معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 179

المقدمـــــــــــة
الحمد لله الذي نفخ في آدم من روحه ، وجعله [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وتتوارث ذريته النعم ، لتدرك الملائكة عظيم منزلة الإنسان عند الله وكيف أنه يتلقى هذه النعم والفضل من عند الله عز وجل بالشكر له سبحانه ، وبتعاهد آيات التنزيل من غير زيادة أو نقصان .
الحمد لله الذي جعل الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصاحباً لكل يوم من أيام الحياة الدنيا باقامة المسلمين الصلاة اليومية في البيوت والمساجد والقرى والبراري والمدن الصغيرة والكبيرة ، وذات صلاة العباد لله عز وجل على اختلاف ملل الموحدين هي شكر لله عز وجل .
وتتصف صلاة المسلم بأنها شكر قولي وعملي لله عز وجل إذ تبدأ بتكبيرة الاحرام وما تدل عليه من التسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل، ثم قراءة سورة الفاتحة التي تبدأ بالبسملة وآية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وذات الآية مدرسة في الفقاهة ، لما تعنيه من نسبة النعم التي عند المسلمين والناس جميعاً لله عز وجل وأنه رب العالمين ليس له شريك ، وتقدير آية الحمد في المقام على وجوه :
الأول : الحمد لله على ما عندي من النعم .
الثاني : الحمد لله على التوفيق لتلاوة سورة الفاتحة .
الثالث : الحمد لله على التسليم بربوبيته .
الرابع : الحمد لله على تلاوتي للقرآن.
الخامس : الحمد لله على وقوفي بين يديه في الصلاة الواجبة.
السادس : الحمد لله على أداء الصلاة بحال أمان ودعة ، قال تعالى [فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ]( ).
السابع : الحمد لله على هدايتي لذات الصلاة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : الحمد لله على ما أنعم على المسلمين والمسلمات.
التاسع : الحمد لله على نعمه على الناس جميعاً.
العاشر : الحمد لله لأنه رب العالمين ، الذي تفضل على الخلائق وحصر الربوبية به سبحانه ، قال تعالى [قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ]( ).
الحمد لله بعدد حروف القرآن وتفسير كلماته ، وتأويل آياته .
الحمد لله مع كل مصداق واقعي لمضامين القرآن القدسية.
الحمد لله الذي جعل الحمد له أماناً لأهل الأرض ، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلاوة كل مسلم ومسلمة سورة الفاتحة وما فيها من الحمد والثناء على الله عز وجل عدة مرات في اليوم دفعاً للبلاء والآفات عن الناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الحمد لله الذي رغّب بالحمد وجعل الجائزة والثواب عليه يفوق عالم التصور من جهات :
الأولى : الكم : وكثرة الثواب بما لا يقدر على معرفة أفراد هذه الكثرة إلا الله عز وجل لأنها في إزدياد ونماء متصل .
الثانية : الكيف : وصيغ الأجر على الحمد .
الثالثة : السعة : إذ يشمل الجزاء الذي العبد الذي حمد الله وغيره كوالديه وأبنائه ليكون هناك علم مستقل في العام والخاص من وجوه :
الأول : يكون الشكر الخاص الصادر من العبد نفعاً عاماً للجماعة والأمة والناس.
الثاني : ترشح النفع الخاص على الفرد من الشكر العام من الأمة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث : توالي النعم على عموم العموم بسبب الشكر الخاص والعام .
الرابعة : الجزاء : بالأفراد الطولية على شكر العبد لله عز وجل إذ ينتفع منه أبناؤه وآباؤه الأحياء والأموات ، وفي التنزيل [وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا]( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (إن الله ليفلح بفلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده،ويحفظه في دويرته ودويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله، ثم ذكر الغلامين، فقال: ” وكان أبوهما صالحا “( ) ألم تر أن الله شكر صلاح أبوهما لهما) ( ).
الخامسة : الأجر الحال والجزاء العاجل على الحمد لله .
السادسة : الإدخار ، إذ أن الحمد لله من أعظم ما اكتنز الإنسان لدنياه وآخرته (عن أبي الدرداء قال قلت يا رسول الله ذهب أهل الاموال بالدنيا والآخرة يصلون كما نصلي ، ويذكرون كما نذكر ، ويجاهدون كما نجاهد، ولا نجد ما نتصدق به .
قال : ألا أخبرك بشئ إذا أنت فعلته أدركت من كان قبلك ولم يلحقك من كان بعدك الا من قال مثل ما قلت تسبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وتحمده ثلاثا وثلاثين وتكبر أربعاً وثلاثين تكبيرة) ( ).
الحمد لله الذي [نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ] ( ) إذ تفضل وجعل القرآن متشابها يفسر ويصدق بعضه بعضاً ويرد بعضه إلى بعض ، وخالياً من التعارض او الإختلاف بين آياته مع كثرتها والتي تبلغ ستة آلاف ومائتين وستاً وثلاثين آية .
فيقوم العالم بتفسير الآية القرآنية لتتجلى له معاني وكشف من ذات الآية ومن صلتها مع آيات القرآن الأخرى ، ويكون هذا التشابه وقشعريرة الجلد عند سماع آيات القرآن نوع طريق للعمل بأحكامه وسننه .
الحمد لله الذي جعل القرآن يتحدى البلغاء والفصحاء والعلماء في كل زمان بأنه أحسن الحديث أمس واليوم وغداً لأنه كلام الله (عن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله لو حدثتنا فنزل { الله نزل أحسن الحديث }( ))( ).
والنسبة بين الآية أعلاه وبين قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ) هي العموم والخصوص المطلق ، فالحديث النازل من السماء أعم من القصص الواردة في القرآن لأن الحديث يشمل الأحكام والسنن ، أما القصص فتعني الإخبار وعن وقائع (روى ابن مسعود أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ملوا ملة فقالوا : لو قصصت علينا يا رسول الله ، فنزلت هذه الآية .
ثم ملوا ملة أخرى فقالوا : لو حدثتنا يا رسول الله ، فنزلت { الله نزل أحسن الحديث كتاباً }( )) ( ).
ومن إعجاز الآية القرآنية أن أولها في شئ ، ووسطها في شئ ، وآخرها في شئ آخر ، لبيان إعجاز إضافي في انتفاء الإختلاف والتعارض بين آيات القرآن بلحاظ عدم إنحصار الأمر بعدد آيات القرآن ، إنما يشمل التعدد والتفرع في ذات الآية القرآنية .
فتنقسم كل آية من القرآن بلحاظ علم إنتفاء الإختلاف والتعارض بين كلماتها وبينها وبين آيات القرآن الأخرى ، وحتى وسط الآية فانه لا ينحصر بموضوع واحد فقد يتعدد الموضوع والحكم في وسط الآية خاصة الآيات الطوال فمثلاً آية الدين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
إذ ابتدأت الآية بنداء الإيمان وما فيه من التشريف والإكرام للمسلمين والمسلمات بذات النداء ومضامينه ، ثم تذكر الآية التداين بصيغة الشرط والإجتهاد والرجحان بقوله تعالى [إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ] ( ).
وهل تدل الآية أعلاه على وجوب تعيين الأجل في الدين وأوان قضائه ـ الجواب نعم ، مع موضوعية قوله تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ]( ) لأن الآية أعلاه حاكمة على الأجل وتجعل موضوعه أعم ، وتتعدد مادة الكتاب في الآية أعلاه من جهات :
الأولى : فاكتبوه .
الثانية : وليكتب .
الثالثة : كاتب بالعدل .
الرابعة : ولا يأب كاتب .
الخامسة : أن يكتب .
السادسة : فليكتب .
السابعة : تكتبوه .
الثامنة : تكتبوها .
التاسعة : ولا يضار كاتب .
وبعد أن صدرت مائة وثمانية وخمسون جزءً من سفِر التفسير هذا بآية علمية لم يشهد لها الـتاريخ مثيلاً ، أفتتح قانون لم يغزُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً بالجزء الرابع والستون بعد المائة من هذا السفر وتفسير الآيات بما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان صابرا على أذى وعدوان كفار قريش ويقاتل دفاعاً ، ويمكن تسميتها على وجوه :
الأول : آيات الدفاع مثل قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
الثاني : آيات الصبر وحبس النفس عن الإضرار بالغير , و( سأل النبي صلى الله عليه آله وسلم أيّ الناس أشدّ بلاء فقال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل من الناس،
فيبتلى الرجل على حسب دينه،
فإن كان صلب الدين اشتدّ بلاؤه،
وإن كان في دينه رقّة فهي على حسب ذلك،
ولا يبرح البلاء عن العبد حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيّة) ( ).
الثالث : آيات المرابطة كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
وبين الصبر والرباط عموم وخصوص مطلق ، فالصبر أعم ، والرباط فرع منه .
وتتضمن هذه الأجزاء ذكر الكتائب التي خرج فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ درجت في كتب التأريخ وأغلب مناهج التعليم في مدارس الدول العربية والإسلامية تسميتها بالغزوات ، فيدرس الطلبة غزوة بدر وغزوة أحد ، وغزوة الخندق ، وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي غزا المشركين وأغار عليهم ، إنما كان جيش المشركين هو الذي يغزو المسلمين في عقر دارهم ، فلا بد من تغيير المناهج بما يتضمن الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنصافه والمسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار الذين خرجوا في السرايا .
وقد أختلف في عدد غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهل هي سبع وعشرون غزوة ، أم تسع وعشرون ، ويتضمن هذا التفسير بياناً في تغيير الإسم ، وتسميتها كتائب بدل غزوات وإخباراً بأن المشركين هم الذين كانوا يغزون ويهمون بغزو المدينة ويجاهرون بالسعي لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
نعم ليس المدار على الإسم إنما المدار على المسمى ، ويدل التدبر في آيات القرآن وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المسمى هو الدفاع من المدينة ، وكان خروجهم لأمور :
الأول : الإستطلاع .
الثاني : بعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا ، وهل خروجهم هذا من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) .
الجواب نعم لعمومات قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) ولا يختص المصداق العملي للجنود في الآية أعلاه بالملائكة ، إنما يشمل الأفعال والأقوال ، وتسخير الله عز وجل للكائنات والموجودات ، والآيات والآفات من السماء والأرض .
الحمد لله الذي أنعم علينا بصدور هذا الجزء وهو التاسع والسبعون بعد المائة من تفسيري للقرآن ويقع في تفسير وتأويل قوله تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ) وهي الآية (178) من سورة آل عمران ، ومن إعجاز هذه الآية أنها تتضمن مع قلة كلماتها التحدي والإنذار والوعيد للذين كفروا والحجة عليهم ، إذ تخبر عن توالي نعم الله عز وجل عليهم .
وقد تكرر لفظ [نُمْلِي] في هذه الآية مرتين ، ولم يرد في آيات القرآن الأخرى لإقامة الحجة على الذين كفروا ، ولبيان فضل سبحانه على الناس في توالي النعم ، ولزوم الشكر له سبحانه , وتخلف الذين كفروا عن هذا الشكر عن عمد وضلالة ، وسنبين ما فيه من المسائل وكيف أنها آية الإملاء في ثنايا التفسير .
وبفضل من الله أقوم بمفردي بكتابة ومراجعة وتصحيح هذه الأجزاء وكتبي الفقهية والأصولية بمدد ولطف من عند الله عز وجل .
لقد أنعم الله عز وجل على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للهداية والصلاح ، فأنزل آيات القرآن وما فيها من البشارة والإنذار , وما يترشح عن كل منهما من النعم .
ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه تتضمن البشارة والإنذار من الوجوه الآتية :
الأول : البشارة في منطوق الآية القرآنية بالنص واللفظ الصريح ، كما في قوله تعالى [تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) ، وقال تعالى [فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا] ( ) .
الثاني : مجئ البشارة في الآية القرآنية بالمعنى والدلالة كما في إخبار القرآن عن النجاة من عند الله بالإيمان ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] ( ) .
وعن أبي موسى الأشعري قال (َكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ : بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا) ( ).
مما يدل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بالدعوة إلى الله عز وجل بالبشارة بفضل الله في الدنيا والآخرة لتبقى طريق مباركاً في كل زمان إلى الهداية والإيمان .
فلا تصل النوبة إلى الهجوم والغزو خصوصاً وأن الله عز وجل رزق النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم المعجزات الحسية والعقلية وجعلها قريبة من الناس ، ومن قربها وقوف المسلمين صفوفاً متراصة بين يدي الله عز وجل في الصلاة خمس مرات في اليوم .
ولا يعلم ما في القلوب من الخواطر وأسباب الميل إلا الله عز وجل ، ومما ينكشف للناس يوم القيامة ميل وهداية عامة الناس إلى الإيمان بسبب ملاقاة المسلمين والموحدين ، ولا ينحصر هذا الميل بالمؤمنين إنما هو شامل لكل الناس رجالاً ونساءّ , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا] ( ).
الثالث : تضمن الآية القرآنية في مفهومها البشارة العامة والخاصة ، ولا يختص الأمر بآيات الإنذار ودلالتها مفهوماً على البشارة ، إنما تكون كل آية من القرآن بشارة في مفهومها من جهات :
الأولى : آيات الأحكام لدلالتها على الجزاء والثواب على الإمتثال لها .
وقد تكون البشارة متعددة في الآية القرآنية ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) فيترقب المسلمون والمسلمات هلال شهر رمضان وتكون اطلالته بشارة حلول شهر الطاعة والبركة .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يظهر الإستبشار بقدومه ، ويدعو المسلمين لتلقيه , وما فيه من ضروب الطاعة ومعاني الغبطة والسعادة, مع الدعاء الخاص بالهلال .
الثانية : تعدد معاني الآية القرآنية , والمقاصد الحميدة منها .
الثالثة : آيات الموعظة والبعث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي التنزيل [فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ] ( ) للتفريع على الوعيد على أكل الربا والحرام بالتدارك بالتوبة ، وبيان وجوب عدم اليأس من رحمة الله .
وهل في قوله تعالى [فَمَنْ جَاءَهُ] ومعناه من العلم والبلاغ العذر لمن استمر في الربا وأكل المال الحرام مع عدم بلوغ هذه الآية له ، الجواب لا ، فلا تختص الموعظة التي تأتي من عند الله عز جل بالآية أعلاه أو خصوص آيات التنزيل .
فمن معاني الخلافة بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) توالي مصاديق الموعظة للناس ، ولزوم نبذ الظلم الخاص والعام .
الرابعة: البشارة التي تستنبط من قصص القرآن ، وهذه البشارة من مصاديق الحسن بقوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ) .
وقد يأتي الأمن والبشارة وتجلي الأحكام بالجمع بين آيتين أو أكثر من القرآن (عن عطاء بن السائب عن أبي ظبيان الجنبي ان عمر بن الخطاب أتى بامرأة قد زنت فأمر برجمها فذهبوا بها ليرجموها فلقيهم علي عليه السلام فقال ما هذه قالوا زنت فأمر عمر برجمها فانتزعها علي من أيديهم وردهم فرجعوا إلى عمر .
فقال ما ردكم .
قالوا ردنا علي عليه السلام .
قال ما فعل هذا على الا لشيء قد علمه فأرسل إلى علي فجاء وهو شبه المغضب فقال مالك رددت هؤلاء .
قال أما سمعت النبي صلى الله عليه وآله و سلم يقول رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر وعن المبتلى حتى يعقل قال بلى قال علي عليه السلام فإن هذه مبتلاة بنى فلان فلعله أتاها وهو بها فقال عمر لا أدري قال وأنا لا أدري فلم يرجمها) ( ) .
وفي أيام عثمان بن عفان حين له بامرأة ولدت لستة أشهر على تأريخ دخولها على زوجها فرفع أمرها (إلى عثمان فامر برجمها، فدخل
عليه علي عليه السلام، فقال: إن الله عز وجل يقول [وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا] ( )، وقال تعالى [وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ] ( ) فلم يصل رسوله إليهم إلا بعد الفراغ من رجمها) ( ).
ومنهم من قسّم مدارس التفسير كالآتي :
أولاً : المدرسة المكية وهم تلاميذ عبد الله بن عباس .
ثانياً : المدرسة المدنية وهم تلاميذ عبد الله بن عمر .
ثالثاً : المدرسة الكوفية وهم تلاميذ عبد الله بن سعود .
ولا أصل لهذا التقسيم وحصر نسبة التلمذة فيها ، فقد ترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والصحابة ثروة عظيمة في علوم وتفسير وتأويل القرآن انتفع وينتفع منها العلماء , وان تباينت أمصارهم ومحل سكناهم .
ومن الإعجاز في قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ) وقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) حضور الصحابة والتابعين وتابعي التابعين موسم الحج والتدارس في آيات القرآن وتفسيرها ودلالتها , ونصوص الحديث النبوي وموضوعه والسنة الفعلية وما فيها من أحكام النسك , وسنن التأويل .
وليس من حواجز في موسم الحج بين الصحابة وأهل البيت وبين طلاب العلم وعامة الناس سواء في مكة أو في عرفة أو أيام التشريق في منى ، فلا يخلو التقسيم أعلاه من الغبن والتفريط ، قال تعالى [وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] ( ).
ومن العلماء من ألفّ كتابه مع قصد نصرة مذهبه ، وبقاء منهاجه على أصول وقواعد المذهب ، كما في أحمد بن علي الجصّاص الرازي ت370هـ في كتابه أحكام القرآن إذ أنه يجتهد في نصرة مذهب أبي حنيفة النعمان بن ثابت ت 150 هـ، وبذل وسعه في إيجاد الدليل وفق الأصول التي ابتنى عليها المذهب .
وقيل أول من ألف كتابا في التفسير هو مقاتل بن سلمان البلخي الخراساني ت 150 هجرية ، ويسمى تفسيره تفسير مقاتل .
ولا يحتج به في الحديث ، ويروي عن مجاهد والضحاك وعطاء وابن سيرين والزهري (قال ابن عيينة: قلت لمقاتل: زعموا أنك لم تسمع من الضحاك.
قال: كان يغلق علي وعليه باب.
فقلت في نفسي: أجل، باب المدينة.
وقيل: إنه قال: سلوني عما دون العرش.
فقالوا: أين أمعاء النملة ؟ فسكت.
وسألوه: لما حج آدم، من حلق رأسه ؟ فقال: لا أدري.
قال وكيع: كان كذابا.
وعن أبي حنيفة قال: أتانا من المشرق رأيان خبيثان: جهم معطل، ومقاتل مشبه.
مات مقاتل سنة نيف وخمسين ومئة.
قال البخاري: مقاتل لا شئ
البتة.
قلت: أجمعوا على تركه) ( ).
وقال ابن المبارك : ما أحسن تفسيره لو كان ثقة( ) .
ويبعث جمع ضروب هذا الذم العام في النفس الكراهة فلا يخلو من قسوة .
وعن أبي معاذ النحوي قال : سمعت خارجة بن مصعب(يقول لم أستحل دم يهودي ولا ذمي ولو قدرت على مقاتل ابن سليمان في موضع لا يراني فيه أحد لقتلته) ( ) .
وينسب للإمام الحسن العسكري (231-260) هجرية تفسير , ويقع في تفسير سورة الفاتحة وشطر من سورة البقرة ، وأختلف كثيراً في هذه النسبة على ثلاثة أقوال :
أولاً : اثبات صحة نسبة التفسير للإمام العسكري , وبه قال الطبرسي والمجلسي وغيرهما .
ثانياً : نفي نسبة الكتاب للإمام العسكري ، وبه قال العلامة الحلي الحسن بن يوسف بن مطهر (648-726) هجرية .
ثالثاً : في الكتاب ما هو صحيح في نسبته للإمام .
وفيه شذرات من التفسير لا تتعارض مع الكتاب والسنة ومنه ما هو موضوع عنه خاصة مع جهالة الرجلين اللذين رويا التفسير عن الإمام وهما علي بن محمد بن سيار , وصاحبه يوسف بن محمد بن زياد ، وكل منهما مجهول الحال .
ومن إعجاز القرآن الغيري مصاحبة علم التفسير لأيام تنزيله فأول من فسر القرآن هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد صدر لنا قبل نحو ثلاثين سنة جزءان من كتابنا الموسوم (تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن) .
صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفسر آيات القرآن كلها، ولكنه أسس مدرسة التفسير ، وبيّن منهاجاً لينير مسالك هذا العلم للعلماء، ويمنع من صدّهم عن ولوج مفاتيحه ، وفي التنزيل [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]( ).
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالبيان والتفصيل من العلماء لذخائر من القرآن ، وتعددت أجزاء هذا السفر بما يفوق كثيراً المتعارف في أجزاء التفسير ، لبيان قانون من الإرادة التكوينية ، وهو أن كلمات القرآن المعدودة تحيط باللامتناهي من الوقائع والأحداث ، كما أن ضروب الإستنباط في هذا التفسير فضل ولطف من عند الله عز وجل علينا ، فلابد من إظهارها لينهل منها المؤمنون ، ويسر بها كل إنسان من أهل الدنيا ، وفي التنزيل [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ]( ) .
ومن فضل الله التيسير في الكتابة مع ضيق الوقت وتداخل الأعمال ، وتزاحم الهموم فصدر الجزء المبارك في تفسير آية واحدة من سورة آل عمران .
ومن مفاهيم آية البحث جذب الناس إلى مقامات الإيمان واشعار المسلمين بلزوم تعاهد أداء الفرائض والعبادات .
وقال عمران بن حطان
( يا خَوْلَ يا خَوْلَ لا يطمحْ بكِ الأملُ
فقد يُكَذِّبُ ظَنَّ الآمل الأَجَلُ )
( يا خولَ كيفَ يذوقُ الخَفْضَ مُعْترِفٌ بالموت والموتُ فيما بَعْدَهُ جَلَلُ )
فمعناه الموت سهل بالقياس لما بعده , وقال الآخر
( كلُّ رزءٍ كانَ عندي جَلَلاً غيرَ ما جاءَ به الرَّكْبُ ثِنَى )
وقال الآخر :
( كلُّ شيءٍ ما خلا الموتَ جَلَلْ) ( ).
أي كل مصيبة سهلة ويسيرة إلا التفريط في الواجبات الشرعية ، وإرتكاب المعصية .
وقال بعض الحكماء : أعظم المصائب انقطاع الرجاء ، وأن كل شئ يبدو صغيراً ثم يعظم إلا المصيبة فانها تبدو عظيمة ثم تصغر , وفاته أن المعصية أكبر مصيبة وتبدو صغيرة ولكنها كبيرة بالعقاب عليها , فجاءت آية البحث للتحذير منها .
وقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الرجاء ويبدأ اليوم باشراقة الشمس وهي عنوان الأمل , وباعث على العمل وتسخير النعم في مرضاة الخالق البارئ .
وهل هذه الاشراقة من الإملاء الذي تذكره آية البحث أم من مقدماته , الجواب انها منهما معاً , لتكون ومنافعها في الأبدان والأرزاق من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
وآية البحث عون وسلاح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في محاربته للكفر وعبادة الأوثان ، وهي شاهد على أنه لا يحتاج إلى الغزو والقتال ، إنما تغزو الآية القرآنية المجالس والمنتديات وتدخل بلطف إلى البيوت ، وتنفذ إلى شغاف القلوب ، لما جعل الله عز وجل فيها من أسرار ومعاني الشوق إليها .
وصحيح أن القرآن خال من لفظ السيف إلا أن كل كلمة وآية فيه سيف رقيق يدفع الناس برفق عن مستنقع الكفر والضلالة بالموعظة والإنذار والوعيد الذي هو أخبار عن أمر حتمي وهو النشور والوقوف بين يدي الله للحساب والجزاء من عند الله بالثواب بالجنة , والعقاب والإثم المتراكم للذين كفروا , وهو الذي تدل عليه آية البحث .

(عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن لقمان قال لابنه : يا بني عليك بمجالسة العلماء ، واسمع كلام الحكماء ، فإن الله يحيي القلب الميت بنور الحكمة كما تحيا الأرض الميتة بوابل المطر) ( )
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بنزول القرآن ليجالسوا آياته في البيت والمسجد والعمل .
ومن خصائص هذه المجالسة تفقه المسلمين في الدين ، وفرض الله عز وجل الصلاة خمس مرات على كل مسلم لتكون تعليماً وتأديباً وهداية ، فجاءت آية البحث بكنز من المعارف للزجر عن الكفر بالتوحيد والنبوة والنعم ، ولتبقى حرزاً وذخيرة من العلوم تنير دروب الهداية للناس .
لقد جعل الله سبحانه كل آية قرآنية روضة وكنزاً للعلوم ينهل منها الناس ما يجلي البصر ويقدح البصيرة , قال تعالى [وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] ( ).

حرر في 12 ربيع الاول 1440
20/11/2018

قوله تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ].

الإعراب واللغة
الواو : استئنافية , وعاطفة .
لا : أداة نهي ونفي من غير تعارض بينهما ، وتقسيمها إلى قسمين ناهية ونافية تقسيم استقرائي من قبل النحويين، وعلوم القرآن أعم وأوسع منها، لأن الكلمة فيه تحمل عدة معان ، نعم يلزم مع النهي الجزم بالنسبة لحركة آخر الفعل .
يحسبن: فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم ، والنون نون التوكيد الثقيلة .
الذين: اسم موصول مبني في محل رفع فاعل .
كفروا: فعل ماض مبني على الضم ، والواو : فاعل .
أنما: أن حرف جر مشبه بالفعل للتوكيد .
ما: اسم موصول مبني في محل نصب اسم (أن) .
نملي : فعل مضارع مرفوع ، وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء، والفاعل ضمير مستتر تقديره (نحن ) لإرادة الله عز وجل ، ويقدر الضمير بصيغة الجمع، للتعظيم، وفي التنزيل[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
لهم : اللام : حرف جر ، هم: ضمير في محل جر متعلق ب (نملي ) وعائد الموصول محذوف تقديره نمليه .
خير : خبر أن مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
لأنفسهم : اللام : حرف جر . أنفس : اسم مجرور بالكسرة ، متعلق بخير .
هم : ضمير مضاف إليه .
إنما نملي لهم : إنما : كافة ومكفوفة لا عمل لها .
نملي لهم : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء ، والفاعل ضمير مستتر تقديره (نحن ) يعود لله عز وجل وصيغة الجمع للتعظيم ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ) .
لهم : جار ومجرور .
ليزدادوا : اللام حرف تعليل .
يزدادوا : فعل مضارع منصوب بـ (أن) مضمرة بعد اللام ، وعلامة النصب حذف النون .
الواو : فاعل .
إثماً: تمييز منصوب بالفتحة .
ولهم عذاب : الواو حرف عطف ، ويصح أن تكون استئنافية بلحاظ التباين في العوالم ، فازدياد الإثم في الدنيا والعذاب المهين في الآخرة .
اللام : حرف جر .
هم : ضمير في محل جر متعلق بمحذوف خبر متقدّم .
عذاب : مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
مهين : صفة العذاب مرفوع مثله .
والإملاء توالي النعم وتعدد الهبات وكثرة الإحسان و(المِلاوةُ والمُلاوةُ والمَلاوةُ والمَلا والمَلِيُّ كله مَدَّة العيش وقد تَمَلَّى العَيْشَ ومُلِّيَه وأَمْلاه الله إِياه ومَلاَّهُ وأَمْلى اللهُ له أَمْهلَه وطوَّلَ له .
وفي الحديث : إنَّ اللهَ لَيُمْلي للظالم , الإِمْلاء الإِمْهالُ والتأْخير وإِطالةُ العُمُر) ( ).
والمختار أن الإملاء أعم إذ يتضمن أموراً منها:
الأول : الإمهال .
الثاني : توالي النعم .
الثالث : دفع البلاء .
الرابع : الشأن والجاه.
الخامس : الصحة والعافية.
السادس : كثرة وسلامة العيال والأولاد.
السابع : قضاء الحوائج.
الثامن : تيسير الأمور.
التاسع : وفرة المال.
العاشر : ركوب الرواحل والتنقل في الأرض.
الحادي عشر : الرزق الكريم والصنائع.
الثاني عشر : الستر وعدم المؤاخذة العاجلة على الذنب، قال تعالى[وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى….]( ).
الثالث عشر : السلامة من العاهة والأمراض المعدية، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يورد ممرض على مصح) والممرض المبتلى بداء، والمصح السليم من المرض .
وعن ابن شهاب، أن أبا سلمة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا عدوى ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يورد ممرض على مصح فقال أبو سلمة : كان أبو هريرة يحدثهما كليهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم صمت بعد ذلك عن قول : لا عدوى ، وأقام على قوله : لا يورد ممرض على مصح ، قال : فقال الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب وهو ابن عم أبي هريرة : قد كنت يا أبا هريرة أسمعك تحدثنا مع هذا الحديث حديثا آخر قد كنت تقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا عدوى فأبى أبو هريرة ذلك ، وقال : لا يورد ممرض على مصح فماراه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة ، فرطن بالحبشية ، فقال للحارث : أتدري ما قلت ؟ قال : لا ، قال أبو هريرة : قلت : أبيت قال أبو سلمة : ولعمري لقد كان أبو هريرة يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا عدوى، فلا أدري أنسي أبو هريرة ، أم نسخ أحد القولين الآخر؟)( ).
وليس من تعارض بين الحديثين على فرض صحة الصدور إذ يشترك في النسخ عدم الجمع بين الحديثين، بينما يمكن الجمع بينهما، كما يشترط تأخر زمان الحديث الناسخ وهو غير بيّن أو ظاهر في المقام بالإضافة إلى ورود حديث: لا عدوى…) بطرق أخرى عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد يكون بين الحديثين عموم وخصوص مطلق إذ نفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطلق العدوى في كل مرض في نفي ما كان عليه العرب في الجاهلية بأن المرض والعاهة تعدي بذاتها وتنتقل إلى الغير بطبعها بينما يدل الحديث(لا يورد ممرض على مصح) إجتناب المريض بمرض معد على السالم من المرض خشية إنتقال العدوى.
وحديث لا عدوى في الإبل فالمراد من الممرض صاحب الإبل المريضة, أما المصح فهو صاحب الإبل الصحيحة ، فلا ترد الإبل المريضة على الإبل الصحيحة , ومن أمراضها :
الأولى : أمراض الجهاز التنفسي والتهاب المنخر والحنجرة والإلتهاب الرئوي .
الثانية : أمراض الجهاز البولي والكليتين .
الثالثة : أمراض الجهاز العصبي مثل مرض التواء الرقبة ومرض الهياج العصبي ومرض الجنون .
الرابعة :أمراض الجهاز التناسلي والخصية والعقم , وبالنسبة للناقة التهاب الرحم.
الخامسة : جرب الإبل , والأمراض الفيروسية ، ومنها ما ينتشر بسرعة بين الإبل ويلزم معالجته مثل مرض جدري الإبل إذ يمتنع الحيوان فجاة عن الإحتراز وترتفع درجة حرارته ، وتظهر حبيبات صغيرة في رأسه وعلى شفتيه ، وفترة حضانة المرض بضعة أيام في الغالب ، وقد يشفى منها .
السادسة : الأمراض البكتيرية مثل الحمى الفحمية أو الجمرة الخبيثة الذي يصاب معها الحيوان بحمى شديدة ، وقد يكون فجأة في حال إحتضار أو يشاهد نافقاً .
السابعة : أمراض الجهاز الهضمي .
وقد يكون بين حديثين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نوع ناسخ ومنسوخ فيؤخذ بالناسخ ، ويترك المنسوخ ، مع لزوم موافقة الناسخ لآيات القرآن ، وقد يظن وجود اختلاف بين حديثين ، ولكنه شبهة بدوية تنصرف بالتدبر ، أو يتوقف المجتهد إلى حين تجلي وجه الترجيح لأحدهما ، وهناك قوانين في السنة النبوية وهي :
الأول : قانون موافقة السنة النبوية للقرآن .
الثاني : قانون السنة النبوية تفسير للقرآن .
الثالث : قانون استحالة التعارض بين حديثين من جميع الجهات .
الرابع : قانون استحالة معارضة الحديث النبوي لآيات القرآن .
الخامس : قانون موافقة الحديث النبوي للحقائق الكونية .
السادس : قانون دلالة الإكتشافات العلمية في كل زمان على القانون السماوي في قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
والنسبة بين الإملاء والإستدراج هي العموم والخصوص من وجه فهناك مادة للإلتقاء ، قال تعالى [سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
والذين كفروا جمع الذي كفر ، وقد يطلق عليهم الكفار والكافرون ، وورد ذكرهم بلفظ الكفرة في القرآن مرة واحدة بقوله [أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ] ( ) والأنثى منهم كافرة والجمع كافرات وكوافر .
والمعنى واحد ، ولكن بلحاظ الدقة العقلية أن الذين كفروا إختاروا الكفر ، والكفار تلبسوا بالكفر وأقاموا عليه .
وبخصوص المؤمنات المهاجرات قال تعالى [فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ] ( ).
وقد ورد لفظ الكفار خمس عشرة مرة في القرآن ، وورد لفظ [الَّذِينَ كَفَرُوا] نحو مائة وثمان وخمسين مرة في القرآن وهو أعم من إرادة الكفار الجاحدين بالتوحيد ، وقد يشمل الجاحدين بالنعم ، قال تعالى [لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ] ( ) .
وكفر يكفر من باب دخل , وقيل من باب ضرب ، ونصر ، وقتل .
(كفر الشيء وكفّره: غطّاه، يقال: كفر السحاب السماء، وكفر المتاع في الوعاء، وكفر الليل بظلامه، وليل كافر. ولبس كافر الدروع وهو ثوب يلبس فوقها. وكفرت الريح الرّسم، والفلاح الحب، ومنه قيل للزرّاع: الكفار. وفارس مكفّر ومتكفّر، وكفّر نفسه بالسلاح وتكفّر به. قال ابن مفرّغ:
حمى جاره بشر بن عمرو بن مرثد … بألفي كميٍّ في السلاح مكفّر
وتكفّر بثوبك: اشتمل به. وطائر مكفر: مغطّى بالريش. قال:
فأبت إلى قوم تريح نساؤهم … عليها ابن عرس والأوزّ المكفّرا
وغابت الشمس في الكافر وهو البحر. ورجل مكفّر وهو المحسان الذي لا تشكر نعمته. وإذا أمر الرجل بعمل فعمله على خلاف ما أمر به قالوا: مكفور يا فلان عنّيت وآذيت أي عملك مكفور لا تحمد عليه لإفسادك له. وكفر العلج للملك تكفيرا إذا أومأ إلى السجود له .
وخرج نور العنب من كافوره وكفرّاه وهو أكمامه، وكافور النخل وكفرّاه: طلعه. وفي الحديث ” أهل الكفور أهل القبور ” وليفتحنّ الشأم كفراً كفراً وهو القرية يقال: كفر طاب وكفر توثا. وكافرني حقيّ: جحده. وفي الحديث: ” لا تكفر أهل قبلتك ” يقال: أكفره وكفّره: نسبه إلى الكفر. وكفّر الله عنك خطاياك.) ( ).
والكفر ضد الشكر ، والكفر في الإصطلاح : الإنكار والجحود بالتوحيد والربوبية المطلقة لله عز وجل ، وفي التنزيل [وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ] ( ) أي أنكروا وجحدوا به .
وقد يظهر الإنسان الإيمان ولكنه يكفر في قلبه وهو المنافق ، قال تعالى [وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا] ( ) .
وتضمنت آية البحث ذم الذين كفروا وأخبرت عن فضل الله عليهم وإملائه النعم لهم ، ليكون هذا الإخبار من الإملاء لهم ، ولا يتعارض مع هذا المعنى صيغة الإنذار في الآية .
وهل يشمل لفظ [الَّذِينَ كَفَرُوا] في آية البحث المنافقين أم أنهم خارجون بالتخصيص ، كما تدل على التعدد والتباين النسبي بينهما صيغة العطف في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ) الجواب فيه تفصيل ، فقد يشمل خطاب الذين كفروا المنافقين أو لا يشملهم بحسب الموضوع والحكم والقرائن ، أما بالنسبة لآية البحث فان قوله تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) يشمل الكفار والمنافقين خاصة .
وقد أختتمت آية البحث بالإخبار عن شدة عذاب الذين كفروا وأن عذابهم مهين لهم بذاته ، وأمام أهل المحشر ، وقد جاءت آيات القرآن بالوعيد للذين نافقوا بالعذاب الشديد ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا] ( ) وإذ يلتقي الكفار مع المنافقين بالإملاء لهم من عند الله بالنعم الظاهرة والباطنة ، فان المنافقين ينفردون عن الكفار بالإنتفاع من النعم التي تأتي للمسلمين خاصة ، ومنها الأمن في المدينة وحضورهم الصلاة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجئ الغنائم إلى المدينة ، وأخذ المنافقين منها .
وقد يأخذ بعض المنافقين خاصة ممن هو رئيس قومه أكثر من غيره من المؤمنين .
ليكون أخذه هذا سبباً لزيادة إثمه وعقابه أذا لم يبادر إلى التوبة والإستغفار ، قال تعالى [إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ).
والتوبة حق وهي إحساس الإنسان بالندم على فعل معصية إرتكبها في الزمن الماضي القريب أو البعيد ، وحتى الحاضر فقد يشرع في معصية فيقذف الله عز وجل في قلبه الندم لإرتكابها ، فيكف عنها ويمتنع عن الإستمرار بفعلها، مع العزم على عدم الرجوع إليها، وارتكابها وما يشبهها مرة أخرى.
(عن ابن عباس في قوله {وليست التوبة}( ) قال : فأنزل الله بعد ذلك { إن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }( ) فحرم الله المغفرة على من مات وهو كافر ، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسهم من المغفرة .
وأخرج ابن المنذر عن ابن عمرو قال : ما من ذنب مما يعمل بين السماء والأرض يتوب منه العبد قبل أن يموت إلا تاب الله عليه) ( ).
وهل تصح التوبة من غير استغفار أم لابد من الإستغفار معها ، المختار لابد من الإستغفار لسؤال الله عز وجل محو العقوبة التي تترتب على المعصية ، وفي الإستغفار دلالة على إقرار العبد بالعبودية لله عز وجل .
وهل تصح التوبة من غير استغفار أم لابد من الإستغفار معها ، المختار لابد من الإستغفار لسؤال الله عز وجل محو العقوبة التي تترتب على المعصية .
وفي الإستغفار دلالة على إقرار العبد بالعبودية لله عز وجل وتسليم بعالم الآخرة ، وما فيه من الثواب والعقاب ، فمن أصول الدين الإيمان باليوم الآخر ، وجاء كل نبي وكتاب سماوي منزل بوجوب الإقرار باليوم الآخر ، والبعث على الإستعداد له ، ومن ضروب الإستعداد له التوبة والإستغفار واستقبال ما بقي من العمر بالعمل الصالح , بقصد القربة إلى الله عز وجل .
ومن اعيان التابعين مالك بن دينار ، سمع من أنس بن مالك وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد ، وكان أبوه دينار من سبي سجستان ، وعرف مالك بالزهد, دخل عليه لص فلم يجد عنده شيئاً يأخذه ، فناداه مالك : لم تجد شيئاً من الدنيا فترغب في شئ من الآخرة .
قال : نعم .
قال له : فتوضأ وصل ركعتين ، ففعل ثم حبس وخرج مع مالك إلى المسجد .
فسألوا مالكاً من ذا ؟.
قال : جاء ليسرق فسرقناه .
ومالك نفسه سئل عن سبب توبته فقال : (كنت شرطياً وكنت منهمكا على شرب الخمر، وكانت لي جارية، فولدت لي بنتاً فلما دبت على الأرض ألفتها وألفتني، وكنت إذا شربت الخمر جاءت إلي وأهرقتها علي، ثم أنها ماتت.
فلما كانت ليلة النصف من شعبان وأنا نائم سكران، فرأيت كأن القيامة قد قامت، فالتفت فإذا بتنين عظيم وهو من أعظم ما يكون، قد فتح فاه وهو مسرع إلي، فوليت هارباً منه مرعوبا، فرأيت شيخاً نقي الثوب، طيب الرائحة .
فقلت له: أجرني من هذا التنين أجارك الله، فبكى الشيخ، وقال: إني ضعيف وهذا أقوى مني، فوليت هارباً حتى أشرفت على طبقات النيران، وكنت كدت أن أهوي فيها .
فصاح صائح: إرجع فلست من أهلها، فاطمأننت إلى قوله فرجعت.
فإذا التنين قد قرب مني وتحيرت في أمري، وإذا بإبنتي التي ماتت وقد أشرفت وقالت: يا أبت، أنت أبي والله، ومدت يدها اليمنى إلي فتعلقت بها، ومدت يدها اليسرى إلى التنين فولى هارباً .
ثم أجلستني وقعدت في حجري، وقالت: يا أبت، [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ] ( ). فقلت لها: وأنتم تقرأون القرآن؟
قالت: نعم، ونحن أعرف بحروفه منكم .
فقلت لها: أخبريني عن التنين الذي هو أراد هلاكي، قالت: يا أبت، هذا عملك السوء قويته عليك،.
فقلت: أخبريني عن الشيخ الذي مررت به، قالت: ذلك عملك الصالح أضعفته فلم يكن له قوة ولا طاقة بعملك السوء .
فقلت لها: وما الذي تصنعون ههنا؟ .
قالت: نحن أطفال المؤمنين قد أسكننا الله تعالى في هذا الجبل ننتظر قدومكم علينا فنشفع لكم، فانتبهت فرحاً مسروراً.
وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام، يا داود: ليس كل الأولاد أولاداً صلحاء، منهم ولد يسعر على والديه ناراً، وولد يشفع في أبويه فيدخله الجنة.
يا داود، كم من مملوك عندي أقرب من سيده، وكم من ولد أطهر من أبيه.
يا داود، إن السعيد عندي هو السعيد أبداً وربما حال إلى الشقاوة، وإن الشقي عندي هو الشقي أبداً ولربما حال إلى السعادة، ثم لا راد لحكمي ولا دافع لقضائي) ( ).
ومن سعة رحمة الله عز وجل بالناس وأسرار خلافتهم في الأرض إقتران الإملاء لهم بدعاء واستغفار الملائكة لهم ، قال تعالى [وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] ( ) ليكون هذا الإستغفار السماوي نوع طريق للإقرار بالنعم المتوالية من عند الله ، ولزوم ملاقاتها بالشكر له سبحانه ، وهناك مسألتان بخصوص الآية أعلاه :
الأولى : هل ينحصر استغفار الملائكة بالمؤمنين أم يشمل الكفار والمنافقين .
الثانية : هل يختص استغفار الملائكة بالأحياء أم يشمل الأموات والذين لم يولدوا بعد .
أما المسألة الأولى فإستغفار الملائكة لا يشمل الذين كفروا، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( )، وأما المسألة الثانية فإن دعاء الملائكة للمؤمنين مطلق يشمل الأحياء والأموات منهم.

في سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة وهو على شعبتين :
الشعبة الأولى : صلة هذه الآية بالآيات السابقة لها ، وهي على وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إتحاد موضوع الآيتين في ذم الذين كفروا ، وبيان قبح اختيارهم وسوء فعلهم .
لقد كان العرب في جاهلية وعبادة للأوثان ، ولكن الله عز وجل أنعم عليهم ، وجعل البيت الحرام آية في الأرض ، وداعية صامتة للإيمان ونبذ عبادة الأوثان ، وليكون البيت الحرام وأداء العرب لمناسك الحج مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديق الناس به ، مع أن بعثته على فترة من الرسل ، فبينما كان بين بعثة موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام ألف نبي ، ليس بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم من رسول أو نبي ، نعم لم يغادر عيسى الدنيا إلا مبشراًُ الناس برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في التنزيل [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ]( ).
لقد ذكرت آية البحث [الَّذِينَ كَفَرُوا]على نحو التعيين بالصفة وأقبح الخصال ، وهو الكفر ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا] ( ) .
أما آية السياق فذكرتهم بصفة القيام بالشراء .
وتحتمل النسبة بين الذين اشتروا الكفر بالإيمان لما في الآية السابقة وبين الذين كفروا الذين تذكرهم آية البحث وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي بينهما .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الذين كفروا أعم من الذين اشتروا الكفر .
الثانية : الذين اشتروا الكفر أعم من الذين كفروا .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه فالذين كفروا أعم من الذين اشتروا الكفر بالإيمان، وفي التنزيل [قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ] ( ).
