المقدمـــــــــــة
الحمد لله حمداً دائماً متصلاً ومتوالياً لا ينفد أوله ، ولا ينقطع آخره .
الحمد لله الذي لا يقدر على بلوغ مراتب حمده أحد ، وتعجز الخلائق عن حجب حمد العباد له ، وليس ثمة فاصلة زمانية أو مكانية بين الحمد وبين وصوله الى الله الذي لا تتداخل أو تختلط عنده للأصوات فحالما ينطق أو يكتب العبد الحمد يبلغ الله عز وجل ويجزي عليه ، ولا يقدر على هذا الجزاء إلا هو سبحانه ، وهل يختص جزاء الحمد بالثناء الحال والحاضر عليه ، الجواب لا ، إنما يشمل الجزاء الدنيا والآخرة .
لذا تفضل الله على المسلمين وجعل كل واحد منهم ذكراً أو أنثى ينطق بقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) عدة مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني ، وهو شاهد على أن المسلمين راضون بما أنعم الله عليهم وأنهم لا يطمعون فيما عند الناس ، مما يستلزم الشكر والحمد له سبحانه على نعمة الهداية إلى قول الحمد لله .
وعن عبد الله بن سعد : أن النبي صلى الله عليه وسلم وعظ رجلا فقال : ازهد في الدنيا يحبك الله عز وجل , وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس( ).
واقترانه بالتسليم له بالربوبية المطلقة على الخلائق كلها ليكون من معاني حمد المسلمين لله عز وجل على إقرارهم وتسليمهم باللطف الإلهي بهذه السعة والمندوحة وصرف البلاء والآفات .
الحمد لله الذي خلق الأشياء كلها ، وأحصى كل نوع وجنس وماهية منها ، يعلم ما في أعماق البحار ، وما في أعالي السماء ، ويعلم كنوز الأرض ، وأوان الإنتفاع منها ، والخزائن والكنوز التي في الكواكب لتكون حاضرة ومسخرة للناس في الأزمنة اللاحقة كما تجلت بعض الأمارات لينقطع الناس إلى شكره تعالى ، ويقرون بمنه وإحسانه ، ولتأكيد قانون وهو توالي النعم على الناس وتهيأت أسباب الرزق لهم جميعاً , قال تعالى[هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ]( ).
وليس من حصر لمصاديق الرزق من عند الله فهو لا يختص بالمال والأكل والشرب انما يشمل الولد ، والصحة والأمن ، والزوجية ، والهداية ، وأداء العبادات ، وتوالي النعم والسعي لطلب الرزق ، وإذ جعل الله عز وجل في الإنسان بصحة خطوطاً خاصة به في باطن الكفين ، وفريدة لا يشاركه غيره فيها وإن كان من جيل وطبقة أخرى تسبقه بمئات السنين ، ويترك الإنسان بصماته في كل ما يلمسه وإن لم ير تلك البصمات خاصة عندما تكون يده نظيفة.
وانتفع علم التحقيق الجنائي من هذا الدليل ، كما انه ساهم في اثبات براءة كثير من الناس ممن تدور حولهم عند وقوع جريمة وهو زاجر عن إرتكاب الجريمة خشية الكشف عن الفاعل .
وهل هذا العلم من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في إحتجاج الله عز وجل على الملائكة على قولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، الجواب نعم ، فان الله عز وجل يهدي الناس إلى كشف الجناية ، وفضح الجاني ، في الغالب وفي كل زمان ، ويدل عليه معرفة آدم والناس جميعاً إلى يوم القيامة بأن قابيل قتل آخاه هابيل ، وفي التنزيل[وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ]( )، إذ تدل هذه الآية في مفهومها على فضح القاتل ، وامكان القصاص منه وحرمة بالقتل العشوائي والتعجل به .
الحمد لله على نعمة العقل عليّ وعليكم وعلى الناس من الأولين والآخرين ليكون ميزان الهداية والواقية من الفسوق والغواية والضلالة .
الحمد لله على نعمة البصر والسمع والجوارح والقلب وأعضاء البدن وعملها واستدامة هذا العمل بمعجزة من الله ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ…]( )، إذ تكشف العلوم الحديثة أسراراً في بدن الإنسان ، وعمل أعضائه تبهر العقول .
الحمد لله الذي يظهر الجميل ويستر القبيح ، وينهى عن الغيبة والإفتراء .
الحمد لله الذي بعث الأنبياء للدعوة إلى عبادته وأنزل معهم الكتب السماوية ورزقهم الوحي ، وتفضل على الناس برحمته بنزول آيات القرآن , وكل آية نور ساطع يملأ الأرض ضياء ، بذاتها ، وكلماتها ، ومعانيها ، ودلالاتها ، لتكون مناراً للهداية والرشاد فحينما أمر الله عز وجل كل مسلم ومسلمة بالقول عدة مرات في اليوم [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )، فانه سبحانه جعل تلمس واستبيان هذا الصراط وسبل الطريق إليه واضحة للأبصار والبصائر ، بضياء آيات التنزيل ومضامينها القدسية وإقتباس العقول منها وسلطانها على الجوارح وهي حرز من الضلالة ، قال تعالى[قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
وجاء هذا الجزء وهو الثامن والسبعون بعد المائة من تفسيرنا للقرآن رجاء انتهاج سبل الصراط وكشف الحقائق وإزاحة الإرتياب.
وهو الثاني عشر من الأجزاء المتعلقة بقانون لم يغزُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً وفيه قراءة واستقراء لسيرة النبي محمد صلى الله عله وآله وسلم بما يدل على استغنائه عن الغزو ، وعدم لجوئه إليه .
إنما كانت آيات القرآن هي التي تغزو القلوب ، وهل كان لها تأثير ونفع على الكفار حينما غزو المسلمين في معركة بدر وأحد والخندق .
الجواب نعم ، إذ يرجع الغزاة بذخيرة من آيات التنزيل ودلائل النبوة وتجري على السنتهم طوعاً وقهراً وانبهاراً فتدخل معهم البيوت وتحضر في المنتديات .
وادعو المؤسسات التعليمية والتربوية في العالم العربي والإسلامي إلى لحاظ قانون لم يغز النبي (ص) أحدا في المناهج ، وإعادة صياغتها بما يناسب الحقيقة وكشف وجوه السلم والأمن بأن الذين كفروا هم الذين كانوا يغزون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ويريدون قتلهم فمثلاً بدل غزوة أحد تسمى دفاع المسلمين في أحد أو غزو المشركين للمسلمين في معركة أحد ، وكذا في خصوص معركة الخندق وحنين وغيرها .
الحمد لله الذي أوحى بأن يكون اسم خاتم النبيين محمداً ، وذكره في القرآن بهذا الاسم , قال تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ).
لبيان إقتران الثناء على المهاجرين والأنصار بذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأيضاً باسم أحمد كما في قوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ]( )، ليقترن ذكر النبي في الآية بنبي الله عيسى .
وورد ذكر عيسى عليه السلام لبيان أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة على أهل الأرض يتطلع إليها الأنبياء ، ولأن عيسى آخر الأنبياء الذين بعثهم الله عز وجل قبل النبي محمد .
وهل فيه حجة لأن أتباع عيسى عليه السلام من النصارى من أكثر الأمم في الأرض , الجواب نعم ، ومن خصائص تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إمام الحامدين في الأرض ، إذ كان يكثر من الحمد ويأتي بالجمل والعبارات المتتالية التي تتضمن الحمد لله.
عن أبي أمامة الباهلي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به وهو يحرك شفتيه ، فقال : ماذا تقول يا أبا أمامة ، قال : أذكر ربي قال : أفلا أخبرك بأكثر أو أفضل من ذكرك الليل مع النهار ، والنهار مع الليل ، أن تقول : سبحان الله عدد ما خلق ، وسبحان الله ملء ما خلق ، وسبحان الله عدد ما في الأرض والسماء ، وسبحان الله ملء ما في الأرض والسماء ، وسبحان الله عدد ما أحصى كتابه ، وسبحان الله عدد كل شيء ، وسبحان الله ملء كل شيء ، وتقول الحمد مثل ذلك ( ).
الثاني : هداية الله عز وجل للمسلمين والمسلمات إلى منازل الحمد والثناء على الله.
الثالث : صيرورة المسلمين أكثر الأمم التي تحمد وتمجد الله عز وجل , ومن الشواهد عليه قراءة كل مسلم ومسلمة سورة الفاتحة وما فيها من الحمد والثناء على الله عز وجل .
روي ان رجلاً يسمى عبد الرحمن كان معلماً للأولاد في المدينة فعلم ولداً للحسين عليه السلام يقال له جعفر سورة الفاتحة فلما قرأ على ابيه الحسين عليه السلام استدعى المعلم واعطاه الف دينار والف حلة وحشى فاه دراً فقيل له في ذلك فقال عليه السلام وانى تساوى عطيتي هذه تعليمه ولدي الحمد لله رب العالمين( ).
لقد أراد الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تثبيت واستدامة الحمد له سبحانه في الأرض ، إلى يوم القيامة لتبقى الحياة الدنيا (دار الحمد لله) .
ومن الإعجاز أن الكثير من آيات القرآن تتضمن الحمد لله والدعوة إليه والحث عليه ، والترغيب به ، ومن معاني [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، الشكر لله والثناء عليه تعالى لأنه الرب والخالق الذي أوجد الكائنات وأمدها ويمدها بالنماء والقوة والحياة ، وهو سبحانه وحده الذي يكون إمداده متصلاً لا ينقطع طرفة عين ، وقد تمد المخلوقات بعضها بعضاً ويعين ويمد الناس بعضهم بعضاً ، ولكن الماد والممدود ، والآخذ والمعطي محتاجان إلى الله سبحانه في كل طرفة عين ، وقد تكون حاجة الماد والمعين لفضل الله أكثر كماً وكيفاً من حاجة الممدود والمستعين .
ومن خصائص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها حرب على الرياء والنفاق ، ومن مصاديق هذه الحرب وجوب الصلاة خمس مرات في اليوم على كل مسلم ومسلمة ، وبأدائهم الصيام والإمتناع عن الأكل والشرب ساعات نهار الصوم على نحو الوجوب العيني إلا المريض , وحتى المسافر فانه يقضي أيام سفره ، قال تعالى [وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ).
عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله جعل حسنة ابن آدم عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم ، والصوم لي وأنا أجزي به)( ).
قال أحمد بن منيع : ثنا يزيد هو ابن هارون ، أنا الفرج بن فضالة ، عن أبي الحسن ، وعن جبلة اليحصبي قال : كنا مع رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكان فيما حدث : أن قائلا من المسلمين.
قال : يا رسول الله ، ما النجاة غدا .
قال : لا تخادع الله قال : وكيف نخادع الله.
قال : أن تعمل بما أمرك الله به تريد به غيره.
فاتقوا الرياء فإنه الشرك بالله عز وجل ، فإن المرائي ينادى به يوم القيامة على رءوس الخلائق بأربعة أسماء.
يا كافر.
يا فاحش.
يا خاسر.
يا غادر.
ضل عملك وبطل أجرك ، فلا صلاة لك اليوم عند الله ، والتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع.
قال : فقلت له : أو قلنا له أي للصحابي : آلله الذي لا إله إلا هو ، لأنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال : والله الذي لا إله إلا هو ، أنا سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يكون شيئا لم أتعمده .
قال يزيد : أظنه قرأ آيات من القرآن [فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا]( )،الآية [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ]( ) ( ).
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: سماني الله محمدا، وشق اسمي من اسمه هو المحمود( ).
واخرج البخاري في تأريخه الصغير عن طريق علي بن زيد كان أبو طالب يقول: وشق له من اسمه ليجله) ( )، وقيل ان في اسم محمد المبالغة والتكرار اذ ان المحمد هو الذي حمد مرة بعد اخرى، واسمه صلى الله عليه وآله وسلم علم من اعلام رسالته لحمله لواء الهدى والرحمة في الدنيا وهو محمود بالآخرة بالشفاعة.
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبأمر من الله عز وجل يهدي الى الإيمان والإحسان والعدل ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، واتباعه مدخل للنماء والزيادة وباب سعة في الرزق دائمة.
لقد اجتمعت الخصال الكريمة بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبأرقى مضامينها وهو مجمع الفضائل الحميدة والكمالات الإنسانية، تتباهى به الملائكة باخلاصه في العبودية وتفانيه في ميادين الجهاد وتبليغ الرسالة.
والنبوة نعمة وهبة الله عز وجل لنا جميعاً وهي تبعث الإيمان في دروب الحياة وتجعل أيام الحياة الدنيا معمورة بالبهجة تنيرها شمس الهداية وحلاوة التنزيل وحسن الإستجابة والإمتثال وهي حاجة للناس تحول دون ظلم بعضهم للبعض الآخر وتدعو الى الصلاح وتأخذ بيد اتباعها الى دار النعيم ولا عبرة بمن انكر النبوة كالبراهمة وهو قبيلة تنتسب الى برهم احد حكماء الهند القدامى ولهم علامة في لباسهم ينفردون بها وهي خيوط ملونة بحمرة وصفرة يتقلدونها تقلد السيوف وهم يقولون بالتوحيد الا انهم ينكرون النبوات.
وقالوا لما صح ان الله حكيم وكان من بعث رسولاً وما يدري ان الناس لا يصدقون، فلا شك انه متعنت عابث فوجب نفي بعث الرسل لنفي العبث والتعنت عنه تعالى وقالوا اذا كانت الغاية من بعث الرسل هداية الناس فقد كان أولى في حكمته واوثق ان يضطر العقول الى الهداية والإيمان.
وبعثة الأنبياء عندهم ليس من الممكن بل ممتنع في ذاته، ولكن النبوة من بديع حكمة الله تعالى وهي لطف ورحمة للناس وحاجة لهم ورأفة بالبراهمة وشبههم ايضاً لو انتفعوا منها في الدنيا ولم يضيعوها بدعوى أثبت الواقع خلافها.
وفي بدايات النبوة وعندما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غار حراء ناداه جبرئيل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء : يا محمد انت رسول الله وانا جبريل.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وجعلت أصرف وجهي عنه في أفق السماء فلا انظر في ناحية الا رأيته كذلك ( )، وظاهر الكلام انه في عالم اليقظة وليس الرؤيا والمنام.
لتبدأ مرحلة الدعوة إلى الله إذ تفضل الله سبحانه وأنار دروب الحق واصلاح ملايين البشر ، وفتحت ابواب السماء بالتنزيل العزيز واحكام الشريعة الباقية الى يوم القيامة والمملوءة سماحة وتيسيراً ورحمة ، قال تعالى [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ]( ).
لقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طاعة الله واتعب نفسه في مرضاته وتحمل المعاناة في سبيل اعلاء كلمة الله، قال تعالى [ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ]( )، نصب نفسه: أي اقامها وجندها وسخّرها لأمر الله.
لقد جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على فترة من الرسل، فكانت نبوته صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالناس جميعاً وحاجة لهم بعد الحادهم وجحودهم مما يبين عظيم منزلته ومسؤوليته في التبليغ لذا اخذت دعوته صبغة جهادية تتناسب مع مسؤولية قيادة أمم الأرض ، ووضع السيف في غير المليين كحكم ضرورة بعد دعوتهم لإصلاحهم وتجنيب الإسلام شرهم , وكانت النبوة رحمة لهم وكما اثبته الواقع والوجدان ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وحين سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن الدليل على البعثة فقال: “لما اثبتنا أن لنا خالقاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً لا يشاهده خلقه، فلا يلامسهم ولا يلامسونه، ولا يباشرهم ولا يباشرونه، ثبت ان له سفراء في خلقه وعباده يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وهم الأنبياء الصفوة من الخلق.
وفي دعاء الإمام السجاد عليه السلام : اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ أَمِينِكَ عَلَى وَحْيِكَ وَنَجِيبِكَ مِنْ خَلْقِكَ وَصَفِيِّكَ مِنْ عِبَادِكَ* إِمَامِ الرَّحْمَةِ* وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَمِفْتَاحِ الْبَرَكَة* كَمَا نَصَبَ لِأَمْرِكَ نَفْسَهُ* وَعَرَّضَ فِيكَ لِلْمَكْرُوهِ بَدَنَه*.
والدعاء مدح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقيامه بحمل الرسالة احسن قيام وهو اعلان عن رضا المسلمين عن النبوة وافتخارهم واعتزازهم بها.
قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام ان الله تعالى كلف رسوله ما لم يكلف احداً من خلقه، كلفه ان يخرج على الناس كلهم وحده بنفسه ان لم يجد فئة تقاتل معه ولم يكلف احداً من خلقه قبله ولا بعده وتلا هذه الآية [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ] ( ).
وفي الدعاء مسائل :
الأولى : مدح وثناء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة للتضرع الى الله تعالى رجاء لتفضله سبحانه بالصلاة عليه.
الثانية : يعلم الله سبحانه ما عاناه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اجل اقامة احكام الإسلام، وجاء الدعاء نوع صيغة من صيغ التضرع لصلاته ورحمته تعالى على نبيه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : الدعاء توسل الى الباري عز وجل بذكر جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وللصلاة عليه، وفيه ذكر لله عز وجل بالتوجه اليه سبحانه بالمسألة وبذكر واستعراض فضله تعالى بإعانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي، وتخفيف اعباء الرسالة عنه وتلقي التكاليف والإجهار بالتبليغ مع ما واجهه من عناد وجحود الملأ من قريش .
وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً سنين لا يظهر شيئاً مما أنزل الله حتى نزلت {فاصدع بما تؤمر} يعني : أظهر أمرك بمكة ، فقد أهلك الله المستهزئين بك وبالقرآن ، وهم خمسة رهط .
فأتاه جبريل بهذه الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أراهم أحياء بعد كلهم . فاهلكوا في يوم واحد وليلة . منهم العاص بن وائل السهمي ، خرج في يومه ذلك في يوم مطير فخرج على راحلته يسير وابن له يتنزه ويتغدى ، فنزل شعباً من تلك الشعاب . فلما وضع قدمه على الأرض قال : لدغت . فطلبوا فلم يجدوا شيئاً ، وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير ، فمات مكانه ( ).
فمثلاً في حديث الإسراء قيل (أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً بالإسراء وتفاصيله وقالوا: يا محمد كذب بعد كذب يأتينا منك لئن لم تنته عما تقول وتدعي لنقتلنك شر قتلة تريد ان تأفكنا عن الهتنا وتصدنا عما كان يعبد آباؤنا الشم الغطاريف.
فقال يا قوم انما اتيتكم بالخير فان قبلتموه فاقبلوا فان لم تقبلوه فارجعوا) وتربصوا بي اني متربص بكم واني لأرجو ان أرى فيكم ما اؤمله من الله فسوف تعلمون.
وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لحسان بن ثابت : في هجاء أبي سفيان بن الحارث : هيج الغطاريف على بني عبد مناف.
ومن الغطاريف قوم الحارث بن عبد الله بن بكر بن يشكر إذ كانوا يأخذون عن المقتول منهم ديتين وإذا قتلوا شخصاً من قبيلة أخرى يعطونه دية واحدة وكان عدد من القبائل يمددون لقتلاهم دية مضاعفة لسطوتهم وبطشهم ، فجاء الإسلام بالتساوي في الديات وهو من أسباب محاربة الطواغيت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والغطاريف : السادة ، والواحد منهم غطريف .
ولما قدم الحجاج على عبد الملك مرّ بخالد فقال له رجل : من هذا ، فقال : خالد كالمستهزئ به: هذا عمرو بن العاص فرجع الحجاج إليه فقال: ما أنا بعمرو بن العاص , ولكني ابن الغطاريف من ثقيف، والعقائل من قريش .
ولقد ضربت بسيفي هذا أكثر من مائة ألف كلهم يشهد أن أباك وأنت وجدك من أهل النار، ثم لم آخذ لذلك عندك شكراً( ).
وما أن بدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان الدعوة النبوية الى الإسلام حتى اظهرت قريش واغلب خاصته له العداوة والبغض واشكال الأذى، ولم يتردد صلى الله عليه وآله وسلم في محاربتهم من أجل دعوتهم للإسلام واعلاء كلمته فكانت معركة بدر الكبرى وما تجسده مقدماتها وغاياتها وتفاصيلها ومناسبتها ونتائجها من دروس اسلامية في باب الجهاد في مرضاة الله، فكان في قتلى المشركين نفر من بني أمية ، وبين الأسرى بعض بني هاشم , ومنهم أحد أعمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو العباس بن عبد المطلب.
وفيه شاهد على بيان أولوية الجهاد عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحينما حصل التعارض بين الرسالة وحمل أعبائها وبين صلة الرحم، فانه قدم المسؤولية السماوية وكانت مودته متفرعة عن الإيمان بالرسالة.
والدعاء مدرسة في العمل الجهادي وجعل المدار على الإيمان، وهو بعث للحضارة الفكرية عند المسلمين وتتجلى بالتقوى والإستعداد للجهاد النفسي والإجتماعي لمنع تبديد الطاقات الإيمانية وما يحول او يعرقل سبل توجيهها مجتمعة او متفرقة نحو الغايات الإسلامية الكبرى وترسيخ دعائم الدين.
لقد دافع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الإسلام حتى بوجه ذوي الرحم واقاربه ممن انكر واستكبر واظهر الكفر بآيات الله.
ومن الإعجاز في قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، مسائل :
الأولى : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه بانذار ذوي قرباه .
الثانية : العموم في الذين يتوجه لهم إنذار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : تعدد مصاديق الإنذار بالقرآن والسنة ، وكل آية من القرآن وتلاوتها إنذار سواء في منطوقها أو مفهومها .
الرابعة : شمول الإنذار لأمور الدين والدنيا .
الخامسة : من معاني ومصاديق الإنذار في المقام تحذير الذين كفروا من التعدي والظلم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
السادسة : إنذار الذين كفروا من العذاب يوم القيامة .
السابعة : بيان قانون وهو أن الذين يحاربون النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم يسوقون أنفسهم واتباعهم إلى النار ، وفي قوله تعالى[إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( )، قال ابن عباس : نزلت في المشركين ، منهم من تاب قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل ، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل ، أو أفسد في الأرض ، أو حارب الله ورسوله ، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدروا عليه ، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه( ).
وابن عباس من ذوي قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وورد عن (قطري الخشاب مولى طارق نا مدرك أبو زياد قال كنا في حيطان ابن عباس فجاء ابني عباس وحسن وحسين فطافوا في البستان فنظروا ثم جاءوا إلى ساقيه فجلسوا على شاطئها فقال لي حسن يا مدرك اعندك غداء قلت قد خبزنا قال ائت به قال فجئته بخبز وشئ من ملح جريش وطاقتي بقل فأكل ثم قال يا مدرك ما اطيب هذا ثم اتي بغدائه وكان كثير الطعام طيبه فقال يا مدرك اجمع لي غلمان البستان .
قال : فقدم إليهم فاكلوا ولم يأكل فقلت إلا تأكل فقال ذاك اشهى عندي من هذا ثم قاموا فتوضأوا ثم قدمت دابة الحسن فأمسك له ابن عباس بالركاب وسوى عليه فلما مضيا قلت أنت اكبر منهما تمسك لهما وتسوى عليهما فقال يا لكع اتدري من هذان هذان ابنا الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو ليس هذا مما انعم الله علي به أن امسك لهما واسوي عليهما) ( ).
لبيان قانون وهو أن انذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعشيرته الأقربين جعل أغلبهم يدركون عظيم منزلته ، ويخلصون في طاعة الله وطاعة رسوله ، وفيه كشف وتوبيخ للذين يعادونه ويحاربونه وان كانوا من ذوي القربى .
وفي انذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذوي قرباه أجر مضاعف ، وكذا في إنذار وأمر المسلم لذوي قرباه بالمعروف ونهيه عن المنكر .
كما في مضاعفة الأجر في الصدقة على ذوي القرابة , ويدل عليه ما ورد عن زينب بنت عبد الله الثقفية أنها حدثته: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج على نسوة من الأنصار فيهن زينب وهي امرأة ابن مسعود فقال: ” يا نساء المؤمنين تصدقن ولو من حليكن! ” .
قالت: فأتيت ابن مسعود فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كيت وكيت، ولي بنو أخ وأنت زوجي! فإن كانت النفقة عليكم تجزئ عني بمنزلة الصدقة وإلا تصدقت! فاسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذا! .
فقال: إني لأستحي أن أسأله فأنت فسليه! قالت: فأتيته فإذا امرأة من الأنصار حاجتها حاجتي! فخرج بلال من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت له: ائت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقرئه مني السلام وأخبره: أن امرأتين تقولان كذا وكذا! فخرج إلينا .
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: عليكما السلام وهو يقول: إن صدقة تضعف ضعفين: ضعف القرابة وضعف الصدقة ( ).
وقرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم اليه الأبعدين عنه في النسب والمستضعفين ممن اعلن تصديقه بالنبوة وثبت على الإيمان وهو من رشحات قوله تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( )، ومن الإعجاز أنه لم يأت إلا بعد نزول قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، وعن الإمام علي عليه السلام لما نزلت هذه الآية (دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال يا علي ان الله أمرني أن أنذر عشيرتي الاقربين فضقت ذرعاً ، وعرفت أني مهما أبادؤهم بهذا الامر أرى منهم ما أكره .
فصمت عليها حتى جاء جبريل فقال : يا محمد إنك إن لم تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك ، فاصنع لي صاعاً من طعام ، واجعل عليه رجل شاة ، واجعل لنا عسا من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغ ما أمرت به ، ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب .
فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به ، فلما وضعته تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بضعة من اللحم فشقها باسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال : كلوا بسم الله . فأكل القوم حتى تهلوا عنه ما ترى إلا آثار أصابعهم . والله إن كان الرجل الواحد ليأكل ما قدمت لجميعهم .
ثم قال : اسق القوم يا علي ، فجئتهم بذلك العس( )، فشربوا منه حتى رووا جميعاً . وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله ، فلما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لقد سحركم صاحبكم . فتفرق القوم ولم يكلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فلما كان الغد قال : يا علي ان هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول ، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فعد لنا بمثل الذي صنعت بالأمس من الطعام والشراب ثم اجمعهم لي . ففعلت ، ثم جمعتهم ، ثم دعاني بالطعام فقربته ، ففعل كما فعل بالأمس فأكلوا وشربوا حتى نهلوا .
ثم تكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم أحداً في العرب جاء قومه بافضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله ان أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على أمري هذا فقلت وأنا احدثهم سناً : إنه أنا . فقام القوم يضحكون).
والحب كيفية نفسانية وميل قلبي باتجاه المقصود بالمحبة، وتارة يكون الحب لمدركات عقلية واخرى لأسباب من رشحات الهوى ، وحب الله عز وجل من المدركات العقلية وهو من أوليات الإيمان ومرحلة ابتدائية من مراتب الكمالات الإنسانية وسبيل لنيل الحظوة والكرامة عند الله تعالى وآلة للتخلص من الكدورات الظلمانية وقوة محركة لإتيان الفرائض وحسن الإمتثال , وهو سبيل للتخلص من امراض النفس وادرانها، ومن الحب في الله محبة أهل الإيمان , وبغض أهل الكفر والجحود .
وقد بذلت قريش جهوداً لطرد فقراء المؤمنين من حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاء المدد من السماء بنزول القرآن في لزوم تعاهد المؤمنين وابقائهم مقربين من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبذا يظهر فضل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الأمة في تحديد سنخية واتجاه الحب وكيفياته ومواضعه وغاياته , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الحمد لله الذي جعل الشكر له باعثاً على السكينة والطمأنينة ، وفيه إزاحة لأعباء عن النفس ، وهو عنوان التدارك وواقية للنفس والجوارح ، وبرزخ دون الهمّ بالمعصية.
وهل الشكر لله من البرهان الذي ورد في قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ) الجواب نعم.
ولا ينخرم هذا المعنى لذكر رؤية البرهان في الآية أعلاه بلحاظ أن الرؤية على أقسام مثلما تتعدد وجوه البرهان .
وفي التنزيل [وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ] ( ) فينطق العبد بالحمد لله عز وجل ببضع كلمات ليبقى أثرها متجدداً وباقياً إلى يوم القيامة وحاضراً في عالم الحساب والجزاء ، وهل يكون حضوره بذات الكلمات أو بمضاعفتها عشر مرات كما في قوله تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( ).
الجواب أنه أعظم بفضل من عند الله عز وجل ، ومن حب الله عز وجل للمسلمين والمسلمات وجوب أدائهم الصلاة ، وتكرار قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) عدة مرات في اليوم وعلى نحو الوجوب العيني في الصلوات اليومية الخمس , ولتكون كل آية من سورة الفاتحة وتلاوتها تأديباً للمسلمين ، ومنهاج عمل , وضياءً وملاكاً للتمييز بين الحق والباطل ، والحلال والحرام.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : يقول الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبادي نصفين؛ فإذا قال العبد {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}( )قال الله : مجّدني عبدي.
وإذا قال العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}( ) قال الله : حمدني عبدي.
وإذا قال : {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}( ) قال : أثنى عليّ عبدي.
وإذا قال : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}( ) قال الله : فوّض إليّ أمره عبدي.
وإذا قال : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}( ) قال الله : هذا بيني وبين عبدي.
وإذا قال {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}( ) قال الله : هذا لعبدي.
ولعبدي ما سأل ( ).
اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد , يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شئ قدير.
الحمد لله الذي جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وفيه ذخائر ودرر من الشواهد والبراهين التي تدل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يقم بالغزو ، ولم يختره طريقاً وسيلة لدخول الناس في الإسلام لأن كل آية من القرآن ، وكل معجزة حسية له دعوة للناس في كل زمان من أيام نبوته وما بعدها لدخول الإسلام ، والإقرار بوجوب الإيمان .
وهل كل مسلم ومسلمة يومئذ آية حسية في صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، وهو لبيان قانون وهو أن آيات وحجج الله غير متناهية ، وهو من فضل الله لإظهار معالم الإيمان ، وإعانة الناس إلى سبل الهداية.
ليكون من معاني قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، وتلاوة كل مسلمة ومسلمة له في كل ركعة من الصلاة الواجبة وصلاة الفرائض دعاء لهدايتهم والناس جميعاً إلى سبل الهداية والرشاد.
لقد أراد الله لكل مسلم مسلمة أن يكونا دعاة إلى الله بأداء الصلاة وتلاوة القرآن فيها.
وكان إبراهيم عليه السلام يدعو بمفرده إلى الله ، وقام باعادة بناء البيت الحرام هو وابنه اسماعيل ليدعو الناس إلى الحج ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( )، وغادر ابراهيم الدنيا وليس من أتباع كثيرين له ، نعم ورث أبناؤه النبوة، فكان كلاً من إسماعيل وإسحاق من الأنبياء اذ نزل عليهما الوحي ، ثم ورث يعقوب النبوة من إسحاق ، وأكرمهم الله بالذكر بالقرآن بصفة النبوة ، وجمعهم قوله تعالى [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
وبعث الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على فترة من الرسل ، وكان ينادي بمفرده وبمرآى ومسمع من رؤساء الكفر , في الموسم (قولوا لا إله إلا الله ) كما نادى إبراهيم الناس لحج بيت الله الحرام , لتصبح أمته من أعظم الأمم .
وإذا كان كفار قريش يصبرون على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته الناس الى الإسلام في موسم الحج لوقوعه في الأشهر الحرم إذ يكون نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتوحيد وإتصاله مع القبائل ، وحثهم على إيوائه ومنعه من قريش في شهر ذي القعدة وذي الحجة ، وهما من الأشهر الحرم مثلما هما من أشهر الحج قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ]( ).
ترى لماذا لا يؤاخذونه ويبطشون به في الأشهر الحل والتي تبدأ من شهر صفر ، والجواب نعم قد إجتهد الذين كفروا من قريش في إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعانى وأهل البيت الى حصار إقتصادي وإجتماعي استمر لثلاث سنوات ، وكانوا يؤذونه حتى في المسجد الحرام ، وبمرأى من الناس ، قال تعالى[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) .
ولم يرد لفظ (ليثبتوك) إلا في آية البحث , وورد لفظ يقتلوك في القرآن في آيتين ، إحداهما الآية أعلاه ، والأخرى بخصوص موسى عليه السلام وإرادة قوم فرعون البطش به ، كما قال تعالى [وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ]( ).
إذ جاء مؤمن آل فرعون وهو ابن عم فرعون مسرعاً في مشيه يخبر موسى بأن قوم فرعون يتشاورون في قتله وقيل أنه اختار طريقاً أقصر ليسبقهم إلى موسى .
وبين موضوع الآيتين عموم وخصوص من وجه فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق ، وإذ يأتمر ويتشاور قوم فرعون في قتل موسى ، فان قريشاً أجمعوا أمرهم على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه في ليلة المبيت بعد أن أرهقوه وأصحابه وأهل بيته وأكثروا من ايذائهم فانعم الله عز وجل بنزول جبرئيل ليأمره بالهجرة المباركة ولم يعد إلى مكة إلا لأداء عمرة القضاء في السنة السابعة للهجرة ، ثم الفتح في السنة الثامنة للهجرة , ثم حجة الوداع في السنة العاشرة .
وعن عبد الله بن مسعود قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيّكم يقوم إلى سلى جزور فيضعه على كتفي محمد إذا سجد – فانبعث أشقاهم، فأخذه فوضعه بين كتفيه، فضحكوا وجعل بعضكم يميل إلى بعض، وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة طرحته، والنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ما يرفع رأسه .
فجاءت فاطمة، وهي جويرية فطرحته عنه وسبّتهم، فلما قضى صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا ثلاثاً، وإذا سأل سأل ثلاثاً، ثم قال: اللّهمّ عليك بقريش ثلاثاً، فلمّا سمعوا صوته ذهب عنهم الضّحك وخافوا دعوته، ثم قال: اللّهمّ عليك بأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأميّة بن خلف، وعقبة بن أبي معيط وذكر السابع ولم أحفظه. فوالذي بعث محمداً بالحق، لقد رأيت الذين سمّى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر( ).
لقد كانت المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تترى وتجري على يديه ، وتتجلى لعامة الناس من المؤمنين وأهل الكتاب والكفار ، وهذا التجلي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : وما أرسلناك بالمعجزات الا رحمة للعالمين .
الثاني : وما أرسلناك يا محمد إلا بالمعجزات .
الثالث : وما أرسلناك الا رحمة للناس جميعاً .
الرابع : وما أرسلناك الا رحمة للناس فلا تغز أحداً .
الخامس : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين فلا تبدأ بقتال .
السادس : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين فارض بالموادعة والصلح مع الناس .
السابع : وما أرسلناك الا رحمة لأهل مكة .
الثامن : وما أرسلناك إلا رحمة لأهل الكتاب .
التاسع : وما أرسلناك إلا لبسط الرزق للناس .
العاشر : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين بهداية الناس للإيمان .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن إعراض أكثر الناس عن تلك الآيات وقيامهم بالإستهزاء بها والسخرية منها لم يغلق باب المعجزات وكذا بالنسبة لأقوام الأنبياء السابقين عنهم وهو من الإعجاز في قوله تعالى [وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى]( ).
إذ ذكرت الآية أعلاه لفظ العموم (الناس) ولا تتعارض مع صيغة المضارع في الآية وتأتي معجزات النبي محمد صلى اله عليه وآله وسلم للناس مجتمعين ومتفرقين.
وفيه شاهد على علو مرتبة أهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار الذين بادروا إلى الإسلام في بدايات الدعوة لتكون هذه المبادرة من الشكر لله على نعمة بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونوع توسل وتضرع لإستدامة وتجدد وتوالي المعجزات ليزدادوا ايمان وتؤمن أفواج وطوائف أخرى من الناس ، وهو من اسرار اجتهاد النبي بالدعاء لقومه بالإيمان مع شدة إيذائهم له .
وفي أسباب نزول قوله تعالى لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ.
أنه لما انكسر جيش المسلمين في معركة أحد وأصابت الجراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم (كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ ، وَشُجَّ وَجْهُهُ يَوْمَ أُحُدٍ ، شَقَّ ذَلِكَ على أَصْحَابِهِ ، وَقَالُوا : لَوْ دَعَوْتَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ : إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا ، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ دَاعِياً ، وَرَحْمَةً ، اللَّهُمَّ اهد قَوْمِي ، فإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)( ).
وكان في قريش أشرار ، ويحرضهم رؤساء الكفر ، ويدفعون لهم الأموال لإيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي مرسلة (أبي إسحاق بن يسار قال: كان ركانة بن عبد يزيد ابن هاشم بن المطلب بن عبد مناف أشد قريش.
فخلا يوما برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض شعاب مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه.
قال: إنى لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك.
فقال له رسول الله: أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق.
قال: نعم.
قال: فقم حتى أصارعك .
قال: فقام ركانة إليه فصارعه، فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وسلم أضجعه لا يملك من نفسه شيئا.
ثم قال: عد يا محمد.
فعاد فصرعه.
فقال: يا محمد والله إن هذا للعجب، أتصرعني ، قال: وأعجب من ذلك إن شئت أريكه، إن اتقيت الله واتبعت أمري.
قال: وما هو ، قال : أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني.
قال: فادعها.
فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال لها: ارجعي إلى مكانك ، فرجعت إلى مكانها.
فذهب ركانة إلى قومه فقال: يا بني عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الارض، فو الله ما رأيت أسحر منه قط ، ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع)( ).
أي أنه أصر على الجحود ، وامتنع عن الإيمان مع تجلي المعجزات.
وفي رواية عن ابن عباس أن يزيد بن ركانة اسلم يومئذ ، إذ قال: أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل مرة على مائة من الغنم، فلما كان في الثالثة قال: يا محمد ما وضع ظهري إلى الارض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إلي منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقام عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورد عليه غنمه( ).
الحمد لله الذي أنعم علي بتوالي صدور أجزاء هذا السِفر العلمي ومن فضل ولطف الله عز وجل أن أقوم بكتابة ومراجعة وتصحيح فصول وأجزاء هذا التفسير بمفردي كما أشرف وأتابع طباعته وإصداره بجهد ونفقة خاصة ، وفي التنزيل[وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ]( ).
والتفسير لغة هو البيان وقد ورد لفظ التفسير في القرآن بقوله تعالى [وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا]( )، بينما ورد لفظ البيان ومادته في آيات عديدة ، منها وصف القرآن بأنه بيان كما في قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( )، وفيه إعجاز وتحد بأن ذات القرآن يبين نفسه.
والقرآن هو المفرق بين الحق والباطل وهو الكتاب السماوي الذي يصل إلى الناس على جميع ومشاربهم ومداركهم الذهنية مبيناً وموضحاً من عند الله ، ليكون عوناً للإنسان عربياً أو غير عربي على معرفة ما يجب عليه وما ينهى عنه ليأتي علم التفسير للتفصيل والتوضيح في طول ذات بيان القرآن.
ويكون من معاني بيان القرآن إعجازه في منع التفسير والتأويل بخلاف النص ، فذات الآية الكريمة ضابطة وزاجر من الخطأ في التفسير ، لذا تضمن هذا التفسير ابواباً خاصة في علم (إعجاز الآية) فبينما تحتوي المكتبة الإسلامية على كتب معدودات تختص باعجاز القرآن ، جاء تفسيرنا هذا باعجاز لكل آية قرآنية على نحو الإستقلال ، وهو لا يمنع من الجامع فيه مع غيرها ويكون بيان إعجاز الآية القرآنية في هذا التفسير على وجوه :
الأول : إعجاز الآية الذاتي ، الذي يتعلق بألفاظ الآية ومضامينها القدسية ، والأوامر والنواهي والأحكام التي فيها .
الثاني : إعجاز الآية الغيري ويتعلق بأسباب النزول وموضوع الآية ومصاديقها ، وما يترشح عنها ، ومنافعها المتصلة إلى يوم القيامة ، والدلالات والبراهين التي تدل على إعجازها ونزولها من عند الله عز وجل.
الثالث : إعجاز الآية بلحاظ صلتها بالآيات المجاورة ، ومن جهة العطف والسياق والموضوع والحكم والدلالة .
الرابع : إعجاز الآية بلحاظ محلها من السورة إذ كان جبرئيل ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويعين له موضع الآية ، كما كان يعارضه القرآن كل سنة أي يتدارسه معه ، ومن معاني التدارس هذا نظم الآيات ومواضعها وترتيبها من السورة .
وعن عائشة عن فاطمة، أسر إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي( ).
وعن عثمان بن أبي العاص قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً إذ شخص بصره فقال : أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ] ( )إلى قوله : { تذكرون }( ) ، مع بيان مسائل في ذات موضع الآية منها :
الأولى : علة موضع الآية .
الثانية : الإعجاز في نزول جبرئيل لتعيين محل الآية ، وصيرورة موضعها في سورة مخصوصة توقيفا معصوماً من التبديل والتغيير .
الثالثة : علة وضع الآية في محل مخصوص من السورة .
الرابعة : الإنتفاع العام من محل وموضع الآية القرآنية ، ونظم الآيات .
الخامسة : الأمور المتعلقة بموضع الآية من جهة أسباب النزول والمحكم والمتشابه ، والمجمل والمبين ، والناسخ والمنسوخ ، قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا]( ).
السادسة : العلوم المستقرأة من ذات الموضع المخصوص للآية القرآنية .
الخامس : إعجاز الآية القرآنية في سلامتها من التحريف إلى يوم القيامة ، وتجدد دلالاتها ومعانيها وتعدد واستحداث المسائل المستنبطة منها.
ومن خصائص علم التفسير مصاحبته لأيام التنزيل وكما أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام في الصلاة وأداء الفرائض والمناسك ، وفي حال الدفاع في ميادين القتال ، فانه الإمام في تفسير آيات القرآن ، وبيانها وتوضيحها ، ليؤسس لهذا العلم السامي ، ومن مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن تفسيره للقرآن من الوحي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، ولم يفسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن كلها إلا أن سنته القولية والفعلية كانت مرآة وتفسيراً للقرآن ، فكان تفسيره للقرآن من جهات:
الأول : تفسير عدد من آيات القرآن .
الثاني : بيان وتقرير النبي لوجوه من التفسير ، وعن عائشة : أَنَّ رَجُلا، تَلا هَذِهِ الآيَةَ: ” مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ” ، فقال: إِنَّا لَنُجْزَى بِكُلِّ مَا عَمِلْنَا، هَلَكْنَا إِذًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ:”نَعَمْ، يُجْزَى بِهِ الْمُؤْمِنُ فِي مُصِيبَتِهِ فِي جَسَدِهِ، فِيمَا يُؤْذِيهِ( ).
وعَنِ ابْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى لأَعْلَمُ أَشَدَّ آيَةٍ فِى الْقُرْآنِ قَالَ : أَيَّةُ آيَةٍ يَا عَائِشَةُ ، قَالَتْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قَالَ : أَمَا عَلِمْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ تُصِيبُهُ النَّكْبَةُ أَوِ الشَّوْكَةُ فَيُكَافَأُ بِأَسْوَإِ عَمَلِهِ وَمَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ ، قَالَتْ أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) قَالَ : ذَاكُمُ الْعَرْضُ يَا عَائِشَةُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ( ).
ومن وجوه تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن دعاؤه في تأويلها وتحقيق مصداقها وعن عبد الله بن الحسن قال : حين نزلت هذه الآية {وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سألت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ، قال علي : فما نسيت شيئاً بعد وما كان لي أن أنساه( ).
وتوارث أهل البيت والصحابة هذا العلم منه ، ثم تولى التابعون البيان والتفسير واحصاء ما ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة في التفسير بالمأثور.
واختص عدد من العلماء بتفسير القرآن على نحو الإطلاق أو في علوم مخصوصة منه مثل التفسير اللغوي والتفسير البلاغي ، وتفسير آيات الأحكام ، ويسمى التفسير الفقهي والعقدي ، والتفسير العلمي ولحاظ اتجاه ومذهب المفسر.
وجاء تفسيرنا هذا بلطف من الله شاملاً لأبواب التفسير ، وبعيداً عن المذاهب ، وهو كاشف عن ذخائر في كل آية قرآنية لم يصلها علم التفسير.
ولما سئل زكريا مريم عما كان يجده عندها من الرزق الكريم كفاكهة الصيف في الشتاء ، كما ورد في التنزيل [قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( )، ليكون قولها وورد مرة في التنزيل بشارة الفيض وفتح كنوز العلم للمؤمنين ، ومنها استخراج ذخائر من آيات القرآن من غير ينقص منها شئ بل أنها تزداد ، قال تعالى[وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( )، وهل تتعلق التوسعة والزيادة بالسماوات ، الجواب إنها أعم ليكون تقدير الآية أعلاه بلحاظ المقام على وجوه :
الأول : وانا لموسعون في الأرزاق ، وفيه بشارة تيسير كنوز من السماء والأرض للناس فتجد الذهب أمس واليوم بأغلى الأسعار ، وقد يتم اكتشاف مناجم منه أو وجود وجلياً مئات الأطنان منه من الكواكب الأخرى أو من باطن الأرض مما كان يتعذر على الإنسان الوصول اليه بما يزهد فيه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ].
الثاني : وانا لموسعون في بديع قدرتنا وسلطاننا.
الثالث : وانا لموسعون في الأمطار والأشجار والثمار والنبات .
الرابع : وانا لموسعون في أحوال وغذاء ولباس الناس ، كما يتجلى بالمفارقة بين أحوال الناس في هذا الزمان عن أزمنة قريبة سابقة.
في الأمور الخاصة والعامة والمناصب والجاه والأموال ، لـتأتي أزمنة لاحقة يكون تفسير [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا] ( ) من هذا التفسير ، وتذكر أرزاق وتوسعة وكنوز مما لم يطرأ على التصور الذهني والعالم الإفتراضي في هذا النعم بجحودهم وامتناعهم عن الإستغفار ، فقد فازت به أمة محمد بتعاهدهم الصلاة وأداء الفرائض العبادية لينعم الناس جميعاً بالخيرات .
وهذه البركة العامة للإسلام من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) أي أخرجت لهم لينعموا بفضل الله ، وفيه شاهد على إنتفاء الحاجة للغزو ، إنما تكون الحجة والبرهان ، وفضل الله دعوة للناس للهدى والإيمان ، ومن الإعجاز في الآيات أعلاه أنها لم تقف عند السماء والمطر مدراراً أي يصب صباً وغزيراً ، وذات الآية جاءت في هود وسؤاله قومه عاد للأستغفار والبشارة بالجزاء العاجل بنزول المطر غزيراً خاصة وأنهم كانوا أهل زروع ونخيل وكروم أي تتقوم معيشتهم بالماء والمطر ، حتى أنهم نظموا السدود لخزن الماء ، وكانت مساكنهم في حضر موت وحولها إلى الأحقاف .
وهل تظهر التغيرات المناخية والتقلب في النظام البيئي على التوسعة في الأرزاق ، الجواب لا ، لأن قوله تعالى [وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ] ( ) آيات الأرزاق والزيادة والفضل فيها للناس عامة ، وتشمل الدواب أيضاً ، قال سبحانه [وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ) .
وهل من مصاديق قوله تعالى [يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا] ( ) إمكان تسيير السحب الكثيفة من البحار لتمطر حيث يشاء الناس ، وتقف لتنزل أثقالها من المياه في أماكن وبلدان مخصوصة من يجلب ويسير تلك السحاب في السماء ، ومن يدفع المال لشرائها ، الجواب نعم ،ولكن يستحدث معه بلاء بيئي كبير وهو النقص الحاد في مياه البحار .
الخامس : وانا لموسعون في العلوم ، وما يحيط به الناس من الأخبار والوقائع والأحداث ومنه وسائل الإتصال وأجهزة الأعلام والفضائيات في هذا الزمان .
السادس : وانا لموسعون للناس في السكن سواء في ذات البيوت أو كثرة المدن أو عمارة أقطار الأرض .
السابع : وانا لموسعون ففي كل زمان يفسر العلماء الناس عامة التوسعة والزيادة بلحاظ زمانهم وما يخطر على أذهانهم ، لتأتي الأيام بما يفوق تصورهم الذهني ، فمثلاً كان العلماء من التابعين يفسرون على خمسة أوجه :
أحدها : لموسعون في الرزق بالمطر ، قاله الحسن .
الثاني : لموسعون السماء ، قاله ابن زيد .
الثالث : لقادرون على الاتساع بأكثر من اتساع السماء .
الرابع : لموسعون بخلق سماء ملثها ، قاله مجاهد .
الخامس : لذوو سعة لا يضيق علينا شيء نريده .) ( ).
وفي هذا الزمان نؤل التوسعة التي في الآية بارزاق وعلوم وزيادة .
