إلى الركن العراقي : اللهم إني أعوذ بك من الشك والشرك والنفاق والشقاق وسوء الأخلاق ( ).
الرابع : الركن الشامي ، وهو الذي يلي حِجر إسماعيل في الطواف.
وكل من الركن العراقي والشامي ليسا على قواعد إبراهيم لأن قريشاً ضيقوا في مساحة وبناء البيت من جهتهما، وقيل لنقص المال الطيب يومئذ.
قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا]( ): ومن الآيات الباهرات في البيت :
أولاً : مقام إبراهيم، وأثر قدميه في المقام مع أنه صخرة عندما بنى البيت أو عندما زار إسماعيل، ولما إرتفع بناء الكعبة إستعان إبراهيم بالمقام إذ وقف عليه، وصار ولده إسماعيل يناوله الحجر، وكان المقام ملاصقاً لجدار البيت وأخّره عمر بن الخطاب في أيامه إلى ناحية الشرق بحيث يستطيع الطائفون الطواف من غير مزاحمة للمصلين لقوله تعالى[وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى]( ).
ثانياً : من دخله كان آمناً فالذي يدخل البيت لا يخاف إلا الله .
لقد كان العرب قبل الإسلام في جاهلية، وتحكم أفعالهم العصبية والثأر والغزو , ولكن جعل الله عز وجل في قلوبهم حرمة وقدسية للبيت الحرام، وهذا الأثر القلبي ويبرزه الفعل في الخارج بإكرام العرب للبيت الحرام وأوليائه آية من عند الله في عالم القلوب والأفعال .
وكان الرجل يقوم بالقتل فيضع في عُنقه صوفة ، ويلجأ إلى الحرم فيلقاه ابن أو أخ المقتول ، وهو في الحرم فلا يهيّجه ، وان كان في غير الأشهر الحرم إلى أن يخرج من الحرم.
ثالثاً : الكعبة.
رابعاً : تزاحم الناس في الطواف وعند الشعائر , وفي الإفاضة , وهو من معاني تسمية بكة لتباك أي تدافع الناس.
خامساً :الصفا.
سادساً : المروة.
سابعاً : بئر زمزم.
ثامناً : حجر إسماعيل.
تاسعاً :المشعر الحرام لأنه من الحرم، أما عرفة فهي ليست من الحرم ، وشرّفها الله بأن ذكرها في القرآن ، قال تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ]( ).
عاشراً : اتصال الطواف بالبيت في الليل والنهار .
الحادي عشر : تولية المتقين للمسجد الحرام ، وإزاحة الذين كفروا عنها بفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ، قال تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ]( )، وفي قطع التلبية وجوه:
أولاً : وعلى قول مشهور تقطع التلبية للمعتمر والذي يعتمر لحج التمتع عند الحجر الأسود وبه قال الحنفية والشافعية والحنابلة ، واستدل عليه بقول (ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر ( ).
ثانياً : قطع التلبية عند دخول أدنى الحرم ، ونسب ابن عمر فعله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : يقطع التلبية إذا دخل الحرم ان كان احرامه للعمرة من ميقاته إذا كان الإحرام من غير ميقات البلد الذي جاء منه كما لو كان من أهل العراق وأحرم من التنعيم فانه يقطع التلبية إذا دخل بيوت مكة أو المسجد الحرام وبه قال المالكية .
وورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : المتمتع إذا نظر إلى بيوت مكة قطع التلبية عند عقبة المدنيين وكانت عندها نهاية بيوت مكة ، وتقع غرب الجبل الذي يشرف على شهداء مكة من الشرق ، ويسمى اليوم (ريع أبي مدافع) وسمي الجبل المذكور باسم أبي مدافع لأن الأتراك أيام العثمانيين نصبوا عليه المدافع .
وعن الإمام الصادق عليه السلام : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل من أعلى مكة من عقبة المدنيين عند الفتح.
نكرر اقتراحنا بجعل مرشدين في المطاف أيام الزحام مثلاً يقف أحدهم على دكة عند مقام ابراهيم ، وآخر عند بئر زمزم وثالث في نهاية المطاف من جهة الصفا يحثون الطائفين على السير وعدم الوقوف عندما يصلون في الطواف الى محاذاة الحجر الأسود .