فجاء الإنذار والوعيد في آية البحث بالمعنى الأعم وإرادة جميع الذين كفروا ، لبيان فضل الله عز وجل على الناس جميعاً ، ولكن الذين كفروا يقابلون النعم بالجحود والصدود عن سبيل الله .
الثانية : بعث النبي والمؤمنين على الصبر ، وتحمل الأذى من الذين كفروا ، وبيان قانون وهو أن كثرة الذين كفروا وإصرارهم على الضلالة ، وإرتكابهم المعاصي لن يضر المؤمنين في دعوتهم إلى الله عز وجل ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
لقد أخبرت الآية عن توالي النعم من الله عز وجل على الذين كفروا ، لبيان قانون وهو وجوب عدم افتتان المؤمنين بالذين كفروا أو بما عندهم ، قال تعالى [سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) لتكون هذه النعم وبالاً على الذين كفروا ومادة للحساب والعقاب الأليم في الآخرة ، وهل يختص البلاء الذي يأتي للذين كفروا بعالم الآخرة .
الجواب يأتي البلاء للذين كفروا حتى في الحياة الدنيا ، إن ذات لفظ [الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ] ( ) تبكيت للذين كفروا وإنذار لهم ، فقد جعل الله عز وجل عند الإنسان رسولاً باطناً لتكون الحجة على الإنسان ذاتية وحاضرة في كل زمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] ( ) والأصل في الشراء وبذل المال لأخذ العين المشتراة أنها ذات نفع ، وفيها غبطة وسعادة وأنها سبب ووسيلة لجلب المال ولكسب معيشة العيال.
الثالثة : لقد جاء الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل آيتين [وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ] ( ) ثم جاءت آية السياق وآية البحث في ذم الذين كفروا .
ونعتهم بأنهم كافرون ذم وتبكيت وتوبيخ إذ تدل الآية على شهادة الله على الذين كفروا بسوء اختيارهم .
الرابعة : ابتدأت آية السياق بالحرف الواو سواء المراد منه العطف أو الإستئناف ، وفيه دلالة على الصلة بينهما وبين آية السياق وهو جلي بلحاظ إتحاد الموضوع ، والتداخل الموضوعي بين خاتمة الآية السابقة وبين آية البحث .
ويتجلى في ذم الذين كفروا وبيان سوء عاقبتهم ، فأخبرت آية السياق عن شرائهم الكفر ثم أعقبتها آية البحث لتبين تحقق إتصافهم بالكفر وأنهم صاروا [الَّذِينَ كَفَرُوا] لبيان معجزة للقرآن وهي حتى مع شراء الكفر ، وأثناء هذا الشراء بامكان الإنسان أن يجتنب الكفر ، ويمتنع عنه ويتوب إلى الله خاصة وأنه بشرائه الكفر لن يضر الله ولا المؤمنين إنما يضر نفسه بالذات، وفيه دعوة لأبناء الكفار من قريش ونحوهم للتوبة والإنابة ، وعدم الإنصياع لأوامر آبائهم بمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ,
الخامسة : لقد ذكرت آية البحث الذين كفروا ، وبينهم وبين الذين يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عموم وخصوص مطلق ، فالذين كفروا أعم كما يشمل الذكور والأناث ممن أختاروا الضلالة ، فجاءت آية البحث لحثهم جميعاً ذكوراً وأناثاً بلزوم التوبة والتدبر بالنعم التي تنزل من الله والتعجيل بتعاهدها وحفظها ، ورجاء زيادتها لأن التوبة من الشكر لله عز وجل ، وقال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ) وهناك مسائل :
الأولى : أيهم أكثر إنتفاعاً من الموعظة القرآنية وعموم التنزيل الرجال أم النساء .
الثانية : أي الكفار أكثر دعوة الى الكفر الرجال أم النساء.
الثالثة : أيهم أكثر ترغيباً بالإيمان الرجل أم المرأة ويأمر بالمعروف والنهي من المنكر .
أما مسألة الأولى فليس من قانون في المقام ، وإذا كان لابد من الجواب فالرجال اكثر انتفاعاً من الموعظة القرآنية ، نعم لو توجهت ذات الموعظة والتلاوة والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى رجل وامرأة في ذات الوقت من الحال والتشابه فان قلب المرأة ارق وأسرع للإيمان وهو من رأفة الله بالنساء ، وهو سبحانه أوصى في آيات عديدة منها .
كما أوصى بهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يا أيها الناس إن النساء عندكم عوان ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن حق ، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً ، ولا يعصينكم في معروف ، وإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ( ).
ولا يعلم الإنسان ما صرف عند من البلاء والضرر بسبب إعالته لزوجته أو بناته وتربيتهن وسترهن وتوفير لقمة العيش لهن وتعلمهن سبل الهداية .
وهل يختص الأمر بالمؤمنين أو عموم المسلمين من أيام الناس جميعاً الجواب هو الثاني، إلا بخصوص الذي يكون في وجوده وطول عمره ضرر بالغ على زوجته وأسرته ، وهو فرد نادر ولا عبرة بالقليل النادر , واكرام الرجل في إسرته من عمومات قوله تعالى [وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا] ( ) .
فيمكن القول بأن مضامين الآية عامة ، كما تشمل الإبن فانها تشمل الأب مع أن مسألة الإبتلاء بالأب ذي الضرر الفادح أقل من الإبن في المقام ويقتبس الإبن والبنت سبل الصلاح من الأم وغيرها وقد تجلى في بدايات الدعوة الإسلامية بدخول الشباب ذكوراً وأناثاً من أهل مكة الإسلام مع إقامة آبائهم على عبادة الأوثان وعزمهم على إكراههم على الإرتداد وترك الإسلام , وفي التنزيل [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
فلذا ذكرت الآية أعلاه الولد ، ليكون فيها دعوة للأبناء للصلاح وإجتناب عقوق الوالدين ، قال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا]( ).
أما المسألة الثانية فان الكفار من الرجال أكثر دعوة إلى الكفر من النساء، وهل تجهيز الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر وأحد والخندق من هذه الدعوة .
الجواب نعم , وترشح غزوهم المسلمين منها ومن إلحاح وتمادي الذين كفروا بها .
وكانت بعض بنات وأزواج رؤساء جيش الكفار ، قد دخلن الإسلام ومنهن أم حبيبة ، وهي بنت أبي سفيان رئيس جيش المشركين في معركة أحد هاجرت إلى الحبشة مع عبيد الله بن جحش وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين تنصر في الحبشة , وأراد منها متابعته على دينه فأبت وصبرت على الإسلام في دار الغربة , ومات في الحبشة .
و(خطبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعث بها إليه فقال أبو سفيان وهو مشرك لما بلغه تزويج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته : ذلك الفحل لا يقدع أنفه ( يقدع ) بالدال غير المعجمة يقال : هذا فحل لا يقدع أنفه أي لا يضرب أنفه وذلك إذا كان كريما ) ( ) .
وأخرج ابن ابي شيبة عن جماعة قالوا : (تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث عشرة امرأة : ست من قريش خديجة . وعائشة . وحفصة . وأم حبيبة . وسودة . وأم سلمة ، وثلاث من بني عامر بن صعصعة ، وامرأتين من بني هلال . ميمونة بنت الحرث ، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم . وزينب أم المساكين ، وهي التي اختارت الدنيا . وامرأة من بني الحارث ، وهي التي استعاذت منه . وزينب بنت جحش الأسدية . والسبيتين صفية بنت حيي . وجويرية بنت الحارث الخزاعية) ( ).
و(عن إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: قالت أم حبيبة: رأيت في النوم عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهه ففزعت، فقلت تغيرت والله حاله، فإذا هو يقول حيث أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في الدين فلم أر دينا خيرا من النصرانية وكنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد ثم قد رجعت إلى النصرانية .
فقلت: والله ما خير لك. وأخبرته بالرؤيا التي رأيت له فلم يحفل بها وأكب على الخمر حتى مات فأرى في النوم كأن آتيا يقول يا أم المؤمنين، ففزعت فأولتها أن رسول الله يتزوجني.
قالت فما هو إلا أن انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي على بابي يستأذن فإذا جارية له يقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فدخلت علي فقالت إن الملك يقول لك إن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كتب إلي أن أزوجكه .
فقالت: بشرك الله بخير. قالت: يقول لك الملك وكلي من يزوجك .
فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته وأعطت أبرهة سوارين من فضة وخدمتين كانتا في رجليها وخواتيم فضة كانت في أصابع رجليها سرورا بما بشرتها .
فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن هناك من المسلمين فحضروا فخطب النجاشي فقال: الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، صلى الله عليه وآله وسلم، أما بعد فإن رسول الله كتب إلي أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله وقد أصدقتها أربع مائة دينار .
ثم سكب الدنانير بين يدي القوم فتكلم خالد بن سعيد فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه وأستنصره وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
أما بعد فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله وزوّجته أم حبيبة بنت أبي سفيان فبارك الله لرسول الله. ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاص فقبضها ثم أرادوا أن يقوموا .
فقال: اجلسوا فإن سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج. فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا. قالت أم حبيبة: فلما وصل إلي المال أرسلت إلى أبرهة التي بشرتني فقلت لها: إني كنت أعطيتك ما أعطيتك يومئذ ولا مال بيدي فهذه خمسون مثقالا فخذيها فاستعيني بها. فأبت، فأخرجت حقا فيه كل ما كنت أعطيتها فردته علي وقالت: عزم علي الملك أن لا أرزأك شيئا وأنا التي أقوم على ثيابه ودهنه، وقد اتبعت دين محمد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأسلمت لله، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر.
قالت فلما كان الغد جاءتني بعود وورس وعنبر وزباد كثير فقدمت بذلك كله على النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فكان يراه علي وعندي فلا ينكره، ثم قالت أبرهة: فحاجتي إليك أن تقرئي رسول الله مني السلام وتعلميه أني قد اتبعت دينه. قالت: ثم لطفت بي وكانت التي جهزتني فكانت كلما دخلت علي تقول : لا تنسي حاجتي إليك .
قالت : فلما قدمت على رسول الله أخبرته كيف كانت الخطبة وما فعلت بي أبرهة، فتبسم رسول الله، وأقرأته منها السلام فقال: وعليها السلام ورحمة الله وبركاته.) ( ).
وقد روت أم حبيبة أحاديث عديدة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنها أحاديث ترويها أيضاً معها بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها (عن زينب ابنة أم سلمة، تحدث عن أم حبيبة أو أم سلمة أنها ذكرت: أن امرأة أتت النبي صلي الله عليه وآله وسلم قد توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، وهي تريد أن تكحل عينها، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة بعد الحول، وإنما هي أربعة أشهر وعشر، قال ابن بشار، قال يزيد، قال يحيى: فسألت حميدا عن رميها بالبعرة .
قال: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها، عمدت إلى شر بيتها فقعدت فيه حولا فإذا مرت بها سنة ألقت بعرة وراءها) ( ), لتنال مرتبة أم المؤمنين إلى يوم القيامة ، ومن المؤمنات المهاجرات إلى الحبشة سهلة( ) بنت سهيل بن عمرو وهو من كبار رجالات قريش ، وخطيبهم المفوه إذ هاجرت إلى الحبشة مع زوجها أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسهلة هذه هي التي يروى عنها حديث الرضاعة تحرم ولو في الكبر (حدثنا محمد بن أحمد بن جعفر ، نا أبو الطاهر بن السرح ، ثنا ابن وهب ، أخبرني مخرمة بن بكير ، عن أبيه قال : سمعت حميد بن نافع ، يقول : سمعت زينب بنت أبي سلمة، تقول : سمعت عائشة تقول : جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إني لأرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم علي ؟
قال رسول الله : أرضعيه . فقالت : إنه ذو لحية ؟
فقال : أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة ، لم يرو هذا الحديث عن حميد بن نافع إلا بكير بن عبد الله ، ولا عن بكير إلا ابنه مخرمة ، تفرد به ابن وهب ) ( ).
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت (جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم ( وهو حليفه ) فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم
: أرضعيه قالت وكيف أرضع ؟
وهو رجل كبير فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال
: قد علمت أنه رجل كبير ) ( ).
واجماع المسلمين عدم ثبوت نشر الرحمة بالرضاع إلا ما دون سنتين من الولادة لقوله تعالى [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ] ( ) وقال أبو حنيفة (قَدْ رَوَاهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ وَسَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ وَهِيَ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ وَزَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ مِنْ التَّابِعِينَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَحُمَيْدَ بْنُ نَافِعٍ ، وَرَوَاهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الزُّهْرِيُّ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَرَبِيعَةُ ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ هَؤُلَاءِ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَشُعْبَةُ وَمَالِكٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَشُعَيْبٌ وَيُونُسُ وَجَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَمَعْمَرٌ وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ وَغَيْرُهُمْ) ( ) .
ولكن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرضين بالعمل بمضمون الحديث ، ويدل عدم الرضا بالدلالة الإلتزامية على إحتمال عدم التسليم بالحديث أو أنه قضية عين , خصوصاً وأنه ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء ، وكان قبل الفطام ).
وقد ورد(عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “انظرْنَ من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة”)( ).
وقد روي عن الإمام علي عليه السلام وعمر بن الخطاب (أنهما قالا لا رضاع بعد فصال) ( ) .
ويحتمل إرادة وقوع الفصال بعد تمام الحولين وإجماع الفقهاء على انه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ، وقد ورد (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة) ( ).
وكان أبو حذيفة قد تبنى سالماً قبل أن ينزل قوله تعالى [ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ] ( ) ثم زوّجه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة .
والمراد ما يحرم من النسب ثم الولادة السبعة الواردة في قوله تعالى[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ) .
(وأخرج ابن ماجه عن عائشة قالت : لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً ، ولقد كان في صحيفة تحت سريري . فلما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها ) ( ).
وقال أحد الفضلاء في هذا الزمان بعمدة القائلين بأن الرضاعة تحرم ولو في الكبر حديث عائشة وأم سلمة المشهور .
إنما هو حديث عائشة وحدها ، إذ أنكرت أم سلمى العمل به ، وذكر أن عائشة كانت تأمر بنات إخوتها وبنات أخواتها أن يرضعن خمس رضعات من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وأن كان كبيراً ، وأنفردت عائشة بهذا الأمر إذ أبت سائر ازواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الرضاعة أو الدخول عليهن بسببها للتسليم بأن الرضاعة التي تنشر الحرمة هي في المهد .
والمختار أنه إجتهاد من أم المؤمنين عائشة في قضية عين يتوقف على محلها مع طي صفحتها لأن أمهات المؤمنين أبين العمل بها ولأنها خلاف النص والإجماع .
ومن بنات الكفار اللائي أسلمن وبايعن أم كلثوم بنت عقبة , ولم تتيسر لها الهجرة إلا في السنة السابعة وبعد صلح الحديبية , فخرجت من مكة مهاجرة إلى المدينة بمفردها ليس معها أحد في آية جهادية ، وعندما علم أخوتها بادر الوليد وعمارة منهما للخروج خلفها ، وسألا النبي أن يعيدها للشرط الذي بينه وبين قريش في صلح الحديبية والذي يتضمن إعادة من هاجر منهم إلى المدينة .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم امتنع عن ردها إليهم وقال إنما الرد بخصوص الذكور في آية من الإحتجاج وتفسير القانون وشروط العقد والصلح ، وبما فيه النفع العام والخاص للمؤمنين والمؤمنات , بالإضافة إلى القانون المستنبط من قوله تعالى [مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ] ( ) والذي يدل بالدلالة التضمنية على إبقائهن في المدينة وعدم ردهن للكفار .
وهل في موضوع أكل حواء من الشجرة وترغيبها لآدم بأن يأكل من الشجرة حجة على أن النساء أكثر من الرجال دعوة الى الكفر، الجواب لا ، إذ أن تلك قضية عين ، ووقعت في الجنة ، وخارج التكليف بالتخصص .
أما المسألة الثالثة فان الرجال أكثر أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر لأنهم في ميدان العمل وفي المساجد وحومة الوغى ، وهم أكثر سفراً وسياحة بين البلدان ، ورؤية وتدبرا بالآيات .
وهو من أسرار مجئ خطابات القرآن بصيغة المذكر، فصحيح أن هذا الخطاب شامل للرجال والنساء كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( )، إلا أن التكليف بالإمتثال يتوجه إلى الرجال بالمرتبة الأولى ، وفيه تخفيف عن النساء فان قلت قد تكون المرأة في مرتبة وشأن رفيع .
الجواب نعم تكون حينئذ أكثر من رجال كثيرين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد تقدم في الجزء السابق أن أول من آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم امرأة ، وهي زوجته خديجة بنت خويلد .
وأول شهيد في الإسلام امرأة وهي سمية أم عمار بن ياسر .
السادسة : ذكرت آية السياق شراء شطر من الناس الكفر وتلتها آية البحث لتخبر عن الذين كفروا ، ليفيد الجمع بين الآيتين أموراً :
الأول : النهي عن الميل إلى مفاهيم الكفر .
الثاني : بيان قانون وهو أن الكفر شاهد على سوء الإختيار والإضرار بالذات في الدنيا والآخرة .
الثالث : تحذير الناس جميعاً من السعي إلى الكفر لدلالة قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ] ( ) على أن الكافر يبذل جهداً ليصل إلى الكفر مع قبحه الذاتي والغيري .
الرابع : بيان قانون وهو أن شراء الكفر يجعل الإنسان يسقط في مستنقع الكفر ، ويصدق عليه أنه كافر.
إذ أخبرت آية البحث عن شراء الكفر ثم ذكرت آية البحث الذين كفروا، لبيان قانون وهو إنه عند وأثناء شراء الكفر يمتنع الإنسان عن الوصول إلى مرتبة الكفر ، فليس كل من يسعى في طريق شراء الكفر يصبح كافراً .
السابعة : من خصائص واعجاز آيات القرآن أنها تتعاضد في جذب الإنسان إلى مقامات الإيمان ، وفي دفعه عن الكفر ومسالكه .
ومن وجوه التعاضد هذا إتحاد الموضوع والترتيب فيه بين آية السياق وآية البحث بأن أخبرت آية السياق عن شراء الكفر بالإيمان ، وتضمنت آية البحث ذكر الذين كفروا وأن الخير والنعم النازلة عليهم من عند الله عز وجل .
الثامنة : الإعجاز في الجمع بين آية البحث والسياق دعوة للناس على تعاهد الإيمان ، والحفاظ عليه ، وعدم التفريط به ، إذ أن الميل إلى الكفر وإتباع نزغ الشيطان ترك للواجب , وعلة خلق الإنسان وهي العبادة .
فكما أوجب الله عز وجل على الناس عبادته فانه سبحانه حبّب إليهم أداء الفرائض والتوجه إليه في حال الشدة والرخاء .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ] ( ).
ولم يرد لفظ [حَبَّبَ] ( ) في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان أن حب الإنسان للإيمان وتذوق حلاوته بفضل ونعمة من عند الله ، وهذه النعمة متعددة من وجوه :
الأول : النعمة الخاصة على المسلم .
الثاني : النعمة على المسلمين بترغيب الواحد منهم بالإيمان .
الثالث : النعمة والفضل بتحبيب الإيمان للمسلم لما فيه من النفع العام والدعوة للسلم المجتمعي ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الرابع : النعمة على الفرد المسلم بوجود أمة مسلمة يقتبس منها , وتشد عضده لما فيه نفعه في الدنيا والآخرة , وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
فمن خصائص الجمع المؤمن التعاون والتآزر لجني الحسنات
وهو من رشحات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جعله الله عز وجل واجباً على المسلمين لبيان قانون وهو أن فرض الواجب من عند الله سبحانه طريق إلى الأجر والثواب ، وكذا في النهي من عند الله ، فكل أمر ونهي من عند الله عز وجل سبيل لنيل الثواب العظيم ، وفيه تحبيب للإيمان في النفوس ، وبعث للنفرة من الكفر والشرك ، ودفع للناس عن شراء الكفر.
فمن فضل الله عز وجل تحبيب الإيمان إلى النفوس ، وهو من اللطف الإلهي ، وفيه حجة على الناس ، وهل هذا التحبيب من الإملاء الذي تذكره آية البحث ، الجواب نعم ، إذ ينعم الله عز وجل على الناس جميعاً ويملي لهم الخيرات ، ويوالي عليهم آيات الأفضال والإحسان , ويصرف عنهم ضروب البلاء ليتقوه ، ولكن الذين كفروا يتمادون في المعاصي ، ويتخذون من وجوه الإملاء هذه مادة ووسيلة في إرتكاب الآثام ، وفي التنزيل [وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ] ( ).
ومن فضل الله في بعثة الأنبياء أنها إمهال للناس وإرجاء البلاء عنهم ، قال تعالى [إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنْ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ]( ).
لقد أخبرت الآية أعلاه من سورة الحجرات عن فضل الله بإلقاء حب الإيمان في نفوس المسلمين ، وإدراك حلاوته وما فيه من البهاء ، وجعلهم ينفرون مجتمعين ومتفرقين من الكفر ومفاهيمه , وظهور هذه النفرة على ألسنتهم وأفعالهم ، ويحتمل الأمر بخصوص الذين كفروا وجوهاً :
الأول : حرمان الذين كفروا من الإيمان في نفوسهم .
الثاني : حجب الذين كفروا تزيين الإيمان في قلوبهم .
الثالث : إمتناع الذين كفروا عن حبهم للإيمان .
الرابع : حبّب الله الإيمان لنفوس الذين كفروا أيضاً ، ولم يكّره إليهم الكفر والفسوق والعصيان إبتداء .
الخامس : كرّه الله الكفر للذين كفروا دون الفسوق والعصيان .
والمختار أن الله عز وجل حبّب الإيمان إلى الناس جميعاً ، فصحيح أن الآية أعلاه من سورة الحجرات معطوفة على آية نداء التشريف بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] ( ) إلا أن إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره.
ومن فضل الله عز وجل في باب النعم عموم النعمة وتحبيب الإيمان للناس جميعاً ، وهو من أسرار نفخ الله الروح في آدم ، ولكن الذين كفروا لم يتلقوا نعمة تحبيب الإيمان لنفوسهم بالقبول إذ أغواهم الشيطان وامتنعوا عن تسخير البصر والسمع والبصيرة في الإنتفاع من نعمة تحبيب الإيمان واختاروا ركوب جادة الكفر ، حينئذ ختم الله على قلوبهم ، قال تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ] ( ).
التاسعة : لقد ذكرت آية السياق قبح وأثر شراء الكفر بالإيمان من وجهين :
الأول : عجز الذين كفروا عن الإضرار بالله في ملكه ومشيئته ، وبالنبوة والمؤمنين والمؤمنات .
الثاني : شدة العقاب في الآخرة للذين كفروا ، وهذا العقاب من وجوه:
الأول : ترك الذين كفروا الإيمان وإعراضهم عن تحبيبه لهم .
الثاني : تفريط الذين كفروا بالإيمان ، فالأصل في الفطرة الإنسانية هو الإيمان .
و(عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل مولد يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه ، فإذا عبر عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً والله تعالى أعلم) ( ).
لقد نزلت آيات القرآن بالتخويف والوعيد للذين باعوا الإيمان ، وفرطوا بسننه ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ) .
لقد ارتمى الذين كفروا في مستنقع اللذات واتبعوا الشهوات ليحرموا يوم القيامة من شرب الماء وطيب الطعام ، قال تعالى [وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ] ( ).
الثالث : جعل الذين كفروا الإيمان ثمناً للكفر, مع أن الأصل هو أن الإيمان لا يقبل البيع أو الهبة أو التصدق به ، انما هو حق خاص لكل إنسان ومن واجبه تعاهده والحفاظ عليه ، وتجلي مصاديقه بالعبادة والتقوى ، وهو من الدلائل في قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، إذ أن تفضل الله عز وجل بجعل العبادة غاية الخلق , وهو شاهد على أن الله عز وجل يرزق الناس الإيمان لطفاً وحباَ ورحمة من الله عز وجل بهم ، وتقريباً لهم لمنازل الهداية ، وضمان الدخول في الجنة ، واللبث الدائم في النعيم .
ترى كيف يتجلى شراء الكفر بالإيمان في الوجود الخارجي ، والمبرز العملي ، الجواب من وجوه :
الأول : اللهث وراء مباهج الدنيا مع نسيان الآخرة .
الثاني : حب الدنيا وزينتها ، وسعي الكفار إليها بالظلم .
الثالث : الغفلة عن عالم الآخرة وما فيه من الحساب والثواب والعقاب.
الرابع : الإمتناع عن النطق بكلمة الوحيد اتباعاً للهوى .
الخامس : إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والجحود بالمعجزات التي تترى على يديه.
السادس : إختيار الكفر بذاته هو تفريط بالإيمان ، فلا يعني الشراء في الآية العوض والبدل على نحو الحصر والتعيين ، إنما يشمل المراد من الآية أن التلبس بالكفر هو تفريط بالإيمان وكأنه دفعه ثمناً للكفر .
السابع : التلبس بالكفر فعل قبيح وحرب على الإيمان في الواقع اليومي وكأن الذين كفروا باعوا الإيمان [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ]( )، لبيان وجود أمة تتعاهد الإيمان في كل زمان .
فجاءت آيات القرآن بحث المسلمين بالتعاهد اليومي المتعدد والشهري والسنوي للإيمان بما يبين أن شراء الذين كفروا الكفر لن يضر الله والمؤمنين، ويصدق على هذا التعاهد اليومي المتعدد أداء المسلمين الصلاة خمس مرات في اليوم .
أما الشهر فباداء المسلمين والمسلمات فريضة الصوم في شهر مخصوص من السنة ، وهو شهر رمضان ، والذي يمتاز عن باقي شهور السنة بذكر اسمه في القرآن , قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وأما بخصوص تعاهد المسلمين السنوي للإيمان فبادائهم حج بيت الله الحرام ، في وقت مخصوص بأن يقف وفد الحاج على جبل عرفة في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة والطواف بالبيت ورمي الجمرات ، والمبيت في منى أيام التشريق وغيرها من أفعال ومناسك الحج.
وجاء زمان الفضائيات هذا واتصال وتداخل العالم فيه إعلامياً وخبرياً، لبيان عشق المسلمين لله عز وجل واجب الوجود وشوقهم للشاخص المبارك الذي جعله للناس ومن أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة[مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
لقد اشترى الذين كفروا الضلالة والغواية وتركوا واجبهم الذي خلقهم الله من أجله وهو عبادة الله عز وجل ليباهي بهم الملائكة ويثيبهم باللبث الدائم في الجنة , قال تعالى [فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا]( ).
الثامن : المراد تبديل الإيمان وحلاوته ومعجزات الأنبياء باتباع طواغيت قريش ، وأهل الضلالة , قال تعالى [وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الإيمان أمانة عند أهل الأرض ، نزل بها آدم وحواء الى الأرض ليتعاهدوا سنن الإيمان من الصلاة والصوم والحج وأعمال البر ، وتبقى سنة ثابتة وتركة مباركة لذريتهم لتكون سبباً في استدامة حياة الناس ، وعمارتهم الأرض .
التاسع : ورد عن مجاهد أن المراد بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ]( )، هم المنافقون ( ).
ولكن موضوع ودلالة الآية أعم ، فالمنافق يظهر الإيمان ويبطن الكفر ، وتشمل الآية من باب الأولوية الذين كفروا ويجهرون بالكفر ، ويظهر في أفعالهم ، ويحاربون النبوة والتنزيل ، ويجهزون الجيوش من مكة وأهل القبائل الذين حولها لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ( ).
العاشر : من مصاديق شراء الكفر السعي في مقدماته , والسبق الذي تؤدي إليه ، وفي علم الأصول قاعدة وهي مقدمة الحرام حرام سواء كان سبباً أو طريقاً أو شرطاً .
وعن قتادة قال : اشتراء الكفر : استحبابه( ) ، ولكن الشراء نوع مفاعلة وفيه أركان :
الأول : المشتري .
الثاني : الشراء .
الثالث : العين المشتراة .
الرابع : العوض والبدل .
الخامس : البائع .
نعم كما يترتب العقاب على شراء الكفر والسعي إليه ، فان استحبابه سبب لنزول العقاب ثم أن الإستحباب ميل نفسي قد لا يترتب عليه فعل في الخارج وقال الثعلبي : ان الذي اشتروا الكفر بالإيمان أي استبدلوا الكفر بالإيمان .
ولكن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق فالإستبدال أعم ، قد يكون بعوض أو بلا عوض، أما الشراء فانه بعوض .
وقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ] ( )، أي استبدلوا الإيمان بالكفر مع دفعهم عوضاً .
والأصل في هذا العوض هو أمانة السماء في الأرض ، ويدل عليه قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، إذ تتقوم الخلافة بالإيمان , وتقدير الآية بلحاظ المقام وجوهاً :
الأول : (إني جاعل في الأرض خليفة) يتصف بالإيمان.
الثاني : (إني جاعل في الأرض خليفة) يتعاهد واجبات الإيمان .
الثالث : (إني جاعل في الأرض خليفة) لا يفرط بالإيمان ، وعندما اطلع الملائكة على ما يفعله شطر من الناس ممن يتصفون بالكفر والفساد و[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، اجابهم الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل نزول آية البحث والسياق وإخبارهما عن سوء فعل الذين كفروا وسوء عاقبتهم ونزول العذاب الأليم بهم .
الرابع : (إني جاعل في الأرض خليفة) يتلقى التنزيل بالقبول والتصديق.
الخامس : (إني جاعل في الأرض) خلفاء يحبون الله ، قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ]( )، وفي التنزيل [وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ]( ).
العاشرة : لقد ذكرت آية السياق شراء الذين كفروا للكفر بالإيمان ، أما آية البحث فتضمنت ذم وإنذار الذين كفروا .
وهل يمكن أن الذي يشتري الكفر قد يقف فلا يتم تلبسه بالكفر وتدركه التوبة والإنابة ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز بمجئ آية البحث بعد آية السياق أي أنهم أشتروا الكفر بالإيمان ، واتصفوا بالكفر واستحقوا نعتهم بصفة الذين كفروا .
وهل يمكن القول بأن بعض الذين كفروا اختاروا الكفر وتلبسوا به من غير أن يشتروه بالإيمان ، المختار لا ، لبيان قانون وهو أن التلبس بالكفر لا يتم إلا بهجران الإيمان لأصالة ووجوب الإيمان ، وهو دين الفطرة .
و(عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئاً ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في الفطرة ، فأما الأصم ، فيقول : رب ، لقد جاء الإسلام ، وما أسمع شيئاً .
وأما الأحمق ، فيقول : رب ، جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول : رب ، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً ، وأما الذي مات في الفطرة فيقول : رب ، ما آتاني لك رسول . فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، ويرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار .
قال : فوالذي نفس محمد بيده ، لو دخلوها كانت عليهم برداً وسلاماً ، ومن لم يدخلها سحب إليها) ( ).
الحادية عشرة : لقد أخبرت آية البحث عن قانون وهو أن الله عز وجل يملي وينعم على الذين كفروا ، ويترى عليهم الفضل والإحسان من عند الله، وبدل أن يشكروه سبحانه فانهم سخّروا النعم في المعاصي وإرتكاب الآثام فأخبرت آية السياق بأنهم لن يضروا الله شيئاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
فمن الآيات أن ما يمليه الله للذين كفروا لن يضروا به المؤمنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )، بلحاظ أن النسبة بين الضرر والأذى هي العموم والخصوص المطلق ، فالضرر أعم وأشد من الأذى .
وهل من مصداق للآيةِ , الجواب نعم ، فقد أملى الله عز وجل للذين كفروا من قريش بأمور كثيرة منها :
الأول : كثرة الأموال والإبل والذهب والفضة عند قريش حتى أن نساءهم يشتغلن بالتجارة والكسب بواسطة عمال وعن طريق المضاربة . ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه المسألة سبب في زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خديجة إذ سافر في تجارتها إلى الشام ، ورأت صدقه واطمأنت إلى أمانته ووثاقته .
وفي قوله تعالى [وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى]( )، أي فقيرا ليس لك مال، فاغناك الله ، ومن مصاديق الغنى الذي تذكره الآية أعلاه هو الغنى بمال خديجة وبالأرباح من التجارة والكسب ثم ما آتاه الله عز وجل من الغنائم والأنفال ، وهل من ملازمة بين الغنائم والغزو بحيث لا تحصل غنائم إلا مع الغزو .
الجواب لا ، فقد جاءت غنائم بدر من غير أن يقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالغزو ، ومن غير أن يبدأ بالقتال.
الثاني : اقراض القبائل ممن يقطن حول مكة ، وكأنه من عمومات تسمية مكة أم القرى ، كما في قوله تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، وكانت قريش تملي وتشترط أرباحاً على الذين يقترضون منها ، فنزل القرآن وجاءت السنة بمنع الربا , قال تعالى [إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
وعن عمرو بن الأحوص وهو ممن شهد حجة الوداع ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته إذ (حمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ، ثم قال : أي يوم أحرم ، أي يوم أحرم ، أي يوم أحرم . فقال الناس : يوم الحج الأكبر يا رسول الله .
قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ، ألا لا يجني جان إلا على نفسه ، ألا ولا يجني والد على ولده ولا ولد على والده .
ألا المسلم أخو المسلم فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه ، ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع ، [لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون] ( ) غير ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله .
وإن كل دم في الجاهلية موضوع وأول دم أضع من دم الجاهلية دم الحارث ( )بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل .
ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك ، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح [فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً]( ) , ألا وإن لكم على نسائكم حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً . فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ، وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)( ). ومعنى (لايوطئن فرشكم من تكرهون) وفي رواية (أحداً تكرهونه) أي لا يدخلن بيوتكم أحداً تكرهونه , والمراد من الفرش في الحديث دخول المسكن , لأن الضيف الذي يدخله يطأ ويجلس على الفراش, وليس المراد الزنا ومقدماته لأن الزنا حرام مطلقاً وتنفر منه النفوس , وعقوبته الرجم بالنسبة للزوجة وللزاني ان كان محصناً.
ومعنى الحديث , أن المرأة لا يحق لها أن تأذن لرجل من محارمها , أو النساء من الأرحام وغيرهن بدخول البيت ممن يكره الرجل دخولهم .
ولو شكت بأن الرجل يكره دخول بعض المحارم كبعض الأخوة فهل تأذن له قيل الأصل هو المنع , ولا دليل على هذا الأصل , فلابد من نطق وعلامة وأمارة على كراهة الزوج لدخوله , والأصل عدم المنع لعمومات صلة الرحم , قال تعالى [وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ] ( )
الثالث : سعة تجارة قريش ، وامضاء عقود البيع والشراء مع الدول والأمصار المتعددة ، وبما يفيضهم عليه العرب من أهل الجزيرة واليمن والعراق والشام ، فاينما يحل رجالات قريش يلاقون الإكرام ، ويستطيعون الوصول إلى البلاط ، سواء بلاط قيصر الروم ، أو بلاط كسرى ، ومن معاني هذا الوصول تبليغ الرسائل التي يريدون ، وذكر حاجاتهم والمسائل التي تخصهم .
وهل صارت قريش تشكو النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عند قيصر وكسرى ويطلبون المدد منهم , الجواب نعم ، سواء بالذات أو بالواسطة بأن يبعثون بعض أنصارهم للملوك ، كما في ارسال أبي عامر الراهب الى ملك الروم قيصر ، وكان أبو عامر من رؤساء الأوس وقد تنصر ، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى المدينة عرض عليه الإسلام فأبى وامتنع ، ولم يكتف بالإتعاض بل خرج ونفر من أصحابه إلى مكة يحرضهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويخبرهم بأنه يحضر المعركة إلى جانبهم ، ويؤملهم بأن الأوس إذا علموا بمكانه فانهم ينحازون إليه ، وعندما [الْتَقَى الْجَمْعَانِ ] ( )، وأعلن أبو عامر عن محله في ميدان معركة أحد ودعى الأوس للإنحياز الى جانبه , شتموه وسبوه ونعتوه بالفاسق .
وعندما انتهت معركة أحد مع سلامة النبي محمد من القتل ، ومع ظهور الإسلام وعلو شأنه ذهب أبو عامر (إلى هرقل، ملك الروم، يستنصره على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوعده ومَنَّاه، وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويُمنَّيهم أنه سيقدمُ بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له مَعقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كُتُبه ويكونَ مرصدًا له إذا قدم عليهم بعد ذلك.
فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه، وفرغوا منه قبل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك.
وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم، ليحتجوا بصلاته، عليه السلام فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه.
فقال: “إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله)( ) .
وكما كان كفار قريش يكذَبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان المنافقين يترصدون أسباب التكذيب للإفتراء والإرجاف في المدينة ، وفي الطريق إلى تبوك فقدت ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتسمى القصوى وأمر بالبحث والتفتيش عنها .
فانبرى أحد المنافقين وهو عمارة بن حزم وقال : كيف يأتينا بخبر السماء ، ولا يدري أين ناقته ؟
فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله وتعريضه فقال (إني لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد أخبرني الآن أنها بشعب كذا وكذا، وزمامها ملتف
بشجرة، فكان كما قال) ( ).
لقد أرادت قريش توريط الدول العظمى بما ورطوا به أنفسهم من محاربة النبوة والتنزيل .
ولكن الملوك والأمراء لم يروا مصلحة أو منفعة في نصرتهم ، وقطع الفيافي والصحاري لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة مع البشارات التي كانت عند ملك الروم عن نبوته ، وتواتر معجزاته وبلوغها مسامع الملوك أو خصوص حواشيهم وأركان البلاط وذوي المشورة فيه.
وهو من معجزات القرآن الغيرية بانصراف الدول الكبرى عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ تدعو آيات القرآن الناس للتدبر فيها ، وتزجر أهل السلطان والأمراء من محاربته وقتاله وهل فعل قريش هذا من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) .
الجواب نعم من جهات :
الأولى : إرادة الذين كفروا قيام ملوك الزمان آنذاك بحبس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعندما وصل كتاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام كتب كسرى ( إلى باذان، وهو باليمن : أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به.
فبعث باذان بابويه، وكان كاتباً حاسباً، ورجلاً آخر من الفرس يقال له خرخسره، وكتب معهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمره بالمسير معهما إلى كسرى.
وتقدم بابويه أن يأتيه بخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسمعت قريش بذلك ففرحوا .
وقالوا: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك، كفيتم الرجل.
فخرجا حتى قدما على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما .
وقال: ويلكما من أمركما بهذا ؟ قالا: ربنا، يعنيان الملك.
فقال: لكن ربي أمرني أن أعفي لحيتي وأقص شاربي، فأعلماه بما قدما له .
وقالا: إن فعلت كتب باذان فيك إلى كسرى( ).
وإن أبيت فهو يهلكك ويهلك قومك. فقال لهما رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: ارجعا حتى تأتياني غداً. وأتى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الخبر من السماء: إن الله قط سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله.
فدعاهما رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبرهما بقتل كسرى .
وقال لهما: إن ديني وسلطاني سيبلغ ملك كسرى وينتهي منتهى الخف والحافر( )، وأمرهما أن يقولا لباذان: أسلم، فإن أسلم أقره على ما تحت يده وأملكه على قومه.
ثم أعطى خرخسره منطقة ذهب وفضة أهداها له بعض الملوك.
وخرجا فقدما على باذان وأخبراه الخبر، فقال: والله ما هذا كلام ملك وإني لأراه نبياً، ولننظرن فإن كان ما قال حقاً فإنه لنبي مرسل، وإن لم يكن فنرى فيه رأينا.
فلم يلبث باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه يخبره بقتل كسرى وأنه قتله غضباً للفرس لما استحل من قتل أشرافهم، ويأمره بأخذ الطاعة له باليمن وبالكف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فلما أتاه كتاب شيرويه أسلم وأسلم معه أبناء من فارس. وكانت حمير تسمي خرخسره صاحب المعجزة، والمعجزة بلغة حمير المنطقة)( ).
أي أن خرخسره كان يفتخر ويتباهي بالمنطقة التي أهداها له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيحرص على لبسها في كل الأيام ، لقانون وهو تجلي البركة في كل هدية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل الجاه الذي نالته قريش عند الملوك وفي الأمصار وعند القبائل من مصاديق قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، الجواب نعم.
لبيان أن موضوع الآيات أعلاه من سورة قريش أعم من أن تختص بالتجارة والمال ، وكل منهما يأتي بالجاه والشأن ولكن الذين كفروا سخّروا هذه النعمة للحرب على التنزيل والنبوة وعداوة الله ورسوله .
وفي التنزيل [إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ]( )، والمراد من يحادون أي يخالفون أمر الله ، ويمتنعون عن طاعته وطاعة رسوله وكبتوا أي وهنوا وذلوا ، وغابت عنهم الحيلة ، وعجزوا عن المكر من جديد ، وصارت استدامة كبت الذين كفروا مقدمة لخزيهم في النشأتين .
ترى لماذا ورد لفظ (يحادون) الجواب أنه عنوان لجعلهم حدا وحاجزاً من الكفر والضلالة بينهم وبين الله ورسوله ، مع أن الله عز وجل تفضل بانتفاء الحاجز أو البرزخ بينه وبين خلقه قال تعالى [وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]( )، كما أنه سبحانه لم يجعل شرطاً للإيمان ولم يعلقه على إذن من ملك أو نبي فحالما ينطق الإنسان بالشهادتين يكون له ما للمسلمين ، وعليه ما عليهم ، وقد اتخذ الذين كفروا النعم التي تفضل الله عز وجل بها للإضرار بالنبي والمؤمنين ، وفي التنزيل [وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا] ( ).
الثانية : من الإعجاز الغيري للقرآن تواتر الأخبار التي تدل على صدق مضامين الآية القرآنية وأنها نازلة من عند الله ، وليس من حصر أو حد للشواهد التي تدل على صدق نزول القرآن من عند الله انما هي في كل زمان ، وقد أراد الذين كفروا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة وقبل هجرته الى المدينة ، وبعد أن هاجر إلى المدينة إزداد سعيهم لقتله، وجمعوا معه في عزمهم على قتل أصحابه من أهل بيته والمهاجرين .
فان قلت إنما وردت الآية بقوله تعالى [لِيُثْبِتُوكَ] ( ) أي أن الذين كفروا هم الذين يقومون بحبس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والجواب المراد في الآية المعنى الأعم , ويكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : ليثبتوك بأنفسهم.
ثانياً : ليثبتوك بالمكر والدهاء .
ثالثاً : ليثبتوك بتحريض ملوك زمانهم بأن يقوموا بحبسك ، وفي التنزيل [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وفي أسباب نزول الآية أعلاه ، ورد عن السدي قال : إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الحواريين في بيت فقال عيسى لأصحابه : من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة؟ فأخذها رجل منهم وصعد بعيسى إلى السماء . فذلك قوله { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}( )، والمدار على عموم المعنى وليس سبب النزول .
وجاءت خاتمة الآية قانوناً يتغشى أيام الحياة الدنيا والآخرة ، من الإعجاز أن الكلمات أعلاه آية كاملة ومستقلة لبيانها لقوانين في المكر ، ورفع الله عز وجل عيسى اليه ( من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين ، وعاشت أُمّه مريم بعد رفعه ستّ سنين)( ).
ومن إعجاز القرآن ورود ذات الكلمات في آية [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ), وصيرورتها جزء من الآية لبيان شدة الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين.
والمكر : الخديعة والسعي لإيقاع الضرر بالغير خفية وكما مكر القوم الكافرون بعيسى عليه السلام فقد مكروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأرادوا سجنه أو قتله فارجع الله كيدهم إلى نحورهم , قال تعالى [وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ]( ).
وهل إحاطة المكر السئ باهله من مصاديق [وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] بلحاظ أن مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل ، الجواب نعم ومن مصاديقه أن الكفار الذين أرادوا أن يسجنوا أو يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة لم يلبثوا إلا قليلاً حتى اختاروا وقوع معركة بدر فكانوا بين قتيل أو أسير أو منهزم دخل مكة بذل وهوان .