إنه تأسيس لعلوم مستحدثة في التفسير والتأويل وشاهد علمي على إعجاز القرآن ، وبيان لقانون وهو ان الذي أستظهر من علوم القرآن جزء يسير منها ولا يغير تفسيرنا هذا من معاني ومصاديق هذا القانون ، فمع أنه يمتاز بعلوم كثيرة لم ترد في كتب التفسير إلا أنه يبقى شاهداً على تخلق علم التفسير من سبر أنوار آيات القرآن وما يترشح من العلوم عن الصلة بينها مع الإجتهاد للوصول الى بعض مفاتيح كنوز الآية القرآنية ، وجاء اثنا عشر جزءً من الأجزاء الأخيرة في بيان قانون لم يغز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحداً ، وهي الأجزاء (164-165-166-168-169-170-171-172-174-176) أي عدا الجزء 167 والذي يختص بتفسير الآية (175) والجزء 176 ويختص بتفسير (176) والجزء (175) الذي اختص بتفسير الآية (177) من سورة آل عمران .
ومن فضل الله عز وجل تعدد الأجزاء التي تخص قانون (لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم) لتتضمن كشف الحقائق واستقراء المسائل ، وتأكيد مصاديق هذا القانون من القرآن والسنة النبوية والأخبار المتواترة في كتب التفسير والسيرة ، والتي تذكر الوقائع وكأنها غزو للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن عند التحقيق والتدبر فيها يتبين أن الغزاة هم المشركون ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا في حال دفاع إضطراري ، بالإضافة إلى قانون إنتفاء أسباب هجوم وغزو المشركين للمسلمين في عقر دارهم .
لقد أخبر القرآن عن حب الله للنبي والمؤمنين في كل زمان ، وهذا الحب واقية وحرزاً من ظلم وجور الكفار في تعديهم وهجومهم .
وفي التنزيل [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل من الناس اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طاعته لله عز وجل ، إذ كان يقف بين يديه خمس مرات في اليوم يتلو التنزيل ، ويركع ويسجد ، وكل مرة لا تستغرق الصلاة فيها ، إلا بضع دقائق لتكون طريقاً للرزق الكريم ، وتوثيقاً عملياً يومياً متجدداً لعبادة الناس لله ، ومصداقاً لخلافتهم في الأرض ، تلك الخلافة التي تتقوم بالعبادة وطاعة الله ، والصلاة هي الواقية يوم القيامة من عذاب النار والخلود فيه ، ولكن المشركين امتنعوا عن اختيار حب الله لهم .
فتركوا أفضل هبة وصفة في الأرض وهي أن يكون الإنسان محبوباً من الله عز وجل ، وتشهد له الملائكة والناس بهذا الحب ، ومن قبل أن يغادر إلى عالم الآخرة ، ولم يكتفوا بهذا الإمتناع إنما جهزوا الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربته وأصحابه .
ولا يختص حب الله عز وجل بالأنبياء والمؤمنين ، إنما يشمل الأرض كافة ، وهل هذا الحب بمرتبة واحدة أم أنه على مراتب ، الجواب هو الثاني ، فحب الله عز وجل للأنبياء أكبر ، وكذا حب الله للمؤمنين لصبغة الهداية والتقوى ، ويأتي حب الله لعام الناس في الرزق والعاقبة والأمن ، والتوادد بين الناس لما فيه من الحث على التفكر في الخلق ، والدعوة للأنصات للذين يدعون إلى الله عز وجل ، والتدبر في معجزات الأنبياء ، والنفرة من مفاهيم الجحود ، وإنكار قبيح ما يفعله الذين كفروا وإصرارهم على محاربة النبوة والتنزيل .
وفي الحديث القدسي عن رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم (يقول الله عز وجل يا ابن آدم مرضت فلم تعدني ، فيقول : رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده ، فأما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ، ويقول : يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني ، فيقول : رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول تبارك وتعالى : أما علمت أن عبدي فلاناً استسقاك فلم تسقه ، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي . قال : ويقول : يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني : فيقول : أي رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلاناً استطعمك فلم تطعمه ، أما أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي) ( ).
وتضمن هذا الجزء من التفسير علوماً مستقرأة من ذات آيات القرآن والسنة النبوية الشريفة ومنها ما يخص ثمار معركة بدر التي كان فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون في حال دفاع وإضطرار للقتال ، فعندما خرجوا من المدينة في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة لم يظنوا أنهم سيلاقون جيشاً عظيماً مؤلفاً من ألف من المقاتلين ومدججين بالسلاح ، ويبدو لمعان سيوفهم وخوذهم من على ظهور الخيل.
وليس للمسلمين من سلاح يومئذ إلى التقوى ورجاء فضل الله وفي التنزيل [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( )، وبركة شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي آيات القرآن.
لقد تجلت معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر باختيار جيش قريش الفرار غير المنظم في الساعات الأولى من المعركة .
والأصل في المهاجم والغازي ظنه بتحقيق غلبة ومكاسب وبخلافه فانه يحجم عن الهجوم ، وكانت قريش على يقين من تحقيق النصر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر وتدل أسفارهم ومناجاتهم حتى لحظة ابتداء القتال على هذا المعنى.
وما أن بدأت المعركة حتى تجلت المعجزة وسقط القتلى من كبار رجالات قريش وصار الباقون بين قتيل وأسير ، أو في معرض القتل, لبيان مصداق لقوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( )، وليكون من معاني المنّ في الآية أعلاه المدد من عند الله للمؤمنين .
فتفضل الله عز وجل بنزول الملائكة مدداً لهم ، وفيه شاهد بان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لم يعتدوا في معركة بدر ابتداءاً واستدامة إذ [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، ونزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار شاهد على حب الله لهم ، وعلى بغضه للذين كفروا من قريش وأنهم هم المعتدون والظالمون لأنفسهم والمؤمنين ، وفي ذم الكفار وسوء عاقبتهم قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ]( ).
كما تضمن هذا الجزء أبواباً وقوانين بخصوص معركة أحد منها مقدمات معركة أحد ، وأسباب معركة أحد ، وفي الطريق الى معركة أحد.
ومن سنوات وأنا أرجو الله أن يكون الجزء المائتين من هذا التفسير خاصاً بتفسير الآية (200) من سورة آل عمران والشكر لله على مثل هذا التطابق، وكنت أظن أن الأمر ليس بالسهل خاصة للتباين والفارق بين تخلف رقم الجزء عن رقم الآية التي يتضمن تفسيرها فمثلاً جاء الجزء (163) من هذا التفسير مختصاً بتفسير الآية (174) من سورة آل عمران ، أي بينهما ستة عشر جزءً ، فتفضل الله عز وجل علينا بعلم (لم يغز النبي (ص) أحداً) وصدر اثنا عشر جزءً بقراءة في آيات الدفاع وكتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسرايا أصحابه بما يدل ويبرهن على صحة هذا القانون .
وسيأتي الجزء التالي وهو التاسع والسبعون بعد المائة في تفسير الآية (178) من سورة آل عمران إن شاء الله.
ليتضاءل وينحسر الفارق بينهما وعلوم ومسائل القانون أعلاه لا زالت في بداياتها ، وأسال الله عز وجل التوفيق لما يحب ويرضى ، وفي التنزيل [هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ]( ).
ويتضمن هذا الجزء عدة قوانين منها :
الأول : قانون الحجة في معركة بدر .
الثاني : قانون تأريخ الصلاة ، وموضوعيتها في النصر في معركة بدر .
الثالث : قانون مواعظ معركة بدر .
الرابع : قانون المعجزات العقلية في معركة بدر.
الخامس : قانون المنافع المستقرأة من معركة بدر .
السادس : قانون لم يقاتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا اضطراراً وقوانين أخرى إلى جانب ذكر مقدمات وأسباب معركة أحد.
الحمد لله الذي أنزل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) لتكون الآية أعلاه عنوان التحدي , وباعثا على التحقيق والتدبر واستقراء الأحكام والمسائل للوقائع والأحداث بما ينفع الناس جميعاً ويمنع من التعدي والظلم .
ولتكون الحياة الدنيا بالتنزيل والوحي (دار البيان) وليس من حصر لمواضيع البيان التي جاء بها القرآن .
ومن وجوه البيان والوضوح في القرآن أمور :
الأول : إنتفاء الحاجة إلى الغزو في نشر مبادئ التوحيد وسنن الشريعة .
الثاني : قبح غزو الناس في عقر دارهم واشاعة القتل فيهم من غير حق .
الثالث : قيام المشركين بالغزو المتعدد لثغور الإسلام وإصرارهم على القتال .
الرابع : خيبة المشركين وإمتلاء نفوسهم بالحنق والحسرة من جهات :
الأولى : دخول الناس أفواجاً في الإسلام .
الثانية : قتل وأسر عدد كبير من المشركين .
الثالثة : كثرة الأموال التي أنفقها الذين كفروا في محاربة النبوة والتنزيل من غير أن يحققوا أي غاية من غاياتهم الخبيثة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ) .
وتتضمن الآية أعلاه البيان والدليل بأن الرزق الكريم الذي تفضل به الله عز وجل على قريش من [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) وولاية المسجد الحرام يسخرونها في محاربة النبي وأصحابه ، ومنع الناس من دخول الإسلام .
لتكون تلك الأموال وانفاقها حسرة وأسى في نفوسهم ونفوس عوائلهم وسبباً للفتنة بينهم وظهور العوز والخسارة عندهم ، ثم تلحقهم الهزيمة في الدنيا ، ويخلدون في العذاب في الآخرة ، وسيأتي مزيد بيان بخصوص الآية أعلاه من سورة الأنفال في الجزء الثمانون بعد المائة وكيف أنها زاجر للمشركين عن غزوهم وحشد الناس له ، وكما أنهم يبذلون الأموال لصد الناس عن سبيل الله ، فان الآية أعلاه تدعو الناس للصد عن اتباعهم ونصرتهم .
لقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأذى الشديد من الذين كفروا وأظهر الصبر عليه ولم يبطش بهم ، ومن مصاديق صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصاحبة استهزاء المشركين له من بداية أيام البعثة وحتى بعد هجرته إلى المدينة ، ويمكن تأسيس قوانين خاصة في المقام من وجوه :
الأول : قانون استهزاء الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : صبر المهاجرين والأنصار على استهزاء الذين كفروا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (عن ابن عباس قال : كان ناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي.
ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي؟
فأنزل الله فيهم هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء }( ) حتى فرغ من الآية كلها .) ( ).
الثالث : صبر الصحابة على استهزاء الذين كفروا بهم لدخولهم الإسلام وأدائهم الفرائض ، وفي التنزيل [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ] ( )وقال تعالى [زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ) وهذا الصبر من رشحات الوحي والسنة النبوية إذ يتوالى نزول القرآن بالمعجزات، ويمنعهم النبي من الإنتقام ويبشرهم بالنصر .
الرابع : قانون فضح القرآن للذين يستهزئون بأحكامه،كما في تحويل القبلة .
الخامس : قانون جمع الذين كفروا بين التكذيب بالتنزيل والأستهزاء به ، ونزول العقاب بهم ، وفي التنزيل [فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون] ( ) .
السادس : قانون تلقي عامة الناس استهزاء الذين كفروا بالنبوة والتنزيل بدخول الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً] ( ).
السابع : قانون صبر النبي على الذين كفروا بوحي من عند الله ، لذا فهو معجزة له ، وهل هذه المعجزة بمجموع أفراد صبرة أم كل فرد منها معجزة ، الجواب هو الثاني ، وفيه دعوة للعلماء لإستقراء مصاديق صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد عليه.
الثامن : قانون منافع صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على استهزاء الذين كفروا ، ولا يختص هذه المنافع بالقضية الشخصية ولا أيام النبوة والتنزيل إنما هي منافع متصلة للأجيال المتعاقبة .
التاسع : الأجر والثواب العظيم من عند الله عز وجل على صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المشركين , قال تعالى [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ]( ).
حرر في السابع من شهر صفر الخير 1440
17/10/2018
قانون الحجة في معركة بدر
لقد اختارت قريش أوان ومكان معركة بدر في السنة الثانية للهجرة من جهات :
الأولى : مكان المعركة ، وهو ماء بدر ، ويبعد عن المدينة نحو (150)كم وعن مكة (300)كم.
الثانية : أوان المعركة ، وهو السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، إذ أصر الذين كفروا على القتال [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
ولا ملازمة بين التقاء جيشين واصطفاف الجنود وبين القتال وفي التنزيل [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ).
وأيهما أكثر انصراف أمر القتال بعد تهيئ مقدماته والتقاء الصفين ، أم وقوع القتال عند التقاء الصفين ، الجواب هو الأول ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في احتجاج الله عز وجل على الملائكة عندما تساءلوا عن جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، مع فساده وسفكه الدماء ، إذ يمحو الله عز وجل كثيراً من الوقائع والمعارم ، ويصرف الناس عن القتال وان التقوا ، ليشكروه سبحانه ويتعظ عامة الناس ، ويدركو قانوناً وهو أن الحياة من غير قتال أبهى وأجمل مما لو عجزت بالمعارك والحروب ، كما أن خلوها من القتال وسفك الدماء مناسبة للتدبر بمعجزات النبوة .
فان قلت قد ندم الصحابة الذين الحوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج الى لقاء المشركين خارج المدينة وعند جبل أحد عندما رآوه قد خرج وهو متقلد سيفه بعد أن كان يميل الى البقاء في المدينة ولقاء المشركين عندها (فقالوا: يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك والأمر إلى الله ثم إليك . فقال : قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم .
ولا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه . وكانت الأنبياء قبله إذا لبس النبي لأمته لم يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: انظروا ما أمرتكم به فاتبعوه، امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم)( ).
والجواب ان الخروج للقاء العدو أعم من وقوع القتال ، ولو بقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المدينة فلا يعني هذا عدم وقوع القتال ، وفي التنزيل [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا]( ).إذ كان المشركون يهددون بحرق الزروع والنخيل حول المدينة .
وهو من فضل الله عز وجل على الناس في كل زمان ، قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ] ( ).
ويحضر هذا القانون على نحو جلي في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأيام البعثة النبوية بامتناعه عن الإبتداء بالقتال ، لتكون الحجة على الذين كفروا أظهر وأبين ، كما معركة بدر .
وكان عند المشركين يومئذ ثلاثة ألوية ، اللواء الأكبر عند طلحة بن أبي طلحة ، ولواء مع أبي عزيز بن عمير وهو أخو الصحابي الجليل مصعب بن عمير , ولواء مع النضر بن الحارث ، وكلهم من بني الدار لذا عيّرهم أبو سفيان يوم أحد بأن قال لهم : أنتم سبب الهزيمة يوم بدر ) لسقوط اللواء الذي في أيديهم وكانت غايته بعثهم على القتال ، والثبات في مواضعهم خاصة وأنهم أدركوا اخلاص المسلمين في القتال ، وتسابقهم في اختراق دفاعات العدو عند اصراره على القتال إذ قال (أبو سفيان لاصحاب اللواء من بنى عبد الدار يحرضهم على القتال يا بنى عبد الدار أنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم وانما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا فاما ان تكفونا لواءنا واما ان تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه فهموا به وتوعدوه وقالوا نحن نسلم اليك لواءنا ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع وذلك أراد أبو سفيان)( ).
وكان لواء النبي مع الإمام علي بن أبي طالب ، وذكر أن لواء المهاجرين بيده( )، وقيل أن مصعب بن عمير كان بيده اللواء ، وكان لواء الخزرج بيد من الحباب بن المنذر ، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ .
وقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما اشتد القتال جلس تحت راية الأنصار ، وأرسل الإمام علي بن أبي طالب أن قدم الراية فتقدم علي ، وقال : أنا أبو القصم .
وفيه شاهد بأن راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد الإمام علي عليه السلام وأنه زحف بها في ميدان المعركة ليتقدم معه المسلمون ، وظاهر الخبر أنه في بدايات المعركة حيث تحقق النصر للمسلمين ، قال تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ] ( ) وقيل أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الراية للإمام علي عليه السلام بعد مقتل مصعب بن عمير ، ولكن مقتله حصل عند دفاعه عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفرار أكثر صحابه رسول الله صلى الله عليه وآله .
وهل من أعباء إضافية في باب الجهاد على حامل الراية ، الجواب نعم وله ثواب عظيم ، كما أن صاحب اللواء من المشركين يلحقه الذل والخزي في الدنيا والآخرة .
لقد كان إصرار رؤساء الذين كفروا على القتال ظاهراً وجلياً وأنفقوا الأموال في الإعداد لمعركة أحد ، وترغيب رجال القبائل بالإنخراط معهم في قتال النبوة .
وتحتمل موضوعية معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المقام وجوهاً :
الأول : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإعراض الناس عن نصرة كفار قريش .
الثاني : إضطرار كفار قريش لبذل أموال مضاعفة وطائلة من أجل جذب الناس إلى جانبهم .
الثالث : امتناع الناس عن نصرة كفار قريش حتى مع بذلهم الأموال الطائلة ، وهذا الإمتناع معجزة حسية غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي معجزة لما جرت على ألسنة وأفعال الناس .
وكان لكل فرقة منهم شعار و(شعار المهاجرين: يا بني عبد الرحمن.
وشعار الخزرج: يا بني عبد الله.
وشعار الأوس : يا بني عبيد الله) ( ).
الثالثة : إبتداء كفار قريش بالقتال والمناجاة به ، ورمي السهام ، وكأنهم يرمون على آيات التنزيل والتي هي السور الجامع بين المهاجرين والأنصار تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ترى ماذا لو لم يصر الذين كفروا على القتال يوم بدر ، الجواب على وجوه :
الأول : عدم وقوع قتلى من الفريقين إذ خسر الذين كفروا سبعين قتيلاً ، وسقط من المسلمين أربعة عشر شهيداً .
الثاني : عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى المدينة مثل كل مرة سبقت يخرجون بها في الكتائب ، ومن غير قتال.
الثالث : نجاة سبعين من المشركين من الأسر ، لقد ظن المشركون يوم المعركة أن المسلمين أكلة جزور ، وسرعان ما يقضون على جمعهم عند بدء القتال ، وكانت النتيجة بخلاف ما كانوا يظنون ، لبيان قانون وهو خطأ وضلالة ظن الذين كفروا في قتالهم الذين آمنوا من جهات :
الأولى : ليس من سبب لبدء ووقوع القتال .
الثانية : نزول المدد من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإذا اعطى الله عز جل فانه يعطي بالأتم والأكمل وهو سبحانه يمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالعون والمدد قبل وأثناء وبعد المعركة.
الثالثة : تجلي ثبات الذين آمنوا في ميدان القتال .
لقد أظهرت معارك الإسلام الأولى للناس جميعاً صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها بواسطة إخلاص أصحابه في الدفاع عنه وعن النبوة والإيمان .
لقد شاء الله عز وجل أن تنزل آية [بِبَدْرٍ] ( ) لتبين للأجيال عدة قوانين وهي :
الأول : القبح الذاتي لقيام الذين كفروا بالقتال .
الثاني : عدم تحقق الغايات الخبيثة التي يصبوا إليها المشركون من القتال ، وهو من مصاديق الوعد الإلهي في قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
الثالث : إنتفاء موضوع إشهار الذين كفروا السيوف .
الرابع : صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ميدان القتال .
الخامس : تجلي معجزات النبوة عند القتال .
إذ تتبين للناس المعجزات في حال السلم وأراد الذين كفروا طمسها بالسيف والقتال فأبى الله عز وجل إلا أن يجعل حومة الوغى على وجوه :
الأول : إنها ميدان لمعجزات مستحدثة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : ساحة المعركة شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تفاني أصحابه في طاعة الله والدفاع عن سنن التوحيد ، لقد كان كل من الفريقين يحمل لواء وهو قطعة من قماش.
الثالث : لكل واحد من الجمعين معنى ودلالة متضادة مع دلالة الآية الأخرى ، إذ كان لواء النبي عنوان التوحيد وراية الحق في الأرض ، أما لواء الذين كفروا فانه لا يحتمل إلا الباطل والضلالة ، فلذا تراه يهوي إلى الأرض مع بدايات القتال ، كما في معركة بدر حيث إنهزم المشركون.
وفي معركة أحد إذ قُتل حملة اللواء على نحو التتابع والتعاقب بآية من عند الله ، بعد إصرارهم على القتال وبذلهم الوسع في الهجوم , وأكثروا من التهديد والوعيد والتحدي بمرأى ومسمع من الفريقين( ), ليكون قتلهم على وجوه :
الأول : إنه موعظة للأجيال.
الثاني : فيه أمارة على صدق نبوة محمد.
الثالث : فيه فخر للمسلمين إلى يوم القيامة.
الرابع : فيه زجر للناس عن الظلم والجور ومحاربة النبي محمد.
الخامس : سقوط هيبة قريش بين القبائل .
السادس : إدراك الناس لقانون ، وهو عجز الأصنام والآلهة التي يعبد قريش عن النفع.
السابع : زيادة إيمان المسلمين ، وتجلي مصاديق وشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهو من أسرار توجه الخطاب في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ..] ( ) إلى جميع المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار عطف الآية أعلاه على آية النداء التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
ليكون من شكر الله عز وجل الذي ورد في آية ببدر الإحتراز من إتخاذ البطانة الفاسدة والوليجة التي تتصف بالنفاق والحسد والرياء .
ومن منافع هذا الإحتراز تحلي المسلمين بالصبر ، وإمتناعهم عن الهجوم والغزو ، إذ تهجم آيات القرآن على القلوب فتجذبها إلى الإيمان ، وتتغشى الجوارح فتمنعها من إتباع ونصرة الذين كفروا ، وهو من أسرار وفلسفة تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلوات اليومية على نحو الوجوب العيني لهذه التلاوة ، وهي مدرسة جامعة لبناء صرح الهدى والإيمان ، وهي بالذات أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ) أي بذات التلاوة بتحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وتفتح التلاوة للناس ضروباً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يحتاج المؤمنون في أي زمان الغزو والقتال .
وقد جاء التحذير والإنذار من سفك الدماء قبل أن يخلق آدم كما في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) ولكن الذين كفروا نشروا الفساد في الأرض ومنه نصب الأوثان في المسجد الحرام وتعطيل الأحكام ، وقاموا بسفك الدماء بالباطل والعصبية والقبلية ، فتفضل الله عز وجل باشراقة شمس الرسالة على المجتمعات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لوقف سفك الدماء ، ولكن الذين كفروا أصروا على القتال ، ولو لم يقاتلوا في معركة بدر لكان خيراً لهم فلابد أن يظهر الله الحق ويقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إلى الله ويتم التبليغ ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] ( ).
ومن خصائص أيام النبوة أن كل يوم يمر منها يبين صفحة مشرقة من قانون قبح محاربة النبي ، وجلبها الخسارة والندامة والحسرة على أهلها ، وهي مناسبة لتجلي البراهين والدلالات على لزوم الإيمان ونبذ الكفر ومفاهيم الضلالة ، لقد حرّض الشيطان الذين كفروا على محاربة النبوة ، وهو يعلم أنهم لن يجلبوا لأنفسهم إلا الخزي والهوان في النشأتين [وَلاَ يَصُدَّنَّكُمْ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
لقد كان جبرئيل ينزل بآيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيبلغها للناس فقابلها الكفار بالجحود والإنكار فأمهلهم الله عز وجل وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالصبر ، قال تعالى [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ]( )، لبيان نكتة وهي مع الأمر بالتكليف وما في الصبر من المشقة يأتي الوعد من عند الله بالنصر والظفر وظهور الحق وإزاحة سنن الباطل .
ولكن المشركين لم يكتفوا بهذا الجحود بالسخرية بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما جهزوا الجيوش العظيمة لقتاله وأصحابه .
فتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله بالدعاء والمسألة ، وقال (اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ لَا تُعْبَدْ) ( ).
فتفضل الله عز وجل وأنزل جبرئيل الملك الذي ينزل بآيات القرآن ومعه ألف من الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) .
وقد يسأل بعضهم صحيح أن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لا يبدأ قتالاً ، ولكن لو بدأ الكفار القتال فهل يستمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالقتال ، الجواب لا ، إذ يوقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتال في كل من الحالات :
الأولى : إرادة الذين كفروا وقف القتال .
الثانية : طلب الذين كفروا الصلح .
الثالثة : كراهية صحابة النبي لإستمرار القتال .
الرابعة : إنهزام الذين كفروا من وسط الميدان ، ولا يطارد المسلمون الذين كفروا حتى القبض عليهم وأسرهم ولو طاردوا المشركين عند فرارهم من ساحة معركة بدر ، لكن الأسرى من المشركين بالمئات ، إنما تركوهم يفرون الى مكة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ولأن المعجزة النبوية حاضرة في حال السلم والحرب ، وقبل وأثناء وبعد القتال لتبعث الحمية الإيمانية والصبر والثبات عند المسلمين ، وتمتلأ صدور الذووين كفروا بالخوف والفزع ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
وتدل الآية أعلاه في مفهومها على أن الله عز وجل يبعث السكينة وأسباب الأمن والعز في قلوب المؤمنين ، وهو من أسرار نفاذ المشيئة الإلهية إلى القلوب ، قال تعالى [وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]( ).
ومن وجوه تفسير الآية أعلاه ما ورد (عن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
قالوا : يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا؟ قال : نعم ، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها) ( ).
وذكر أن القلب في الجسد بمنزلة السلطان في الرعية فاذا صلح السلطان صلحت الرعية ، وإذا فسد فسدوا ، وكان الأنبياء يعملون بأيديهم ، ويأكلون من كدهم .
وروي أن زكريا عليه السلام كان يعمل في حايط بالطين وكان اجير القوم فقدموا اليه رغيفين اذ كان لا يأكل الا من كسب يده، فدخل عليه قوم فلم يدعهم إلى الطعام حتى فرغ منه فتعجبوا منه لما علموا من سخائه وزهده.
فقال اني أعمل لقوم بأجرة وقدموا إلي الرغيفين لاتقوى بهما على عملهم فلو اكلتم معي لم يكفكم ولم يكفني وضعفت من عملهم( ).
لبيان قانون وهو أن الله عز وجل يقلب القلوب نحو سبل الهداية والرشاد ، ويمنعها من التمادي في السيئات ويجعلها تنفر من الفواحش والمعاصي .
لقد ظن المشركون أن أسباب الترجيح في القتال بالعدد والعدة والسلاح ، وهو الأمر المتعارف عند الناس في حال المعارك والحروب وفنون القتال .
فجاء القرآن بقانون وهو موضوعية القلوب والعقول في النصر ، وأنها تعين تحقق النصر أو الهزيمة ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
فمع أن المشركين هم الذين اختاروا وقوع المعركة ومكانها وأوانها وبداياتها ، فان الهزيمة كانت هي نصيبهم ، وهل هي استحقاق لهم ، الجواب نعم لأنهم على باطل وفي ضلالة .
لقد القوا أنفسهم في التهلكة ، وتكون آثار ونتائج المعارك من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وليس من آثر أكبر وأعظم وأطول مدة وزماناً في المقام من معركة بدر ومعارك الإسلام الأولى ، فمثلاً استمرت معركة البسوس أربعين سنة من سنة 494 م ، وقيل عشرين سنة بين قبيلة تغلب بن وائل وقبيلة بكر بن وائل والتي تسمى أيضاً قبيلة بني شيبان في منطقة الباحة بوادي الخيطان بتهامة ومواضع أخرى من الحجاز ويرأس قبيلة تغلب الملك كليب بن ربيعة ، والزير السالم وهو المهلهل عدي بن ربيعة وأخو الملك كليب وهو خال الشاعر امرؤ القيس .
أما قبيلة بكر فمنها جساس بن مرة وخالته ، وجساس هو الذي قتل الملك كليب ، ليشتعل فتيل الفتنة والحرب ، والمقارنة بين هذه الوقائع وصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على الإعجاز في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدفاعية ، وكانت غارات وليس فيها مزاحفة( ).
ومن فضل الله على الناس تقيدهم بالأشهر الحرم وحرمة القتال فيها ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ]( )، أي من كل سنة .
والشهر هو المدة التي بين هلالين إذ يبدأ الشهر من ظهور الهلال ورؤية الناس له ويشتهر بينهم في آية كونية تبين تسخير الكواكب لمنفعة الناس ، والصلة والإتحاد في نظام العالم العلوي والسفلي ، وليشكروا الله عز وجل عليها ، وقد ضلّ قوم باتخاذ الشمس والقمر إلهين ، وعبد مشركوا العرب الأوثان ، فبعث الله عز وجل النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ليعبد الناس جميعاً الله عز وجل وحده .
وفي حجة الوداع خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنى في أوسط أيام التشريق فقال : أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ، أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ( ).
وكانت الحرب سجالاً بين الفريقين على وجوه :
الأول : نصر بكر بن وائل على تغلب كما في يوم الحنو .
الثاني : نصر تغلب على بكر بن وائل كما في يوم وارث .
الثالث : التكافؤ والتناصف كما في يوم عنترة .
وعندما سأموا الحرب ، قال مهلهل لقومه (قد رأيت أن تبقوا على قومكم فإنهم يحبون صلاحكم، وقد أتت على حربكم أربعون سنة وما لمتكم على ما كان من طلبكم بوتركم.
فلو مرت هذه السنون في رفاهية عيش لكانت تمل من طولها، فكيف وقد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد ونائحة لا تزال تصرخ في النواحي، ودموع لا ترفأ، وأجسادٌ لا تدفن، وسيوف مشهورة، ورماح مشرعة ، وإن القوم سيرجعون إليكم غداً بمودتهم ومواصلتهم وتتعطف الأرحام حتى تتواسوا في قبال النعل( )، فكان كما قال: .
ثم قال مهلهل: أما أنا فما تطيب نفسي أن أقيم فيكم ولا أستطيع أن أنظر إلى قاتل كليب وأخاف أن أحملكم على الاستئصال وأنا سائر إلى اليمن.
وفارقهم وسار إلى اليمن ونزل في جنب، وهي حي من مذحج، فخطبوا إليه ابنته، فمنعهم، فاجبروه على تزويجها وساقوا إليه صداقها جلوداً من أدم، فقال في ذلك:
أعزز على تغلب بما لقيت … أخت بني الأكرمين من جشّم
أنكحها فقدها الأراقم في … جنبٍ وكان الحباء من أدم( )
لو بأبانين جاء يخطبها … ضرّج ما أنف خاطبٍ بدم) ( ).
وأبابين جبلان بينهما ثلاثة أميال أحدهما لبني فزارة ويسمى أبان الأبيض ، والآخر لبني أسد وقد ذكرهما الشعراء منه قول أمرئ القيس :
كأن أبانًا في أفانين وبله …. كبير أناس في بجاد مزمل
وقال الشماخ :
كأن رحلي على حقباء قاربة … أحمي عليها الأبانين الأراجيل
وقال الطرمَّاح :
أضوء البرق يلمع بين سلمى … وبين الهضب من جبلي أبان
وقال الأخطل يذكر موازنة جرير والفرزدق:
فلقد تجاريتم على أحسابكم …وبعثتم حكمًا من السلطان
فإذا كليب لا توازن دارما … حتى يوازن حزرم بأبان
وقال زهير بن أبي سلمى:
فلست بتارك ذكرى سليمى…وتشبيبي بأخت بني العدان
طوال الدهر ما ابتلت لهاتي… وما ثبت الخوالد من أبان.
أما معركة بدر فلم تدم إلا بضع ساعات من نهار ، ولكنها خلدت في التأريخ بما فيه النفع العام للمسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً من جهات :
الأولى : تجلي قانون مصاحبة الوهن والضعف للشرك ، وفيه دعوة متجددة للناس وإلى يوم القيامة لنبذ الكفر ومفاهيم الضلالة، قال تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ]( ) .
الثانية : بعث النفرة في النفوس من عبادة الأصنام .
الثالثة : إنقطاع القتال للذي ينشب بسبب حمية الجاهلية .
الرابعة : هدم سلطان الكفر والشرك على الناس بغير حق وفي التنزيل [ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ]( ).
الخامسة : دعوة الناس للتدبر بالمعجزات الحسية للأنبياء وحضورها في حياة الناس .
السادسة : ثبات أحكام الإسلام في المدينة والتي كانت تسمى قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليها يثرب .
السابعة : لقد كانت طائفة من اليهود يقطنون المدينة المنورة ، وهم بنو قريظة ، وبنو قينقاع ، وبنو النضير ، فوقعت معركة بدر وهم وأهل المدينة لا يعلمون بها إلا عندما جاء بشيران بالنصر للمسلمين ، ثم دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأعقبهم الأسرى والغنائم في آية لم تتكرر في التاريخ إذ غمرت السعادة والغبطة المسلمين وأصاب الذهول والقنوط أعداء الدين ، وشاهد يهود المدينة هذا النصر وعلموا بالتفاصيل وأجروا دراسة مقارنة بين جيش المسلمين وجيش قريش بما يفيد لزوم تحقق النصر لقريش وأن نتيجة معركة بدر معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآمن بعضهم ودخل الإسلام ، ليكون من مصاديق المعنى الأعم للنصر في معركة بدر وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] ( ).
وهو من مصاديق إزاحة الإستضعاف والذل عن المسلمين ، فبينما كان المشركون والناس ينظرون لهم على أنهم قلة في العدد مع نقص ظاهر في المؤن والأسلحة ، وعظم الأمر الذي يدعون إليه وشدة وضراوة عدوهم وكثرة عددهم ،جاء النصر للمسلمين سريعاً جلياً فبهت الذين كفروا بنصر النبي محمد صلى الله عليه وأصحابه في معركة بدر .
ليكون من منافع معركة بدر لأهل الكتاب التدبر في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو التريث والإمتناع عن نصرة عدوه من مشركي قريش ونحوهم ، ليكون من الإعجاز في نزول آيات القرآن بحث الناس على عبادة الله ، والإخلاص في سنن التقوى إجتناب سبل الضلالة ، قال تعالى [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ).
والنصر في معركة بدر موعظة ودعوة للهدى من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه ابتداؤها بالخطاب للناس جميعاً .
وفيه حجة على الذين كفروا ، ودعوة للناس بلزوم الإمتناع عن اتباع الذين كفروا في سعيهم لمحاربة الإسلام .
وتشمل الموعظة في المقام الإقرار بوجوب عبادة الله وإصلاح المجتمعات ونبذ عادات الجاهلية من الوأد والثأر من غير القاتل ، وشرب الخمر ولعب الميسر والربا والإستقسام بالازلام .
وما حرموه على أنفسهم مما لا أصل أو سلطان فيه كما في قوله تعالى [مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ] ( ).
إذ كان العرب يحرمون ذبح بعض الإبل لصفة عرضية تطرأ عليها ، مع أنها لا تستلزم هذا التحريم .
فالبحيرة هي الناقة التي تلد عشرة بطون عندئذ يشقون أذنها ، ويتركونها ترعى ، ولا ينتفع بها ، فلا تركب ولا يجز وبرها ولا تمنع من الكلأ والماء ، وكأنها أحيلت على المعاش .
والبحيرة فصيلة بمعنى معقولة من بَحَرَ فيشق أذن الناقة ليعرف الناس أنها بحيرة فلا يتعرضون لها .
وقيل إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها وتركوها .
والأول أصح .
وإذا ماتت أكلها الرجال والنساء ، ومنهم من قال ينظر إلى آخر ولدها أي الخامس فان كان ذكراً نحروه من غير أن يذكروا اسم الله عليه ، وأن كان أنثى بحروا أذنها وتركوها ويحرم على النساء لبنها إذ يختص الرجال بلبنها ومنافعها .
وعن أبي الأحوص عن أبيه قال : (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال صلى الله عليه وآله وسلم : أَرَأَيْتَ إِبلَكَ تَكُونَ مُسَلَّمَةً آذَانُهَا فَتَأْخُذَ المُوسَى فَتَجْدَعَهَا تَقُولُ هَذِهِ بَحِيْرَةٌ ، وَتَشُقُّونَ آذَانَهَا تَقُولُونَ هَذِهِ بَحِيْرَةٌ
قال : فإن ساعِدَ الله أشدُّ ، وموسى الله أحد ، كل مالك لك حلال لا يحرم عليك منه شيء .) ( ).
وهو أمر متفرع عن الوثنية وعبادة الأوثان ، وفيه ضرر على الذات والناس ، ونزل القرآن بقوله تعالى [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ] ( ) .
أما السائبة فهي الأنعام التي يسببها أهلها للآلهة ، فتترك ترى ولا يركب لها ظهر ، ولا يجلب منها لبن ، ولا يجز منها وبره .
وعن ابن مسعود عن النبي قال (إن أول من سيب السوائب ، وعبد الأصنام ، أبو خزاعة عمرو بن عامر ، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار) ( ) .
وقد يقول الإنسان مثلاً إذا رجعت من سفري سالماً ،فناقتي سائبة أو يصاب أحدهم بمرض عضال فيقول إن شفيت فناقتي سائبة ، وعندما يرجع سالماً ، أو يشفى من مرضه يجعل الناقة سائبة للآلهة فلا يحلب ضرعها ، ولا يركب ظهرها ، ولا تمنع من مرعى أو شجر .
فجاء القرآن بقوله تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ) وأن الله عز وجل هو الذي يشافي المرضى وهو الذي يحفظ الإنسان في حله وترحاله ، قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ]( ).
ولفظ السائبة أعم من أن يختص بالناقة ، فقد يساب العبد فلا يسترقه أحد ، أما في الإسلام فيعتق العبد، والولاء لمن كان يملكه أو للمسلمين ، وكان بعض الناس يجعل مثل معنى السائبة في الديك الأبيض ليحرر حتى يموت ، ولكن يصح الإنتفاع منه ، وذبحه وأكله.
وعن زيد بن اسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لأعرف أوّل من سيب السوائب، وأوّل من غيَّر عهد إبراهيم! قالوا: من هو، يا رسول الله؟ قال: عمرو بن لُحَيّ أخو بني كعب، لقد رأيته يجرّ قُصْبه في النار، يؤذي ريحه أهل النار. وإني لأعرف أوّل من بحر البحائر!
قالوا: من هو، يا رسول الله؟
قال: رجل من بني مدلج، كانت له ناقتان، فجدع آذانهما، وحرّم ألبانهما، ثم شرب ألبانهما بعدَ ذلك، فلقد رأيته في النار هو، وهما يعضّانه بأفواههما، ويخبطانه بأخفافهما( ).
وأما الوصيلة فهي الناقة التي تلد ذكراً وأنثى متصلين ، وقالوا : وصلت أخاها ، فهم يذبحوها .
وقبل الوصيلة في الغنم ، إذا ولدت الشاة سبعة أبطن وجاء السابع أنثى تركوها في الغنم ، وإذا كان ذكراً ذبحوه وأكل منه الرجال والنساء أي أنهم كانوا يجعلون التمايز بين الرجال والنساء ، حتى في الأكل ولا أصل له .
والظاهر أن الوصيلة تتعلق بالإبل والناقة التي تلد ذكراً وأنثى متصلين.
وولادة الناقة لتوأم أمر نادر , وقد يموتان أو أحدهما عند الولادة ، فلذا يجعل العرب آنذاك الوصيلة .
أما الحام فهو الفحل من الإبل إذا ولد من ظهره عشرة أبطن ، وقيل هو الفحل الذي لقح ولد ولده .
وحام أبي حمى ظهره فلا يركب ولا تحمل عليه الإثقال ولا يمنع من ماء أو كلأ .
(عن أبي سعيد الخدري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر ، فاستأخر عن قبلته ، وأعرض بوجهه ، وتعوَّذ بالله ، ثم دنا من قبلته حتى رأيناه يتناول بيده ، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.؟
قلنا : يا نبي الله ، لقد صنعت اليوم في صلاتك شيئاً ما كنت تصنعه! . .
قال : نعم ، عرضت عليَّ في مقامي هذا الجنة والنار ، فرأيت في النار ما لا يعلمه إلا الله ، ورأيت فيها الحميرية صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ، ولم تسقها ، ولم ترسلها فتأكل من خشاش الأرض حتى ماتت في رباطها .
ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قصبه في النار ، وهو الذي سيَّب السوائب ، وبحر البحيرة ، ونصب الأوثان وغيَّر دين إسماعيل ،
ورأيت فيها عمران الغفاري معه محجنه الذي كان يسرق به الحاج . قال : وسمى لي الرابع فنسيته .
ورأيت الجنة فلم أر مثل ما فيها ، فتناولت منها قطفاً لأريكموه فحيل بيني وبينه ؟
فقال رجل من القوم : كيف تكون الحبة منه؟ قال : كأعظم دلو فرته أمك قط.
الدلو : إناء يستقر به من البئر وقط أي أبدأ ، لبيان كبر حجم الحبة الواحدة من العنب وبيان قانون وهو أن الثمار من الجنة مما يفوق التصور الذهني وتفضل الله عز وجل بالبشارة والبيان الإجمالي في القرآن والسنة .
(عن سليم بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الجنة مائة درجة : فأولها من فضة أرضها فضة ، ومساكنها فضة ، وآنيتها فضة ، وترابها مسك . والثانية من ذهب أرضها ذهب ، ومساكنها ذهب ، وآنيتها ذهب ، وترابها مسك . والثالثة لؤلؤ أرضها لؤلؤ ، وآنيتها لؤلؤ ، وترابها مسك . وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) ( ).
قال محمد بن إسحاق : فسألت عن الرابع فقال : هو صاحب ثنيتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي نزعهما) ( ) لبيان أن الذين تعدوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشخصه الكريم في أشد العذاب مع الطواغيت في النار .
وقد ذكرت الآية الكريمة [مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ] ( ) أربعة أصناف من الثلاثة الأولى من أنثى الإبل ، والرابع وهو الحام من ذكر الإبل ولا يمنع شمولها للأنعام الأخرى كالبقرة والغنم ، أي أن العرب في الجاهلية يضحون بأحسن ما عندهم ليكون للآلهة والأصنام ,فبعث الله سبحانه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) والإطلاق
وروي ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: انما انا رحمة مهداة.
والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو نبي الرحمة ، وفي اقتران الرحمة بشخصه الكريم ونبوته مدح له وشكر لله عز وجل على هذه النعمة أي انه لم يكن إماماً للرحمة الا بفضل ومنّ من عند الله .
وإمامة النبي محمد صلى الله عيه وآله وسلم من قبل الله تعالى وهو مفترض الطاعة على العباد ، قال تعالى [مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ).
وامامته صلى الله عليه وآله وسلم رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا تترشح منها انوار الهداية والرحمة وتنتفع منها الأجيال المتعاقبة إلى يوم القيامة .
مقدمات معركة أحد
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وابتلاء ، ويأتي هذا الإبتلاء على نحو القضية الشخصية والنوعية ، وقد يتغشى الناس كما في مسألة وجوب الإيمان ولزوم نبذ الكفر ، ولأن الله عز وجل رحيم بالناس جميعاً في الدنيا والآخرة ، ورحمته في الدنيا لذاتها وهي مقدمة لرحمة الله لهم في الآخرة بلحاظ أن من مصاديق الرحمة الإلهية في الدنيا جذب الناس إلى مقامات الهدى والإيمان ، فتكون مناسبة ووسيلة لفعل الصالحات وإكتناز الحسنات ليوم [يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] ( ) فتفضل الله عز وجل ببعث الأنبياء والرسل هداة للعالمين وأئمة في عبادة الله والخشوع له سبحانه .
ولاقى الأنبياء من قومهم الأذى ، ولكن هدى الله عز وجل بهم طائفة وصاروا لهم أصحاباً من الرجال والنساء ، وتوارثوا الإيمان ، والعمل بمنهاج النبوة ، والبشارة بخاتم الأنبياء الذي أشرقت الأرض ببعثته في مكة فأمن به نفر من أهل بيته وأصحابه ، وحاربه رؤساء قريش وآذوه في شخصه وأهل بيته وأصحابه ، فقابلهم بالصبر المقرون بالدعوة إلى الله عز وجل التي عرضوا له المنح والهبات ووعدوه بتنفيذ الرغائب التي يريد إذا ترك الدعوة إلى الله فقال كلمته المباركة المشهورة
(وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ) ( ).
فبعد أن أقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالله لبيان القطع والتأكيد على عزمه على الإستمرار بالدعوة إلى الله وإتمام أداء الرسالة ذكر لفظ (لو) وهو حرف امتناع لإمتناع .
أي أن المشركين يعجزون عن الوصول إلى الشمس وإلى القمر ووضعهما عن يمين ويسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا يستطيعون ثني النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن رسالته لأنها من عند خالق الشمس والقمر ، وهو الله الذي سخرها للناس ، وجعلهما آيتين تحثانهم على التفكر في عظيم خلقه وتدعوهم لعبادته والإنتفاع من مخلوقاته التي سخرها لهم ، والشكر له سبحانه على هذه النعم .
ويتجلى الشكر باتباع الأنبياء ونشر مفاهيم الصلاح في الأرض ، ولكن الذين كفروا من قريش لم يكتفوا بالإمتناع عن اتباع الأنبياء إنما حاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
فاختار الهجرة والإعراض عنهم ، قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ) ففي الآية أعلاه يأمر الله سبحانه النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بإخبار الناس عن سعة أرض الله ،ويمكن للمؤمنين جماعة أو أفراداً الهجرة فيها لعبادة الله بعيداً عن أسباب المعصية .
وورد (عن الزبير بن العوام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :البلاد بلاد الله ، والعباد عباد الله ، فحيثما أصبت خيراً فأقم) ( ).
ليكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه أسوة مباركاً في العمل بهذه الآية إذ هاجر إلى المدينة ونفر من أهل بيته وأصحابه ليفتح باب الهجرة إليها من مكة وغيرها ، فأبى المشركون تركه وأصحابه يعبدون الله في المدينة ، ويتطلعون إلى الوحي الذي لم يكن ينزل بأحكام الفرائض وأمور الحلال والحرام ، ولم ينزل بالهجوم على المشركين في مكة .
ومع هذا زحف المشركون بجيوشهم في السنة الثانية للهجرة فكانت معركة بدر ، وقد تقدم البيان والتفصيل وشطر من الآيات التي نزلت بخصوصها .
لقد كانت معركة بدر شاهداً على حال الحنق والغيظ التي يضمرها ويتجاهر بها مشركوا قريش ومن والاهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إعلانه لرسالته ودعوته إلى الله مع أنه لم يسأل قريشاً أموالاً أو ينافسهم في جاه ، ولم يطلب منهم التنحي عن ولاية المسجد الحرام مع أنهم ليسوا أهلاً لهذا المنصب والشأن الرفيع ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ] ( ) إنما هاجر وأعرض عنهم ولكنهم أصروا على قتاله وزحفوا بألف من الرجال في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة بذريعة تعرضه لقافلة أبي سفيان .
ولكن عندما بعث لهم أبو سفيان رسولاً ان القافلة سلمت ولم يتعرض لها أحد فأرجعوا إلى مكة أبوا الرجوع ، وبين الإمتناع عن الرجوع ووقوع القتال عموم وخصوص مطلق ، ، إذ أن الإمتناع عن الرجوع إلى مكة حال وصول رسول أبي سفيان لا يعني وقوع القتال مع المسلمين .
فقد أظهر أبو جهل ورؤساء جيش قريش رغبتهم بالإقامة ثلاثة أيام في ماء بدر وبحال من اللهو والطرب لتسمع بهم العرب وكأنهم فرحوا بسلامة القافلة وأموالهم التي فيها ودنوها من مكة وحينما [الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) كان مناسبة للإحتجاج والجدال وإقامة البرهان .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على إعطاء صبغة الإحتجاج لمثل هذه اللقاء ، فيأتي الذين أشركوا وهم ينوون القتال فيقابلهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنداء قولوا (لا إله إلا الله تفلحوا ) مع الصبر وعدم مزاولة الرمي بالحجارة أو السهام والنبال والإمتناع عن السب والشتم ، قال تعالى [وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ] ( ).
وتدل الآية أعلاه في مفهومها على إختيار اقامة الحجة والبرهان على وجوب عبادة الله ، وترك السب والشتم .
(وأخرج أحمد وأبو داود والطبراني ، عن سلمان : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أيما رجل من أمتي سببته سبة في غضبي ، أو لعنته لعنة ، فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما تغضبون ، وإنما بعثني رحمة للعالمين ، وأجعلها عليه صلاة يوم القيامة) ( ).
ولم يسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم احداً من الصحابة ، وظاهر الحديث إرادة الذين كفروا ثم دخلوا الإسلام ، من مصاديق قوله تعالى [إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ).