ووثقت أشعار المسلمين البيانية نصرهم يوم بدر , كما أقر بها رؤساء قريش وجرت على ألسنتهم وفي أشعارهم منها قصيدة ابن الزبعرى , وهو شاعر قريش المفوه , وكان شديد العداء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال ابن إسحاق , وقال عبد الله بن الزبعرى يتباهى بما يدل عليه من نصر المشركين في معركة أحد بإقراره بخسارتهم في معركة بدر ليجيبه حسان بن ثابت بملحمة يذكر فيها نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر , وأن المشركين لم ينتصروا في معركة أحد إنما كانت لهم جولة من غير أن يفارقهم الخوف مع التذكير بفضل الله عز وجل بعجز المشركين عن قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد إذ أجابه حسان بن ثابت الأنصاري شاعر رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال
ذَهَبْت يَا بْنَ الزّبَعْرَى وَقْعَةٌ … كَانَ مِنّا الْفَضْلُ فِيهَا لَوْ عَدَلْ
وَلَقَدْ نِلْتُمْ وَنِلْنَا مِنْكُمْ … وَكَذَاكَ الْحَرْبُ أَحْيَانًا دُوَلْ
نَضَعُ الْأَسْيَافَ فِي أَكْتَافِكُمْ … حَيْثُ نَهْوِى عَلَلًا بَعْدَ نَهَلْ
نُخْرِجُ الْأَضْيَاحَ مِنْ أَسْتَاهِكُمْ … كَسُلَاحِ النّيبِ يَأْكُلْنَ الْعَصَلْ
إذْ تُوَلّونَ عَلَى أَعْقَابِكُمْ … هُرّبًا فِي الشّعْبِ أَشْبَاهَ الرّسَلْ
إذْ شَدَدْنَا شَدّةً صَادِقَةً … فَأَجَأْنَاكُمْ إلَى سَفْحِ الْجَبَلْ
بِخَنَاطِيلَ كَأَشْدَافِ الْمَلَا … مَنْ يُلَاقُوهُ مِنْ النّاسِ يُهَلْ
ضَاقَ عَنّا الشّعْبُ إذْ نَجْزَعُهُ … وَمَلَأْنَا الْفَرْطَ مِنْهُ وَالرّجَلْ
بِرِجَالٍ لَسْتُمْ أَمْثَالَهُمْ … أُيّدُوا جِبْرِيل نَصْرًا فَنَزَلْ
وَعَلَوْنَا يَوْمَ بَدْرٍ بِالتّقَى طَاعَةِ … اللّهِ وَتَصْدِيقِ الرّسُلْ
وَقَتَلْنَا كُلّ رَأْسٍ مِنْهُمْ … وَقَتَلْنَا كُلّ جَحْجَاحٍ رِفَلْ
وَتَرَكْنَا فِي قُرَيْشٍ عَوْرَةً … يَوْمَ بَدْرٍ وَأَحَادِيثَ الْمَثَلْ
وَرَسُولُ اللّهِ حَقّا شَاهِدٌ … يَوْمَ بَدْرٍ وَالتّنَابِيلُ الْهُبُلْ
فِي قُرَيْشٍ مِنْ جُمُوعٍ جُمّعُوا … مِثْلَ مَا يُجْمَعُ فِي الْخِصْبِ الْهَمَلْ
نَحْنُ لَا أَمْثَالُكُمْ وُلْدَ اسْتِهَا … نَحْضُرُ النّاسَ إذَا الْبَأْسُ نَزَلْ ( ).
وهرب عبد الله بن الزبعرى يوم فتح مكة الى نجران , خوفاَ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لشدة إيذائه وهجائه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فمن معاني وتعاهد هذا الهجاء محاولة صدّ الناس عن الإسلام وتحريضهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه , فقال حسان بن ثابت بخصوص ابن الزبعرى يومئذ بيت شعر واحد .
لا تعد من رجلا أحلك بغضه … نجران في عيش أجد أثيم ( ).
ومن المؤرخين من ذكر أن حساناً أرسل أكثر من بيت شعر إلى ابن الزبعرى يرغبه بالإسلام ويوبخه على هروبه , والزبعرى اسم ابيه ومعناه لغة الرجل الشكس الخلق , وأمه عاتكة بنت عبد الله بن عمرو وولد عبد الله بن الزبعرى قبل عام الفيل بعشر سنين , فهو أسن من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومات ابن الزبعرى في السنة الخامسة عشرة للهجرة مسلما فهو من الشعراء المخضرمين .
وهرب معه يوم فتح مكة هبيرة بن أبي وهب( ) .
فرجع ابن الزبعري و(أقام هبيرة بنجران حتى مات مشركا) ( ) .ومن المؤرخين من يذكره باسم هيبرة بدل هبيرة .
وزوج هيبرة أم هاني أخت الإمام علي عليه السلام التي استجار بها رجلان يوم فتح مكة فاراد الإمام علي قتلهما ، فدخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي الضحى ، فأخبرت باجارتها لهما ، فأمضى جوارها وقال (قد أجرنا من أجرت و أمنا من أمنت) ( ).
لبيان قانون في السنة النبوية وهو سرعة العفو ودفع القتل بأدنى إجارة ورجاء .
ولما علّم هبيرة وهو بنجران بايمان أم هاني وشأنها وهي ابنة عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أخت الإمام علي عليه السلام وعمة الحسن والحسين فخاطبها من نجران بأبيات :
(( أشاقتك هند أم جفاك سؤالها … كذاك النوى أسبابها و انفتالها )
( و قد أرقت في رأس حصن ممرد … بنجران يسري بعد نوم خيالها )
( و عاذلة هبت علي تلومني … و تعذلني بالليل ضل ضلالها )
( لئن كنت قد تابعت دين محمد … و عطفت الأرحام منك حبالها )
( فكوني على أعلى سحيق بهضبة … ممنعة لا يستطاع قلاعها )
( فإني من قوم إذا جد جدهم … على أي حال أصبح اليوم حالها )
( و إني لأحمي من وراء عشيرتي … إذا كثرت تحت العوالي مجالها )
( و طارت بأيدي القوم بيض كأنها … مخاريق ولدان يطيش ظلالها )
( و إن كلام المرء في غير كنهه … لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها )) ( )
وبينما يفتخر حسان بن ثابت بقيام الإمام علي عليه السلام بقتل عمرو بن ود العامري في غزو المشركين للمدينة في واقعة الخندق كان هبيرة بن أبي وهب يكثر من البكاء والرثاء لعمرو بن ود العامري مع إقراره بالهروب يومئذ .
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ يَعْتَذِرُ مِنْ فِرَارِهِ وَيَبْكِي عَمْرًا ، وَيَذْكُرُ قَتْلَ عَلِيّ إيّاهُ :
لَعَمْرِي مَا وَلّيْت ظَهْرِي خَمْدًا … وَأَصْحَابُهُ جُبْنًا وَلَا خِيفَةَ الْقَتْلِ
وَلَكِنّنِي قَلّبْت أَمْرِي فَلَمْ أَجِدْ … لِسَيْفِي عَنَاءً إنْ شَرِبْت وَلَا نَبْلِي
وَقَفْت فَلَمّا لَمْ أَجِدْ لِي مُقَدّمًا … صَدَدْت كَضِرْغَامِ هِزَبْرٍ أَبِي شِبْلِ
ثَنَى عِطْفَهُ عَنْ قَرْنِهِ حِينَ لَمْ يَجِدْ … مَكَرّا وَقِدْمًا كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي
فَلَا تَبْعَدَنْ يَا عَمْرُو حَيّا وَهَالِكًا … وَحُقّ لِحُسْنِ الْمَدْحِ مِثْلُك مِنْ مِثْلِي
وَلَا تَبْعَدَنْ يَا عَمْرُو حَيّا وَهَالِكًا … فَقَدْ بِنْت مَحْمُودَ الثّنَا مَاجِدَ الْأَصْلِ
فَمَنْ لِطِرَادِ الْخَيْلِ تُقْدَعُ بِالْقَنَا … وَلِلْفَخْرِ يَوْمًا عِنْدَ قَرْقَرَةِ الْبُزْلِ
هُنَالِكَ لَوْ كَانَ ابْنُ عَبْدٍ لَزَارَهَا … وَفَرّجَهَا حَقّا فَتَى غَيْرُ مَا وَغْلِ
فَعَنْك عَلَى لَا أَرَى مِثْلَ مَوْقِفٍ … وَقَفْت عَلَى نَجْدِ الْمُقَدّمِ كَالْفَحْلِ
فَمَا ظَفِرَتْ كَفّاك فَخْرًا بِمِثَالِهِ … أَمِنْت بِهِ مَا عِشْت مِنْ زَلّةِ النّعْلِ
هُبَيْرَةُ يَبْكِي عَمْرًا فِي شِعْرِهِ
قَالَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ يَبْكِي عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدّ ، وَيَذْكُرُ قَتْلَ عَلِيّ إيّاهُ
لَقَدْ عَلِمَتْ عُلْيَا لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ … لَفَارِسُهَا عَمْرٌو إذَا نَابَ نَائِبُ
لَفَارِسُهَا عَمْرٌو إذَا مَا يَسُومُهُ … عَلِيّ وَإِنّ اللّيْثَ لَا بُدّ طَالِبُ
عَشِيّةَ يَدْعُوهُ عَلِيّ وَإِنّهُ … لَفَارِسُهَا إذْ هَامَ عَنْهُ الْكَائِبُ
فَيَا لَهْفَ نَفْسِي إنّ عَمْرًا تَرَكْته .. بِيَثْرِبَ لَا زَالَتْ هُنَاكَ الْمَصَائِبُ)( ).
لقد أقر ابن الزبعرى بشدة إيذائه بنفسه وسيفه وشعره للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومع هذا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يهدر دمه ولم يأمر بقتله يوم فتح مكة , إنما كان الذين أمر بقتلهم ستة ولم ينفذ القتل في ثلاثة منهم .
وكان لعبد الله بن الزبعرى بعد إسلامه اشعار كثيرة في مدح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قال المرزباني: يكنى أبا سعد كان شاعر قريش ثم أسلم ومدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمر له بحلة) ( ).
ويقولون : (إنه أشعر قريش قاطبة قال محمد بن سلام : كان بمكة شعراء فأبدعهم شعرا عبد الله بن الزبعري .
قال الزبير : كذلك يقول رواة قريش إنه كان أشعرهم في الجاهلية وأما ما سقط إلينا من شعره وشعر ضرار بن الخطاب فضرار عندي أشعر منه وأقل سقطا) ( ) .
وفيه شاهد على شدة الأذى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسباب صدّ الناس عن الإسلام , وفيه دليل على أن نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واظهار رسالته معجزة من الله عز وجل , قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] ( )
لقد أراد المشركون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأيديهم باشتراكهم فيه ، وتوزيع ديته على قبائلهم وعجز بني هاشم عن محاربة كل قبائل قريش ، وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى المدينة سعى كفار قريش في قتله واغتياله من وجوه :
أولاً : الزحف بالجيوش العظيمة لقتاله وأصحابه .
ثانياً : إرادة غزو المدينة والهجوم عليها واستباحتها.
ثالثاً : قيام الذين كفروا بدس أشخاص منهم لإغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قيام عمير بن وهب الجمحي بالسفر الى المدينة بقصد قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتحريض , وإغراء , وضمان لشخص وعائلة عمير من قبل صفوان بن أمية والذي قتل أبوه وأخوه في معركة بدر .
بينما كان وهب بن عمير بن وهب الجمحي أسيراً عند المسلمين ، وهو من أسرى معركة بدر ، وعرض صفوان على عمير قضاء دَينه وأن يتولى العناية بعياله والإنفاق عليهم ، إذ تذاكر صفوان وعمير واقعة بدر وفقد رجالهم فيها ، وما لحقهم من الذل والضرر بسببها .
فقال عمير كما عن ابن اسحاق (وَاَللّهِ أَمَا وَاَللّهِ لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيّ لَيْسَ لَهُ عِنْدِي قَضَاءٌ وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمْ الضّيْعَةَ بَعْدِي ، لَرَكِبْتُ إلَى مُحَمّدٍ حَتّى أَقْتُلَهُ فَإِنّ لِي قِبَلَهُمْ عِلّةً ابْنِي أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ .
وَقَالَ عَلَيّ دَيْنُك ، أَنَا أَقْضِيهِ عَنْك ، وَعِيَالُك مَعَ عِيَالِي أُوَاسِيهِمْ مَا بَقُوا، لَا يَسَعُنِي شَيْءٌ وَيَعْجِزُ عَنْهُمْ .
فَقَالَ لَهُ عُمَيْرٌ فَاكْتُمْ شَأْنِي وَشَأْنَك ، قَالَ أَفْعَلُ )( ).
الثالثة : لقد أراد الذين كفروا إخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ومنعه من اللقاء بأهلها ورجال القبائل الذين يفدون اليها وأداء الحج والعمرة .
فهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فتبين لأهل مكة أن هذه الهجرة سبب في إتساع الإسلام والدعوة إلى الله ، وتبليغ آيات التنزيل للناس فسعى رجال قريش لإخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة .
لبيان معجزة في اللفظ القرآني وهو عدم انقطاع مصداقه فلم يكتف الذين كفروا بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة الى المدينة ، إنما أرادوا خروجه أيضاً من المدينة ، وبعثوا أبا عامر الى ملك الروم للتحريض على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم واخراجه من المدينة .
وقد سافر ابو سفيان الى بلاد فارس ودخل على كسرى وهل حرّضه على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب لم يثبت هذا التحريض , ولكنه ليس ببعيد وأن ذهاب أبي سفيان الى كسرى وملك الحيرة آنذاك من أجل هذه الغاية إلا أن الإستصحاب في منهاج وسيرة قريش في تجنيد كل الأسباب والوسائل لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمر ظاهر .
ولا ينحصر مكر قريش بشخص واحد أو بعض أشخاص منهم ، فقد كانت قريش أمة منظمة ذات جاه وأموال سخروها لحبس أو قتل أو إخراج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويحتمل سعي كفار قريش إلى هذه الأمور الثلاثة وجوهاً :
الأول : الترتيب فانهم يسعون الى سجن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان عجزوا عن سجنه يقومون بقتله ، وان لم يستطيعوا قتله يقومون باخراجه من مكة أو من البلد الذي هو فيه لبيان أنه لو كان نبياً لما أخرجوه وبقي اتباعه وحدهم .
الثاني : سعي قريش لهذه الغايات مجتمعة وفي آن واحد ، لإرادة تحقيق أي واحد منها، ولم يعملوا أن الله عز وجل هو الذي يحفظ نبيه ، ويرد كيد الكافرين ، وفي التنزيل [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ]( ).
الثالث : إرادة التخيير ، وتنجز أي فرد من هذه الأمور الثلاثة ، وهو الظاهر من ورود وتكرار لفظ (أو) بقوله تعالى [لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ]( ).
الرابع : إرادة الميسور , والذي يتمكن منه كفار قريش من هذه الوجوه الثلاثة وهي :
أولاَ : الحبس .
ثانياَ : القتل :
ثالثاَ : الإخراج : من مكة ومن غيرها .
إذ أرادت قريش أن تقوم كل مدينة أو قبيلة يأوى إليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باخراجه ، ولا نقول طرده لأن مقام النبوة منزه عن الطرد ونحوه بدلالة قوله تعالى [لِيُخْرِجُوكَ] ( ) إنما ورد الطرد والنهي عنه بخصوص فعل النبي أزاء غيره , وبصيغة النهي كما في قوله تعالى [وَلاَ تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ] ( .
وهل ما لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الطائف بسبب الإخراج الذي تذكره الآية أعلاه , أم أن القدر المتيقن منه إخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة فاذا خرج منها تركوه وشأنه .
المختار هو الأول , وفيه شاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبغ القتال ولم ينوه كقصد وغاية ، إنما كان يدفع مقدمات وأسباب القتال مع حرصه على التبليغ ، فلا ملازمة بينهما .
وتوفى أبو طالب بعد مضي ستة أشهر على خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت من الحصار في شعب أبي طالب وعمره يوم توفى سبع وثمانون سنة ( )، وماتت بعده بأيام معدودات خديجة ، وقيل ماتت بعده بثلاثة أيام ، فأشتد أذى الكفار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الأذى من مصاديق الآية أعلاه ، وفيه جحود بما أملاه الله عليهم , فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف وهناك مسائل :
الأولى : هل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف من مصاديق قوله تعالى [لِيُخْرِجُوكَ] ( ) .
الثانية : هل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي .
الثالثة : هل يصدق على خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف أنها هجرة .
الرابعة : ما هي المنافع والمسائل المستقرأة من خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم ،ولا دليل على حصر الأمر بكيفية خاصة تتجلى إخراج الذين كفروا للنبي قهراً ، فحينما أصر الذين كفروا على تنجز أحدى الوجوه الثلاثة أما الحبس أو القتل أو الخروج .
وخرج النبي إلى الطائف لكفاية واجتناب أذى قريش ، ولا ينخرم هذا المعنى بعودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الطائف سالماً إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة متوجهاً إلى الطائف في الأيام الأولى من شهر شوال من السنة العاشرة للبعثة النبوية قبل الهجرة رجاء النجاة من كفار قريش والمنعة بثقيف وهوازن منهم ، وليعرض عليهم الإسلام، ويدعوهم إلى الله عز وجل .
وأما المسالة الثانية فالجواب نعم فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خرج لإقامة للحجة على الذين كفروا وإنذارهم ، ولو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم بالعودة السريعة من الطائف إلى مكة ، وهو لا يتعارض مع عمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) .
وفي التنزيل [قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ).
وتبعد الطائف عن مكة نحو خمسة وثمانين كيلو متر فذهب إليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليعرض الإسلام على أهلها ، وعسى أن يجد أنصاراً له فيها ويقومون بايوائه ليبلغ رسالته .
وفيمن صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه إلى الطائف وجوه :
الأول : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف بمفرده ليس معه أحد .
الثاني : كان مع النبي الإمام علي عليه السلام .
الثالث : صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف زيد بن حارثة ، وبه قال ابن سعد وتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى سادة ثقيف آنذاك وهم أخوة ثلاثة :
الأول : عبد ياليل بن عمرو بن عمير ، وكان عبدياليل قد أخبر عن علامة ومعجزة تدل على صدق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (عن كعب قال: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى تنبأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرمى بها، فرأت قريش أمرا لم تكن تراه فجعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقون أرقاءهم يظنون أنه الفناء، فبلغ ذلك من فعلهم أهل الطائف، ففعلت ثقيف مثل ذلك.
فبلغ عبد ياليل بن عمرو ما صنعت ثقيف.
قال: ولم فعلتم ما أرى ؟ قالوا: رمى بالنجوم فرأيناها تهافت من السماء.
فقال: إن إفادة المال بعد ذهابه شديد فلا تعجلوا
وانظروا، فإن تكن نجوما تعرف فهو عندنا من الناس ، وإن كانت نجوما لا تعرف فهو لامر قد حدث.
فنظروا فإذا هي لا تعرف، فأخبروه، فقال: الامر فيه مهلة بعد، هذا عند ظهور نبي .
فما مكثوا إلا يسيرا حتى قدم عليهم أبو سفيان بن حرب إلى أمواله، فجاء عبد ياليل فذاكره أمر النجوم، فقال أبو سفيان: ظهر محمد بن عبد الله يدعى أنه نبي مرسل.
فقال عبد ياليل: فعند ذلك رمى بها.) ( ).
وتمر الأيام والسنين ليأتي عبد ياليل مع وفد ثقيف إلى رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم فيعلنوا دخولهم الإسلام .
ومن وجوه وموضوع نزول قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا] ( ) ما ورد عن ابن عباس أنه قال(بلغنا أن هذه الآية نزلت في بني عمرو بن عوف من ثقيف ، وبني المغيرة من بني مخزوم ، كان بنو المغيرة يربون لثقيف ، فلما أظهر الله رسوله على مكة ووضع يومئذ الربا كله .
وكان أهل الطائف قد صالحوا على أن لهم رباهم وما كان عليهم من ربا فهو موضوع ، وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر صحيفتهم : أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ، أن لا يأكلوا الربا ولا يؤكلوه . فأتى بنو عمرو بن عمير ببني المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة .
فقال بنو المغيرة : ما جعلنا أشقى الناس بالربا ووضع عن الناس غيرنا . فقال بنو عمرو بن عمير : صولحنا على أن لنا ربانا . فكتب عتاب بن أسيد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت هذه الآية { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب }( ) ) ( ).
وأما المسألة الثالثة فيمكن تسمية هذا الخروج هجرة صغرى ، أو رحلة أو وفود وتقييدها بالصغرى لبيان قلة أيامها وعودة النبي صلى الله عيه وآله وسلم بعدها إلى مكة مع المشقة في دخولها ، وما يلزم من حصوله على الأمان .
أما المسألة الرابعة ، فمن منافع هذه الهجرة انصراف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أذى قريش الذي اشتد عليه بعد وفاة عمه أبي طالب وخديجة ، إذ كان إذا مرّ بالسوق نثروا التراب على رأسه ليدخل البيت وتغسل فاطمة التراب عن رأسه وهي تبكي .
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ وَأَبَا طَالِبٍ هَلَكَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ فَتَتَابَعَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ الْمَصَائِبُ بِهُلْكِ خَدِيجَةَ وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ عَلَى الْإِسْلَامِ يَشْكُو إلَيْهَا ؛ وَبِهُلْكِ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَ لَهُ عَضُدًا وَحِرْزًا فِي أَمْرِهِ وَمَنَعَةً وَنَاصِرًا عَلَى قَوْمِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ مُهَاجَرِهِ إلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ .
فَلَمّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِنْ الْأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَطْمَعُ بِهِ فِي حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ حَتّى اعْتَرَضَهُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ ، فَنَثَرَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، قَالَ لَمّا نَثَرَ ذَلِك السّفِيهُ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ذَلِكَ التّرَابَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بَيْتَهُ وَالتّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ فَقَامَتْ إلَيْهِ إحْدَى بَنَاتِهِ فَجَعَلَتْ تَغْسِلُ عَنْهُ التّرَابَ وَهِيَ تَبْكِي ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَقُولُ لَهَا : لَا تَبْكِي يَا بُنَيّةِ فَإِنّ اللّهَ مَانِعٌ أَبَاك . يَقُولُ بَيْنَ ذَلِكَ مَا نَالَتْ مِنّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ) ( ).
الثاني : مسعود بن عمرو.
الثالث : حبيب بن عمرو.
الرابع : ربيع بن عمرو .
وطلب منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أموراً :
الأول : الدخول في الإسلام .
الثاني : إيواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحفظه والذب عنه من أذى كفار قريش وغيرهم .
الثالث : القيام مع النبي على من يحاربه من قومه .
وأدرك هؤلاء الأخوة أن إيواءهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسبب لهم الأذى والضرر من قبل قريش مما لا طاقة لهم به ، ولم يعلموا أن الله عز وجل يمدهم ويعينهم ، وأن في الإستجابة لطلب النبي الشرف والرفعة في الدنيا ، والفضل والخير في النشأتين ، وشاء الله أن يفوز بهذه النعمة الأنصار من الأوس والخزرج ،قال تعالى في الثناء عليهم [وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا] ( ) .
ولم تقيد الآية أعلاه شخص الذي أووه لبيان قانون وهو أن الإيواء أعلاه إذا وردت مطلقة فانها تخص النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وهو من فضل الله عز وجل .
وسأل عبد ياليل وأخوته النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتموا عليه ان لم يقبلوا ما جاء به ، ولكن أشراف الطائف هؤلاء لم يكتفوا بالإعتذار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إنما ردوا عليه رداً قاسياً ، وأظهروا الإستهزاء بنبوته ، وأغروا الصبيان والسفهاء من قومهم لإيذائه ورميه بالحجارة .
(قال موسى بن عقبة قعدوا له صفين على طريقه فلما مرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين صفيهم جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه.
زاد سليمان التيمى انه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أذلقته( ) الحجارة قعد إلى الارض فيأخذون بعضديه فيقيمونه فإذا مشى رجموه وهم يضحكون .
وقال ابن سعد: وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شج في رأسه شجاجا قال ابن عقبة فخلص منهم ورجلاه تسيلان دما فعمد إلى حائط( ) من حوائطهم فاستظل في ظل حبلة) ( ).
أي كرمة وهو نوع بستان يعود لعتبة وشيبة ولدي ربيعة ، وكانا موجودين في البستان فرجع عنه سفهاء القوم وأرسلا إليه غلاماً لهما اسمه عداس ، وهو نصراني بقطف من عنب ليضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقول له :كل فمدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده وهو يقول باسم الله ) .
فانبهر عداس لأنه لم يسمع هذا الكلام في تلك البلاد وعداس من العراق من أرض نينوى ، فجرى حوار بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبينه .
ورآه عتبة وشيبة ولدي ربيعة يقبّل رأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحذراه من جذبه للإسلام ، فلم يلتفت إلى قولهما ونطق بالشهادتين ليكون به مؤاساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعراض قومه ، قال تعالى [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] ( ) ، وكان أحد وجهاء ثقيف أعلاه متزوجاً من امرأة من جمح من قريش وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرجو أن يعطف عليه ويذبوا عنه بسبب هذه المرأة ، ولاقاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الحال والدماء تجري من قدميه (فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك) ( ).
وتوجه بالدعاء إلى الله عز وجل (اللّهُمّ إلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي وَقِلّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي .
إلَى مَنْ تَكِلُنِي إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَوْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي إنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيّ فَلَا أُبَالِي غَيْرَ أَنّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي.
أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَحِلّ عَلَيّ غَضَبُك أَوْ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك.
لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِكَ .
فَأَرْسَلَ رَبّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَيْهِ مَلَكَ الْجِبَالِ يَسْتَأْمِرُهُ أَنْ يُطْبِقَ الْأَخْشَبَيْنِ عَلَى أَهْلِ مَكّةَ وَهُمَا جَبَلَاهَا اللّذَانِ هِيَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ لَا بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ لَعَلّ اللّهَ يُخْرِجُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) ( ) .
ويسمى هذا الدعاء دعاء الطائف ، ليبقى ثروة عند المسلمين إلى يوم القيامة يلجأون إليه ويتخذونه سلاحاً في الملمات ، ويتوسلون به إلى الله عز وجل لدفع البلاء ، ورجاء فتح أبواب من فضله .
لقد كان خروج النبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم إلى الطائف درساً وموعظة ودفعاً لبطش قريش بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حين ، وتبعد الطائف نحو خمسة وثمانين كيلوا متراً عن مكة فقطعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشياً على قدميه في سبيل الله ، وكان طريق العودة أشق على نفسه وبدنه لورم قدميه من حجارة القوم .
وقد ظن رؤساء الكفر من قريش أن أهل المدن والقبائل لا يأوون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ليكون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف كالمقدمة لهجرته إلى المدينة ، مع أخذ مدة ومندوحة من الوقت بعد رجوعه من الطائف إلى مكة ، فالتقى بوفد الأوس والخزرج في العقبة .
الثانية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : لا يحسبن الذين اشتروا الكفر بالإيمان .
الثاني : لا يحسبن الذين كفروا يضروا الله شيئاً .
الثالث : الذين كفروا لهم عذاب أليم .
الرابع : لا يحسبن الذي اشتروا الكفر أنه خير أنفسهم.
الخامس : الذين كفروا لهم عذاب أليم .
السادس : إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لهم عذاب أليم .
السابع : إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً .
الثامن : ولا يحسبن الذين اشتروا الكفر بالإيمان إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً .
الثالثة عشرة : من معاني الجمع بين آيتي البحث والسياق لغة الذم والوعيد للذين كفروا ، وهو من جهات :
الأولى : تبكيت الذين كفروا لإقدامهم على شراء الكفر والضلالة .
الثانية : الإخبار عن عجز الذين كفروا عن جلب الضرر للمؤمنين ، وجاءت آيات القرآن بالإخبار عن إضرار الذين كفروا بأنفسهم ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا]( ).
الثالثة : لقد بذل الذين كفروا الوسع لإيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإضرار بالمؤمنين ، فتفضل الله عز وجل بانزال آية البحث وآية السياق والآية التي قبلها لبعث السكينة في نفوس المسلمين بالإخبار بأن الذين كفروا لن يضروا الله في دين التوحيد وعبادته في الأرض ، ولن يضروا المؤمنين .
الرابعة : شدة عذاب الذين كفروا يوم القيامة ، إذ أختتمت آية السياق بذكر صفة العذاب من جهة نزول الألم الشديد بسببه بينما أختتمت آية البحث بوصفه بلحاظ إهانة وخزي الذين ينزل بهم عذاب النار في الآخرة بينما يكون المؤمنون في عز وغبطة وسعادة في الآخرة بعد أن تحملوا الأذى من الكفار في الدنيا ، قال تعالى [إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ] ( ).
لقد تقدم في دعاء الطائف شكوى واستجارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالله عز وجل (اللّهُمّ إلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي وَقِلّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ)( ).
فتفضل الله عز وجل وأبدل الهوان والأذى بعد الهجرة إلى نصر وعز ودولة نبوة في الدنيا قبل أن يفارق النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزل قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) .
أما في الآخرة فقد جاءت آيات كثيرة بالبشارة بالنعيم الدائم للمؤمنين.
الخامسة : إخبار آية البحث عن صيرورة النعم التي تأتي للذين كفروا سبباً لزيادة إثمهم ، بينما تكون النعم التي تأتي للمؤمنين سبباً للأجر والثواب للإنفاق منها في سبيل الله ، وإعانة الفقراء ، وإتخاذها وسيلة ومناسبة للشكر لله عز وجل وأداء الفرائض والعبادات .
الرابعة عشرة : ورد لفظ الكفر والذين كفروا وتكرر ذكر العذاب في آية البحث والسياق ، ولكن لم يذكر الإيمان في الآيتين الا مرة واحدة وبلحاظ تفريط الذين كفروا به بقوله تعالى [اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ] ( ).
وهل يجوز القول أن المسلمين (اشتروا الإيمان بالكفر) الجواب إنما الإيمان هو الأصل ، لذا ورد لفظ (اشتروا) سبع مرات في القرآن ، كلها في الإخبار عن ظلم الذين كفروا لأنفسهم بشرائهم الكفر ، والضلالة ، وإختيار زينة الدنيا بالتفريط بالنعيم الأخروي ، وفي ذمهم قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء ولكن لم يترك الإنسان وحده يواجه ضروب الإمتحان والإبتلاء فيها بأن يأمن ويحترز برسول داخلي وهو العقل لا يفارقه الى ساعة وفاته ، ومن يفقد العقل كالمجنون يسقط عنه التكليف .
وتفضل الله عز وجل ببعث الأنبياء ونزول الكتب السماوية التي تهدي الناس الى سبل النجاح والرشاد في حال الإمتحان والإبتلاء والإختبار ، وجعل الله عز وجل الإيمان هو الأصل في الحياة الدنيا سواء بأن أول من عمرّ الأرض هو آدم وحواء وكلاهما نالا مرتبة الإيمان في السماء وقبل أن يهبطا إلى الأرض أو بتقيدهما بسنن الإيمان والهدى بعد الهبوط .
ونال آدم مرتبة النبوة ، وصاحبته إلى حين غادر الحياة الدنيا ، وكذا لازم الإيمان والتصديق بنبوة آدم حواء ، ومن الآيات في خلق الإنسان إبتلاء آدم وحواء باغواء إبليس لهما في الجنة ليحترزا منه في الأرض ، ويبذلا وذريتهما الوسع في مرضاة الله ، قال تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
ومن فلسفة الهبوط الى الأرض جعلها دارا لعامة الناس برهم وفاجرهم ، قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( )، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ]( ).
فمن أجل وأظهر معاني مصاديق الإملاء في المقام توالي النعم على الذين كفروا ، وهل يختص الأمر بكفار قريش وما رزقهم الله عز وجل من النعم ، ومنها [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، الجواب لا ، ففي كل جيل وبلد هناك رزق ونعم ظاهرة وباطنة على الناس عامة ، ومنهم الذين اشتروا الكفر بالإيمان.
فجاءت آية السياق تحذيراً وإنذاراً لهم لتدعو في مفهومها المسلمين والمسلمات الى الشكر لله عز وجل على تلقي النعم بالإقامة على الفرائض والعبادات ، وهذه الإقامة من أصدق وأبهى معاني الشكر لله ، وهي باب لإستدامة النعم ، وتوالي أفراد أخرى منها ، لقوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
فمن خصائص الحياة الدنيا مضاعفة النعم على المؤمنين كما تدل عليه الآية أعلاه ، وزيادة الإثم على الذين كفروا كما يدل عليه قوله تعالى [إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا]( ) وأيهما أكثر المضاعفة أم الزيادة ، الجواب على وجوه :
الأول :الزيادة أكثر من المضاعفة .
الثاني : المضاعفة أكثر من الزيادة بلحاظ صدق الزيادة على ما قلّ عن الضعف .
الثالث : التساوي بين المضاعفة والزيادة .
وفي المقام فان مضاعفة النعم على المؤمنين أكثر من زيادة الإثم على الذين كفروا وهو من رحمة الله عز وجل بالناس في الأرض .
وأيهما أكثر كماً وكيفاً الإملاء من الله للذين كفروا أم الإثم الذي يلحقهم بزيادته ، الجواب هو الأول ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
الوجه الثاني : صلة آية البحث بقوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( )، وفيها مسائل :
المسألة الأولى : ابتدأت آية السياق بقوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ] وفيه وجوه :
الأول : ابتداء الآية بحرف الإستئناف الواو.
الثاني : الجملة إنشائية .
الثالث : إرادة النهي .
الرابع : توجه النهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : الحاق المسلمين والمسلمات بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا لا يحزنكم الذين يسارعون في الكفر .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا لا يحزنكم الذي يسارع في الكفر .
ثالثاً : يا أيها الذين آمن لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر .
رابعاً : يا أيتها اللائي آمن لا يحزنكن الذين يسارعون في الكفر .
خامساً : يا أيتها التي آمنت لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر.
سادساً : يا أيتها التي آمنت لا يحزنك اللائي يسارعن في الكفر .
فقد تتحسر المؤمنة على النساء اللائي يتلبسن بالكفر والنفاق ، فجاءت كل من آية البحث والسياق مواساة لهن ، وبعثاً للطمأنينة في نفوسهن .
المسألة الثانية : من معاني آية البحث عطفها على آية السياق التي تضمنت نهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن على الذين كفروا ومسارعتهم في الكفر ، وتماديهم في عبادة الأوثان ليكون من مصاديق آية البحث : يا أيها النبي [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا]( ) .
ليكون من الغايات الحميدة لآية البحث إنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين للذين كفروا وزجرهم عن التمادي في الغي ومسالك الضلالة بلحاظ قانون وهو أن الخطاب القرآني [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ]يتوجه أيضاً إلى جميع المسلمين والمسلمات في كل زمان بالتبعية والإلحاق ، فيكون الخطاب خاصاً في لفظه عاماً في حكمه ، ومنه قوله تعالى [قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ] ( ) إلا مع الدليل على إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده كما في قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ] ( ) إذ يختص النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بين الناس في أيامه وإلى يوم القيامة بالوحي والرسالة ومنها قوله تعالى [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ) .
وقد تتضمن الآية الواحدة الخطاب العام والخاص كما في قوله تعالى[قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ) إذ تكرر فيها فعل الأمر (قل) ثلاث مرات ، فالأول والثالث عامان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , أما قوله تعالى [قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ]( ) فهو خاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فان قلت هل ينخرم العطف بالآية السابقة التي لم تبدأ بحرف عطف إنما بدأت بحرف مشبه بالفعل كقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ] ( ).
الجواب لا ينخرم العطف بين الآيات ، وهو لا يتعارض مع إستقلال كل آية في موضوعها ، ويكون من معاني العطف في آية البحث [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا] ( ).
ومنها : يا أيها الذين آمنوا لا تحسبوا إنما نملي للذين كفروا خير لأنفسهم.
إذ أن مجموع ركعات الصلوات اليومية الخمسة سبع عشرة صلاة الصبح.
الثانية : تلاوة ركعات صلاة المغرب .
الثالثة : أربع ركعات صلاة العشاء ، أن مجموع الركعات يتلى فيها القرآن جهراً تسع ركعات من أصل سبع عشرة ركعة ، وفيه دلالة على أولية الجهر بالقرآن ، وهل هذا الجهر من البيان الذين تذكره الآية أعلاه ، الجواب نعم ، وهو برزخ دون الملازمة بين الكفر والمسارعة في الكفر ، فليس كل الذين كفروا يسارعون في الكفر وعلى مرتبة واحدة في هذه المسارعة .
لتكون تلاوة المسلمين للقرآن في الصلاة سواء جهراً أو إخفاتاً في صلاة الظهر والعصر دعوة للناس عامة لإجتناب الكفر والمسارعة في الكفر ، وهذه التلاوة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
المسالة الثانية : إبتدأت كل من آية السياق والبحث بحرف العطف وأداة (لا) الناهية ، مع التباين إذ يظهر النهي جلياً في قوله تعالى (لا يحزنك) بينما يكون النهي في قوله تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ ] متداخلاً بالنفي ومع صيغة الإخبار الذي يكون تقديره على وجوه :
الأول : يا أيها الرسول لا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم.
الثالث : يا أهل الكتاب لا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم.
الرابع : يا أيها الناس لا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم.
الخامس : يا أيها الذين كفروا لا تحسبوا الذي نملي لكم خير لأنفسهم.
ومن أسرار بداية الآية القرآنية بالحرف (لا) النافية بعث المسلمين على التفرقة في الدين أما (لا) الناهية فانها تنمي ملكة التقوى عند المسلمين ،
ومن خصائص ابتداء الآيتين بحرف العطف الواو بيان اتصال موضوع كل من الآيتين بالآية التي سبقتها ، وفيه نوع تحد باتحاد النسق بين آيات القرآن .
المسألة الثالثة : لقد ذكرت آية السياق الكفار بصفة المسارعة في الكفر، وذكرتهم الآية السابقة بأنهم اشتروا الكفر بالإيمان ، أما آية البحث فذكرتهم بصفة الذين كفروا وتجلى هذا التعدد وبالوصف القبيح بوصفهم بالآية التالية بالخبث في القول والفعل لقوله تعالى [حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ]( ).
ومن معاني هذا التعدد بيان شدة الأذى والضرر الذي قد يأتي من الذين كفروا لولا أن يتفضل الله عز وجل على المؤمنين ويصرف عنهم الشر والضرر كما في قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
ومنها تحذير النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من شرور الذين كفروا ، والإشارة الى استدامة تعديهم وظلمهم ، وكأن هذه الآيات تخبر عن وقوع القتال والمعارك بين المسلمين والذين كفروا ، فمن المسارعة في الكفر إنفاق الأموال في محاربة النبوة والتنزيل، والزحف في غزو المدينة ، ومن شراء الكفر بالإيمان محاربة المؤمنين ، قال تعالى [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
المسألة الرابعة : لقد أنعم الله عز وجل على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضل الله عز وجل بالبشارات التي وردت بخصوص نبوته في الكتب السماوية السابقة وعلى لسان الأنبياء السابقين وهذه البشارات مدد وعون للناس للهداية والتصديق بنبوته ، وحينما أخبر عن نبوته ونزول الوحي عليه ، وتلا ما نزل عليه من القرآن في بداية البعثة النبوية كان أهل مكة في تلقيهم لرسالته على وجوه :
الأول : الذين آمنوا بنبوته ، ومن الآيات في المقام أنهم ابتدأوا دخول الإسلام فراداً من أهل البيت وبعض الصحابة .
الثاني : الذين كفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهؤلاء على أقسام :
أولاً : الذين أصروا على الكفر.
ثانياً : الذين لم يكتفوا بالإصرار على الكفر إنما قاموا بمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : الذين كانوا يستهزءون برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الذين اكتفوا بالترقب والرصد .
الرابع : الذين أظهروا الميل الى الإسلام ، ولم يرضوا على الذين يؤذون النبي وأصحابه .
فجاءت آية السياق بذم الذين كفروا لمنع الناس من إعانتهم ونصرتهم ، فان قلت هل يعلم عامة الناس بآية السياق ومضامينها القدسية والغايات النبيلة منها ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قول تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) .
فمن خصائص القرآن أن آياته تتلى على الناس المسلم والكتابي والكافر.
المسألة الخامسة : لقد تضمنت آية السياق قانوناً وهو عدم إضرار الذين كفروا بالله في ملكه ودين التوحيد والمؤمنين ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : نفي الإضرار بخصوص مسارعة الذين كفروا في الكفر ، وتقدير الآية : انهم لن يضروا الله شيئاً بمسارعتهم بالكفر .
الثاني : شمول إبطاء الذين كفروا بصيغ العناد والجحود والكفر في عدم الإضرار بالإسلام وهو من مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
الثالث : أصالة الإطلاق سواء أسرع أو لم يسرع الذين كفروا بالكفر فأنهم لن يضروا الله شيئاً .
وتقدير الآية إنهم لن يضروا الله شيئاً بكفرهم .
الرابع : عدم إضرار الذين كفروا بسبب كفرهم بدين الله والمؤمنين ، فيكون المراد من لفظ مسارعتهم في الكفر الصفة .
وتقدير الآية : لا يحزنك الذين كفروا .
وباستثناء الوجه الأول أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق آية البحث .
ومن الشواهد على عجز الذين كفروا عن منع الناس من دخول الإسلام وتخلفهم عن الصد عن سبل الإيمان ، تنامي صفوف الصلاة وأتساعها طولاً وعرضاً من جهات :
الأولى : كثرة عدد المصلين في المسجد والموضع الواحد .
الثانية : تعدد أماكن إقامة الصلاة في الحل والترحال.
الثالثة : إستحداث المسلمين لمساجد ومواضع لإقامة الصلاة في المدينة وخارجها .
الرابعة : تجاهر المسلمين والمسلمات بأداء الصلاة من غير خوف من الذين كفروا .
الخامسة : حرص المسلمين على التفقه في الدين ، ومعرفة آداب وأحكام الصلاة .
السادسة : تعاهد المسلمين الصلاة اليومية حتى في ميدان الدفاع وساحة الوغى فأرادها الذين كفروا فرصة للإجهاز عليهم فنزلت آية صلاة الخوف فصارت سبباً لإيمانهم ، قال تعالى [وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا] ( ).
المسألة السادسة : أخبرت آية السياق عن نفي الحظ والنصيب للذين كفروا في عالم الآخرة لبيان قانون من وجوه :
الأول : قانون النصيب ومحل الإقامة في الآخرة أمور بيد الله عز وجل ، وفي التنزيل [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ] ( ).
الثاني : قانون تعيين المنزلة وسنخيتها في الآخرة على سنخية العمل في الدنيا .
الثالث : قانون حرمان الذين كفروا من اللبث في النعيم في الآخرة .
وجاءت آية البحث لبيان صيرورة النعم التي تفضل بها الله عز وجل على الذين كفروا في الدنيا وبالاً عليهم في الآخرة .
وفيه حجة على الذين كفروا بأنهم يسخرون النعم الإلهية في اتباع الهوى والمعصية والإصرار على الكفر والجحود ، وقد يظن الذين كفروا أن ما عندهم من المال والجاه من سعيهم وكدهم ، فقطعت آية البحث هذا الظن وجاءت بالإنذار والتخويف والوعيد .
الرابعة : نعمة الرزق سواء الذين يأتي عن تقدير وحساب أو يأتي بفضل من عند الله من غير حساب ، قال تعالى [قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ] ( ) .
الخامسة : النعم الظاهرة والباطنة .
السادسة : النعم الخاصة التي يدرك معها العبد أنها تخصه وحده على كفران النعم الذي هو داء أبتلى به شطر من الناس ، وقام بتسخيرها في المعصية ليكون سبباً لزوالها ، وفي التنزيل [وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ] ( ).
ومن النعم التي تفضل الله عز وجل بها على الناس :
الأولى : نعمة الصحة والعافية .
الثانية : نعمة العقل والتمييز بين الأشياء بما فيه النفع .
الثالثة : النعمة في كل حاسة من الحواس وعملها في كل ساعة كالسمع والبصر ، وفي التنزيل [قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ] ( ) .
السابعة : نعمة الأمن والطمأنينة .
الثامنة : نعمة النهوض العام للعمل في النهار والسكن والنوم في الليل .
التاسعة : الماء والخبز , وجعلهما الله عز وجل في متناول أكثر الناس (عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم من لا كافي له ولا مؤوي)( ).
العاشرة : نعمة الستر .
الحادية عشرة :نعمة الزواج والذرية .
الثانية عشرة : نعمة السكن والمأوى .
الثالثة عشرة : نعمة العمل والكسب .
الرابعة عشرة : نعم الصلات والأنس بين الناس .
وورد حكاية عن قارون وغروره , وفي التنزيل [قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي] ( ) أي باجتهاده في الكسب وسعيه في التجارات والزراعات ، وكيفية جمع الأموال .
وقيل المراد ما عند قارون من علم الكيمياء ،(قال سعيد بن المسيب : كان موسى (عليه السلام) يعلم الكيمياء،
فعلّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم،
وعلّم كالب بن نوفيا ثلثه،
وعلم قارون ثلثه،
فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه،
وفي خبر آخر أنّ الله سبحانه وتعالى علّم موسى علم الكيمياء،
فعلّم موسى أُخته،
فعلّمت أخته قارون،
فكان ذلك سبب أقواله،
وقيل : على علم عندي بالتصرف في التجارات والزراعات وسائر أنواع المكاسب والمطالب،
وقيل : في سبب جمعه تلك الأموال،
وعن أبي سلمان الداراني قال : يبدي إبليس لقارون وكان قارون قد أقام في جبل أربعين سنة يتعبد حتى إذا غلب بني إسرائيل في العبادة بعث إليه إبليس شياطينه،
فلم يقدروا عليه،
فتبدى هو له وجعل يتعبد،
وجعل قارون وجعل إبليس يقهره بالعبادة ويفوقه،
فخضع له قارون،
فقال له إبليس : يا قارون قد رضينا بهذا الذي نحن فيه،
لا تشهد لبني إسرائيل جماعة،
ولا تعود مريضاً،
ولا تشهد جنازة،
قال : فحذره من الجبل إلى البيعة،
فكانوا يؤتون بالطعام،
فقال إبليس : يا قارون قد رضينا الآن أن يكون هكذا كلا على بني إسرائيل،
فقال له قارون : فأي شيء الرأي عندك؟
قال : نكسب يوم الجمعة ونتعبد بقية الجمعة،
قال : فكسبوا يوم الجمعة وتعبدوا بقية الجمعة.
فقال : إبليس لقارون : قد رضينا أن يكون هكذي. فقال له قارون : فأي شيء الرأي عندك،
قال : نكسب يوماً ونتعبد يوماً ونتصدق ونعطي،
قال : فلمّا كسبوا يوماً وتعبدوا يوماً خنس إبليس وتركه،
ففتحت على قارون الدنيا،
فبلغ ماله،) ( ).
ولا أصل لهذا القول .
وأبو سلمان الداراني (140-215) هجرية من أهل داريا قرية تابعة لدمشق في سوريا اتصف بالزهد ، روى عن سفيان الثوري ، ولم يرفع الخبر الذي ذكره .
وجاء القرآن لبيان أن النعم التي عند الناس جميعاً هي من عند الله ، وذكر قانون في الحياة الدنيا وهو أن الكفر ليس برزخاً ومانعاً من توالي النعم على الإنسان أو جماعة الكافرين ، فقد كان رؤساء مكة من الكفار وتلقوا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجحود والصدود واتخذوا نعمة الجاه والمال التي عندهم في الحرب عليه .
فقد كان العرب يجتمعون في موسم الحج في مكة ، وعندما يصف كفار قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنه [مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ] ( ) وأنه شاعر وصابئ ونحوه ، فيكون وصفهم هذا في أثره وضرره أكثر مما لو جاء من قبل بعض أفراد القبائل الذين يحضرون الموسم ، أو الذين ينطقون بهذا الإفتراء في قراهم ، إذ أن رجال قريش سادة مكة وهي [أُمَّ الْقُرَى] ( ) وبيدهم الأموال .
وقد يخشى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون ضررهم أو يهابون جانبهم ، فجاءت كل من آية السياق والبحث بالإخبار والبشارة عن خيبة الذين كفروا وإن كانت بيدهم الأموال وعندهم الجاه .
فسواء أسر ع الذين كفروا بتجهيز الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أو أكثروا من بذل الأموال في هذه المحاربة والعداء للتنزيل والنبوة فأنهم لن يضروا إلا أنفسهم ، وهذا الضرر مطلق وشامل للحياة الدنيا والآخرة .
المسألة السابعة : لقد خلق الله عز وجل الجنة وجعلها جزاء ومثوى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وخلق النار وجعلها عقوبة للذين غادروا الدنيا على الإقامة على المعصية .
(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم ، لولا أنها أطفئت بالماء مرتين ما انتفعتم منها بشيء ، وإنها لتدعو الله أن لا يعيدها فيها) ( ).
وكان بعض الصحابة إذا شربوا الماء البارد بكوا ، واستحضروا حال الكفار يوم القيامة ، كما يدل عليه قوله تعالى [أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ] ( ).
وأختتمت كل من آية البحث والسياق بما يذكر الناس جميعاً بعالم الآخرة وشدة عذاب الذين كفروا بالله ورسله كتبه ، ومن إعجاز الآيتين ذكرهما الكفر بصيغة الإطلاق ، وعدم حصره بالكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون وهو بقاء مضامين وأحكام الآية القرآنية إلى يوم القيامة .
المسألة الثامنة : لقد جعل الله عز وجل الآخرة عالم الجزاء والثواب ، إذ يفوز المؤمنون الذين عملوا ويعملون الصالحات في الدنيا باللبث الدائم في النعيم ، أما الذين كفروا فيساقون إلى النار ، فان قلت قد أخبرت آية السياق عن حرمانهم من الحظ في الآخرة ، فهل يكونون في برزخ ووسط بين النعيم والعذاب .
الجواب لا ، فليس من برزخ يوم القيامة ، فاما أن يدخل الإنسان الجنة بايمانه وحسن عمله أو تأخذه الملائكة قهراً إلى النار[وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ* قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ]( ).
وأختتمت آية السياق بقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( )، بينما أختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ]( )، وفيه دعوة للعلماء لإستقراء وبيان شدة عذاب النار ، وفق آيات القرآن وتأويلها وأخبار السنة النبوية القولية والفعلية .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنَفَسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف. فأشد ما تجدون في الشتاء من بردها، وأشد ما تجدون في الصيف من حرها( ).
ومن خصائص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يذكر بعالم الآخرة وعظيم ثواب الجنة ، وشدة عذاب النار فيها كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء)( ).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فَيح جَهَنم( ).
وكما وصفت آية السياق عذاب النار بأنه عظيم في شدته وضراوته ، فقد جاء قبلها بأربع آيات وصف الأجر والثواب من عند الله عز وجل بأنه عظيم بقوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
وأن الثواب بالجنة [ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( )، لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبين الصراط الى الجنة ، وكيف أنه محفوف بالمكاره ويلزم بذل الوسع والعناء ، وأن الطريق الى النار سهل ويسير لما فيه من اتباع للهوى.
وعن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد، من أنظر معسرًا أو وضع له، وقاه الله من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حزن بربوة -ثلاثًا -ألا إن عمل النار سهل بسهوة، والسعيد من وقي الفتن، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانًا( ).
المسألة التاسعة : تتضمن كل من آية السياق والبحث ذكر أحوال الناس في الدنيا ، وحال الكفار في الآخرة ، من وجوه :
الأول : جحود وضلالة الذين كفروا .
الثاني : تمادي الذين كفروا بالفسوق والضلالة .
الثالث : توالي النعم على الذين كفروا ، واصرارهم على الإمتناع عن شكر الله عليها ، لذا فمن معاني قوله تعالى في آية البحث[الَّذِينَ كَفَرُوا] أنهم كفروا بالنعم التي يمليها وينعم بها الله عز وجل عليهم .
الرابع : عجز الذين كفروا عن بلوغ غاياتهم الخبيثة .
الخامس : شدة عذاب الذين كفروا في الآخرة ، وكأن الإملاء من الله إمهال لهم.
ومن معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) إقتران الإمهال من عند الله للذين كفروا بأمور :
الأول : بيان صفة الظلم التي يتصف بها الذين اختاروا الظلم .
الثاني : ذكر القبح الذاتي للكفر .
الثالث : بعث النفرة في النفوس من الكفر.
الرابع : دعوة الناس لمعرفة كيفية المسارعة في الكفر، ولزوم التحذير منها.
فمن خصائص الجمع بين آية البحث والسياق صيرورة الناس آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ، فلا يختص هذا الأمر والنهي بالمؤمنين ، فان قلت قد ورد قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ) .
الجواب المراد الوجوب العيني والكفائي في الموضوع المتحد ولتكون هذه الأمة داعياً إلى الله وسبباً في بعث الناس للقيام بالأمر بالإيمان وآدابه والنهي عن الكفر والمسارعة فيه ، لتقتدي بهم الأمم ويسود السلم الأرض ، وهو مقدمة ومناسبة للتدبر في آيات الله .
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) وفيها مسائل :
المسألة الأولى : إبتداء آية السياق بأداة [إِنَّمَا] لإفادة قانون وهو ان الشيطان لا يخوف ويفزع إلا الذين كفروا لولايتهم له ، وتهتم دول العالم والمؤسسات العلمية والطبية في هذا الزمان بعلم النفس ، ولحاظ إصلاح النفوس , ودفع الأوهام ونفي أثر الأشباح عنها .
وجاءت آية السياق قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة لمعالجة النفوس وإصلاحها ببيان أصل الإبتلاء بالخوف والوهم والوسواس من الشيطان ، وأنه ملازم للكفر والضلالة ، فاذا إختار الإنسان الكفر نفذ الشيطان إليه ، وصار يخّوفه من الواجبات والفرائض والسبل التي تهديه إلى سبل السلامة والرشاد ، لبيان قانون في الإرادة التكوينية وهو أن الإيمان باعث للأمن في النفس الإنسانية , وهو نجاة من تخويف الشيطان ، وفي التنزيل [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ) .
المسألة الثانية : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار عمل وكسب وسعي ، وبعث الله الأنبياء ليهتدي الناس للعمل الصالح وكسب الحسنات والسعي في سبل الخير والصلاح ، ليتحمل الأنبياء أعباء تبليغ الأمم ، ويبذلوا الوسع في هداية الناس .
ومن خصائص النبي حرصه على جذب الناس الذين حرموا أنفسهم من الهداية والرشاد إلى منازل الإيمان بالبشارة والإنذار وكشف الحقائق عن عالم الحساب والجزاء يوم القيامة ، وفي التنزيل [إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا]( ).
فتفضل الله بآية البحث للتخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بعدم الحزن على الذين كفروا وقيامهم بإتيان الأفعال القبيحة ، وإصرارهم على الإقامة في منازل الضلالة .
وهناك مسألة هل كان الأنبياء السابقون يحزنون على الذين كفروا من أممهم ، وهل جاءهم النهي من عند الله عز وجل عن الحزن عليهم ، أم أن هذا النهي خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من وجوه تفضيله على الأنبياء السابقين .
المختار هو الأول وأن الله عز وجل يوحي إلى أنبيائه بعدم الحزن على الذين كفروا في مسارعتهم بالكفر ، ولكن الله فضّل النبي محمداً بأن ورد الخطاب والنهي له في القرآن ليبقى شاهداً على التأريخ ، وهو مدد له وللمؤمنين والمؤمنات في كل زمان ، بالإضافة إلى شدة أذى الكفار له ، وفي التنزيل [وَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ) .
ومن خصائص الإنسان أنه يحزن لما يقوله الناس عنه من أسباب الذم أو الإنتقاص أو التعيير أو السخرية .
وهو من الإعجاز الغيري في مجئ القرآن بالنهي عن الغيبة والنميمة ، فكيف وان النبي جاء بالرسالة من عند الله ويتوالى عليه الوحي ، ومع هذا يكذّبه الذين كفروا وينعتونه بأنه كذاب ومجنون .
لقد وثّق القرآن حزن النبي يعقوب عليه السلام على يوسف وفراقه ، وفي التنزيل [وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ] ( ) لبيان أن النبي قد يحزن على الأمر الخاص الذي له أثر عام بلحاظ وراثة يوسف النبوة من بعد أبيه .
فتفضل الله عز وجل ومنع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من الحزن على الذين كفروا وشدة إيذائهم لهم ليكون هذا المنع مقدمة لفتح مكة .
المسألة الثالثة : أخبرت آية السياق عن تخويف الشيطان للذين كفروا فهل لهذا التخويف موضوعية وأثر في جحود الذين كفروا بالنعم التي يمليها الله عز وجل لهم .
الجواب نعم ، فمثلاً يخشى الذين كفروا الإنفاق في سبيل الله ، ويمتنعون عن البر والإحسان خشية الإملاق ولأن الشيطان يخوفهم الفقر والحاجة إلى المال في حال الشدة والضراء ، وفي التنزيل [الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
ولم يرد لفظ الفقر في القرآن إلا في الآية أعلاه , ولم يرد فيه لفظ الغنى , إنما ورد اسم الغني ثمان مرات لله عز وجل قال تعالى [وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] ( ).
وينفق الذين كفروا الأموال الطائلة في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأن الشيطان يخوفهم من الإسلام ، وما فيه من الفرائض والعبادات والتكاليف البدنية والمالية .
ومن أهم ضروب التخويف هو لزوم الترغيب والترهيب بعالم الآخرة وشدة الحساب فيها ، ولكن الشيطان يخوف الذين كفروا بزينة وزخارف الدنيا ، وبما يجعلهم ينسون الآخرة ، فتفضل الله عز وجل بنزول القرآن ليذكر الناس بالمعاد ، وفي التنزيل [أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ] ( ) .
وابتدأت آية السياق بأداة الحصر [ إِنَّمَا] بقوله تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ] ويحتمل الحصر في المقام وجوهاً :
الأول :إرادة إبليس ،وأنه هو المقصود بالحصر بدليل ورود اسم الإشارة [ذَلِكُمْ] والمقصود منه الشيطان ، وهل تقدير الآية : إنما الشيطان يخوف أولياءه ولا يخوفهم غيره , الجواب لا , إنما يخوف الله الناس جميعا وهل آية البحث تخويف للذين كفروا .
الثاني : الخوف والتخويف .
الثالث : تخويف الذين كفروا بعضهم لبعض لولايتهم للشيطان ، فهم الذين يخافون ، وتقدير الآية : إنما أولياء الشيطان الذين يخافون ولا يخاف غيرهم من الشيطان .
الرابع : موضوع الخوف ، وما يخاف منه الذين كفروا .
الخامس : تقييد التخويف بولاية الشيطان ، ويكون بين الذين كفروا وأولياء الشيطان عموم وخصوص مطلق ، بمعنى كل ولي للشيطان هو من الذين كفروا وليس العكس، ولا دليل على هذا التقسيم ، والمختار هو نسبة التساوي بين الكفر وولاية الشيطان ، وليس الخوف من الشيطان بذاته شرك ، إنما هو من رشحات وفروع الكفر والشرك ، وكان الكفار يعتقدون بآلهتهم وأصنامهم ويقربون لهم القرابين ، ويخشون سطوتهم ، فتوجهت آية البحث بالنهي والأمر للمسلمين وتقدير قوله تعالى [فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تخافوا الذين كفروا .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تخافوا أولياء الشيطان .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا تخافوا الشيطان ، بلحاظ كبرى كلية وهي أن واو الجماعة في [فَلاَ تَخَافُوهُمْ] ( ) تشمل الشيطان وأولياءه مجتمعين ومتفرقين .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا إن الشيطان لا يقدر على تخويفكم ، وفي التنزيل [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ] ( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث وأسرار ابتدائها بأداء الحصر [إِنَّمَا] ( )وذكرت آية البحث الإملاء وتوالي النعم من عند الله على الذين كفروا ، لتكون وبالاً عليهم من جهة إزدياد آثامهم .
ويحتمل خوفهم من الشيطان في المقام وجوهاً :
الأول : الخوف من الشيطان سبب لزيادة الإثم .
الثاني : لم تذكر آية السياق الخوف من الشيطان على نحو الحصر ، إنما ذكرت تخويف الشيطان للذين كفروا ، وهو أعم في موضوعه ، وقد تقدم في الجزء السابع والستين بعد المائة من هذا السفر المبارك ( ).
الثالث : تخويف الشيطان لأوليائه سبب في إرتكابهم المعاصي ، والصد عن سبيل الله لأن هذا التسخير حرب على الشيطان وعداوة له ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا] ( ) في قوله تعالى [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ] ( ) لبيان قانون وهو أن إيمان العبد وعمله الصالحات عداوة للشيطان ، وبرزخ دون تخويفه الناس ، وخوف الناس منه ، وهو من فضل الله ببعثة الأنبياء .
الرابع : بيان فضل الله عز وجل على الناس جميعاً ، ومنهم الذين كفروا ، فمع ظلمهم لأنفسهم بأتباعهم خطوات الشيطان ، وأتخاذه ولياً وصاحباً فان الله عز وجل يمنّ عليهم بالنعم ويجعلها تتوالى عليهم لتكون هذه النعم تذكيراً بها وبغيرها من النعم , وواقية من مفاهيم الكفر .
وعن الإمام علي عليه السلام قال (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مر بالركن اليماني قال : اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر والذل ، ومواقف الخزي في الدنيا والآخرة ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) ( ).
لتكون الإستعاذة واقية من الشيطان والموضوع الذي يخوف به كالفقر والفاقة ، والشيطان من الشطن أي البعد ، ليكون في اسمه حجة على الذين كفروا ، فمع بعده كيف يخوفهم أو يخافون منه والله عز وجل هو رب العالمين وهو [أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ] ( ).
لقد أغوى ابليس آدم وحواء وهما في الجنة إذ جعلهما يأكلان من الشجرة التي نهاهم الله عز وجل عن الإقتراب منها والأكل منها بقوله تعالى[وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ] ( ) ليكونا وذريتهما على حذر وحيطة من الشيطان، وتحتمل هذه الشجرة وجهين :
الأول : إرادة شجرة مخصوصة ، ويكون النهي قضية عين ، فاذا كان في الجنة أشجار تين كثيرة ، فالنهي عن واحدة منها .
الثاني : النهي عن جنس شجر مخصوص ، كالنهي عن أكل شجرة عنب في الجنة .
والمختار هو الثاني على اختلاف في نوع تلك الشجرة ، لقد أغوى ابليس آدم وحواء بالإغراء والكذب والتخويف من الموت ، كما ورد في التنزيل [مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ] ( ) وقد علّم الله عز وجل آدم الأسماء كلها فخشي ابليس أن لا ينطلي كذبه على آدم وحواء للتباين في السنخية بين الملائكة والبشر فاقسم لهما بالله : إن لم يصيرا ملكين يكونا من الخالدين كما ورد في التنزيل[وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ] ( ) وما كانا يظنان أن أحداً يحلف بالله كاذباً .
المسألة الرابعة : من معاني الجمع بين الآيتين نسبة التساوي بين أولياء الشيطان ، والذين حذرت الآية المسلمين والمسلمات منهم ممن يخوفهم الشيطان .
وذكرت آية البحث الذين كفروا وإملاء ونعم الله عز وجل عليهم .
ومن معاني الجمع بين الآيتين وجوه :
الأول : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فيمنّ الله عليهم بالإملاء وتوالي النعم عليهم .
الثاني : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه من النعم التي يمنّ الله عليهم بها .
الثالث : إنما ذلكم الشيطان يخوف الذين كفروا من تسخير النعم في سبيل الله .
الرابع : إنما ذلكم الشيطان يخوّف الذين كفروا من الإنفاق في سبيل الله.
الخامس : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فيزدادوا إثماً .
السادس : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فتكون العاقبة العذاب المهين .
السابع : إنما ذلكم الشيطان يخوف الذين كفروا مع بعده عنهم وذمه وقبح فعله وليتجلى هذا البعد بقوله تعالى [ذَلِكُمْ].
الثامن : من خصائص اسم الإشارة للبعيد [ذَلِكُمْ]في آية السياق بعث النفرة في النفوس من الشيطان ، وهذه النفرة رحمة وفضل من الله ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وهل تختص هذه الرحمة وأسباب النفرة من الشيطان بالذين آمنوا لأنهم هم الذين يتلون القرآن ويتدبرون في معانيه ودلالات كلماته وآياته ، الجواب لا ، إنما هي عامة ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) توجه الآية القرآنية في بشارتها وإنذارها إلى الناس جميعاً .
ومن الإعجاز في المقام مجئ آية السياق بذكر أولياء الشيطان على نحو الخصوص ، بينما ذكرت آية البحث عموم الذين كفروا .
والتمييز والتباين اللفظي لا يمنع من الإتحاد والتشابه في الصفات العامة بينهم .
ومن الغايات الحميدة في التباين اللفظي بين ولاية الشيطان وبين التلبس بالكفر زجر الناس عن ولاية الشيطان وشمول هذا الزجر للذين كفروا .
فبعد أن ذكرت الآية السابقة شراءهم للكفر بالتفريط بالإيمان وجعله عوضاً للكفر جاءت آية البحث بالإنذار من ذات الكفر ، ومن الجحود بالنعم التي تفضل الله عز وجل بها .
وهناك مسائل :
الأولى : هل يؤدي الكفر إلى ولاية الشيطان .
الثانية : هل تؤدي ولاية الشيطان إلى الكفر .
الثالثة : هل الكفر سبب للخوف من الشيطان والإصغاء له في تخويفه .
الجواب نعم ، فان قيل هل يلزم الدور بين كون الكفر علة ولاية الشيطان , وأثر هذه الولاية بالكفر وزيادته .
الجواب لا ، لإرادة تعدد الموضوع والتباين الجهتي سواء في مصاديق الكفر أو في ضروب ولاية الشيطان ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا] ( ).
المسألة الخامسة : تضمنت آية السياق النهي بقوله تعالى [فَلاَ تَخَافُوهُمْ] ( ) وتوجه هذا النهي إلى المسلمين والمسلمات ، وهل هو خاص بأيام التنزيل أو بالمؤمنين الذين يتصلون مع الذين كفروا ويكونون قريبين منهم ، الجواب لا، إنما الآية شاملة للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تخافوا الذين كفروا الذين نملي لهم ليزدادوا إثماً .
ومن إعجاز آية السياق الجمع والتوالي بين تخويف الشيطان لأوليائه ، ونهي المسلمين عن الخوف منهم ، فلم تقل الآية : يخوف أولياءه فلا تخافوه )لتأكيد التباين بين المسلمين والذين كفروا ، ويكون من مصاديق [سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ] ( ) أن المسلمين والمسلمات لا يخافون من الشيطان ، ولا يتبعون خطواته.
وذات الإيمان شاهد على عدم الخوف من الذين كفروا ، إنما توجه النهي من الله للمسلمين بعدم الخوف من الذين كفروا ، لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين وتخفيفه عنهم بأن يكون أعداؤهم الذين يغزونهم بين الفينة والأخرى يخافون من الشيطان .
وصحيح أنهم يزحفون ويهجمون على المسلمين وديارهم إلا أن الخوف يملأ صدورهم ، ويأتي هذ الخوف على نحو مركب من وجوه :
الأول : الخوف من الله الذي جعله الله سبحانه في قلب كل إنسان ، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقرونا بالأمل .
الثاني : خوف الكافر من الشيطان .
الثالث : الخوف الذي يترشح عن ذات الكفر والتلبس به .
الرابع : خوف الكافر من الأذى الذي يترشح عن الكفر بلحاظ أن الكفر قبيح بالذات والأثر .
الخامس : خوف الكافرين من سوء عاقبة الكفر ، وجاءت آية البحث لبيان الأذى والضرر من الكفر وكيف أن خوف الكافر من الشيطان يؤدي إلى الغفلة والجهالة ، وعدم الإلتفات إلى النعم الإلهية ولزوم شكر الله عليها.
وقد تفضل الله عز وجل على المسلمين بالصلاة اليومية الواجبة على كل مسلم ومسلمة ولزوم قراءة القرآن فيها (عن معاذ بن جبل قال كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأصبحت قريبا منه ونحن نسير فقلت يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويبعدني عن النار .
قال لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال ألا أدلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل من جوف الليل ثم تلا (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)) ( ).
لتكون القراءة مناسبة للتدبر ، وفيها شكر لله عز وجل ، وليس من حصر لمصاديق شكر المسلمين لله عز وجل في الصلاة .
وهذا الشكر من جهات :
الأول : التقيد بأوقات الصلاة .
الثاني : الإستعداد للصلاة بالطهارة والوضوء .
الثالثة : أداة الصلاة فرادا وجماعة مع تسليم كل مسلم ومسلمة بأن صلاة الجماعة أكثر منفعة وأعظم أجراً .
الرابع : الصلاة شاهد على تسليم المسلمين بالربوبية المطلقة لله عز وجل إذ يتلو المسلم في كل ركعة من الصلاة الواجبة أو المندوبة [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( ).
الخامس : الصلاة استجابة لأمر الله عز وجل ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ) .
السادس :الصلاة أبهى وأصدق معاني الخشوع لله عز وجل ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (“أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء) ( ) .
و(عن كعب قال : سجد داود نبي الله أربعين يوماً ، وأربعين ليلة لا يرفع رأسه حتى رقأ دمعه ويبس ، وكان من آخر دعائه وهو ساجد أن قال : يا رب رزقتني العافية فسألتك البلاء ، فلما ابتليتني لم أصبر ، فإن تعذبني فأنا أهل ذاك ، وإن تغفر لي فانت أهل ذاك) ( ).
السابع : تلاوة القرآن في الصلاة طاعة وشكر لله عز وجل ، فذات التلاوة شكر لله عز وجل .
الثامن : تضمن الآيات التي يتلوها المسلم في الصلاة ألفاظ ومعاني الشكر لله عز وجل فيجب أن يتلو المسلم والمسلمة سورة الفاتحة والتي تبدأ بعد البسملة بالحمد لله رب العالمين .
وتتضمن سورة الفاتحة السؤال بالهداية إلى الصراط المستقيم بقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) .
وهل تتضمن الآية أعلاه الشكر لله عز وجل , الجواب نعم ، ومن جهات:
الأولى : التسليم بالحاجة إلى الله عز وجل .
الثانية : الإقرار بقانون أن الله عز وجل يهدي إلى الصراط المستقيم ، قال تعالى [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ) .
وعن (أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من صباح إلا وملكان يناديان ، يقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً .
وملكان موكلان بالصور ينتظران متى يؤمران فينفخان ، وملكان يناديان : يا باغي الخير هلم ، ويقول الآخر : يا باغي الشر أقصر ، وملكان يناديان يقول أحدهما : ويل للرجال من النساء , وويل للنساء من الرجال)( ).
وهل يستطيع غير الله أن يهدي إلى الصراط المستقيم ، الجواب نعم ، بفضل من الله وعلى نحو الموجبة الجزئية لأن هداية الله إلى الصراط عامة وخاصة , وتتغشى أيام الحياة الدنيا كلها ، وكل بعثة نبي ونزول آية من السماء هو هداية إلى الصراط المستقيم .
لبيان حاجة الخلائق لله عز وجل ، وعدم إمكان قضاء الحاجات مجتمعة ومتفرقة إلا من عند الله عز وجل ، ومن خصائص الشكر لله عز وجل بلحاظ الآية أعلاه أمور :
الأول : الشكر لله من مصاديق الصراط المستقيم .
الثاني : الشكر لله هداية إلى الصراط المستقيم .
الثالث : الشكر لله توسل إلى الله للهداية إلى الصراط المستقيم .
الرابع : الشكر لله تذكير بالصراط المستقيم ، ولزوم إتخاذه منهاجاً .
الخامس : السؤال والتوسل إلى الله مقام شكر له سبحانه ، وشاهد على اللجوء إليه تعالى إلهاً ورباً أحداً فرداً صمداً .
الثالثة : الصراط المستقيم نعمة عظمى , وكذا الهداية له .
وإن قيل تولى الأنبياء والأولياء والصالحين القيام بالهداية إلى الصراط المستقيم ، وهذا صحيح وهذه الهداية بفضل من الله عز وجل ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) وينفرد الله عز وجل بالهداية إلى الصراط المستقيم وجوه :
الأول : استدامة الهداية من عند الله عز وجل إلى الصراط المستقيم .
الثاني : تسخير الذين يهدون الناس إلى الصراط المستقيم .
الثالث : كتابة الأجر والثواب على الهداية إلى الصراط ، والهمّ بهذه الهداية وفعل الصالحات .
الرابع : إعانة الصبر على الهداية إلى الصراط .
الخامس : تقريب العباد من فعل الخيرات والإمتناع عن السيئات ، وفي التنزيل [إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ] ( ) .
السادس : استجابة الله عز وجل للدعاء بالهداية إلى الصراط .
السابع : علم الله عز وجل بما ينفع ويصلح العبد ويهديه إلى سبل الصراط .
الثامن : إضاءة وانارة الصراط المستقيم للعبد وحجب بصره وبصيرته عما سواه .
التاسع : من مصاديق الصراط الإسلام ، وعن جابر بن عبد الله [في قوله { اهدنا الصراط المستقيم }( ) قال : هو الإِسلام ، وهو أوسع مما بين السماء والأرض .
وأخرج ابن جريج عن ابن عباس قال { الصراط المستقيم } ) الإِسلام .
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة { الصراط المستقيم } الإِسلام .
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مروديه والبيهقي في شعب الإِيمان عن النّواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :
ضرب الله صراطاً مستقيماً ، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصرط جميعاً ولا تتفرقوا . وداع يدعو من فوق : الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال : ويحك . لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه .
فالصراط الإِسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق واعظ الله تعالى في قلب كل مسلم .
وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو بكر بن الأنباري في كتاب المصاحف والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإِيمان عن عبد الله بن مسعود في قوله { اهدنا الصراط المستقيم } ) قال : هو كتاب الله .
وأخرج ابن الأنباري عن ابن مسعود قال : إن هذا الصراط محتضر تحضره الشياطين . ياعباد الله هذا الصراط فاتبعوه ، { والصراط المستقيم } ) كتاب الله فتمسكوا به .
وأخرج ابن أبي شيبة والدرامي والترمذي وضعفه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن مروديه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ستكون فتن قلت : وما المخرج منها؟ قال : كتاب الله . فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل وليس بالهزل ، وهو حبل الله المتين، وهو ذكره الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ] ( ).
والصراط لغة الطريق ، وقال ابن عطية (و { الصراط } في اللغة الطريق الواضح فمن ذلك قول جرير : [ الوافر ] .
أمير المؤمنين على صراط … إذ اعوج الموارد مستقيم
ومنه قول الآخر : فصد عن نهج الصراط الواضح .) ( ).
والقدر المتيقن من الصراط هو الطريق المستقيم والواضح فهو صفة خاصة وشاهد على تعدد الطرق للحيط والحذر ، ولم يرد لفظ (الطرق) بصيغة الجمع في القرآن ، ولكنه ورد بصيغة السبل ، وفي خصوص ذات موضوع الصراط ، قال تعالى [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
وهل قول [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) من مصاديق هذه الهداية ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : الدعاء والتوجه بالمسألة إلى الله عز وجل من الصراط المستقيم.
الثانية : دلالة الإنقطاع إلى الدعاء على رجاء رحمة الله .
الثالثة : قصد القرآنية والتلاوة وما فيها من الأجر والثواب ، وفي تلاوة كل حرف من القرآن عشر حسنات .
الرابعة : دلالة النطق بقول [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )على الإيمان والتسليم بأن الله عز وجل هو الهادي إلى سواء الطريق .
الخامسة : الإقرار بأن الله عز وجل هو واحد لا شريك له في ملكه , ولا في صفاته وأفعاله ، وهو الذي ترفع له الحوائج والقادر على قضائها بالكاف والنون ، وفي التنزيل [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
وهل يأتي مع الهداية بها رزق كريم ، الجواب نعم ، وهو من وجوه :
الأول : ذات الدعاء بالهداية رزق وتوفيق ، فمن يريد الله صلاحه ورشده يهديه إلى الدعاء والمسألة وسؤال الصراط المستقيم .
الثاني : السعي في مسالك الصراط المستقيم واتباعه في الدنيا نعمة [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ) وهو مقدمة ونوع طريق للفوز بعبور الصراط المستقيم في الآخرة .
وورد لفظ الصراط في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) والمراد اسم جنس بلحاظ تعدد مصاديقه إذ أن مصداقه موجود في كل قول وفعل للإنسان ، فعليه أن يختار ما فيه رضا الله عز وجل والإستجابة لأوامره ، قال تعالى [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا] ( ).
وهل الإمتناع عن المعصية من الصراط المستقيم ، الجواب نعم ، بلحاظ أن هذا الإمتناع أمر وجودي .
الثالث : إن سؤال العبد الهداية إلى الصراط المستقيم إقرار بأن النعم التي عنده هي من عند الله ، وأنه يسأل الله عز وجل للإنتفاع الأمثل منها في النشأتين ، ويرجو الزيادة والمضاعفة فيها من جهة الأفراد والجنس وكثرة موارد وأبواب الإملاء ، فقد يكون الإملاء على الصبر في العافية فيسأل الله عز وجل المال والجاه معها وتسخيرها في رضوان الله .
ومن خصائص آية البحث تذكير العباد بقانون وهو أن كل نعمة عند الناس سواء كانت عامة أو خاصة هي من عند الله عز وجل وحده ، ويلزم الإيمان والإقرار بالعبودية التامة لله عز وجل في تلقيها ، وشكر الله عز وجل عليها .
(وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ أَنَّهُ قَالَ : ” إِنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لِمَنْ كَانَتْ المَسَاجِدُ بَيْتَهُ الأَمْنَ ، والأَمَانَ ، وَالجَوَازَ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ القِيَامَةِ) ( ).
(ومن مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه أزل الله قدميه على الصراط يوم تدحض فيه الأقدام ) ( ).
ان الله عز وجل يملي للناس بالنعم المتتالية لتكون مادة ووسيلة لعبادته وشكره تعالى ، لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا ( دار الإملاء ) وليس من إنسان إلا ويملي الله عز وجل له في كل لحظة ودقيقة نعماً متعددة ، وفي سليمان ورد قوله تعالى [قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ] ( ).
وتتضمن آية البحث مفاهيم الإطلاق والعموم في فضل الله عز وجل فلا يختص بالأنبياء والصالحين وأهل الإيمان إنما هو عام وشامل للناس جميعاً ، ولكن الذين كفروا جعلوه وبالاً عليهم في الآخرة لأنهم سخّروا النعم في غير مرضاة الله ، فجاءت آية البحث لبعث السكينة في قلوب المؤمنين من جهات :
الأولى : إستدامة إملاء الله عز وجل للمؤمنين والمؤمنات بالنعم .
الثانية : تلقي المؤمنين للنعم بالشكر له سبحانه .
الثالثة : صيرورة سيرة المؤمنين حجة على الذين كفروا في الإنتفاع الأمثل من إملاء الله والفيض الذي يأتي من عنده سبحانه ، وفي التنزيل [يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ] ( ).
الرابعة : تلاوة المسلمين والمسلمات لآية البحث كل يوم .
المسألة السادسة : لقد جعل الله عز وجل الإنسان ضعيفاً محتاجاً كي يلجأ إليه سبحانه ليستمد منه العوض والمدد ، وفي التنزيل [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ] ( ) .
وتفضل الله بالنعم المتوالية على العباد مجتمعين ومتفرقين فهذه النعم على أقسام :
الأول : النعم التي تأتي للناس جميعاً من استدامة الحياة والسكن والطمأنينة في الأرض والحياة الزوجية أو الحياة العامة مطلقاً .
الثاني : النعم التي تخص أهل بلد مخصوص ، ومن الآيات في الإرادة التكوينية التي تتجلى للناس في كل زمان اختصاص وإتصاف كل بلد بنعم سواء في الزراعة أو الثروة المعدنية , وخزائن الأرض المتعددة أو طيب المناخ.
الثالث : النعم التي يختص بها كل فرد من الناس على نحو الإستقلال ، وهل يتشابه بعض الإشخاص بالنعم .
المختار نعم , من غير تعارض مع انفراد كل شخص بنعم أخرى ، وهو من فضل الله وعظيم قدرته وبديع صنعه ، فكما يتباين الناس في بصمة الكف والعين ونحوها فان النعم التي يمنحها الله عز وجل لأي إنسان تختلف عن النعم التي تأتي إلى غيره ليتحلوا بالتقوى ويزهدوا بالدنيا ، ولكن الذين كفروا إختاروا الإنقياد إلى الشيطان ، فصار يخوفهم من مسالك التقوى ومن الزهد .
ومن لطف الله عز وجل أنه لم يقطع عنهم المدد بسبب هذا الخوف الذي لا أصل له والذي يجلب لهم الضرر في النشأتين ، إذ تستديم على الذين كفروا النعم الإلهية الظاهرة والباطنة ، ولكن خوفهم من الشيطان جعل غشاوة على أبصارهم ، ويمنعهم من الإنتفاع من هذه النعم ، لبيان قبح اتباع الشيطان وكيف أنه يسوق أولياءه إلى سبل الضلالة وأسباب الخسارة , قال الله تعالى [اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ] ( ).
وفيه حجة على الذين كفروا بأن إتباعهم الشيطان ، والإنقياد لإغوائه ووسوسته لم يمنع من تفضل الله عز وجل بتوالي النعم عليهم ، وهو من مصاديق الربوبية المطلقة لله عز وجل على الخلائق كلها ، فيتلو المسلم والمسلمة كل يوم عدة مرات قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) ليكون من معانيه في المقام وجوه :
الأول : الحمد لله الذي يرأف بالعالمين .
الثاني : الحمد لله الذين يرزق البر والفاجر والمؤمن والكافر وتتوالى عليهم نعمة من غير انقطاع ، وهو أمر لا يقدر عليه إلا رب العالمين ، فمن خصائص الملوك والسلاطين الجزاء العاجل بالعقوبة ، أو المنع والإعراض عند جحود النعمة , إلا رب العالمين فان نعمه تترى على الناس جميعاً كرماً وجوداً وإحساناً منه تعالى .
الثالث : الحمد لله الذي يملي للناس النعم لتكون سبباً لتذكيرهم بوجوب عبادته .
الرابع : الحمد لله الذي لا ينقطع فضله .
الخامس : الحمد لله على حلمه .
السادس : الحمد لله الذي يجعل المؤمنين لا يفتنون بالذين كفروا وزيغهم .
السابع : الحمد لله الذي بيده خزائن السماوات والأرض .
الثامن : الحمد لله الملك والحاكم في الدنيا والآخرة .
مصاديق المسارعة في الكفر
من إعجاز القرآن البيان التفصيلي بما يكشف أغوار النفس الإنسانية وحضور الآية القرآنية في الوجود الذهني والحياة اليومية العامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) .
ومن الإعجاز في تشريع الصلاة خمس مرات في اليوم الوجوب العيني لتلاوة آيات القرآن فيها ، والقراءة الجهرية في أكثر أفراد الصلاة اليومية فمن بين خمس صلوات تكون القراءة في ثلاث منها جهرية وهي :
الأولى : صلاة الصبح .
الثانية : صلاة المغرب .
الثالثة : صلاة العشاء .
كما أن عدد ركعات الصلاة التي تكون فيها القراءة الجهرية أكثر من التي تكون فيها القراءة إخفاتاً .
إذ أن مجموع ركعات الصلوات اليومية الخمس سبع عشرة ركعة ، وتكون الجهرية منها :
الأولى : ركعتا صلاة الصبح .
الثانية : ثلاث ركعات صلاة المغرب .
الثالثة : أربع ركعات صلاة العشاء .
أي أن مجموع الركعات التي يتلى فيها القرآن جهراً تسع ركعات من أصل سبع عشرة ركعة ، وفيه دلالة على أولوية الجهر بالقرآن.
وهل هذا الجهر من البيان الذي تذكره الآية أعلاه , الجواب نعم ، وهو برزخ دون الملازمة بين الكفر والمسارعة في الكفر ، فليس كل الذين كفروا يسارعون في مسالك الكفر وعلى مرتبة واحدة في هذه المسارعة ، لتكون تلاوة المسلمين للقرآن في الصلاة سواء جهراً أو إخفاتاً في صلاة الظهر والعصر دعوة للناس عامة لإجتناب الكفر، والمسارعة في الفسوق ، وهذه التلاوة من مصاديق وأفراد الجنود في قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
لقد أخبرت آية السياق عن مسارعة الذين كفروا بالكفر ، وهناك مسألة وهي هل يختص الأمر بالذين كفروا أم يشمل المنافقين , الجواب هو الثاني، ويكون من مصاديق آية السياق على وجوه :
الأول : ولا يحزنك الذين يسارعون في النفاق وما يخفونه من الكفر .
الثاني : ولا يحزنك المنافقون في مسارعتهم في النفاق .
الثالث : ولا يحزنك تخلف الذين كفروا عن التوبة والإنابة .
الرابع : ولا يحزنك تواطئ المنافقين مع الذين كفروا ، وفي التنزيل [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] ( ).
ترى ما هي مصاديق مسارعة الذين كفروا في الكفر ، الجواب من وجوه :
الأول : ذات البقاء على الكفر مسارعة في الكفر .
الثاني : المبادرة إلى النطق بمفاهيم الكفر والضلالة .
الثالث : إتيان الأفعال التي تدل على الكفر .
الرابع : شراء الكفر بالإيمان كما تذكره الآية السابقة .
الخامس : التخلف عن قبول دعوة الإسلام ، وفي التنزيل [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
السادس : تجهيز الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : إرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : الإستهزاء بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها ، ويدل قوله تعالى [وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون] ( ) على تضمن آية البحث التخويف والوعيد على الإستهزاء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسع : الجدال والشك بآيات القرآن .
العاشر : الذين كفروا يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف .
الحادي عشر : الذين يجحدون بنعم الله الظاهرة والباطنة والخاصة والعامة .
الثاني عشر : الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً .
الثالث عشر : الذين يسارعون في الإنفاق في الصد عن سبيل الله .
وفي أسباب نزول [وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر] ( ) ورد عن السدي (نزلت في رجل من الأنصار ، زعموا أنه أبو لبابة أشارت اليه بنو قريظة يوم الحصار ما الأمر على ما ننزل ، فأشار إليهم أنه الذبح) ( ).
الرابع عشر : الذين يسارعون في إنكار المعاد .
الخامس عشر : الذي يحبون لحوق الضرر بالمؤمنين .
السادس عشر : كتمان صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد والبشارات التي تدل على صدق نبوته .
السابع عشر : من معاني قوله تعالى [الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر]( ) أي الذين يسارعون بالسعي في كفر غيرهم من الناس وتحريضهم على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن عشر : الذين يسارعون في الكفر ويظنون أنهم يضرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بكفرهم , لقوله تعالى في آية السياق [ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( ) .
وروى (أبو ذر الغفاري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : قَالَ الله لَو أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَجِنَّكُمْ وَإنْسَكُمْ كَانُوا عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ ، مَا زَادَ ذلك فِي مُلْكِ الله شَيْئاً وَلَوْ كَانَ أوَّلُكُمْ وَآخِرُكُمْ وَجِنُّكُمْ وَإنْسُكُمْ كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ ، مَا نَقَصَ مِنْ مُلْكِ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ) ( ).
التاسع عشر : من الإعجاز الذاتي للقرآن التفسير الذاتي إذ تفسر آياته بعضها بعضاً ، وقد ورد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ]( ) لبيان شمول آية السياق للمنافقين .
وبين آية السياق والآية أعلاه عموم وخصوص مطلق إذ تشمل آية البحث الذين كفروا مطلقاً سواء الكافرين أو الجاحدين أو المنافقين .
لبيان أن حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم متعدد من جهات :
الأولى : الحزن بسبب الأذى الذي يلاقيه من الذين كفروا .
الثانية : الحزن لمكر بقاء الذين كفروا على كفرهم .
الثالثة : حزن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الذين لم يبادروا إلى التوبة ، وحزنه عليهم لما ينتظرهم من العذاب الأليم .
الرابعة : حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الذين يسارعون في الكفر .