وانه لا يأتي بالنفع إنما يثير الشحناء والبغضاء ، لقد إغتاظ رؤساء الكفر الذين كفروا من سماع كلمة التوحيد ، وخشوا على جيشهم من نفاذ ضياء الإيمان إلى قلوبهم وظهوره على ألسنتهم بالتجاهر بلزوم إجتناب القتال ، فعجل أبو جهل باشعال فتيل الحرب .
فلما بعثوا عمير بن وهب الجمحي صبيحة يوم بدر ليحرز لهم عدد المسلمين في ميدان المعركة واستجال بفرسه وأخبرهم بعدوهم على نحو التقريب ، وقام بتحذير كفار قريش من المعركة لما شاهده من حال الأنصار ، وكيف أنهم عازمون على الصبر في ميدان المعركة ، وأن أي واحد منهم لا يُقتل حتى يقتل واحدا أو أكثر من قريش .
فبيّن لهم مسألة وهي إذا كان عدد المسلمين ثلاثمائة ولا يُقتلون حتى يقتلوا مثل عددهم من جيش المشركين فان مصيبة عظمى تحل بأهل مكة ، فالتفت حكيم بن حزام للأمر , ومشى في الناس يدعوهم إلى إجتناب القتال ، وتوجه إلى عتبة بن ربيعة ، وكان معروفاً بالحلم قبل معركة بدر ، وخاطبه باكرام بكنيته (يا ابا الوليد انك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها) ( ).
ثم أخبره بأن هذا اليوم يوم المجد الشخصي لمن يَرجع بالناس عن القتال ويصرفهم عن ملاقاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل في كلام حكيم هذا ميل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم ، فحكيم بن حزام هذا ابن اخت خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي وأن توفت في السنة العاشرة للبعثة وقبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، ولكن حكيم هذا رآى معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد حصار قريش لأهل البيت وصبرهم في تعضيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته .
فسمع رؤساء جيش المشركين قول عمير بن وهب وما فيه من التحذير والإنذار ، وهو خبير بأحوال الناس في القتال ، ومن شياطين قريش وانقسم رؤساء قريش في الرأي إلى طوائف منهم الذين امتنعوا عن المسير واعتزلوا القوم .
إذ قال الأخنس بن شريق لبني زهرة وكان حليفاً لهم ، وهم أخوال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد أتى عبد المطلب بابنه عبد الله إلى وهيب بن عبد مناف ابن زهرة (وهو يومئذ سيد بني زهرة سنا وشرفا فزوجه آمنة بنت وهب وهى يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبا وموضعا فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه ووقع عليها فحملت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
وكان يظهر الود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان في مكة ، وفي الطريق إلى بدر قام الأخنس بحثّ بني زهرة وهم بالجحفة على الرجوع حالما وصل رسول أبي سفيان لانتفاء سبب وموضوع القتال العام والخاص .
أما العام فمن المسلمات العقلية أن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله لا تستلزم قتاله ، ولأن القتال يجلب الويلات ويخلف القتلى من الطرفين بشهادة الخبير عمير بن وهب .
وأما الخاص فثبوت سلامة أموال بني زهرة ، ونجاة صاحبهم وهو مخرمة بن نوفل.
ثم أعلن الأخنس عن تحمله مسؤولية الرجوع بين الناس (فاجعلوا بي جبنها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة، لا ما يقول هذا.) ( ).
ومراده من اسم الإشارة هذا (أبو جهل) الذي أصر على عدم الرجوع حتى الوصول إلى ماء بدر وللإقامة فيه ثلاثاً ، في قوله تعالى ({ ومن الناس من يعجبك }( ) الآية .
قال : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف لبني زهرة ، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وقال : جئت أريد الإِسلام ، ويعلم الله أني لصادق . فأعجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك منه فذلك قوله { ويشهد الله على ما في قلبه }( ) ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر ، فاحرق الزرع وعقر الحمر ، فأنزل الله { وإذا تولى سعى في الأرض }( ) الآية ) ( ).
وقد يجتمع الإنذار والحجة في آن واحد ، وتعددت الحجة في المقام من وجوه :
الأول : وصول رسول أبي سفيان بالإخبار عن سلامة القافلة .
الثاني : دعوة أبي سفيان لقومه بالرجوع إلى مكة ، وترك الإستمرار في المسير .
الثالث : في الرجوع إلى مكة إنتفاع من البضائع والتجارات لأن قافلة أبي سفيان تتألف من ألف بعير محملة بالبضائع مما يدل على اشتراك الكثير من أهل مكة بها ، وهو من أسباب سرعة استنفارهم لنجدتها .
الرابع : قيام شطر من الجيش بالرجوع كما في بني زهرة وبنداء من حليف لهم ، وليس من أحد رؤسائهم ، ولو لم يكن أمر الرجوع صحيحاً وعقلانياً لما استجابوا للحليف وهو الأخنس بن شريق ليصبح مكرماً عندهم ، وله فيهم كلام مسموع .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يرضى أن يتجاوز أحد على أصحابه كما في الملاحاة التي جرت بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف ، قال إبن سعد (وَلَمّا رَجَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ هَدْمِ الْعُزّى وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مُقِيمٌ بِمَكّةَ بَعَثَهُ إلَى بَنِي جُذَيْمَةَ دَاعِيًا إلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا فَخَرَجَ فِي ثَلَاثمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَبَنِي سُلَيْمٍ فَانْتَهَى إلَيْهِمْ فَقَالَ مَا أَنْتُمْ ؟ .
قَالُوا : مُسْلِمُونَ قَدْ صَلّيْنَا وَصَدّقْنَا بِمُحَمّدٍ وَبَنَيْنَا الْمَسَاجِدَ فِي سَاحَتِنَا وَأَذّنّا فِيهَا قَالَ فَمَا بَالُ السّلَاحِ عَلَيْكُمْ ؟ قَالُوا : إنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنْ الْعَرَبِ عَدَاوَةً فَخِفْنَا أَنْ تَكُونُوا هُمْ وَقَدْ قِيلَ إنّهُمْ قَالُوا صَبَأْنَا وَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا : أَسْلَمْنَا قَالَ فَضَعُوا السّلَاحَ فَوَضَعُوهُ فَقَالَ لَهُمْ اسْتَأْسِرُوا فَاسْتَأْسَرَ الْقَوْمُ فَأَمَرَ بَعْضَهُمْ فَكَتّفَ بَعْضًا وَفَرّقَهُمْ فِي أَصْحَابِهِ فَلَمّا كَانَ فِي السّحَرِ نَادَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ : مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فَلْيَضْرِبْ عُنُقَهُ فَأَمّا بَنُو سُلَيْمٍ فَقَتَلُوا مَنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ .
وَأَمّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَأَرْسَلُوا أَسْرَاهُمْ فَبَلَغَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَا صَنَعَ خَالِدٌ فَقَالَ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْكَ مِمّا صَنَعَ خَالد ” وَبَعَثَ عَلِيّا يُودِي لَهُمْ قَتْلَاهُمْ وَمَا ذَهَبَ مِنْهُمْ وَكَانَ بَيْنَ خَالِدٍ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَلَامٌ وَشَرّ فِي ذَلِكَ فَبَلَغَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ مَهْلًا يَا خَالِدُ دَعْ عَنْكَ أَصْحَابِي فَوَاَللّهِ لَوْ كَانَ لَكَ أُحُدٌ ذَهَبًا ثُمّ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللّهِ مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلَا رَوْحَتَهُ) ( ).
وفيه ترغيب للناس بالحث على إجتناب غزو المسلمين ، ودعوة لهم للإنسحاب من ميدان القتال ، فلو امتنع الأتباع عن نصرة رؤساء قريش في محاربتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما وضعت معركة بدر .
ولما زحف ثلاثة آلاف رجل في معركة أحد لغزو المدينة ، ولما صاروا على بعد خمسة كيلو متر عنها خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وخافت طائفة منهم من هذه الجيوش إذ قام رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول بدعوة الأنصار إلى الرجوع إلى المدينة من وسط الطريق ، وترك المواجهة مع كفار قريش .
إذ انخزل بثلث جيش المسلمين ، وقال : أطاعهم فخرج وعصاني! والله ما ندري علامَ نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس!! فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريْب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم، أذكّركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوّهم!
فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أن يكون قتال! فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدَكم الله أعداء الله ، فسيُغني الله عنكم ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( ).
ليدل الحديث على أن النبي محمداً حينما خرج من المدينة لم يقطع بحتمية القتال ووجوبه ، ولزوم عدم الرجوع من الطريق ، وجاء آخر الخبر أعلاه باعلان عبد الله بن عمرو بن حرام العزم على الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حسن توكله والمؤمنين على الله عز وجل , وأن الله سبحانه يغني النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عن المنافقين ، لبيان الإستصحاب ، واستحضار نزول الملائكة لنصرته في معركة بدر .
وهل من الغنى المذكور أعلاه احتمال عدم وقوع قتال ، الجواب نعم.
وكما قام عمير بن وهب الجمحي بالطواف حول معسكر المسلمين ، وتقدير عددهم بأنه ثلاثمائة أو يزيدون قليلاً ، فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أرسل الإمام علي وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام لتحسس الأخبار بخصوص جيش المشركين فرجعوا ليخبروه بأن قريشاً وراء الكثيب وأن عددهم بين تسعمائة إلى ألف مقاتل .
وأنزل الله عز وجل المطر ليلة المعركة ليكون رحمة وعوناً للمسلمين وبلاء وأنذاراً للذين كفروا لعلهم يتعظون ، ولكنهم كانوا سكارى بكثرتهم في مقابل قلة عدد المسلمين وظنوا أن حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ماء بدر فرصة ومناسبة لقتله بعد أن فاتهم اغتياله ليلة المبيت والهجرة ، وأن أصحابه سيفرون ويخلون بين المشركين وبينه ، وحتى لو دافعوا فانهم قليل في عددهم والنقص ظاهر في أسلحتهم ورواحلهم ، فلم يكن معهم إلا فرسان وسبعون بعيراً ، وقيل فرس واحدة ، لبيان قانون وهو مصاحبة العتو والغرور للكفر والضلالة .
ولم يعلموا أن دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يرجح كفتهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ..] ( ) أي أن الفئة القليلة تغلب الكثيرة بالإيمان والدعاء ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : كم من فئة قليلة مؤمنة غلبت فئة كثيرة كافرة .
الثاني : كم من فئة قليلة تجتهد بالدعاء غلبت فئة كثيرة كافرة وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الثالث : كم من فئة قليلة من أولياء الله غلبت فئة كثيرة من أولياء الشيطان ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ] ( ).
الرابع : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ليتعظ ويهتدي الناس .
الخامس : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بمعجزة من الله ،إذ ذكرت الآية إذن الله.
وبين الأمر الإلهي والمعجزة عموم وخصوص مطلق لتكون المعجزة سبباً لنصر وغلبة الفئة القليلة بإذن من الله عز وجل رحمة منه تعالى.
وذكرت الآية الإذن والمعنى الأعم لبيان تعدد أسباب انتصار الفئة القليلة ويدخل فيها الثبات والمباغتة والخدعة وموضوعية العدة والسلاح .
لذا أختتمت الآية بقوله تعالى [وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ) لبيان أن الصبر طريق النصر والظفر ووجوب صبر المسلمين على طاعة الله عز وجل ، قال تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ] ( ).
ترى هل نصر المسلمين في معركة بدر من الفوز الذي تذكره الآية أعلاه أم أن القدر المتيقن من لفظ الفائزين هو فوزهم بالنعيم المقيم ، الجواب هو الأول لأصالة الإطلاق ، ولفيوضات قوله تعالى [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى] ( ) .
فلقد كانت نتيجة معركة بدر فوز للمسلمين وفيه شاهد على قانون وهو ينال الفوز بفضل الله ، فلم يستطع المسلمون النصر لولا المدد والعون من عند الله عز وجل بإنزال الملائكة وحتى قيل نزول الملائكة فان الله عز وجل أنعم على المسلمين بنزول المطر ، فجمعوا من الماء ما يكفيهم ، وصارت أرضهم صلبة ، وأمتلات نفوسهم بالسكينة ، وأنصتوا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخبرهم عن مصارع المشركين .
(وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا مصرع فلان، يضع يده على الارض ها هنا وها هنا، فما أماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
ونسب إلى إجماع أهل السير أن سبب معركة أحد هو إرادة قريش الإنتقام لقتلاهم في معركة بدر ، وما لحقهم من الهزيمة وسلامة طرق تجارتهم ، وهذا أحد الأسباب ، ولكن السبب الأهم هو سعيهم لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنع توالي التنزيل ، ووقت دخول الناس في الإسلام بدليل أنهم دخلوا معركة بدر وليس من ثأر في المقام .
لقد كانت قريش تخشى على تجارتها ، وعندما سمعوا بنية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لقافلة أبي سفيان ، ثم سلمت وسارت بأمان نحو مكة ، فلم يمش وفد منهم إلى المدينة ويدخل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويسأله عدم التعرض لقوافلهم لا أقل كتنبيه وحجة، وفي عشية وصباح يوم بدر لم يتحدثوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الخصوص ولم يجعلوا ترك التعرض لقوافلهم شرطاً للإمتناع عن القتال يومئذ .
لقد ظن المشركون أن لقاءهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر غنيمة وفرصة وأنهم سرعان ما يقضون عليهم .
وكان عدد من المنافقين يقولون (ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحماً لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه ، دعوا هذا الرجل فإنه هالك) ( ) .
وعلى فرض صدور هذا القول بخصوص معركة أحد فانه يشمل أيضاً معركة بدر ليس للإستصحاب القهقري ، ولكن لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
أسباب معركة أحد
ومن أسباب معركة أحد :
الأولى : محاربة مشركي قريش للنبوة والتنزيل ، لقد تلقى الذين كفروا نبأ نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإنكار والجحود ، وأبوا عبادة الله عز وجل وحده .
ومن معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) أي أن الدعوة إلى التوحيد وأحكام الشريعة لا تنحصر برجال قريش وما إذا امتنعوا عن قبولها فانهم [لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا]( ) إنما يتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس جميعاً .
وكان غيظ كفار قريش يزداد عندما يرون أو يسمعون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو غيرهم من الناس ، ويزداد حنقهم وغيظهم عندما يرون الشباب والعبيد يدخلون الإسلام من غير الرجوع إليهم أو الصدور عنهم ، فعزم كفار قريش على محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل وتعذيب أهل بيته وأصحابه .
الثانية : عزم الذين كفروا عن عبادة الأصنام وإرادة بقائها منصوبة يقدسها الناس ويتوسلون إليها ، ويرجون منها تحقيق الأماني لادراك قريش بأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهدمها وازالتها .
ولم ينحصر وجود الأصنام في مكة وداخل البيت الحرام بل كان لكل قبيلة صنم ، فأرادت قريش تهييج القبائل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفاعاً عن أصنامها لذا حينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة يطعن الأصنام كان يتلو قوله تعالى [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ) .
لقد ظن رجالات قريش أن الدفاع عن الأصنام يحشد القبائل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن آيات القرآن التي كانت تترى نازلة على صدره , وكل آية كاشف لزيف وبطلان دعوة قريش هذه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
الثالثة : سعي قريش للثأر لما لحقهم من الخسارة والخزي في معركة بدر ، والثأر هو الطلب بالدم ، وإقتصاص أولياء الدم من الجاني أو أحد أقاربه من غير لجوء إلى الحاكم .
(ثأر فلانٌ لقتيله، أي: قَتَل قاتِلَهُ، يثأر، والاسم: الثُّؤرة، قال:
حَلَلْتُ به وِتري وأَدْرَكْتُ تُؤْرتي … إذا ما تناسى ذَحْلَهُ كُلُّ عَيْهَبِ( )
وجاء القرآن بحرمة الثأر لما فيه من سفك للدماء وإضرار بالسلم الإجتماعي ، وإدخال للخوف والفزع إلى النفوس خاصة وأن الثأر لا ينحصر بالقضية الشخصية ،وقال تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( ).
وذكر القرآن قصة ولدي آدم وكيف أن أحدهما وهو هابيل امتنع عن قتل أخيه قابيل وإن أراد هو قتله ، كما أن أدم وهو ولي الدم لم يقتص من قابيل ، وأنزل اله سبحانه الله عز وجل الحكم بالقصاص بقوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) وذكرّ العفو بقوله تعالى [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ] ( ).
وهل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يعفون عمن يؤذيهم ، الجواب نعم إذ كانوا يتحملون الأذى ، ولا يبطشون ببعضهم وأن سنحت الفرصة .
ومن معاني النصر في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) تعدد ضروب الخسارة لقريش في تلك المعركة وما بعدها ، فمع سقوط القتلى والجرحى والأسرى منهم ووقوع عدد من رواحلهم ومؤنهم بيد المسلمين فان الخسارة صارت تطارد قريشاً بعد معركة بدر بتعطيل تجارتهم واستيلاء الحسرة والندامة على نفوسهم وسقوط هيبتهم عند القبائل.
وإذا كانت موضوعية لقتلى معركة بدر في أسباب ومقدمات معركة أحد فهل من موضوعية للأسرى من قريش وفكاكهم فيها الجواب نعم من جهات :
الأولى : الأذى الذي صدر من قريش وعوائلهم بسبب كثرة الأسرى.
الثانية : بذل قريش الأموال الكثيرة لفكاك الأسرى، وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة، وهذا كان أقل ما فودى به أحد منهم من المال، وأكثر ما فودي به الرجل منهم أربعة آلاف درهم ( ).
الثالثة : لحوق الذل لقريش لكثرة قتلاهم في معركة كانوا هم الذين بدأوها وأشعلوا فتيلها ، وكان الرجحان لكفتهم في العدد والرواحل والعدة.
ومن العلماء من يجعل الثأر لما لحق كفار قريش من الخسارة يوم بدر هو السبب لهجومهم وغزوهم في معركة أحد ، ولكنه من أهم وأظهر الأسباب إلا أنه ليس السبب الوحيد لمعركة أحد.
وبين أسباب معركة أحد ومعركة بدر عموم وخصوص مطلق أي أن ذات أسباب بدر حاضرة في تجهيز وحشد قريش الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وأن جعل الثأر لمعركة بدر هو السبب الوحيد لمعركة أحد فما هو السبب في معركة بدر وليس من ثأر ، وما هو السبب في غزو المشركين للمدينة المنورة في معركة الخندق ، خاصة بعد أن إدّعى وأشاع المشركون أنهم انتصروا في معركة أحد ، ولا أصل لهذا الانتصار ، انما لحقتهم الخيبة , قال تعالى بخصوص معركة أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وكذا النسبة بين أسباب معركة أحد والخندق ، ويمكن تأسيس قانون وهو أن إسباب معارك الإسلام الأولى على قسمين :
الأول : أسباب عامة تتغشى كل معركة من تلك المعارك ، ومنها الصراع بين الحق والباطل ، وإصرار الذين كفروا على الظلم والتعدي ، وهل كان صبر النبي وأصحابه على إيذاء الذين كفروا لهم استدراجاً للذين كفروا في هجومهم وغزوهم ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، الجواب لا دليل عليه .
الثاني : الأسباب الخاصة لكل معركة من معارك الإسلام الأولى ، معركة بدر ، معركة أحد ، معركة الخندق ، معركة حنين .
كما يمكن تقسيم أسباب معارك الإسلام الأولى تقسيماً استقرائياً بلحاظ الموضوع من وجوه :
الأول : الأسباب العقائدية إذ أن علة تلك المعارك جحود الذين كفروا ، وتلقيهم دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى التوحيد بالإقامة على عبادة الأوثان .
الثاني : أمور ورشحات العادة ، إذ توارث الذين كفروا عبادة الأوثان ، وأصروا على الإمتناع عن الفرائض العبادية ، وفي التنزيل [قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ]( ).
الثالث : الأسباب الإقتصادية تلك الأسباب التي توليها الدول الأولوية والعناية الخاصة ، إذ صارت قريش تخشى على قوافلها من تعرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لها ، وان لم يثبت هذا التعرض.
لقد تجلت مصاديق قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، إذ كانت قوافلهم تقطع الصحراء في الشتاء بين مكة واليمن ، لأن شدة البرد وكثرة الأمطار والبرد تحول دون مواصلة السير الى الشام في الشتاء .
أما في الصيف والقيض فهم يرحلون بقوافلهم إلى الشام لطيب الهواء هناك ، واتفق في أيام رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نشوب الحرب بين الدولة الرومانية والفارسية فانقطع طريق التجارة السالك بين الشرق والغرب عبر العراق والشام براً بواسطة قوافل الإبل فصارت التجارة تأتي من الهند لتصل إلى البحر في موانئ اليمن لتنقلها قوافل قريش إلى الشام عبر الصحراء.
ترى لماذا قوافل قريش على نحو الحصر والتعيين الجواب لأمتناع القبائل في الجزيرة عن سلب ونهب قوافل قريش الجواب من وجوه:
أولاً : قريش أولياء المسجد الحرام ، لينزل بعد أن اشتد تعدي وغزو الذين كفروا للمدينة قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ]( ).
ثانياً : حاجة القبائل العربية لزيارة مكة والبيت الحرام في موسم الحج ، وفي أيام العمرة التي تستغرق أيام السنة كلها ، وإذا كان أوان الحج في الأشهر الحرم ، فان العمرة تؤتى في الأشهر الحرم أو الأشهر الحل ، فان قلت قد ورد قوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ]( )، وأن النسبة بين أشهر الحج والأشهر الحرم لقوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ]( )، هي العموم والخصوص من وجه وليس التساوي.
والجواب هذا صحيح ، ولكن مناسك الحج تقع في الشهر الحرام وكذا المقدمة العقلية في قطع المسافة للحج والمغادرة والعودة منه ، إذ أن شهر ذي القعدة وذي الحجة من الأشهر الحرم.
لقد كانت أسواق العرب قبل الإسلام شاهداً على النظام والضبط الاقتصادي والأمني في المجتمعات ، من جهات :
الأولى : أوان انعقاد كل سوق من أسواق العرب .
الثانية : مكان ومحل كل سوق .
الثالثة : البضائع التي تعرض في كل سوق مثل الحبوب ، والأنعام والأسلحة ، والادم ، والطيب ، والورس ، والرقيق ، والخيل ، والحرير ، والذهب، والفضة ، والتمر.
الرابعة : سعة أو ضيق كل سوق من جهة الذين يقدمون إليه .
الخامسة : إنقساد أسواق العرب إلى قسمين :
الأول : الأسواق الثابتة التي تقام في المدن مثل مكة والمدينة والطائف ، ومثل سوق حجر اليمامة ، وسوق هجر وهي منطقة الإحساء وما حولها ، ويسمى سوق هجر آنذاك سوق التمر , لكثرة التمر الذي يعرض فيه .
الثاني : الأسواق الموسمية التي تقام في أيام معينة من كل سنة ، وتعقد أغلب هذه الأسواق في الأشهر الحرم ، ويسبق انعقادها أيام الحج.
السادسة : القبائل التي يفد أفرادها لكل سوق من هذه الأسواق .
السابعة : الرؤساء والقبائل الذين يقومون بحماية كل سوق من هذه الأسواق ، وحفظ النظام فيها .
الثامنة : الجهات والدول التي تأتي منها بضائع كل سوق.
التاسعة : سنخية السوق ، وما يتم تبادله وتداوله فيها ، فلم يكن نشاط هذه الأسواق مختصاً بالتجارة ، إنما يشمل أموراً :
الأول : القاء القصائد الشعرية والتحكيم فيه ، وكانت قبيلة تميم تستحوذ على التحكيم بين الأشعار في سوق عكاظ ، وممن كان يحضره ويقرأ قصائده فيه النابغة الذبياني.
الثاني : الخطابة والأدب .
الثالث : المواعظ .
الرابع : التفاخر بالأنساب ، وذكر الآباء ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: “كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقِفُونَ فِي الْمَوَاسِمِ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ: كَانَ أَبِي يُطْعِمُ وَيَحْمِلُ الْحَمَالاتِ، وَيَحْمِلُ الدِّيَاتِ، لَيْسَ لَهُمْ ذِكْرٌ غَيْرَ فِعَالِ آبَائِهِمْ .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ ” يَعْنِي: ذِكْرُ آبَائِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا( ).
الخامس : ذكر الشجاعة والأخلاق الحميدة مثل الكرم والإحسان والعفو والصبر .
السادس : فك الأسرى , فقد كانت بعض القبائل تغزو بعضها وتأسر بعض الأفراد وتسبي الصبيان والنساء خاصة عند العلم بأن رجال القبيلة غائبون عنها ، سواء كانت غيبتهم بسبب غزوهم لغيرهم أو طلباً للكلأ أو غيرها ، فلذا تعمر أسواق العرب أيام موسم الحج لأنها أشهر حرم يمتنع فيها العرب عن الغزو والقتال في آية ومعجزة من عند الله لرحمة الناس والتوطئة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد تقدم ذكر أسواق العرب في موسم الحج ، ومنها سوق عكاظ الذي يعقد بين مكة والطائف ، وهو في الأصل لقبيلة هوازن، وتحضره قريش ، وهوازن ، وخزاعة ، وغطفان ، والأحابيش وغيرهم .
ومدة انعقاد هذه السوق عشرون يوماً تبدأ من الأول من شهر ذي القعدة ، وهو اول الأشهر الحرم الثلاثة المتصلة ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ، إذ أن الشهر الحرام الرابع منفصل وهو شهر رجب ويقع بين شهر ربيع الثاني وشعبان.
ولذا تعمر أسواق مكة في موسم الحج مثل سوق المجنة ، وذي المجاز وبلحاظ الترتيب في إقامتها فهذه الأسواق لا تفتح وتقام في آن واحد ، إنما تقام على التوالي حتى يقترب الناس من مكة في أيام الحج .
لذا يكون سوق ذي المجاز آخر تلك الأسواق لأن موضعه قريب من عرفات ويبعد عن مكة 21 كم وتلتقي فيه قوافل التجار ومدته من أول ذي الحجة الى الثامن من شهر ذي الحجة ثم يحرم الناس للحج ليطوف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأسواق وهو ينادي (يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) مما كان يغيظ كفار قريش .
ومن الآيات أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء بنداء التوحيد الذي يلتقي فيه المسلمون والنصارى واليهود ، مما يدل على لزوم إجتماع الموحدين في الدعوة الى الله وفيه دعوة لهم لعدم نصرة كفار قريش في قتالهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قال الشاعر يذكر ذي المجاز :
أراكَ أخا رَحْلٍ وراحِلَة ٍ… تغشى متالفَ ، لن ينظرنك الهرما
حياكِ ربي ، فإنا لا يحلْ لنا … لهوُ النساءِ ، وإنّ الدينَ قد عزما
مشمرينَ على خوصٍ مزممة … نرجو الإلهَ، ونرجو البِرّ والطُّعَمَا
هَلاّ سألْتِ بَني ذُبيانَ ما حَسَبي… إذا الدّخانُ تَغَشّى الأشمَطَ البَرما
وهَبّتِ الرّيحُ مِنْ تِلقاءِ ذي أُرُلٍ …تُزجي مع اللّيلِ من صُرّادِها صِرَمَا
صُهبَ الظّلالِ أتَينَ التّينَ عن عُرُضٍ .. يُزْجينُ غَيْماً قليلاً ماؤهُ شَبِمَا
يُنْبِئْكِ ذو عرِضهِمْ عني وعالمهُم … وليسَ جاهلُ شيءٍ مثلَ مَن عَلِمَا
إنّي أُتَمّمُ أيساري، وأمْنَحُهُمْ … مثنى الأيادي ، وأكسو الجفنة َ الأدما
واقطعُ الخرقَ بالخرقاءِ، قد جعلتْ… بعدَ الكَلالِ، تَشكّى الأينَ والسّأمَا
كادَتْ تُساقِطُني رَحلي وميثرَتي…بذي المَجازِ، ولم تُحسِسْ به نَعَمَا
من قولِ حرِمِيّة ٍ قالتْ وقد ظَعَنوا: هل في مخفيكمُ من يشتري أدما
قلتُ لها ، وهيَ تسعى تحتض لبتها : لا تحطمنكِ ؛ إنّ البيعَ قد زرما
باتتْ ثلاثَ ليالٍ ، ثم واحدة ً…بذي المَجازِ، تُراعي مَنزِلاً زِيَمَا .
وكان العرب في الجاهلية يحرمون البيع والشراء بعد خروجهم من سوق ذي المجاز متوجهين إلى مكة , وسمي ذا المجاز لأن اجازة الحاج منه .
وعن ابن عباس قال : كانت عكاظ ومَجَنَّة، وذو المجاز أسواق الجاهلية، فتأثَّموا أن يتجروا في المواسم فنزلت [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ] في مواسم الحج( ).
وبقيت هذه الأسواق في أيام النبوة وأيام الصحابة عن مجاهد في قوله [بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( )، إلى أهل العهد خزاعة ومدلج ومن كان له عهد وغيرهم .
أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ منها فأراد الحج ، ثم قال : إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك ، فأرسل أبا بكر رضي الله عنه وعلياً رضي الله عنه فطافا في الناس بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يبيعون بها وبالموسم كله .
فآذنوا أصحاب العهد أن يأمنوا أربعة أشهر وهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات ، عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر تخلو من ربيع الأوّل ، ثم عهد لهم وآذن الناس كلهم بالقتال إلى أن يموتوا( ).
فكان عمه أبو لهب يجري وراءه وهو ينادي هذا كذاب لا تصدقوه.
ومن العرب من يروي أنه رأى أبا لهب في السوق يرمي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحجارة لتسيل الدماء من رجليه .
وفي السنوات الأخيرة حدد الخبراء موضع سوق عكاظ قرب الطائف , وينشط ذو الإختصاص لإحيائه وعمارته بحلة بهيجة .
ويحتاج العرب هذه الأسواق ليجلبوا بضاعتهم إليها وليتسوقوا منها إذ كانت البضائع تأتيها من كل من جهات :
الأولى : التجارة من الشام ومنها الحبوب من الحنطة والشعير .
الثانية : الحيرة إذ كان النعمان بن المنذر يبعث البضائع لتباع فيها ، والظاهر أن ذكر النعمان في المقام يراد منه المعنى الأعم لتشمل تجار الحيرة وبعثهم التجارات الى أسواق مكة .
الثالثة : التجارة والبضائع التي تأتي من داخل مكة مثل الأدم ، والبضائع التي يشتريها تجار مكة ويدخرونها للموسم.
الرابعة : ما تأتي به القبائل من الخيل والإبل والحمير للبيع في أسواق مكة .
الخامسة : ما يأتي من الهند من التجارات والسيوف والدروع والعطور لذا فمن أسماء السيف المهند ، والهنداوي.
لقد كانت أسواق مكة في موسم الحج عامرة بالبضائع وهي مناسبة لإلقاء القصائد والمنتديات الأدبية والتباري في الشعر والتفاخر بالإنساب.
فجاءت آيات القرآن يتلوها عليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتأكل تلك الأصوات كما تلقفت عصا موسى ما كانوا يأفكون ، قال تعالى [وَأَلْقِ عَصَاكَ]( )، لبيان أن معجزة موسى عليه السلام معجزة حسية ظاهرة .
ومعجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة عقلية جعلت العرب في حال من الدهشة والذهول والتسليم بأن آيات القرآن فوق كلام البشر في اللفظ والرسم والمعنى والدلالة .
لقد كانت خشية قريش على قوافلها أعم من الأمور الإقتصادية والإستحواذ على الأموال والبضائع والإبل التي تحملها ، إذ تشمل الرجال من قريش الذين يصاحبون القافلة ، ويكون عددهم كثرة وقلة حسب عدد العير التي فيها ، فمثلاً كان في قافلة أبي سفيان (ثلاثون رجلا من قريش أو اربعون منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص ، وقال ابن عقبة وابن عائذ في أصحاب أبي سفيان هم سبعون رجلا وكانت عيرهم الف بعير)( ).
وإذا كان هناك ثأر في المقام فان المسلمين أولى بأخذ الثأر لتوالي وتراكم ايذاء كفار قريش لهم ، وسقوط قتلى منهم تحت التعذيب في مكة منهم ياسر وسمية أبوا عمار بن ياسر ، وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم الولاية وطلب الدم في المقام لعمومات قوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ]( )، ومع هذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان صابراً محتسباً ، ويدعو المسلمين الى الصبر ويحثهم على الدعاء.
ومن خصائص الصلاة أنها دعاء اسماً ومسمى وموضوعاً ودلالة الى جانب ما فيها من تلاوة آيات القرآن التي هي دعاء بصيغة القرآنية كما في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً ليقضي على الثأر والعادات المذمومة وأول ما بدء به إمتناعه عن الثأر لنفسه ولأهل بيته وأصحابه وأسقط أموال الربا في حجة الوداع.
وعن جابر بن عبد الله قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج ، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج ، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعمل بمثل عمله.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد ، ثم ركب القصواء حتى استوت به ناقته على البيداء ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله ، فما عمل به من شيء عملنا به ، فأهلّ بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
وأهلّ الناس بهذا الذي تهلون به ، فلم يرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً منه.
ولزم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلبيته حتى أتينا البيت معه ، استلم الركن فرمل( )، ثلاثاً ومشى أربعاً ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }( ).
فجعل المقام بينه وبين البيت ، فصلى ركعتين يقرأ فيهما بقل هو الله أحد ، وبقل يا أيها الكافرون ، ثم رجع إلى البيت فاستلم الركن ، ثم خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا من الصفا قرأ { إن الصفا والمروة من شعائر الله}( ) .
فبدأ بما بدأ الله به ، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فكبر الله وحده وقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ثم دعا بين ذلك وقال : مثل هذا ثلاث مرات .
ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه رمل في بطن الوادي حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة ، فصنع على المروة مثل ما صنع على الصفا حتى إذا كان آخر الطواف على المروة قال : إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلل وليجعلها عمرة ، فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن كان معه هدي ، فلما كان يوم التروية( )، وجهوا إلى منى أهلوا بالحج ، فركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح ، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقبة له من شعر فضربت بنمرة .
فسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تشك قريش أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ، فاجاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها حتى إذا غربت الشمس أمر بالقصواء( )، فرحلت .
فركب حتى أتى بطن الوادي فخطب الناس فقال : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة وأول دم أضعه دم عثمان بن ربيعة بن الحرث بن المطلب ، وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ، اتقوا الله في النساء أخذتموهن بامانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف .
وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله ، وأنتم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
قال : اللهم اشهد.
ثم أذن بلال ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً.
ثم ركب القصواء حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات( )، وجعل جبل المشاة بين يديه ، فاستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حين غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه فدفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله وهو يقول بيده اليمنى : السكينة أيها الناس كلما أتى جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى صعد حتى أتى المزدلفة ، فجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً ، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبين له الصبح .
ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام ، فرقى عليه فاستقبل الكعبة فحمد الله وكبره وَوَحَّدَهُ ، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ، ثم دفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتى محسراً( )، فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى الذي تخرجك إلى الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة عند الشجرة ، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها ، فرمى بطن الوادي ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المنحر ، فنحر بيده ثلاثاً وستين ، وأمر علياً ما غبر( )، وأشركه في هديه ، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت ، فأكلا من لحمها وشربا من مرقتها ثم ركب.
ثم أفاض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى البيت فصلى بمكة الظهر ، ثم أتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال : انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ، فأدلوه دلواً فشرب منه( ).
وهل تكون الصلاة برزخاً دون الغزو ، ومانعاً من التعدي والظلم ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) ويحتمل هذا البرزخ والمنع وجوهاً:
الأول : منع الصلاة للمسلمين من الغزو .
الثاني : حجب الصلاة للمسلمين من التعدي عليهم بفضل من الله عز وجل .
الثالث : الصلاة ولجوء واستغاثة بالله عز وجل للنجاة من الظلم وهي آمن من غزو المشركين للمسلمين , لتكون من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( ) .
الرابع : دلالة الآية أعلاه على صيرورة المسلمين متحدين في مواجهة غزو وتعدي المشركين بما يبعث الفزع والخوف في قلوبهم .
ومن الإعجاز في الصلاة أن كل فعل من أفعالها وركن من أركانها يدل على إرادة التضحية والفداء في سبيل الله من جهات :
الأولى : تكبيرة الأحرام وما فيها من التسليم بملكية الله عز وجل المطلقة للكائنات ، وفي التنزيل [بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ]( ).
الثانية : القيام بين يدي الله بخشوع وخضوع ، ودلالة على عدم الخشية أو الخوف من الذين كفروا ، قال تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) ليكون القيام في الصلاة على نحو الإنفراد أو الجماعة شاهداً يتجدد خمس مرات في اليوم على خشية وخوف المسلمين والمسلمات من الله .
وهل يجازيهم الله عز وجل على هذا الخوف بالعاجل والدنيا أم ينحصر الجزاء والثواب في الآخرة بلحاظ الدنيا دار عمل وابتلاء وأن الآخرة دار حساب وثواب .
والصحيح هو الأول ، فان الله عز وجل يجازي المسلمين جزاء عاجلاً ليكون مقدمة ومرآة وبشارة للجزاء الأخروي ، قال تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ) .
وفي الوقوف بين يدي الله عز وجل دعوة للمسلمين لعدم الهمّ بالغزو ، لأنه إنقطاع إلى الله ورضا بفضله وغبطة بالإيمان ، وفيه زجر للمشركين من غزو المسلمين ، وهو من الإعجاز في تشريع صلاة الخوف ، إذ كان سبب النزول وعلة التشريع أن المشركين أرادوا أن يجهزوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في صلاة الظهر ، فقيل لهم عندهم صلاة أحب إليهم من هذه وهي صلاة العصر .
فانتظر جيش المشركين تلك الصلاة وهيئوا خيولهم للهجوم ، ومباغتة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار في حين انشغالهم بالصلاة فنزل قوله تعالى [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا] ( ) .
فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم باصحابه صلاة العصر ركعتين وعن مجاهد في الآية أعلاه قال : أنزلت يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان والمشركون بضجنان ، فتوافقوا فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربعاً ، ركوعهم وسجودهم وقيامهم معاً جمعاً ، فهم به المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم ، فأنزل الله [فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ]( ).
فصلى العصر ، فصف أصحابه صفين ، ثم كبر بهم جميعاً ، ثم سجد الأولون لسجوده والآخرون قيام لم يسجدوا حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم كبر بهم وركعوا جميعاً ، فتقدم الصف الآخر واستأخر الصف المقدم ، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أول مرة ، وقصر العصر إلى ركعتين ( ).
الثالثة : تلاوة المسلم آيات القرآن في كل ركعة من الصلاة على نحو الوجوب العيني ، وهذه التلاوة على قسمين :
أولاً : القراءة التعيينية ، بوجوب قراءة سورة الفاتحة في الركعة من الصلاة ، لتكون هذه القراءة عنوان الوحدة بين المسلمين ، وهل هي من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
الجواب نعم وفيها حرب على الطائفية والمذهبية ، ومانع من الفرقة والشقاق بين المسلمين إذ تدل تلاوة المسلمين كل يوم لسورة مخصوصة من القرآن في الصلاة وهي سورة الفاتحة على تجدد معاني هذه الوحدة في كل يوم خمس مرات.
ثانياً : القراءة الإختيارية بأن يقرأ المسلم بعد الفاتحة أي سورة أو آيات من القرآن ، لتكون آيات القرآن حاضرة في الوجود الذهني والواقع اليومي للمسلمين ، وليبقى القرآن غضاً طرياً ، وتكون التلاوة في الصلاة دعوة للتدبر في التنزيل وإعجازه ، وحجة على الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
وتحتمل التلاوة بلحاظ موضوع الغزو أو عدمه وجوهاً :
أولاً : منع التلاوة في الصلاة المسلمين من الغزو .
ثانياً : الصلاة حاجب وبرزخ دون سعي المشركين لغزو المسلمين.
ثالثاً : بعث التلاوة وموضوعيتها في الصلاة النفرة في النفوس من الغزو وسفك الدماء .
والجواب كل هذه الجهات من مصاديق وعلل وفيوضات تلاوة القرآن في الصلاة ، وعندما احتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، أجابهم الله عز وجل بالقول [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ليكون من علم الله عز وجل تلاوة المسلمين والمسلمات كلام الله تعالى في الصلاة اليومية بما يبعث على تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات ، وإعانة الناس على دفع الغزو والإقتتال والقتل العشوائي ونحوه .
الرابعة : حال الخضوع والخشوع الذي يظهر على المسلم طوعاً وقهراً وانطباقاً عند وقوفه بين يدي الله للصلاة ، سواء كان مرسلاً ليديه أو واضعاً يده اليمنى على اليسرى تحت السرة.
وعن معاوية بن الحكم السلمى قال : لما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم علمت امورا من امور الاسلام فكان فيما علمت ان قيل لي إذا عطست فاحمد الله وإذا عطس العاطس فحمد الله فقل يرحمك الله .
قال فبينا انا قائم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلوة إذ عطس رجل فحمد الله فقلت يرحمك الله رافعا بها صوتي فرمانى الناس بابصارهم حتى احتملني ذلك فقلت ما لكم تنظرون الي باعين شزر قال فسبحوا .
فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلوة قال من المتكلم قيل هذا الاعرابي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : انما الصلوة لقراءة القرآن وذكر الله فإذا كنت فيها فليكن ذلك شأنك فما رأيت معلما قط ارفق من رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
لبيان قانون وهو لزوم عناية المسلم بصلاته وضبطها وعدم الإنشغال اثناء الصلاة بأمر أو كلام خارجها .
وفي الصلاة إنقطاع إلى الله ، ومنع لليد من البطش والجور والتعدي للتضاد بين الحالتين ، وهو شاهد على أن الصلاة مدرسة الأخلاق الحميدة ، وأمارة متجددة على التقوى ، وتعاهد المسلمين لها خمس مرات في اليوم ، ليكون هذا التعاهد من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
في الطريق إلى معركة أحد
لقد كانت معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية تترى ، فلما وقعت معركة بدر تجلت فيها معجزة ظاهرة للناس جميعاً ، فأدرك ساكنوا مكة وأهل موسم الحج قانون المدد والنصر الإلهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم معركة بدر .
وعن ابن عباس قال : كان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة وكان أبو اليسر رجلا مجموعاً وكان العباس رجلا جسيماً .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر : يا أبا اليسر كيف أسرت العباس ، فقال : يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده ، هيئته كذا وكذا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أعانك عليه مَلَك كريم( ).
لقد كان سعي كفار قريش لمعركة أحد أكبر من مسألة الثأر ، إنما ارادوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ومنع نزول القرآن وإقامة الفرائض , وفي التنزيل [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى]( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يرسل إلى قريش بعد معركة بدر يطلب الصلح أو يعرض عليهم دفع ديات قتلاهم ، إنما توالى نزول آيات القرآن التي تتضمن دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة النصر وهدايتهم إلى سبل توزيع الغنائم ، وإصلاح حالهم ، وحث الناس على دخول الإسلام .
ومن الإعجاز في الآيات التي تخص معركة بدر مسائل :
الأولى : تأكيد نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في المعركة .
الثانية : زيادة إيمان المسلمين ، وفي التنزيل [وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ]( ).
الثالثة : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل .
الرابعة : تجلي المعجزة من وجوه :
الأول : مقدمات معركة بدر .
الثاني : وقائع وأحداث معركة بدر .
الثالث : نتائج معركة بدر .
الخامسة : هداية الناس للإسلام .
فمقدمات معركة بدر ووقائعها وما تترشح عنها تدعو الناس للإيمان ، والإمتناع عن محاربة النبوة والتنزيل ، فلذا بذلت قريش الأموال الطائلة والتأثير على القبائل لتحريضها على قتاله .
لتتجلى المعجزة في صفوف جيش المشركين بانعدام الحماس عندهم للقتال ، لذا انتهت معركة أحد في ذات اليوم الذي ابتدأت فيه مع حدوث جولة للذين كفروا أثر ترك الرماة المسلمين مواضعهم من خلف جيش المسلمين بعد أن كانت الغلبة في بداية المعركة للمسلمين ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا]( ).
لقد كانت قريش تجتمع في دار الندوة الملاصقة للمسجد الحرام ليتبادلوا الرأي ويتخذوا القرارات المناسبة أو لذكر وقائع العرب وأشعارهم أو للإستعداد لموسم الحج وإعانة الملهوف ونصرة المظلوم.
وكثرت اجتماعاتهم ومشاوراتهم بعد معركة بدر ، ولكن كان الغيظ ظاهراً عليهم , وتستحوذ عليهم النفس الغضبية، المقرونة بالخيبة والحسرة .
وأظهر عدد من رؤساء قريش الحماس للحرب على المسلمين وتجهيز الجيوش لقتالهم ، ومنهم عكرمة بن أبي جهل وأبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وأيدهم الذين وتروا في معركة بدر ، وصدح الشعراء وأخذت النسوة بتحريض الرجال على القتال .
وطافوا على أرباب الأموال في قافلة أبي سفيان التي وصلت إلى مكة أوان معركة بدر ، وقالوا لهم أن محمداً وتركم وقتل رجالكم فاجعلوا أرباح أموالكم التي في القافلة عوناً لنا في قتاله والثأر منهم ومن أصحابه.
وبيّنوا لهم أن هذه المعركة توطئة لضمان سير القوافل بين مكة والشام ومنع تعرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لها ، فوافقوا على هذا الطلب وكان مجموع الأموال التي في القافلة خمسين ألف دينار ، وكذا أرباحها ، أي أنهم كانوا يربحون بالدينار ديناراً وهو من الشواهد والدلالات على ذكر القرآن لرحلة الشتاء الصيف اللتين كانت قريش تقوم بهما لبيان النفع العظيم من شي.
وكان العرب يتداولون عملة من الدنانير الذهبية يصكها الروم البيزنطيون ، والدينار مثقال ذهب عيار (18) حبة ، ولم يتغير وزنه حتى عندما ضرب عبد الملك بن مروان الدنانير الإسلامية ، والمثقال الواحد(4،24 )غرام فيكون قيمة ومجموع المبالغ التي في القافلة هو أكثر من مائتي كيلو ذهباً.
وذكر أن أشراف قريش وأرباب الأموال التي في القافلة هم الذين مشوا إلى أبي سفيان عندما كانت العير التي قدم بها من الشام موقوفة في باب دار الندوة وقالوا (نحن طيبوا الأنفس بأن تجهز بربح هذه العير جيشاً إلى محمد، فقال أبو سفيان: أنا أول من أجاب إلى ذلك، وبنو عبد مناف معي، فباعوها فصارت ذهباً، وكانت ألف بعير، وكان المال خمسين ألف دينار، فسلم إلى أهل العير رؤوس أموالهم) ( ).
(وقالوا: لما رجع من حضر بدرا من المشركين إلى مكة وجدوا العير التي قدم بها أبو سفيان بن حرب موقوفة في دار الندوة، فمشت أشراف قريش إلى أبي سفيان فقالوا: نحن طيبوا أنفس إن تجهزوا بربح هذه العير جيشا إلى محمد، فقال أبو سفيان: وأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي؛ فباعوها فصارت ذهبا فكانت ألف بعير والمال خمسين ألف دينار، فسلم إلى أهل العير رؤوس أموالهم وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يربحون في تجارتهم للدينار دينارا)( ).
هذا من أرباب القافلة وحدهم عدا ما تبرع به غيرهم من قريش وهل سخر كفار قريش من أموال تولية المسجد الحرام ، الأقوى نعم، لتقوم الحجة عليهم، وليكون من مصاديق قوله تعالى[وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
أي أن الذي تم تسخيره لمعركة أحد ليس مجموع الأموال التي في القافلة إنما خصوص أرباحها .
ومما زاد من خنق قريش توالي خسارتهم وخيبتهم حتى بعد معركة بدر إذ رجع أبو سفيان وأصحابه من غزوة السويق بحال وهيئة تبعث على القنوط والخيبة منها :
الأولى : عدم تحقيق أبي سفيان أي نصر أو غلبة .
الثانية : وقوف أبي سفيان عند أطراف المدينة ، وعجزه عن الإضرار بالمسلمين .
الثالثة : فرار أبي سفيان وأصحابه .
الرابعة : ترك أبي سفيان وأصحابه سويقاً كثيراً للتخفيف عنهم في طريق الفرار ، فلا يقدرون على القول أنهم انسحبوا باختيارهم لأن طرحهم الأثقال شاهد على إرادتهم الفرار .
الخامسة : قيام أبي سفيان وأصحابه بحرق عدد من النحيل وصغارها حول المدينة ، وهو عمل لا يدل على الشجاعة .