الخامسة : الكفر ظلم للنفس ، وقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
فمن مصاديق الرحمة حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الكفار الذين يظلمون أنفسهم بسوء اختيارهم وتعديهم وإصرارهم على الكفر والضلالة .
السادسة : حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أهل البيت والمؤمنين لما يلقونه من الأذى من الكفار ، هذا الأذى الذي بدأ من أيام الدعوة الأولى في مكة واستمر حتى بعد فتح مكة .
السابعة : الحزن لأن الكفار فرطوا بالإيمان ووجوبه من أجل اتباع الهوى .
الثامنة : حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنافقين لإخفائهم الكفر في ذات الوقت الذي يظهرون فيه الإيمان .
التاسعة : حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبب نصب الأصنام في البيت الحرام وتقديس الناس لها .
العاشرة : حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وقوع القتال بين المسلمين والذين كفروا في معركة بدر وأحد والخندق وغيرها .
الحادية عشرة : يحزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحزن المسلمين لسوء اختيار الذين كفروا .
الثانية عشرة : الحزن على تخلف الذين كفروا عن دخول الإسلام .
وجاءت آية البحث للتخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بدفع الحزن عنهم بآية البحث .
ترى ما هو الدليل على الحزن ، تتضمن آية السياق والبحث مصاديق من هذا البديل بالإخبار عن جهالة الذين كفروا مع قيام الحجة وعنادهم وبغيهم وسوء عاقبتم ، قال تعالى [بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ] ( ) ، وأخبرت آية البحث عن صيرورة النعم التي تفضل الله عز وجل بها على المشركين سبباً للإثم لأنهم لم يسخروها في سبيل الله , إنما جعلوها في محاربة النبي والتنزيل .
الثالثة عشرة : لقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإسراء إلى السماء ورآى الجنة والنار وأصنافاً من الظالمين يعذبون فيها ومنه (ثم أتى على وادٍ فسمع شكوى ووجد ريحاً منتنة فقال : ما هذا يا جبريل؟
قال : هذا صوت جهنم ، تقول : رب ائتني بما وعدتني ، فلقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي ، وقد بعد قعري واشتد حري فائتني ما وعدتني .
قال : لكِ كل مشرك ومشركة , وكافر وكافرة ، وكل خبيث وخبيثة وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب .
قالت : قد رضيت) ( ).
فيحزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الكفار لما يلقونه من العذاب في الآخرة ، فأخبرت آية السياق بأنهم يسارعون في الكفر ، وكأنهم يسارعون في عذابهم ويعجلون في ولوجهم النار .
فتفضل الله عز وجل بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإنقاذهم منها بالتوبة والإنابة ، وجاء القرآن بنعتهم بصفة الذين كفروا لبعث النفرة في نفوسهم من الكفر ، وجعلهم يدركون قانون الملازمة بين الكفر والعذاب الأخروي .
الرابعة عشرة : أخبرت آية السياق عن مسارعة الذين كفروا في سبل الضلالة , وقد تسبب هذه المسارعة الأذى والضرر للمؤمنين وتصد الناس عن دخول الإسلام مما يكون سبباً بحزن النبي صلى الله عليه وآل وسلم والمؤمنين على تلك المسارعة ، وما يترشح عنها من الضرر العام والخاص ، لتنزل آية السياق وهي تتضمن نفي هذا الضرر وتخبر بأن المسارعة بالكفر لن تؤدي إلا إلى إضرار الذين كفروا بأنفسهم في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ] ( ) .
فان قلت قد أجبرت آية السياق عن إضرارهم بأنفسهم في الآخرة ، فاين الإخبار عن إضرارهم في الدنيا ، الجواب من جهات :
الأولى : ذات المسارعة في الكفر من الإضرار بالنفس .
الثانية : إخبار آية السياق عن حرمان الذين كفروا من الحظ والنصيب في الآخرة من الضرر في الدنيا لما فيه من التبكيت والتوبيخ لهم .
وأخبرت آية البحث عن نزول الإثم بالذين كفروا فتتوالى أيام الإنسان في الحياة الدنيا ليكتنز المؤمنون الأجر والثواب ، ويلحق الذين كفروا الإثم وتثقل ظهورهم بالذنوب وأوزارها ، قال تعالى في ذم الذين كفروا [قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ] ( ).
الشعبة الثانية :صلة هذه الآية بالآيات المجاورة التالية ، وفيها وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية التالية [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : بعد أن تضمنت آية البحث الإنذار والوعيد للذين كفروا توجهت آية البحث بالخطاب إلى المسلمين بما يبين ضروب الإبتلاء والإمتحان التي تكشف الضلّال وتخزي المنافقين .
فبعد النطق بالشهادتين يأتي الإمتحان بأداء الفرائض العبادية والصبر على أذى الذين كفروا ، ولكن المنافقين يبثون السموم والأخبار التي تبعث الخوف من الذين كفروا وجيوشهم .
وفي التنزيل [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ) .
لتكشف واقعة أحد المنافقين ، وتميز الخبيث ، ويدرك المسلمون معها لزوم الصبر والإحتراز من المنافقين والإستغناء عنهم .
وهل المراد من [الْخَبِيثَ] في آية السياق هم الذين تذكرهم آية البحث بصفة (الذين كفروا) الجواب بينهما عموم وخصوص مطلق ، فالخبيث أعم إذ يشمل الذوات والأعمال والسحت والأموال الربوية ، قال تعالى [قُلْ لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) ، لبيان قانون وهو أن الله يملي ويرزق ويفيض على الناس بالرزق والخير وتوالي الفضل ، ولكن الذين كفروا يصرون على الجحود والكفر .
المسألة الثانية : من الذين كفروا من يحارب النبوة والتنزيل ، ويتخذ النعم التي وهبه الله عز وجل آلة ووسيلة في إعداد الجيوش ، وزحفها نحو المدينة لقتال وقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وهل من الإملاء رحلة قريش إلى الشام واليمن في قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ).
الجواب نعم ليكون من مصاديق قوله تعالى [لِيَزْدَادُوا إِثْمًا] ( ) إنفاق قريش أموال التجارة المتراكمة عندهم في حرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
ومن معاني الجمع بين الآيتين بيان الملازمة بين الكفر والخبث .
لقد أغاظ المنافقين نصرُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معركة بدر ، ولكنهم كتموا غيظهم حتى إذا تعرض المسلمون إلى خسارة جسيمة في معركة أحد أظهر المنافقون الشماتة .
المسألة الثالثة : لقد ذكرت آية البحث الذين كفروا بصيغة الذم لتدل على لزوم الحيطة والحذر منهم ، ثم جاءت الآية التالية لتخبر عن وجود الخبيث بين المؤمنين لإفادة شدة إحتراز المؤمنين وزيادة إحتياطهم ، وفيه نكتة وهي بيان جهاد المسلمين , وشدة الأذى الذي تحملوه ، وأنهم لم يكونوا يغزون أحداً .
ويملي وجود المنافقين في المدينة على المسلمين أخذ الحائطة منهم ، وعدم تركهم يبثون الأراجيف والأكاذيب ، وحصر حديثهم بالخسارة التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون في معارك الإسلام.
لقد كان بعض المنافقين يبث في المدينة أخباراً تضعف الهمم وتدخل الكآبة في مجتمعات المسلمين ، فيقولون ، هُزم المسلمون ، قتل جماعة منه ، فروا في الميدان ، حدث خلاف بينهم ونحوه مع تكرارها في المجالس .
فجاء الإنذار والوعيد من عند الله بالبطش بهم ، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً] ( ).
لقد جعل الله عز وجل للإنسان شاناً , ورزقه مالاً وصلات تربطه مع غيره من الناس ، وهناك ما يستمع له ، وان كان المستمعون من الكلي المشكك الذي يتباين كثرة وقلة ، وأخبرت آية البحث عن تسخير الذين كفروا النعم لمحاربة الإسلام ، بينما أخبرت آية السياق عن فضل الله عز وجل بفضح المنافقين ، وخزيهم .
وقد المؤمنون يرجون أموراً :
الأول : فضح المنافقين والمنافقات باسمائهم في التنزيل أو بالوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الإخبار عما سيفعله الكفار والمنافقون من المكر والخطط ليكون المؤمنون في حيطة وحذر منهم .
الثالث : عواقب الأمور ، ومصاديق بطش الله بالذين كفروا عاجلاً ، فتفضل الله عز وجل بآية البحث والسياق لذكر هذه الأمور على نحو الإجمال وأخبر عن عدم إخبارهم عن التفاصيل والأسماء بقوله تعالى [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ] ( ) .
المسألة الرابعة : لقد أخبرت آية السياق عن إجتباء واختيار الله عز وجل للأنبياء من بين الناس بفضل ولطف منه سبحانه ، وفيه دعوة للناس جميعاً للتصديق بهم خاصة وأنهم جاءوا بالمعجزات من عند الله عز وجل والتي تتضمن التحدي ، والأمر الخارق للعادة ، ولكن الذين كفروا جحدوا بالرسالات والنبوات وامتنعوا عن التصديق بها ، وأنكروا التنزيل .
لقد تمنى المسلمون إخبارهم عن خسارتهم في معركة أحد قبل وقوعها، وكيف أنها لن تكون مثل معركة بدر والنصر العظيم الذي حققه المسلمون فيها ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
لقد قاس شطر من المسلمين بالأولوية انهم سينتصرون في معركة أحد لنصرهم في معركة بدر وهم أذلة ضعفاء قليلو العدد والعدة والسلاح ، وقد أنعم الله عز وجل عليهم بالنصر في بدايات معركة أحد , وهمّ جيش الذين كفروا يومئذ بالإنسحاب والهزيمة ، وهرولت النساء نحو النوق لركوبها والسبق في الإنهزام خشية السبي ، ولكن الرماة المسلمين تركوا مواضعهم مع توصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالبقاء في مواضعهم على كل حال .
وعن ( البراء بن عازب قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد، وكانوا خمسين رجلا، عبدالله بن جبير، قال: ووضعهم موضعا وقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
قال البراء : فهزموهم : فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن) ( ).
المسألة الخامسة : من خصائص الحياة الدنيا أنها دار الإنعام والهبات من عند الله عز وجل للناس جميعاً ، وليس من إنسان إلا ويأتيه من فضل الله أضعاف ما يحتاج إليه مع التباين في الأثر والعاقبة ، إذ تكون النعم للمؤمن مادة ووسيلة لطاعة الله وسبيلاً للأجر والثواب ، بينما يسخرها الكافر في معصية الله ، فتكون وبالاً عليه وسبيلاً في زيادة آثامه بلحاظ أن ذات الكفر إثم , وأن إرتكاب أي معصية إثم آخر ، ومناسبة لتدوين الملائكة الذنوب ، قال تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] ( ) .
ومن معاني ذم الذين كفروا في آية البحث والمقاصد السامية له بعث النفرة في النفوس من الكفر ، وتحذير الذين كفروا من الإسراف في مسالك المعصية , ومن تسخير نعمة العافية والمال والجاه لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتجييش الجيوش الكبيرة لغزو المدينة وإرادة الإبادة الجماعية.
ومن معانيها حسب القانون الدولي والمادة الثانية من الإتفاقية منع الإبادة الجماعية التي وافقت عليها الأمم المتحدة سنة 1948 وتم تنفيذها عام 1951 صدق الإبادة الجماعية على الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو أثينية أو عنصرية أو دينية ، نعم كان العالم مليئ بحوادث القتل والهجوم والغزو .
فجاءت بعثة الأنبياء لتنزيه الأرض منها وأن لزم الأمر الدفاع والقصاص ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( )، لتترشح علوم التنزيل والوحي وموافقة العقل بصيغة قوانين في هذا الزمان تنبذ الإبادة وتمنع من القتل الجماعي المتعدد .
إن بعثة الأنبياء شاهد على حب الله عز وجل للناس جميعاً ، وهي دعوة سماوية متجددة لهم للإنتفاع من هذا الحب والرأفة من عند الله ، فاستجاب المسلمون في كل زمان من البعثة النبوية ، وتوالى ارسال الرسل من عند الله بالكتاب والوحي ، قال تعالى [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ).
وهل هو من الإملاء الذي تذكره آية البحث أم أن القدر المتيقن من الآية هو النعم التي تفضل الله بها على الكفار مجتمعين ومتفرقين ، والمختار هو الثاني ، إذ أخبرت آية البحث عن كفر وجحود الذين كفروا بالنبوات فصار الإملاء عليهم بالنعم وبالاً عليهم .
وهل يشمل الإملاء المذكور في آية البحث ما أنعم الله عز وجل به على الآباء ، الجواب نعم خاصة مما له أثر ونفع على الأبناء بالإرث والجاه ونحوه ، لبيان قانون وهو أن الحياة والموت سبب لتنزيه الأرض من الكفر ، ومادة لإصلاح المجتمعات .
ومن معاني قوله تعالى [يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ] ( ) هداية الابن للإسلام مع كون أبيه كافراً .
وقد دخلت طائفة من شباب قريش الإسلام مما سبب حنق وسخط آبائهم الكفار ، وإصرارهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتمر الأيام ، ويتوسل بعضهم بابنه لطلب الأمان له من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيمنحه إياه .
كما في أبي جندل الذي كان أبوه سهيل بن عمرو رئيس وفد قريش في عقد صلح الحديبية إذ جاء أبو جندل واسمه العاص وقيل عبد الله ، وهو يرسف بقيوده التي قيده بها أبوه ليمنعه من الهجرة فرمى بنفسه بين أظهر المسلمين .
وكان سهيل قد طلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد لهم كل من يأتيهم من جهة المشركين مسلماً بعد الصلح ، وحينما رآى سهيل ولده قال :
(هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إِليّ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ” إنا لم نمض الكتاب بعد ” ، قال: فوالله إِذن لا أصالحك على شيء أبداً .
قال النبيُ صلى الله عليه وآله وسلم: ” فأجزه إِلي ” ، قال: ما أنا بمجيزه لك . قال : بلى فافعل . قال: ما أنا بفاعلِ. قال مكرز: بلى، قد أجزنا ذلك.
قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أُرَدُ، إِلى المشركين، وقد جئت مسلماً؛ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان عُذبَ في الله عذاباً شديداً.
زاد ابن إسحاق: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ” يا أبا جندل، اصبر، واحتسب؛ فإِنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً “)( ).
وكان ابنه الآخر عبد الله بن سهيل بن عمرو خرج مع أبيه إلى معركة بدر مع الكفار ، وعندما نزل الجمعان في ميدان معركة بدر فرّ إلى معسكر المسلمين والتحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقاتل معه ، بينما اسر أبوه في ذات المعركة .
وكانت ابنته سهلة بنت سهيل قد هاجرت مع زوجها حذيفة بن عتبة بن ربيعة إلى الحبشة بدينهما وايمانهما ، وكذا ابنته الأخرى أم كلثوم بنت سهيل إذ هاجرت إلى الحبشة مع زوجها أبو سبرة بن الحارث والذي شهد بدراً ( ).
وكان أخوه حاطب بن عمرو قد أسلم قبل دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم وهاجر إلى الحبشة ثم شهد بدراً .
ليطلب سهيل بن عمرو من ابنه أن يستأمن له من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فآمنه وخرج سهيل مع المسلمين إلى حنين وأعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة من الإبل ، وحسن اسلامه ومات واستشهد يوم مرج الصفر ، ويقال يوم اليرموك .
وكان أخوه الآخر سهل بن سهيل من مسلمة الفتح .
وتوفى أبو جندل في طاعون عمواس بالأردن في السنة الثامنة عشرة للهجرة ولم يترك عقباً ، وأختلف في أوان موت أبيه سهيل بن عمرو على أقوال :
الأول : استشهد في معركة مرج الصفر في الشام سنة ثلاث عشرة للهجرة أيام أبي بكر .
الثاني : استشهد يوم اليرموك في السنة الخامسة عشرة للهجرة في الشام .
الثالث : مات في طاعون عمواس بمرج الصفر في السنة الثامنة عشرة للهجرة ، قال ابن حجر (انه الأكثر وأنه مات بالطاعون ) ( ).
وأستشهد ولده (عبد الله بن سهيل بن عمرو يوم اليمامة سنة اثنتي عشرة، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة) ( ).
المسألة السادسة :قد يطمع الذين كفروا بوجود المنافقين بين ظهراني المسلمين ، ويحضرون معهم في الصلاة فيبعثون لهم أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والمال التي هم عليها ويحسب الذين كفروا هذا الأمر منفعة لهم ، ووسيلة لإختيار كيفية الهجوم على المدينة وغزوها والسبيل إلى قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعرفة الثغرات في حراسته ، وتفاصيل الحياة اليومية في المسجد النبوي .
فتفضل الله عز وجل وأنزل آية السياق للإخبار بأن الله عز وجل يمتحن المسلمين بما يفصل ويميز المؤمن ويفضح المنافق ، وفي التنزيل [أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا] ( ) .
فترى المنافقين يمتنعون عن معاونة المؤمنين , ويبخلون ولا ينفقون في سبيل الله ، وإذا جاء الخوف من قبل العدو , وصار المشركون قريبين من قريبين من المدينة أظهروا الخوف والفزع , وأظهروا الملامة للمؤمنين فحتى في حال الأمن والرخاء يقوم المنافقون بالتعريض بالمؤمنين ، وطلب حصة إضافية من الغنائم ، والإكثار من الشكوى بدل الإعانة والنصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإنقطاع إلى العبادات والدعاء .
المسألة السابعة : لقد ذكرت آية البحث الذين كفروا بينما ذكرت آية السياق الخبيث كاسم جنس ، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، فيشمل الخبيث المنافق إلا أن يقال أن القدر المتيقن من الخبيث هم خصوص المنافقين والذين يدعون الإيمان ظاهراً مع إبطانهم الكفر ، وهو بعيد لأصالة الإطلاق .
وهل من وجوه التمييز بين الطيب والخبيث نوع تلقي الإملاء من عند الله ، الجواب نعم ، فان الخبيث والذي في قلبه مرض يتخذ من هذا الإملاء مادة للإضرار بالإسلام , والإمتناع عن الواجبات العبادية ، بينما يجعلها المؤمن وسيلة مباركة للشكر لله عز وجل .
وعن (أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض . جاء منهم الأحمر ، والأبيض ، والأسود ، وبين ذلك والسهل ، والحزن ، والخبيث ، والطيب) ( ).
لقد ذكرت آية البحث الإملاء والنعمة والفضل من عند الله عز وجل وتضمنت آية السياق الأمر من عند الله للمسلمين والناس بالإيمان بالله ورسوله .
فهذا الإيمان واجب على الناس جميعاً ، وهو من مصاديق الشكر لله عز وجل على نعمة الخلق والخلافة في الأرض وتوالي النعم ، وفي التنزيل [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ] ( ) (عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الإِيمان نصفان : فنصف في الصبر ، ونصف في الشكر) ( ) .
ومن الإعجاز الغيري لآية السياق تقسيم الناس إلى قسمين بينهما تضاد، وهما :
الأول : الطيب .
الثاني : الخبيث .
وتبين قدرة الله عز وجل على الفصل بينهما في الحياة الدنيا بضروب الإبتلاء ، وبما يظهر في عالم الأقوال والأفعال ، وفي التنزيل [وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ]( ).
وهل آية البحث من أسباب وسبل التمييز بينهما ، الجواب نعم ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : حتى يميز الله الخبيث من الطيب بآية البحث .
الثاني : حتى يميز الله الخبيث من الطيب بآيات القرآن .
الثالث : حتى يميز الله الخبيث من الطيب بتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لآيات القرآن .
الرابع : حتى يميز الله الخبيث من الطيب بنصرة الطيبين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتأييد المنافقين للذين يحاربونه والتنزيل .
الخامس : حتى يميز الله الخبيث من الطيب في الأقوال والأفعال .
السادس : حتى يميز الخبيث من الطيب في المعاملات .
السابع : حتى يميز الخبيث من الطيب عند قيام المشركين بغزو المدينة ويكون الخبيث على فرق :
الأول : الذين كفروا وقاموا بالهجوم على المدينة أو الهجوم عليها وتطويقها وحصارها كما في معركة الخندق .
الثاني : الفاسقون الذين يشمتون بالمؤمنين ويتمنون إلحاق الضرر بهم .
الثالث : المنافقون والذين في قلوبهم مرض والذين يبثون الأراجيف في المدينة ويدعون جهرة أو خفية للتخلف عن نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : حتى يميز الخبيث من الطيب عند النفير ، ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع .
وفي ذم المنافقين ورد قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
ولم يرد لفظ [أَطَاعُونَا] و[وَقَعَدُوا ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وكأن الآية تتضمن الإخبار عن إنقطاع قول المنافقين هذا ، والبشارة عن تحقق النصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، إذ يتعلق موضوع الآية أعلاه بغزو المشركين للمدينة في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة .
ولم تمر الأيام والسنين حتى تم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ، نعم ورد قول خبيث آخر للمنافقين بعد فتح مكة كما في قوله تعالى [وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ] ( ) .
مما يدل على عدم إنقطاع النفاق ، وهو من إعجاز القرآن وبقاء مصاديق آياته جلية قبل وبعد الفتح.
إذ نزلت الآية أعلاه عند تهيئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للخروج إلى تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة ، والتي لها أسماء متعددة وهي :
الأول : غزوة تبوك .
الثاني : غزوة العسرة .
الثالث : غزوة الحر ، ولم يقع فيها قتال ، لبيان أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ليس للغزو والهجوم والقتال إنما له منافع كثيرة منها :
الأول : بيان فضل الله في إزدياد عدد المسلمين .
الثاني : استجابة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الخروج والدفاع .
الثالث : بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار .
الرابع : منع الكفار من غزو المدينة وقتل الرجال وسبي النساء ، ليكون من معاني قوله تعالى [لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ] ( ) الوارد في الآية التالية أن غزو المشركين المسلمين قتال وبطش وسبي ، بينما غزو المسلمين للكفار على فرض وقوعه بهم رحمة بهم ، ونوع طريق , وواقية من غزوهم المسلمين .
المسألة الثامنة : أختتمت آية البحث بالإخبار عن العذاب المهين للذين كفروا بينما أختتمت آية السياق بالبشارة للمؤمنين بقيد التقوى والخشية من الله عز وجل بقوله تعالى [وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ) .
وفيه دعوة للمسلمين للإقامة في منازل الإيمان ، وترغيب للناس جميعاً بالهداية , وتعريض وذم للذين كفروا من جهات :
الأولى :دعوتهم لترك الجدال والمراء .
الثاني : وجوب الإمتناع عن الظلم للذات والغير .
الثالث : حث الذين كفروا على الإنتفاع الأمثل من الإملاء والفضل من عند الله عز وجل .
الرابع : جذب الذين كفروا إلى منازل التوبة والإنابة ، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر( )) ( ).
(وأخرج البيهقي في الشعب عن رجل من الصحابة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما من إنسان يتوب إلى الله عز وجل قبل أن تغرغر نفسه في شدقه إلا قبل الله توبته) ( ).
فمن خصائص القرآن أن لغته في الذم والتوبيخ للذين كفروا إنما هي لهدايتهم واصلاحهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
المسألة التاسعة : أخبرت آية السياق عن علم الله عز وجل بمطلق الغيب, ولا يحيط به المسلمون علماً , لقوله تعالى [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ] ( ) .
لبيان أن الله عز وجل لا يخبر المسلمين عن أسماء المنافقين في التنزيل ، إنما هم الذين يكشفون عن أنفسهم بالإختبار والإبتلاء من جهات :
الأولى : الإختبار للناس جميعاً .
الثانية : الإختبار والإبتلاء للمسلمين والمسلمات .
الثالثة : الإبتلاء والامتحان لخصوص الذين كفروا والمنافقين .
ومن اللطف الإلهي بعدم ذكر أسماء المنافقين ، ومن هو خبيث في سريرته وفعله , وقد فتح الله سبحانه باب التوبة للناس جميعا ، ولا يعلم عدد المنافقين الذين كفوا عن النفاق , والذين أصلحوا أنفسهم وكثرتهم إلا الله عز وجل .
ويبين قوله تعالى [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ] ( ) فضل الله على المسلمين والناس بالستر العام وصيرورة هذا الستر نوع طريق لترغيب الناس بالإيمان ، وباباً للإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل , ووسيلة للتدبر بنعم الله تعالى .
وهل هذا الستر من الإملاء الذي تذكره آية البحث ، الجواب نعم ، فهو أمر وجودي لما فيه من الحجب والتغطية رآفة من الله بالعباد، ومن أسماء الله الستّار والغفار إذ أن الستر إحسان من عند الله , وباعث على التوبة .
ومن الآيات في عالم الأسماء التي يختارها الناس لأبنائهم كثرة اسم (عبد الستار) في كل زمان ، فلا يقدر على ستر الناس وإخفاء عيوبهم ، ومنع الآخرين من إظهارها وصيرورتها حديث المجالس إلا الله عز وجل .
ومن صيغ المناجاة : يا ستار العيوب ، روى زيد بن وهب قال: خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يوم الجمعة فقال :
(الحمد لله الولي الحميد، الحكيم المجيد، الفعال لما يريد، علام الغيوب، وستار العيوب، وخالق الخلق، ومنزل القطر، ومدبر الامر، ورب السموات والارض، والدنيا والاخرة، وارث العالمين، وخير الفاتحين، الذي من عظم شأنه أنه لا شئ مثله. تواضع كل شئ لعظمته، وذل كل شئ لعزته، واستسلم كل شئ لقدرته وقر كل شئ قراره لهيبته، وخضع كل شئ من خلقه لملكه وربوبيته، الذي يمسك السماء أن تقع على الارض إلا باذنه، وأن تقوم الساعة ويحدث شئ إلا بعلمه.
نحمده على ما كان، ونستعينه من أمرنا على ما يكون، ونستغفره ونستهديه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ملك الملوك، وسيد السادات، وجبار السموات والارض الواحد القهار، الكبير المتعال، ذو الجلال والاكرام، ديان يوم الدين، ورب آبائنا الاولين.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله داعيا إلى الحق , وشاهدا على الخلق فبلغ رسالات ربه كما أمره ، لامتعديا ولا مقصرا.
وجاهد في الله أعداءه لا وانيا ولا ناكلا، ونصح له في عباده صابرا محتسبا، وقبضه الله إليه وقد رضي عمله، وتقبل سعيه، وغفر ذنبه، صلى الله عليه وآله.
اوصيكم عباد الله بتقوى الله، واغتنام طاعته ما استطعتم في هذه الايام الخالية الفانية وإعداد العمل الصالح لجليل ما يشفى به عليكم الموت، وآمركم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم، الزائلة عنكم، وإن لم تكونوا تحبون تركها، والمبلية لاجسادكم وإن أحببتم تجديدها، فانما مثلكم ومثلها كركب سلكوا سبيلا، فكأنهم قد قطعوه وأفضوا إلى علم، فكأنهم قد بلغوه، وكم عسى المجري إلى الغاية أن يجري إليها حتى يبلغها، وكم عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه، وطالب حثيث من الموت يحدوه) ( ).
المسألة العاشرة : أختتمت آية البحث بالوعيد للذين كفروا بقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ) بينما أختتمت آية السياق بالوعد الكريم للمسلمين والمسلمات بالأجر والثواب العظيم على إختيار الهدى والإيمان وعلى عمل الصالحات ، لبعث النفرة في نفوس الناس من الكفر ، وتنمية ملكة إزدراء مفاهيمه .
ثم يأتي بعدها ذكر الواقية وحسن العاقبة بحسن خاتمة الدنيا ومغادرتها بالإيمان إلى الخلود في النعيم .
وهل يتوجه الخطاب في خاتمة آية السياق في مفهومه إلى الذين كفروا بترغيبهم بالتوبة ، وجعلهم يدركون نعمة الإملاء من عند الله عز وجل عليهم ، الجواب نعم .
فمن خصائص الخطاب القرآني توجهه للناس جميعاً المسلم والكتابي والكافر ، وهو من عمومات قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) ويكون تقدير خاتمة آية السياق بلحاظ خاتمة آية البحث على وجوه :
الأول : أن تبتم واتقيتم فلكم أجر عظيم .
الثاني : لا تبقوا على الكفر فانه يحرمكم من الأجر العظيم .
الثالث : يا أيها الذين كفروا لكم عذاب مهين [وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ).
المسألة الحادية عشرة : من معاني الجمع بين خاتمتي الآيتين الإخبار بأن الدار الآخرة دار الحساب والجزاء ، وأن الله عز وجل يمنّ على الذين آمنوا بالثواب العظيم ، ويُنزل العذاب الأليم بالذين كفروا ، فجاءت آية البحث بصيغة الإنذار والوعيد للذين كفروا ، وخاتمة آية السياق بالبشارة والوعد الكريم للمؤمنين والمؤمنات ، وفي التنزيل [وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ] ( ).
ومن خصائص القرآن تضمنه لقانون البشارة والإنذار في الدنيا والآخرة ، نعم البشارات والإنذارت التي تتعلق بعالم الآخرة أكثر من التي تخص أيام العبد في الدنيا لأن الآخرة هي دار الخلود ، قال تعالى [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ] ( ).
وفي الآخرة مواطن الحساب والجزاء والثواب ، وهذا القانون يصاحب الوجود الإنساني من أيام أبينا آدم إلى يوم القيامة ، قال تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وجاء الوعيد في خاتمة آية البحث بصيغة الغائب بقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( )وفيه نوع سكينة للمؤمنين لما يدل عليه بأن العذاب لغيرهم ، بينما أختتمت الآية التالية بالجزاء الحسن , وبصيغة الخطاب [فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ) .
وفيه نكتة وهي ترغيب المسلمين والمسلمات بتلاوة القرآن , وجعلهم يرون في هذه التلاوة الغبطة وما يبعث على الرضا الظاهر والباطن ، ليترشح عنه حال الطمأنينة وحسن العشرة ، ونقاء المعاملة ، وصلاح المجتمع ، والترغيب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ملازمة الوعد من الله عز وجل للمسلمين والمسلمات في الحياة الدنيا ، وظهوره جلياً في آيات القرآن ، وهو من أسرار بقاء القرآن سالماً من التحريف والتبديل والتغيير إلى يوم القيامة .
لقد وصفت آية البحث عذاب الذين كفروا بأنه مهين , وفيه ذل وهوان لهم ، ولم تعين الآية زمان هذا العذاب ، وهل هو في عالم الدنيا أو الآخرة ، ولكن ذات آية البحث والآيات الأخرى تدل على أن المراد العذاب في الآخرة ، إذ إبتدأت آية البحث بالإخبار عن إملاء الله عز وجل النعم للذين كفروا .
وهو لا يتعارض مع إبتلاء وعذاب الذين كفروا في أيام الحياة الدنيا ، وصيرورة أيام حياتهم نكداً ، وملاقاتهم لبعض الوقائع والأحداث التي تنغص عليهم النعم , وتجعلهم في كمد ليدركوا معها الحاجة إلى رحمة الله ، ورجاء محو بعض ضروب الإبتلاء .
أما المؤمنون فان الأجر العظيم يأتيهم بالخلود بالنعيم إذ يفوزون في الآخرة باللبث الدائم في الجنة ، وهو لا يمنع من تجلي مقدمات هذا النعيم في أيام الحياة الدنيا .
وهل ذات الإيمان من الأجر ، الجواب نعم ، فان الإقامة على الإيمان والسلامة من إرتكاب المعاصي , من الجزاء والثواب من عند الله ، وهو باب ونوع طريق للثواب الأخروي ، ومن مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
الوجه الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ابتدأت كل من آية البحث والسياق بقوله تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ] ومن إعجاز نظم القرآن أن هذا اللفظ لم يرد في القرآن إلا في هاتين الآيتين لبيان الخصوصية في موضوع كل من الآيتين ولا تفصل بينهما إلا آية واحدة ، ولتأكيد قانون [لاَ يَحْسَبَنَّ] الخاص بالذين كفروا ومعاني الذم التي يتضمنها .
وتحتمل النسبة بين المقصودين في الآيتين وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي ، فالذين كفروا هم أنفسهم الذين يبخلون بما آتاهم الله .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وفيه شعبتان :
الأولى : الذين كفروا الوارد ذكرهم في آية البحث أعم وأكثر من الذين يبخلون بما آتاهم الله .
الثانية : الذين يبخلون أعم وأكثر من الذين كفروا .
الثالثة : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الرابع : نسبة التباين بين الفريقين .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثاني أعلاه , وفيه شاهد على علم الله عز وجل بأفعال العباد على نحو الدقة ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ] ( ).
ليكون من مصاديق قوله تعالى [لِيَزْدَادُوا إِثْمًا]لحوق الإثم بالذين كفروا من وجوه :
الأول : ترك الكفار الإيمان ، وهو واجب عليهم مجتمعين ومتفرقين ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
وبين الإيمان والعبادة عموم وخصوص مطلق ، فالعبادة أعم ، إذ أن الإيمان إعتقاد والعبادة اعتقاد وعمل ، وكأنه مماثل لإجتماع الروح والجسد عند الإنسان ، ولا تصح العبادة من غير إيمان لشرط قصد القربة إلى الله فيها.
الثاني : تفريط الذين كفروا بالإيمان وجعلهم له ثمناً وعوضاً على الكفر، مع أن الكفر موضوع لا يستحق الشراء والعوض لأنه ضرر محض ، وشر كله .
لقد أحب الله عز وجل بني آدم وجعل الإيمان حلية لهم ، وزينّه في قلوبهم ، وصيرة قريباً منهم ليس بينهم وبينه حجاب أو حاجب ، قال تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ] ( ).
ولكن الذين كفروا جعلوا الإيمان ثمناً للكفر لقوله تعالى في الآية السابقة [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] ( ).
ومن خصائص الشراء وجود أطراف فيه ، وهي :
أولاً : البائع .
ثانياً : المباع .
ثالثاً : قيمة وثمن المبيع .
رابعاً : المشتري .
خامساً : دفع المشتري للبدل والثمن وقبض البائع له .
ولا يصح بيع الإيمان ، وليس من ثمن له ولا يوهب ، ولا يقبضه أحد أو جهة ، لذا فان قوله تعالى [الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ] ( ) يدل على قيام الكافر بالبيع والشراء مع نفسه والشيطان ، بأن ترك الواجب وفرط بالإيمان المصاحب له بالفطرة ليجلب لنفسه الكفر الذي هو عرض خارجي غير موجود أو ممزوج مع خلقه الإنسان ، لذا تنفر منه النفوس ، حتى أنك ترى الكافرين بعضهم يكره بعضاً ، وتحدث بينهم الخصومة وتدنو منهم الآفات والفتن .
فبين الإيمان وجعله عوضاً سبب لإزدياد آثام الذين كفروا ، وهل تشمل الآية الذين تابوا وأنهم يؤاخذون على شرائهم الكفر قبل توبتهم.
الجواب لا ، إذ أن التوبة ماحية للذنوب ، وفيها تكفير عن الآثام (عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منبره يقول يا ايها الناس توبوا إلى الله عز وجل قبل ان تموتوا وبادروا بالاعمال الصالحة وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية توجروا وتحمدوا وترزقوا .
واعلموا ان الله عز وجل قد فرض عليكم الجمعة فريضة مكتوبة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة من وجد إليها سبيلا فمن تركها في حياتي أو بعدي جحودا بها واستخفافا بها وله امام عادل أو جائر فلا جمع الله له شمله الا ولا بارك الله له في امره الا ولا صلاة له الا ولا وضوء له الا ولا زكاة له الا ولا حج له الا ولا وتر له حتى يتوب فان تاب تاب الله عليه ، الا ولا تؤمن امرأة رجلا ، الا ولا يؤمن أعرابي مهاجرا ، الا ولا يؤمن فاجر مؤمنا الا ان يقهره سلطان يخاف سيفه وسوطه) ( ).
الثالث : بقاء الكفار في مستنقع الكفر ، وإصرارهم على عدم مغادرة منازلهم ، ويظهر هذا الإصرار بالجحود بالنعم والإمتناع عن أداء العبادات.
من خصائص خلافة الإنسان في الأرض وعمومات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) أن كل نبي من الأنبياء يأتي بفريضة الصلاة وواجبات عبادية أخرى (عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأمانة ثلاث : الصلاة ، والصيام ، والغسل من الجنابة) ( ).
وعن ابن عباس في قوله تعالى [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا] ( ) (قال : الامانة الفرائض ، عرضها الله على السموات والأرض والجبال إن أدُّوها أثابهم ، وإن ضيعوها عذبهم ، فكرهوا ذلك واشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيماً لدين الله أن لا يقوموا بها ، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها . وهو قوله { وحملها الإِنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } يعني غراً بأمر الله ) ( ).
لقد جعل الله عز وجل حواس الإنسان أمانة عنده ونعمة حاضرة ، يجب إلا يسخرها في المعصية ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل الحواس مما تذكره آية البحث من الإملاء .
الثانية : عل فقدان الإنسان حاسة من الحواس لأن الله يعلم بأنه يضيعها أو يسخرها في غير مرضاته أو أن فقدانها سبب لصلاح العبد ، وفي التنزيل[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
أما المسألة الأولى ، فالجواب نعم ، فكل حاسة نعمة متجددة في كل ساعة بمعنى كل ما تبصره في أي لحظة هو من الإملاء في نعمة البصر ، وكذا ما نسمعه إلى جانب نعمة التداخل بين نعمة البصر والسمع والحواس الأخرى ، ولكن الذين كفروا يزدادون إثماً بتسخير هذه النعم في الجحود والإقامة على الكفر .
أما المسألة الثانية فالجواب لا ، فلا ملازمة بين فقدان الحاسة وبين إعمالها في المعصية ، ولكنه من الإبتلاء في الدنيا ، وفيه موعظة للناس جميعاً.
الرابع : إعراض الذين كفروا عن الآيات والبراهين الدالة على التوحيد، وما جاء به الأنبياء من عند الله ، وإن قلت قد أختتمت النبوة بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، الجواب نعم هذا صحيح ، ولكن معجزات الأنبياء السابقين باقية بين الناس إلى يوم القيامة ، وهو من فضائل الصبغة العقلية في إعجاز القرآن ، إلى جانب الآيات الكونية التي تطل على كل إنسان وتداهمه في بيته وعمله وصلاته مع الأرحام والأصدقاء وغيرهم وحياته اليومية ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ] ( ).
ولم يرد لفظ [سَنُرِيهِمْ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ويدل قوله تعالى [حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]تجلي البراهين إلى يوم القيامة والإحتجاج بها على الإنسان حال دخوله القبر .
إعجاز الآية الذاتي
من خصائص القرآن والتنزيل مطلقاً التذكير بنعم الله عز وجل على الناس ، وهو خطاب للعقول والأفهام والجوارح ، إذ تتغشى النعم الإلهية الناس جميعاً ، قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وجاءت الآية أعلاه بذكر النعم على نحو التنكير والإجمال لإفادة الكثرة والتعدد في ضروبها وموضوعها وأحكامها مع تقييدها بأنها من عند الله عز وجل .
ويشمل الخطاب في الآية أعلاه الناس جميعاًٌ ، وهي الآية الثامنة عشرة من سورة النحل ، وقد ابتدأت لغة الخطاب في السورة من الآية الرابعة منها بقوله تعالى [خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ* وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ *وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ]( ) وذكرت هذه الآيات نعم الله عز وجل في وسائط النقل وفي تسخير الشمس والقمر ، ونزول المطر ماء مباركاً من السماء ، ونعمة الأنهار وامكان انتقال الفرد والجماعة للعيش بضفافها ، والتنعم بالرزق وبعد قوله [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
استمرت الآيات بذات صيغة الخطاب للناس في أربع آيات أخرى ثم تنتقل الآيات من سورة النحل إلى ذم الذين كفروا وإصرارهم على الجحود وأظهارهم الإستكبار في تلقي الدعوة إلى التوحيد .
وتؤكد آية البحث على قانون توالي على النعم الناس ومنهم الذين كفروا ، وقيل أن الإملاء للذين كفروا (استدراج ليكتسبوا الإثم) ( ).
والمختار أنه ليس استدراجاً محضاً ، إنما الذين كفروا يسخرون النعم الإلهية في المعصية وأسباب الضلالة بسوء إختيارهم .
لقد أكرم الله عز وجل الناس بالنعم العامة والخاصة ، ومن خصائص خلافة الإنسان في الأرض الإملاء والفضل المتوالي من عند الله على الناس مجتمعين ومتفرقين ، وتصاحب النعم الإلهية الإنسان طيلة أيام حياته وإلى حين الوفاة .
وتبعث كل نعمة الإنسان على الشكر لله عز وجل ، ولكن الذين كفروا استكبروا وأصروا على الجحود وامتنعوا عن التدبر في النعم ولزوم تسخيرها في مرضاة الله ، فصارت وبالاً عليهم ، وسبباً للإثم وترتب الذنوب عليهم وفي التنزيل [الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا]( ) .
وتبين آية البحث قانوناً وهو أن المدار في الخير والنفع العام ليس بخصوص الدنيا وحدها إنما يشمل عالم الآخرة ، قال تعالى [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وإبتلاء واختبار وأقام الحجج والبراهين للناس لتقريبهم إلى منازل الهدى.
وتفضل عليهم جميعاً بالرزق واليسر في قضاء الحاجات ، وتحقيق الرغائب وبلوغ الآمال ولو على نحو الموجبة الجزئية .
لقد تضمنت آية البحث الإنذار من الآثام وتحمل أوزارها ، وأخبرت عن إتصاف الكفار بخصوصية وهي إزدياد آثامهم وذنوبهم بسبب جحودهم بالنعم ، وإنفاقها وتضييعها في المعاصي لإنذارهم من محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنفاقهم الأموال في تجهيز الجيوش للهجوم على المدينة وغزوها ، وأختتمت الآية بالإخبار عن قانون وهو نزول العذاب الأليم يوم القيامة بالذين كفروا بسبب كفرهم واسرافهم على أنفسهم , وعدم التدارك بالتوبة والإنابة .
ويمكن تسمية آية البحث آية [إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ] ( ) وقد ورد هذا اللفظ في آية البحث مرتين ، ولم يرد في آية أخرى من القرآن .
إعجاز الآية الغيري
تتضمن آية البحث ذم الذين كفروا ، وتؤكد قانوناً وهو القبح الذاتي للكفر ، وأن الكافرين لا يجلبون لأنفسهم إلا الضرر الفادح في النشأتين ، فتأتيهم النعم من عند الله مع دعوتهم بالآيات الكونية ودلائل التوحيد ، وبعثة الأنبياء ، ونزول الكتب السماوية لتسخير هذه النعم في طاعة الله عز وجل وإتخاذها حرثاً وزرعاً كريماً لإدخار الحسنات لعالم الحساب والجزاء الدائم ، ولكن الذين جحدوا بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، وأنكروا معجزات الأنبياء إتخذوا هذه النعم وسيلة ومادة لمحاربتهم علانية والسعي لقتلهم وأصحابهم وانكار معجزاتهم .
فتفضل الله عز وجل ونصر أنبياءه والمؤمنين بآية البحث لتكون حرباً على الكفر والجحود .
لقد أخبرت آية البحث عن إمهال الله عز وجل للذين كفروا بالمد في آجالهم وطول أعمارهم ، ولكنهم اتبعوا الشيطان فيما يمنيهم به من الحرب على الإسلام وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآل وسلم ، قال تعالى[يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا] ( )
وفي الآية حذف ، والمراد أن الإملاء من عند الله للذين كفروا ، إنما هو لفعل الصالحات ونشر شآبيب الإحسان ، وليتوبوا إلى الله عز وجل ، ولكنهم تمادوا في الغي والضلالة فجاءت آية البحث ، دعوة للمسلمين للصبر على الأذى ، وعدم الإفتتان بالذين كفروا وأموالهم .
وما عندهم من زينة الدنيا وتسخيرهم لها في الملذات ، فيمتنع المؤمن عن أكل الحرام وأن بقي في حال من الفقر والجوع إذ تكمن السعادة في التحلي بسنن التقوى والخشية من الله ، وفي التنزيل [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ] ( ) بينما يقوم الكافر بكسب المال بالباطل ، ويأكل الربا ، ولا يحترز من الحرام .
فجاءت آية البحث مدداً للمسلمين والمسلمات للصبر والرضا بما رزقهم الله والشكر له سبحانه على نعمة الإمتناع عن الحرام ، وهي باب لتفقه الناس جميعاً في أحوال الدنيا وأن الإملاء والإمهال من عند الله خير محض ، ونفع لصاحبه وغيره ، ولكن الذين كفروا ولم يؤمنوا بالنبوة والتنزيل لم يشكروا الله على نعمه ، واتخذوها وسيلة لإرتكاب المعاصي ، وهي على أقسام :
الأول : المعصية التي يرتكبها الكافر حتى في حال فقره .
الثاني : الآثام والمعاصي التي يفعلها الكافر بما عنده من النعم والأموال والجاه .
الثالث : الآثام التي تأتي للجماعة والطائفة من الكفار لأتيانهم ذنب مشترك ، وتآزرهم فيه ، كما في تحشيدهم الجيوش لغزو المدينة ، وإصرارهم على القتال في معركة بدر وأحد والخندق ، وفي التنزيل [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ] ( ).
ومن الشواهد أن المعارك الأولى للإسلام كانت بتدبير وتحريض من أصحاب الأموال والجاه من قريش ، وبرئاسة منهم للجيوش التي زحفت على المدينة ، وفي كل معركة كانت هناك دعوة من بين صفوف الذين كفروا للتدارك ومنع القتال لتكون حجة ذاتية عليهم ، وهو الذي يدل عليه مفهوم قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) والوارد بخصوص معركة بدر في الآية(41) من سورة الأنفال والمتعلق بمعركة أحد في الآية (155) و(166) من سورة آل عمران.
وصحيح أن المراد من معنى اللقاء في الآيتين أعلاه أعم من الحصر اللفظي والدقة العقلية فيه ، إذ أنه يشمل ساعات المبارزة والقتال إلا أنه يدل على موضوعية حال اللقاء وتقابل الصفين وإحتمال عدم وقوع قتال بينهما ، وفيه إقامة للحجة على الذين كفروا بلحاظ أن جمع الجيوش والإنفاق عليها ، وزحفها إلى مشارف المدينة المنورة إنما هو من المدّ والإمهال من عند الله والذي صار وبالاً على الذين كفروا .
وتدعو الآية الناس إلى معرفة علل الإثم والوزر الذي يلحق الذين كفروا سواء بأقوالهم أو أفعالهم لما فيها من الجحود والضلالة .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الشكر له سبحانه , وهو شاهد على مقدمات العصمة من الكفر , ورزق الله كل مسلم ومسلمة القيام بالشكر لله سبحانه , والنطق بالحمد له سبحانه عدة مرات في اليوم والليلة في الصلاة , وهذا الشكر القولي والفعلي لله عز وجل متجدد كل يوم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ) ليكون المؤمنون في عباداتهم داعية للناس إلى الإمتناع عن الكفر بالله وملائكته ورسله وكتبه .
وعن مسالك الضلالة وما فيها من الآثام والذنوب ,ويتلو المسلم آية البحث على نحو الوجوب أو الندب ، ليتعظ الناس جميعاً ويدركوا قوانين من الإرادة التكوينية , منها :
الأول : قانون توالي النعم من عند الله عز وجل على الناس .
الثاني : قانون الملازمة بين الإيمان والإملاء والفضل من عند الله عز وجل .
الثالث : قانون صيرورة النعم التي تأتي للذين كفروا بلاء عليهم .
الرابع : قانون نزول آيات الإنذار للذين كفروا رحمة بهم وبالناس جميعاً .
الخامس : قانون حاجة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول آيات القرآن .
السادس : قانون الكفر سبب لزيادة الآثام .
السابع : قانون إلحاق الكفار الضرر بأنفسهم , قال تعالى [ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ] ( ) .
الثامن : قانون شدة عذاب الذين كفروا في الآخرة .
ومن إعجاز آية البحث أنها ترغيب للناس جميعاً بالتوبة والإنابة ، ودعوة للصلاح والإصلاح ، وباعث على الإحتراز من فعل السيئات، وكل نعمة وإملاء من الله عز وجل إحسان وفضل ، وقال سبحانه [هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ] ( ) .
والله عز وجل [غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ) ، إنما يريد الله سبحانه من الناس أن يحسنوا إلى أنفسهم ليتوالى عليهم الإحسان ويثابوا عليه .
ومن معاني الآية أعلاه وجوه :
الأول : هل جزاء الإحسان من الله إلا الإحسان إلى أنفسنا بالإقرار بالتوحيد ، والتصديق بالرسالات والكتب السماوية المنزلة .
الثاني : هل جزاء الإحسان لأنفسنا إلا الأجر والثواب من عند الله عز وجل .
(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { هل جزاء الإِحسان إلا الإِحسان ( )وقال : هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : يقول : هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة ) ( ) .
الثالث : هل جزاء الإملاء من عند الله إلا الإيمان والصلاح .
الرابع : هل جزاء الإحسان من الله إلا الإحسان للناس والتراحم فيما بينهم .
(عن جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يرحم الله من لا يرحم الناس ) ( ).
(عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : ((والذي نفسي بيده، لا يضع اللّه رحمته إلا على رحيم. قالوا: يا رسول اللّه، كلنا يرحم. قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه خاصة، حتى يرحم الناس كافة) ( ).
الخامس : هل جزاء إمهال الله لكم إلا التقوى بلحاظ كبرى كلية وهي أن هذا الإمهال إحسان ولطف من عند الله .
الخامس : هل جزاء الإحسان من عند الله بالبشارة بالأجر والثواب إلا العمل الصالح ، وفي التنزيل [وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ).
وتبعث آية البحث المسلمين على العمل الصالح ، وكسب الحسنات ، والإحتراز من التفريط بالإملاء ، والنعم التي تأتي من عند الله .
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في كل فريضة من الصلوات اليومية الخمسة ،لتكون هذه التلاوة درساً وموعظة وشهادة تخرج من جامعة أصول وفروع الدين المصاحبة للمسلمين والتي ينهلون من دروسها كل يوم ، وتنفرد هذه الجامعة بأن موضوعها كلام الله ، وحصصها توليدية في نفعها وأثرها الخاص والعام ، وهذا العموم من أسرار القراءة الجهرية في صلاة الصبح والمغرب والعشاء ، إذ تساعد القراءة الجهرية على أمور :
الأول : حفظ آيات القرآن من قبل الذي يتلوها ، والذي يسمعها .
الثاني : القراءة الجهرية إحتراز من تحريف القرآن سواء عن عمد أو سهو.
الثالث : تطرد القراءة الجهرية الغفلة عن القارئ والمستمع والسامع .
الرابع : تساعد القراءة الجهرية في إستحضار الآيات بعد إنقضاء الصلاة ، وفي الأيام اللاحقة .
الخامس : القراءة الجهرية تنمية للذاكرة ، وتقوية للحافظة عند الإنسان .
السادس : إرادة تعظيم شعائر الله بالقراءة الجهرية ، وهو من عمومات قوله تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ( ).
السابع : التذكير بالصلاة وأركانها وواجباتها ووجوب قراءة القرآن .
الثامن : تلاوة القرآن الجهرية عصمة من الشيطان للقارئ والسامع وللمحل بأكثر مما يصل إليه صوت القارئ .
التاسع : القراءة الجهرية شاهد ودليل جلي على وحدة المسلمين وانتفاء الفرقة والخلاف بينهم ، وهي من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
العاشر : الإتعاظ من مضامين الآية التي تقرأ في الصلاة وما فيها من الأحكام وسنن الحلال والحرام ، وهو من عمومات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ومن خصائص الآية القرآنية صيرورة الذي يتلوها من جنود الله عز وجل لما فيها من الموعظة لذات القارئ ، وللمستمع والسامع وما يترشح عنها في عالم السلوك وأفعال الجوارح ، وذات الآية أيضاً من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) ، وهو من الإملاء للناس وتقريبهم إلى منازل الهدى .
ومن فضائل الآية القرآنية في المقام وجوه :
الأول : الآية القرآنية خير محض .
الثاني : خلو الآية القرآنية وتلاوتها من الأذى والضرر .
الثالث : ترتب الثواب والأجر على قراءة الآية القرآنية.
و (عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله عز وجل، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عِصْمَة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، لا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد، فاتلوه، فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول لكم [الم] ( ) حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر”)( ).
الرابع : كل بشارة وإنذار في الآية القرآنية رحمة ليست بمزجاة ( )، ولا منقطعة ، وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل .
الخامس : حضور الآية القرآنية في الوجود الذهني عند الإقدام على فعل لتبعث الترغيب بالعمل الصالح ، وتكون زاجراً نفسياً عن السيئات ، وتفضل الله وأخبر عن الملكة الذاتية عند الإنسان للفصل والتمييز وجلب المنفعة ودفع المفسدة كما في قوله تعالى [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( ).
للترغيب بالرقابة الذاتية ومراجعة فعل الجوارح والتدارك ، ومن خصائص الحياة الدنيا أنها دار التدارك ، قال تعالى [لَوْلاَ أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ] ( ) ولا يختص هذا التدارك بطائفة من الناس ، بل هو عام ويشمل البر والفاجر ، والمؤمن والكافر، أما المؤمن فانه يزداد بالتدارك إيماناً واكتنازاً للحسنات ، وأما الكافر فان التدارك وسيلة لتوبته وطريق لاستعانته بالإستغفار ، ومن فضل الله في نعمة التدارك أنها حاضرة عند الإنسان في كل ساعة من أيام حياته ، وهل هي من الإملاء الذي تذكره آية البحث ، الجواب نعم .
ويكون تدارك الذنوب اتباعها بالإستغفار والتوبة .
وتبين آية البحث الضلالة التي عليها الذين كفروا ، وما يترشح عنها من أسباب التهلكة في النشأتين وفيه دعوة للتفقه في الدين ، وإرتقاء في المعارف الإلهية .
ومن خصائص الآية القرآنية أنها مدرسة في المعرفة ، وفصل في جامعة يصاحب المسلم في كل أيام حياته .

الآية سلاح
لقد خلق الله عز وجل آدم وعلمه الأسماء كلها في الجنة قبل أن يهبط إلى الأرض مع إقامة الحجة على الملائكة والناس في عظيم نعمة تعليمه الأسماء ، وفي التنزيل [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ) ليأتي التكليف بعد التعليم وما فيه من أسباب الهدى والرشاد .
لقد خاطب الله عز وجل الملائكة في الآية أعلاه بصيغة الشرط [إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ) ويتصف الملائكة بالإنقطاع إلى عبادة الله عز وجل والتنزه عن الغفلة والنسيان ، ويكون تقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : ان كنتم صادقين بأن الإنسان يفسد في الأرض .
الثاني : ان كنتم صادقين بأن الإنسان يسفك الدماء ، فان قلت هناك شطر من الناس يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، والجواب نعم ، ولكن ليس آدم هو الذي يفسد فيها ، كما أن هناك أمة مؤمنة في كل زمان منزهة عن الفساد وتحاربه ولا تسفك الدماء .
الثالث : (عن ابن عباس في قوله { وعلم آدم الأسماء }( ) قال : علم الله آدم الأسماء كلها ، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس . انسان ، ودابة ، وأرض وبحر ، وسهل ، وجبل ، وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها .
{ ثم عرضهم على الملائكة }( ) يعني عرض أسماء جميع الأشياء التي علمها آدم من أصناف الخلق { فقال أنبئوني }( ) يقول : أخبروني { بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين }( ) إن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الأرض خليفة) ( ).
الرابع : إن كنتم صادقين بعدم أهلية الإنسان للخلافة في الأرض .
الخامس : إن كنتم صادقين بأن الصفة العامة للناس هي الإفساد في الأرض وسفك الدماء .
السادس : ان كنتم صادقين في عدم إرتقاء شطر من الناس إلى مراتب التقوى ، ووراثة تعليم الأسماء والإنتفاع منها في طاعة الله سبحانه .
لقد أثنى الملائكة على أنفسهم ، وأخبروا عن تقواهم وانشغالهم التام بالعبادة مجتمعين ومتفرقين .
وهل تدل الآية على أن الملائكة نسبوا الفساد والقتل في الآية إلى الناس جميعاً .
الجواب لا ، إذ وردت الآية بصيغة التنكير [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( ) فقد سأل الملائكة أن يعمر الناس الأرض بالتقوى وسنن الإيمان .
ويمتنعوا عن ارتكاب المعاصي وارتكاب الذنوب ، ليكون استفهام الملائكة ليس انكارياً إنما دعاء ورجاء وتوسل إلى الله عز وجل .
إذن لماذا قال الله عز وجل [إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ) الجواب على وجوه :
الأول : ان كنتم صادقين بأن خلافة الإنسان في الأرض تختص بالحياة الدنيا .
الثاني : ان كنتم صادقين بالعلم بما في خلافة الإنسان وعمارته الأرض من علوم الغيب .
الثالث : ان كنتم صادقين ببقاء الإنسان على الفساد وسفك الدماء ، إذ تدرك الإنسان التوبة والإنابة .
الرابع : ان كنتم صادقين بصيرورة الأرض موطناً للفساد والقتل إنما يعمرها الصالحون بالعبادة والتقوى .
ومن مصاديق الآية أعلاه تفضل الله عز وجل بجعل آية من القرآن سلاحاً ونوراَ يضئ دروب الهداية للناس ، أما المسلم فيزداد إيماناً , وأما الكتابي فيدرك اتحاد سنخية النبوة بين موسى وعيسى عليهما السلام وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما الكافر فان الآية القرآنية تدعو للهداية والإيمان والرشاد .
لتكون الآية سلاحاً متعدداً من جهات :
الأولى : الذين تتوجه لهم الآية القرآنية ، إذ أنها خطاب لكل الناس وفي كل زمان ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن ، وما يتصف به من الخصائص الكريمة لذا قال تعالى [إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ] ( ) لبيان أن من معاني ( المكنون ) في المقام ترشح المنافع منه على نحو متجدد وبما يفوق عالن التصور عند الناس .
ويفسر لفظ [مَكْنُونٍ] في الآية أعلاه بأنه مصون عن النواقص وعما لا يليق به ككتابة الله الذي اراد له أن يبقى دستوراً إلى يوم القيامة ، وتضيف معاني اخرى للمكنون تتعلق بما يتضمن في ثناياه من العلوم والذخائر التي تستخرج منها شذرات في كل زمان .
(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه، لا يعوج فيقوّم ولا يزيغ فيستعتب ولا تقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد، فاقرأوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما أني لا أقول ألم حرف ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة) ( ).
الثانية : تعدد الغايات الحميدة للآية القرآنية والموضوع المتحد ، فيأتي الأمر بفرض وواجب ليكون في مفهومه ترغيباً بالصالحات وزجراً عن معاصي متعددة .
الثالثة : تأهيل وإصلاح الإنسان لتلقي الخطاب القرآني والكتب السماوية وما فيها من الأوامر والنواهي ، وكأنها تخاطب ذات الشخص وتتوجه إليه ، ويدرك معها عدم وجود برزخ أو حاجب بينه وبين أمر الله ، وأنه سبحانه يراه ويعلم مكانه وفعله ، وما ينوي فعله ، قال تعالى [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ] ( ).
مفهوم الآية
ابتدأت آية البحث بحرف النهي والنفي (لا) في قوله تعالى (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) للدلالة على سخط الله عز وجل على الذين كفروا لانهم جحدوا بالربوبية , وامتنعوا عن وظائف العبودية , ولم يستجيبوا لدعوة الأنبياء والرسل , ولم يمتثلوا للأوامر والنواهي في آيات التنزيل , ولأنهم سخّروا النعم الإلهية في الإقامة على هذا الجحود والإنكار وإرتكاب المعاصي , فكل يوم يمر على الكافر وهو متلبس بكفره سبب لزيادة اثمه وإن لم يفعل فيه معصية , ليأتيه الإثم من وجوه :
الأول : قضاء اليوم بالكفر , واللبث فيه طيلة النهار والليل , فتتضمن آية البحث نعت الكفار بصفة (الَّذِينَ كَفَرُوا) وفيه ذم وإنذار لهم .
الثاني : الإمتناع طيلة النهار عن أداء الواجبات العبادية , فما من نبي إلا وجاء بالصلاة ووجوبها, وأداها بنفسه وتعاهدها أمام الناس وحثهم على اتيانها , وفي ابراهيم عليه السلام ورد في التنزيل[رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ] ( ).
الثالث : إرتكاب الكافر المعصية سواء ذات الصبغة الشخصية أو العامة.
ومن مفاهيم آية البحث دعوتها الذين كفروا للتوبة والإنابة إنما يولد الإنسان على الفطرة , وتتسابق وتتدافع إليه الآيات والبراهين التي تجذبه إلى منازل التوبة والهداية ، ومنها النعم التي تترى من عند الله عز وجل , والتي تكون في نفعها على وجوه منها :
الأول : بعث الناس لإتيان الفرائض العبادية .
الثاني : حث الناس جميعاً على الشكر لله عز وجل ، ودعوتهم للوئام, وحسن المعاشرة .
الثالث : من خصائص النعمة الإلهية أنها بشارة وإنذار فهي بشارة بتواليها مع الشكر ، قال تعالى [ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ] ( ).
وهي إنذار بالجحود بها , ومن أسباب إزدياد آثام الذين كفروا مؤاخذتهم بالكفر بالنعم السابقة والحاضرة , فكلما تزداد عليهم النعم من الله عز وجل يزداد إثمهم .
الرابع : ترغيب المؤمنين والمؤمنات بالثبات على الإيمان , وتزكية العمل، والتنزه عن الريب .
وهل تدل آية البحث في مفهومها على هذا الترغيب ، الجواب نعم .
وتقدير الآية ، إنما نملي للذين آمنوا خير لأنفسهم ، لبيان قانون وهو أن الإيمان سبب للفوز بالثواب واكتساب الحسنات على الفوز بالنعمة .
(عن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك . قالوا : يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا؟ .
قال : نعم . قال : إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها) ( ).
لقد نزلت آية البحث لينهل الناس من الكنوز التي جعلها الله في الأرض والسماء وليسخروها في طاعة الله ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ).
فتأتي ذات النعمة من عند الله عز وجل للبر والفاجر والمؤمن والكافر، وتكون للمؤمن سبباً لإدخاره الحسنات ، وتصير وبالاً على الكافر لجحوده وضلالته ، وهو من عمومات قوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
وليكون الإيمان وشكر الله على النعمة نوع طريق لحب الله وزيادة النعم عليهم .
وتحتمل هذه الزيادة بخصوص الآية القرآنية وجوهاً :
الأول : كل آية قرآنية من عند الله سبب لزيادة النعم على المؤمنين .
الثاني : مجموع آيات القرآن نعمة من عند الله ، قال تعالى [قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ] ( ).
الثالث : تلاوة المؤمن لآيات القرآن نعمة بالذات وسبب لتوالي وزيادة النعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
وجاءت آيات القرآن بالتحذير من هجران القرآن ، ومن الإعراض عن إحكامه لما في هذا الإعراض من أسباب مرض القلب واستحواذ الأهواء على النفس ، وغياب البصيرة ، وفي التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] ( ).
لقد ذكرت آية البحث إملاء الله عز وجل للذين كفروا , ويحتمل وجوهاً :
الأول : إختصاص الذين كفروا بالإملاء .
الثاني : شمول الذين آمنوا بالإملاء لعمومات إطلاق نعم الله عز وجل وانعدام الحاجب بينها وبين الناس جميعاً .
الثالث : الإملاء من عند الله للذين آمنوا أكثر وأعظم .
الرابع : إنتفاع الذين آمنوا من الإملاء لهم ولغيرهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
وباستثناء الوجه الأول فان الوجوه الأخرى من مصاديق الإملاء ، ولكن أثر واستجابة الناس لهذا الفضل مختلفة ومتباينة .
لقد أكرم الله الناس بالخلافة في الأرض وتسخير ما في الأرض لهم ، وفي هذا الزمان إرتقى الإنسان وصعد إلى الفضاء وأفلاك العالم العلوي ، ولا يعلم الغايات والمقاصد الحاضرة والمستحدثة والطارئة منه إلا الله عز وجل ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً] ( ) ليكون المراد من الإملاء في الآية على وجوه :
الأول : الإملاء الشخصي الذي يأتي للفرد الواحد من البشر .
الثاني: الإملاء والنعم التي تأتي للأسرة والجماعة .
الثالث :الإملاء والأفضال والإحسان من عند الله عز وجل لأهل القرية والبلدة والقبيلة .
الرابع : الإملاء للناس جميعاً , وما ينفع أهل جيل وطبقة بذاتها .
الخامس : الإحسان والإملاء للناس بما ينفعهم والأجيال التي من بعدهم ، فمن خصائص الإنسان الحرص على الإدخار لأبنائه من بعده ، فيتفضل الله عز وجل باكرامه واكرام ذريته باعانته في مسالك هذا الإدخار، فتكون هذه الإعانة رحمة بالمؤمن ومناسبة لشكره لله عز وجل ، وحجة على الكافر ، وسبباً لإزدياد إثمه .
وهل تكون سبباً لإنغماسه في المعصية ، لم تذكر آية البحث هذا المعنى ، إنما ذكرت إزدياد آثام الذين كفروا بسبب توالي النعم من جهات :
الأولى : إصرار الذين كفروا على الإقامة في مستنقع الجحود والضلالة.
الثانية : عدم اقرار الذين كفروا بأن النعم التي تتوالى عليهم هي من عند الله سبحانه .
الثالثة : إمتناع الذين كفروا عن الشكر لله عز وجل .
الرابعة : إعراض الذين كفروا عن الدعوة إلى الله ، قال تعالى [وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا] ( )
ومن وجوه الكفر ما يسمى كفر الإعراض , بأن يعرض الكافر عن الحجة والبرهان , ويوليه عرضه أي جانبه فلا يلتفت أو يتدبر فيه .
الخامسة : إصرار الذين كفروا على محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلّ السيوف , وجريان الدماء , وهذا الإصرار من مصاديق احتجاج الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
ليتضمن معنى الدعاء والتوسل إلى الله عز وجل بأن ينجي الأنبياء والصالحين من فساد وشرور الذين كفروا .
وهناك مسألتان :
الأولى : هل قصد الملائكة نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كفار قريش ومكرهم , وأذى المنافقين .
الثانية : هل لدعاء وتوسل الملائكة موضوعية بنجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الكفار .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم ، إذ تعلم آدم الأسماء كلها ومنها اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلم الأنبياء ما سيلقاه من المشركين , ليكون من معاني احتجاج الله عز وجل عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) الوعد من عند الله للملائكة بأن الله عز وجل ينجي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من الذين كفروا ، وأن كلمة التوحيد تبقى في الأرض إلى يوم القيامة .
وأما المسألة الثانية , فالجواب نعم ، ليكون من مصاديق خلافة الأنبياء في الأرض سبق دعاء الملائكة لهم قبل أن يهبط آدم إلى الأرض مع استمرار هذا الدعاء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( ) .
(عن ابن عباس ، أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام : هل يصلي ربك؟ فناداه ربه: يا موسى إن سألوك هل يصلي ربك؟ فقل : نعم . أنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله { إن الله وملائكته يصلون على النبي . . . }( ) الآية .) ( ).
وصلاة الله عز وجل الرحمة وصلاة الملائكة الإستغفار والدعاء .
إفاضات الآية
لقد أكرم الله عز وجل الناس بالنبوة والتنزيل ، وجعل الوحي هو الفيصل في أعمال الناس ، وملاك التمييز بين الإيمان والكفر ، والصلاح والفساد ، وأبى الله سبحانه إلا أن يبقى التنزيل مصاحباً للناس في الحياة الدنيا ، للتنزه عن الإضرار بالذات والغير بالجحود والمعصية ، ولكن شطراً من الناس أصروا على الكفر ، فلم ينقطع إملاء الله عز وجل إليهم .
ومن هذا الإملاء بعثة الأنبياء ، ونزول آيات القرآن وكل آية قرآنية هي إملاء للناس جميعاً ، ونهر جار ينهل منه المسلمون ، قال تعالى [وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً] ( ).
ولكن الذين كفروا يصدون عن آيات التنزيل , ويمتنعون عن العبادة وأداء المناسك وزاد كفار قريش بأن سخرّوا النعم التي بين أيديهم في محاربة التنزيل أي أنهم اتخذوا إملاء الله لهم سلاحاً وسيفاً لمحاربة الله عز وجل ونعمة النبوة التي خير محض لهم وللناس جميعاً .
لقد سعى الكفار علانية وسراً في قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وايقاف نزول آيات القرآن .
ومن البشارات بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كيد ومكر الذين كفروا نزول آيات وسور القرآن نجوماً , وفيه وفق القياس :
الكبرى : لا بد من نزول تمام آيات وسور القرآن .
الصغرى : لا ينزل القرآن إلا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
النتيجة : لا يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا حتى يتم نزول تمام وسور القرآن .
ومن إعجاز القرآن نزوله على نحو التدريج آية آية ، وآيات متعددة بعد الآية او الآيات مما أغاظ الذين كفروا ، قال تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا] ( ).
ومن أسرار التدريج في نزول الآيات موضوعية أسباب النزول وصيرورة الآية القرآنية مرآة للحوادث الواقعة مع الحكم وتعيين سنخية الفعل الواجبة أو المندوبة والأمر المنهي عنه ، لتكون كل آية مدرسة في الفقاهة لعامة المسلمين ، لذا فان أسباب نزول الآيات كنز وثروة علمية لكل المسلمين بأجيالهم المتعاقبة .
كما كان هذا التدريج وبلحاظ مناسبة الحال وسيلة مباركة لدفع أذى المشركين ، وللإحتجاج عليهم ، وإبطال المغالطة التي يأتون بها ، والريب الذي يرجفون ، قال تعالى [وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا] ( ).
لقد أدرك الذين كفروا أن نزول القرآن على نحو النجوم والتوالي إعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : أنه دعوة يومية متجددة للناس لدخول الإسلام.
الثانية : فيه خزي متكرر للذين كفروا .
الثالثة : خشية الذين كفروا والمنافقين أن تنزل آيات تفضحهم باسمائهم ، وحتى ذكر أفعالهم خزي لهم لأن الناس الذين صاحبوا أيام التنزيل يعرفونهم بأشخاصهم ، وهو الذي تدل عليه نصوص عديدة في باب أسباب النزول .
ففي معركة الخندق استأذن بعض المنافقين النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإنصراف مع إحاطة ومحاصرة جيش المشركين للمدينة ، وقالوا [إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا]( ).
(عن جابر بن عبد الله قال : إن الذين قالوا بيوتنا عورة يوم الخندق : بنو حارثة بن الحارث) ( ).
(قال ابن اسحق هو أوس بن قيظي الذي قال إن بيوتنا عورة عن ملأ من قومه) ( ).
الرابعة : ارشاد المسلمين لما يجب عليهم في باب العبادات والمندوبات .
الخامسة: التوثيق السماوي لسنة وسيرة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي هي شعبة من الوحي .
ففي غزوة تبوك جاء نفر من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم البكاءون وسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يستحملهم ويهيئ لهم ما يركبون لبعد المسافة ولأنهم أهل حاجة ، وهم من الأنصار وغيرهم :
الأول : سالم بن عُمير .
الثاني : علبة بن زيد .
الثالث : أبو ليلى عبد الرحمن بن كعب .
الرابع : عمرو بن الحمام بن الجموح .
الخامس : عبد الله بن المغفل المزني .
السادس : هرمي بن عبد الله .
السابع : عرباض بن سارية الفزاري .
لقد سألوا زاداً ومتاعاً للطريق ، أو سألوا رواحل يركبونها ، وقيل سألوا نعالاً , فلما اعتذر منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم انصرفوا وهم يبكون لحرمانهم من الجهاد .
(عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لقد خلفتم بالمدينة أقواما، ما أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديا، ولا نلتم من عدو نيلا إلا وقد شَركوكم في الأجر”، ثم قرأ: { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ }( ) الآية) ( ).
لبيان أن المدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول ، فلا تختص مضامين الآية أعلاه بالصحابة السبعة أعلاه أو غيرهم ممن ذكر في المقام .
ولما نزلت آية في ذم الأعراب نزلت آية أخرى للتقييد ، وإخراج الأعراب المؤمنين من الذم كما في قوله تعالى [وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] ( ).
(عبد الرحمن بن معْقل قال: كنا عشرة ولد مقرّن، فنزلت فينا) ( ).
ولا يزال علم أسباب النزول في بداياته ، وأن كانت نصوصه مدونة ومكتوبة إلا أنها تستلزم الدراسة والتنقيح، فقد يذكر المفسرون واقعة أحد أو اسم شخص كسبب وموضوع لنزول آيات، وهو بعيد وقد تقدم البيان في أجزاء من التفسير .
السادسة :دخول جماعات الإسلام برؤيتهم حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما ينزل عليه الوحي وتصبب العرق من وجهة في الشتاء البارد ، حتى إذا أنفصلوا عنه الوحي تلا الآية أو الآيات التي نزلت عليه .
السابعة : حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للآية القرآنية ، والتدبر في مضامينها ومعانيها ودلالاتها قبل أن تنزل آية أخرة (عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم كانوا يأخذون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل ، قال : فتعلمنا العلم والعمل) ( ).
الثامنة : معرفة المسلمين للناسخ والمنسوخ لشرط تقدم زمان نزول المنسوخ مع إتحاد الموضوع .
وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
ولما حارب الذين كفروا النبوة وهي إملاء الله لهم وللناس بإملاء الله لهم تفضل الله عز وجل ورد عليهم بآية البحث لتكون حجة وبرهاناً ودعوة لهم للتوبة والإنابة ، ومن فيوضات آية البحث أنها تفقه المسلمين في الدين وهي مادة للصبر وعدم البطش بالذين كفروا ، إنما تدعو للموعظة وتبعث السكينة في النفوس والعلم بالحساب والجزاء يوم القيامة .

الآية لطف
لقد أثنى الله عز وجل على القرآن , ووصفه بأنه مبارك بقوله تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ) .
وبركات القرآن نعمة من عند الله ، ولا يقدر عليها غيره ، ترى ما هي النسبة بين النعمة والبركة .
الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالنعمة أعم والبركة من مصاديق النعمة ، كما تترشح عن النعمة البركة ، وكذلك تتولد عن البركة نعم كثيرة ومضاعفة في الرزق ومنسأة في الأجل، وهل تختص البركة بآيات القرآن على نحو العموم المجموعي أم على نحو العموم الإستغراقي والفردي.
الجواب هو الثاني من جهات :
الأولى : كل آية من القرآن مباركة في ذاتها ورسمها وتلاوتها .
الثانية : تفيض البركة من الجمع بين كل آيتين من القرآن سواء إتحدتا في الموضوع أو الحكم أو لا .
الثالثة : مجموع آيات القرآن مباركة وتتجلى البركة في آية البحث من وجوه :
الأول : إبتدأت آية البحث بالعطف على الآية السابقة ، وفيه دعوة للقارئ والمستمع إلى الجمع من جهات :
الأولى : الجمع بين مضامين آية البحث والآية السابقة .
الثانية : الغايات الحميدة والأسرار الملكوتية الكامنة في العطف بين آية البحث والآية السابقة .
وهل هذا العطف وموضوعه من الإملاء الذي تفضل الله عز وجل به على الناس ، الجواب نعم .
الثالثة : التداخل الموضوعي بين خاتمة الآية السابقة وآية البحث ، وهو من الشواهد على إرادة العطف من الواو التي تبدأ بها آية البحث ، إذ أختتمت الآية السابقة بالوعيد للذين يسارعون في الكفر بعذاب عظيم يوم القيامة ، وابتدأت آية البحث بتحذيرهم وإنذارهم من الهوى والوقوع في هذا العذاب ليصاحب الإنذار حياة الناس في الأرض .
ومن بديع صنع الله عز وجل أن عمارة الإنسان للأرض إبتدأت بالإنذار القولي والفعلي بهبوط آدم وحواء إلى الأرض بسبب إغواء وكذب ابليس عليهما .
ومن الآيات أنه هبط معهما ليكونا في حذر دائم منه ، وفي التنزيل قال [قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( ).
الثاني : إخبار الآية عن إملاء الله عز وجل على الناس بالنعم المتتالية وإنعامه عليهم ، فصحيح أن الآية ذكرت الذين كفروا ولكنها تدل بالأولوية القطعية على إملاء الله للمؤمنين الذين يشكرون الله عز وجل على النعم بالقول والعمل ، ليكون هذا الشكر حجة على الذين كفروا ، ودعوة لهم للصلاح وعدم التمادي في ظلم الذات والغير .
(عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله سبحانه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد })( ).
الثالث : الأجر والثواب في تلاوة الآية القرآنية من البركة وأسباب الرزق الكريم ، وصرف البلاء .
الرابع : تتضمن آية البحث التخويف للذين كفروا , ومن مصاديق البركة فيه نزوله من السماء ، ومصاحبته لأهل الأرض بتلاوة المسلمين لآية البحث في الصلاة اليومية .
ومن أسماء الله [اللَّطِيفُ]قال تعالى [وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]( ) وهو الذي يقرب عباده إلى منازل الطاعة ويهديهم إليها ، ويقربها منهم ويزيح الحواجز بينهم وبينها .
وقد يكون هذا الحاجز إنساناً وقرين سوء فيصرفه الله أو يكون غنىً أو فقراً ، فاذا كان الغنى نوع طريق لإتباع صاحبه الهوى قد يسلب الله عز وجل صفة الغنى عنه لصلاحه ، وهل هذا السلب من الإملاء أم أن القدر المتيقن منه هو ما يأتي من النعم .
الجواب هو الاول , وإذا كان الفقر سبباً لجزع الإنسان وإقدامه على المعصية كالسرقة رزقه الله عز وجل ما يجعله يمتنع عن المعصية لذا تفضل الله عز وجل وشرّع الزكاة والصدقة في كل الأديان السماوية .
وفي عيسى ورد في التنزيل [وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا] ( ) ولم تكن عند عن عيسى الأموال ولكن الوصية لذات الوجوب ولأمته ، ولتكون من البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم النفرة من وجوب الصدقات في المال والإنعام والغلات .
الآية بشارة
لقد أخبر الله عز وجل عن قيام الأنبياء بالبشارة والإنذار للناس لهدايتهم وإقامة الحجة عليهم ولهم .
وجعل البرهان على الربوبية المطلقة لله ووجوب عبادته قريباً من كل إنسان ، ولغلق باب الأعذار والتسويف عن الناس ، ومنع الجحود وأسباب الفسوق ، قال تعالى [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا] ( ) .
ليقوم الأنبياء والرسل بالبشارة والإنذار وينتفع منه الناس من رسالتهم على نحو العموم المجموعي والإستغراقي ، فليس من رسول إلا وينتفع الناس جميعاً بأجيالهم المتعاقبة من رسالته ، وهو من أسرار ذكر الناس في الآية أعلاه .
ومن مصاديق ما يتصف به الرسل من بين مجموع الأنبياء , ويتجلى قانون إنتفاع الناس جميعاً من الرسل كمبشرين ومنذرين بنزول القرآن وآياته التي تبين مصاديق البشارة والإنذار التي جاء بها الرسل والأنبياء ، وهو من الشواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين ، وفي التنزيل [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ] ( ).
ومن وجوه البشارة في آية البحث توالي النعم على الناس وعمارتهم الأرض واستدامة الحياة الدنيا ، وبقاء باب التوبة مفتوحاً من وجوه :
الأول : الإملاء من عند الله طريق للتوبة والإنابة .
الثاني : التذكير بالنعم الإلهية على الناس حث لهم للتوبة ، وهذه النعم من الشواهد اليومية المتجددة على حب الله عز وجل للناس ، وتكون التوبة سبيلاً للفوز بالرضوان .
الثالث : من الإملاء إمهال العبد وعدم التعجيل بمؤاخذته على ذنبه ، ليتدارك نفسه ويلجأ إلى حصن الإنابة والندم والإقلاع عن المعصية .
(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوّابون ) ( ).
وتبين الآية في مفهومها أن الإملاء للمؤمنين خير لأنفسهم لأنه نوع طريق ووسيلة لطاعة الله وأداء الفرائض والسنن .
ومن معاني البشارة في آية البحث إخبارها عن توالي الفضل والهبات من الله عز وجل على الناس من غير استحقاق منهم ، ولكن رحمة من الله ، قال تعالى [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ] ( ).
نعم أختتمت آية البحث بالوعيد للذين كفروا إذ ينتظرهم في الآخرة [عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : البشارة للمؤمنين بالنجاة من العذاب الأليم يوم القيامة .
الثانية : إخبار الناس بالملازمة بين التوبة والبشارة .
الثالثة : إنحصار العذاب يوم القيامة بالذين ماتوا على الكفر وتسخير النعم في المعاصي ، قال تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ] ( ) .
الرابعة : تبعث الآية الأمل في النفوس بالسعي الحثيث في مسالك الخير والإمتناع عن المعاصي .

الآية إنذار
من إعجاز آية البحث إبتداؤها بالإنذار واختتامها بالوعيد ، الإنذار في الدنيا والوعيد في الآخرة ، مع إتحاد سنخية الذين توجه لهم الإنذار والوعيد.
وهل تتحد الأسماء والأشخاص الذين يتوجه لهم الإنذار ، الجواب لا ، لفتح باب التوبة من عند الله عز وجل لذا وردت الآية بذكر صفة الكفر وترتب العقاب عليها .
لتدل الآية ومعاني الإنذار فيها على دعوة الناس إلى التوبة والإنابة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] ( ) .
وتبين آية البحث لزوم تلقي النعم الإلهية بالتقوى والشكر لله والتنزه عن فعل المعصية ، وإرتكاب الذنوب ليكون الإنذار في آيات القرآن من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وقوله تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ] إنذار وتخويف وإخبار عن قانون من الإرادة التكوينية من وجوه :
الأول : مقاليد الأمور بيد الله عز وجل .
الثاني : إنعدام الحاجب والمانع بين المشيئة الإلهية وترتب الأثر والفعل عليها ، فليس من راد لأمر الله عز وجل .
الثالث : النعم التي عند الناس من الله عز وجل ، ولا يقدر عليها غيره ، وهل في الآية منّ منه سبحانه ، الجواب نعم لأنه يريد أن يشكروه على النعم ، وأن يمتنعوا عن الجحود بها .
( عن أنس بن مالك قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً في الحلقة ورجل قائم يصلي فلما ركع وسجد تشهد ودعا ، فقال في دعائه : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك ، لا شريك لك ، المنان ، بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإِكرام يا حيّ يا قيوم إني أسألك .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى) ( ).
الرابع : ذم الذين كفروا في الدنيا والآخرة ، فمع توالي النعم عليهم فان الإنذار والوعيد يتوالى عليهم بآيات التنزيل ، وقيام المؤمنين بتلاوتها وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا] ( ) .
ومن معاني الإنذار في آية البحث أمور :
الأول : التخويف والوعيد بقوله تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ] وهل يختص هذا الوعيد بعالم الآخرة ، الجواب لا ، إذ أنه مستمر ومتصل من حين نزول آية البحث .
الثاني : نعت الذين كفروا بالكفر وتغطية النعم بالجحود بالربويبة المطلقة لله ، مع أن البراهين والدلائل عليها أكثر من أن تحصى ، وهذه البراهين من مصاديق النعمة في قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
فيتضمن ذات قوله تعالى [الَّذِينَ كَفَرُوا] الذم والتوبيخ والإنذار إذ أنه نازل من عند الله عز وجل الخالق البادئ الذي أنعم على الناس بالهبات والنعم المتتالية ، فليس لهم أي يجحدوا بها .
وأخبرت الآية بأن الذين يجحدون بها يأتيهم البلاء , ويحل بهم العذاب، فيكون قوله تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ] إنذاراً للذين كفروا ، وزجراً للناس جميعاً عن الكفر والجحود والضلالة.
ودعوة للمسلمين بالعصمة من الإرتداد ، ليكون من إعجاز القرآن أن تأتي الآية بلغة الإنذار لفريق من الناس إختاروا سخط الله عز وجل لتكون موعظة وسبيل هدى للناس جميعاً ، ونوع وسيلة سماوية لتثبيت قلوب الذين آمنوا على التقوى .
وهل في الآية إصلاح للمنافقين ، الجواب نعم ، إذ تدعوهم لنبذ إضمار الكفر ، ولزوم الإيمان بالظاهر والباطن ، وفي التنزيل [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ).
وهل من حد لإملاء الله عز وجل للناس ، الجواب لا ، فهذا الإملاء لا ينقطع في أيام الحياة الدنيا لعامة الناس البر والفاجر ، ولكنه ينقطع بعد الموت بالنسبة للذين كفروا ، ويتصل ويستمر مع المؤمن في عالم البرزخ ومواطن الحساب بمضاعفة الحسنات ، وبما يصرف عنه أهوال يوم القيامة .
ومن مصاديق الإملاء من عند الله الإرجاء في الأجل لحين التوبة والصلاح ، وهو من علوم الغيب التي يختص بها الله عز وجل ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ] ( ).
وروى ابن قدامة عن يوسف بن الحسين قال : كنت مع ذي النون المصري على شاطئ غدير فنظرت إلى عقرب كبيرة واقفة على شاطئ الغدير ، والغدير مستنقع الماء وغالباً ما يكون من المطر والسيول .
وإذا كان الغدير صغير (تسمى الثُّعَبُ ) ( ) أما إذا جفّ الغدير ويبقى أثره فيسمى الخقَّ .
فخرجت ضفدع من ذات الغدير فركبتها العقرب فسبحت الضفدع إلى الجهة المقابلة من الغدير ، فقال ذو النون إن لهذه العقرب لشاناً فامض بنا ، فصارا يتبعان أثرها .
فاذا رجل نائم سكران ، وجاءت حية وصعدت من ناحية سرته وزحفت على صدره تريد أرنبة أذنه فجاءت العقرب واستحكمت من الحية فضربتها فانقلبت الحية وانفسخت .
فقام ذو النون بتحريك الرجل النائم ليرى آية الله في نجاته ، ففتح عينيه.
فقال له : يا فتى أنظر عظيم فضل الله عليك ، فهذه الحية صعدت على صدرك ، فجاءت هذه العقرب فقتلتها .
ثم أنشأ ذو النون يقول :
(يا غافلاً والجليل يحرسه … من كل سوء يدب في الظلم
كيف تنام العيون عن ملك … تأتيه منه فوائد النعم
فنهض الشاب وقال: إلهي! هذا فعلك بمن عصاك فكيف رفقك بمن يطيعك؟ ثم ولى ، فقلت: إلى أين؟ قال: إلى البادية، والله لا عدت إلى المدن أبداً!) ( ) .
أي أنه أختار الهرب من مواطن الإغراء بالمعصية ، فليس في البادية خمر ومسكر .

الآية موعظة
لقد جعل الحياة الدنيا وما فيها من الوقائع والأحداث موعظة وعبرة ، ومن خصائص الحياة الدنيا قانون : في كل دقيقة موعظة متعددة للإنسان .
فلو تدبر الإنسان في خلقه وصحته وبدنه ورزقه والآيات الكونية لأدرك أن الله عز وجل جعل أيام الدنيا خزائن للموعظة لينقاد الناس إلى عبادته طوعاً وقهراً ، وتفضل بآيات القرآن وكل آية هدى وموعظة ، قال سبحانه [فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ] ( ).
وتأتي الموعظة على وجوه :
الأول : الموعظة العقلية التي تدركها العقول والأوهام .
الثاني : الموعظة الحسية التي تنال وتلمس بالحواس ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ) .
الثالث : الموعظة القولية وهي التي تأتي بالقول والخبر والإحتجاج واقامة البرهان .
الرابع : مواعظ التنزيل : وهي التي تأتي في الكتب السماوية والوحي على لسان الأنبياء لقانون وهو : كل كتاب سماوي موعظة ، وفي القرآن ورد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ]( ) .
فان قلت قد ورد الحصر والتقييد في الذين تتوجه إليهم الموعظة بقوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) الجواب النسبة بين الناس والمتقين هي العموم والخصوص المطلق ، فالناس أعم واثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره .
ومن الموعظة في آية البحث ذكر الجاحدين بالربوبية والنبوة بصفة [الَّذِينَ كَفَرُوا] لبيان وجود شطر من الناس أختاروا الإستكبار والعناد والصدود عن الآيات وامتنعوا عن قبول الموعظة .