السادسة : شيوع نبأ خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف أبي سفيان ومن معه ، ليفروا أمامهم ، ولم يحضر أبو سفيان معركة بدر ولم يذق طعم الخسارة بها ، فكان فراره وأصحابه في السويق أمارة على حال الوهن والضعف التي صارت عليها قريش ، وصار سبباً في خزيه.
السابعة : لقد كانت غزوة أبي سفيان ضد المسلمين في السويق في شهر ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة ، وهو من الأشهر الحرم ، ومناسبة لحج بيت الله الحرام ، وبينها وبين معركة بدر ثلاثة شهور.
وهل ينحصر إنفاق قريش على لوازم وأسلحة معركة أحد بأموال هذه القافلة ، الجواب لا ، فقد كان كبار رجالات قريش ينتفعون من أموالهم الخاصة لا سيما الذين فقدوا بعض ذويهم ، فاستدعى صفوان بن أمية أبا عزة عمرو بن عبد الله الجمحي.
وقال (إنك إمرؤ شاعر فأعنا بلسانك فاخرج معنا فقال إن محمدا قد منّ علي فلا أريد أن أظاهر عليه.
فقال بلى فأعنا بنفسك فلك الله إن رجعت أن أغنيك وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر) ( ).
فامتنع لأنه كان أسيراً في معركة بدر فاشتكى إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثرة عياله وفقرة وعجزه عن دفع بدل فكاكه من الأسر ، فاطلقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأشترط عليه إلا يظاهر عليه أحداً ولكن صفوان عرض عليه الأموال ووعده بأنه يغنيه إن رجع سالماً ، أما إذا قتل فانه يضم بناته إلى بناته وعياله ، فخرج أبو عزة ليسير في تهامة ويلقي قصائده في بني كنانة يدعوهم لنصرة قريش ، ويحرضهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وخرج مسافع بن عبد مناف من بني جمح إلى بني مالك بن كنانة يحثهم على حروب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : سعي قريش لتأمين طرق قوافلها المتوجهة من مكة إلى الشام وإلى اليمن وبالعكس ، وأيهما أكثر حركة وتجارة في قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ).
من الطرق التي تسلكها قوافل قريش وهي :
الأول : طريق مكة الشام التجارية .
الثاني : طريق الشام مكة .
الثالث : طريق مكة اليمن .
الرابع : طريق اليمن مكة .
الخامس : طريق الشام اليمن .
السادس : طريق اليمن الشام .
السابع : طريق مكة الحيرة وبلاد فارس .
الثامن : طريق الحيرة وبلاد فارس إلى مكة .
المختار أن الثاني أعلاه هو أكثر هذه الطرق تجارة وبضائع ،إذ تأتي الإبل من الشام إلى مكة محملة بالبضائع حيث أن مكة محلا للتسوق من قبل أهلها والقبائل المحيطة بها إلى جانب قيام التجار بتبادل البضائع في أسواق مكة أيام الموسم .
فقد كان القتال والثأر منتشراً بين العرب , وليس من أسواق مزدهرة عندهم أحسن وأكثر من أسواق مكة أيام الموسم لاقتران أمور وهي :
أولاً : موسم الحج وتوجه الناس لحج بيت الله الحرام ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
ثانياً : الأمن ونزع السلاح في شهرين من أشهر الحج ، وهما ذي القعدة وشهر ذي الحجة.
ثالثاً : جريان العادة بالبيع والشراء في موسم الحج وشراء الناس الحبوب ومؤونة السنة أو عدة أشهر منها من أسواق مكة .
رابعاً : أسواق مكة مناسبة للبيع ولتصريف البضائع والأسلحة والأنعام والخيول بأسعار مناسبة .
خامساً : إتخاذ الأدباء والشعراء أسواق مكة لألقاء القصائد والتباري في الاشعار وذكر الأمجاد والبطولات ، فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة في المقام وهي قيامه بتلاوة آيات القرآن في أسواق مكة ، فجذب انتباه الناس ، وصاروا يتفكرون في دلالاتها , وكسدت تجارة الشعر والتفاخر والتباهي بالقتال والقتل وبان للناس القبح الذاتي للهجاء وذم الآخرين .
إذ تخاطب آيات القرآن الناس جميعاً بصيغة الإكرام المقترن بالجنان لمن آمن بالله والوعيد بالنار لمن أصرّ على عبادة الأوثان .
ليكون نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أسواق مكة بكلمة التوحيد دعوة للناس جميعاً للإيمان وبالإسناد (عن طارق بن عبد الله المحاربي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرتين: مرةً بسوق ذي المجاز وأنا في بياعة لي، فمر وعليه حلة حمراء، وهو ينادي بأعلى صوته: ” يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا ” ورَجُل يتبعه بالحجارة قد أدمى كعبيه وعرقوبيه، وهو يقول: يا أيها الناس لا تطيعوه، فإنه كذاب.
قلت: مَنْ هذا؟ قالوا: غلام بني عبد المطلب. قلت: فمن هذا الذي يتبعه يرميه بالحجارة ، قالوا: هذا عمه عبد العزى وهو أبو لهب) ( ).
ويقع سوق ذي المجاز بالقرب من مكة وهو آخر الأسواق التي يجتمع فيها الناس في موسم الحج وهو قريب من عرفات ، ويقع سوق ذي المجاز على يسار القادم من مكة إلى عرفة في شعب يسيل من جبل كبكب الذي يحده من الشرق والجنوب والشمال ، وجبل قرضه والمغمس من الغرب .
ويبعد موقع هذا السوق عن البيت الحرام نحو واحد وعشرين كيلو متر ، وهو من أشهر أسواق العرب في الجاهلية ، ويرد له أهل مكة وأفراد القبائل ويبدأ الإجتماع فيه من أول ذي الحجة إلى اليوم الثامن منه .
وبالإسناد عن ربيعة بن عباد الدؤلي قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية بسوق ذي المجاز وهو يقول : يا أيها الناس ، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا.
قال : يرددها مرارا والناس مجتمعون عليه يتبعونه ، وإذا وراءه رجل أحول ذو غديرتين وضيء الوجه يقول : إنه صابئ كاذب ، فسألت : من هذا ؟ فقالوا : عمه أبو لهب) ( ).
والغديرة ضفيرة الشعر ، والوضئ البهي الحسن .
ولم يكتف أبو لهب بنعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه صابئ أي ترك دين قومه ، ووصفه بانه كذاب لمنع الناس من الإنصات له والتدبر في معجزاته , وفي التنزيل [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]( ).
ويتضمن الخبر أن كل الذين يمّر عليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السوق يسمعونه ولعدة مرات ينطق بكلمة التوحيد .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينادي بأعلى صوته بكلمة التوحيد بين القوم المشركين ، وعمه يدمي قدميه ، ليجازيه الله عز وجل بفصول الأذان ينادي بها خمس مرات في مشارق ومغارب الأرض في معجزة حسية يومية متجددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد أمر الله عز وجل إبراهيم بالنداء للحج بقوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( )، لينعم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل الأرض بأن ينادى للصلاة في المدن والقرى والبراري خمس مرات في اليوم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمر بسوق ذي المجاز وهو على بعير وعليه برد أحمر مما يدل على تعدد المرات التي كان ينادي بها في السوق بكلمة التوحيد ، وهذا التعدد من وجوه :
الأول : التعدد في ذات كل يوم من أيام السوق الثمانية ، وهي من الأول إلى الثامن من ذي الحجة .
الثاني : توالي نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكلمة التوحيد في أيام السوق .
الثالث : تكرار قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنداء في سوق ذي المجاز في سني الدعوة الأولى .
الرابع : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنداء بكلمة التوحيد في أسواق مكة الأخرى في ذي المجاز مثل سوق عكاظ والمجنة ، لتكون الأشهر الحرم ومناسك الحج مناسبة للدعوة إلى الإسلام ، وفيها زاجر للناس عن نصرة قريش في قتالها مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان قلت قد زحفت قريش ثلاثة آلاف رجل في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة ، وعشرة آلاف في معركة الخندق.
والجواب نعم هذا صحيح ، ولكن ترشح عن مواظبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على النداء بكلمة التوحيد ، وتوالي نزول آيات القرآن أمور :
الأول : تناقل الناس لأخبار النبوة ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : ميل الناس بالفطرة الى التنزيل ، والتدبر في معاني ودلالات آيات القرآن ، وإنكار إيذاء كفار قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه وأهل بيته وأصحابه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ]( )، ليكون من واجبات السمع والبصر والحواس عند عامة الناس الميل إلى النبوة والتنزيل .
الثالث : صيرورة آيات القرآن حديث أسواق مكة ، ومن فضل الله أن هذه الأسواق في الأشهر الحرم ، فلا يقدر عتاة الكفر البطش بالذين آمنوا ، أو منعهم من تلاوتها في الأسواق ، وهذه الأسواق خارج حدود بلدة مكة .
ولم يصل العمران إلى أكثرها حتى يومنا هذا ، وفيه مسائل :
الأولى : يجوز عقد ندوة فكرية في موضع سوق ذي المجاز لبيان صبغة السوق وكيفية وأثر نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكلمة التوحيد .
الثانية : إعداد دراسات ماجستير ودكتوراه خاصة بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سوق ذي المجاز وأثرها ، وما في هذه الدعوة من الموعظة والعبرة.
الثالثة : وجود مسلمين في أسواق الموسم وأسواق مكة خاصة يبلغون الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويبينون لهم الدلائل على صدق نبوته.
وهل هو من عمومات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] ( ) أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه خصوص تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأحكام والأوامر والنواهي أو خصوص أسباب نزول الآية أعلاه .
المختار هو الأول ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا بلغوا ما أنزل إلى الرسول ، ومن إعجاز القرآن إخباره عن نزول الآيات ، قال تعالى في خطاب للمسلمين [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
قانون تعاقب قتل حملة لواء المشركين
لقد نزلت بمعركة بدر مصائب بقريش لم يتعرضوا لمثلها لبيان قانون للناس جميعاً وهو أن الذي يحارب النبوة والتنزيل يحل بداره البلاء وتصاحبه الحسرة والأسى.
نعم جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار التدارك والأمل ، فكان الأولى بقريش الوقوف عند معركة بدر والتدبر بمسألة قتل أشرافهم فيها وصيرورة إصرارهم على القتال فيها نوع طريق لنشر الإسلام ، وكان رجالات قريش يتخذون من دار الندوة في مكة محلاً للقرار والإتفاق ومنبراً للبيان ، مثلما يذكرون فيها الوقائع والأحداث وأخبار القبائل والأشعار التي توثقها ، وتأريخ الأمم ، ولكنهم لم يتعظوا مما أصابهم ، ولم يكفّوا عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
فان قلت إن تأمين طريق التجارة بين مكة والشام يملي عليهم القتال ، الجواب لا دليل على هذه الملازمة .
لذا اضطروا إلى عقد صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة وبعد غزوهم المسلمين وقتالهم لهم في كل من :
الأولى : معركة بدر .
الثانية : معركة أحد .
الثالثة : معركة الخندق .
ومن شروط هذا العقد منع الحرب والقتال بين المسلمين والمشركين لمدة عشر سنوات متتالية ، وعدم جواز الاعتداء على الأشخاص والقبائل .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ حريصاً على موادعة وصلح معهم ليس من خوف منهم ، ولكن لتعظيم شعائر الله ، ومنع سفك الدماء .
وعن المسور بن مخرمة في حديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم الحديبية (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) ( ).
لقد انكسرت شوكة قريش في معركة بدر ، وقلّ شأنها بين القبائل ، وأدركوا تعرض تجارتهم للكساد ، وتردد التجار في بلاد الشام وفارس في إقراضهم وبيعهم بالسلف بعد دخولهم الحرب وخسارتهم .
وكانت خسارة قريش في معركة بدر وما بعدها على وجوه :
الأول : النقص في الرجال .
الثاني : فقد بعض الأشراف والوجهاء .
الثالث :وقوع سبعين من رجال قريش أسرى بيد المسلمين .
ولم تشهد الجزيرة في تلك السنين مثل هذا الأمر من جهات متعددة منها :
الأولى : وقوع عدد من كبار رجال قريش قتلى في أول ساعة من المعركة .
الثانية : كثرة عدد الأسرة وهو سبعون أسيراً .
الثالثة : قانون إعجاز النبوة بخصوص أسرى بدر ، وهو الذي نبينه تفصيلاً في الجزء الثمانون بعد المائة من التفسير.
الرابعة : سرعة انهزام الذين كفروا من ميدان المعركة مع أنهم هم الذين اختاروا أوانها ومكانها ونشوبها.
الرابع : ضياع الأموال من جهات :
الأولى : الأموال التي انفقها كفار قريش على معركة بدر ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] ( ).
وذكر في أسباب نزول الآية أعلاه (نزلت في أبي سفيان بن حرب حيث أنفق على المشركين يوم أُحُد أربعين أوقية وكانت أوقيته اثنين وأربعين مثقالاً.) ( ) وقيل نزلت في أبي سفيان لأنه استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش وغيرهم لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
(قال مقاتل والكلبيّ نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثنى عشر رجلاً :
الأول : أبو جهل عمرو بن هشام ، نحر أول يوم عشرة من الإبل .
الثاني : عتبة بن ربيعة .
الثالث : شيبة بن ربيعة ، نحر عشرة من الإبل .
الرابع : نبيه بن حجّاج
الخامس : منبه بن حجّاج
السادس : أبو البحتري العاص بن هشام .
السابع : النضر بن الحرث .
السابع : حكيم بن حرام .
الثامن : أبيّ بن خلف ، نحر تسعاً ، وقيل أن المطعم هنا هو أمية بن خلف.
التاسع : زمعة بن الأسود .
العاشر : الحارث بن عامر بن نوفل .
الحادي عشر : العباس بن عبد المطلب .
الثاني عشر : سهيل بن عمرو .
وكلهم من قريش وكان يطعم كلّ واحد منهم كل يوم عشر جزائر) ( ).
وقد تقدم أبي بن خلف أطعم تسعاً ولعل التباين من جهة سنّ وسمن الإبل ، وقد حدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدد أفراد جيش قريش يومئذ بالتباين في اعداد الإبل التي ينحرون فيوم ينحرون عشراً ، ويوم آخر ينحرون تسعاً .
وقيل لم تطعم قريش من طعام العباس لعلمهم بهواه وميله الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخروجه مكرهاً( ).
ولا دليل على هذا القول .
ولما أراد أبو سفيان أن يثأر لخسارتهم في معركة بدر هجم على أطراف المدينة في غزوة السويق في مائتي راكب من قريش ولم يكسب فيها إلا الخسارة والخزي ، لتكون إنذاراً آخر لقريش ، ودعوة لهم للتروي والتدبر والمناجاة بالحكمة ، ولكن الكفر وعبادة الأوثان أسباب للزلل والهوان ، فجمعت قريش الجيوش وتوجهوا لغزو المدينة في معركة أحد بثلاثة آلاف رجل ومعهم النساء لأمور :
الأول : قيام النساء بالتحريض على القتال .
الثاني : محاماة وذب الرجال عن النساء .
الثالث : إمتناع الرجال من الفرار وترك النساء .
الرابع : بيان رؤساء الجيش لثقتهم بالنصر والغلبة .
ولم يعلموا أن الخزي يلحقهم ومن معهم ممن آزروهم على محاربة النبوة والتنزيل .
وزحفت قريش وجنودهم من مكة حتى قاربوا المدينة فنزلوا عند موضع يسمى عينين قريباً من جبل أحد يوم الأربعاء ليبقوا فيه إلى أن خرج لهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعد صلاة الجمعة ، وكأنهم بمكثهم في ذات الموضع يخيرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بين الخروج لقتالهم أو غزوهم المدينة ، إذ لا يعقل أن يبقى ثلاثة آلاف رجل مدججين بالسلاح في ذات الموضع مدة مديدة مع قصدهم الثأر والبطش وهم يتوعدون بالإنتقام لمعركة بدر قبل خروجهم من مكة ، وفي الطريق إلى ميدان المعركة .
وفيه شاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد الغزو ، ولم يرغب وأصحابه بالقتال.
لقد كانت الأخبار تصل إلى المدينة بأن قريشاً يستعدون للهجوم ويحشدون الجيوش ، ولم يعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النفير.
ويسمي علماء السيرة والتفسير معركة أحد غزوة أحد ، وصحيح أنها غزوة ، ولكن ليس حيث يذهبون إنما هي غزوة من المشركين ، وبتبختر وزهو وحب للإنتقام منهم ، لقد جاءت جيوش لا قبل للمدينة بها ثلاثة آلاف رجل يطلون عليها باسلحتهم .
وفي معركة بدر التي وقعت قبل معركة أحد بثلاثة عشر شهراً توجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل بالدعاء والتوسل والشكوى لما رآى جيوش قريش وقال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ! اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم أحنهم الغداة( ).
فهل يختص هذا الدعاء بمعركة بدر أم يشمل معركة أحد والخندق أيضاً الجواب هو الثاني لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، ولأنه في كل مرة يكون الغزاة هم قريش .
ولم يكن كل أهل المدينة مسلمين بل كان فيهم اليهود بقبائلهم بني النضير وبين قريظة وبين قينقاع ، وفيها الكفار والمنافقون ، وعندما سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجيشه لملاقاة الذين كفروا في معركة أحد انخزل ثلث الجيش من وسط الطريق بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
وهل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعلم وبالوحي بأن المنافقين سينسحبون من وسط الطريق أم لا .
الأقرب هو الأول ، ومنهم من يظهر عداءه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقول أو الفعل , وفي طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد حيث لم يبق معه الا سبعمائة من أصحابه إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : من رجل يخرج بنا على القوم من كثبٍ، من طريق لا يمر بنا عليهم ؟ فقال أبو حثمة أخو بني حارثة بن الحارث: أنا يا رسول الله، فقدمه فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم ( )، بحرة بني حارثة ، فمرّوا بمال( ) يعود لرجل من المنافقين اسمه مربع بن قيظي ، وكان ضرير البصر لا يرى أحداً .
فلما سمع حس النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وقف على قدميه وصار يحثي التراب في وجوههم ، وهو يقول بصوت عالم : إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي، وأخذ حفنة من تراب في يده.
وقال : لو أعلم أني لا أصيب غيرك لضربت به وجهك. فابتدروه ليقتلوه.
فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا فهذا الأعمى البصر والقلب. فضربه سعد بن زيد بقوس فشجه.
وذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف صاحبه، فاستله، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: سيوفكم، فإني أرى السيوف ستسل اليوم( ).
لبيان قانون وهو إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه برجحان وقوع القتال وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب التفاؤل .
أي أن فرساً بقوة ذنبه ليطرد الذباب ونحوه فاصاب مسماراً يكون عادة في قائم السيف والمراد سيف أبي بردة بن نيار .
وقال صفوان بن أمية وهو من رؤساء جيش المشركين (إن لم يصحروا لنا عمدنا إلى نخل الأوس والخزرج فقطعناه، فتركناهم ولا أموال لهم فلا يجتبرونها أبداً، وإن أصحروا لنا فعددنا أكثر من عددهم وسلاحنا أكثر من سلاحهم، ولنا خيل ولا خيل معهم)( ).
وفيه شاهد بأن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد بالوحي وأنه لو لم يخرج لأتلف كفار قريش زروع أهل المدينة وأحرقوا بخيلهم لتأليب الناس على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فعله ربعي بن قيظي أعلاه من الشواهد ، ومنها أيضاً رجوع ثلاثمائة من المنافقين من جيش المسلمين وامتناعهم عن القتال ، إذ يترجل هذا الإمتناع بالتذمر والتمرد بسبب حرق نخيل أهل المدينة وهو مورد رزقهم ومؤونتهم ، ترى لماذا قال صفوان (لا خيل معهم) الجواب من جهات :
الأولى : يظن الذين كفروا ومما عندهم من الأخبار وسبل الإستخبار عدم وجود خيل مع جيش المسلمين .
الثانية : كان المنافقون يخبرون المشركين بعدم خروج خيلهم ، مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالثة : إرادة صفوان قلة عدد خيل المسلمين وكأنها لم تكن فاذا كان خيل المشركين يوم أحد هو (مائتي فرس) ( )، وليس مع المسلمين إلا فرسان فلا يعدون لهما ذكراً.
إن قلة عدد المسلمين في مقابل كثرة عدد جيش المشركين برزخ دون قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغزو بالإضافة إلى أن الله عز وجل بعثه رحمة للناس وجعل عنده سلاح القرآن والتنزيل والوحي لهداية الناس إلى الإيمان ، وهو من الشواهد على حب الله له وللمسلمين والتخفيف عنهم باجتناب الغزو ، مع أن الغزو هو صبغة أهل ذلك الزمان ، فكما قطعت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عادة وأد البنات فانها منعت من الغزو بين القبائل ، ولكن هل جعلته خاصاً بين المسلمين والمشركين .
الجواب إنما استمر المشركون بغزو المسلمين إلى أن أحسوا بالوهن ، ودبّ في صفوفهم الضعف ، وظهر نقص الأفراد جلياً بينهم .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان الذي يدخل الإسلام يزيد المسلمين قوة ومنعة ، وليخسر المشركون عائلة وليس رجلاً واحداً لتبعية الولد غير البالغ سواء كان ذكراً أو أنثى لأبيه في الإنتساب للإسلام , أو أنه بالغ ولكنه لا يعصي والده في إختياره الإسلام .
وورد على لسان إبراهيم في التنزيل دعاءه لذريته بالهداية ولابويه وللمؤمنين بالعفو والمغفرة [رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ] ( ).
وذكر أن جبل عينين هو جبل الرماة إذ جعل عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خمسين من الرماة( ).
لقد زحفت قريش الى معركة أحد ، وهي تجمع بين الزهو والخيلاء وحب البطش والثأر ، ويحاولون إخفاء الخوف الذي يملأ صدورهم ، ويأبى الله إلا أن يكون له مبرز خارجي ، فقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، لابد أن يظهر هذا الرعب في حال السلم والحرب في وجوه متعددة منها :
الأول : تردد الذين كفروا في الهجوم على المدينة .
الثاني : طول المدة بين معركة أحد وخسارة الذين كفروا في معركة بدر ،إذ كانت المدة بينهما أكثر من سنة.
الثالث : خوف الذين كفروا في بدايات المعركة .
الرابع : سرعة إنسحاب الذين كفروا من ميدان المعركة بالفرار في الساعات الأولى لبداياتها.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه ذكرها للقلوب وأن الله عز وجل يلقي الرعب في قلوب الذين كفروا ، أي لا يرى الناس هذا الرعب لأنه كيفية نفسانية ، ولكنه يظهر على عالم أفعالهم ، والإرباك في صفوفهم ، ليكون من معاني الرعب في الآية أعلاه وجوه :
الأول : الرعب على نحو القضية الشخصية ، بأن يكون الكافر مرعوباً في قرارة نفسه ، وأيهما أكثر في حال الرعب عند الإنفراد والخلوة ، أو عندما يكون بين أصحابه ، الجواب هو الأول في الغالب.
الثاني : تغشي الرعب للمشركين عند سماع أخبار النبوة والتنزيل وعن أبي إمامة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فضلت على الأنبياء بأربع : أرسلت إلى الناس كافة ، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً ، فأينما رجل أدركه من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره ، ونُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي ، وأحل لنا الغنائم( ).
الثالث : إصابة الكافرين بالفزع عند سماع دخول الناس الإسلام ، ويأتي الكافر مساءً إلى بيته فيرى ابنه أو ابنته أو هما معاً قد أسلما ، وقد يخبر وهو في السوق ونحوه بالأمر فيدخل البيت غضباناً فيواجه بآيات القرآن التي تخبره عن وجوب الإيمان ، ولزوم طاعة الله عز وجل .
ومن الإعجاز في السور المكية مجئ النداء العام للناس فيها ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابع : صيرورة عبادة الأوثان سبباً لخوف وفزع الذين كفروا ، فمن معاني الرحمة والبركة في نبوة محمد أنها جعلت الكفار يدركون ضلالهم بعبادتهم الأوثان .
الخامس : حال الخوف التي تحيط بمجالس الذين كفروا سواء تلك المجالس التي تعقد في دار الندوة ، أو المجالس الاستشارية بخصوص قيامهم بغزو المدينة ، وعرضهم لسبل قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويمكن انشاء قانون وهو تجلي حال الرعب والخوف على ألسنة كفار قريش وفي اشعارهم وهو على أقسام منها ما كان بعد معركة بدر ، وبعد معركة أحد , ومعركة الخندق , وفي التنزيل [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى]( ).
وعندما أرادت قريش الخروج إلى أحد عقدوا ثلاثة ألوية في دار الندوة ، وهي :
الأول : لواء يحمله طلحة بن أبي طلحة ، وهو لواء قريش ومن تبعهه وطلحة من بني عبد الدار الذين معهم السدانة واللواء .
الثاني : لواء يحمله سفيان بن عويف الحارثي من بني عبد مناة من كنانة وقد أحضر معه زوجته قتيلة بنت عمرو بن هلال ، كما أحضر ابنه غراب ، ومعه زوجته عمرة بنت الحارث بن علقمة وهي التي رفعت لواء قريش عندما سقط الى الأرض ( ).
وهل كان رفعها له قبل قتل زوجها أم بعده ، إذ حضر مع سفيان هذا (عشرة من ولده) ( )، فقتل أربعة منهم وهم :
أولاً : خالد بن سفيان بن عويف .
ثانياً : أبو الشعثاء بن سفيان بن عويف .
ثالثا : أبو الحمراء بن سفيان بن عويف .
رابعاً : غراب بن سفيان بن عويف .
كما قتل أصحاب لواء المشركين وهم سبعة من بني عبد الدار ويدل قتل من أسرتين من جيش المشركين الذي يلغ ثلاثة آلاف رجل على أن قتل المشركين يوم أحد أكثر من اثنين وعشرين قتيلاً ، ولكنه من إدعاء المشركين النصر يوم أحد وإرادتهم التعتيم على هزائمهم وانكسارهم , كما كان المشركون يبالغون بذكرهم لعدد قتلى المسلمين.
فمثلاً كان ضرار بن الخطاب بن مرداس الفهري وهو من فرسان المشركين في معركة أحد يقول أني زوجت عشرة من أصحاب محمد ، أي أنه قتل أحد عشر من المهاجرين والأنصار (واختلف الأوس والخزرج فيمن كان أشجع يوم أحد فمر بهم ضرار ابن الخطاب فقالوا: هذا شهدها وهو عالم بها فبعثوا إليه فتى منهم فسأله عن ذلك فقال: لا أدري ما أوسكم من خزرجكم ولكني زوجت يوم أحد منكم أحد عشر رجلاً من الحور العين)( ).
ولا معنى لقوله هذا ، فان المؤمن الذي ينجو من القتل في المعركة يرزقه الله عز وجل ذات منزلة الشهداء.
وكان يقول اذا قتل أحدهم سخرية واستهزاء : لا تعدمن رجلاً زوجك من الحور العين .
ولكن لم يثبت أنه قتل إلا ثلاثة ، قال ابن واقد : سألت ابن جعفر، هل قتل عشرة؟ فقال: لم يبلغنا أنه قتل إلا ثلاثة. وقد ضرب يومئذٍ عمر بن الخطاب حيث جال المسلمون تلك الجولة بالقناة. قال: يا ابن الخطاب، إنها نعمة مشكورة، والله ما كنت لأقتلك( ).
وضرار بن الخطاب فارس شجاع شاعر ، وقال يوم بدر:
عَجِبْتُ لِفَخْرِ الْأَوْسِ وَالْحَيْنُ دَائِرٌ … عَلَيْهِمْ غَدًا وَالدّهْرُ فِيهِ بَصَائِرُ
وَفَخْرُ بَنِي النّجّارِ إنْ كَانَ مَعْشَرٌ … أُصِيبُوا بِبَدْرٍ كُلّهُمْ ثَمّ صَابِرُ
فَإِنْ تَكُ قَتْلَى غُودِرَتْ مِنْ رِجَالِنَا … فَإِنّا رِجَالٌ بَعْدَهُمْ سَنُغَادِرُ
وَتَرْدِي بِنَا الْجُرْدُ الْعَنَاجِيجُ وَسَطكُمْ..بَنِي الْأَوْسِ حَتّى يَشْفِي النّفْسَ ثَائِرٌ
وَوَسْطَ بَنِي النّجّارِ سَوْفَ نَكُرّهَا … لَهَا بِالْقَنَا وَالدّارِعِينَ زَوَافِر
فَنَتْرُكُ صَرْعَى تَعْصِبُ الطّيْرُ حَوْلَهُمْ … وَلَيْسَ لَهُمْ إلّا الْأَمَانِيّ نَاصِرُ
وَتَبْكِيهِمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ نِسْوَةٌ … لَهُنّ بِهَا لَيْلٌ عَنْ النّوْمِ سَاهِرُ
وَذَلِك أَنّا لَا تَزَالُ سُيُوفُنَا … بِهِنّ دَمٌ مِمّنْ يُحَارَبْنَ مَائِرُ
فَإِنْ تَظْفَرُوا فِي يَوْمِ بَدْرٍ فَإِنّمَا … بِأَحْمَدَ أَمْسَى جَدّكُمْ وَهُوَ ظَاهِرُ
وَبِالنّفَرِ الْأَخْيَارِ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُ … يُحَامُونَ فِي الّلأْوَاءِ وَالْمَوْتُ حَاضِرُ
يُعَدّ أَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ فِيهِمْ … وَيُدْعَى عَلِيّ وَسْطَ مَنْ أَنْتَ ذَاكِرُ
وَيُدْعَى أَبُو حَفْصٍ وَعُثْمَانُ مِنْهُمْ … وَسَعْدٌ إذَا مَا كَانَ فِي الْحَرْبِ حَاضِرُ
أُولَئِكَ لَا مَنْ نَتّجَتْ فِي دِيَارِهَا … بَنُو الْأَوْسِ وَالنّجّارِ حَيْنَ تُفَاخِرُ
وَلَكِنْ أَبُوهُمْ مِنْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ … إذَا عُدّتْ الْأَنْسَابُ كَعْبٌ وَعَامِرُ
هُمْ الطّاعِنُونَ الْخَيْلَ فِي كُلّ مَعْرَكٍ … غَدَاةَ الْهِيَاجِ الْأَطْيَبُونَ الْأَكَاثِرُ( ).
وقد أجابه كعب بن مالك الأنصاري :
عَجِبْت لِأَمْرِ اللّهِ وَاَللّهُ قَادِرٌ … عَلَى مَا أَرَادَ لَيْسَ لِلّهِ قَاهِرُ
قَضَى يَوْمَ بَدْرٍ أَنْ نُلَاقِيَ مَعْشَرًا … بَغَوْا وَسَبِيلُ الْبَغْيِ بِالنّاسِ جَائِرُ
وَقَدْ حَشَدُوا وَاسْتَنْفَرُوا مَنْ يَلِيهِمْ … مِنْ النّاسِ حَتّى جَمْعُهُمْ مُتَكَاثِرُ
وَسَارَتْ إلَيْنَا لَا نُحَاوِلُ غَيْرَنَا … بِأَجْمَعِهَا كَعْبٌ جَمِيعًا وَعَامِرُ
وَفِينَا رَسُولُ اللّهِ وَالْأَوْسُ حَوْلَهُ … لَهُ مَعْقِلٌ مِنْهُمْ عَزِيزٌ وَنَاصِرُ
وَجَمْعُ بَنِي النّجّارِ تَحْتَ لِوَائِهِ … يُمَشّونَ فِي الْمَاذِي وَالنّقْعُ ثَائِرُ
فَلَمّا لَقِينَاهُمْ وَكُلّ مُجَاهِدٌ … لِأَصْحَابِهِ مُسْتَبْسِلُ النّفْسِ صَابِرُ
شَهِدْنَا بِأَنّ اللّهَ لَا رَبّ غَيْرَهُ … وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ بِالْحَقّ ظَاهِرُ
وَقَدْ عُرّيَتْ بِيضٌ خِفَافٌ كَأَنّهَا … مَقَايِيسُ يُزْهِيهَا لِعَيْنَيْك شَاهِرُ
بِهِنّ أَبَدْنَا جَمْعَهُمْ فَتَبَدّدُوا … وَكَانَ يُلَاقِي الْحَيْنَ مَنْ هُوَ فَاجِرُ
فَكُبّ أَوْ جَهِلَ صَرِيعًا لِوَجْهِهِ … وَعُتْبَةُ قَدْ غَادَرْنَهُ وَهُوَ عَائِرُ
وَشَيْبَةُ وَالتّيْمِيّ غَادَرْنَ فِي الْوَغَى … مَا مِنْهُمْ إلّا بِذِي الْعَرْشِ كَافِرُ
فَأَمْسَوْا وَقُودَ النّارِ فِي مُسْتَقَرّهَا … وَكُلّ كَفُورٍ فِي جَهَنّمَ صَائِرُ
تَلَظّى عَلَيْهِمْ وَهِيَ قَدْ شَبّ حَمْيُهَا … بِزُبُرِ الْحَدِيدِ وَالْحِجَارَةِ سَاجِرُ
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ قَدْ قَالَ أَقَبِلُوا … فَوَلّوْا وَقَالُوا : إنّمَا أَنْتَ سَاحِرُ
لِأَمْرِ أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَهْلِكُوا بِهِ … وَلَيْسَ لِأَمْرِ حَمّهُ اللّهُ زَاجِرُ( ).
ولكن ضرار بن الخطاب انهزم يوم الخندق عندما رآى الإمام علي عليه السلام قتل عمرو بن ود العامري ، إذ كان ضرار أحد أربعة وثبوا الخندق.
وبعد أن اسلم ضرار قال يوماً لأبي بكر : نحن كنا لقريش خيراً منكم أدخلناهم الجنة وأوردتموهم النار( ).
ويريد من كلامه هذا أن المشركين قتلوا المؤمنين من قريش فذهبوا شهداء ، ولكن المهاجرين والأنصار قتلوا أبا جهل وأصحابه يوم بدر ، وقتلوا أمية بن خلف وأصحابه يوم أحد فوردوا النار ، ولو بقوا الى الفتح لدخلوا الإسلام .
وتلك مغالطة من ضرار بن الخطاب ، إذ أمر الله عز وجل نبيه وأصحابه بالقتال للدفاع ودرء الفتنة ، قال تعالى [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ]( ).
ومن أسماء الله (السلام) فهو الذي بعث الأنبياء لإشاعة السلام في الأرض ، بقيد عبادته [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّار]( ).
ليدخل ضرار بن الخطاب الإسلام يوم الفتح ، ويظهر رضاه وافتخاره بشرف الإنتساب الى الإسلام ، ومن شعره يوم الفتح :
يا نبي الهدى إليك لجا … جي قريش ولات حين لجاء
حين ضاقت عليهم سعة الأر … ض وعاداهم إله السماء
والتقت حلقتا البطان على القو … م ونودوا بالصيلم الصلعاء
إن سعداً يريد قاصمة الظه … ر بأهل الحجون والبطحاء
خزرجي لو يستطيع من الغي … ظ رمانا بالنسر والعواء
وغر الصدر لا يهم بشيء … غير سفك الدما وسبي النساء
قد تلظى على البطاح وجاءت … عنه هند بالسوءة السوآء
إذ تنادى بذل حي قريش … وابن حرب بذا من الشهداء
فلئن أقحم اللواء ونادى … يا حماة اللواء أهل اللواء
ثم ثابت إليه من بهم الخز … رج والأوس أنجم الهيجاء
لتكونن بالبطاح قريش … فقعة القاع في أكف الإماء
فانهينه فإنه أسد الأس … د لدى الغاب والغ في الدماء
إنه مطرق يريد لنا الأم … ر سكوتاً كالحية الصماء( ).
الثالث : لواء الأحابيش ، ويحمله رجل منهم ، والأحابيش مجموعة قبائل تحالفت فيما بينها ، وفيهم رجال من قريش وحلفاء قريش منهم بنو الحارث بن عبد مناة ، وبنو الهون بن خزيمة ، وبنو المصطلق وبنو نفاثة.
وسبب تسميتهم بالأحابيش أنهم اجتمعوا بذنب حبشي وهو جبل باسفل مكة وتحالفوا بالله.
بأن يكونوا يداً على غيرهم (ما سجى ليل ووضح نهار وما رسا حبشي مكانه( ).
وقيل هو جماعات من قبائل متعددة من العرب ومعهم حبش ممن استقروا في بلاد العرب ، إذ خضع ساحل تهامة لحكم الحبشة لسنوات عديدة فصاروا من المستعربة ، وكان رئيس الأحابيش يوم معركة أحد الحليس بن علقمة الحارثي ، ولكنه حضر يوم الحديبية مع المشركين ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هذا من قوم يعظمون البدن فابعثوها في وجهه( ).
فلما رأى الحليس (الهدي عليه القلائد قد أكل أوباره من طول الحبس رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم إعظاما لما رأى.
فقال لقريش والله لتخلن بينه وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش قالوا فاكفف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به( ).
وفي رواية أن الحليس هو الذي أراد أن يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما قدم المسلمون الهدي ، وما فيه من الإخبار بأنهم يريدون العمرة ولم يأتوا لقتال ، انكر على قريش صدّهم ، فقالوا : اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك( ).
عندئذ غضب الحليس وقال : لما نحالفكم على صدّ الذين يأتون للبيت الحرام معظمين له ، ثم قال : والذي نفسي بيده لتخلن بين محمد وبين البيت أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد .
وفيه شاهد بأن المشركين لم يرضوا بصلح الحديبية بمحض اختيارهم إنما حصل انشقاق في صفوفهم ، وخشيت قريش الفتنة بينهم وبين حلفائهم.
وهل لمعركة أحد موضوعية في صلح الحديبية أم أن الفارق الزماني بينهما وهو ثلاث سنوات أمارة على عدمها.
الجواب هو الأول فقد شاهد الأحابيش في تلك المعركة معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأدركوا الخطأ والزلل في محاربته.
وصحيح أنهم بقوا على حلفهم مع قريش ، ولكن التردد والتذمر وعدم الرضا تراكم عندهم من السنين الأولى للدعوة الإسلامية بعدم إجتماع الضدين ، معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته الى الله وإصرار قريش على محاربته.
ولم يكن أمر القبيلة في أي زمان بيد الرئيس أو الرؤساء وحدهم ، فلعامة أفرادها رأي وقول وفعل ولكنه قد لا يخرج إلى العلن في الحال ، بل يكون في ذاته وأثره تدريجياً.
وصحيح أن الأحابيش جاءوا الى معركة أحد بلوائهم إلا أنه لم ترد أخبار متعددة عن بطولات وبروز شجعان منهم يومئذ ، وهو من معاني النصر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
وقد وصل جيش المشركين إلى ميدان معركة أحد قبل أن يصله المسلمون بثلاثة أيام مع أنه لا يبعد عن المدينة سوى خمس كيلو مترات وفيه مسائل :
الأولى : عدم استعداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لمعركة أحد.
الثانية : عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الخوف من الذين كفروا وجيوشهم وإن صاروا على مشارف المدينة ، إذ أن خوف وخشية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الله عز وجل وهو الذي يذب عنهم ، وفي التنزيل [ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
الثالثة : دعوة الذين كفروا لإدراك حقيقة وهي إنتفاء الحاجة للقتال ، وحثهم على الإمتناع عنه .
الرابعة : بيان عملي لفضل الله في كون المدينة في حصن وأمن من عند الله عز وجل .
لقد كان المنافقون في المدينة يحثون على عدم الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتال المشركين كما يدل عليه قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
وخرج بعض المشركين من أهل المدينة الى مكة لتحريض قريش على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل كان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رجال بين صفوف المشركين يحثونهم على عدم قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب انما كانت معالم الإيمان تنشر بين عامة الناس ، رجالاً ونساء وتظهر على ألسنتهم وفي أفعالهم ، ومنهم شطر من أفراد جيش المشركين .
فكانت أخبار قريش تصل الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم اتباعاً ويتطوع بعضهم بنقلها وكان عدد من الرجال من بين صفوف المشركين يدخل الإسٍلام فيصف حالهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وكان عند المشركين يوم أحد لواء كبير واحد يلوذون به ويذبون عنه ، وما دام اللواء مرفوعاً فانه شاهد على أن الجيش يقاتلون .
لما أشتد القتال تقدم حامل لواء المشركين وهو طلحة بن أبي طلحة لينادي بين الصفين (من يبارز) ( ).
لإفادة التحدي وإرادة ثبات المشركين وترغيبهم بالقتال وليشهدوا له بالشجاعة فأخزاه الله ، فمن خصائص اللقاء بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين المشركين من جهة أخرى استيلاء الخوف على قلوب رؤساء الذين كفروا من خشية أمور :
الأول : إنصراف الأتباع عن القتال لإنتفاء موضوعه .
الثاني : إنقلاب الأتباع على رؤساء الكفر .
الثالث : قيام عدد من المسلمين ممن مع المشركين ويخفي اسلامه بالعدول إلى جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : تجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأفراد جيش المشركين ، ودخولهم الإسلام أو لا أقل إمتناعهم عن القتال.
فمن خصائص القتال وحكم الملوك سير النظام بالأعوان والأتباع ، وإذا تخلوا عن صاحب السلطان طواعية أو قهراً ظهر ضعفه وعجزه لبيان موعظة للناس وهي أن [الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( ) وأن الملك بيده سبحانه ، وفي التنزيل [تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وهل كانت رئاسة قريش في مكة وتسييرهم الجيوش من الملك والسلطان ، الجواب نعم ، فجحدوا بالنعم ، وأصل تلك النعم ، وهو عمارة المسجد الحرام ، وتعاهد الحنيفية التي جاء بها إبراهيم ، قال تعالى [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ]( ).
ومن هذا الكفر تمادي حامل لواء المشركين ، وإصراره على المبارزة فحينما امتنع المسلمون عن إجابته للمبارزة ، لم يكف ويرجع إلى مكانه ، بل صار يتحدى المسلمين ويلّح على المبارزة.
فقال بأعلى صوته (يا أصحاب محمد زعمتم ان قتلاكم إلى الجنة وان قتلانا في النار كذبتم واللات لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلى بعضكم فخرج إليه علي بن أبى طالب فاختلفا ضربتين فقتله علي عليه السلام ) ( ).
وقال ابن هشام أن الذي قال من يبارز وقتله علي عليه السلام هو أبو سعد بن أبي طلحة( ).
لقد تقدم حملة لواء المشركين من بني عبد الدار للمبارزة تباعاً واحداً بعد الآخر ، ترى ما هي المسائل المستنبطة من هذا الفعل ، الجواب من جهات :
الأولى : بيان إصرار الذين كفروا على القتال .
الثانية : دفاع الذين كفروا بأنفسهم ودمائهم عن عبادة الأوثان .
الثالثة : ظلم الذين كفروا لأنفسهم باختيارهم محاربة النبوة والتنزيل .
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وشاء الله عز وجل أن ينتفع ذووا القربى وعشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هذه النعمة ، ومن مصاديقه بالمعنى والأخص [قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى]( ) .
أما المعنى الأعم فقوله تعالى[ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ] ( )ولا يعني هذا الإنذار الحصر ، فأثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره .
فمن خصائص الأنبياء أنهم جاءوا بالبشارة والإنذار ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ) مما يدل على أن ذوي قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعشيرته يتصفون بخصوصية وهي مجئ الإنذار لهم من وجوه متعددة منها :
الأول : تلقي الإنذار من فيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعندما نزلت الآية أعلاه أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام أن يدعو له بني هاشم فجمعهم وقدم لهم فخذ شاة ، فقالوا : هذا لا يكفي لواحد منا ، ولكنهم أكلوا وشبعوا ، ثم قال يا علي أسقهم .
قال الإمام علي : ( فسقيتهم بإناء هو ري أحدهم فشربوا منه حتى صدروا فقال أبو لهب لقد سحركم محمد فتفرقوا( ).
الثاني : رؤية بني المطلب وبني عبد المطلب للمعجزات الحسية تترى على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها إنشقاق القمر .
الثالث : نزول آيات القرآن في بيوت أهل بيت النبي وسماعهم لتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن في الصلاة وخارجها .
وقد قامت قريش بحصار بني هاشم في شعب أبي طالب لنحو ثلاث سنوات ليكون هذا الحصار مناسبة لإنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني هاشم ، وتدبرهم في معجزات النبوة ، وهو من أسرار مؤازرة أبي طالب وعموم بني هاشم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوتهم وتحملهم الأذى والمشقة في الذب عنه ، ولا عبرة بالقليل النادر بأظهار أبي لهب كفره وجحوده بنبوه محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه عمه وأخو أبيه ، لينزل القرآن بذمه وتبكيته.
قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ] ( )لتكون هذه السورة معجزة من جهات منها صدق نزول القرآن من عند الله لدلالة هذه الآية بالدلالة الإلتزامية على موت أبي لهب على الكفر ، وعدم توبته وإلا لما ذمه القرآن .
الرابع : قيام النبي محمد بدعوة الناس إلى الإيمان ، وإجهاره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانتفاع أهل البيت من هذه الدعوة.
وقال الحجاج بن علاط السّلمي يمدح الإمام علي لقتله طلحة بن أبي طلحة .
(لله أيّ مذبّبٍ عن حرمةٍ … أعني ابن فاطمة المعمّ المخولا
جادت يداك له بعاجل طعنةٍ … تركت طليحة للجبين مجدّلا
وشددت شدّة باسلٍ فكشفتهم … بالحقّ إذ يهوين أخول أخولا
وعللت سيفك بالدّماء ولم تكن … لتردّه حرّان حتى ينهلا) ( ).
قانون تـأريخ الصلاة وموضوعيتها في النصر في معركة بدر
لقد تقدمت قراءة في قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ) وذكرت آية البحث سنخية صلاة الذين كفروا عند البيت الحرام ، وهي عبارة عن تصفيق وصفير لبيان خلوها من سنخية العبادة والخضوع لله عز وجل خاصة وأن أصل اسم الصلاة هو الدعاء كما أن الصلاة عنوان الخشوع والخضوع لله عز وجل لقد تفضل الله وصف أول بيت وضعه للناس ويقع في مكة بانه المسجد الحرام ، ومن وجوه حرمته :
الأول : إقامة الصلاة في المسجد الحرام من أيام آدم عليه السلام
الثاني : ولاية المؤمنين له ، وتعاهدهم لتعظيم شعائر الله في المسجد الحرام ومناسك الحج .
ومن الإعجاز نعت القرآن بحبل الصفا والمروة بأنهما من شعائر الله كما في قوله تعالى[إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( ).
الثالث : الأمن والأمان لمن دخل المسجد الحرام ، وان كان قد فعل جناية ، وفي التنزيل [وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا]( ).
الرابع : حرمة القتال في مكة إلى يوم القيامة ، وقد تقدم حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص بلدة مكة (وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة) ( ).
ولادائها في البيت الحرام موضوعية تزيينها بصبغة الخشية من الله ورجاء التقرب إليه بضروب الطاعة وليس باتخاذ الأصنام وسائط ووليجة ، وفي التنزيل [لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى]( ) وتبين آية البحث استحقاق الذين كفروا العذاب بسبب السخرية وصفة الإستهزاء التي يتلبسون بها في عمارتهم الحرام .
لقد أمر الله عز وجل إبراهيم وإسماعيل ببناء البيت الحرام وتطهيره وتهيئته للمصلين بقوله تعالى [أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ) لبيان ركنية الركوع والسجود في الصلاة ، وفي عمارة البيت الحرام وحفظه ، ولكن الذين كفروا امتنعوا عنهما واختاروا التصفيق والصفير وإيذاء المؤمنين ، لقد استكبروا في أنفسهم عن عبادة الله ، وهل هذا الإستكبار من الصد عن المسجد الحرام أم أن القدر المتيقن من الصد هو نوع مفاعلة وصدود وفعل يمنع الناس من الصلاة والطواف وعبادة الله في المسجد الحرام.
الجواب هو الأول ، فان تصفيق وضجيج الذين كفروا صدّ للناس عن المسجد الحرام ، ولا يختص هذا الصد بالمؤمنين إنما يشمل عموم الناس من جهات :
الأولى : صلاة الذين كفروا ضلالة .
الثانية : في صلاة الذين كفروا دعوة للفسوق .
الثالثة : صلاة الذين كفروا حرب على ذات الصلاة ، لأنها تشويه وتحريف للصلاة ، وفي المسجد الذي إتخذه المنافقون في المدينة للإضرار بالمؤمنين وإثارة أسباب وايقاع الفتنة بينهم ، كما في قوله تعالى [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ] ( ).