فتأتي الموعظة في القرآن للناس جميعاً ومنهم المتقون وتتوجه موعظة أخرى خاصة للمتقين ليتخذوها منهاجاً وضياء ، وهو من شكر الله عز وجل للمتقين بتعدد المواعظ التي تأتي لهم لتكون وسيلة ومناسبة لثباتهم في مقامات الإيمان ، قال تعالى [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ] ( ) .
وهل ينتفع عامة الناس من هذه الموعظة الخاصة ، الجواب نعم ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : وموعظة للمتقين فيدعون الناس إلى المعروف وينهونهم عن المنكر .
الثاني : وموعظة للمتقين لترغيب الناس بالتقوى .
الثالث : وموعظة للمتقين لتنزيه الأرض من الكفر والضلالة .
الرابع : وموعظة خاصة للمتقين شكراً لهم على التحلي بلباس التقوى.
الخامس : وموعظة للمتقين حجة على الذين كفروا في الدنيا والآخرة .
السادس : وموعظة للمتقين إلى يوم القيامة .
السابع : وموعظة للمتقين لبيان قانون وهو بقاء أمة مؤمنة في كل زمان، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) وجاء ذكر الموعظة العامة للناس بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ] ( ) على نحو الإطلاق في بيان علوم وذخائر القرآن ، وورد قوله تعالى [وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ] ( ) بخصوص القرآن أيضاً في الآية أعلاه من سورة آل عمران .
كما ورد في موضوع خاص بقصة البقرة التي أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام في ذبحها لإحياء الميت وبناء على سؤال بني اسرائيل له معجزة في المقام بقوله تعالى [فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ] ( ) لبيان بقاء معجزات الأنبياء الحسية سبيل هداية للمؤمنين في كل زمان ببركة القرآن وذكره لقصص ومعجزات الأنبياء ، وهل هي باب لتوبة الذين كفروا ، الجواب نعم .
ومن الإعجاز بآيات القرآن في باب التوبة وجوه :
الأول : دعوة الآية القرآنية إلى التوبة .
الثاني : بيان آيات القرآن منافع التوبة .
الثالث : إخبار القرآن عن حب الله عز وجل للذين يبادرون إلى التوبة، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] ( ) .
الرابع : بيان آيات القرآن لأضرار الإمتناع عن التوبة ، والصدود من الإنذارات السماوية ، ومنها آية البحث التي تتضمن التذكير بالتخويف والوعيد .
الآية رحمة
من البديهيات أن الكتب السماوية المنزلة رحمة للناس ، وفي ثناياها الرفق والحنو والشفقة ، وهي نور نازل من السماء يشع على القلوب فيقودها نحو المودة وينشر بينها المحبة وشآبيب التسامح والمعاملة بالبر والقسط والعدل .
وقد أنعم الله عز وجل على الناس بالرزق الكريم ، ليكون مدداً وعوناً للنبوة والتنزيل في هداية الناس .
ومن معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) تعاقب بعثة الأنبياء وتوالي نزول الكتب السماوية لهداية الناس إلى وظائف الخلافة التي تتقوم بعبادة الله والتقوى .
وتضمنت آية البحث الإنذار للذين كفروا على جحودهم بالنعم الإلهية ، ومقابلتها بالكفران وإرتكاب المعاصي ، ليكون هذا الإنذار زاجراً لهم ، وهو حرز وواقية للمؤمنين من الكفر ومفاهيمه .
لقد جعل الله عز وجل الإنسان محتاجاً ، ولا تختص هذه الحاجة بالإنسان بل تتغشى الخلائق كلها ، إذ أنها تحتاج إلى رحمة الله عز وجل ، وهل الإنسان أكثر حاجة لرحمة الله من الخلائق الأخرى ، المختار نعم ، وهو من أسرار خلافته في الأرض ، وما رزقه الله من العقل والحواس والجوارح والإختيار ، وما سخّر له من النعم .
وهذه الحاجة من مصاديق إكرام وتفضيل جنس الناس ، قال تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ).
والآية أعلاه من معاني الإملاء الذي تفضل الله عز وجل به على الناس ، ومن الإعجاز فيها ذكرها لفضل الله في إكرام بني آدم عامة من غير تعيين للمؤمنين ، وكذا بالنسبة لحملهم في وسائط النقل ، وإمكان انتقالهم وتغيير السكن ومحل الإقامة لموضع قريب أو بعيد ، وعلى نحو القضية الشخصية أو القبلية أو غيرها .
كما أخبرت الآية عن قانون وهو أن الله عز وجل يرزق الناس جميعاً من الطيبات ، ويمهلهم في الأجل ، والإمهال نعمة بالذات بالإضافة إلى دفع الآفات والأمراض وأسباب الغفلة عن الإرتماء في أحضان التوبة ، وهذا الدفع من اللطف الإلهي بالناس وواسع رحمته ، وفي التنزيل [وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ] ( ) .
وقد يقول قائل لقد أختتمت آية البحث بالتخويف والوعيد بقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ) فهل فيه رحمة ، الجواب نعم من وجوه :
الأول : إنه رحمة بالمؤمنين من جهات :
الأولى : إرادة الأمن وسلامة المؤمنين من هذا العذاب .
الثانية : دعوة المؤمنين لتعاهد الإيمان ، وعدم مغادرة منازله ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
الثالثة : بعث المؤمنين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابعة : دعوة المسلمين للتعاون للإرتقاء إلى منازل الإيمان واليقين .
الثاني : إنه رحمة بأهل الكتاب لما فيه من بيان إتحاد وسنخية الكتب السماوية وما جاء به الأنبياء من عند الله بالبشارة للمؤمنين ،والوعيد للذين كفروا .
الثالث : في الآية رحمة بالذين كفروا لأنها طريق الهداية إلى التوبة والإنابة ، وباعث للنفرة في النفوس ،فيجب حسن الفعل والترف في النعم الإلهية وبما يفيد الشكر لله عز وجل عليها , والعصمة من الضلالة والغواية والإنقياد إلى النفس الشهوية .
ومن خصائص الإنسان أنه يتجنب ما فيه أذى ، وما تكون عاقبته الخسران والضرر ، وكما يلزم الإنسان التدبير في حياته المعاشية والإقتصاد في الإنفاق من غير إسراف ، قال تعالى [وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا] ( ) , يجب عليه من باب الأولوية أداء الواجبات العبادية .

الحاجة لآية البحث
من خصائص القرآن حاجة الناس لآياته وما تتضمنه من الأحكام والسنن ، ومن الإعجاز الغيري له استمرار هذه الحاجة وتجددها مع كل جيل من غير أن يكون هناك برزخ بينهم وبين هذه الآيات ومعانيها الظاهرة، والبيان الذي يشع من رسمها وتلاوتها ، قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ).
فجاءت الآية أعلاه بصيغة العموم الإستغراقي الجامع للناس جميعاً ، لأن الله عز وجل إذا أنزل نعمة لا يجعل حجباً بينها وبين الناس ، إذ تكون في متناول أيديهم ، ولكن إرتكاب المعاصي غشاوة وحاجب دون النهل منها إلا أن يشاء الله ، فهو القادر على بلوغ النعمة حتى للفاجر والفاسق ، وهو من الإملاء الذي تذكره آية البحث .
ومن إعجازها إخبارها بأن بلوغ هذه النعم للذين كفروا ونهلهم منها باب لحملهم أوزار الآثام والذنوب .
وهل تأتي هذه الآثام من ذات النعم ، الجواب لا ، إنما تأتي من تسخير الكفار لها في المعاصي ، وفي تجهيز الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من عمومات قوله تعالى [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ] ( ).
وتتجلى الحاجة إلى آية البحث من وجوه :
الأول : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفة أحوال الناس في الدنيا وكيف أنهم يعيشون بالإملاء والنعم والإمهال من عند الله سبحانه .
الثاني : إنذار الناس من إنقطاع الإملاء من عند الله عز وجل ، وإذا حجب الله الإملاء عن عبد فانه لا يقدر على إتمام الشهيق والزفير ، فاذا أخذ نفساً وهواء وعبأ الرئتين به عبر المجاري التنفسية ، فانه يعجز عن التخلص من ثاني أوكسيد الكاربون خارج الجسم مع أن الزفير عملية تلقائية تتبع تعقب حدوث الشهيق .
الثالث : تنمية ملكة التقوى عند المسلمين ، والإجتهاد في الشكر لله عز وجل بالقول والعمل على النعم ، وفي التنزيل [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
الرابع : الآية مدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في الدعوة إلى الله ، وصدّ الناس عن نصرة الذين كفروا من قريش في حربهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام , وفي التنزيل [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ] ( ) .
ومن مصاديق الآية أعلاه سؤال الله عز وجل يوم القيامة لكفار مكة وكيف كانوا في الدنيا في نعمة وخير , وهو المروي عن مقاتل) .
وتبين الآية قانوناً جلياً وهو أن الذين كفروا يحاربون الله ورسوله بما أملى لهم الله ، وما جعل في أيديهم من النعم سواء النعم المصاحبة لهم أيام التنزيل أو النعم المتراكمة عندهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسباب القتال ومحاربتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، ومن هذه النعم :
الأولى : كثرة أموال قريش .
الثانية : عمل قريش في التجارة .
الثالثة : وفود العرب إلى مكة لحج بيت الله عز وجل وأداء العمرة .
الرابعة : مزاولة قريش رجالاً ونساءً التجارة .
ولا تختص تجارتهم بمكة وانتظار مجئ وفد الحاج والمعتمرين لها للتبضع والتسوق ، إنما تسير قوافل قريش بشبه انتظام نحو بلاد الشام واليمن والعراق والحبشة .
وتتألف كل قافلة من قطار يضم قد مئات من الإبل المحملة بالبضائع ، فمثلاً كان في قافلة أمية بن خلف الجمحي ألفا بعير ومعه مائة رجل ، وكانت من أسباب غزوة بواط ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رجعوا من غير أن يتعرضوا للقافلة التي غيرت مسارها إذ كانت قريش ورجال قوافلها ينشرون العيون في إنحاء الجزيرة العربية لمعرفة أخبار النبي والمسلمين ، وخروجهم من المدينة أو عودتهم لها .
فلم يكن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بواط في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة غزوة إنما كان لتذكير قريش بما أملاه الله لهم ، ولإرباكهم وبعث الخوف في نفوسهم من الهجوم على المدينة .
وفي مقتل أبي جهل يوم معركة بدر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه (تطلبوه بين القتلى وتعرفوه بشجة في ركبته، فإنى تزاحمت أنا وهو على مأدبة لابن جدعان فدفعته فسقط على ركبته فانهشمت فأثرها باق في ركبته ” فوجدوه كذلك) ( ) .
(وكانت لعبد الله بن جدعان جفنة وقصعة للأصناف وعامة الناس يستظل بظلها في الهاجرة) ( ) .
وكان يأكل منها الراكب وهو على بعيره ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان في الهاجرة .

النعم التي تذكرها آية البحث
من إعجاز القرآن أن ذات الآية القرآنية نعمة عظمى في نظمها ورسمها وتلاوتها ومعانيها ودلالاتها وكنوزها الظاهرة من حين تنزيلها ، وكذا التي تتجلى في كل زمان ، ومن سمات هذه الكنوز أن الذي يتجلى للناس ، ويكون بين أيديهم ، لا يغادر الأجيال اللاحقة بل يبقى تركة وثروة لهم وتضاف له الذخائر واللآلي العلمية التي يستقرئها العلماء والتي تستبين بذاتها وبواسطة العلوم المستحدثة .
لقد ابتدأت آية البحث بالإخبار عن حساب الذين كفروا عن النعم التي تترى عليهم من عند الله عز وجل بقوله تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا].
نعم ورد العموم في الحساب للناس جميعاً في قوله تعالى [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ] ( ) .
ولكن آية البحث تضمنت التذكير والتهديد والوعيد للذين كفروا ، إذ جاءت بذكر النعم التي يتفضل بها الله عز وجل في ثنايا الوعيد للذين كفروا ، وإذا كانت النعم شراً ووبالاً على الذين كفروا فهي رحمة للذين آمنوا ، وترغيب لهم بالشكر لله عز وجل .
وهل يلزم المؤمنين الشكر لله عز وجل على الوعيد للكفار على تفريطهم بالنعم والشكر عليها ، الجواب نعم ، إذ جعل الله القرآن داعياً إلى الهدى وسنن التقوى.
وفي خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تبين فيه موضوعية القرآن ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ]( ).
مفهوم الموافقة
لقد نزلت آية البحث بصيغة المضارع [أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ] ( ) لبيان مسألتين :
الأولى : إتصال وتوالي النعم من عند الله على الناس جميعاً فان قلت قد ذكرت آية البحث الإملاء لخصوص الذين كفروا ، الجواب هذا صحيح، ويدل بالدلالة التضمنية وبالأولوية على تفضل الله بالإملاء للمؤمنين .
وقد تفضل الله عز وجل وجعل الحياة الدنيا دار الإملاء والفضل على الناس جميعاً .
وتدل الآية في مفهومها على أن الإملاء للمؤمنين خير لأنفسهم ووسيلة لإكتناز الصالحات في الآخرة .
الثانية : إنذار الذين كفروا في كل زمان , فنزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن مضامينه القدسية وما فيه من البشارة والإنذار باقية إلى يوم القيامة ، ولا تختص بجيل أو طبقة من الناس دون طبقة أخرى .
فتطل آية البحث على الناس كل يوم وإذ تشرق الشمس على الناس مرة واحدة في اليوم ، فان الآية القرآنية تشرق على القلوب والأبدان خمس مرات في اليوم والليلة بتلاوة المسلمين لها في الصلاة .
لقد أكرم الله عز وجل الإنسان بالخلافة في الأرض ومن فضله تعالى إقتران هذه الخلافة بالنعم العظيمة الخاصة والعامة ، ومن بديع صنع الله وعظيم قدرته تلقي كل إنسان نصيبه من النعم العامة على الجماعة والأمة والناس كافة ، إلى جانب النعم الخاصة على كل إنسان والتي ينفرد بها من بين الناس من أيام آدم إلى يوم القيامة ، وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، ومما ينكشف للناس يوم القيامة , ويكون حجة عليهم ، قال تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] ( ) .
وفي الآية دعوة للمسلمين بخصوص الإملاء من جهات :
الأولى : شكر المسلمين لله عز وجل على النعم التي تأتيهم ، وهذا الشكر تأديب للذات , وحث للناس على تعاهد الشكر منه والذي يتضمن معاني الإقرار بالنعم الإلهية
الثانية : تسخير النعم في طاعة الله .
الثالثة : إقامة الحجة على الذين كفروا بسبب سوء إختيارهم وصدودهم واستكبارهم عن الحق والدعوة إليه .
وفي التنزيل [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ] ( ).
ومع أن الحياة الدنيا دار الإملاء ، ويأتي الفضل والإملاء من عند الله لكل إنسان في كل دقيقة ، وإذا لم يمل الله للناس لا يستطيعون البقاء أحياء في الدنيا ، ولكن على مقولة فرض المحال ليس بمحال .
فلو لم يأت الإملاء إلى الذين كفروا فهل يزدادون إثماً أيضاً ، الجواب نعم لأن ذات التلبس بالكفر سبب لإزدياد الآثام ، ليكون الإملاء في المقام مناسبة وعلة لتراكم الآثام على الذين كفروا وهو نوع استدراج لهم ، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ) واستحقاقهم لهذا العذاب بكفرهم والإثم المترتب على الكفر بالذات ، أما ازدياد آثامهم فهو موضوع وسبب آخر لشدة عذابهم .
لقد نزل القرآن من عند الله ، وهو يتضمن الأوامر والنواهي والتي تكون على وجوه :
الأول : الأوامر والنواهي العامة للناس جميعاً ، وقد يأتي في آية واحدة أو مرتين معاً كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) .
الثاني : الأوامر والنواهي الخاصة بالمسلمين كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) وكما في قوله تعالى [فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ).
الثالث : الأوامر والنواهي التي تخص بأهل الكتاب قال تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] ( ).
الرابع : الأوامر والنواهي الخاصة بالذين كفروا ، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ *وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ] ( ) وعن الإمام علي عليه السلام قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا فيذكرنا بأيام الله حتى نعرف ذلك في وجهه ، كأنما يذكر قوماً يصبحهم الأمر غدوة أو عشية ، وكان إذا كان حديث عهد بجبريل عليه السلام ، لم يتبسم ضاحكاً حتى يرتفع عنه) ( ).
ومن مفاهيم الموافقة في الآية البشارة للمؤمنين بالإملاء وتوالي النعم عليه المقرونة بالثناء عليهم لشكرهم الله عز وجل على النعم بحسن السمت ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ولا يحسبن الذين كفروا إنما لا نملي على الذين كفروا أنما لا نملي للذين آمنوا )
الثاني : إنما نملي للذين آمنوا خير لأنفسهم ) فان امتنع الذين كفروا عن شكر الله على النعم فان المؤمنين يتخذون ما يميله الله لهم وسيلة وموضوعاً في طاعته سبحانه .
الثالث : توجه الخطاب إلى الناس جميعاً بالإنتفاع الأمثل مما أملاه الله عز وجل لهم .
الرابع : ولا يحسبن الذين كفروا إمهال الله لهم خير لآنفسهم .
وهل هذا الإمهال مما أملاه الله عز وجل للذين كفروا أم لا ، الجواب هو الأول من جهات :
الأولى : الإملاء بطول العمر .
الثاني : توالي الرزق الكريم من عند الله ، وهو سبحانه لا يعطي إلا الطيب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ] ( ).
الثالث : إرجاء الحساب والمؤاخذة على المعاصي .
الرابع : توالي آيات الإنذار والبعث على التوبة والصلاح .
الخامس : اللطف الإلهي المصاحب لحياة الناس مجتمعين ومتفرقين ، فمن رحمة الله عز وجل بالناس أن الكفر لا يحجب عن الإنسان لطف الله عز وجل به .
السادس : نيل الذين كفروا من رحمة وفضل الله الذي ينزل ببركة المؤمنين وأدائهم للفرائض وعملهم الصالحات . ##
مفهوم المخالفة
ابتدأت آية البحث بحرف العطف , و(لا) الجامعة بين النهي والنفي لدفع وهم قد يدب إلى أذهان الذين كفروا فيظنون أن النعم التي تأتي من عند الله لنفعهم .
فصحيح أنهم يتمتعون بها في الدنيا ، ولكنها تكون وبالاً عليهم لتلبسهم بالكفر والضلالة ، فجاءت آية البحث لتسلب منهم نعمة التمتع بالنعم لما فيها من الإنذار بالعذاب المهين الذي ينتظرهم .
ومن خصائص الحياة الدنيا إتعاظ الإنسان من غيره ، ومنه الموعظة بمفارقة الأحبة , ورؤية الملوك يرحلون عن الدنيا إلى باطن الأرض قهرا ودفعة بالموت فجأة أو عن مرض .
ومن الآيات عدم حصر الموت بعمر مخصوص فليس من يوم من أيام الإنسان يضمن فيه سلامته ونجاته من الموت ، وفي التنزيل [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] ( ) .
فكل إنسان صائر إلى الموت ويتساوى في هذه الخاتمة الغني والفقير والآمر والمأمور ، ليحشر الناس يوم القيامة , قال تعالى [وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ] ( ) .
مع بيان القرآن لحدود هذا التعارف وأنه خال من السؤال وتبادل الحديث قال تعالى [وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ] ( ).
لتجمع الآية أعلاه البشارة والوعد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتخويف والوعيد للذين كفروا .
ومن مفاهيم المخالفة في الآية أعلاه وجوه :
الأول : بيان قانون وهو أن المعصية من الإنسان لا تقطع عنه الإملاء والنعم من الله عز وجل ، وفيه دعوة للمؤمنين للصبر من غير أن تتعارض هذه الدعوة مع لزوم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
فمن الصبر في الآية أعلاه أداء فريضة الصيام ومنه تحمل الأذى في مرضاة الله ، ومنه الصبر على الذين كفروا واسرافهم على أنفسهم مع توالي النعم من عند الله عليهم وعلى الناس والصبر في نصحهم وارشادهم وأمرهم بالإيمان .
(عن ثوبان ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : رأس الدين النصيحة فقالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله عز وجل ، ولدينه ، ولكتابه ، ولأئمة المسلمين ، وللمسلمين عامة) ( ).
الثاني : دعوة المؤمنين للدعاء وسؤال الإملاء من الله عز وجل والشكر والثناء على الله عز وجل لتفضله بتزاحم وتوالي النعم ، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بتلاوة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) في كل ركعة من الصلاة اليومية الواجبة ، وكذا في الصلاة المستحبة .
وهل يكون هذا الحمد من الشكر لله على إملاء النعم ، الجواب نعم ، وهو من لطف الله عز وجل ،ورضاه بالحمد الخاص على النعم العامة .
الثالث : بيان قانون وهو أن الإملاء والنعم من الله سبب للزيادة والمضاعفة ، أما المؤمنون فتضاعف لهم الحسنات ، قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] ( ) وأما الذين كفروا فان الأوزار التي على ظهورهم تزداد وتجعلها تنحني قهراً ، ثم تعجز عن حملها ، وهذا العجز من مصاديق قوله تعالى في خاتمة آية البحث [وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ).
الرابع : من مفاهيم المخالفة في الآية إخبار الذين كفروا بأن التوبة ماحية للذنوب وسبيل للتنعم بالخيرات من غير آثام وتدوين ذنوب .
فمن أسرار آية البحث جعل الذين كفروا ينفرون من المعاصي ومقدماتها , وفي حديث حذيفة قال ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :
تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض .
والآخر أسود مرباد كالكوز مجخيا( ) لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه ) ( ).
الخامس : البشارة للمؤمنين بالأجر والثواب على ما يأتيهم من النعم لطاعتهم لله والرسول وحثهم على الدعاء على توالي النعم ومضاعفة الإملاء ، وفي التنزيل [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ] ( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث بحرف الإستئناف الواو وهو لا يتنافى مع معاني العطف فيه إذ أختتمت الآية السابقة بالإخبار عما ينتظر الذين كفروا من العذاب والعقاب الأليم ، مع نعت الآية لهذا العذاب بأنه مهين لأصحابه .
ولو كان الكافر أباً لمؤمن فهل في عذاب الكافر هذا إهانة لولده الذي هو من أهل الجنان .
الجواب لا ، قال تعالى [يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ] ( ) ولم يرد لفظ يتعارفون إلا في الآية في القرآن إلا في الآية أعلاه فيعرف الوالد ولده وزوجته وبالعكس.
ثم جاء الحرف (لا) لنهي الذين كفروا عن الظن بأن النعم الإلهية عليهم خير لهم فهي لم تتوالى عليهم لإستحقاق منهم لها ، إنما جاءت بلطف وكرم من عند الله عز وجل ، ولتكون حجة عليهم , وشاهداً على حاجة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته للهدى والإيمان .
لقد ابتدأت آية البحث بأداءة النهي (لا) والتي تتضمن معاني في النفي أيضاً بلحاظ تعدد معاني الحرف القرآني بحسب القرائن والدلائل ، وهو من مصاديق عدم نفاد خزائن القرآن .
وأختتمت آية البحث بذكر الذين كفروا وسوء فعلهم وما يلاقونه من العذاب يوم القيامة ليكون هذا الإختصاص عبرة وموعظة للناس جميعاً ، وهو في مفهومه شكر للمؤمنين على النعمة من الكفر ومسالك الضلالة .
وأخبرت آية البحث عن قانون وهو إملاء الله للذين كفروا ، وجاء هذا الإخبار بعد النهي والإنذار لهم لبيان أن كفرهم وسخط الله عليهم لم يمنع من إملاء الله لهم ، وفيه تبكيت وتوبيخ لهم ، ودعوة للإتعاظ والإعتبار ، فمع كثرة وتوالي الإحسان لابد من الكف عن المعصية .
وأصل الإملاء والنعم أنها خير محض ، وهو المتبادر إلى الذهن عند المنعم عليه وغيره .
فاذا جاءت نعمة لشخص ما فان الآخرين يغبطونه .
فجاءت آية البحث لدفع وهم ، ولتخبر عن كون النعم التي تأتي للكافرين سبب لزيادة الآثام عليهم ، لأنهم يتلقونها بالكفر والجحود ، ويجعلونها في غير مرضاة الله , قال تعالى [فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
وتؤكد الآية وجود طائفة من الناس مقيمة على الكفر مع الميثاق الذي أخذه الله عز وجل للإيمان ، فتوجهت لهم بالإنذار والدعوة للتوبة والإنابة.
وجاءت هذه الدعوة في منطوق ومفهوم الآية ، إذ أخبرت عن إملاء وتوالي فضل الله عز وجل عليه ، وبيّنت أن هذا الإملاء سبب للكثرة في الذنوب الي تدونها الملائكة عليهم ، لتنغيص حياتهم ، وجعلهم يفقدون التلذذ باللهو والمعاصي ، لإخبار الآية عن حرمان الذين كفروا أنفسهم من الخير المترشح انطباقاً عن الإملاء وتكرر في الآية قوله تعالى [نُمْلِي لَهُمْ] .
ولم يرد في آية أخرى من القرآن لبيان أن هذه الآية هي آية الإملاء وتنبيه المؤمنين إلى قانون وهو أن النعم التي بأيدي الذين كفروا ستكون وبالاً عليهم وسبباً لحزنهم الدائم ، لذا توجه قبل آيتين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن الحزن على الذين يسارعون في الكفر لان هذه المسارعة حجة عليهم وسبب لإزدياد آثامهم ، ولولا إملاء الله عز وجل لهم لما استطاعوا محاربة النبوة والتنزيل , قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : الآية عون وسلاح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في محاربة الكفر وإزاحة الأصنام من البيت الحرام ، ودعوة الناس لنبذها .
الثانية : بيان قبح الكفر ، وأنه سبب لجلب الآثام ، وذات الكفر معصية وهو نوع طريق لإرتكاب الذنوب والمعاصي .
الثالثة : في الآية دلالة على أن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم يحارب الكفر ومفاهيمه بالقرآن وآياته ، وأنه لا يلجأ إلى الغزو لإنتفاء الحاجة إليه ، وقد كان يمر على القرى والأفراد حول المدينة وشطر منهم كانوا على الكفر والضلالة ، فلا يتعرض لهم ولا لأموالهم ومواشيهم .
الرابعة : دعوة المسلمين للإحتراز من الذين كفروا وعدم إتخاذهم وليجة وخاصة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الخامسة : منع الناس من تسويف التوبة ، وعدم المبادرة إليها ، ومن الآيات في خلق الإنسان أن كل نعمة حسية ومعجزة كونية ، وآية تنزيل تذكر الإنسان بلزوم المبادرة إلى التوبة والإنابة .
وتدل آية البحث على قانون وهو أن الذي يسوف التوبة لا يجني إلا إزدياد الذنوب مع إحتمال قبض روحه في أي ساعة ، وهو كالذي طلب منه أن يستعد ويصلح كوخه للشتاء وموسم البرد والمطر ، ولكنه تكاسل عنه ، ولما جاء موسم الشتاء عجز عن المقاومة .
وكان أبو جهل ورجال من قريش يتلقون الناس في أطراف المدينة لمنعهم من دخول الإسلام ويقولون لهم : محمد يحرم الخمر ، ويمنع من الزنا ، والربا ، فأرجعوا ونحن نحمل أوزاركم ، فنزل قوله تعالى [وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ] ( ) ؟
وتشمل أحكام الآية أعلاه الإغواء والتسبيب والإعانة على المعصية .
وقيل أن أعشى بني قيس قدم مكة وهو في طريقه إلى المدينة ليسلم ويبايع فقال في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا … وبتّ كما بات السّليم مسهّدا
وما ذاك من عشق النّساء وإنّما ..تناسيت قبل اليوم صحبة مهددا ولكن أرى الدّهر الّذي هو خائنٌ … إذا أصلحت كفّاي عاد فأفسدا
كهولاً وشبّانًا فقدت وثروةً … فلله هذا الدّهر كيف تردّدا
وما زلت أبغي المال مذ أنا يافعٌ … وليدًا وكهلاً حين شبت وأمردا
وأبتذل العيس المراقيل تغتلي … مسافة ما بين النّجير فصرخدا
ألا أيّهذا السّائلي أين يمّمت … فإنّ لها في أهل يثرب موعدا
فإن تسألي عنّي فياربّ سائلٍ … حفيٍّ عن الأعشى به حيث أصعدا
أجدّت برجليها النّجاء وراجعت … يداها خنافًا ليّنًا غير أحردا
وفيها إذا ما هجّرت عجرفيّةٌ … إذا خلت حرباء الظّهيرة أصيدا
وأمّا إذا ما أدلجت فترى لها … رقيبين جديًا ما يغيب وفرقدا
فآليت لا آوي لها من كلالةٍ … ولا من حفًى حتّى تلاقي محمّدًا
متى ما تناخي عند باب ابن هاشمٍ … تراحي وتلقى من فواضله ندا
نبيٌّ يرى ما لا ترون وذكره … أغار لعمري في البلاد وأنجدا
له صدقاتٌ ما تغبّ ونائلٌ … وليس عطاء اليوم مانعه غدا
أجدّك لم تسمع وصاة محمدٍ … نبيّ الإله حيث أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التّقى . ولاقيت بعد الموت من قد تزوّدا
ندمت على ألاّ تكون كمثله … فترصد للأمر الذي كان أرصدا
فإيّاك والميتات لا تقربنّها … ولا تأخذن سهمًا حديدًا لتفصدا
ولا النّصب المنصوب لا تنسكنّه … ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
ولا تقربنّ جارةً إنّ سرّها … عليك حرامٌ فانكحن أو تأبّدا
وذا الرّحم القربى فلا تقطعنّه … لعاقبةٍ ولا الأسير المقيّدا
وسبّح على حين العشيّات والضّحى ولا تحمد الشّيطان والله فاحمدا
ولا تسخرن من بائسٍ ذي ضرارةٍ … ولا تحسبنّ المال للمرء مخلدا ( ).
فصده المشركون من أهل مكة ، وقالوا له يا أبا بصير : أن محمداً يحرم الزنا , فقال : لا حاجة لي في الزنا ، أي أنه كبر وشاخ ولا رغبة له بالزنا .
فقالوا : إنه يحرم الخمر .
فقال : أتروى منها عامي هذا ، ثم أعود لاسلم فمات في سنته ، ولم يعد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : إخبار آية البحث الناس جميعاً بأن الذين كفروا يجمعون الذنوب لأنفسهم بارتكاب المعاصي ، ويجعلونها تدخل معهم القبر ، وتصاحبهم يوم القيامة ، لتكون الآية موعظة وعبرة .
السابعة : إقامة الحجة على الذين كفروا بأن النار مثواهم يوم القيامة ، والإملاء من الله نعمة على الذي يأتيه الإملاء وأسرته وقومه ، وهو إمتحان لهم مجتمعين ومتفرقين ، وهذا الإمتحان من أسباب وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [ أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ] ( ).
التفسير
قوله تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ] ( )
يحتمل المراد من الذين كفروا في آية البحث وجوهاً :
الأول :إرادة الذين كفروا بالله عز وجل ، وجحودهم بالربوبية لله عز وجل .
الثاني : الذين أنكروا النبوات والتنزيل مطلقاً وكفروا بالأنبياء السابق منهم واللاحق ، قال تعالى [فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ) .
الثالث : الذين أقاموا على عبادة الأوثان ، وأعرضوا عن البشارة والإنذار ، وعالم الجزاء ولم يتدبروا بالآيات الكونية.
الرابع : الذين كفروا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات الحسية والعقلية التي جاء بها .
وكل هذه الوجوه من مصاديق آية البحث لوجوه :
الأول : صدق مفهوم الكفر .
الثاني : أصالة الإطلاق المستقرأ من آية البحث .
الثالث : تجلي الشواهد على جحود الذين كفروا وظلمهم لأنفسهم .
الرابع : الكفر من الكلي المشكك وهو على مراتب متفاوتة , فقد يكفر شخص بالنبوة ، أو التنزيل أو يفكر ضرورة من ضرورات الدين عن عمد وإصرار.
وقالوا أن لا في [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا] ناهية ولكنها للخبر أقرب ، فلم تقل الآية : يا أيها الذين كفروا لا تحسبوا ، وقد ورد الخطاب للذين كفروا في القرآن بقوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( )، إذ يتجلى النهي بوضوح .
وتمنع آية البحث الذين كفروا من الظن بأن فضل الله عز وجل عليهم سبب لنفعهم في الدنيا أو في الآخرة ، وفيه إنذار لهم .
وتبين آية البحث سخط الله عز وجل على الذين كفروا ، فالآية وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تجمع بين النهي والإنذار ، وهو من إعجاز الآية القرآنية بأن تتعدد الغايات الحميدة للآية القرآنية ، وكذا تتعدد الجهات التي يتوجه الخطاب القرآني لينتفع الناس جميعاً من الآية القرآنية ، وهو من أسرار كثرة ضروب النداء في القرآن ، من جهات :
الأولى : الخطاب العام للناس جميعاً في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ..]( )، والذي ورد في القرآن عشرين مرة.
الثانية : توجه نداء التشريف إلى المسلمين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] والذي ورد في القرآن تسعاً وثمانين مرة .
الثالثة : الخطاب لأهل الكتاب من اليهود والنصارى واتباع الأنبياء مطلقاَ كما في قوله تعالى [قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ]( ).
الرابعة : صيغة الإنذار بالخطاب للذين كفروا في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا].
ولا يختص الأمر بصيغة الخطاب الوارد في ذات الآية , فمن إعجاز القرآن أن كل آية منه خطاب للناس جميعاً ويتضمن هذا الخطاب لغة البشارة والإنذار ومضامين الموعظة والدعوة إلى الهدى ، فالخطاب القرآني بذاته مدرسة وجامعة حاضرة في الوجود الذهني والمنتديات والمجالس والمساجد ففي قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] مسائل :
الأولى : إكرام المؤمنين والمؤمنات الى يوم القيامة ، فيغادر المسلم الحياة الدنيا والسكينة تملأ قلبه لأنه سيلاقي ربه الذي أنعم عليه بالهدى الإيمان وتفضل الله وخاطبه بصيغة الإيمان , وتقدير الآية بصيغة المفرد (يا أيها الذي آمن).
ليكون هذا النداء بشارة الأمن في الحياة الآخرة وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً]( ).
الثانية : فوز المسلمين والمسلمات بتلقي النداء القرآني المتباين في سعته إذ يشملهم خطاب يا أيها الناس وخطاب يا أيها الذين آمنوا ، وهل يشملهم خطاب [يَا أَهْلَ الْكِتَابِ] الجواب قد ورد لفظ (يا أهل الكتاب) مرتين في القرآن بصيغة الإحتجاج قال تعالى [َيا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( )، وقال تعالى[يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ] ( ) .
ووردت كل من الآيتين في سورة آل عمران لبيان أنها سورة أهل الكتاب ، ويتجلى من اسمها وأنها سورة آل عمران وصحيح أن المسلمين أهل كتاب أيضاً إلا أن الله عز وجل شرّفهم بتسمية المسلمين وهم يؤمنون بكل الكتب السماوية ، فهم أهل الكتب السماوية وحفظتها , وإذ يؤمن اليهود بالتوراة والزبور ، ويؤمن النصارى بالتوراة والإنجيل والزبور ويؤمن المسلمون بالقرآن وكل الكتب السماوية التي نزلت من عند الله على الأنبياء السابقين .
ويبقى النداء القرآني (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) دعوة للرأفة بين المسلمين مع المشترك بينهم وهو إتباع الأنبياء , والإقرار بالوحي والتنزيل من عند الله عز وجل.
وجاء القرآن بالخطاب للمسلمين فيما يخص الصلة مع أهل الكتاب في مواضع كثيرة من القرآن ، قال تعالى [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( )، لبيان سنخية الصلة والمعاملة مع أهل الكتاب بأن مادتها الجدال والإحتجاج وليس السيف أو القتال ، وصيغة هذا الجدال الرفق واللطف وذكر الحجة المتعددة ، والبراهين المتكثرة التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع مقابلة الإنكار بالإحسان والكظم ، والعناد بالبرهان ، والمغالطة بالنصح .
وقيل أن الآية أعلاه منسوخة بآية السيف ، ولا دليل عليه والأصل عدم نسخ هذه الآية ، إنما تدعو المسلمين لحسن العشرة مع أهل الكتاب ، وإجتناب المغالبة وإرادة القهر والخصومة ، وحتى الذين ظلموا بالعناد والمكابرة فيكون المسلم مخيراً بين أمور :
الأول : الإعراض عنهم .
الثاني : جدالهم مع الغلظة ومن غير إحسان ، وتقدير الآية : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلى الذين خلوا فجادلوهم بغير التي هي أحسن من اللطف والرفق , ومن غير الأحسن الحسن والصبر , وهل يصح وجادلوهم بالحسن الجواب نعم , وكذا وجادلوهم بالغلظة .
الثالث : الإحتجاج على الذين ظلموا مع الخشونة وزيادة البيان .
الرابع : تقدير الآية : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا الآية أعلاه بذات الجدال ، إنما يشمل البيان ما يصاحب الجدال وعموم الصلة مع أهل الكتاب .
الخامس : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن واللطف في المعاملة والجوار ونحوه .
السادس: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن من المودة وقضاء الحوائج , وكان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جار يهودي وعن بريدة قال ( كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : اذهبوا بنا نعود جارنا اليهودي . قال : فأتيناه ، فقال : كيف أنت يا فلان ؟ فسأله ، ثم قال : يا فلان ، اشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله. فنظر الرجل إلى أبيه ، فلم يكلمه ، ثم سكت .
ثم قال : وهو عند رأسه فلم يكلمه ، فسكت ، فقال : يا فلان ، اشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله . فقال له أبوه : اشهد له يا بني . فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله .
فقال : الحمد لله الذي أعتق رقبة من النار) ( ), والحديث ضعيف سنداَ , وتعددت طرقه , ولكن وجود اليهود في المدينة ومعاملتهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر متواتر .
السابع: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن , وما يبعث الأمن والطمأنينة في نفوس أهل الكتاب .
الرابع : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن وليس بالغلظة والتوبيخ والذل ، مما يدل على الإبتعاد عن السيف .
وصحيح أن الآية استثنت الذين ظلموا من الأحسن لكنه لا يعني الإنتقال إلى السيف والقتال .
ولا تختص آية البحث بالذين كفروا من الذكور إنما تشمل الآية الأناث أيضاً ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ولا يحسبن اللائي اشترين الكفر بالإيمان .
الثاني : ولا يحسبن اللائي اشترين الكفر إنما نملي لآبائهم أو أزواجهن الكفار خيراً لأنفسهم .
الثالث : ولا يحسبن اللائي اشترين الكفر بالإيمان إنما نملي لهن خيراً لأنفسهن .
الرابع : ولا يحسبن اللائي اشترى آباؤهن وأزواجهن الكفر أن الله يملي لهم خير لأنفسهم .
الخامس : ولا يحسبن اللائي كفرن أنما نملي لهن خيراً لأنفسهن , وفيه دعوة للناس ذكوراَ وأناثا إلى عدم ترك الكفر تركة وارثاَ وعن الحسن البصري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، وأيما داع دعا إلى ضلالة فأتبع عليها وعمل بها فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً قال عون : وكان الحسن مما يقرأ عليها { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم . . }( ) إلى آخر الآية) ( ).
ومن إعجاز القرآن توجهه إلى الناس ذكوراً وأناثاً ، ومجتمعين ومتفرقين بأمور :
الأول : التكليف بالفرائض العبادية .
الثاني : بيان إرادة الله التكوينية المطلقة للإخبار أن حال وشؤون وأرزاق الناس بيد الله عز وجل ، وهو الذي يملي لهم جميعاً ويجعلهم في رغد عيش وغبطة وسعادة وحال السعة والمندوحة وكثرة المال والعافية للناس سواء كانوا مؤمنين أو كفاراً , ولكن هذا الإملاء والنعمة ليس خيراً وبركة ونفعاً للذين كفروا واللائي كفرن , قال تعالى[لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمْ النَّارَ وَلاَ عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ] ( ).
الثالث : لغة البشارة والإنذار للناس جميعاً ، فمن وظائف الأنبياء تبليغ الرسالة السماوية وما فيها من البشارة للذين آمنوا ، ويشكرون الله عز وجل على ما يملي لهم من النعم .
أما الذين كفروا فتأتيهم النعم ، وتتوالى عليهم مصاديق فضل الله ، وأسباب التذكير بأنها من عند الله وأنها ليس بمقدورهم وقوتهم وشأنهم إنما هي بمشيئة الله ، إذ أن الضعف يصاحب الإنسان ، لقوله تعالى [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ) وهل يدرك الإنسان هذا الضعف .
الجواب نعم ، وجاءت آية البحث لبيان مصداق له ، وتأكيده ، وهو أن الإملاء والمن والنعم التي عند الإنسان كلها من عند الله عز وجل وليس بجهد وسعي الإنسان ، وفي التنزيل [وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ] ( ), وفي الآية دعوة للإحتراز من آفة الحسد لأن الإملاء من عند الله عز وجل ليس له حد , ويأتي دفعة وتدريجياَ .
وقد يكون متوارثاَ مع نماء ظاهر فيه, وقال حاتم الطائي من الوافر (ومن حسد يجور عليّ قومي … وأي الدّهر ذر لم يحسدوني) ( ) .
أي معناه وأي دهر لا يحسدوني فيه , وسواء في حال الغنى أو الفقر .
الرابع : لزوم الإيمان بالتوحيد والإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، والتسليم بوجوب عبادتهم له ، مع تطامن وخضوع وهو يتفضل بإملاء النعم ويديمها عليهم .
وهل آية البحث من مصاديق هذا اللزوم , الجواب نعم ، لبيان قانون من وجوه :
أولاً : قانون كل آية قرآنية تدعو إلى الإيمان بالله .
ثانياً : كل آية قرآنية تبعث على حب الناس لله عز وجل .
ثالثاً : كل آية قرآنية وسيلة للرزق الكريم .
رابعاً : كل آية قرآنية إملاء من عند الله ، لبيان قانون وهو أن الإملاء من عند الله أعم من أن يختص بالرزق من الملموس من الأكل والشرب ، إنما يشمل سبل الهداية ، وملكة الخير والصلاح والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [َلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
خامساً : قانون الإملاء من عند الله للمؤمن خير محض باختيار الإيمان واللجوء إلى الدعاء والإستغفار ، وفي التنزيل [وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزيِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ]( )،وفي آية البحث فضل من الله من وجوه :
الأول : الآية فضل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن جعله الله عز وجل يتلقى الإخبار من الله عز وجل للناس جميعاً بأن الله عز وجل يملي للذين كفروا وينعم عليهم ، مما يدل بالأولوية القطعية أنه يملي ويحسن للذين آمنوا .
الثاني : آية البحث سبيل لهداية الناس إلى الإستغفار .
الثالث : بيان حب الله عز وجل لعبادة , وتفضل بتقربهم إلى منازل الخلافة في الأرض وقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )
سادساً : قانون الإملاء ، بأن لا يقدر على الإملاء للعباد إلا الله تعالى ، وليس من حصر أو جد لإملاء الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
سابعاً : قانون إملاء الله للبر والفاجر, والمؤمن والكافر .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : لا يحسبن الذين كفروا تركهم الإيمان خير لأنفسهم .
الثاني : لا يحسبن الذين كفروا اختيارهم الكفر خير لأنفسهم . وصحيح أن الآية في ظاهرها تتحدث عن الإملاء من الله عز وجل وتسخير الذين كفروا له بالباطل .
ولكنها تتضمن أيضاً الإنذار والوعيد على الكفر والجحود لأنه منهاج باطل وفيه ظلم للنفس.
ويأتي تسخير النعم في المعصية من قبل الكافر ظلماً آخر لنفسه، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الثالث : لا يحسبن الذين حاربوا النبوة والتنزيل خير لأنفسهم
يكون الإملاء بخصوص نزول القرآن وجوهاً :
الأول : آية البحث من الإملاء الذي تذكره ذات الآية .
الثاني : مجموع آيات القرآن من الإملاء .
الثالث : كل آية من القرآن هي إملاء للناس جميعاً .