الرابعة : لقد أدرك الكفار ميل الناس إلى الصلاة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها دين الفطرة ، وميزان الحكمة ورأوا حرص المسلمين والمسلمات على تعاهد الفرائض اليومية فاتجهوا إلى المكاء والتصدية ، ومن معاني التصدية هو صدّ المشركين للناس عن الصلاة بصلاة زائفة لا أصل لها ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( )أي يصدون الناس عن الصلاة بالمكاء والتصفيق في ذات المسجد الحرام الذي جعله مصدر ضياء ينير للناس مسالك العبادة وسبل الصلاح فاستحقوا العذاب العاجل من عند الله لبيان قانون وهو أن تحريف وتشويه الصلاة سبب للبلاء ونزول العذاب .
نعم قد يقال أن الضرر المتيقن من الآية هو صلاة المكاء في خصوص المسجد الحرام .
والجواب موضوع الآية أعم فقد أراد الله عز وجل حفظ سنخية الأرض كوعاء للعبادة لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) وصلاة المكاء خلاف عبادة الله ، ولا يرضى الله عز وجل بالعبادة إلا بالكيفية التي يريدها هو سبحانه ،
ومن الآيات أن الصلاة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تتضمن تعيين أموراً :
الأول : تعيين كيفية الصلاة .
الثاني : ذكر أوقات الصلاة .
الثالث : بيان عدد الصلوات اليومية وهي خمسة :
الأولى : صلاح الصبح .
الثانية : صلاة الظهر .
الثالثة : صلاة العصر .
الرابعة : صلاة المغرب .
الخامسة : صلاة العشاء .
الرابع : تحديد عدد ركعات كل صلاة ، إذ تبدأ بصلاة الصبح وهي ركعتان وهي أقلها ، لتنتهي صلاة العشاء وهي أربع ركعات أي ضعف عدد ركعات صلاة الصبح .
الخامس : تعدد أجزاء الصلاة ، وتضمن كل ركعة منها قياماً وركوعاً وسجوداً ، ومتكرراً فبين الرجوع يكون الركوع في الصلاة واحدة تبطل الصلاة بتكراره فان السجود فيها مثنى أحدهما متعقباً للآخر ، وفي هذا التعاقب تخفيف عن المصلي في تعليم وأداء واتقان الصلاة ، فلا يأتي السجود الثاني عن قيام أو عن ركوع ، إنما يجلس المصلي من السجود الأول ليهوي إلى السجود الثاني .
السادس : حفظ وتعاهد افعال الصلاة ،وعدم عمل شئ خارجها أثناء أدائها ، لذى تسمى تكبيرة أفتتاح الصلاة بتكبيرة الأحرام فاذا قال المصلي الله أكبر ، فقد دخل في الصلاة وحال الخشوع والخضوع في الوقوف بين يدي الله عز وجل ويشرع بقراءة القرآن ، وكون القراءة هي الجزء الثاني من أفعال الصلاة وفق الترتيب التوقيفي آية في موضوعية قراءة القرآن في الصلاة ، وفضح للذين كفروا الذين يحاربون القرآن حتى في صلاتهم بأن تكون مكاء ومكراً وخداع .
لقد أغاظ المشركين قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة في المسجد الحرام صلاة تجذب القلوب وتبهر العقول ، وتجعل الناس يدركون أن هذه الصلاة معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على صدق نبوته ، وصلة عبادية بينه وبين رسالة إبراهيم عليه السلام ، فان أمر الله عز وجل ابراهيم أن يرفع قواعد البيت الحرام ، ويدعو الناس للحج فان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعا الناس للصلاة في البيت ، وإتخاذ الصلاة سبيلاً للهدى .
ومع تسمية الله عز وجل للبيت الحرام بأنه بيته بقوله تعالى [أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ..] ( ) فانه سبحانه جعله للناس جميعاً ليكون مأوى وامناً لهم ومحلاً لعبادته .
ومن بركات البيت الحرام نزول آيات البحث لتفضح الذين كفروا والرياء ، وتتضمن الإخبار عن عذابهم على فعلهم هذا لبيان قانون وهو أن الله عز وجل يسخط على الذي يصد عن الناس عن عبادته ويعجل عذابه، قال تعالى [مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ] ( ).
وتحتمل النسبة بين العقوبة على الكفر وصلاة المكاء والعذاب الذي تذكره آية البحث وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي بين العقوبة والعذاب .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : العقوبة أعم وأكبر .
الثانية : العذاب هو أعم من العقوبة على المكر والتصدية .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه .
فهناك مادة للإلتقاء بين العقوبة والعذاب الذي تذكره آية البحث ، ومادة للإفتراق بينهما .
الرابع :نسبة التباين والمختار هو الشعبة من الوجه الثاني أعلاه ، لتكون آية البحث أخباراً وأنذاراً ، فهي أخبار عن نزول العذاب بالذين كفروا وانذار من استدامة العذاب وتجدده عقوبة من الله للذين كفروا لتماديهم في الصدّ في سبيل الله .
لقد أراد الله عز وجل إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الصلاة في المسجد الحرام في أوقاتها الخمسة المحددة ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ) ولكن الذين كفروا اتخذوا المسجد الحرام للمكاء والمكر والدعاء ، فلم يقم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بغزوهم ومحاربتهم ومحاصرتهم ، ولم يأمر المسلمين الذين بقوا في المدينة المنورة ، ولم يطلب من المهاجرين التسلل إلى مكة والقيام باغتيالات أو أعمال تخريب ، بل اختار الهجرة إلى المدينة ، وأقام الصلاة فيها بأمن السلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ) يتفضل الله عز وجل بنزول آيات القرآن ، ومن خصائص القرآن أن كل آية تنزل مما يدل على غنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الغزو ، وعدم الحاجة إليه إنما يجتهد في تبليغ الآيات والأحكام ، وهل آية البحث من العذاب النازل بالذين كفروا ، الجواب نعم ، وفيها زحزحة لمقاماتهم ، ومنع من استدامة ولايتهم على المسجد الحرام ، فصحيح أن الآية جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن الوعيد والتخويف لكفار قريش ، وقرب تنحيتهم وسلطانهم عن المسجد الحرام .
لقد أراد المشركون اتخاذ ولايتهم للمسجد الحرام باباً لفتنة الناس بهم ، وايهامهم بسلامة اختيارهم بأن يقوموا بصلاة زائفة وأعمال شرك وضلالة في البيت ، فيأتي رجال القبائل والأمصار في موسم الحج وأيام العمرة ليقتبسوا منهم كما يريد المشركون أن يتوارث منهم الأبناء تماديهم في الكفر والمكاء والتصفيق ، فأبى الله إلا رحمة الناس والذراري ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإقامته الصلاة التي أمره الله عز وجل بها وأوجبها على الناس ، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
ومن الآيات في الصلاة أن النبي محمداً يقف مع المسلمين بين يدي الله عز وجل ليس بينه وبينهم من فرق في مقامات العبودية والخضوع لله عز وجل ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا] ( ).
ومن خصائص آية البحث بيانها لحاجة الناس لتطهير المسجد الحرام من المكاره والزيف ، وقد أمر الله عز وجل إبراهيم وإسماعيل أن يطهرا البيت الحرام من أسباب الرجس والنجاسة بقوله تعالى [أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( )ليتولى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجهاد لتطهير المسجد الحرام من أمور :
الأول : مفاهيم الكفر والضلالة .
الثاني : ولاية الذين كفروا للمسجد الحرام .
الثالث : صدّ رؤساء الكفر الناس عن المسجد الحرام .
الرابع : تحريف الذين كفروا لمناسك الحج وتبديلهم لأوان الأشهر الحرم بما يغري الناس بالقتال مع ثبوتها في بطنان العرش ودوران الفلك ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ] ( ).
الخامس : تطهير المسجد الحرام من الأوثان المنصوبة فيه ، وافتتان الناس بها ، واتخاذها آلهة ووسائط للتقرب إلى الله مع علمهم بأنها أحجار لا تضر ولا تنفع .
لقد توارث الأنبياء الصلاة حسب ما أمرهم الله عز وجل وتعاهدها أتباعهم , ولكن الذين كفروا اتبعوا أهواءهم وسعوا في تحريف الصلاة ومنع الناس من الصلاة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فجاءت الآيات بالإخبار عن عذاب الذين كفروا لبيان قانون إنتفاء الحاجة لغزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم للذين كفروا لأن العذاب الدنيوي سبب لضعفهم وعجزهم ونفرة الناس منهم ، وهو أمضى من السيف ، وهل آية البحث من العذاب الذي تذكره ، الجواب نعم من جهات:
الأولى : ذم ولاية الذين كفروا .
الثانية : بيان قانون وهو أن صلاة الذين كفروا في المسجد الحرام كيد ومكر وغواية .
الثالثة : الإخبار عن الملازمة بين الكفر وتحريف الصلاة .
الرابعة : تحذير المسلمين والناس جميعاً من الذين كفروا .
وهل من مقاصد الذين كفروا الصلاة مكاء وتصدية إرادة إرتداد المسلمين عن دينهم ، الجواب نعم ، لذا تفضل الله عز وجل وفضح قبيح فعل الذين كفروا ومقاصدهم الخبيثة ، ليكون من إعجاز القرآن اجتماع نهي الله للمسلمين عن الإرتداد مع إعانته ومدده لهم بعدم الإرتداد ، ومن هذا المدد أمور :
الأول : تعدد وكثرة الآيات القرآنية التي تعصم المسلمين من الإرتداد .
الثاني : آيات إنذار ونهي المسلمين من الإرتداد منها قوله تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
الثالث : إخبار آية البحث تصدية وصدّ الناس عن الصلاة الصحيحة بالكسل والتكاسل والتفريط بواجبات عمارة ولاية البيت الحرام .
الرابع : مجئ السنة النبوية مدداً للمسلمين في عصمة دينهم ومنها تعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في أوقاتها وبادائها جماعة ليتقن المسلمون الصلاة ، ويتذوقوا حلاوة الفعل العبادي ، ويميز الناس بين الصلاة المفروضة وزيف فعل الكفار ، وفي التنزيل [قُلْ لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
وهناك مسائل :
الأولى : هل لتشريع الصلاة في مكة قبل الهجرة موضوعية ونفع في نصر المسلمين في معركة بدر .
الثانية : هل كانت الصلاة حاضرة في معركة بدر.
الثالثة : موضوعية الصلاة في تحقيق النصر في معركة بدر .
وهناك ملازمة بين هبوط آدم الى الأرض وبين الصلاة فليس من فترة في وجود الناس في الأرض من غير صلاة ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، على وجوه :
الأول : وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون بأن هديتهم الى الصلاة وكيفيتها .
الثاني : وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون باقامة الصلاة.
الثالث : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون بأن تكون على استدامة وجود كل من الجن والإنس هو إقامة الصلاة .
الرابع : وما خلقت الجن والإنس إلا للصلاة .
الخامس : ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فارزقهم وأديم عليهم النعم .
والنعمة بكسر النون والنعمة بالفتح قراءتان في بيان فضل الله عز وجل ، وتذكير باحسانه ودعوة للناس للشكر لله عز وجل .
وقيل أن المراد من نعِمة بالكسر الخير والإحسان ، وما يلائم رغبة الإنسان من الرزق والعاقبة والأمن .
أما إذا وردت بالفتح (نَعمة ) فهي اسم للترفه , والسعة في المال والجاه ، قال تعالى [وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً]( ) ويبعث التذكير بالنعم على الشكر لله , ويدل في مفهومه على الحث على التوبة , والإنذار والتبكيت للذين يقيمون على الجحود, ومن شكر [وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ]( ).
ويرد لفظ النعمة لبيان عظيم فضل الله وللبشارة للمؤمنين وترغيبهم بالشكر لله ، كما ترد بصيغة الإنذار واقامة الحجة على الذين كفروا , ووردت بالفتح في الخير أيضاً والخطاب للمؤمنين كما في قوله تعالى [فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
السادس : وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون فاثيبهم في الآخرة على العبادة.
وكما يتلقى كل نبي الوحي من عند الله عز وجل فان كل نبي كان يؤدي الصلاة ولا يمر عليه صباح او مساء إلا وهو يتوحه الى الله عز وجل بالصلاة ، وهو من الحنيفية التي جاء بها ابراهيم عليه السلام .
والإجماع على أن تشريع الصلاة في الإسلام قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى المدينة ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : تشريع الصلاة قبل الإسراء .
الثاني : تشريع الصلاة في الإسراء وفيه نصوص منها حديث أنس في الإسراء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال : أتيت بالبراق ، وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه . . . فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء ، ثم دخلت المسجد فصليت ركعتين ثم خرجت ، فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن فقال جبريل : اخترت الفطرة . ثم عرج بنا إلى سماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل : من أنت؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : وقد بعث إليه؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا فإذا أنا بآدم ، فرحب بي ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبريل فقيل : من أنت؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : بعث إليه؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا فإذا أنا بإبني الخالة ، عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ، فرحّبا بي ودعوا إلي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل : من أنت؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : وقد بعث إليه؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا فإذا أنا بيوسف ، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن ، فرحب بي ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل فقيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : وقد بعث إليه؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا فإذا أنا بإدريس ، فرحب بي ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل فقيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : وقد بعث إليه؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا فإذا أنا بهارون ، فرحب بي ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : وقد بعث إليه؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا فإذا أنا بموسى ، فرحب بي ودعا لي بخير .
ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح.
فقيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : وقد بعث إليه؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى ، فإذا ورقها فيها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال ، فلما غشيها من أمر الله ما غشى تغيرت ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، فأوحى إلي ما أوحى وفرض عليّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة ، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى.
فقال : ما فرض ربك على أمتك؟ قلت : خمسين صلاة . قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم . فرجعت إلى ربي فقلت : يا رب ، خفف عن أمتي . فحط عني خمساً فرجعت إلى موسى فقلت : حط عني خمساً ، فقال : إن أمتك لا يطيقون ذلك ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف.
قال : فلم أزل أرجع بين ربي وموسى حتى قال : يا محمد ، إنهن خمس صلوات لكل يوم وليلة ، بكل صلاة عشر ، فتلك خمسون صلاة ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشراً ، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئاً ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة . فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحيت منه ( ).
الثالث : تشريع الصلاة بعد الإسراء .
الرابع : التفصيل بتشريع الصلاة على مرحلتين :
الأولى : في مكة بأن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤديها ركعتين ركعتين في كل فريضة.
الثانية : صيرورة الصلاة في المدينة أربع ركعات إلا في حال السفر ، قال تعالى [أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا]( ).
المختار أن الصلاة شرعت في بدايات البعثة النبوية وقبل الإسراء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن من معاني قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة والقراءة فيها .
وعن أنس قال : استنبأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وصلى علي يوم الثلاثاء( ).
ووردت أحاديث عديدة تفيد بظاهرها على الملازمة بين النبوة والصلاة ، والمختار أن الصلاة بركعاتها الأربعة شرعت في مكة .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الإمام علي عليه السلام يخرجان إلى شعاب مكة ويصليان ، وقيل أن أبا طالب رآهما وهما يصليان ويركعان ويسجدان فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الصلاة ، وقد مات أبو طالب قبل الإسراء.
وهاجرت طائفة من المسلمين الأوائل إلى الحبشة ، ويحملون معهم كنزاً وصلة مع النبوة وهي الصلاة .
وقال بعض المستشرقين أن لفظ الصلاة لم يكن معروفاً عند العرب قبل الإسلام ، والحق بخلافه وفي ابراهيم ورد في التنزيل [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ]( ).
لتدل الآية أعلاه على تعاهد اسماعيل ثم من بعده ذريته الصلاة في مكة وما حولها، ومن أسرار تسمية مكة [أُمَّ الْقُرَى]( )، كما ورد في القرآن ذم الذين كفروا في الرياء واللعب في صلاتهم قال تعالى [وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً]( )، لتحريف الذين كفروا الصلاة التي جاء بها إبراهيم ولأنبياء فصارت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للناس .
وفي صلاة موسى عليه السلام ورد قوله تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ]( )، ليكون من معاني البشارة في الآية البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجيئة بالصلاة كاملة وفيها الركوع والسجود ليرث أجيال المسلمين والمسلمات صلاة الأنبياء قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا]( ).
ولم يكن تشريع الصلاة قبل الإسلام خاصاً بالأنبياء أو بجنس الرجال على نحو الخصوص ، وفي مريم ورد قوله تعالى [يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ]( ).
وكان أهل مكة يختلطون مع اليهود والنصارى سواء عند ذهابهم للشام واليمن للتجارة أو لمدينة يثرب حين تقطن طوائف من اليهود ، وكان بعض الأفراد من اليهود والنصارى يأتون مكة ليعرف العرب أنهم يصلون لله حسب شريعتهم وملتهم ومن خصائص الحنيفية الابراهيمية أن إبراهيم جاء لأهل مكة وما حولها بالصلاة لتكون ميراثاً لذريته وأهل مكة وعمار المسجد الحرام قال تعالى [وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
النسبة بين الصلاة وعدم الغزو
لقد جعل الله عز وجل العبادة علة خلق الناس ، وتختص عبادة الناس به وحده سبحانه فانه لا يرضى له شريكاً في العبادة , مثلما انه لا يرضى شريكاً له في الملك والمشيئة والإرادة ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ] ( ) .
فالصلاة صلة العبد بالله عز وجل ، وهي عنوان الخضوع والخشوع له سبحانه ، ومادة التواضع بين الناس وواقية من الظلم والتكبر والتجبر .
وجاء قوم من الكوفيين إلى الإمام علي بن الحسين فقال لهم (يا أهل العراق أحبونا حب الإسلام ، سمعت أبي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أيها الناس ، لا ترفعوني فوق قدري ، فإن الله اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا) ( ).
ويمكن تسمية الحياة الدنيا بأنها (دار صلاة ) إذ يؤدي فيها المؤمنون الصلاة كل يوم ، وهي ميراث آدم ومن بعده من الأنبياء .
وبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليقيم والمسلمون والمسلمات الصلاة جماعة وفرادا إلى يوم القيامة ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) .
وعندما قدم وفد ثقيف واهل الطائف على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان من السنة التاسعة للهجرة بعد رجوعه من تبوك ، وكان عددهم ستة لقيهم بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستبشروا بقدومهم وعلّموهم كيف يحيون النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحية الإسلام .
ولا يحيونه بتحية الجاهلية ، لبيان قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس ملكاً إنما هو عبد لله عز وجل يتطلع إلى وقت الصلاة ليقف بين يدي جبار السموات والأرض .
ولم يأمر بتحيته بتحية خاصة إنما هي تحية الملائكة (السلام عليكم ) وكما يسلم بعض المسلمين على بعضهم ، وكما يسلم النبي نفسه على أصحابه لبيان موضوعية رجاء الرحمة من عند الله عز وجل .
وهل في تعيين التحية (السلام عليكم ) برزخ دون الغزو ، الجواب نعم ، وعندما دخل وفد ثقيف على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكرمهم وضرب عليهم قبة في ناحية مسجده ، وكان يبعث لهم غذاءهم وطعامهم ، وأمر خالد بن سعيد بن العاصي أن يمشي بينه وبينهم .
وفيما سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يسلموا (أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنْ الصّلَاةِ) ( ) فقال لهم لا خير في دين لا صلاة فيه ، (فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ فَسَنُؤْتِيكهَا ، وَإِنْ كَانَتْ دَنَاءَةً) ( ) يريدون تحرجهم من السجود ولكنه غاية الخضوع والتطامن إلى الله .
وأسلموا وكتب كتابهم خالد بن سعيد بن العاص ، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا شاهد على أن الأنبياء وأصحابهم وأتباعهم كانوا يصلون لأنهم على دين التوحيد ، وفي التنزيل [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ).
(عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لما أهبط الله آدم إلى الأرض قام وجاء الكعبة فصلى ركعتين ، فألهمه الله هذا الدعاء : اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي . اللهم أسألك إيماناً يباشر قلبي ، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتبت لي ، وأرضني بما قسمت لي .
فأوحى الله إليه : يا آدم قد قبلت توبتك ، وغفرت ذنبك ، ولن يدعوني أحد بهذا الدعاء إلا غفرت له ذنبه ، وكفيته المهم من أمره ، وزجرت عنه الشيطان ، واتجرت له من وراء كل تاجر ، وأقبلت إليه الدنيا راغمة وإن لم يردها) ( ).
وتحتمل صلاة الأنبياء من جهة المقدمة وجوهاً :
الأول : صلاة الأنبياء بمسمى الطهور .
الثاني : إنحصار الطهارة كمقدمة للصلاة بخصوص غسل الجنابة.
الثالث : صلاة الأنبياء يمثل وضوء المسلمين لعمومات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
الرابع : صلاة الأنبياء السابقين من غير وضوء .
الخامس : كل نبي له طهور خاص بشريعته إلى جانب غسل الجنابة .
والمختار هو الأخير .
وهل يختص لفظ المؤمنين في الآية أعلاه بالمسلمين أم أنه عام وشامل للأنبياء والمؤمنين قبل الإسلام ، الجواب هو الثاني .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يولي الصلاة عناية فائقة ويقول أنها قرة عينه( ) .
(عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوتر بتسع ركعات ، فلما أسنّ وثقل أوتر بسبع فصلى ركعتين وهو جالس فقرأ فيهما الرحمن والواقعة) ( ) .
وعندما أرادت قريش قتل خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة بعد أن اشتروهما من بني لحيان الذين أسروهما بعد أن أعطوهما الأمان سألهم خبيب امهاله ليصلي ركعتين .
والذين اشتروا خبيب بنو الحارث بن عامر بن نوفل لأن خبيب هو الذي قتل الحارث بن عامر في معركة أحد .
وخرجوا بهما من الحرم ليقتلوهما وأرادوا أن يصلبوا خبيب فقال (ذروني أصلي ركعتين فتركوه فصلى ركعتين فجرت (سنة لمن) قتل صبراً أن يُصلّي ركعتين،
ثمّ قال : لولا أن يقولوا جزع خبيب لزدت وأنشأ يقول :
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
على أي شق كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك في أوصال شلو ممزع
أي مقطع.
ثمّ قال : اللهم أحصهم عدداً (وخذهم) بدداً فصلبوه حياً،
فقال : اللهم إنك تعلم إنه ليس أحد حولي يبلغ رسولك سلامي فأبلغه لأُمي،
قال : ثمّ جاء به رجل من المشركين يقال له أبو سروعة ومعه رمح فوضعه بين ثديي خبيب فقال له خبيب : إتق الله فما زاده إلاّ عتواً فطعنه فأنفذه.
وهو من مصاديق قوله [وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ]( ) الآية.
وعن موسى بن عقبة : أن خبيبا وزيد بن الدثنة قتلا في يوم واحد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع يوم قتلا وهو يقول: وعليكما أو عليك السلام.
خبيب قتلته قريش ، وذكر أنهم لما صلبوا زيد بن الدثنة رموه بالنبل ليفتنوه عن دينه، فما زاده إلا إيمانا وتسليما( ).
وكان بنو لحيان من هذيل قد قاموا بقتل أكثر أفراد وسرية الرجيع ، وأسروا خبيباً وزيداً بعد أن أعطوهما وثالث معهما الأمان ، وانطلقوا بهما إلى مكة لبيعهما هناك لعلمهم بأن قريشاً تريد الإنتقام والثأر من المهاجرين والأنصار لقتل رجال من قريش يوم بدر .
وعن أبي هريرة في حديث طويل : فَاشْتَرَى خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَمَكَثَ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا حَتَّى إِذَا أَجْمَعُوا قَتْلَهُ اسْتَعَارَ مُوسَى مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الْحَارِثِ أَسْتَحِدَّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ( ).
يعني سلامان وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله (بأبيه) أمية بن خلف الجمحي ثمّ بعثه مع مولى له يسمى قسطاس إلى التنعيم ليقتله , فإجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب .
فقال أبو سفيان لزيد حين قدم ليُقتَل أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمّداً عندنا الآن بمكانك نضرب عنقه وإنك في أهلك؟
فقال : والله ما أحب أن محمّداً الآن بمكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي.
فقال : أبو سفيان : ما رأيت من النّاس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمّد محمّداً ، ثمّ قتله قسطاس)( ).
وفيه شاهد على أن المسلمين لم يروموا الغزو ، ولم يكونوا في طريقهم إلى هجوم أو غزو إنما كانت سرية الرجيع التي أسر فيها خبيب وزيد بن الدثنة للتبليغ وتعليم القرآن ، ولكن المشركين غدروا بهم ، ولم ينتقم منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما لجأ إلى الدعاء والشكوى إلى الله عز وجل .
وأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي (توفي سنة 59 هجرية -678 ميلادية )صحابي أسلم في السنة السابعة للهجرة وكان عمره يومئذ أكثر من ثلاثين سنة قادماً من اليمن ، وحينما ولّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العلاء بن الحضرمي على اليمن بعث معه أبا هريرة مؤذناً.
وتبلغ الأحاديث التي رواها أبو هريرة في كتب الحديث الستة هو (5474) حديثاً ، وورد منها في مسند أحمد بن حنبل نحو (3878) حديثاً .
وقام بعضهم في هذه الأيام بالإنتفاع من الحاسوب للتمييز بين المكرر وغير المكرر منها ، وقيل أن غير المكرر منها هو (1300) حديثاً.
(وأخرج ابن سعد من طريق الوليد بن رباح: سمعت أبا هريرة يقول لمروان حين أرادوا أن يدفنوا الحسن عند جده: تدخل فيما لا يعنيك – وكان الأمير( ) يومئذ غيره – ولكنك تريد رضا الغائب فغضب مروان) ( ).
ومجموع ما منسوب إليه في كتب الحديث التسعة هو (8960) حديثاً وأن غير المكرر هو 1475 .
ومن كتب الحديث الستة حسب ترتيبها :
الأول : صحيح البخاري .
الثاني : صحيح مسلم .
الثالث : سنن أبي داود.
الرابع : سنن الترمذي .
الخامس : سنن النسائي .
السادس : سنن ابن ماجه .
وقيل بترتيب آخر بخصوص كتب الحديث التسعة :
الأول : موطأ مالك .
الثاني : صحيح البخاري .
الثالث : صحيح مسلم .
الرابع : سنن النسائي .
الخامس : سنن الدارمي .
السادس : سنن أبي داود .
السابع : مسند أحمد .
الثامن : سنن الترمذي .
التاسع : سنن ابن ماجه .
مع اختلاف في الترتيب ولحاظ موضوعه.
لقد كان تشريع وأداء الصلاة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة عملية للناس لقبول نبوته .
فقد كانت الصلاة شاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأول : كيفية أداء الصلاة وأركانها ، فقد كان العرب يترفعون عن رفع العقيدة في السجود ، وما فيه من وضع الجبهة على الأرض ، فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بركنية السجود من الصلاة ، فاستجاب له نفر قليل من أهل بيته وسكان مكة وقابله أكثر أهلها بالصدور والجفاء والإستهزاء .
والذي يدعو الناس إلى نفسه ودينه وملته وحزبه يختار ما يلائم أهواءهم ومزاجهم ، ويمتنع مما تنفر منه نفوسهم ، ولكن النبي محمداً جاء بقوانين سماوية تريد للناس النجاة في النشأتين ، قال تعالى [وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ] ( ) .
الثاني : موضوعية الصلاة في التنزه عن عبادة الأوثان ، فلم يقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند بيان قبح عبادة الأصنام ، إنما جاء بوجوب عبادة الله بالقول والعمل ، وتجلي هذه العبادة بافعال توقيفية مخصوصة هي من عند الله ، إنما يكون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيها مبلغاً ، وإماما ً في الإمتثال فهو يصلي ويأمر الناس بالصلاة ، ويصوم ويأمر الناس بالصيام ، فنزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) فكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أول من صام شهر رمضان ومعه أهل بيته وأصحابه .
وهو إمام الموحدين ، ليتجلى للناس قانون جهالة الذين يقدسون الأصنام ، وقانون مصاحبة الرفعة والسكينة لعبادة الله عز وجل .
الثالث : وحدة أداء الصلاة والتشابه في أدائها ، إذ يؤدي الرجل والمرأة والحر والعبد ذات الصلاة ، ويتقيد بأركانها ، ولزوم الأتيان بمقدماتها من الطهارة ونحوها ، ليكون أداء الصلاة مظهر الخشوع والخضوع لله عز وجل وشاهداً على التساوي بين الناس ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] ( ) .
الرابع : وجوب وأداء الصلاة برزخ دون الغزو والقتال من طرف المسلمين والمشركين ، إذ ينشغل المسلمون بالعبادة وانتظار أوقات الصلاة والحرص على أدائها في أوقاتها ، وهو من معاني الرباط في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) .
(عن أبي أيوب قال : وقف علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : هل لكم إلى ما يمحو الله تعالى به الذنوب ويعظم به الأجر؟ فقلنا : نعم يا رسول الله قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة . قال : وهو قول الله { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا }( ) فذلكم هو الرباط في المساجد .
وأخرج ابن جرير وابن حبان عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب؟ قلنا : بلى يا رسول الله . قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط) ( ) .
لبيان قانون بأن الرباط أعم من أن ينحصر بالإقامة في الثغور خشية مداهمة وغزو المشركين ، إنما الرباط فعل عبادي يومي متصل يتقوم بأداء الصلاة .
الخامس : مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصلوات اليومية الخمسة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) لما في الصلاة من دفع للفتن والإقتال بين الناس ، قال تعالى [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] ( ) .
السادس : ليس من نبي إلا وجاء إلى قومه بالصلاة وما أن بعث الله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة حتى وقف في المسجد الحرام بين الله قائماً وراكعاً وساجداً وهو يتلو سورة الفاتحة التي تتجلى فيها معاني التوحيد والثناء على الله ، ليكون قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) هادماً لبناء الشرك والضلالة ، ومن وجوه تقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : الحمد لله الذي بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة .
الثاني : الحمد لله لأنه رب العالمين .
الثالث : الحمد لله الذي وحده رب العالمين .
الرابع : الحمد لله على الذين لا يشاركه في الربوبية أحد .
الخامس : الحمد لله وليس للأصنام أو الطواغيت .
السادس : الحمد لله الذي هدانا لأداء الصلاة في أوقات مخصوصة ، وفي التنزيل [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ).
السابع : الحمد لله الذي جعل آيات القرآن تغزو القلوب، وتغني عن السيف طرداً وعكساً .
فاذا كانت الصلاة تحجب المسلمين عن الغزو , فهل تمنع الذين كفروا عنه ، الجواب نعم ، إذ أنها تصد الذين كفروا عن مواصلة الهجوم ، وعن كثرة الغزو والتعدي أي أنها تنفع في المقام على نحو الموجبة الكلية والجزئية من جهات :
الأولى : رؤية الذين كفروا انشغال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالصلاة .
الثانية: تبعث الصلاة الرهبة في قلوب الذين كفروا ليكون أداء المسلمين للصلاة من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
وهل يختص الأمر بصلاة المسلمين في حال الحرب وعند التقاء الجمعين ، الجواب لا ، إنما أداء الصلاة مطلقاً في حال الحرب والسلم يرهب الكفار ، ويبعث في نفوسهم الخوف ، ويدعوهم إلى الإسلام ، وهو من الإعجاز في ماهية خلق الإنسان وكيف أن المتناقضين يجتمعان عنده لما يبعث على هدايته وصلاحه ، فهذا الإجتماع مقدمة لإزاحة مفاهيم الكفر عند الفرد والمجتمع .
الثالثة : تبعث الصلاة السكينة في النفوس ، وتجعل الذين كفروا يتساءلون بصيغة الإنكار عن علة قتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) بلحاظ أنها تنهى ذات المصلي وتنهى غيره عن الفواحش والرذائل .
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام : من أحب أن يعلم أقبلت صلاته أم لم تُقبل، فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء والمنكر ؟ فبقدر ما منعته قبلت منه( ).
وهل إصرار المشركين على القتال في معركة بدر ، وغزوهم المسلمين في معركة أحد والخندق من الكبائر ، الجواب نعم ، وكانت الصلاة واقية ونفعاً عظيماً من وجوه :
الأول : عدم استمرار المعركة لأكثر من يوم سواء في معركة بدر أو أحد مع دلالة كثرة جيش المشركين على إرادتهم القتال الطويل والمصابرة وتعدد المبارزة والكر والفر .
الثاني : تعاهد المسلمين للصلاة زاجر عن البطش وحب الإنتقام سواء من طرفهم أو من طرف الذين كفروا لما تبعثه من السكينة في النفوس ، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
الثالث : صبر المسلمين في ميدان القتال ، ليكون من معاني قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) بخصوص الصلاة نفعها وصيرورتها حصناً وواقية في مقدمات القتال وحال وقوعه على جهات:
الأولى : يا أيها الذين آمنوا بوجوب أداء الصلاة اصبروا .
الثانية : يا أيها الذين آمنوا بوجوب الصبر في الدفاع عن النبوة والتنزيل صبراً.
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا بلزوم مصابرة العدو في الميدان .
والنسبة بين مصابرة المسلمين مطلقاً ومصابرتهم للكفار عموم وخصوص مطلق ، فالمصابرة أعم وهل فمن مصاديقها تلقي الأذى الذين كما في قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) الجواب نعم ، إذ أن الأذى الذي تقصده الآية أعلاه هو نوع مفاعلة يتألف من أطراف :
الأول : مصدر الأذى ، وهو المؤذي .
الثاني : موضوع الأذى .
الثالث : ذات الأذى .
الرابع : الذي يتلقى الأذى ويقع عليه وهو المُؤذى.
وإذ ذكرت الآية إيذاء الذين كفروا للمسلمين .
ويحتمل الحال بالنسبة لإيذاء المسلمين للذين كفروا وجوهاً :
الأول : يؤذي المسلمون الذين كفروا .
الثاني : يضر المسلمون الذين كفروا .
الثالث : لا يؤذي ولا يضر المسلمون الذين كفروا .
الرابع : يؤذي ويضر المسلمون الذين كفروا عند تعديهم وظلمهم وقيامهم بغزو ديار المسلمين .
والمختار أن المسلمين لا يضرون الذين كفروا ، إنما هم الذين يضرون أنفسهم ، ويجلبون الأذى لهم ولعيالهم ، قال تعالى [وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ] ( ).
ويدل على نفي إضرار المسلمين بغيرهم قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالإستعانة بالصلاة كما في قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( )، والخشوع هو الإنخفاض والتطامن والتذلل لتتضمن الآية أعلاه دعوة المسلمين للإستعانة بالصبر وبالصلاة في إجتناب الغزو والقتال.
وبين الصبر والصلاة في المقام عموم وخصوص مطلق ، إذ يشمل الصبر وبخصوص القتال وجوهاً :
الأول : الصبر عن القتال .
الثاني : علة الصبر عن القتال وتتقوم بالوحي والتنزيل ، وأمر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر واقتران هذا الأمر بالبشارة بالنصر والغلبة على الذين كفروا .
الثالث : الصبر على تهديد ووعيد الذين كفروا خاصة وأن هذا الوعيد متعدد من جهات :
الأولى : إرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : سخط الذين كفروا على المهاجرين والسعي لقتل طائفة منهم وأسر طائفة أخرى ، قال تعالى [بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ] ( ) .
الثالثة : سعي الذين كفروا للإضرار بالأنصار في أشخاصهم وعوائلهم وأموالهم ، وقد هجمت جماعات وقوات من الذين كفروا على أطراف المدينة ، وقاموا بحرق النخيل وإتلاف الزروع ونهب الإبل .
الرابعة : الغايات الحميدة للمسلمين من العزوف عن القتال ، وقيام البرهان على صرف نبوة محمد على هداية الناس ، وصرف عامة الذين كفروا عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : حنق رؤساء قريش على الصحابة الذين اتبعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لما في هذا الإتباع من الشهادة الفعلية والإقرار التام بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : الصبر في القتال .
الخامس: الصبر على أثر القتال وفقد الشهداء وكثرة الجراحات.
السادس : الصبر عن البطش والإقتتال .
السابع : الصبر والإمتناع عن الهجوم والغزو وورد الإذن من عند الله بالرد على هجوم وغزو الذين بقوله تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ) .
ولم يرد لفظ [اعْتَدَى] بصيغة الأمر إلا في الآية أعلاه ، والتي تضمنت الحث على التقوى والخشية من الله وبيان فضلها وأجر العاملين بها ، فأكتفى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالدفاع ورد طلب المبارزة بالإجابة .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الذي يخرج من فرسان المشركين بين الصفين ويطلب المبارزة يسقط جثة هامدة ، وهو من الشواهد على رد إعتداء المشركين مجتمعين وأفراداً .
الثامن : الصبر في حسن معاملة الأسرى ، وهل يلزم قوله تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]( )، الجواب نعم ، لذا جاءت الآية ببشارتهم بالثواب العظيم.
قانون مواعظ معركة بدر
لم تنفك قريش عن ملاحقة المسلمين الأوائل خارج مكة والقيام بتحريض القبائل على أبنائها الذين دخلوا الإسلام والذين هاجروا منهم إلى المدينة ، ويلحون عليه باستقدامهم وإرجاعهم إلى قراهم ، وهذا التحريض من صدّ الذين كفروا عن المسجد الحرام ،بصفتهم أولياء له ، ومن مصاديق نعت الله عز وجل لمكة بانها (أم القرى).
ولو شاء الله عز وجل أن يستولي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على قافلة أبي سفيان لخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الوقت المناسب ليعترض طريقها ، فمثلاً في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ] ( ) ورد عن (جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكّة فأتى جبرئيل (عليه السلام) النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا.
فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا قال : فكتب رجل من المنافقين إليه أن محمداً يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله تعالى الآية) ( ) .
من مصاديق قول الله تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] ( ) أن المعركة الأولى للإسلام وهي معركة بدر لم تكن بقصد وسعي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولم يكونوا يرغبون بها ، إنما كانوا يرغبون في ذات وقت المعركة ومقدماتها بغيرها لقوله تعالى [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ] ( ) لبيان رغبة المسلمين وإنصرافهم عن الحرب والقتال وعدم التأهب له ، سواء كان المقصود قافلة أبي سفيان أو غيرها ، ليكون من مصاديق الآية أعلاه وفضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم بدر أمور:
الأول : إقامة الحجة على الذين كفروا أنهم هم الذين يريدون القتال ويسعون إليه ، وفي التنزيل [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
الثاني : لم يطلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه القتال ، وفيه شاهد بأن الإسلام لم يقم بالسيف ، إلا أن يراد بأنه قام باشهار الكافرين سيوفهم عليه ظلماً وتعدياً ، ليكون من معاني قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على الذين كفروا في تعديهم .
إذ أن حب الله أو بغضه ليس كيفية نفسانية فالله عز وجل منزه عن الكيف والمكان ، إنما المراد من الحب هو البشارة والمدد والعون في الدنيا ، والجزاء الحسن في الآخرة ، أما البغض من الله فهو البلاء في الدنيا والعقاب الأليم في الآخرة ، قال تعالى[بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ]( ).
وهل إصرار مشركي قريش على القتال يوم بدر من التعدي والظلم ، الجواب نعم ، ولا يختص الأمر بنفر من رؤسائهم الذين عزموا على القتال ، وامتنعوا عن الإصغاء لصوت العقل والوئام وصرف القتال ، ومن مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ورحمة الله بالناس جميعاً مسألتان :
الأولى : لحوق الندم بالمشركين في كل معركة سواء من جهة الخسارة في الأنفس أو الأموال أو قلة المنافع من المعركة .
الثانية : ترتب السعادة والغبطة لحال الإنصراف من القتال ، وعدم حدوثه ، فاذا تجلت نذر الحرب أو التقى الجمعان ثم انصرفوا من غير قتال بصلح أو نحوه دخل السرور والسكينة إلى قلوب الطرفين لعامة الجنود والأتباع وكذا في حال خروج الجيش من المدينة أو المعسكر نحو جهة يحتمل وقوع قتال فيها ، فعندما يرجع سالماً من غير قتال تنبسط الأسارير ، وتدخل السعادة إلى البيوت وتعم السكينة والهدوء ، وهو من عمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
وفيه فرصة للمؤمنين للذكر والتسبيح والشكر لله عز وجل ، ليكون من الإعجاز في خلافة المؤمنين في الأرض شكرهم لله عز وجل عند النصر كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) وقيامهم بالشكر لله عز وجل عند عدم حدوث قتال .
ويحتمل قوله تعالى أعلاه [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) وجوهاً :
الأول : إنه خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبدريين .
الثاني : إرادة كل المسلمين والمسلمات في المدينة أيام معركة بدر.
الثالث : المقصود كل المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
والمختار هو الأخير ، وهو من أسرار توجه النداء القرآني التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إلى المسلمين والمسلمات والخطاب العام في القرآن المتوجه للناس جميعاً من جهات:
الأولى : مجئ القرآن باكرام الناس جميعاً بالإخبار عن خلافة الإنسان في الأرض حتى على القول بأن المقصود في الخلافة في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) المعنى الخاص وإرادة خصوص الأنبياء .
وقد تقدم موضوع الشكر باختتام الآية أعلاه بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
الثالث : نصر الله عز وجل لرسوله الكريم والمؤمنين فيما يلقونه من الظلم ، وهل نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) خاص بمعركة بدر وتعرضهم فيها لتعدي الذين كفروا أم أنه نصر فيما لاقاه النبي وأصحابه فيها منذ بدايات البعثة النبوية .
الجواب هو الثاني ، فصحيح أن النصر في معركة بدر ، ولكن موضوعه أعم ويكون تقديره على وجوه :
أولاً : ولقد نصركم الله ببدر على الذين آذوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة .
ثانياً : ولقد نصركم الله ببدر على الذين أرادوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المبيت .
ثالثاً : ولقد نصركم الله عز وجل على الذين حملوا المسلمين على الهجرة من مكة ، ومنعوهم منها .
رابعاً : ولقد نصركم الله ببدر جزاء وعقاباً للذين كفروا على إصرارهم على الكفر وتوليتهم على المسجد الحرام بغير حق .
خامساً : ولقد نصركم الله ببدر لينزجر الذين كفروا عن القتال لاحقاً قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
سادساً : ولقد نصركم الله ببدر لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : بيان قانون مشاورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه حتى في ميادين القتال .
ومن الآيات أن الأنصار هم أكثر من شاورهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن هذه المشورة :
الأول : مشاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه عند الخروج من المدينة .
الثاني : عند ارادة التعرض للقافلة .
الثالث : عند بلوغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدوم جيش قريش .
ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقلل من شأن جيش قريش ويستخف بهم ، لما في هذا الإستخفاف من الضرر واتجهت قيادات الجيوش في هذا الزمان إلى التفخيم من قوة وأسلحة العدو للنهي والإستعداد والنفير التام في ملاقاته، ولكن الله عز وجل هو الذي تفضل بتقليل عدد المشركين في أعين المسلمين كما في قوله تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] ( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه إتحاد التقليل وصيرورة كل جمع قليلاً في عيون الجمع الآخر ، ولكن الأثر الذي ترتب عليه مختلف تماماً .
و(عن ابن عباس في قوله { قد كان لكم آية في فئتين . . . }( ) الآية . قال : أنزلت في التخفيف يوم بدر على المؤمنين ، كانوا يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، وكان المشركون مثليهم ستة وعشرين وستمائة ، فأيد الله المؤمنين , فكان هذا في التخفيف على المؤمنين) ( ).
وفي الآية أمران :
الأمر الأول : دلالات تقليل عدد جيش المشركين في أعين المسلمين ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحضور فضل الله عز وجل عليه وعلى المسلمين ، ويحتمل تقليل عدد جيش في القتال وجوهاً :
أولاً : إنه أمر خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء السابقين .
ثانياً : بيان قانون عام وهو كل معركة للنبي مع المشركين يقلل الله فيها عدد جيش المشركين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
ثالثاً : التبعيض فمن معارك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأنبياء السابقين ما لا يقلل الله فيه عدد جيش المشركين في أعين المسلمين ، قال تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ] ( ).
رابعاً : التباين الموضعي في ذات المعركة ، فمرة يقلل الله عز وجل عدد المشركين في أعين المسلمين وأخرى بالعكس .
خامساً : إرادة خصوص معركة بدر لأنها أول معركة للإسلام ولإصرار الذين كفروا على القتال فيها .
والمختار هو الثاني أعلاه ، وهو من المعجزات المشتركة بين الأنبياء ، وفيه أمور :
أولاً : زجر الناس عن محاربة الأنبياء .
ثانياً : المنع من نصرة الذين يصرون على قتال الأنبياء .
ثالثاً : بيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية .
رابعاً : هذا التقليل في عدد جيش الذين كفروا في المسلمين مدد وعون للمسلمين في ساحة الوغى .
خامساً : بيان حب الله للمسلمين ، وبغضه للذين كفروا ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
سادساً : التعجيل بانتهاء المعركة ووقف سفك الدماء لذا لم تستمر المعركة إلا بضع ساعات من نهار اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة .
الثانية : الإخبار بالشاهد العملي بأن المشركين إذا حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان عددهم ببدر قليل في أعين المسلمين .
الثالثة : دفع الناس عن القتال واشعال الحروب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاذا كان الجيش الكبير من أعدائه يبدو قليلاً ، فكيف بالجماعات القليلة منهم في القرى المحيطة بالمدينة ، ومع هذا فان النبي محمداً لم يهاجمهم أو يغزهم .
إنما بعث الله عز وجل النبي محمداً بالتبليغ والدعوة إلى الله بالحجة وبيان البرهان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ) .
الأمر الثاني : معاني ودلالات تقليل عدد جيش المسلمين بأعين المشركين في معركة بدر ، وفيه مسائل :
الأولى : بعث الذين كفروا على الإستحقاق بعدد جيش المسلمين ، وهو سبب لإنعدام الإستبسال في صفوف الذين كفروا .
الثانية : تجرأ بعض الذين كفروا وقالوا أن عدد المسلمين في ميدان معركة بدر قليل أي أن الإجهاز عليهم أمر سهل وسريع ، قال تعالى [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ) .
وليس من تعارض بين قوله تعالى [وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ] ( ) وبين قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ] ( ).
فمن معاني الآية أعلاه أن الفئة الكافرة ترى المسلمين عند المسايفة مثل عددهم ، مع أن الواقع هو أن عدد المشركين في بدر ثلاثة أضعاف جيش المسلمين ، ولكنه من فضل الله في ايقاع الوهن والخوف في قلوب الذين كفروا ، مع أن المشركين بعثوا قبل القتال عمير بن وهب الجمحي ليحصي عدد جيش المسلمين على نحو التقريب ، ويحرز عدتهم .
قال ابن اسحاق (فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر: أللقوم كمين أو مدد.
قال: فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما رأيت شيئا، ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب( ) تحمل الموت الناقع ، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم .
والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ، فروا رأيكم) ( ).
الثالثة : لم يكن مشركوا قريش على علم تام بتوالي دخول أهل المدينة في الإسلام ، ومجئ أهل القرى إليها للنظر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإستماع إليه والإنصات إلى آيات القرآن ، ورجوعهم إلى أهليهم دعاة للإسلام ، إنما كانوا يظنون مقدار عدد المسلمين بلحاظ عدد الشباب المهاجرين من أهل مكة ، وأهل بيعة العقبة ونحوهم ، ولم يعلموا أن عددهم في ازدياد كل يوم .
واستصحب الذين كفروا هذا الظن في معركة بدر ، ومن مصاديق هذا الإستصحاب ما أصاب جيش المشركين في أبصارهم يومئذ بقوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) .
الرابعة : لقد قلّل الله عدد المشركين في معركة بدر بأعين المسلمين وليس لهم مدد ، أما المسلمون فان لهم مدداً من الملائكة يومئذ فلا يضرهم تقليل عددهم في أعين المشركين ، ليكون هذا التقليل وبالاً على الذين كفروا إذ صاروا يفاجئون بالدفع والصفع وضرب الأعناق ، قال تعالى في خطاب للملائكة يومئذ [أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ) .
وكان الملك النازل من السماء يمشي بين المسلمين بهيئة أحدهم ممن يعرفون ويقول (إني سمعت المشركين يقولون : والله لئن حملوا علينا لننكشفنّ ، ويمشي بين الصفين فيقول : أبشروا ، فإن الله ناصركم لأنكم تعبدونه . وهؤلاء لا يعبدونه) ( ).
الخامسة : بيان مسألة من قانون الأولوية وهي إدراك المشركين لحقيقة إذا كان عدد المسلمين في معركة بدر قليلاً ولم يكونوا مستعدين للقتال ، فجاءهم النصر والظفر ، فكيف وقد صار عددهم بعد معركة في تضائل .
قانون المعجزات العقلية في واقعة بدر
لقد خلق الله عز وجل آدم عليه السلام وزوجته حواء في الجنة ، وهو نوع تشريف لهما وللناس جميعاً إلى يوم القيامة ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ) .
ولم تقل الآية أعلاه : ولقد كرمنا بني آدم إذ حملناهم ، إنما عطفت الآية حملهم على الدواب والخيل وفي البحر بالسفن الصغار والكبار لبيان قانون وهو من إكرام بني آدم بداية خلقهم في الجنة ، وإكرامهم بالنبوة وتعاقب الأنبياء إلى أن ختمت النبوات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكل بعثة نبي ورسالة رسول هي إكرام للناس جميعاً .
وقد ذكرت الآية حمل الناس في البر والبحر ولم تذكر ركوبهم في الطائرات .
الجواب جاءت الآية بصيغة الفعل الماضي [وَحَمَلْنَاهُمْ] لتبين قانون تسخير الدواب والرواحل وأسباب النقل للناس ، وموضوع الحمل في البر والبحر من البيان ، وذكر الفرد الحال والظاهر والأكثر ، وليكون ركوب الطائرات من مصاديق الجمع بين آية البحث بقوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ) وتفضيلهم على كثير من الخلائق .
كما يدخل النقل بالطائرات في آية البحث لأنه من الحمل في البر عندما تمر تقطع الطائرات والمسافات الشاسعة ، ومن الحمل في البحر عندما تمر الطائرة على البحر ، فمن معاني الآية تهيئة أسباب ووسائط النقل للناس وعدم سقوطهم أو خسف الأرض بهم ، أو يغرقهم الله بالماء ، فهذا التقسيم بالنقل الجوي إنما هو تقسيم استقرائي ، وإلا فانه يدخل في الأصل في النقل البري والبحري .
واستدل ابن عطية بأن المراد من الإكرام في الآية هو الإكرام بالعقل ، ولكن الآية أعم ، إذ يصاحب هذا الإكرام للإنسان في كل لحظة من آنات وساعات حياته ، ويدرك تميزه بكثرة النعم والفنون والمستلزمات من الملبوس والمأكول والمقتنيات والمدخرات ، وحسن الصلات بين الناس .
واستدل الشافعي بالآية بقوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ]( )، على طهارة المسلم بعد موته , وبطهارته قال المالكية والحنابلة أيضاً ، وقال الإمامية وأبو حنيفة أن المسلم والكافر قبل غسله ينجس بالموت.
والإجماع على طهارة الشهيد الذي قتل في سبيل الله كشهداء بدر واحد الذين قتلوا دفاعاً عن النبوة والإسلام .
وهل إجتناب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغزو من إكرام الله عز وجل للناس ، الجواب نعم من وجوه :
الأول :تأكيد قانون الخُلق الحميد الذي يتصف به الأنبياء وعصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) .
الثاني : توالي المعجزات على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه غنى عن الغزو ، وإكرام من جهات :
الأولى : كل معجزة إكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على صدق نبوته .
الثانية : كل معجزة إكرام للمسلمين وثناء عليهم وتثبيت لإيمانهم ، وفيه وجوه :
أولا : إكرام الله المسلمين في كل معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الحصر .
ثانيا : إكرام للمسلمين في كل معجزة للأنبياء ، ذكرت في القرآن إبتداء من معجزات آدم ، وهل من معجزاته تكليم الله عز وجل له قبلاً .
الجواب نعم ، قال تعالى [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ] ( ) .
ومنها معجزة نوح في بناء السفينة ومدة البناء وسعتها ، ونجاته وافراد أسرته ومن آمن من قومه بها من الطوفان ، قال تعالى [فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ومعجزات الأنبياء الآخرين في القرآن كما يرد في الأجزاء التالية ان شاء الله ، وكيف ان معجزات الأنبياء تدل على قانون وهو أنهم دعوا إلى الله من غير طلب للقتال أو الغزو .
ثالثا : إكرام المسلمين بكل معجزات الأنبياء التي وردت في القرآن والسنة النبوية .
الثالثة : في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إكرام لأهل الكتاب من اليهود والنصارى من وجوه :
أولاً : في المعجزة شاهد صدق على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : تـأكيد قانون ملازمة المعجزة للنبوة ، وأن الأنبياء الذين يتبعهم أهل الكتاب جاءوا بالمعجزات .
ثالثاً: تأكيد البشارات التي وردت برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ) ومن مصاديق الآية أعلاه وجوه .
(عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يَرَيْن .
وأخرج أحمد وابن سعد والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة قال : قلت : يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال : دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام) ( ).
الثالث : تنزيه الأرض عن سفك الدماء والقتل ، وهل هناك تباين بين قتل المسلم وبين قتل الكافر في ساحة المعركة ، الجواب نعم ، إذ أن الكافر يؤثم سواء قام بقتل المسلم أو أنه قتُل في المعركة كما في قتل أبي جهل وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف وغيرهم في معركة بدر .
وكان أمية بن خلف الجمحي ممن يعذب بلالاً ويوالي عليه العذاب والمكروه فكان من قدر الله تعالى أن قتله بلال يوم بدر( ).
الرابع : لما تفضل الله عز وجل باضفاء صفة الخليفة على الإنسان بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فان ذات الإكرام يصاحب الناس في الحياة الدنيا ليختص المؤمنون بالإكرام في الآخرة .
والرحمن اسم خاص بصفة عامة ، وهو خاص بالله عز وجل لا يشاركه فيه أحد ، وتشمل رحمته الخلائق كلها ، أما الرحيم فهو اسم عام يطلق على الله تعالى وعلى غيره ، وفي التنزيل [وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا]( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (أنه سئل عن تفسير بسم الله الرحمن الرحيم، فقال الباء بهاء الله، والسين سناء الله، والميم ملك الله، والله إله كل شئ، والرحمن بجميع خلقه، والرحيم بالمؤمنين خاصة.
وقال بسم الله الرحمن الرحيم أحق ما جهر به في الصلاة، لقول الله عز وجل [ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا]( )، ومنه : قال تفسير الحمد لله رب العالمين يعني الشكر لله، وهو أمر ولفظه خبر والامر مضمر فيه، ومعناه قل الحمد لله رب العالمين، ومعنى (رب) أي خالق (والعالمين) كل مخلوق خلقه الله (الرحمن) بجميع خلقه (الرحيم) بالمؤمنين خاصة)( ).
كما يمكن إرادة معنى الخصوص في اسم الرحمن أنه خاص بالدنيا لينتفع من معاني الرحمة فيه البر والفاجر والمؤمن والكافر ، قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( ).
أما الرحيم فهو اسم عام يشمل الحياة الدنيا وعالم البرزخ والآخرة ، وهو خاص بالمؤمنين .
فينتفع المؤمن والكافر من معاني اسم الرحمن في الدنيا ، أما في الآخرة فيختص المؤمنون بالإنتفاع من معاني الرحيم ، وفي التنزيل [هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا] ( ).
الخامس : في إجتناب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغزو تأديب للمسلمين وإرشاد للدعوة إلى الله بالمعجزة والبرهان والدلالات الساطعة ، وفي التنزيل [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
السادس : بعث الطمأنينة في قلوب المسلمين والناس جميعاً ، أما المسلمون فانهم لا يغزون ويقتلون ، وأما عامة الناس فأنهم في أمن من غزو المسلمين وغيرهم ، ومن الأمان في المقام آية الرباط وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) .
وقد بينّا وجوهاً من دلالة الآية أعلاه على الأمن والسلامة من الغزو( )، فان قلت قد جمعت المؤمن والكافر في مسألة الطمأنينة أعلاه .
والجواب قد تفضل الله بالجمع بين الناس والخلائق كلها في الرحمة الإلهية بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) .
وهل لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته رحمة وموضوعية في اكتشاف الفضاء في هذا الزمان والأزمنة اللاحقة بما يمنع من الإضرار العام بالناس , الجواب نعم .
وهل معركة بدر ونتائجها من الرحمة التي تذكرها الآية أعلاه ، الجواب نعم ، فان المشركين هم الذين أصروا عليها ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون كارهين لها ، وفي التنزيل [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]( )لتكون ذات المعركة رحمة للمسلمين بدليل خاتمة الآية أعلاه ، وكذا نتائجها التي تتجدد إلى يوم القيامة .
ومن الرحمة في المقام أن النبي لم يغز المشركين في معركة بدر ، ولم يطلب القتال ، وفيه بيان قانون وهو خسارة المشركين القتال مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء أصروا على القتال أو لا واختاروا زمانه ومكانه أو لا .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوه :
الأول : التداخل وعدم الفصل بين المعجزة العقلية والحسية.
الثاني : ترشح المعجزة العقلية عن المعجزة الحسية .
الثالث : تفرع المعجزة الحسية المتعددة عن المعجزة العقلية .
الرابع : مجئ المعجزة العقلية والمعجزة الحسية في الموضوع المتحد.
ومن خصائص معركة بدر إجتماع الوجوه الأربعة أعلاه ، وهل هذه المعجزات من مصاديق النصر في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( ).
الجواب نعم ، وهي من رشحات هذا النصر ومثلما يستحضر المسلمون وغيرهم هذه المعجزات في كل زمان فانه تتجدد مصاديق لها في الأزمنة المتعاقبة ، وهو من أسرار توجه الخطاب أعلاه لكل المسلمين والمسلمات باجيالهم المتعاقبة، وذات النصر هبة وفضل من الله على الموجود والمعدوم منهم .
وهل توجه الخطاب في آية ببدر للمسلمين جميعاً ، وعطفها على نداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] ( ) من المعجزات العقلية .
الجواب نعم لتكون تلاوة الآية واستحضار أحداث معركة بدر دعوة للناس جميعاً للتدبر باسرارها ، وضروب الإعجاز فيها والعلل الغيبية لتحقيق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه النصر المبين.
قانون دخول أبناء رؤساء الكفر الإسلام
لقد جعل الله عز وجل قلوب الناس بيده سبحانه يقلبها كيف يشاء ، وليس من حصر لمعجزات النبوة , وهي من وجوه :
الأول : المعجزات التي تتقدم البعثة النبوية وتكون مقدمة لها ودعوة للتصديق بالرسالة ، فمن فضل الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم البشارات بنبوته والعلامات الدالة على قرب زمان بعثته ومنه قوله تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا] ( ) ، ومنه ما ورد على لسان عيسى عليه السلام [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ).
(قال علي بن أبي طالب وابن عمه عبد الله بن عباس،: ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بَعَث محمدًا وهو حَيّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمَرَه أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصرُنَّه)( ).
(عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص قلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . قال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً }( ) وحرزاً للأميين ، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلا الله . ويفتح به أعينا عمياً ، وآذاناً صماً ، وقلوباً غلفاً) ( ).
الثاني : المعجزات التي تجري على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحسيات سور الموجبة الكلية ، فليس من نبي إلا وله معجزات حسية مثل سفينة نوح , وناقة صالح , وعصا موسى وإبراء عيسى الأكمه والأبرص , ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية كثيرة منها انشقاق القمر ، قال تعالى [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ] ( ) .
ولم يرد لفظ انشق في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وتسبيح الحصى بين يديه وتكثير الطعام القليل ليشبع الجماعة الكثيرة وغيرها.
ومن فضل الله علينا في هذا التفسير ذكر معجزات حسية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هي أضعاف ما مذكور في الكتب السابقة ، ولا يعني هذا أنها تأتي بجديد من الأخبار والوقائع ، ولكن تبين بالدلائل على أن ذات الأمر والفعل معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ).
الثالث : مما تتصف به نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تصديقه وأمته بمعجزات الأنبياء السابقين وتثبيتها بين الناس الى يوم القيامة، وهذا التصديق من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وقد ذكرنا معجزات عديدة في هذا السِفر لم تذكر من قبل كمعجزات منها :
الأولى : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كتائب متعددة من المدينة ورجوعه من غير أن يغزو قرية أو بلدة أو يستولي على إبل وأنعام , أو يتلف زرعا .
الثانية : عدم ابتداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتال حتى عند التقاء الصفين ، ووجود ثغرة وغفلة عند المشركين .
الثالثة : مناداة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفين (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).
ويذكر أفراد جيش المشركين هذا النداء عندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينادي فيه بالمسجد الحرام ويطوف على القبائل في منازلهم في منِى وأسواق مكة قبل الهجرة فان قلت ليس كل أفراد الجيش قد سمعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ينادي بكلمة التوحيد ، كما في الثلاثة آلاف من جيش المشركين في معركة أحد .
وهذا صحيح إلا أنه من الإعجاز في ذات كلمة التوحيد ، ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الحاضر يبلغ الشاهد بها ، سواء قبل الهجرة أو بعدها ، وقبل معركة بدر أو أثناء المعركة ، ومن لم يسمعها فقد سمعها في ميدان المعركة ليقوم بالتدبر في معانيها ، ويخبر عنها أهله وأصحابه والذين في ناحيته .
فاذا سئل : من الذي قاتلتموه يأتي الجواب منه انطباقاً وقهراً ، قاتلنا النبي الذي ينادي قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) ( )، وحتى لو لم يذكر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة واكتفى بالقول قاتلنا الذي ينادي قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) فان الناس يستهجنون محاربة التوحيد والذي يدعو اليه بالفطرة ، وتفضل الله عز وجل بالنفخ من روحه في آدم ، وفي التنزيل [إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (ص/71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ]( )، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الرابعة : ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة في حال الهجوم أو نكوص وإنسحاب طائفة من أصحابه ، كما في معركة أحد ، قال تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ( ) لبيان حقيقة وهي أنه من أفراد النعم التي نزلت على المسلمين هو بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان مع عدد محدود من أهل بيته وأصحابه .
وقال الواقدي (وَثَبَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ فِي عِصَابَةٍ صَبَرُوا مَعَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا ، سَبْعَةٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَسَبْعَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : أَبُو بَكْر ٍ ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِمْ السّلَامُ ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ ، وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ ، وَمِنْ الْأَنْصَارِ : الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ ، وَأَبُو دُجَانَةَ ، وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِت ٍ وَالْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ . وَيُقَالُ ثَبَتَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ، فَيَجْعَلُونَهُمَا مَكَانَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ .
وَبَايَعَهُ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ عَلَى الْمَوْتِ – ثَلَاثَةٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَخَمْسَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : عَلِيّ ، وَالزّبَيْرُ ، وَطَلْحَةُ وَأَبُو دُجَانَةَ ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ ، وَحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ ، وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِت ٍ وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ . وَرَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَدْعُوهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ حَتّى انْتَهَى مَنْ انْتَهَى مِنْهُمْ إلَى قَرِيبٍ مِنْ الْمِهْرَاسِ .) ( ) .
والمهراس ماء قريب من جبل أحد أشبه بالحوض الكبير وسط الوادي على يسار الصاعد إلى جبل أحد ، وفيه قبر حمزة بن عبد المطلب وذكره سُدَيْفُ بنُ إِسْمَاعِيلَ :
(اذْكُرُوا مَصْرَعَ الحُسَيْنِ وزَيْدٍ … وقَتِيلاً بِجَانِبِ المِهْراسِ
هكذا أَنْشَدَه الصّاغَانِيّ والرّواية واذْكُرَنْ مَصْرَعَ الحُسيْن وأَوَّلَه :
لا تُقِيْلَنَّ عَبْدَ شمْسٍ عِثَاراً … واقْطَعَنْ كُلَّ رَقْلَةٍ وغِرَاس
أَقِصِهمِ أَيُّهَا الخَلِيفَةُ واحْسِمْ … عَنْكَ في الدَّهْرِ شَأْفَةَ الأَرْجَاسِ)( ).
قال ابن اسحاق(فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب رحمة الله عليه بالدرقة حتى ملأها ماء من المهراس. ثم جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فوجد له ريحاً فعافه فلم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم وصب على رأسه وهو يقول : اشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله) ( ).
فان قيل كثير من القادة والفرسان يثبتون في الميدان ، ولا يكون هذا الثبات معجزة ، الجواب هذا صحيح ، ولكن ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومقدماته ونتائجه من الشواهد على صدق نبوته .
فمثلاً في عالم الرؤيا تأتي الرؤيا الصادقة للمؤمن وغيره ، ولكن الرؤيا التي يراها الأنبياء يدركون معها أنها من الوحي وهو من فضل الله وسعة رزقه وتعدد آياته , وفي التنزيل [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ…]( ).
وبين بقاء أربعة عشر صحابيا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ومبايعة ثمانية منهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على الموت عموم وخصوص مطلق في الموضوع ، ولا ملازمة بين التباين والمبايعة على الموت ، فقد يثبت في الميدان من لم يبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الموت .
والجواب هذا صحيح ، ولكن في ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسائل :
الأولى : ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه في الميدان مع قرب العدو منه بوحي من عند الله ، إذ صارت حجارة المشركين تصل اليه وشج في وجهه وكسرت اسنانه الأمامية ليكون بقاؤه وسط الميدان من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) . وشاهداً على التأريخ بأن المسلمين لم يخسروا معركة أحد.
الثانية : يحمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسرار التنزيل ومن إعجاز القرآن نزوله نجوما وعلى نحو التدريج والتوالي في أيام وأشهر وسني البعثة النبوية ، مما يدل على حاجة الناس لسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حين تمام نزول القرآن لأنه لم ولا ينزل على غيره من البشر ، وهل فيه واقية سماوية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
الثالثة : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عيه وآله وسلم ، وإخبار النبي محمد وأصحابه عن هذا المدد الملكوتي ، كما ورد في التنزيل [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها لم تأت بصيغة الأمر (قل للمؤمنين) إنما وردت بصيغة الجملة الخبرية ، وفي ساعة الشدة والمحنة لبيان حال اليقين التي عليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والوثوق بنزول الملائكة وأنه يراهم في نزولهم للنصرة ترى ماذا لو لم ينزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه الجواب ذات النتيجة من دفع شرور الذين كفروا ، وانقلابهم (خائبين) لعمومات قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
والذي يدل بالدلالة التضمنية على تحقق النصر في المعركة للمسلمين .
الرابعة : تنمية ملكة الثبات في حومة القتال عند المسلمين ، وإجتناب الفرار عند القتال.
الخامسة : بعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا ، والقاء اليأس في نفوسهم بتجلي قانون وهو ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الميدان .
السادسة : تجلي مصداق لشوق المسلمين للتضحية والشهادة ، وليكون من معاني قوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( )، ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان مع اشتداد هجوم الذين كفروا .
السابعة : بيان قانون وهو وجود عدد من أهل البيت والصحابة يضحون بأنفسهم دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال تعالى [فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً]( ).
الثامنة : بيان مصداق لمنهج الأنبياء في ميدان القتال بعدم فرار النبي من حومة الوغى عند القتال ، وهو من مصاديق انتفاء الوهن أو الضعف أو الإستكانة بقوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه وتحقق مصداقها يوم أحد ثبات عدد من الصحابة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ، فهم (ربيون) من الذين تذكرهم الآية أعلاه.
فان قلت كان عدد الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ قليلاً بينما تقول الآية أعلاه (ربيون كثير) والجواب المراد أعم من أن يختص بمعركة أحد ، ويشمل معارك الإسلام الأولى ومنها بدر والخندق ، وحنين التي بادر المسلمون للرجوع إلى الميدان لثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم واجتمعوا حوله ثلاثمائة من أصحابه (وقال : الآن حمى الوطيس( ).
وتتصف رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن اختصاصه بالمعجزات العقلية ، وكل آية قرآنية معجزة عقلية له صلى الله عليه وآله وسلم، والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي السالم من المعارضة .
ومن خصائص النبوة مصاحبة المعجزة للنبي في مدة بعثته إلى حين مفارقته إلى الرفيق الأعلى .
الرابع : المعجزات التي تبقى أو تأتي بعد وفاته ومغادرته الدنيا إلى الخلود في النعيم .
وأختص النبي صلى الله اليه وآله وسلم بكثرة وتجدد معجزاته بعد وفاته ، وهل تلاوة المسلمين والمسلمات كل يوم للقرآن في الصلاة معجزة للنبي محمد صلى الله وآله وسلم , الجواب نعم ، لتكون معجزاته من اللامتناهي ، بلحاظ أن كل تلاوة من أحد المسلمين في فريضة صلاة من الفرائض اليومية الخمسة هو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويمكن شكر هذه المعجزة بعد الآيات التي يقرأها المسلم أو المسلمة في الصلاة فقراءة المسلم في الصلاة لقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، معجزة وقراءته لقوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( )، معجزة وكذا باقي الآيات، وفي التنزيل [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
ويترشح الإعجاز عن القرآن وآياته في كل زمان ومكان ، وجاء زمن العولمة وعالم الفضائيات لتتجلى وتستبين المعجزة للناس والتدبر في مضامينها ومعانيها .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دخول أبناء الكفار الإسلام في ذات الوقت الذي يحارب ويقاتل آباؤهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، مع أن الأصل والعرف آنذاك هو تبعية الابن للأب في الحرب والسلم ، وبذل الولد نفسه دون أبيه وسعيه لدفع الأموال للذب عن أبيه والثأر له.
وبعد بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تغيرت أحوال الناس وصارت موضوعية للإيمان في الصلات الإجتماعية والنظم العامة ، وأدرك الناس أن برّ الوالدين يقّوم بالإيمان ، مع لزوم عدم إيذاء الابن لأبويه وإن كانا كافرين ، قال تعالى [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا] ( ).
وقد تجلت مصاديق متعددة لإيمان أبناء الذين كفروا ذكوراً وأناثاً من بدايات البعثة النبوية ، وقبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، إذ يعود بعض الكفار من دار الندوة ومن المسجد الحرام ومن عملهم في مكة أو في التجارة فيفاجئون بدخول أبنائهم الإسلام ، وتلاوة القرآن في بيوتهم ، فيشتد إيذائهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يمنع هؤلاء الأبناء من دخول الإسلام أو يكره دخولهم له لأنه سبب لزيادة إيذاء وتعذيب الذين كفروا للمسلمين.
فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يمنع أحداً من دخول الإسلام ، إذ جعل الله عز وجل دخول الإسلام صلة بينه وبين العبد فحالما ينطق بالشهادتين يصبح مسلماً ، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين .
ودخول أبناء رؤساء الكفر من قريش الإسلام حجة عليهم مجتمعين ومتفرقين ودعوة لهم للهداية .
وقد هاجر بعض أبناء الذين كفروا إلى الحبشة وإلى المدينة المنورة بدينهم وطاعة لله ورسوله ، وفي معركة بدر عندما التقى المسلمون الذين كفروا في ميدان المعركة كما في قوله تعالى[وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، تجلى قانون إيمان أبناء الذين كفروا ، بأن كان في جمع المؤمنين (أبو حذيفة) وفي جمع الذين كفروا أبوه عتبة بن ربيعة وأخوه الوليد بن عتبة ، وعمه شيبة بن ربيعة.
وقد سأل أبو حذيفة النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يبرز لقتال أبيه ، فلم يأذن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وبعد إنقضاء معركة بدر سُحب قتلى المشركين وعددهم سبعون إلى قليب بدر ، ولما سحبوا جثة عتبة إلى القليب نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى أبي حذيفة فرآى تغير وجهه واصفراره .
قال ابن اسحاق : وتغير وجه أبى حذيفة بن عتبة عند طرح ابيه في القليب ففطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له لعلك دخلك في شأن ابيك شئ فقال لا والله لكنى كنت اعرف من ابى رأيا وحلما وفضلا فكنت ارجو ان يهديه الله للاسلام فلما رأيت ما مات عليه اخذني ذلك , قال فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير.
ومات يومئذ فتية من قريش على كفرهم ممن كان فتن على الاسلام فافتتن بعد اسلامه منهم من بنى اسد الحرث بن زمعة بن الاسود من بنى مخزوم ابو قيس بن الفاكه وابو قيس بن الوليد بن المغيرة( ).
ويستلزم هذا القانون ذكر أسماء الذين دخلوا الإسلام من الذكور والأناث في حياة آبائهم الكفار ، وما لاقوه من الأذى من آبائهم وعامة المشركين وكيف أن الله عز وجل أظهرهم على المشركين سواء على نحو القضية النوعية بنصر الإسلام ، أو القضية الشخصية بتهيئة أسباب عز ورفعة المسلم الذي هجر دين الضلالة التي عليها أبوه .
ولم تكن هذه المعجزة خاصة بأهل مكة قبل الهجرة النبوية ، إنما هي تشمل أيام ما بعد الهجرة بدخول أبناء الذين كفروا في مكة الإسلام ، وكذا في المدينة إذ فاتح شباب الأنصار آباءهم الذين كانوا على الكفر لدخول الإسلام ، وكان ذوو القربى وأفراد القبيلة يتعاونون على دخول الآباء في الإسلام ، وترغيبهم بالإيمان ، وبيان معجزات النبي لهم ، وقد أفلحوا في الأمر .
وفي صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة ، وعندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهم باتمام عقد الصلح مع سهيل بن عمرو رئيس وفد قريش جاء أبو جندل ابن سهيل بن عمرو نفسه مقيداً بالحديد والسلاسل ، من قبل أبيه بعد دخوله الإسلام وحسن سمته وإيمانه ، فكان مجئ أبي جندل هذا سبباً لظهور الغضب والسخط على الصحابة ، ودعا بعضهم إلى عدم إبرام الصلح.
وكان أبو جندل يستغيث بالمسلمين ويستجير بهم ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاه والمسلمين الى الصبر ، وبيّن لهم موضوعية العقد وإن لم يبرم ويوقع بعد وهو من مصاديق قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، ليكون من معاني المصابرة والرباط حضورهما في الصلح والموادعة .
وفيه شاهد بأن النبي محمداّ صلى الله عليه وآله وسلم يدفع أسباب ومقدمات القتال ، ويسعى الى الصلح والموادعة ، وهي مناسبة لبيان معجزاته ، وتوالي نزول القرآن ومعرفة الناس بها ، ودخول الذين كفروا وأبنائهم الإسلام .
وهل دخول أبناء رؤساء الكفر من قريش الإسلام قبل آبائهم من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، بلحاظ أحوال الناس في تلك الأزمنة ، وإتباع الأبناء للآباء ولكن الأبناء أدركوا ضلالة آبائهم وهذا لا يعني أن كل أبناء الذين كفروا دخلوا الإسلام قبل الهجرة أو قبل الفتح ، إنما كانت هناك شواهد كثيرة على هذا الدخول.
لقد كان جحود كفار قريش بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستهزائهم بالتنزيل ، وتحشيدهم الجيوش لمحاربته صدّاً عن سبيل الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( ).
فتفضل الله عز وجل بمواساة النبي وأهل بيته وأصحابه بدخول أبناء الذين كفروا الإسلام ، وهل هذا الدخول من مصاديق تعذيب الله عز وجل للذين كفروا الذي تذكره آية البحث ، أم أنه ليس من عذابهم هذا.
المختار هو الأول ، ويكون عذابهم باصرارهم على الكفر ، وبدخول أبنائهم وغيرهم الإسلام لأنه من مصاديق وما ورد في التنزيل [وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
ومن وجوه عذاب الذين كفروا عذابهم ببقائهم على الكفر مع إدراك أبنائهم لوجوب الإيمان ونبذ عبادة الأوثان ، والأصل هو أن يشكر الأب الله عز وجل على إيمان وصلاح ابنه ، وهذا الإيمان حياة ، قال تعالى[أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ] ( ).
ومن أحكام الشريعة أن الابن يلحق بأبيه في الإسلام ، فان دخول أبناء الذين كفروا الإسلام يعني انقطاع الكفر في تلك الأسر إلى يوم القيامة ، لتزداد حدة الأحقاد على المسلمين ، قال تعالى [وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( )، ويكون من الصدّ في المقام بلحاظ هذا القانون وجوه :
الأول : منع الأبناء من دخول الإسلام .
الثاني : دفع الأبناء لمشاركتهم في حربهم ضد الإسلام ، وكم من مسلم أخرجه أبوه معه إلى معركة بدر أو معركة أحد إلى جانب المشركين .
الثالث : جلب اسباب الدعوة والتبليغ عن الأبناء .
الرابع : صدّ الأبناء عن الصلة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإنصات له ، والإستماع لآيات القرآن .
الخامس : تعذيب الأبناء الذين يدخلون الإسلام والتضييق عليهم ، ومن هذا التعذيب عدم إختصاصه بالأب ، إنما يقوم رؤساء الكفر الآخرون بإيذاء المسلم من أبناء أحدهم.
وهو من تعاون الكفار على الإثم والعدوان ، الذي انقطع بسيادة مفاهيم وسنن الإيمان والإعجاز في أداء المسلمين الصلاة خمس مرات في اليوم بما يتوزع على آنات وسط وأطراف النهار ، وساعة الشفق وشمول المسلمين والمسلمات جميعاً بالتكليف بالصلاة ، مع الترغيب بصلاة الجماعة والإخبار عن مضاعفة الثواب فيها.
وعن أبي سعيد الخدري قال : صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة ( )، وبيان صفحة من الصبر والجهاد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لقانون تأذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إيذاء الذين كفروا لأي فرد من المسلمين خاصة أولئك الشباب الذين ثاروا على عبادة الأوثان .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : لَقَدْ أُوذِيتُ فِى اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِى اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَىَّ ثَالِثَةٌ وَمَا لِىَ وَلِبِلاَلٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلاَّ مَا وَارَى إِبِطُ بِلاَلٍ( ).
وهل أبناء الذين كفروا الذين دخلوا الإسلام من المتقين الذين ورد ذكرهم بقوله تعالى [إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ]( )، ويتصفون بصفتين :
الأولى : التقوى والخشية من الله .
الثانية : ولاية المسجد الحرام .
الجواب نعم .
وتقدير آية البحث : وما كانوا أولياءه إن أولياءه إلا أبناءهم المؤمنين ، لبيان مصداق لآية البحث من جهات :
الأولى : إقامة الحجة على الذين كفروا بصدهم عن المسجد الحرام بمنعهم أبنائهم من دخول الإسلام ، وتعذيبهم لهم.
الثانية : من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) إعادة ولاية المسجد الحرام إلى أهلها المؤمنين ، ومنع اتخاذ المشركين له ولولايته سبباً للظلم للذات والغير .
الثالثة : وجود ولاية للمسجد الحرام ، وهذه الولاية بتعيين من الله عز وجل لصفات هؤلاء الأولياء من وجوه :
الأول : الإسلام .
الثاني : الإيمان، وفي التنزيل [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) .
وهل تخرج الآية أعلاه الأعراب من ولاية البيت الحرام ، الجواب نعم ، ولكن ليس كل الأعراب ، فمن الأعراب من يتصفون بالإيمان ، قال تعالى [ وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثالث : التقوى والخشية من الله عز وجل في السر والعلانية ، ومن خصائص اجتماع هذه الصفات بأولياء المسجد الحرام أمور :
الأول : تجلي هذا التعيين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من المهاجرين والأنصار بينما كانت ولاية المسجد خاصة بنفر من قريش ، ونزل القرآن بقانون ثابت الى يوم القيامة بأن ولايته للمتقين الذين يخشون الله بالسر والعلانية.
الثاني : حث المسلمين على بلوغ مراتب الإيمان ، والإرتقاء الى درجات التقوى والخشية من عند الله عز وجل ، والتدرج فيها .
الثالث : المراد من لفظ المتقين في الآية عموم المؤمنين ، إنما ذكرت التقوى للثناء على المسلمين لأن الذي يهجر ويجتنب الكفر له مرتبة في التقوى لبيان قانون وهو أن النطق بالشهادتين من التقوى ، ثم يكون أداء الفرائض من التقوى وتنمى ملكة التقوى حتى يمتنع المؤمن عن فعل المعصية .
والتقوى لغة الوقاية والإحتراز والعون ، وهي في الإصطلاح سعي الإنسان بأن يأتي بالأفعال التي تنجيه من سخط الله ، وأن يمتنع عما يغضب الله عز وجل ، ومن إعجاز القرآن بيانه لسنن التقوى والوقاية ، وأسباب نزول سخط وغضب الله ، وفي التنزيل[وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( ).
ولبيان التباين والتضاد بين الذين كفروا والمسلمين ، لأن القرآن مثاني فذكرت الآية .
الرابع : دعوة المسلمين للصبر وتحمل الأذى ، وعدم الإجهاز على الذين كفروا أو غزوهم ، وقد تجلت صفات المؤمنين في قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينسَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( ).
الخامس : دعوة العرب والناس جميعاً لإزاحة الذين كفروا عن ولاية المسجد الحرام.
فمن خصائص آية البحث أنها جعلت الذين كفروا في حال خوف وفزع على شأنهم وأنفسهم ، لقد كانت القبائل وبلاط الروم وبلاط فارس والتجار في تلك الأمصار يدركون رفعة ومنزلة قريش بأنهم سدنة وأولياء البيت الذي تبجّله العرب جميعاً ، وأنه من ميراث الأنبياء ، ويحجون إليه كل عام ، فيشتري تجار قريش البضائع من الشام بالسلف والآجل ، وينقلونها بقوافل كبيرة في وسط الصحراء ، وبين الأعراب ، فلا يتعرض لها أحد ، إكراماً للمسجد الحرام وجواره وولايته .
فاسقطت آية ولاية المسجد ولاية الكفار إلى يوم القيامة , وبقي لقريش جوار المسجد ، وفيه حجة عليهم أيضاً للزوم أداء حق هذا الجوار ، والإتباع لأولياء المسجد الحرام الذين يتصفون بالتقوى والخشية من الله ، ومن الفطرة الإنسانية الميل إلى المتقين في المعاملة والصلات العامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا] ( ).
وهل في قوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( )، وقيام قريش بالتسوق النوعي وبالجملة لموسم الحج وأيام السنة الأخرى من تجار بلاد الروم وفارس سبباً في امتناعهم عن التعدي على مدن العرب في الجزيرة خاصة مكة والسعي للإستيلاء عليها ، الجواب نعم ، وان كان من أهم أسباب إنصراف بلاد الشام وفارس عن غزو الجزيرة أمور :
الأول : البراري الواسعة الفاصلة.
الثاني : قلة الماء فيها.
الثالث : خشية قيام الأعراب بالإغارة في الليل على الجيوش .
الرابع : سلامة الجزيرة من سلطان الملوك والدول العظمى آنذاك مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق المنّ في قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
ومع هذا فان آية قريش أعلاه تدل على بعث الود في نفوس الناس بقريش والرغبة في استمرار التجارة معها ، وهو من الإعجاز في السورة أعلاه وأسرار حفظ الله للبيت الحرام ، وفي دعاء ابراهيم ورد في التنزيل[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]( ).
لتدعو آية البحث أركان الحكم في بلاد الروم وفارس بحسن الصلة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وبالنظر إليهم بأنهم هم أولياء المسجد الحرام وأنهم في طريقهم إلى استلام هذه الولاية ، وجاء فتح مكة ليتحقق به هذه الولاية .
وتبين للناس جميعاً الإعجاز في آية ولاية المسجد ، وإنها تخبر عن حق للمؤمنين فيه نفع عام ، وما يلبث أن تنجز هذا الحق بآية من عند الله عز وجل ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
وهل تنجي الأبوة الذين كفروا من الإثم والعقاب ، إذا كان أبناؤهم مؤمنين، الجواب لا ، ويحتمل تعذيبهم هذا بلحاظ قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، وجوهاً:
الأول : إنه من عذاب الله للذين كفروا عن صدّهم أبناءهم عن الإيمان ، إذ أن البنوة نوع أمانة فيلزم الأب أن يدعو ابنه للإيمان وعمل الصالحات ، وقد جاء القرآن بوصايا الأنبياء لأبنائهم كما في قوله يعقوب عليه السلام لأبنائه كما ورد في التنزيل [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
وجاء القرآن بوصايا لقمان لابنه ، وهذه الوصايا من الأمور الجامعة العامة في الشرائع الإسلامية ، إذ ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( )، وكان كفار قريش يتجاهرون بالشرك وتقديس الأصنام.
الثاني : منع الأبناء عن الإسلام من الصدّ عن المسجد الحرام الذي تذكره آية ولاية المسجد ، إذ ذكرت آية البحث صدّ المشركين الناس عن المسجد الحرام والمراد المعنى الأعم ، منه أمور :
أولاً : الصدود عن الإسلام.
ثانياً : استقبال المسجد الحرام في الصلاة وطواف السلمين به.
ثالثاً : صدّ الناس عن تلاوة آيات القرآن والتسليم بأنها نازلة من عند الله سبحانه.
وحينما أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أداء العمرة والطواف بالبيت الحرام في السنة السادسة للهجرة منعتهم قريش وعقدوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صلح الحديبية ، وأبوا أن يقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من أصحابه وعددهم ألف وأربعمائة بأداء العمرة في تلك السنة ، ورضوا بأن يعودوا في السنة التالية ، والتي صارت تسمى عمرة القضاء.
فهل منع قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من العمرة وارجاء دخوله وأصحابه مكة إلى السنة التالية من صدّ الذين كفروا عن المسجد الحرام ، الجواب نعم ، إذ لا يحق لهم إرجاء وتأجيل دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وعامة الناس .
الثالث : لقد إتصف الذين كفروا من قريش بأنهم يصدون عن سبل الإيمان مجتمعين ومتفرقين ، وتتجلى مصاديق هذا الصدّ في ذات المسجد الحرام وفي المنتديات والبيوت والأسواق ، ثم جهزوا الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وهذه المحاربة من أشد وجوه الصد ، وكان الكفار لا يرضون لأبنائهم إلا الخروج معهم إلى ميدان المعركة ، ومنهم من دخل الإسلام ، وبايع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أو أنه نطق بالشهادتين ، وقيل فيهم نزل قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( ).
وفيه لوم لهؤلاء الشباب من المسلمين الذين كانوا يستطيعون الهجرة وتراخوا عنها ، إذ أن الأصل والواجب هو عدم خروجهم لقتال النبي.
وفي هجرة إخوانهم المسلمين إلى المدينة حجة عليهم وموعظة ، وحتى الذي يبقى في مكة فانه لا ملازمة بين بقائه فيها وبين الخروج لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الذين كفروا ، فجاءت آية ولاية المسجد وتعيينها واختصاص المتقين بها لوجوه :
الأول : نهي الذين كفروا عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : بيان قانون وهو أن الكفر قبيح ذاتاً وعيناً، وما يترشح عنه قبيح ، ومنه قيام الذين كفروا بالصد والمنع عن طاعة الله ورسوله ، قال تعالى [وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
الثالث : ترك الأبناء يختارون ما فيه نفعهم في النشأتين والإتعاظ منهم ، فان قلت الأصل هو أن الابن يقتدي بالأب ، ويتعلم منه ، وينتفع من خبرته في الحياة ، ولكن الذين كفروا انتهجوا الباطل ، واختاروا الضلالة وأقاموا على من ورثوه من آبائهم من الجهالة والغواية ، وفي التنزيل [وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ]( ).
فتفضل الله عز وجل وبعث النبي محمداً لبيان زيف هذه الوراثة ، التي جعلت الذين كفروا يجهزون الجيوش لمحاربة النبوة والتنزيل فنزلت آية البحث إنذاراً ووعيداً للذين كفروا وبياناً ووثيقة سماوية بأن صدهم عن المسجد الحرام يضر المسجد إنما يضرون به أنفسهم ، وهل يرضى الذين كفروا بالتخلي عن ولاية البيت الحرام كون أموره ترجع إلى المؤمنين.
الجواب لا ،فقد أظهروا البغضاء لكل الذين دخلوا الإسلام ، وفي التنزيل [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( )، فظهر الصراع بالقول والفعل المتكرر وعلى نحو يومي وأتخذ الذين كفروا من المسجد الحرام محلاً للفتنة والإضرار ، فافتتنت طائفة من الناس بفعلهم هذا لأن المسجد الحرام مصدر الهام وتقديس عند الناس ، وهو من الكلي الطبيعي.
الكلي وفق اصطلاح المنطق على اقسام :
الأول : منطقي .
الثاني : طبيعي .
الثالث : عقلي .
والكلي المنطقي والكلي العقلي موطنهما الذهن وعالم التصور كما في تطور صفات الإنسان .
أما الكلي الطبيعي فقد أختلف فيه ، وقال ابن سينا وجماعة بأنه موجود في الخارج والنزاع صغروي ، إذ أن ذات الطبيعة كالانساب موجودة في الخارج بذات المعنى وتحققه في وجوده الخارجي ولحاظ الطبيعة بحسب أفرادها ويصدق في المقام على الطائف والراكع والساجد , قال تعالى [وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ) .
ولكن الذين كفروا اختاروا محاربة الصلاة في المسجد الحرام من الأيام الأولى لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بالصلاة في المسجد هو وخديجة والإمام علي وبقية أصحابه.
الذي يكون للعرب جميعاً سهم من تعاهده واكرام المتولين له ، ومن وجوه الإكرام الإنصات لهم .
وقد يؤدي هذا الإنصات إلى حدوث المعارك الكثيرة وجريان الدماء من المسلمين ومن الذين كفروا وأتباعهم ، فجاءت آية البحث لدفع هذه المعارك بكشف زيف المقدمات التي يتخذها الذين كفروا للتحريض على الإسلام ، والعداء للمؤمنين ومن أهم هذه المقدمات صدور ظلم وعدوان الذين كفروا بصفتهم أولياء للمسجد الحرام لبيان قانون وهو أن الله عز وجل يدفع أسباب القتال بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وبين الذين كفروا ، قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ] ( ).
فكما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً فان الله عز وجل يخفف عنه وعن المؤمنين وعن الناس جميعاً بصرف مقدمات القتال بينهم، وفي التنزيل [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
وبين القتال والغزو عموم وخصوص مطلق ، فان القتال أعم فقد يقع من غير غزو ،وإذا كانت معركة أحد والخندق غزواً من قبل المشركين للمدينة مع إرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهل معركة بدر غزو من قبل المشركين خاصة وأنهم أصروا على القتال يومئذ.
الجواب لا ، فلم يكن المشركون يقصدون يومئذ غزو المدينة ، فقد خرجوا لنجدة قافلة أبي سفيان بعد أن حضر إلى مكة رسول منه وهو ضمضم بن عمرو يندبهم للخروج لإنقاذ قافلة أبي سفيان من تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لها ، وتهيأت قريش للخروج بنفير عاجل ، وبعد ثلاثة أيام من وصول رسول أبي سفيان خرجت قريش بخيلها وخيلائها ، وما أن قطعوا مسافة جاءهم رسول آخر من أبي سفيان يخبرهم بنجاة القافلة ، وأنها تسير باتجاه مكة بأمان ، ولكنهم لم يرجعوا بل استمروا بالزحف .
معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم العقلية
من فضل الله عز وجل على الناس بعث الأنبياء من جهات :
الأولى : إبتداء حياة الإنسان في الأرض بنبوة آدم عليه السلام ، فحينما هبط آدم إلى الارض كان نبياً رسولاً ، ليكون حجة الله في الأرض ، يدعو ذريته إلى الإيمان ، ويجعله تركه مباركة وإرثاً عقائدياً واجباً .
الثانية : تعاقب الأنبياء في الأرض ، قال تعالى [ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
وقد يكون أكثر من نبي في زمان واحد رحمة من عند الله عز وجل بالناس وللحجة عليهم ، وجذباً لهم لسبل الهداية والإيمان ، وليشد الأنبياء بعضهم عضد بعض ، كما في موسى عليه السلام ، إذ سأل الله عز وجل كما في التنزيل [وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي] ( ) .
وعن ابن عباس (في قوله { وأشركه في أمري } قال : نُبِئَ هرون ساعتئذ حين نبئ موسى عليهما السلام) ( ).
وقد يكون أكثر من نبي في موضع ومحل واحد ، أو في مواضع وأمصار متعددة ولكن في زمان متحد، وعدد الأنبياء هو مائة وأربعة وعشرون ألف نبي.
الثالثة : مصاحبة المعجزة للنبي لتكون دليلاً على صدق نبوته ، وشاهداً على التوحيد ، وطريقاً مستقيماً للهداية والرشاد .
الرابعة : إتصاف معجزة أي نبي بما يناسب أهل زمانه ، والأمر الذي يولونه العناية ، فلما كان قوم فرعون يهتمون بالسحر ، ويجعلون للسحرة شأناً ومنزلة جاء موسى بآية ومعجزة العصا التي فضحت أوهام السحر ، وحيل السحرة ، قال تعالى [فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ) .
ولما كان الطب هو الشائع في أيام عيسى عليه السلام رزقه الله عز وجل المعجزة الخارقة في الطب والشفاء ، وفي التنزيل [وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ]( ) . وهل فيه بشارة بقدرة العلماء على أحياء الميت بعد ساعات من موته في بعض حالات موت الفجأة الجواب نعم ، إنما وردت معجزات الأنبياء للحجة والبرهان على صدق نبوته ، وبعث الناس على التعلم والإرتقاء في العلم لكشف حقائق وعلوم كانت بصفة المعجزة في أيام الأنبياء ويمكن انشاء قانون وهو معجزات الأنبياء التي لها مصاديق علمية في آخر زمان ولهذا القانون إضافات متجددة في كل زمان.
الرابعة : تعدد معجزات كل نبي من وجوه :
الأول : كثرة مصاديق المعجزة الواحدة كما في ناقة صالح إذ كانت ترد الماء في يوم مخصوص ، وتعطي من الحليب ما يكفي القرية كلها ، فحينما أخبر صالح قومه أنه نبي مرسل لهم من عند الله ، فسألوه أن يأتي لهم بآية تدل على صدق نبوته ويظهر أن أجيال الناس أن الناس يدركون قانون مصاحبة المعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فجاءهم صالح بناقة ، وفي التنزيل [قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ] ( ) إذ يكون شرب ماء البئر بالتناوب بينها وبين إبل وأنعام القوم ، فاذا كان يوم شربها تشرب الماء كله .
وفي اليوم التالي يسقون لأنفسهم ولمواشيهم وأرضهم ، ويدخرون من الماء ليوم الناقة ، وكانت أغنامهم وأبقارهم وابلهم تهرب من الناقة إذا أقبلت عليها ، لضخامة جسمها ، (قال أبو موسى الأشعري : أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستين ذراعاً) ( ).
الثاني : تعدد معجزات بعض الأنبياء ، كما في معجزات موسى وعيسى عليهما السلام ، وفي موسى ورد في التنزيل [وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ]( ).
وعن ابن عباس قال (التسع آيات : يد موسى ، وعصاه ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والسنين في بواديهم ومواشيهم ، ونقص من الثمرات في أمصارهم) ( ).
الثالث : حضور المعجزة للنبي بفضل من الله عز وجل وللإحتجاج على الذين كفروا .
الرابع : تلاوة المسلمين لآيات القرآن وما فيها من ذكر لمعجزات الأنبياء ، لتكون هذه التلاوة أحياء للمعجزات .
الذين استثناهم النبي (ص) من العفو العام يوم الفتح
ومنهم :
الأول : عبد العزى بن خطل الأدرمي من بني تميم بن غالب ، وكانت قريش تسميه ذا القلبين والذي أبدل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اسمه الى عبد الله وقيل اسمه هلال ، والصحيح أنه عبد الله بن هلال والذي كان أسلم وهاجر الى المدينة .
فبعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجمع الصدقة ، وارسل معه رجلاً من الأنصار ، وكان معه مولى له مسلم فامره أن يذبح له تيساً ويصنع له طعاماً ويخدمه فنزلا في مجمع( ).
وذكرت بعض كتب السيرة بأنه كان معه رجل واحد وليس رجلين ، فأمر ابن خطل صاحبه أن يصنع له طعاماً ، ثم نام نصف النهار فلما استيقظ وجد صاحبه نائماً أيضاً فغضب عليه وعدى عليه فقتله ، ثم خاف من إقامة الحد عليه ، فهرب إلى مكة وأخذ إبل الصدقة.
لقد ارتكب ابن خطل الإثم من وجوه :
أولاً : قتل المسلم الذي معه من غير حق .
ثانياً : خيانة الأمر الذي أكرمه به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن بعثه مصدّقاً يجمع أموال الصدقة .
ثالثاً : كان ابن خطل ممن يكتب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوحي ، فكان إذا نزل (غفور رحيم) كتب رحيم غفور ، وإذا نزل (سميع عليم) كتب عليم سميع ، فقال له النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : أعرض عليّ ما كنت أملي عليك
مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتابع ما يكتب كتاب الوحي لمنع أي اختلاف عن التنزيل في التدوين أو التلاوة أو النقل.
(فلما عرضه قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كذا أمليت عليك غفور رحيم ورحيم غفور وسميع عليم وعليم سميع فقال بن خطل : ان كان محمدا نبيا فاني ما كنت أكتب له الا ما أريد ثم كفر ولحق بمكة)( ).
(عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قال إن الله حرم هذا البلد يوم خلق السموات والارض وصاغه يوم صاغ الشمس والقمر وما حياله من السماء حرام وأنه لا يحل لاحد قبلي وإنما حل لي ساعة من نهار ثم عاد كما كان) ( ).
وعن أنس قال : دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم الفتح مكة وعلى رأسه المغفر، فقيل له: هذا ابن خطل متعلقاً بالأستار، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : اقتلوه( ) .
بينما لم يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتل كعب ابن الأشرف صراحة مع شدة إيذائه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وسعيه في الفتنة .
واختلف فيمن قتله ، وقيل قتله سعيد بن حريث ولما قتل ابن خطل قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا يقتل قرشي بعد هذا صبراً.
رابعاً : إرتداد ابن خطل مشركاً في مكة.
خامساً : قيام ابن خطل بهجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
سادساً : كانت لابن خطل قينتان يأمرهما بأن يغنيا بهجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
سابعاً : إغواء ابن خطل لأهل مكة بالإفتراء على التنزيل ، وإرادة صد الناس عن الإسلام ، وإحراج المسلمين الذين لا زالوا في مكة من الرجال النساء .
ثامناً : في فتح مكة عندما علم ابن خطل بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لبس الحديد وحمل السلاح وتوجه لقتالهم قال الواقدي : وأقبل ابن خطل جائياً من مكة، مدججاً في الحديد، على فرس ذنوب ( )، بيده قناةٌ. وبنات سعيد بن العاص( ) قد ذكر لهن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل، فخرجن قد نشرن رءوسهن، يضربن بخمرهن وجوه الخيل، فضربهن ابن خطل جائياً من أعلى مكة .
فقال لهن: أما والله لا يدخلها حتى ترين ضرباً كأفواه المزاد( ) ! ثم خرج حتى انتهى إلى الخندمة ، والظاهر أنهن بنات أبي أحيحة ، قال الواقدي (وَمَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إلَى جَنْبِهِ يَسِيرُ يُحَادِثُهُ فَمَرّ بِبَنَاتِ أَبِي أُحَيْحَةَ بِالْبَطْحَاءِ حِذَاءَ مَنْزِلِ أَبِي أُحَيْحَةَ وَقَدْ نَشَرْنَ رُءُوسَهُنّ يَلْطِمْنَ وُجُوهَ الْخَيْلِ بِالْخُمُرِ فَنَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَتَبَسّمَ وَذَكَرَ بَيْتَ حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ فَأَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ:
تَظِلّ جِيَادُنَا مُتَمَطّرَاتٍ … يُلَطّمُهُنّ بِالْخُمُرِ النّسَاءُ) ( ).
فرأى خيل المسلمين ورأى القتال، ودخله الرعب حتى ما يستمسك من الرعدة، حتى انتهى إلى الكعبة فنزل عن فرسه، وطرح سلاحه، فأتى البيت فدخل بين أستاره.
(فقتله سعيد بن حريث المخزومى وأبو برزة الاسلمي) ( ).
الثاني: الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي ذكره موسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي في مغازيه , وهو من أصح المغازي ، ولد في المدينة وتوفى فيها سنة 141 هـ .
ولم تذكر كتب الرجاليين سنة تولده إلا أنه أخبر عن نفسه بالقول حججت البيت وابن عمر بمكة عام حج نجدة الحروري .
قال ابن الآثير : (وحج نجدة سنة ثمان وستين، وقيل سنة تسع وستين، وهو في ثمانمائة وستين رجلاً، وقيل في ألفي رجل وستمائة رجل، وصالح ابن الزبير على أن يصلي كل واحد بأصحابه ويقف بهم ويكف بعضهم عن بعض.) ( ).
وموسى بن عقبة من التابعين أدرك عدداً من الصحابة منهم جابر بن عبد الله الأنصاري وعبد الله بن عمرو وأنس بن مالك ، وسهل بن سعد .
قال موسى : سمعت أم خالد تقول (سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعوذ من عذاب القبر ) ( ) أي أن موسى بن عقبة أدرك بعض الصحابة وسمع منهم .
واسم أم خالد : أمة بنت خالد وهي بنت خالد بن سعيد وهي ممن هاجروا إلى الحبشة ، وقالت : لما قدم بي من ارض الحبشة رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.) ( ) .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخصها بالهدية ، وفي هديته سلامة وطول عمر ، وهل هدايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونفعها من مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) الجواب نعم .
(عن جابر ، قال : أقبلنا من مكة إلى المدينة ، فنزلنا منزلا دون المدينة ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : بعني جملك هذا ، قلت : لا ، بل هو لك .
فقال : لا بعنيه ، قلت لا ، بل هو لك يا رسول الله ، قال لا بعنيه ، قلت : كان لرجل علي أوقية من ذهب ، فهو لك بها ، قال صلى الله عليه وآله وسلم : قد أخذته ، فتبلغ عليه ، إلى المدينة .
فلما قدمت المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبلال : أعطه أوقية من ذهب ، وزده ، قال : فأعطاني أوقية( ) من ذهب ، وزادني قيراطا .
فقلت : لا تفارقني زيادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان في كيس ، فأخذه أهل الشام ، ليالي الحرة( )) ( ).
وكان في المدينة يومئذ شيخ يسمى شرحبيل بن سعد وهو من أعلم الناس بالمغازي ، وقد احتاج فصار يجعل سابقة لمن ليس له سابقة فاسقطوا مغازيه وعلمه ، فسمع موسى بن عقبة بالأمر ، فقال (وإن الناس قد اجترؤوا على هذا! فدب على كبر سنه وقيد من شهد بدراً فأحداً، ومن هاجر إلى أرض الحبشة والمدينة، وكتبه .
وكان مالك إذا سئل عن المغازي قال: عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة، فإنه أصح المغازي.
قال المسور بن عبد الملك المخزومي لمالك: يا أبا عبد الله! فلان كلمني يعرض عليك وقد شهد جده بدراً. فقال مالك: لا أدري ما تقولون، من كان في كتاب موسى بن عقبة قد شهد بدراً فقد شهد بدراً، ومن لم يكن في كتاب موسى بن عقبة فلم يشهد بدراً.
وعن هشام بن عروة قال: إنما كنت أجيء إلى المدينة من أجل موسى بن عقبة ، فلما مات موسى بن عقبة تركت المدينة، وكان مؤاخياً له، وكان هشام بن عروة إذا قدم المدينة أخلوا له مصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
توفي موسى بن عقبة سنة إحدى وأربعين، أو اثنتين وأربعين ومئة.) ( ).
وكان الحويرث بن نقيذ يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان في مكة قبل أن يهاجر إلى المدينة ، وينشد الشعر الذي يتضمن هجاءه .
وكان الحويرث قد اشترك مع هبار بن الأسود في نحس جمل زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما هاجرت إلى المدينة ، قال ابن هشام (قَالَ ابن هِشَامٍ : وَكَانَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ حَمَلَ فَاطِمَةَ وَأُمّ كُلْثُومٍ ، ابْنَتَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِنْ مَكّةَ يُرِيدُ بِهِمَا الْمَدِينَةَ ، فَنَخَسَ بِهِمَا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ فَرَمَى بِهِمَا إلَى الْأَرْضِ) ( ).
وهرب الحويريث من بيته يوم فتح مكة فقبض عليه الإمام علي عليه السلام فقتله .
تسمية سورة الأنفال سورة بدر
لقد ورد ذكر معركة بدر في سور متعددة من ، القرآن منها سورة آل عمران في آيات عديدة منها قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] ( ) وكما في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا* إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً] ( ) .
وجاءت آيات متعددة من سورة الأنفال بخصوص معركة بدر منها الآيات الأولى من السورة والى قوله تعالى [إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
ومن الإعجاز في القرآن توثيقه للوقائع والأحداث بما يتجلى معه فضل الله على المؤمنين ورحمته تعالى بالناس جميعاً ، مع سلامة القرآن من التحريف والتبديل والتغيير ليكون هذا التوثيق على وجوه :
الأول : إنه عهد بين الله وأجيال الناس المتعاقبة .
الثاني : فيه مصداق ودلالات لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
لإفادة معنى من معاني (العالمين) في الآية أعلاه وأن المراد منه أجيال الناس إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق بقاء القرآن غضاً طرياً في كل زمان.
سورة الحج : قال تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ] ( ) .
سورة الدخان ، وغيرها من السور .
وأكثر السور ذكراً لمعركة بدر ، سورة الانفال , وعن سعيد بن جبير قال (قلت لابن عباس: سورة الأنفال، قال: تلك سورة بدر) ( ).
إذ جاءت آيات عديدة منها تتعلق بمعركة بدر والوقائع التي جرت فيها ونتائجها وبيان منهاج المسلمين في الصبر والتقوى .
إذ ابتدأت السورة بذكر سؤال الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الأنفال والغنائم فيها ، وتفضل الله عز وجل بالإجابة إذ كانوا ثلاث فرق وهي :
الأولى : فرقة تحرس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وترابط حوله .
الثانية : فرقة تطارد المشركين عندما فروا .
الثالثة : فرقة صاروا يجمعون أسلاب العدو ، وما تركوا في معسكرهم .
فاختلفت هذه الفرق فيما بينهم في الغنائم فأبى الله إلا أن يتم لهم النصر ويهيئ لهم مقدمات الشكر كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( )، ودعاهم إلى الوئام والإئتلاف وندبهم إلى ذكر الله والإجتهاد في طاعته وطاعة رسوله ،والشكر لله على نعمة النصر , كما في دلالة الآية الأولى والثانية من ذات سورة الانفال .
ومن الإعجاز في الآيات التي تذكر موضوع ووقائع معركة بدر تأكيدها على وجوب التقوى وبصيغة الأمر وليس الخبر وحده ، مع أن الجملة الخبرية في المقام تحمل على الأمر .
إذ ابتدأت السورة بآية من بضع كلمات [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] ( ).
فأول كلمة من السورة هي يسألونك ، ويتعلق السؤال بالغنائم والأنفال في معركة بدر ولأي فرقة منهم ، فأجابهم الله عز وجل في الآية الأولى منها بأن الأنفال لله والرسول وان واجب المسلمين على وجوه :
الأول : تقوى الله والخشية منه في السر والعلانية .
الثاني : إصلاح ذات البين بين المسلمين وإجتناب الفرقة والخلاف سواء على الغنائم أو غيرها ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
الثالث : طاعة الله عز وجل .
الرابع : طاعة رسول الله .
الخامس : التحلي بخصال الإيمان.
وفيه شاهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز قريشاً ، ولم يقصد القتال في معركة بدر ولا اتخاذ النصر فيها وسيلة ومقدمة لمعارك أخرى وحمل الناس على دخول الإسلام .
وبعد أن أختتمت الآية الأولى من السورة بلفظ [الْمُؤْمِنُونَ] جاءت الآية الثانية ببيان صفات المؤمنين وهي ذكرهم لله ، وحال الخشوع عند ذكره تعالى ، وتلاوة آيات القرآن والإنصات لها وحسن التوكل على الله ، لبيان أن طاعة الله ورسوله التي تذكرها الآية الأولى من السورة تتقوم بذكر الله والخشية منه .
وبعد أن ذكرت الآية الثانية معاني ومصاديق الإيمان القلبي نزلت الآية الثالثة من السورة ببيان أفعال الإيمان من الصلاة والزكاة ، بقوله تعالى [الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]( ).
لقد كان المهاجرون والأنصار يتطلعون إلى غنائم بدر التي حازوها ، واختلفوا في قسمتها فنزلت سورة الأنفال تأمرهم بالأنفال في سبيل الله .
وبينت الآية التي بعدها أن هذه الخصال الواردة في الآيات الثلاثة هي تمام الإيمان والشاهد على صدق التقوى ، إذ قال تعالى [أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] ( )وفيه شاهد على أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،جاءت لتثبيت سنن التوحيد في الأرض ، وإشاعة الأخلاق الحميدة ، والإمتناع عن الرذائل .
ثم عادت السورة إلى معركة بدر ومقدماتها بقوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( ).
لبيان أن المسلمين كارهون لأصل الخروج من المدينة ، مع بيان الآية لعدم إخلال هذه الكراهة بايمانهم ، وصدق اسلامهم لنعت الآية لهم بالمؤمنين ، ولم يعلموا أن في التوجه لملاقاة المشركين عند جبل أحد خير الدنيا والآخرة بلحاظ النصر المبين .
ليكون من إعجاز القرآن شهادة آياته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رسول السلم والسلام في وقت اقتتال الناس كأفراد وقبائل ودول مع أن أسباب القتال مسائل بسيطة لا تستلزم حمل السلاح .
ليكون من الإعجاز في صيرورة الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) إتصاف أربعة أشهر من السنة بأنها حرم لا يجوز فيها القتال ، وهي ثلث مجموع أيام السنة ، لتدل ملازمة تشريعها لوجود الإنسان في الأرض .
قانون المنافع المستقرأة من معركة بدر
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فلابد أن ما وقع أيام النبوة هو الأصلح والأنفع ، وهناك مسائل :
الأولى : لو لم تقع معركة بدر لوقعت معارك عديدة بين العرب وبالباطل حتى الأوس والخزرج كانت بينهما فتن .
الثانية : في معركة بدر استئصال لمفاهيم الشرك ومنع للناس من الإنقياد لرؤساء الكفر والضلالة .
الثالثة : معركة بدر برزخ دون تجهيز قريش جيوشاً عظيمة للهجوم على المدينة ، فان قلت قد هجموا في معركة أحد بثلاثة آلاف رجل ، والجواب هذا صحيح ، ولكن الخوف كان ملازماً لهم لأصالة الإستصحاب ، وشيوع معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس .
فقد كانت هزيمتهم في معركة بدر تصاحبهم في الطريق إلى المعركة ، وصارت حاضرة في الوجود الذهني عند الفرد منهم والواقع العام عندهم حالما ابتدأت المعركة ، ليكون من معاني[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( )وجوه :
الأول : يوم التقى الجمعان جمع يتوكل على الله ، وجمع يتولى الشيطان ، قال تعالى [أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ]( ).
الثاني : جمع يخاف الله فيجتهد في الدفاع وهم المسلمون ، وجمع يخوفهم الشيطان ، فيميلون إلى الفرار ، قال تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
الثالث : جمع معهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وجمع وليهم الشيطان ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ] ( ) .
الرابع : جمع لا يريد القتال وهم المسلمون ، وجمع يصر على القتال وهم المشركون .
الخامس : جمع يجتهد بالدعاء والمسألة إلى الله بالنصر ، وجمع يقيمون على الكفر والشرك وعبادة الأوثان .
ومن خصائص معارك الإسلام الأولى أن منافعها لا تختص بأيام وقوعها أو زمان النبوة وحده ، إنما هي متجددة إلى يوم القيامة وهو من أسرار توجه الخطاب في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) إلى المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة ، وتقدير الآية:
الأول : يا أيها الذين آمنوا في كل زمان لقد نصركم الله ببدر .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا أوان نزول القرآن وما بعده اتقوا الله الذي نصركم في معركة بدر وجعلكم تتوارثون الإيمان وسنن التوحيد بقطع دابر الذين كفروا .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا في الأجيال المتعاقبة وإلى يوم القيامة أشكروا الله على نصركم في معركة بدر ، ولا تختص منافع معركة بدر بالنصر المبين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما تشمل أموراً :
الأول : قانون مقدمات معركة بدر .
الثاني : قانون منافع وقائع معركة بدر .
الثالث : قانون بركة نصر الإسلام في معركة بدر .
الرابع : قانون عناية النبي وأصحابه بالأسرى .
الخامس : قانون منافع آية (ببدر) وهو على جهات :
الأولى : قانون بركة آية (ببدر ) أوان نزولها ، قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
الثانية : قانون فيوضات آية (ببدر ) .
الثالثة : قانون آية ببدر شاهد على التاريخ .
الرابعة : قانون الحجة والبرهان في آية (ببدر) .
الخامسة : قانون إنتفاع المسلمين من آية (ببدر ) في كل زمان .
السادسة : قانون الغنائم والمنافع في تلاوة المسلمين لآية (ببدر) .
السابعة : فيوضات معركة بدر في المدينة .
الثامنة : منافع معركة بدر في مكة .
التاسعة : بركات النصر المبين في معركة بدر في موسم الحج في السنة الثانية للهجرة وما بعدها .
لقد وقعت معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية ، وتوافد العرب على مكة لأداء مناسك الحج إبتداء من الشهر التالي وهو شهر شوال ، وفي شهر ذي القعدة وذي الحجة لقوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
فدخلت وفود الحجيج إلى مكة , وكانت قريش بحال غير التي كانوا عليها في كل سنة إذ تعلوهم الذلة والهوان ، وتبدو على محياهم وفي صبغة كلامهم , وهو من مصاديق ما لحقهم من العذاب الذي يدل عليه قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) .
وهل يحمل وفد الحاج إلى أهليهم وقراهم أخباراً تفصيلية عن معركة بدر ، الجواب نعم ،وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ) إذ تناقل الناس في مكة وقائع المعركة ، واطلعوا على شواهد ومصاديق للخزي الذي لحق قريشاً بفقد عدد من أشرافهم كانت العرب تعرفهم وتلتقي بهم في موسم الحج ، منهم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وأمية بن خلف ، وأبو جهل بن هشام وغيرهم ، إذ أنهم قتلوا في معركة بدر كما سألوا عن آخرين كالعباس بن عبد المطلب عم النبي فأخبروا بأنهم أسرى عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة .
ومن الإعجاز في قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ) تفضل الله بتهيئة مقدمات الحج وتيسير وصول الناس إلى البيت الحرام ، وأن كانت هناك عداوة وحال حرب بين طوائف وقبائل منهم إذ جعل الله عز وجل موسم الحج من الأشهر الحرم التي يضع فيها الناس السلاح فلا تسمع له جعجعة ، وتتنفس فيه العوائل الصعداء ،ويطمئن الناس على نسائهم وابنائهم من السبي ، وأموالهم وأنعامهم من النهب والسلب هبة من الله للناس ، ومقدمة للأمن بسيادة أحكام الإسلام في الجزيرة .
فتنجذب القلوب لحج بيت الله الحرام ، وفيه معجزة من عند الله عز وجل في صلاح النفوس ، وتقيد عامة العرب بسنن وأحكام الأشهر الحرم ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ).
فلما أخبر الله عز وجل بأن البيت الحرام وضع للناس جميعاً فانه سبحانه أزاح الموانع عن المؤمنين في حجه والطواف به ، ووقعت معركة بدر في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وبينه وبين بداية الشهر الحرام ذي القعدة ثلاثة وأربعون يوماً ، وهي كافية لشيوع أنباء المعركة ونصر المسلمين فيها .
وتحتمل موضوعيتها في عدد وفد الحاج في تلك السنة وجوهاً :
الأول : قلة عدد وفود الحاج بسبب حدوث المعركة ، وما يترتب عليها.
الثاني : ليس من اثر لمعركة بدر بخصوص عدد وفج الحاج قبلها وبعدها .
الثالث : زيادة عدد وفد الحاج بسبب معركة بدر .
والمختار هو الثالث ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) إذ توافدت القبائل على مكة لأداء الحج ومعرفة أخبار ووقائع معركة بدر وما ترتب عليها .
ومن خصائص موسم الحج أنه مناسبة للتعارف والصلات بين أفراد قبيلة قريش وبين وفد الحج ، وأكثرهم لهم معاملات مع قريش ، وتربطهم معهم تجارات ومكاسب وديون وشطر من القروض ربوية إذ كانوا يتجاهرون بالربا ، وفي التنزيل [قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
ولابد أن قريشاً حرصوا على جمع ديونهم من الناس بعد معركة بدر لتسخيرها في معركة الثأر من النبي وأصحابه .
وهل وضعوا من مقدار تلك الديون أم طلبوها مع ارباحها ، والجواب فيه تفصيل ، فما قدروا على استيفائه مع أرباحه أخذوه، وإلا استوفوا رؤوس أموالهم أو اسقطوا منها خاصة تلك التي لم يحن أجل قضائها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ).
وفيه مقدمة لنزول آيات تحريم الربا وعمل المسلمين بأحكامه ،قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
لقد كان موسم الحج في السنة الثانية للهجرة يختلف عن غيره إذ كانت تتغشاه سحب الخير والبركة ينصر المسلمين ، وصار الناس يذكرون في الموسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو ينادي بأعلى صوته بكلمة التوحيد وطوافه عليهم في مساكنهم في منى وهو يدعوهم إلى الإسلام ويسألهم إيواءه والذب عنه من بطش قريش فيعتذرون له أو يغلظوا معه الكلام .
فيكتفي بالطلب منهم أن يكتموا أمره ، وأدركت القبائل من امتاز به أهل يثرب من أسباب العز والفخر من جهات :
الأولى : بيعة وفد يثرب في العقبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : دخول أهل يثرب الإسلام .
الثالثة : إيواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين في يثرب ، وفوزها وأهلها بتغيير اسمها إلى المدينة .
الرابعة : دفاع أهل المدينة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بين ظهرانيهم ، فلم يُسلَموا إلى قريش ، ولم يطلبوا منه وأصحابه مغادرة المدينة إلى جهة أخرى خشية بطش قريش والذين كفروا وكذا الدول العظمى آنذاك كدولة الروم ودولة فارس خاصة بعد استبانة دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها عامة ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) .
الخامسة : نيل الأوس والخزرج صفة الأنصار ، نعم ورد في صفة أصحاب عيسى أنهم أنصار ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ] ( ) لبيان أن الله عز وجل إذا أنعم بنعمة على أهل الأرض فانه أكرم من أن يرفعها ، فتفضل بصفة الأنصار لأصحاب الأنبياء ، إذ ورد ذكر عيسى عليه السلام وأنصاره من باب البيان والمثال .
وجاءت الآية أعلاه لبيان أن نعمة وصفة ورتبة الأنصار مفتوحة للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وأن الله عز وجل يتفضل على الذين آمنوا بأمور :
الأول : التأييد من عند الله .
الثاني : النصر على الأعداء .
الثالث : ظهور وعلو مرتبة الذين آمنوا بين الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) ، وليكون هذا الظهور والعز باباً لدعوة الناس للإيمان .
وكان عدد الحواريين اثني عشر ، منهم يوحنا وبولس ، وهما اللذان بعثهما عيسى عليه السلام الى أهل انطاكية الذين كانوا يعبدون الأوثان ، والثالث هو بولص ، وفي التنزيل[إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ]( )، فنسبة الإرسال الى الله عز وجل لبيان أن عيسى لم يأمرهم بالذهاب إلا بالوحي من عند الله .
وعن الجبائي: أنهما شمعون ويوحنا ، الثالث بولص ، ويسمي أهل الكتاب حواريي عيسى رسلاً وهم :
الأول : شمعون الصَّفا.
الثاني : أندرواس أخوه.
الثالث : ربدى.
الرابع : يوحنا أخوه.
الخامس : تولوس.
السادس : لوقا.
السابع : برتملى.
الثمن : ثوما .
التاسع : متى الماكس.
العاشر : يعقوب بن خلفى.
الحادي عشر : شمعون العتاني.
الثاني عشر : مارقوش( ).
وذكر أن هؤلاء الحواريين هم الذين سألوا عيسى عليه السلام نزول المائدة كما ورد في قوله تعالى[هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا]( ).
والإستطاعة هنا بمعنى استجابة الله عز وجل لعيسى عليه السلام ، وعن ابن عباس أنه كان يحدث عن عيسى ابن مريم أنه قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً؟ ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم ، فإن أجر العامل على من عمل له .
ففعلوا ثم قالوا : يا معلم الخير قلت لنا إن أجر العامل على من عمل له ، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا ، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا ، { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء }( ) إلى قوله { أحداً من العالمين }( ) فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات ( ) وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة نزول المائدة على حواريي عيسى عيداً بتوثيقه في القرآن ، وذكره في آياته ليذكر المسلمون والمسلمات هذه المائدة شاكرين الله عز وجل على هذه النعمة وهم يتطلعون إلى الرزق الكريم والفضل العظيم من عند الله عز وجل.
وفي التنزيل [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( )، بالإضافة الى قانون وهو المندوحة والسعة في الدعاء ، وعدم انحصاره بدعاء مخصوص أو الدعاء الماثور.
وفي أيام عمر بن الخطاب جاءت جارية لأم المؤمنين صفية بن حبي بن اخطب فقالت له : ان صفية تحب السبت وتصل اليهود) ( ).
مما يدل على وجوه أعداد من اليهود في المدينة ، واختلاطهم بالمسلمين في المعاملة والحياة اليومية ، كما يدل على وصول الإماء وجواري الناس إلى الخليفة من غير حاجب ، فبعث عمر في طلب صفية وسألها ، فقالت : أما السبت فاني لم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً فأنا أصلها( ).
أي أن صفية تصل وتساعد بعض اليهود الذين بقوا في المدينة ممن تربطهم معها صلة قرابة ثم بعثت على جاريتها وسألتها : ما حملك على هذا ، قالت : الشيطان ، قالت : اذهبي فأنت حرة .
ولو كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد غزا قبائل اليهود ، وقتل شطراً منهم وهجّر الآخرين لما بقي في المدينة يهودي ، ولم يسبِ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اليهود لأنهم أهل كتاب ، وفيه إكرام لهم ، وشاهد على الجامع المشترك بين المسلمين وبينهم وهو الكتاب السماوي واتباع الأنبياء ، وجاء القرآن بأخبار موسى وعيسى والأنبياء وأخبار موسى وبني اسرائيل أكثر قصص القرآن.
وهل من منافع مستقرأة من معركة بدر فيما يخص يهود المدينة ، الجواب نعم ، فقد كان يهود المدينة منقسمين بخصوص انطباق علامات نبي آخر زمان على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ البشارات المتوارثة التي بين أيديهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
لقد شعرت قريش بالذل في موسم الحج فاعلنوا أنه سيغزون المدينة ولن يرضوا إلا بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتل عدد من أصحابه وأسر الذي يبقى من المهاجرين ليأتوا بهم إلى مكة ويراهم أهلها ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) .
ووقعت معركة أحد في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وحينما جاء وفد الحاج إلى مكة كان جيش المشركين قد عاد إليها في بدايات شهر ذي القعدة ، وقد عجزوا عن تحقيق أي غاية من الغايات الخبيثة التي خرجوا من أجلها ، والتي تقدم ذكرها أعلاه .
ليقابلهم وفد الحاج من القبائل والمدن المختلفة بالإستهزاء والإحتجاج على قريش ، ودعوتهم للتصديق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنخية ومواضيع هذه المقابلة من مصاديق الخيبة التي لحقت قريشاً في قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
ليكون موسم الحج في سنوات البعثة النبوية ، وخصوصاً سنوات ما بعد الهجرة النبوية وانتصارات الإسلام على وجوه :
اولاً : تأكيد قانون تخلف الذين كفروا عن ولاية المسجد الحرام .
ثانياً : الحج مناسبة لتلاوة الناس لآيات القرآن .
ثالثاً : رغبة وميل الناس لتولي المؤمنين ولاية المسجد الحرام .
قانون لم يقاتل النبي (ص) إلا إضطراراً
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة في مكة ، ولم يعهد أهل مكة بعثة نبي بخلاف بني إسرائيل الذين كان يكثر بينهم بعث الأنبياء ، نعم يتوارث أهل مكة التفاخر بنعمة أنهم من ذرية النبي إبراهيم والنبي اسماعيل وأنهما قاما ببناء البيت الحرام .
ليكون من بركات البيت الحرام في قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ) معرفة قريش بانتسابها إلى ابراهيم النبي الرسول واجتماعهم باليهود والنصارى في النسبة إليه ، وان كانت النسبة بين كل من اليهود والنصارى وبين البنوة من إبراهيم هي العموم والخصوص المطلق ، إذ أن اليهود الذين في الجزيرة بلحاظ النسب على قسمين :
الأول : الذين يرجعون إلى إبراهيم عليه السلام ، ومن ذرية اسحاق ويعقوب.
الثاني : اليهود من عامة العرب ، ولم يكن أهل مكة كلهم من ذرية ابراهيم ، ولكن نعمة وراثة إبراهيم تتغشاهم جميعاً ، فهم مجاوروا المسجد الحرام ، الذي تولت قريش ولاية شؤونه ، وإدارة أموره ، وتعاقبت أجيالهم على ولاية المسجد الحرام حتى دخلت الأصنام إليه ، ونصبت حول الكعبة وداخلها ، وأبى الله إلا أن يبقى البيت الحرام بيتاً له وحده يعبده الناس جميعاً فيه ، ويتصف بالبركة وبالطهارة والتطهير لتكون ذات تلبية كل حاج عند الإحرام طاردة لمفاهيم الشرك إذ تتضمن العهد بالبقاء على التوحيد إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة في حجة الوداع وهي الحجة الوحيدة من يوم هاجر إليها .
(فأخذ على طريق الشجرة وذلك يوم الخميس لست بقين من ذى القعدة سنة عشر نهارا بعد أن ترجل وادهن وبعد أن صلى الظهر بالمدينة وصلى العصر من ذلك اليوم بذى الحليفة ليلة الجمعة وطاف تلك الليلة على نسائه ثم اغتسل ثم صلى بها الصبح ثم طيبته عائشة ام المؤمنين بيدها بذريرة وبطيب فيه مسك ثم أحرم ولم يغسل الطيب ثم لبد رأسه وقلد بدنته نعلين وأشعرها في جانبها الايمن وسلت الدم عنبها وكانت هدى.
تطوع وكان عليه السلام ساق الهدى مع نفسه ثم ركب راحلته وأهل حين انبعثت به من عند المسجد مسجد ذي الحليفة بالقرآن بالعمرة والحج معا وذلك قبل الظهر بيسير وقال للناس بذى الحليفة من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل.
وكان معه عليه السلام من الناس جموع لا يحصيها إلا خالقهم ورازقهم عز وجل.
ثم لبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
وقد روى أنه عليه السلام زاد على ذلك فقال لبيك إله الخلق وأتاه جبريل صلى الله عليه وآله وسلم وأمره أن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية) ( ) ، وسلامة البيت من وجود الأصنام من مصاديق البركة والطهارة .
وتتقوم هذه السلامة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي قام بدعوتهم إلى التوحيد ، ومع أول أيام بعثته قام بالصلاة في المسجد الحرام وبدل أن يلتقى الذين كفروا الأمر بالعقول والرضا والغبطة فانهم لاقوه بالجحود والعناد والإيذاء خاصة مع توالي دخول الأفراد ذكوراً واناثاً في الإسلام ، ومنهم من أولاد رؤساء الشرك ، وفي التنزيل [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، ومن مصاديق الحجة في المقام على كفار قريش وجوه:
الأول : المعجزات الحسية التي جاء بها النبي محمد ومن خصائص معجزات الأنبياء أنها تلائم وتناسب ما يعتني به قومه ، وما يتقنونه مثلاً معجزة موسى قهر السحرة ، ومعجزة صالح الناقة وكثرة لبنها بما يكفي أهل القرية ومعجزة عيسى احياء الموتى وابراء الأكمه والأبرص ، وقد جمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين كل من :
الأولى : المعجزة الحسية .
الثانية : المعجزة العقلية .
الثالثة : المعجزة الحسية العقلية .
ومن المعجزات الحسية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة إنشقاق القمر ، والإسراء , قال تعالى[سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( )، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة( ).
ولا يعني هذا حصر معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتنزيل ولكن لبيان ما خصه الله به من الفضل من بين الأنبياء السابقين ، وفيه معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأولى : توثيق القرآن لمعجزات الأنبياء الحسية .
الثانية : تأكيد القرآن للمعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : بالوحي والقرآن سلامة لمعجزات الأنبياء من التحريف والتبديل ، والمحو والتغيير ، ومن خصائص نزول القرآن أنه حفظ لمعجزات الأنبياء ، ومنع من إنكارها أو الجحود بها .
ويدل الحديث أعلاه على مسألة وهي أن معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الوحي والتنزيل وليس الهجوم والغزو وفيه بيان لقانون هو كفاية الوحي بالتبليغ وجذب الناس للإسلام ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]( ) .
وكل آية من القرآن شجرة مباركة تتدلى ثمارها فتنفذ إلى القلوب والجوارح وتقهر قيود وسلاسل التعلقات العزيزية ، وتزيح القساوة عن الأبصار ، وتعصم البصائر ، وتنجي الناس من آفات الأخلاق المذمومة كالحسد والغيبة والزنا والربا .
والنسبة بين الوحي والقرآن هي العموم والخصوص المطلق فالوحي أعم ، ويشمل القرآن والحديث القدسي ، وما ينزل به جبرئيل من الأوامر والنواهي في باب السنة النبوية بلحاظ أنها شعبة من الوحي.
ومن معاني البركة في نزول القرآن وقوله تعالى وهذا [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ) توثيق السنة النبوية والوقائع والأحداث التي صاحبت أيام النبوة ، وهو من جهات :
الأولى : أسباب نزول آيات القرآن وما فيها من ذكر للواقعة والحادثة التي صارت سبباً لنزول الآية ، واستحضار العلماء خاصة والمسلمين عامة لها عند التعرض لتفسير الآية ، وبيان مضامينها والقدسية ، ومن الإعجاز الغيري للقرآن بعثه الرغبة في النفوس لمعرفة أسباب النزول ، والنسبة بينها وبين الغايات العظيمة للآية القرآنية .
الثانية : نزول آيات تخص السنة النبوية وتتضمن الأوامر الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في الأمر بالقول وقيل المراد من (قل) أي يقول الله عز وجل .
والمختار أن قل أمر متوجه من الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى أمته بالتبعية ، وتقدير الآية (يقول الله يا محمد قل ) كما في قوله تعالى [قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
وقد يأتي قول الله على نحو بيّن ومستقل كما في قوله تعالى [وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ( ).
الثالثة : بيان آيات القرآن لحال المسلمين في السلم والحرب .
الرابعة : صيغة البشارة والإنذار في الآيات القرآنية بما يتعلق بالوقائع .
الخامسة : بعث الآية القرآنية المسلمين على فعل عبادي مخصوص أو زجرها لهم عن فعل فيه معصية أو ضرر ، وقد تجمع الآية القرآنية الواحدة ، الأمر والنهي وعلى نحو التعدد في كل منهما ، كما في قوله تعالى [فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا] ( ).
الثاني : تضمن آيات القرآن الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالصبر ، وتحمل الأذى والبشارة بأن النصر والفرج مع الصبر ، لبيان قانون وهو الملازمة بين الإيمان والصبر ، وقانون الأجر العظيم على الصبر ( )، فهناك من أسباب الثواب ما لا تنال إلا بالصبر .
الثالث : قانون كل آية قرآنية مدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من وجوه :
أولاً : قانون الهداية للعمل الصالح .
ثانياً : قانون إصلاح حال المسلمين .
ثالثاً : قانون وقاية المسلمين من الضرر باجتناب أسبابه ومقدماته وبصد الذين كفروا عن الإضرار بهم .
وهل غزو المشركين في معارك الإسلام الأولى من الأضرار بالمسلمين ، الجواب نعم ، ولكن حضور فضل الله ، والمدد منه دفع هذا الضرر ويدل عليه قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) وهو شاهد على عجز الذين كفروا عن الإضرار بالمسلمين سواء بالغزو أو غيره ، وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا يضركم الذين كفروا بهمهم بغزوكم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا يضركم الذين كفروا وإن قاموا بغزوكم .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لم يضركم الذين كفروا .
وصحيح أن الآية أعلاه وردت بصيغة المضارع إلا أنها تدل على صيغة الإطلاق والقطع بخصوص الزمن الماضي بأن الذين كفروا لم يضروا المسلمين ، ليس للإستصحاب القهقري في دلالة الآية ، ولكن للشواهد ، إذ انتصر المسلمون في معركة أحد ، ويدل عليه قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) وهل صاحب هذا النصر أذى للمسلمين , أم أنه أمر مستثنى وخارج بالتخصص أو التخصيص .
الجواب هو الأول ، إذ نزل بالمسلمين أذى بسقوط أربعة عشر شهيداً ، وأصابت الجراحات عدداً منهم ، فصحيح أن الشهيد حي عند الله إلا أنه لا يتعارض مع حرقة وألم الفراق التي تصيب أهله ، والله عز وجل هو الواسع الكريم الذي يمد في عمر المؤمن ويكتب له مرتبة الشهادة وإن مات على فراشه .
وهل يمكن تقدير آية عدم الضرر أنهم لن يضروكم بعد إلا أذى ، الجواب نعم ، ولكنه لا يدل على حدوث الضرر فيما قبله لأن فضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين عظيم ، قال تعالى[وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( )، ومن الإعجاز في قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، دعوة المسلمين الى ترك الهجوم والغزو ، والمنع من غلبة النفس الغضبية وأسباب السبق في القتال .
لقد أراد المشركون التعجيل بالإجهاز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قبل انتشار الإسلام , ودخول الناس أفواجاً فيه .
فبعث الله سبحانه السكينة في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فلم يقابلوا المشركين بالمثل بل إنشغلوا بالإنقطاع إلى عبادة الله ، وهو من الشواهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يقاتل إلا اضطراراً ، إذ قام المشركون بأمور :
الأول : المناجاة بغزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المدينة أو حواليها .
الثاني : إلقاء القصائد والاشعار لتهييج الناس على الإسلام .
الثالث : بعث رسائل التهديد والوعيد إلى أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وحثهم على الرجوع إلى مكة ، وترك إتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : الإستهزاء بالنبي محمد ونعته بأنه (معلم مجنون) كما يبينه قوله تعالى [ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ] ( ) لإرادة المشركين منع الناس من الإنصات له والإستجابة لدعوته إلى الإسلام ، ولكنهم يدركون بما رزقهم من العقل والتدبر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الى الحق والهدى ، وعدم إنحصار موضوع هذه الدعوة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انما هي طاعة الله ورجاء الفوز برضاه .
وقد الهم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الصبر قال تعالى[وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ] ( ).
وفي الآية أعلاه وعد من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بدفع كيد الذين كفروا .
الخامس : بذل الأموال الكثيرة في التحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وتجهيز الجيوش من أفراد القبائل لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : التعجيل بالهجوم على المدينة.
لقد كان المشركون يعرضون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان في مكة قبل الهجرة الأموال الطائلة ومناصب الرياسة له عليهم وأن يكون له القول الفصل في الأمور العامة ، وأن لا يصدرون إلا أن أمره ، ولكنه أبى إلا تبليغ الرسالة وتحمل الأذى في التبليغ ، وعزموا على قتله في فراشه ، فجاءت معجزة الهجرة من جهات منها :
الأولى : مقدمات الهجرة بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القبائل لإيوائه ، ومنعه من قريش .
الثانية : استجابة وفد الأوس والخزرج للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمور :
أولاً : دخول الإسلام .
ثانياً : بيعة النبي محمد .
ثالثاً : العهد بالذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا وصل إليهم ، وكأنهم يقولون أننا غير مسؤولين عما يصيبك وانت في مكة ، وما تلقاه في طريق الهجرة ، وهناك مسائل :
الأولى : هل يعلم وفد الأوس والخزرج بأن قريشاً يسعون للإجهاز على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة .
الثانية : هل يعلم أهل بيعة العقبة بملاحقة قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة ولا قدرة لهم على مواجهتهم خارج المدينة .
الثالثة : هل سبب حصر دفاع وفد الأوس والخزرج عن النبي في المدينة وهن عندهم ، و لضعف إيمانهم خاصة وأنهم حديثوا عهد بالإسلام .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم ، فهم يعلمون بسوء نوايا قريش ، وتشيع أخبار إرادة رؤساء قريش البطش بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ولكن هذا العلم ليس بسبب حصر دفاعهم عن النبي في المدينة ، إنما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي طلب منهم الدفاع عنه عند وصوله إلى المدينة ، وقال ليلة العقبة الأولى : وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ وَتَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمْ الْجَنّةُ( ).
ليكون في هذا الطلب معجزات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : البشارة بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ليلة المبيت ونحوها ، وتقدير كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : سأقدم عليكم فامنعوني .
الثانية : لن تضر هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة الأنصار في أنفسهم ونسائهم وأبنائهم ، فقوله مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم بشارة سلامتهم عند هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعجز الذي كفروا عن استباحة المدينة ، وتدل عليه الشواهد والوقائع أيام النبوة ، إذ وقف المشركون على مشارف المدينة في معركة أحد ، وعجزوا عن اختراقها في معركة الخندق مع أن مجموع أفراد جيشهم عشرة ألاف رجل ، ولم يكن الخندق الذي حفره النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حاجزاً ومانعاً من إختراق خيولهم الكثيرة له .
ولكن الله عز وجل بعث في نفوسهم الخوف والرعب خاصة بعد أن إخترقه عمرو بن ود العامري وهو من اشجع فرسان قريش ، وطلب المبارزة من المسلمين وأصر عليها ، فبرز له الإمام علي وقتله ، ونزل قوله تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
الثالثة : بيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبشارة بسلامته في طريق الهجرة ، وأن الله هو الذي يحفظه ويصرف عنه شر الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الرابعة : إرادة التخفيف عن الأنصار خاصة في بدايات دخولهم الإسلام .
الخامسة : دعوة الأنصار للصبر والمصابرة .
السادسة : زيادة إيمان الأنصار بتجلي معجزة للنبي محمد بالوعد بسلامته بفضل من الله .
السابعة : بيان شجاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعدم خشيته من جمع ومكر الكفار مع قلة ناصره وكثرة الذين هاجروا من أصحابه الى الحبشة والمدينة فبقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المشركين في مكة مع أمره لأصحابه بالهجرة معجزة حسية له وتجلى مصداقها.
ترى هل علمت قريش ببيعة العقبة الجواب نعم ، إذ من السهل وصول الأخبار إلى كفار قريش خاصة وأن تولية المسجد الحرام بيدهم ، ويأتيهم الناس بالأخبار والسؤال والحاجة ويقدمون لهم العون ، إذ تفضل الله عز وجل وأخبر عن الحاجة إلى تولي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المسلمون ولاية المسجد الحرام قال تعالى[وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وكانت بيعة وفد الأوس والخزرج للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة من العذاب للمشركين الذي تذكره الآية أعلاه ، وقد عدوا هذه البيعة وكأنها تجاوز عليهم ، وتوعدوا الأنصار ولكنهم عاجزين عن الإساءة إليهم والإضرار بهم لأنهم كانوا في شهر حرام وفي موسم الحج وللخشية من إنتقام الأوس والخزرج بالتعرض لرجال قريش وقوافلهم .
بداية معركة أحد
لقد شهد العالم في هذا الزمان التداخل الإجتماعي والحضاري ، والتبادل المعرفي ، والبث الإعلامي الذي نفذ الى البيوت ، وصار قريباً من كل إنسان ، وهناك بلاء ومسائل عامة أو خاصة تشغل أهل الأرض من المشرق إلى المغرب ، فان قلت سلمنا بصحة القول بخصوص المسائل العامة ، فكيف يكون العموم في القضايا الشخصية .
الجواب قد يكون فوز شخص بمنصب أو نطقه بتصريح أو وعد أو وعيد ، أو تعرض أحد الشخصيات العالمية لمصيبة أو قتل مادة لعناية الناس وتنشغل به وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة ، وإذ كانت قريش تستحضر وقائع وأيام العرب في دار الندوة بجوار البيت الحرام ، ولم ينتفع أغلب رجالاتهم منها ، بينما جاء زمان العولمة لتصد الأخبار والوقائع إلى الناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
وتدل الآية أعلاه وآيات أخرى مشابهة على أن القرآن نزل قبل ألف وأربعمائة سنة بلغة العولمة.
وهل توثيق القرآن لوقائع معركة بدر وأحد والخندق وحنين ، وتسميته لصلح الحديبية فتحاً من مصاديق العولمة الجواب نعم ، ليكون هذا التوثيق دليلاً حاضراً عند العلماء والباحثين ورجال الفكر والقانون والإعلام بأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز المشركين ولم يسع لقتالهم وقتلهم ، إنما هم الذين أرادوا منه عذا التوثيق السماوي المبارك من النزول ، وحرمان الأجيال المتعاقبة منه إذ سعوا بدهاء ومكر لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجعل الله عز وجل نزول القرآن على نحو التدريج لبيان معجزة وهي سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدة التنزيل ، فلا بد حين ذكر معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بيان معجزة له وهي فضل الله في سلامته ، ودفع الضرر عنه مدة نزول القرآن ، وهي ثلاث وعشرون سنة .
وعن ابن عباس قال : لما نزلت [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] ( )، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فقال : إنه قد نعيت إلي نفسي( ).
وكما في معركة بدر وابتداء المشركين لها بالسهام والنبال وطلب المبارزة فان معركة أحد ابتدأها المشركون أيضاً خاصة وأنهم جاءوا بجيش عرمرم ويتناجون بالثأر والإنتقام والبطش .
لقد ملأت الحسرة قلوب المشركين ليلة المبيت عندما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً من مكة ليلتئذ ، ثم تجددت حسرتهم عندما عجزوا عن اللحوق به في طريق الهجرة ، وبلغهم نبأ وصوله إلى المدينة واستقبال الأنصار له والشروع بصلاة الجمعة والصلاة اليومية وبناء المسجد النبوي .
ولم يخطر باذهان الذين كفروا بناء مسجد غير المسجد الحرام ،ليكون بناء المسجد النبوي من العز والنصر للمسلمين ، وهو عون للمسلمين بضبط وإقامة الصلاة والتفقه في الدين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
وبينما كانت الأصنام منصوبة في المسجد الحرام فان المسجد النبوي منزه عن الأصنام ، وإنما بناه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرباً على الأصنام , ودعوة للعرب جميعاً إلى إنكار وجود الأصنام في المسجد الحرام واستهجان ولاية الذين كفروا له .
ومن خصائص مكة إجتماع العرب فيها عند موسم الحج ، وتناقل الأخبار من غير خشية سطوة قريش لأنهم في الأشهر الحرم ، ولعجز قريش عن منع الناس من تناقل الأخبار ، خاصة وأن الذين يتناقلونها ، ويتدبرون ما يصلهم من آيات القرآن ينتسبون إلى قبائل ذات شأن وتداهنهم قريش خشية تعرضهم لقوافلها .
وصار إحتمال هذا التعرض ظاهراً بعد خسارة قريش في معركة بدر والتي كان من أسباب نشوبها اصرار أبي جهل وبعض رؤساء قريش على التوجه إلى ماء بدر والإقامة عنده ثلاثة أيام لتسمع بهم العرب وتهابهم ولم يعلموا أن الهيبة والشأن رزق من عند الله يهبه لمن يشاء ، وقد قال سبحانه [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
لقاء الصفين في معركة أحد
ليس أشد على الفرد والجماعة من القضاء الصفين للقتال ، كل فريق يريد النصر ، وكل فرد يريد الخروج سالماً فبعث الله السكينة في قلوب المسلمين يوم أحد من جهات :
الأولى : نزول الآيات التي تدل على أن النصر بيد الله عز وجل، قال تعالى [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
الثانية : إدراك المسلمين لقانون وهو أن ما يصيبهم هو من عند الله عز وجل وبأمره سبحانه ، وفي التنزيل [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالثة : الوعد من عند الله عز وجل بالنصر والغلبة للمؤمنين ، ولم يختص هذا الوعد بآيات القرآن ، إنما جاء بالكتب السماوية السابقة أيضاً [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
الرابعة : استحضار المسلمين لوقائع معركة بدر ، واستحضارهم لنصرهم فيها والآيات التي تخبر عن نصرهم فيها ، ومنها بعض آيات سورة الأنفال ومن أول السورة ، إذ قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ *إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ * إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الخامسة : وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المسلمين وهو قائدهم وإمامهم في ميدان الدفاع .
السادسة : السنة القولية وبشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بالنصر والغلبة .
السابعة : فضل الله في تحقيق النصر للمسلمين في ميدان المعركة ، وشروع الذين كفروا بالإنهزام .
الثامنة : ذات الإيمان بالله ورسوله سكينة ورحمة وبشارة تتغشى المسلمين في ميدان المعركة.
لقد ظن المشركون أن أسباب الترجيح ومقدمات النصر تختص بكثرة العدد والعدة والسلاح ، وهو أمر ظاهر ومتسالم عليه في المعارك ، ولم يعلموا أنه ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم طرأت أمور غيبية ، وأسرار ملكوتية تفوق التصور والحساب وفق المتعارف .
لقد رزق الله عز وجل النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أموراً :
الأول : الإيمان .
الثاني : الصبر في حال الرخاء والشدة .
الثالث : السكينة الخاصة والعامة ، وتجليها في صفوف المهاجرين والأنصار ، وفي التنزيل [ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
الرابع : حب الله للمؤمنين ونصرته لهم بما ليس له حد من المدد وأسباب العون ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ] ( ).
ومن الإعجاز في معركة أحد أن المسلمين قاتلوا دفاعاً وكأنهم بنيان مرصوص ، ولكن العدو جاءهم من الخلف لترك أغلب الرماة مواضعهم التي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدم مغادرتهم بأي حال .
أوحى إلى داود عليه السلام : يا داود من عرفني أرادني ، ومن أرادني أحبني ، ومن أحبني طلبني ومن طلبني وجدني ، ومن وجدني حفظني . فقال داود صلوات الله عليه : إلهي ، أين أجدك إذا طلبتك؟
فقال : عند المنكسرة قلوبهم من مخافتي . فقال : إلهي ، أتيت أطباء عبادك للتداوي فكلهم دلوني عليك ، فبؤساً للقانطين من رحمتك ، فهل لي وجه أن تداويني؟ فقال الله عزَّ وجلَّ : الذين أتيتهم كلهم دلوك علي؟ فقال : نعم . قال : فاذهب فبشر المذنبين ، وأنذر الصديقين .
فتحير داود فقال : يا رب ، غلطت أنا أم لا؟ قال : ما غلطت يا داود . قال : وكيف ذلك؟ قال : بشر المذنبين بأني غفور ، وأنذر الصديقين بأني غيور . فسئل : من الصديقون؟ فقال : الذين عدوا أنفاسهم بالتسبيح والتقديس ، وحفظوا الجوارح والحواس ، فصار قولهم وفعلهم صدقاً ، وصار ظاهرهم وباطنهم صدقاً ، وصار دخولهم في الأشياء وخروجهم عنها بالصدق ، ومرجعهم إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر( ).
الخامس : الأخوة الإيمانية بين المهاجرين والأنصار عند الخروج من المدينة ، والتفاني في الدفاع ودفع المشركين عن المدينة ، ليتجلى مصداق لقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
لقد كان الصبر والسكينة حاجة للمسلمين في ميدان المعركة يومئذ خاصة وأن المشركين يتوعدون ويهددون وخيلهم ملأت المكان ورايتهم تخفق فوق رؤوسهم ، وهم يطالبون بالثأر ، وهل تلك الخيل والرايات تنصرهم أو تطلب معهم بالثأر على فرض أن الله قذف فيها الإحساس .
الجواب لا ، فانها تلعنهم وترجو بدء القتال لهزيمتهم .
لقد وصل المشركون إلى جبل أحد يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر شوال ، وسمي جبل أحد لتفرده وتوحده من بين الجبال القريبة منه ، ليبقوا في المكان يوم الخميس والجمعة والسبت ، وهي مدة كافية لأستراحة الجيش والتهيئ للقتال ، وكانت معهم النساء ، وهن على شعبتين :
الأولى : أزواج بعض الرؤساء إذ اصطحب أبو سفيان زوجته هند بن عتبة بن ربيعة التي قتل أبوها وعمها شيبة وأخوها الوليد في معركة بدر ، وكان اخوها لأبيها أبو حذيفة إلى جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وأحد ، وكانت تهجوه بشدة فما يزداد إلا إيماناً ، وفي سورة الكهف قال تعالى [إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى] ( ) وأغاظها دعوته لأبيه للبزار يوم بدر ، وقالت:
(فما شكرت أبا رباك من صغر . حتى شببت شباباً غير محجون
الأحول الأثعل المشؤوم طائره . أبو حذيفة شر الناس في الدين) ( )
وحذيفة من خير الناس ، ومن السابقين إلى الإيمان والهدى ، إنما هي كانت هي في شر وضلالة حين قالت هذا الشعر .
وخرج عمرو بن العاص بزوجته ريطة بنت منبه السهمية ، وعِكرمة بن أبي جهل بزوجته أم حكيم بنت طارق .
الثانية : الجواري اللائي يحملن الدفوف والمعازف ، وكان عدد النساء اللائي مع جيش المشركين سبع عشرة امرأة .
كما حضر مع المشركين أبو عامر الفاسق وهو من رؤساء الأوس خرج من المدينة ومعه أربعين من أصحابه إلى مكة بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وامتناعه عن قبول دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له لدخول الإسلام .
فجاء مع جيش المشركين ومعه أربعون من أصحابه ، وكان يؤمل قريشاً بأن الأنصار إذا سمعوا به يميلون إلى جانبه .
ولو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد القتال ويستعد له لمنعه وأصحابه من الخروج من المدينة والتوجه إلى مكة لتحريض وإعانة قريش ، وكان ابنه حنظلة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونال لقب (غسيل الملائكة ) ( ).
ولما أصطف الفريقان نادى أبو سفيان بأعلى صوته مخاطباً الأنصار : يا معشر الأوس والخزرج (يا معشر الأوس والخزرج خلوا بيننا وبين بين عمنا وننصرف عنكم ) ( ) ولم يخاطب بصفة الأنصار مع أن هذا الإسم صار شائعاً ومتعارفاً وقد انتسب له معاذ ومعود وعبد الله بن رواحة عندما برزوا للقتال في معركة بدر وطلب منهم عتبة بن ربيعة وأخوة شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن ربيعة أن يعرفّوا أنفسهم ، وهو عرف كان سائداً آنذاك بالقتال بأن يعرف كل طرف هوية الآخر ونسبته ليستقرأ حاله من الشجاعة والفروسية وفنون القتال ، ونقاط الضعف التي عنده ، كما تشرئب أعناق الفريقين للمبارزة ويرقبون الكيفية التي تنتهي إليها .
لقد عرض أبو سفيان على الأنصار تركهم وعدم التعرض لأشخاصهم وأن كانوا في ساحة المعركة لم يلاحقوهم ، ولا يغزون أو يستبيحون المدينة مع أن الأنصار قاتلوا في معركة بدر .
وقاموا بقتل عدد من رؤساء المشركين وأوامر ومكر أبي سفيان لتفريق جمع المسلمين وبقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين وحدهم في الميدان ، وكان الأنصار يومئذ أكثر من المهاجرين .
ولم يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار بالإمتناع عن إجابة أبي سفيان في طلبه ، إنما تركهم يجيبون بما يرونه ، فعندما سمع الأنصار كلام أبي سفيان شتموه أقبح شتم ولعنوه أشد اللعن .
وفيه مسائل :
الأولى : بيان إصرار الذين كفروا على القتال ، وإغوائهم الأعراب لقتاله .
الثانية : مكر ودهاء الذين كفروا حتى في ميدان المعركة .
الثالثة : إخلاص الأنصار في إيمانهم ، وتفانيهم في مرضاة الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ]( ) .
الرابعة : تعاهد الأنصار لقواعد وشروط بيعة العقبة بالذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأضافوا لها دفاعهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خارج المدينة وكان عدد الأنصار في معركة بدر أكثر من عدد المهاجرين فيها .
الخامسة : أخوة الأنصار مع المهاجرين ودفاعهم عنهم ، والقتال صفاً واحداً ضد المشركين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) .
ومن الشواهد على الرشاد والتوفيق والإعجاز في مؤاخاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمهاجرين والأنصار ، إذ حضرت معاني هذه الأخوة في معركة بدر وأحد .
الخامس : إختيار الكفار لبغض الله لهم ، وحرمانهم أنفسهم من حبه تعالى ، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالخلافة في الأرض ليقترن حبه لهم بهذه الخلافة بقيد وشرط التحلي بخصال الخلافة وهو عبادة الله ، ولكن رجالات قريش زحفوا بالجيوش إلى المدينة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم صار بعضهم يتمادون في الغي فشهروا السيوف وبارزوا المؤمنين ، ومنهم من قصد شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتله .
وتقدم صاحب لواء المشركين للمبارزة ، وفيه حجة على الذين كفروا بخصوص حملة اللواء ، فلم يتقدم حملة اللواء من المهاجرين والأنصار لطلب المبارزة .
لقد كانت دعوة طلحة بن أبي طلحة للمبارزة أمراً ظاهراً يجذب الأنظار من الفريقين ، وهو من مصاديق وعمومات قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) ليكون من معانيه وجوه :
الأول : يوم التقى الجمعان لإقامة الحجة على الذين كفروا .
الثاني : يوم التقى الجمعان ، ولم يحضر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلا للدفاع ومنع الذين كفروا عن غزو المدينة .
الثالث : يوم التقى الجمعان جمع يحبهم الله ويحبونه ، وجمع يبغضهم الله ويصرون على الكفر ويطلبون القتل وسفك الدماء بغير حق ، وفي التنزيل [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
الرابع : يوم التقى الجمعان ليشهدوا الحاح الذين كفروا على المبارزة وسوء عاقبتهم بالقتل على الكفر في ميدان المعركة .
الخامس : يوم التقى الجمعان على مشارف المدينة مما يدل على إرادة الكفار القتال والغزو ، فما يسمى غزوة أحد تقديره : غزو المشركين في أحد للمسلمين وحاضرتهم .
السادس : يوم التقى الجمعان والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مستعدون للصلح والموادعة [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ).
وحينما سقط طلحة بن أبي طلحة حامل لواء المشركين إلى الأرض بدت عورته ، فرجع عنه الإمام علي عليه السلام ، ولم يجهز عليه ولم يأخذ سلبه ، وفي قتله مع إصراره على المبارزة وإنكشاف من عورته خزي للذين كفروا ، وإنذار وزجر لهم عن مواصلة القتال والإلحاح على المبارزة .
وهل إنتفع جيش الذين كفروا من هذا الإنذار ، الجواب نعم ، إذ كان الذين طلبوا المبارزة بعده عدداً قليلاً لا يتجاوز عدد الأصابع من أصل ثلاثة آلاف رجل من المشركين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
وكما ظلم عتبة بن ربيعة وأخوه وابنه أنفسهم وهم من رؤساء بني أمية بأن تقدموا للمبارزة يوم معركة بدر فقتلوا ، فقد ظلم طلحة بن أبي طلحة وأخوته من بني عبد الدار أنفسهم بالتقدم للمبارزة ، وبينهما في المقام عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : إختيار محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والإضرار بهم .
الثانية : الإلحاح بطلب المبارزة .
الثالثة : التلبس بالكفر والقتال من أجل عبادة الأوثان واستدامة المنكرات وأسباب الفساد والفحشاء .
الرابعة : مفارقة الدنيا بالقتل على الكفر، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ] ( ) .
ومع شدة قتال بني عبد الدار في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وتضحيتهم بأنفسهم دون لواء الكفر والضلالة ، وتقدمهم واحداً بعد الآخر للمبارزة وابتداءً منهم فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحجب عنهم سدانة الكعبة إذ أعطى مفتاحها لشيبة بن عثمان بن أبي طلحة الذي قتل أبوه يوم معركة أحد حاملاً للواء المشركين ، وحذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين من أخذ هذا المفتاح منهم .
قال الزبير (كان شيبة قد خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين مشركاً يريد أن يغتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غرة فأقبل يريده فرآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ” يا شيبة هلم لا أم لك ” .
فقذف الله في قلبه الرعب ودنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووضع يده على صدره ثم قال: اخسأ عنك الشيطان فأخذه أفكل( ) ونزع ، وقذف الله في قلبه الإيمان فأسلم وقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان ممن صبر معه يومئذ وكان من خيار المسلمين ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة أو إلى ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وقال خذوها خالدة تالدة إلى يوم القيامة يا بني أبي طلحة لا يأخذها منكم إلا ظالم. قال: فبنوا أبي طلحة هم الذين يلون سدانة الكعبة دون بني عبد الدار)( ).
لقد أراد قادة جيش المشركين وأبو عامر الفاسق التفريق بين جيش المسلمين والفصل بين المهاجرين والأنصار وسهولة الإنقضاض عليهم جميعاً ، ولكن على نحو الترتيب والتوالي ، ولم يعلموا بأن الأنصار عاهدوا الله للذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورأوا حلاوة الإيمان واشتاقوا إلى لقاء المشركين الذين يصرون على القتال .
لقد كان دفاع المهاجرين والأنصار في سبيل الله ، وهو سبحانه الذي يجزي عليه ، ومن خصائص الجزاء من عند الله أنه يأتي في الحال وطيلة أيام الدنيا وفي الآخرة ، ويلحق فاعل الخير وذريته من بعده ، فيولدون والجزاء من عند الله مدخر لهم ، وينتظرهم ، ولا يقدر أحد على رده عنهم ، وتجلى في آيات عديدة من القرآن وأحاديث من السنة النبوية ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ] ( ) وقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء للأنصار وذريتهم .
لقد تجلت في معركة أحد منافع كتائب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسرايا أصحابه التي خرجت من المدينة لتفريق تجمعات قبائل غطفان وسليم وغيرهم ، ممن كانوا يهّمون بغزو المدينة ، ويحشدون قبائلهم للهجوم عليها ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولو لم تخرج هذه الكتائب والسرايا نحوهم لزحفت هذه القبائل مع قريش والتقوا معهم وسط الطريق في هجومهم على المدينة .
ومن خصائص إنضمام القبائل وسط الطريق إلى الجيش رفع المعنوية وزيادة الحماس بين أفراده ، واعطائهم نوع تأكيد لفعلهم مع ظهور بطلان وظلم فعل قريش وزحفهم لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وكان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يبعث الخوف في قلوب الكفار من القبائل المحيطة بالمدينة .
إذا قمتم إلى الصلاة
لقد أكرم الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأجيال المسلمين إلى يوم القيامة بنزول آية الوضوء وذكر أجزائه وفصوله وأحكامه ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
وهذه هي الآية السادسة من آيات سورة المائدة ، وهي من آخر القرآن نزولاً ، ونزلت في عام حجة الوداع .
وعن (ابن عباس أن آخر سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي سورة النصر) ( ).
وعن البراء بن عازب آخر سورة نزلت هي براءة التوبة) ( ).
وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس أنه قال : ذكر المسح على القدمين عند عمر وسعد وعبدالله بن عمر فقال عمر : سعد أفقه منك . فقال عمر : يا سعد ، إنا لا ننكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح ، ولكن هل مسح منذ أنزلت سورة المائدة؟ ، فإنها أحكمت كل شيء ، وكانت آخر سورة نزلت من القرآن إلا براءة ، قال : فلم يتكلم أحد( ).
عن جبير بن نُفَيْر قال: حججت فدخلت على عائشة، فقالت لي: يا جبير، تقرأ المائدة ، فقلت: نعم. فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه ( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أن آخر سورة نزلت من القرآن هي سورة النصر .
إذ ورد (عن صفوان قال : دخل محمد بن علي الحلبي على أبى عبد الله عليه السلام في يوم الجمعة فقال له: تعلمني أفضل ما أصنع في هذا اليوم، فقال: يا محمد ما أعلم أن أحدا كان أكبر عند رسول الله صلى الله عليه وآله من فاطمة عليها السلام ولا أفضل مما علمها أبوها محمد بن عبد الله.
قال : من أصبح يوم الجمعة فاغتسل وصف قدميه وصلى أربع ركعات مثنى مثنى، يقرء في أول ركعة الحمد والاخلاص خمسين مرة وفي الثانية فاتحة الكتاب والعاديات خمسين مرة، وفي الثالثة فاتحة الكتاب وإذا زلزلت الارض خمسين مرة.
وفي الرابعة فاتحة الكتاب وإذا جاء نصر الله و الفتح خمسين مرة.
وهذه سورة النصر وهي آخر سورة نزلت.
فإذا فرغ منها دعا فقال: إلهى وسيدي من تهيأ أو تعبأ أو أعد أو استعد لوفادة إلى مخلوق رجاء رفده وفوائده ونائله وفواضله وجوائزه.
فاليك يا إلهى كانت تهيئتي وتعبئتي و إعدادى واستعدادى رجاء رفدك ومعروفك ونائلك وجوائزك، فلا تخيبي من ذلك يا من لايخب مسألة سائل ولا تنقصه عطية نائل، لم آتك بعمل صالح قدمته، ولا بشفاعة مخلوق رجوته، أتقرب إليك بشفاعة محمد وأهل بيته صلواتك عليهم أجمعين أرجو عظيم عفوك الذي عفوت به على الخاطئين عند عكوفهم على المحارم، فلم يمنعك طول عكوفهم على المحارم، أن عدت عليهم بالمغرة، وأنت سيدى العواد بالنعماء وأنا العواد بالخطاء، أسئلك بمحمد وآله الطاهرين، أن تغفر لي ذنبي العظيم فانه لا يغفر ذنبي العظيم إلا العظيم، يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا عظيم) ( ).
ومع القول بأن سورة النصر هي آخر سور القرآن فيمكن استحداث تسمية لسورة المائدة بخصوص أوان نزولها ، وهي أنها آخر سور الأحكام نزولاً كفاية الوضوء حتى في يوم الجمعة ، وهل غسل الجمعة لذات اليوم أم للصلاة ، الصحيح هو الأول.
وفي أسباب النزول أنه كانت تظهر روائح تعرق عند إجتماع المسلمين فشرع غسل الجمعة والمختار أن الأسباب أعم ، وهي باقية في كل زمان حتى مع انبعاث العطر والطيب من عامة المصلين ، وآية الوضوء مطلقاُ أي حتى بالنسبة لصلاة الجمعة .
والخلاف هل يكفي غسل الجمعة عن الوضوء أم لا بد من الوضوء ، المختار هو الثاني .
والقيام في الآية مطلق وهو قيام عزم ، وقيام جسم ، وقالوا مقتضى ظاهر الآية الوضوء لكل صلاة عن عكرمة وابن سيرين ، ولا دليل عليه من جهات :
الأولى : وقد صلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلوات الخمسة يوم الفتح بوضوء واحد .
الثانية : يحمل تجديد الوضوء على الندب والإستحباب خاصة مع الثواب في كل قطرة من الوضوء .
الثالثة : تقدير آية البحث : إذا قمتم محدثين .
الرابعة : تقدير الآية : إذا قمتم من النوم فاغسلوا وجوهكم وأيديكم .
الخامسة : اخبار الآية عن فضل الله عز وجل بنفي الحرج عن المسلمين والمسلمات بقوله تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] ( ).
بالإضافة إلى مضامين ذات الآية وتقديرها وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم مرضى ووجدتم ماءً ولا يضركم فاغسلوا وجوهكم .
الثاني : إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم على سفر ووجدتم ماء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق .
الثالث : إذا قمتم إلى الصلاة وجاء أحدكم من الغائط ووجد ماء فليغسل وجهه ويديه إلى المرافق ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين .
أطلب من العلماء والأساتذة ذوي الإختصاص الوقوف عند علم التفسير بخصوص الآية القرآنية محل البحث والإستدلالات ، وبيان معناها ولو على نحو الإيجاز لتنمية ملكة التفسير عند الفضلاء .
الخامسة : (لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ ابناءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) ( ) .
لقد بقت طائفة من اليهود لم يغادروا المدينة حتى بعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وكانوا يزاولون التجارة ويشتري ويقترض منهم الصحابة من غير حرج ، وقال معاذ بن جبل : (أحتبستُ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يوماً لم أصلِّ معهُ الجمعة. فقال : يا معاذ ما منعك من صلاة الجمعة؟
قلت : يا رسول اللَّه كان ليوحنا اليهودي عليَّ أوقية (من تبر)،
وكان على بابي يرصدني،
فأشفقت أن يحبسني دونك. فقال : أتحب يا معاذ أنْ يقضي اللَّه دينك؟
قلت : نعم يا رسول اللَّه. قال : قل { قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }( ) ..
إلى قوله : { تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }( ) ،
وقل : يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمها تُعطي منها ما تشاء وتمنع منها ما تشاء،
أقضِ عني دَيني. فإنْ كان عليك ملىء الأرض ذهباً قضاهُ اللَّه عنك) ( ).
ولم يبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خلف اليهودي ويلومه على رصد معاذ وتسببه بمنعه من صلاة الجمعة مع شرفها وعظيم النفع في حضورها ، ولم يقل لليهودي عليك بالصبر لعمومات قوله تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] ( ) إنما علّم معاذا إتخاذ تلاوة القرآن وسيلة لقضاء الدين .
ليكون هذا التعليم مدرسة تنهل منها أجيال المسلمين إلى يوم القيامة ، وأما الدائن الذي يريد قضاء المدين ما له عليه ، فهل ينفعه هذا الدعاء ، الجواب نعم ، وبدل أن يقول أقض عني ديني .
يقول : أقض لي ديني .
تهيئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعركة أحد
لقد بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خروج جيوش قريش من مكة ومثل هذا الأمر لا يخفى على عامة الناس ، ويصل إلى أسماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن طريق المسافرين خاصة والمعتمرين وأن حركة وسير الجيش الكبيرة أبطأ كثيراً من سير الأفراد على رواحلهم وإبلهم ، إن نقل المعتمرين لأخبار ومكر قريش إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بركات المسجد الحرام وقوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ) لبيان قانون من وجوه :
الأول :أن أول بيت وضع للناس لوقاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثاني : أن أول بيت وضع للناس لفضح الذين كفروا ، وإحاطة الناس علماً بمكرهم ، لذا وردت الآية أعلاه بلفظ الناس ، فلم تقل الآية : إن أول بيت وضع للذين آمنوا .
وفي لفظ العموم وذكر الناس دعوة لهم جميعاً للهدى والإيمان ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) .
الثالث : أن أول بيت وضع للناس ببكة مباركاً بأن ينتصر المسلمون في دفاعهم ليرجع الذين كفروا خائبين .
قيل خرج جيش قريش في اليوم الخامس من شهر شوال ووصلوا في سبعة أيام لمحيط جبل أحد لبعد المسافة بين مكة وجبل أحد إذ تكون المسافة التي يقطعها الجيش كل يوم نحو أربعة وستين كيلو متر بلحاظ أنهم كانوا على الإبل والرواحل .
وقيل أن العباس بن عبد المطلب أرسل من مكة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً يخبره بتوجه جيوش قريش إلى المدينة .
وقدوم عمرو بن سالم الخزاعي في نفر من قومه فارقوا قريشاً في ذي طوى على نحو الإعراض عنهم ، وإعتزال القتال ، ودخلوا المدينة وأخبروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر ، وأنصرفوا راجعين إلى أهليهم .
فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنساً ومؤنساً ابني فضالة وهما من بني ظفر من الأنصار فاعترضا جيش المشركين بالعقيق ودخلا معهم في الجيش وساروا معهم ، حتى علما بعددهم وعرفا بعض رؤسائهم ، ولما نزلوا قريباً من أحد فارقوهم وعادوا إلى المدينة واخبروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وبعد أن بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم آنساً ومؤنساً عادا له وأخبراه بأن جيش المشركين(خلوا إبلهم وخيلهم في الزرع الذي بالعريض حتى تركوه ليس به خضراء، ثم بعث الحباب بن المنذر بن الجموح إليهم أيضا فدخل فيهم فحزرهم وجاءه بعلمهم)( ).
ولما علم الصحابة بنزول جيش المشركين عند جبل أحد بات رؤساء من الأنصار حرساً وعليهم السلاح في المسجد عند باب رسول الله صلى عليه وآله وسلم ومنهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وهو أحد النقباء ليلة العقبة ( )، وسعد بن عبادة خشية مباغتة سرية من المشركين وتسليمهم لإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما قام نفر من المهاجرين والأنصار بحراسة المدينة خوفاً من مداهمة المشركين لها .
قال ابن سعد : وجعلوا على الخيل صفوان بن امية وقيل عمرو بن العاص وعلى الرماة عبدالله بن ابى ربيعة وكانوا مائة وفيهم سبعمائة دارع والظعن خمس عشرة امرأة.
وشاع خبرهم في الناس ومسيرهم حتى نزلوا ذا الحليفة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عينين له انسا ومؤنسا ابني فضالة الظفريين ليلة الخميس لخمس مضت من شوال فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم وانهم قد حلوا ابلهم وخيلهم في الزرع الذى بالعريض حتى تركوه ليس به خضراء ثم بعث الحباب بن المنذر بن الجموح إليهم ايضا فدخل فيهم
فحزرهم وجاءه بعلمهم وبات سعد بن معاذ واسيد بن حضير وسعد بن عبادة في عدة ليلة الجمعة عليهم السلاح في المسجد بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرست المدينة حتى اصبحوا وذكر الرؤيا واختلافهم في الخروج .
فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة بالناس ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد واخبرهم ان لهم النصر ما صبروا وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم ففرح الناس بذلك ثم صلى بالناس العصر وقد حشدوا وحضر أهل العوالي ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته ومعه أبو بكر وعمر فعمماه ولبساه .
وصف الناس ينتظرون خروجه فقال لهم سعد بن معاذ واسيد بن حضير استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فردوا الامر إليه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لبس لامته وأظهر الدرع وحزم وسطها بمنطقة من ادم من حمائل سيف واعتم وتقلد السيف وألقى الترس في ظهره فندموا جميعا على ما صنعوا( ).
وهل هو من مصاديق قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا…]، الجواب نعم، وتحتمل المرابطة في المقام وجوهاً :
الأول : حراسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المرابطة .
الثاني : السهر والحيطة في المسجد تلك الليلة من المرابطة .
الثالث : انتشار المسلمين وإحاطتهم للمدينة وسهرهم في حراستها من المرابطة .
فقد يتعدد الرباط في ذات الوقت بلحاظ تعدد الثغور التي يخشى غزو جيش العدو من ناحيتها ورأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة الجمعة أي ليلة اليوم الذي خرج فيه للقاء العدو رؤيا ذات فصول وهي :
الأول : كأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في درع حصينة ، والمراد من الدرع الحصينة هي الممنوعة التي لا يخترقها السلاح .
ويقال للمرأة ذات الزوج محصنة لان زوجها قد احصنها وللعفيفة محصنة لان عفتها قد احصنتها عن الفجور ويقال للحرة محصنة لان حريتها منعتها عن البغاء( ).
والمراد من الدرع المحصنة رؤيا البشارة بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يسلم وينجو من معركة أحد ، وأنه لا يقتل فيها وان جعل المشركون قتله غاية من هجومهم.
ليكون من الإعجاز في رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها شعبة من الوحي ، وعن عائشة قالت : أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة ، فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال[اقْرَأْ]( )، قال : قلت : ما أنا بقارىء . قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارىء .
قال : فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارىء ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ]الآية( ).
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : زملوني زملوني . فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي ، فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق . فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى – ابن عم خديجة – وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية.
وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإِنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً قد عمي.
فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك.
فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى.
فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ، يا ليتني أكون فيها جذعاً( )، يا ليتني أكون فيها حياً إذ يخرجك قومك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو مخرجي هم.
قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً . ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي ( ).
وهل تختص الرؤيا الصالحة كجزء من الوحي في بدايات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنها مستمرة حتى بعد نزول آيات القرآن ، المختار هو الثاني ، وأن الله عز وجل يبين للنبي ما يفصل ويميز رؤيا الوحي عن غيرها من الرؤيا الصالحة أو المكروهة .
عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنما هي من الله تعالى فليحمد الله عليها وليحدث بما رأى ، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : ما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وآله من نوم إلا خرّ لله عزوجل ساجدا وكان صلى الله عليه وآله إذا نام تنام عيناه ولا ينام قلبه ويقول: إن قلبي ينتظر الوحي، وكان صلى الله عليه وآله إذا راعه شئ في منامه قال : هو الله لا شريك له.
وكان صلى الله عليه وآله كثير الرؤيا ولا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. وكان صلى الله عليه وآله إذا استيقظ من نومه يقول: ” سبحان الذي يحيى الموتى وهو على كل شئ قدير.
وإذا قام للصلاة قال: الحمد لله نور السماوات والارض والحمد لله قيوم السماوات والارض، والحمد لله رب السماوات والارض ومن فيهن، أنت الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت ( ).
لقد كان تهديد ووعيد كفار قريش يصل إلى المدينة ، وأظهره إرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاءت رؤياه بشارة عظيمة، وباعثاً للسكينة في نفوس المسلمين .
وهل فيه زجر للذين كفوا عن القتال ، الجواب نعم ، وكأن الرؤيا تخبرهم برجوعهم إلى مكة من غير تحقيق الغايات الخبيثة التي جاءوا من أجلها ، ولتكون رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذه من مصاديق ذم الذين كفروا وتبكيتهم بقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وهذه الرؤيا سلاح بيد المسلمين ، وحاضرة معهم في معركة أحد في دلالتها لما فيها من بعث الطمأنينة في نفوسهم ، وهل لها موضوعية في ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة عندما انسحب أكثر أصحابه من ميدان المعركة .
الجواب نعم ، بلحاظ أنها جزء من الوحي والتنزيل ، وليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تصديقه بالرؤيا التي يراها واتخاذه لها منهاجاً ، وفي ابراهيم عليه السلام ورد في التنزيل [يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ]( ).
وتبعث رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه على كتابة دراسات ماجستير ودكتوراه بخصوصها على نحو العموم أو الجزئية والتفصيل خصوصاً أن خبر هذه الرؤيا ذكر في كتب التفسير( )، وكتب السيرة( )، وكتب التأريخ ( )، وروي الخبر عن جابر بن عبد الله ( ).
وفي رواية قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأَوَّلتها المدينة( ).
كما تأول هذه الرؤيا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبقى في المدينة ولا يخرج منها لقتال المشركين ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يميل إلى هذا المعنى ، كما أشار به عبد الله بن أبي بن أبي سلول رأس النفاق وقال للنبي (أن لا تخرج) ( ).
وهل كان صادقاً في قوله هذا أم أنه مكر ودهاء منه ، المختار هو الأول ، فقد كان رئيس الخزرج ، كما جاء من مشورته بواقعة رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : من فصول رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال : وكأن سيفي ذا الفقار قد أنفصم من عند ظبته( ) ، والظبة : حد السيف ، أو النصل أو السنان.
والرؤيا اشارات وأمارات وهي بشارة أو إنذار أو هما معاً ، وكانت رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذه إنذاراً ليحترز المسلمون ويعلمون أن نتيجة معركة أحد قد تختلف عن نتيجة معركة بدر ، وما فيها من الغنائم وكثرة الأسرى من المشركين .
ولم يدخل الخوف إلى قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقلوب أصحابه من هذه الرؤيا لأنها إخبار من عند الله ، وفيها دعوة للرضا بقضاء وقدر الله عز وجل، إنما يخاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون من الله عز وجل فيتفضل عليهم بالنصر والغلبة ، وفي التنزيل [وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ]( ).
وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولّ انفصام سيفه بقوله (وأما انفصام سيفي فمصيبة في نفسي)( ).
ومن خصائص الدعاء أنه باب لقذف البلاء ومحو الضرر ، وتأتي رؤيا الإنذار لطفاً من عند الله كي يدعو الإنسان الله بصرفها ويتصدق ليمحو الله مصداقها لعمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وهل يختص هذا المحو بالمؤمنين أم أنه عام يشمل الناس جميعاً المختار هو الثاني ، وهو من فضل الله بمجئ رؤيا الإنذار والبشارة للناس جميعاً البر والفاجر ، والذكر والأنثى .
ولما كانت رؤيا الإنذار هدية ورحمة من الله للناس كافة ، فان المؤمنين يفوزون به بالأولوية القطعية ، من جهات :
الأولى : كثرة رؤيا الإنذار .
الثانية : تجلي ووضوح رؤيا الإنذار .
الثالثة : بقاء رؤيا الإنذار عالقة في الذهن لحين الدعاء أو قصها على اللبيب .
الرابعة : تفضل الله عز وجل بمحو مصداق رؤيا الإنذار، فتمر الأيام ولم يقع موضوع الإنذار ، فيزداد المسلم إيماناً .
الخامسة : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفتهم لباب من أبواب وعلوم الغيب ، وكيف أن الله عز وجل يرى العبد ما ينتظره من البلاء ثم يمحوه عنه.
لقد بيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه أنه سيتعرض للبلاء والأذى والجراحات في سبيل الله وفيه دعوة للمسلمين للعناية برؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعالم الرؤيا مطلقاً بما ينير لهم سبل الهداية والرشاد ، ويجذبهم إلى رياض الدعاء والمناجاة ، وهو من مصاديق قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
فلجأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشورى إذ أحاط أصحابه علماً بقدوم جيش المشركين وكثرة عددهم ، ولم يخش النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذكره لهذه الكثرة دبيب الخوف إلى قلوب أصحابه وظهور هذا الخوف في آرائهم وأقوالهم وما يشيرون به ، وهو من المعجزات الحسية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم واستدامة صفة (الصادق الأمين) ( )، عنده طيلة أيام حياته ، وليكون الصحابة على علم بالحال والإشارة بما يرونه في مواجهة هذه الفتنة .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه يشاور أصحابه ثم يلزم بما يوحي له الله عز وجل من الأمر ، أو يأتي من الأفعال والأسباب ما يكون خارج موضوع المشورة ، كما في معركة بدر وقوله تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ) بينما كان الصحابة تواقين للدفاع ، عندما سمعوا بقدوم جيش المشركين ، قال تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
ليكون هذا التمني نوع مشورة عملية في نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرضا بملاقاة المشركين في معركة أحد، إن القياس بين معركة بدر وأحد قياس مع الفارق ولو على نحو الموجبة الجزئية ، إذ يبعد موضع معركة بدر عن المدينة المنورة مائة وخمسين كيلو متر ، والصحابة الذين لم يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ليس لهم رأي أو مشورة فيها للبعد المكاني .
وقد اعتذروا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند قدومه إلى المدينة بأنهم لم يكونوا يعلمون بوقوع قتال وقبل عذرهم ، أما في معركة أحد فقد صار المشركون على مشارف المدينة .
ووصل خبر زحفهم ونزولهم في أطراف جبل أحد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وعموم أهل المدينة واستبشر المنافقون والكفار وظنوا أنهم سيجهزون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستشارة أصحابه ، وهو لايزال في المدينة .
قانون صبر النبي محمد (ص) معجزة
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالخلق والخلافة في الأرض وتسخير الأشياء لهم ، قال سبحانه [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وأنعم الله على الناس بالعقل ليكون من الكلي الطبيعي الذي ينبسط على الناس كلهم ، وإذ يتنعمون متفرقين ومجتمعين بنعمة العقل لتكون نوع طريق ووساطة لعبادة الله .
وتلقي معجزات الأنبياء والوحي الذي ينزل عليهم بالقبول والرضا ، فصحيح أن لكل نبي معجزة تناسب زمانه ، وما يعتني به أهله من الأمور العامة والمسائل كما في عناية قوم فرعون بالسحر فرزق الله عز وجل موسى عصا أبطلت سحرهم ، قال تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ]( ).
وهناك مراتب وخصال محمودة يتصف بها الأنبياء تكون بمدد وعون من عند الله عز وجل منها الوحي ، فهو ضابطة كلية ، ومنزلة خصّ الله عز وجل بها الأنبياء ، ومنها الصبر الذي هو صفة كريمة ومن محاسن الأخلاق ، يتخذها الأنبياء سلاحاً وواقية من الجزع والسخط ، وهم فيه أسوة حسنة للمسلمين في كل زمان , قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ]( ).
والصبر ضياء يشع في الأركان والجوارح ويحبس اللسان واليد عن الظلم والتعدي .
وقد توجه الأمر من الله عز وجل بالصبر ، وتدل سننهم وسيرتهم على أنهم الأئمة في الصبر ومنه صبرهم على تكذيب قومهم وإيذائهم لهم ، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ]( ).
وهل يختص هذا الخطاب بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأختصاص الأنبياء أولي العزم بمرتبة سامية أم أنه يشمل المسلمين بالتبعية والإلحاق ، المختار هو الثاني .
والأنبياء أولوا العزم هم نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، عليهم السلام ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان نكتة وهي لزوم اقتران الصبر باليقين والهمة العالية وعدم القعود.
وهل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصبر الجواب نعم ، وسيأتي قانون هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صبر ، وإعراض عن القتال.
وقد نزل القرآن بذكر صبر النبي أيوب ، قال تعالى [وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ] ( ).
ومن إعجاز التنزيل وذخائر النبوة أن أيوب صار مثلاً في الصبر عند أهل الملل في كل زمان لبيان لطف الله عز وجل بالناس بالنبوة والوحي وهو صيرورة قصص وسنة الأنبياء مدرسة في منهاج الأخلاق والسيرة في القول والعمل عند الناس جميعاً ، إذ ابتلي في ولده وماله ثم أصيب بالجذام المعدي في بدنه ، ولم يبق سالماً إلا عقله وقلبه ولسانه.
فانقطع إلى الذكر والتسبيح من غير جزع وتفرق وابتعد عنه الناس وظلت زوجته تحنو عليه وتقوم بأمره إلى أن كشف الله عز وجل وردّ عليه عافيته ورزقه المال والأهل قال تعالى [فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ]( ).
ويمكن بيان وتدوين عدة قوانين خاصة بصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : قانون صبر النبي على الإستهزاء ، وهو ينقسم إلى أقسام أشرنا إليها في المقدمة ، ولابد من إنشاء باب خاص بكل منها مثل :
الأولى : الإستهزاء بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : السخرية من التنزيل .
الثالثة : الإنكار والإستهزاء ببعض وجوه السنة النبوية .
الرابعة : قانون استهزاء المشركين بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حضرة المؤمنين لمحاولة بعث الشك والريب في نفوسهم بخصوص نبوته ومعجزاته ، ونزل قوله [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] ( ).
الثاني : قانون صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على سخرية الذين كفروا بآيات القرآن عند نزولها ، وعند سماعها ، نعم مع عمل المسلمين بآيات القرآن وتلاوتها يتناقص طردياً هذا الإستهزاء ، إذ تنمو عند عامة الناس ملكة التدبر في الآيات ودلالاتها , قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( )، وهو من ذخائر ومنافع صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه على أذى الكفار ، بينما [وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] ( ).
الثالث : قانون صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نوع طريق لهداية الناس إلى سبل الإيمان وعزوفهم عن طاعة الذين كفروا ، وامتناعهم عن الإنصات لهم حال استهزائهم بالنبوة والتنزيل .
ووردت أخبار وبشارات عن الأنبياء تتضمن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والثناء عليه لصبره (وأخرج البيهقي في الدلائل عن وهب بن منبه قال : إن الله أوحى في الزبور :يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد صادقاً نبياً لا أغضب عليه أبداً ولا يعصيني أبداً ، وقد غفرت له أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء .
وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل ، حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء ، وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا لي لكل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم ، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم ، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم ، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم.
يا داود إني فضَّلت محمداً وأمته على الأمم ، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم ، لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان ، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته ، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم عجلته لهم أضعافاً مضاعفة ، ولهم عندي أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك.
وأعطيتهم على المصائب في البلايا إذا صبروا و[قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم ، فإن دعوني استجبت لهم ، فإما أن يروه عاجلاً وإما أن أصرف عنهم سوءاً وإما أن أؤخره لهم في الآخرة.
يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقاً بها فهو معي في جنتي وكرامتي.
ومن لقيني وقد كذب محمداً وكذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صباً ، وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره ، ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار) ( ).
الرابع : قانون صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رمي الذين كفروا له بالسحر والكذب والإفتراء ، قال تعالى [وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ] ( ).
الخامس : قانون صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أذى الكفار لأهل البيت ، ومنه حصارهم في شعب أبي طالب ، وإيذائهم عند الهجرة.
السادس : قانون صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الأذى الذين لحق أصحابه .
السابع : قانون صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله .
الدليل الجنائي من السلطان
قال تعالى [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا] ( ) من خصائص خلافة الإنسان في الأرض لزوم الإمتناع عن الإفساد والقتل ، ومن يتعد ويجرأ ويقوم بقتل غيره ظلماً جعل الله عز وجل للخلافة شأناً في معاقبته إلى جانب العذاب الأخروي.
ومن معاني السلطان في الآية أن الملك والحاكم ينصره وينصفه من ظالمه وهل يختص السلطان بالقود ، الجواب لا ، انما يشمل وجوهاً :
الأول : القود من الجاني ذاته دون غيره من أقاربه .
الثاني : قبول الدية ، وقد تكون الدية هي الحكم حصراً وليس القود عندما تكون الجناية والقتل خطأ.
الثالث : العفو ، وهو من السلطان قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ).
الرابع : هداية ولي المقتول لسلوك سبيل العدل والحكمة والرشاد في المطالبة بحقه حسب الزمان وسنخية الحكم والقوانين .
وقد تفضل الله عز وجل بأعانة أولياء المجني عليه في أكثر الأحوال من كشف وتعيين الجاني ، ليكون هذا الكشف على وجوه :
الأول : إنه رحمة بالناس في كل زمان.
الثاني : هو شاهد على القبح الذاتي للقتل وسفك الدماء.
الثالث : إنه زاجر عن القتل.
وإرتقى العلم في ميدان الكشف عن الجناية والجريمة والواقعة ، ليكون من السلطان المذكور في الآية أعلاه.
وهل علم الأجنة الجنائية في هذا الزمان من السلطان الذي تذكره الآية أعلاه.
الجواب نعم ، إذ أنها تسخر لبيان الحقيقة والإثبات أو النفي والبراءة أو الأدانة في التحقيق والإدعاء العام بلحاظ مسرح الجريمة وتسخير المختبر وصيرورة نتائجه دليلاً مادياً ، والآلية والربط بنظام موحد للبصمات اليدوية والعينية في التعجيل بظهور النتائج ، وتوفير الوقت في الحكومات الإلكترونية وإعانة القضاء وأجهزة الشرطة لكشف الجاني أو لرفع درجة الظن والقناعة واليقين بالإدلة المادية الحسية من الجسم والهيئة واللون والرائحة والقولية مثل الإقرار والشهادة والفعلية ، والأدلة الفنية بالتحليل وأقوال الخبراء .
في الجناية إذ أنها أعم من أن تختص بالقتل فتشمل التزوير وانتحال الشخصية والوثائق الرسمية .
وكذا الإرتقاء العلمي في فحص العوامل الوراثية (DNA).
لقد إزداد سكان العالم وتداخلت المدن والحضارات ، وبينما كان السيف سلاحاً شخصياً لآلاف السنين يحمله شخص واحد لا يقدر إلا أن يقتل به شخصاً واحداً في الضربة أو الضربات المتعددة منه ، وظهرت أسلحة فتاكة في القرن الماضي ، وفي الجو والبحر والبر يستطيع الرامي أن يقتل ويدمر ويحرق بأسلحته في ساعة واحدة ، والمتفجرات ، وهي مركبات كيمائية تسبب الإحتراق الشديد في جزء من آلاف الأجزاء من الثانية ، والقتل العشوائي المحرم فيها أياً كانت ملة أو صنف أو هوية الناس المقصودين به.
وقد يقوم حامل المسدس والبندقية بالقتل بالضغط على الزناد ، فتفضل الله عز وجل وهدى الناس إلى الأدلة الجنائية الحديثة لكشف الجريمة ولزجر الناس عن إرتكابها وبعث النفرة والخوف في النفوس منها .
لقد بعث الله عز وجل الأنبياء لتنزيه الأرض من القتل والقتال ، ولكن الذين كفروا أبوا إلا محاربة الأنبياء فدافعوا ودفعوا وأظهروا الصبر والتحمل ، وبعث الله عز وجل النبي محمداً بذات النهج ، وبه نزل القرآن وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى ويدفع أذى الذين كفروا بالصبر والحجة والبرهان , قال تعالى [وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن أنه مع دعوته وأمره للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالصبر على الأذى تترى عليهم البشارات وتصاحب هذا الأمر , وتتضمن التحدي والبيان واستقراء لمستقبل القريب والوقائع التي يتحدث فيه ليرقبه الناس ، ويتطلعوا لحدوثه كمصداق وشاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
وعن الزهري عن عُرْوَة، عن عائشة؛ أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: “لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل ابن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظَلَّتْني، فنظرت فإذا فيها جبريل، عليه السلام، فناداني .
فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم”. قال: “فناداني مَلَك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك إليك، لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين” ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا يشرك به شيئا( ).
وعندما حاربه المشركون دافع عن نفسه والتنزيل وأحاط به أصحابه ليندحر لواء الشرك والضلالة ، فيكون دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاجة وضرورة لقطع دابر القتال والتعدي بازاحة الذين كفروا عن مقامات رئاسة الناس ، ومنعهم من البقاء في دكة القرار ، وامتلاك صدور الأوامر.
وعندما فقدوا هذه المنزلة على نحو السالبة الجزئية بعقد صلح الحديبية ، إذ قال الله [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، ثم وهنت قواهم ، وتفرق عنهم الأتباع ، فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة فاتحاً ليكسر الأصنام ، ويعصم المسجد الحرام من الأوثان وولاية الذين كفروا له إلى يوم القيامة.
وهل فتح مكة من مصاديق السلطان في قوله تعالى [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ] ( ).
الجواب نعم ، بلحاظ كبرى كلية وهي أن السلطان في المقام أعم من أن يختص بالقصاص ، إذ يشمل الأمور العامة وتنزيه المجتمعات من القتال ومنع أسباب القتل وسفك الدماء ، ومع هذا لم ينتقم أو يثأر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتلى المسلمين في واقعة بدر واحد والخندق ، ولم يثأر لخبيب وزيد بن الدثنة اللذين أُسرا غدراً وبعد الأمان ، ولم تخرج سريتهم لقتال أو غزو إنما للتبليغ .
ثم أحضرا بالقيود إلى مكة لتشتريهما قريش ليقتلا نكاية وانتقاماً لقتلى قريش في معركة بدر ، بل أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمان لأهل مكة لتنمية ملكة التسامح عند الناس ، والتدارك بدخول الاسلام والإستغفار ، وفي التنزيل [قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( )، وفيه تأديب للرؤساء والأمراء وقواد الجيوش في العالم بنشر شأبيب الرحمة والعفو عند الفتح والمقدرة والسلطان .
لقد سقط عدد من الشهداء في كل معركة من معارك الإسلام الأولى كالآتي :
الأول : أربعة عشر شهيداً في معركة بدر ستة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار .
الثاني : سبعون شهيداً في معركة أحد( ) .
الثالث : ستة شهداء في معركة الخندق ، وهم :
أولاً : سعد بن معاذ .
ثانياً : أنس بن أوس بن عتيك .
ثالثاً: عبد الله بن سهيل .
رابعاً : الطفيل بن النعمان .
خامساً : ثعلبة بن غنمة بن عدي .
سادساً : كعب بن زيد .
الرابع : أربعة شهداء في معركة حنين التي وقعت في أول شوال من السنة الثامنة للهجرة ، وتسمى أيضاً (وقعة هوازن)( ).
(أيمن بن عبيد، وهو ابن أم أيمن، أخو أسامة بن زيد لأمه.
ويزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب (بن أسد) بن عبد العزى، جمح به فرسه، ويقال له ” الجناح ” فقتل.
وسراقة بن الحارث بن عدي بن العجلان، من الأنصار.
وأبو عامر الأشعري.) ( ).
وكل فرد من هؤلاء الشهداء قتله المشركون مظلوماً ونزل الظلم في قتلهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات ، وتكون الولاية في استشهادهم لله ورسوله والمؤمنين ، وفي التنزيل [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا] ( ) قال تعالى [إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ] ( ) .
ومن الإعجاز أن الذين قتلوا المسلمين في ميدان المعركة معروفين عند المسلمين بأشخاصهم وقبائلهم ، ولكن لم ينتقم منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إنما عرض عليه الإسلام ، ودعاهم إلى التوحيد ، ليكون موعظة لهم ، وشاهداً على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث من عند الله لا يسعى للثأر والبطش ، إنما يريد إصلاح النفوس ، وجذب الناس لمنازل الإيمان .
وقد نزل القرآن بمواساة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالبشارة بحياة الشهداء بحضيرة القدس من ساعة استشهادهم ، قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) .
ليكون من الغايات الحميدة في آيات إكرام الشهداء والإخبار عن استدامة حياتهم عند مغادرة الدنيا دعوة المسلمين إلى الصبر وعدم الغزو أو الهجوم على الذين كفروا وأخذ الثارات منهم.
وفيه تخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ تمنع هذه الآيات المهاجرين والأنصار عن الإلحاح على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأخذ ثأر الشهداء .
لتقطع هذه الآيات المباركات الثأر والقتل حمية وسفك الدماء غضباً وحنقاً وثأراً .
فمن إعجاز الآية القرآنية الغيري أنها تنزل في موضوع ولكن منافعها والغايات منها أعم وأوسع ، وهو من عمومات قوله تعالى [هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).