الرابع : الجمع بين كل آيتين أو ثلاثة من الإملاء .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , فلا يختص الإملاء بالمل إنما يشمل عموم النعم الظاهرة والباطنة ، والمادية والمعنوية والروحية ، فكيف والآية القرآنية ضياء ينير دروب السداد والرشاد في أمور الدين والدنيا ، وفي التنزيل [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا] ( ).
ومن إعجاز القرآن في كونه إملاءّ للناس نزول آياته على نحو التدريج والتوالي ليكون هذا التوالي نوع تنبيه وإنذار للناس ، ومناسبة يتدبرون فيها بمضامين الآية القرآنية النازلة تواً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي بلغتهم بواسطة الركبان ، ولم يكونوا قد سمعوا بها ، ومن الإعجاز في قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ) أن الناس يأتون إلى مكة للحج والعمرة والزيارة والتجارة أيام نبوة محمد فينهلوا من آيات القرآن ويأخذونها إلى بلدانهم وقبائلهم تحفة وهدية .
فيكون موضوع الآية القرآنية عندهم على وجوه :
أولاً : الذين يأتون إلى مكة وهم يحملون معهم آيات القرآن ويقومون بتلاوتها سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين ، فينصت لهم الناس .
ثانياً : صيرورة مكة محلاَ ومنبراَ لتلاوة آيات القرآن .
ثالثاَ : ذكر مجالس مكة والزائرين لها لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاَ : الحجاج والمعتمرون الذين يستمعون لآيات القرآن ، وكان العرب يتصفون بقوة الحافظة ليرجعوا إلى قراهم وأمصارهم وهم يحملون معهم كنزاً وثروة ، وهي آيات القرآن النازلة ، فتكون كل آية دعوة إلى الإيمان ، وفيها مسائل :
الأولى : غنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن الغزو .
الثانية : كفاية الآية القرآنية عن الغزو والتبليغ .
وكان رؤساء الكفار يخشون إطلاع الناس على أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته الحميدة ليكون من أسرار قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) بعث الشوق في النفوس للإطلاع على سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وحسن معاشرته , وكريم أخلاقه وكرمه وخشيته من الله سبحانه .
الثالثة : تدارك الناس لآيات القرآن في المجالس والمنتديات ، وفي قوافل الطريق ، وحتى أهل البيوت اللائي عند الماء في طريق الركبان يسمعون من المسافرين وعابري الطريق آيات القرآن وأخبار النبوة ويبعث الله في نفوسهم الشوق لإستماع إلى المزيد منها ، ويصيرون دعاة إلى الإسلام بتلاوتها على الذين يمرون عليهم من الركبان ، ومنهم من يبيت عند الماء للإستراحة والتخفيف عن راحلته أو لانتظار الرفقة .
الرابعة : تلاوة الناس لآيات القرآن ، لقد كان العرب يولون عناية للشعر ، ويكثرون من ترديد قصائد المدح والهجاء ، فجاء القرآن بمكارم الأخلاق والتفقه في معاني الحياة الدنيا ، ولزوم الإستعداد لعالم الآخرة ، ونبذ الكفر والتنابز بالإلقاب وقبائح الأخلاق كالغيبة والنميمة .
الخامسة : لقد إجتهد كفار قريش بمنع أهل مكة من الإستماع لآيات القرآن وسعوا في إخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها كيلا ينجذب إليه أهلها وخاصة الشباب منهم ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) .
فهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وظن كفار قريش انقطاع صلته والوحي مع أهل مكة ، فتفضل الله عز وجل بقيام وفد الحاج والمعتمرين بنقل آيات القرآن إلى مكة وتلاوتها في البيت الحرام وأرجاء مكة والمشاعر المقدسة ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ويحتمل المراد من الذين كفروا لحاظ أفراد الزمان الطولية وجوهاً :
الأول : إرادة كفار قريش الذين حاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : شمول المنافقين بالآية لأنهم يبطنون الكفر ، ويخفون الرغبة بخسارة وهزيمة المسلمين .
الثالث : المراد الذين كفروا من الأمم السابقة الذين كذبوا بالأنبياء مثل آل فرعون الذين جحدوا بنبوة موسى عليه السلام , قال تعالى [كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ).
الرابع : إرادة الذين كفروا إلى يوم القيامة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية ، وهو من الإعجاز من إبتداء الآية بأداة النفي (لا) فلم تقل الآية (لن يحسبن) نعم يدل لحاظ نظم الآية على إرادة أيام النبوة ، وما كان يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الذين كفروا وتسخيرهم النعم التي رزقهم الله في قتاله وتحشيد الجيوش ضده ، وهو منقطع إلى الله , يتلو على الناس ما يوحي الله عز وجل إليه , وقال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا] ( ).
قوله تعالى [إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا] ( )
من أسماء الله الـ[مَالِكَ]و[الملك]و[مَالِكَ الْمُلْكِ] قال تعالى [قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
والله هو الملك المتصرف بالخلائق على نحو الإطلاق والإستدامة ومن كل الوجوه والجهات لا ينازعه أحد في ملكه لأن كل شئ هو ملك له ، ومن يدعي الملك في الدنيا فهذه الدعوة على نحو محدود ، وفي التنزيل [وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ]( ).
فمن مصاديق آية البحث أن الله سبحانه أملى لفرعون وقومه وجعلهم ملوكاً وقادة ، ورزقهم من الطيبات , وجريان الأنهار والجداول بما أزدهرت معه الزراعة والصناعة ، ولكنهم اقاموا على الكفر والجحود ، فلم يعجل الله عز وجل لهم بالعقوبة إنما أمهلهم سبحانه ، وهذا الإمهال ليس أمراً مجرداً بذاته إنما تفضل الله عز وجل وجعل النبوة والتنزيل حاضرين معه .
وعن ابن عباس (قال موسى عليه السلام : يا رب أمهلت فرعون أربعمائة سنة وهو يقول : أنا ربكم الأعلى ، ويكذب بآلائك ، ويجحد رسلك . فأوحى الله إليه : أنه كان حسن الخلق ، سهل الحجاب ، فأحببت أن أكافئه) ( ), إذ بعث موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وقومه منذرين ومبشرين , ويحتمل وجوهاً :
الأول : بعث الله موسى إلى فرعون من الإملاء له ولقومه .
الثاني : هذا البعث من الإمهال لفرعون .
الثالث : بعث الله موسى عليه السلام للإنتقام من فرعون وجنوده .
الرابع : أراد الله عز وجل ببعثة موسى عليه السلام نجاة بني إسرائيل من فرعون وملئه واضطهاده لهم ، وإرادة مزاولة ضروب الإبادة وقطع النسل معهم ، كما قال تعالى [وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ] ( ).
وتدل الآية أعلاه في ظاهرها على أن الملأ من قوم فرعون قاموا بتحريضه على موسى عليه السلام وبني اسرائيل لأنهم يدعون إلى عبادة الله عز وجل وحده دون فرعون والكواكب , وكان فرعون يقول [أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى] ( ) .
ومن اعجاز القرآن أن لفظ (رَبُّكُمْ الأَعْلَى) لم يرد في القرآن إلا في الآية أعلاه , وحكاية عن فرعون , والله عز وجل هو الرب الأعلى للخلائق .
ولا يعني ترك هذه الكلمة لأن فرعون قالها وقال أيضاَ (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) لإفادة أنه يتجاهر بالعتو والجحود , وإدعاء الربوبية , وليؤاخذ بها في الدنيا والآخرة , وقد خاطب الله موسى بأنه الأعلى [قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى] ( ) .
وعندما أدرك فرعون الغرق استغاث فخسى جبرئيل فاه , كما ورد عن ابن عمر قال (قال لي جبريل : يا محمد لو رأيتني وأنا أغط فرعون بإحدى يدي وأدس من الحال في فيه مخافة أن تدركه الرحمة فيغفر له .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : قال لي جبريل : ما غضب ربك على أحد غضبه على فرعون إذ قال : { ما علمت لكم من إله غيري }( ) { فقال أنا ربكم الأعلى}( ) فلما أدركه الغرق استغاث وأقبلت احشو فاه مخافة أن تدركه الرحمة.
وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : كانت عمامة جبريل عليه السلام يوم غرق فرعون سوداء) ( ).
فأراد فرعون قتل أبناء بني اسرائيل لاستئصالهم مع استحياء النساء أي تفتيش أرحامهن مع تركهن أحياء لإنعدام الضرر منهن ولعجزهن عن القتال ولبقائهن للخدمة ، ويلزم قيام فرعون باعادة قتل الأبناء بعد بعثة موسى وبلحاظ الآية أعلاه إلى دليل ، كما في قوله تعالى [وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ] ( ) مما يدل على شروع فرعون بالقتل والسبي خاصة وأنه قال [سَنُقَتِّلُ] التي تفيد المستقبل القريب ولم يقل سوف نقتل .
نعم عدم استمرار واستدامة هذا القتل معجزة للنبي موسى عليه السلام ، ويدل عليه نجاتهم من فرعون وعبورهم البحر بسلام ، نعم جاءت الآية التالية لها أن موسى عليه السلام أمر قومه بالإستعانة بالله والصبر وبشرهم بأن الله عز وجل يورث الأرض من يشاء من عباده لأنه سبحانه هو المالك والملك وحده ، وأن بني اسرائيل اشتكوا من وطأة الأذى قبل وبعد مجئ موسى ، كما ورد بقوله تعالى [قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا] ( ) , لما لحق بني اسرائيل من القتل والسبي قبل بعثة موسى وتعرضهم للأذى بعد رسالته ودعوته فرعون لإتباعه .
وعن وهب بن منبه (الآية قال : قالت بنو إسرائيل لموسى : كان فرعون يكلفنا اللبن ( ) قبل أن تأتينا ، فلما جئت كلفنا اللبن مع التبن أيضاً ، فقال موسى : أي رب أهلك فرعون حتى متى تبقيه . فأوحى الله إليهم : إنهم لم يعملوا الذنب الذي اهلكهم به) ( ) .
ولكن هذا الأذى وحده لا يدل على شروع فرعون بقتل الأبناء من جديد خاصة وأن وعده بالقتل في الآية أعلاه مطلق .
ففي السابق عندما أخبره وحذره المنجمون , إذ كان فرعون قد رآى رؤيا بأن ناراً أقبلت من بيت المقدس فأحرقت دور مصر وجميع القبط باستثناء دور بني إسرائيل لم تمسسهم النار ، فهاله وأفزعه ما رآى وجمع الكهنة والسحرة والمنجمين والقافة( ) والحازّة( ) والمعبرين .
وكانت للرؤيا وتعبيرها منزلة عند قوم فرعون ، وهناك رجال مختصون بتأويلها ، وقصّ فرعون على هؤلاء الذين جمعهم رؤياه التي أخافته . فقالوا له هذا غلام يولد من البلد الذي جاء منه بنو اسرائيل (يعنون بيت المقدس ) ( ) رجل يكون هلاك قومك وزوال ملكك على يديه .
إذ لا يستقيم الملك إلا بالرجال والأعوان ، كما أنه لا يكون ملك إذا لم تكن هناك رعية ، فاذا احترقت القبط ، وبقي بنو اسرائيل ومعهم هذا الرجل القادم بالشدة والقوة والذي تدل عليه في الرؤيا النار ، فان ملك فرعون لا يبقى .
ومن معاني النار في الرؤيا إنذارات النبوة ، وعصا موسى عليه السلام ، فأصدر فرعون أمراً بقتل المواليد الجدد لبني اسرائيل ، فصار لا يولد لهم غلام إلا قتله جنود فرعون أما لو ولدت جارية فأنهم يتركونها .
ليكون من الوقائع النادرة في التاريخ التي يرغب فيها أهل بلدة أو قوم وطائفة بأن تولد لهم البنات دون الذكور مع رغبة الإنسان بالفطرة أباَ أو أماَ بولادة المولود الذكر ، وأسرع الموت في مشايخ بني اسرائيل .
وهل من موضوعية لقتل آل فرعون لأبنائهم واستحياء نسائهم في سرعة الموت فيهم ، الجواب نعم ، للكمد والغم والحزن المستديم والإستضعاف مع أنهم على حق , فوجود الأبناء ونموهم ومداراتهم وإعاشتهم من أسباب مجاهدة الإنسان ليبقى حياَ , وهو من عمومات قوله تعالى [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ) .
ولا تعارض فيه مع علم الله عز وجل بآجال الناس , قال تعالى [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ).
فتفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بسرعة النصر , وزوال حال الإستضعاف بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
وحصل النقص الفادح في الأيدي العاملة عند الأقباط ، فليس من شباب يعملون في خدمتهم والكبار يموتون ومن ينسئ في الأجل من بني إسرائيل يعجز عن الخدمة وتتسارع إليه الأمراض بسبب المحن الشخصية بزيادة ساعات العمل عليه وشدته لعدم وجود بدلاء ومشاركين في العمل ، وكان الأقباط يتولون زراعة أراضي واسعة في مصر بدليل قول فرعون [وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي] ( ).
وكان مراده من قوله هذا أنكم ترزقون وتزرعون وتأكلون بالأنهار والمستلزمات التي هي من ملكي ، مع قدرتي على تحويلها عنكم .
وبعد قتل مواليد الأسر العاملة ذهب الملأ من قوم فرعون إليه وشكوا تراكم أعمال الزراعة والحراثة والسقي والحصاد ، ورعي المواشي والأنعام والخدمة الشخصية والمنزلية عندهم ، وقالوا له يوشك العمل أن يقع على أبنائنا , وهم لا يعلمون أن أبناءهم لا يقدرون على معشار هذه الأعمال ، وأقترحوا عليه أن يبقي شطراً من أولاد بني اسرائيل ، وكان قد مرّت على رؤياه سنوات ، مما جعلها في عالم النسيان خاصة مع عدم تحقق مصداق مخيف ومرعب لها .
عندئذ أمر فرعون بأن يذبح المولودون من بني اسرائيل سنة ، ويتركون سنة ثانية .
فولد موسى عليه السلام في السنة التي فيها الذبح فنجّاه الله عز وجل بمعجزة متعددة في الموضوع المتحد ، كما في قوله تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
ليكون الإملاء على الذين كفروا متصلاً في كل زمان، وما ذكر آل فرعون وسلطانهم إلا عبرة وموعظة.
وذات موضوع رؤيا فرعون بخصوص موسى عليه السلام وقع مثلها من قبل وفي أيام إبراهيم عليه السلام ، إذ رآى ملك بابل وهو (نمروذ بن كنعان بن كُوش بن سام بن نوح. ويقال: نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح والأول قول مجاهد وغيره.
قال مجاهد: وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان وكافران فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين. والكافران: نمرود [بن كنعان] وبختنصر. فالله أعلم.) ( ).
وذكر أن نمرود رآى في المنام كأن كوكباً طلع فذهب بضوء الشمس والقمر ، فلم يبق لهما ضوء( ) مع ضوئه وشدة ضيائه ، فخاف نمرود وأصابه الفزع من الرؤيا .
لبيان أن فرعون ونمرود يدعيان الربوبية ثم لم يلبثا أن يعلن كل منهما أمام الملأ فزعه من رؤيا يراها في المنام , ليكون موعظة وعبرة للناس , ودعوة لهم للتدبر , وليكون من وظائف الرؤيا فضح الظالمين الذين يفترون الكذب .
وتمر الأيام ليتحقق مصداق هذه الرؤيا بما فيه خزي للطاغوت ، وتحتمل هذه الرؤيا بلحاظ الإملاء الذي تذكره آية البحث وجوهاً :
الأول : رؤيا الإنذار هذه من الإملاء الذي تذكره آية البحث .
الثاني : هذه الرؤيا إنذار من حرمان الذين كفروا من الإملاء الذي يتفضل الله عز وجل به .
الثالث : في هذه الرؤيا دعوة ملكوتية وروحية للذين كفروا والإتعاظ للتوبة والإنابة , وفي التنزيل [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ) .
الرابع : القدر المتيقن من الإملاء في قوله تعالى[وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ]( )، هو المنافع المادية .
وباستثناء الوجه الرابع فان الوجوه الأخرى من مصاديق الآية الكريمة، لتكون رؤيا الإنذار والبشارة تعضيداً لرسالة الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل ، وازداد الطواغيت إثماً بهذه الرؤى بأن قاموا بالقتل وبقر بطون الحوامل ونحوه ، وعاقبة الظلم إلى زوال وعن (عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله سبحانه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد }( ) .
ولما قصّ نمرود رؤياه على الكهنة والسحرة والقافة والحازّة قالوا له يولد مولود في ناحيتك هذه السنة يكون فيه زوال ملكك فأمر بعزل الرجال عن النساء ، وجعل على كل عشر أزواج رجلاً يمنع إتصال الزوجين في حال الطهر ، ويخلي عن التي تحيض مدة الحيض ، وإذا طهرت عزل بينها وبين زوجها .
قال السدي (خرج نمرود بالرجال إلى المعسكر ونحاهم عن النساء خوفاً من ذلك المولود أن يكون فمكث بذلك ما شاء اللّه ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأمن عليها أحداً من قومه إلاّ آزر فبعث إليه ودعاه.
فقال : إن لي إليك حاجة أحبّ أن أوصيك بها ولا أبعثك إلاّ لثقتي بك بما أقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك ولا تواقعها.
فقال آزر : أنا أشحّ على ديني من ذلك.
فأوصاه بحاجته ثم بعثه فدخل المدينة وقضى حاجته.
ثم قال : قد دخلت على أهلي ونظرت إليها فلما نظر إلى أم إبراهيم لم يتمالك حتى وقع عليها فحملت بإبراهيم.
قال ابن عباس : لما حملت أم إبراهيم.
قالت الكهان لنمرود : إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملته أمه الليلة،
فأمر نمرود بذبح الغلمان فلما دنت ولادة أم إبراهيم وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها فوضعته في نهر يابس،
ثم لفته في خرقة فوضعته في حلفاء ( ).
فرجعت فأخبرت بأنها ولدت وإن الولد في موضع كذا فانطلق أزر يأخذه من ذلك المكان وحفر له سرباً عند نهر فواراه فيه وسدّ عليه بابه بصخرة مخافة السباع،
وكانت أمه تختلف إليه فترضعه.) ( ).
وهل رؤيا البشارة والإنذار من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) الجواب نعم ، فبينما يدّعي فرعون أو نمرود الربوبية ويطيعه قومه طاعة عمياء يشيع بين الناس فزعه من رؤيا وعجزه عن دفع ضررها وآثارها بينما تأتي الرؤيا بالإنذار للمؤمن فيتوجه بالدعاء إلى الله عز وجل ويسأله صرفها وأثرها ، فيتفضل الله عز وجل بالإستجابة كما في قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) , من الوعد الكريم وهو من الإملاء الذي حرم المشركون أنفسهم منه ابتداءَ واستدامة .
وهذا الدعاء والإستجابة من مصاديق الآية أعلاه ليكون معنى الجنود الذي تذكره الآية أعلاه ، ليكون معنى الجنود الذي تذكره الآية أعلاه مطلقاً ومتعدداً وشاملاً للمتضادين في الموضوع المتحد .
فرؤيا الإنذار التي رآها فرعون هي بشارة للمؤمنين وشاهد على وهنه وضعفه ، ودعوة للناس للتدبر في الخلق ، ومقدمة للتصديق برسالة موسى عليه السلام ، ومن الشواهد عليه إيمان طائفة من آل فرعون برسالة موسى عليه السلام ، قال تعالى [وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
(قال السدّي ومقاتل : كان ابن عم فرعون وهو الذي أخبر الله تعالى عنه فقال : [ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى ] .
وقال آخرون : كان إسرائيلياً،
ومجاز الآية : وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون. والمختار أنه من آل فرعون, وحكى الكلبي أن اسمه حزبيل ، وكان مَلِكَا على نصف الناس وله الملك بعد فرعون ، بمنزلة ولي العهد)( ).
واختلفوا أيضاً في اسمه على وجوه :
الأول : (قاله ابن عبّاس : اسمه حزبيل) ( ).
الثاني : (عن وهب بن منبه : اسمه حزيقال) ( ).
الثالث : اسمه سمعان .
الرابع : حبيب .
الخامس : خربيل .
السادس : هو حزبيل بن ميخائيل .
السابع : (شمعان) ( ).
الثامن : سمعون (سمعون ، بالسين المهملة ، قاله شعيب الجبَّائي) ( ).
التاسع : شمعان (شمعان ، بالشين المعجمة ، رويا عن ابن إسحاق ، وكذلك حكى الزجاج شمعان بالشين) ( ).
العاشر : جبريل (وقال إسحاق كان اسمه جبريل) ( ).
(أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمّد بن خالد أخبرنا داود بن سليمان أخبرنا عبد الواحد أخبرنا أحمد بن يونس حدثنا خديج بن معاوية عن أبي إسحاق قال : كان اسم الرجل الذي آمن من آل فرعون (حبيب).) ( ).
ولو دار الأمر بين المعنى الظاهر بأنه من آل فرعون أم المجاز وأن في الآية حذفاً ، فالجواب هو الأول، وهل كان الذي آمن برسالة موسى عليه السلام ، ودعوته إلى الله رجلاً واحداً ، الذي تذكره الآية أعلاه أم أكثر ، الجواب هو الثاني ، إنما ورد ذكره من باب المثال ، ولبيان موضوعية احتجاجه خاصة وأنه ذكر البينات التي جاء بها موسى عليه السلام .
وأخرج أبو الشيخ عن أبي عمران الجوني قال : لا يغرنكم طول النسيئة ولا حسن الطلب ، فإن أخذه أليم شديد) ( ), وهل ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإملاء الله عز وجل وعاقبة الجحود به من تفسير آية البحث .
الجواب نعم ومن أسباب حنق الطواغيت على الأنبياء استجابة طائفة من قومهم والمقربين لهم لدعوة الرسل والأنبياء ، وتجلى هذا الأمر واضحاً باصرار رؤساء قريش على حرب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتاله وبذل الأموال الطائلة لتجهيز وتسيير الجيوش لقتاله وأصحابه في المدينة .
وإذا كانت حسنات المؤمن تتضاعف في حياته وبعد موته بفضل من الله عز وجل ، إذ يجعل النماء فيها حتى يوم القيامة ، فيحتمل المراد من [لِيَزْدَادُوا إِثْمًا] ( )بخصوص الذين كفروا وجوهاً :
الأول : يزدادون إثماً إلى أثمهم في ذات المعصية .
الثاني : المراد التمادي في الذنوب ، وإرتكاب الآثام .
الثالث : تسخير الذين كفروا النعم في المعاصي .
الرابع : مضاعفة كتابة السيئات على الذين كفروا في حياتهم ، وبعد مماتهم .
وباستثناء الوجه الأخير أعلاه ، فان الوجوه الأخرى من مصاديق الآية ، فليس من مضاعفة للآثام من ارتكاب المعصية ، وهو من رحمة الله عز وجل بالناس في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : إنما نملي لهم ليؤمنوا ويعملوا الصالحات وليس ليزدادوا إثماً .
الثاني : إنما نملي لهم لأن الدنيا دار الإملاء وتوالي فضل الله على الناس جميعاً ، ولو شاء الله عز وجل لجعل الرزق الواسع الكريم خاصاً بالمؤمنين ، ولكنه تفضل وجعله للناس جميعاً ليكون من مصاديق الإبتلاء والإمتحان في الدنيا ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] ( ).
الثالث : إنما نملي لهم رحمة منا ولكنهم تمادوا ليزدادوا إثماً .
الرابع: إنما نملي لهم ولعامة الناس ، ليشكروا الله على النعم لا ليزدادوا إثماً.
الخامس : إنما نملي لهم ، ولكنهم يسخرون النعم والإملاء ليزدادوا إثماً.
السادس : إنما نملي لهم ولكم ، ولكن الذين كفروا يكرهون الإملاء لكم ليزدادوا إثماً .
السابع : إنما نملي لهم فضلاً من عندنا ليشكروا على الإملاء لا ليزدادوا إثماً .
الثامن : إنما نملي لهم ليتوبوا ، وليس ليزدادوا إثماً .
وأخبرت الآية عن إزدياد إثم الذين كفروا ، ترى ماذا يترشح عنه ، فيه وجوه :
الأول : ليزدادوا إثماً إلى إثمهم على الكفر .
الثاني : ليزدادوا إثماً بتسخير الإملاء والفضل من الله في المعصية .
الثالث : ليزدادوا إثماً لجحودهم وعدم شكرهم الله على النعم .
الرابع : ليزدادوا إثماً ، وهواناً وذلاً .
الخامس : ليزدادوا إثماً فيكون حجة عليهم وإنذاراً لهم ، وفي التنزيل [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ] ( ).
السادس : ليزدادوا إثماً فيحبط الله أعمالهم ويجعلهم عاجزين عن الإضرار بالإسلام والنبوة، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ] ( ).
السابع : ليزدادوا إثماً للمفاسد التي يرتكبون ، ولما أخبر الله عز وجل الملائكة بقوله [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) احتجوا بفساد طائفة من الناس في الأرض .
وهل الكفر من هذا الفساد أم أن القدر المتيقن منه عالم الفعل وارتكاب الباطل والفسوق ، الجواب هو الأول .
فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علمه تعالى إزدياد آثام الذين كفروا لتكون حطباً ووقوداً لهم في النار إلا أن تدركهم التوبة .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها تدعوهم الناس جميعاً إلى التوبة ونبذ الكفر ، والإحتراز من الآثام وزيادتها .
وقد ذم الله عز وجل قوم فرعون ونعتهم بضعف العقل والهوان واستخفاف فرعون بهم [فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ] ( ) لبيان أن ترك الشكر لله على النعم من أسباب الهوان والتمادي في المعصية والفسق .
وقد يأتي بعض أهل الريب بمسألتين :
الأولى : لماذا يملي الله للذين كفروا فلو جعلهم في حال ضيق وعسر ومرض كي ينشغلوا بأنفسهم ، ويضطروا للجوء إلى الدعاء ويكونوا عاجزين عن الإضرار بالناس ونشر المعاصي والموبقات .
الثانية : لماذا لا يؤاخذ الله الذين كفروا بالعقوبة العاجلة لتنزيه الأرض من الكفر ، وليكونوا عبرة وموعظة للناس .
والجواب من وجوه :
الأول : لقد جعل الله الحياة الدنيا دار عمل وكسب بصبغة الإختبار وقرنه سبحانه بالإبتلاء .
الثاني : من سنن الله عز وجل في الخلق إمهال الناس في الدنيا وإرجاء حسابهم التام إلى يوم القيامة .
(وروى ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : لا تزول قدماً عبد من بين يدي الله تعالى حتى يسأله عن خمس ، عن شبابه فيما أبلاه ، وعن عمره فيما أفناه ، وعن ماله فيما أنفقه ، وكيف كسبه ، وعما عمل فيما علم) ( ).
الثالث : قد ينزل العقاب العاجل بالفرد الكافر أو بالطائفة أو بالأمة الظالمة ، فيؤاخذهم الله عز وجل [أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ] ( ) ومنهم ثمود قوم صالح ، وعاد قوم هود ، وفرعون وجنوده الذين أبوا الإستجابة للأنبياء في دعوتهم لله عز وجل ، وفي التنزيل [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] ( ).
الرابع : تبين آية البحث قانوناً وهو من معاني الإملاء للذين كفروا والغايات الحميدة منه إقامة الحجة عليهم ، وعجزهم يوم القيامة عن الإعتذار ، قال تعالى [ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيراً]( ).
الخامس : توالي النعم على الناس مناسبة ووسيلة لتقريبهم إلى منازل التوبة ، ومن هذه النعم آية البحث التي تذكر بفضل الله على الذين كفروا ، وتتوعدهم بالعذاب ، وفي التنزيل [وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً]( ).
ومن إعجاز آية البحث أنها لم تقل بأن الإملاء للذين كفروا وبال لهم أو أنه استدراج لهم ، إنما أخبرت عن الآثام التي يؤدي إليها ، وهو من إعجاز الآية الذاتي ، وهذه الآثام من وجوه :
الأول : تلبس الذين كفروا بالكفر والجحود ، فحتى لو كان الكافر فقيراً فانه يزداد إثماً لأن نعمة استدامة الحياة والرزق من الإملاء الذي يتفضل به الله عز وجل .
الثاني : الإقرار العقلي عند الإنسان بأن النعم التي تأتيه أعم وأكبر من قدرته ، وخارجة عن إرادته ، وهو يعجز عن توفير جزء يسير منها لنفسه أو لغيره .
الثالث : توالي النعم على كل إنسان مؤمن أو كافر ، أما المؤمن فانه يسلم بأنها من عند الله ويشكره عليها ، وعلى تواليها ، ولكن الكافر يقابلها بالجحود ، وكل ساعة تمر عليه وهو جاحد وكافر بالنعمة يزداد إثماً على ذات الجحود .
ليكون تقدير الآية على وجوه ، منها :
الأول : ليزدادوا إثماً إلى جانب الإثم على التلبس بالكفر .
الثاني : ليزدادوا إثماً للجحود بالنعم .
الثالث : ليزدادوا إثماً لإصرارهم على الإقامة على الكفر .
الرابع : ليزدادوا إثماً بسبب تراكم الإثم من غير أن يتوبوا إلى الله .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : انما نملي لهم ليتوبوا , ولكنهم أصروا على المعاصي فازدادوا اثماً .
فأصل الإملاء خير محض ونفع خاص وعام ، ولكن الذين كفروا جعلوه في المعصية .
الثاني: إنما نملي لهم ولكم ليزدادوا إثماً وتزدادوا أجراً .
الثالث : انما نملي لهم رحمة منا , ولكنه يفعلون السيئات ليزدادوا اثماً .
الرابع : انما نملي لهم ليهتدوا , ولكنهم يحاربون النبوة والتنزيل ليزدادوا اثماً .
الخامس : انما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولعلهم يتوبون ، فمن إعجاز القرآن الغيري أن كل آية منه تذكر بالتوبة وتدعو إليها .
وتتجلى منعة الإسلام وعز المؤمنين بتنزيه مكة والجزيرة من الشرك ومفاهيمه والتي كانت ظاهرة بنصب الأصنام في البيت الحرام والذي جعله الله رحمة للناس وصرحاً يأوي إليه الملهوف ، قال تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ] ( ) .
وتفيد اللام في [لِلنَّاسِ] عدة معاني ، إذ أن اللام على قسمين :
الأول : الام غير العاملة ، أي غير عاملة فيما بعدها ، وهي مبنية على الفتح ، ومنها :
أولاً : لام التوكيد .
ثانياً : لام الإبتداء التي تكون في أول الكلام أو تدخل على المبتدأ وتفيد التوكيد أيضاً كما في قوله تعالى [وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ]( ) .
ثالثاً : اللام الموطئة للقسم .
رابعاً : لام الجواب .
خامساً : اللام الفارقة .
سادساً : اللام المزحلقة .
سابعاً : اللام الزائدة .
ثامناً : لام البعد .
تاسعاً : لام التعجب كما يقال : لله در فلان ) والدر اللبن لكثرة شربه ورجاء تكثيره وزيادته .
الثانية : اللام العاملة فهي على قسمين :
الأول : اللام الجازمة وهي لام الأمر ، وتجزم الفعل المضارع الذي يأتي بعدها ، كما في قوله تعالى [ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ] ( ).
الثاني : اللام الجارة وهي أكثر أقسام اللام سواء من جهة الإستعمال أو المعنى والأقسام ، وتكون مكسورة دائماً وتجر الإسم أو المصدر الأول بعدها ، إلا في بعض الحالات ، وهي على أقسام :
أولاً : لام التعليل كما في قوله تعالى في آية البحث [أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ] ( ) والمختار في معنى اللام في الآية أعم وأوسع .
ثانياً : لام الجحود ، وهو المسبوقة بكان المنفية ، والذي يتكرر في آية السياق [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ] ( ).
ثالثاً : لام الملك والتملك وتقع بين ذاتين ، وتملك الثاني الأول سواء على نحو الحقيقة كما في قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) كما تدخل على ما يتصور منه الملك .
رابعاً : لام الإختصاص كما في قوله تعالى في خاتمة آية البحث [وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) لبيان أن المؤمنين في مأمن من هذا العذاب، ومنهم من يجعل لام الملك من ضمن لام الإختصاص .
خامساً : لام الإستحقاق ، وهي التي تفيد تعلق معنى بذات مخصوصة كما في قوله تعالى [وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ] ( ) وقوله تعالى في خاتمة آية البحث[وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) .
فان قلت قد ذكرت خاتمة الآية في لام الإختصاص أعلاه ، الجواب لا تعارض بين الأمرين بلحاظ تعدد معنى اللام ، والمقاصد الحميدة منه ، وتعدد معاني الحرف القرآني الواحد من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا]( ).
سادساً : لام الإستغاثة ، وتأتي بعد ياء النداء مع الإختلاف في المعنى والقصد إذ تكون لام الإستغاثة حرف جر والإسم الذي بعدها مجروراً ويسمى المستغاث أو المستغاث به ، وهو كل اسم نودي رجاء التخلص من شدة أو كرب ، والله هو المستغاث ، وفي التنزيل [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ] ( ).
وقد تكون الإستغاثة للذات أو الغير ، وهو المستغاث له كما لو قلت : يا الله للمسلمين أي أدعوك بالله للمسلمين لترحمهم وتمّن عليهم وتكفيهم الشرور والآفات .
وتقدير الآية : إنما نملي لهم ليتوبوا ويصلحوا , ولكنهم إزدادوا إثماً بهذا الإملاء وبسوء اختيارهم ، فزيادة آثام الذين كفروا بسبب سوء فعلهم , وتسخيرهم لما يمليه الله لهم ، وباصرارهم على الكفر والضلالة ، فسواء جعل الله عز وجل الذين كفروا أكثر من غيرهم أو أقل فأنهم يرتكبون الذنوب , ويمتنعون عن الإيمان وعن طاعة الله والرسول ، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ] ( ).
بحث بلاغي
من البديع (الإدماج ) وهو في اللغة التداخل والإختلاط بين شيئين سواء كانا بعرض واحد ، أو أن أحدهما يدمج في الآخر، والإدماج في الإصطلاح إدخال قصد أو غاية أو غرض في آخر , وبديع في بديع لا يظهر إلا أحدهما ، ويذكره علماء البلاغة في باب البديع والفكرة المتعددة ، ولكنه في القرآن من الإعجاز الذي يفوق مقاصد البشر ، والتصور الذهني ، إذ يعجز الناس عن إحصاء المقاصد السامية للآية القرآنية .
وقد أنعم الله عز وجل بهذا السفر ببيان جانب من درر معاني كلماته ، ودعوة للغوص في معادن العلم في مضامينها وتحري المصالح الدنيوية والأخروية في تلقي النعم الإلهية ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها) ( ).
فمن معاني الإدماج مع بيان ووضوح غرض مخصوص في آية البحث مجيؤها بالإملاء للذين كفروا لتكون الأغراض الأخرى متعددة منها :
الأول : لا يقدر على الإملاء للناس إلا الله عز وجل .
الثاني: لا يمنع جحود الذين كفروا إملاء الله لهم بالنعم .
الثالث : مجئ الآية بصيغة النهي وتضمنها النفي وإجتماع الأمرين بحرف واحد هو (لا) لبيان الإعجاز فيه بتعدد وتفرع المسائل الكلامية عنه .
الرابع : لغة الإنذار في الآية باعث للطمأنينة في نفوس المؤمنين من غير أن تتعارض هذه الطمأنينة مع الخوف من الله تعالى ، وفي التنزيل [إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ] ( ) .
وهل من ذكر الله الإخبار عن إملائه النعم على الناس ، وأنه سبحانه يعذب الذين كفروا يوم القيامة عذاباَ مهيناً ، الجواب نعم .
وإذا كان الإدماج في الإصطلاح البلاغي يختص بدخول غرض مع غرض آخر ظاهر ، فان الإدماج في القرآن متعدد من جهة الموضوع والحكم والدلالة على وجوه :
الأول : إدماج غرض ظاهر بآخر ظاهر .
الثاني : تداخل أغراض متعددة مع غرض ظاهر .
الثالث : تعدد الأغراض الظاهرة من الموضوع المتحد .
الرابع : إستقراء الأغراض من الآية القرآنية .
الخامس : كل غرض من أغراض الآية القرآنية حميد وحسن .
السادس : حاجة الناس لأغراض ومقاصد الآية القرآنية .
السابع : عدم نفاد المقاصد السامية للآية القرآنية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا] ( ) .
الثامن : تغشي الأغراض في الآية واندماجها عالم الدنيا والبرزخ ويوم القيامة .
قانون إصرار الكفار على البطش بالنبي محمد(ص)
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً بالقرآن وثيقة سماوية إلى يوم القيامة تذكر الوقائع بما يفيد القطع في الإخبار ليكون شاهداً على التأريخ , ومنه قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثرة معجزاته العقلية والحسية ، وما لم يذكره العلماء والمفسرون وكتاب السيرة، أكثر مما ذكر مرة في كتبهم منها .
ويتجلى في تفسيرنا والذي صدر منه مائة وثلاثة وسبعون جزء والحمد لله آيات وبراهين على كثرة هذه المعجزات ومصاديقها . ومنها المعجزة المتعددة المستقرأة من ذات الحادثة والواقعة الواحدة.
وهل تقف المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على خصوص أيام حياته وإلى حين انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، الجواب لا ، فهي متجددة في جنسها وموضوعها وأفرادها إلى يوم القيامة مما يستلزم إعداد ودراسات في كل زمان بخصوص المعجزات المستحدثة كل من :
الأول : إحصاء معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية على نحو الإجمال مع الإقرار بأنها أكثر مما يحصى ، إذ يتبدل عددها بلحاظ ما يستقرأ ويستنبط منها في علم التفسير والسنة النبوية والسيرة.
الثاني : مثلما تقسم معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى قسمين :
أولاً : المعجزة العقلية .
ثانياً : المعجزة الحسية ، فيمكن تقسيم معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أقسام :
أولاً : المعجزة الأصل .
ثانياً : المعجزة الفرع .
ثالثاً : المعجزة فرع الفرع .
رابعاً : المعجزة التي تتفرع عن الجمع بين معجزتين .
خامسا : المعجزة النبوية الحسية التي تتفرع عن المعجزة العقلية .
سادساً : المعجزة المستحدثة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
سابعاً : المعجزة النبوية التي تفصح عنها الإكتشافات العلمية والطبية .
قيل معنى ليثبتوك : ليجرحوك جراحة لا تقوم معها ، ولكن معناها أعم, وكانت قريش في منتدياتها تتوعد النبي بالحبس كما حبس بعض الشعراء، وفي التنزيل[أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ]( ) أي حوادث الدهر، ونوائب الزمان حتى يموت مثلما مات الشعراء من قبله زهير والنابغة.
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه على فترة من الرسل ، وإنقطاع من الوحي مع توارث الناس البشارات ببعثة نبي آخر الزمان.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : (لكل عمل شدة ، ولكل شدة فترة )، وقال الشاعر :
وإني لتعروني لذكراك فترة … معناه سكون بعد اضطراب ، واختلف الناس في مدة الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما فقال قتادة خمسمائة عام وستون عاماً . وقال الضحاك أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة , وفي الصحيح أن الفترة بينهما ستمائة سنة) ( ) .
فبين موسى وعيسى ألفا نبي , وليس بين عيسى ومحمد رسول أو نبي وبينهما نحو خمسمائة وستين سنة ( )، وهو معجزة عقلية حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وبعثة كل من موسى وعيسى بعيدة عن البيت الحرام، وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة , وكانت الأصنام تعلو الكعبة والناس تقدسها مع لزوم محاربتها وإزالتها معجزة أخرى للنبي محمد صلى لله عليه وآله وسلم وهو مما لم يذكر في باب معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معجزاته أنه بعثه الله وحده بين قوم مشركين فتفضل الله بهداية خديجة زوجه والإمام علي للإسلام وللصلاة معه في المسجد الحرام في اليوم الثاني والثالث لبعثته , وتوالى دخول الصحابة في الإسلام مع تحملهم أشد الأذى من المشركين.
وهل صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام تحت أعين المشركين من معجزاته ، الجواب نعم .
وأخرج عن (جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة) ( ).
وعن عائشة قالت (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنا خاتم الأنبياء ، ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء ، أحق المساجد أن يزار ، وتشد إليه الرواحل : المسجد الحرام ، ومسجدي . صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام) ( ).
واختلف الفقهاء في المراد من المسجد الحرام في الحديث على وجوه :
الأول : المراد مكة .
الثاني : المكان الذي يحرم على الجنب الإقامة فيه .
الثالث : الحرم كله بحدوده لفضله .
الرابع : المراد الكعبة والمسجد من حولها .
الخامس : خصوص الكعبة وحِجر اسماعيل , وهو بعيد .
السادس : الحرم كله وعرفة وإلى هذا القول ذهب ابن حزم .
السابع : مسجد الجماعة .
الثامن : المراد خصوص الكعبة ، وهو أبعدها وأستدل على المضاعفة بعموم الحرم بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وأستدل على المضاعفة بعموم الحرم بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي حديث الحديبية (وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في الحرم، وهو مضطرب( ) في الحل) ( ).
وانفرد بهذه الرواية أحمد وقيل بضعفها سنداً لأنها من رواية ابن إسحاق عن الزهري (وقال ابن مفلح : وغبن اسحاق مدُمّس ) ( ).
ولكن حديث الحديبية الذي ورد فيه الخبر أعلاه طويل ، وهو مستفيض ومشهور .
وستأتي ترجمة محمد بن اسحاق (ت 150 هجرية), وفضل الحرم على الحل في أجر الصلاة لا يدل على ذات المضاعفة بخصوص المسجد الحرام .
واستدل على عموم مضاعفة الثواب في الحرم بقوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى] ( ).
لما ورد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسري به من بيت أم هاني ونسبه ابن حجر إلى أكثر المفسرين ، ولكن ورد أيضاً أن أسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحجر إذ قال أنا نائم في الحِجْر .
(عن الحسن بن الحسين عليهما السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهمزني برجله ، فجلست فلم أر شيئاً ، فعدت لمضجعي ، فجاءني الثانية فهمزني بقدمه ، فجلست فلم أر شيئاً ، فعدت لمضجعي فجاءني فهمزني بقدمه ، فجلست فأخذ بعضدي ، فقمت معه فخرج إلى باب المسجد ، فإذا دابة أبيض بين الحمار والبغل له في فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه يضع يده في منتهى طرفه ، فحملني عليه ، ثم خرج لا يفوتني ولا أفوته .
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي ، عن أبي مالك وأبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود في قوله : { سبحان الذي أسرى بعبده }( ) الآية . قال : أتى جبريل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ، فحمله على البراق ، فسار به إلى بيت المقدس ، فمر بأبي سفيان في بعض الطريق وهو يحتلب ناقة ، فنفرت من حس البراق فأهرقت اللبن
فسب أبو سفيان من نفرها ، ونَدَّ جمل لهم أورق ، فذهب إلى بعض المياه فطلبوه ، فأخذوه ، ومر بواد فنفخ عليه من ريح المسك ، فسأل جبريل- عليه السلام – ما هذا الريح فقال : هؤلاء أهل بيت من المسلمين ، حرقوا بالنار في الله عز وجل) ( ).
ويمكن الجمع بين الأمرين وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبّه وهو في بيت أم هاني ، ثم نام في الحجر ليسرى به منه عن ابن عباس أن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال البيت قبلة لاهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الارض في مشارقها ومغاربها من أمتي) ( ).
كما يمكن أن يكون للمسجد الحرام معنى عام وخاص يعرف بلحاظ القرائن كما في القبلة ، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (البيت قبلة المسجد والمسجد قبلة مكة، ومكة قبلة الحرم، والحرم قبلة الدنيا) ( ).
وعن الإمام مالك قال (الْكَعْبَةُ قِبْلَةٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ قِبْلَةُ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْحَرَمُ قِبْلَةُ أَهْلِ الدُّنْيَا) ( ).
والمختار أن المراد في مضاعفة أجر الصلاة في المسجد هو خصوص المسجد الحرام المحيط بالكعبة والتوسعات الجديدة فيه إذ يصدق عليها عرفاً أنها من المسجد الحرام , ويسمى أحياناً (مسجد الكعبة ) .
(اشتكت امرأة شكوى فقالت لئن شفاني الله لاخرجن فلاصلين في بيت المقدس فبرأت
ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسلم عليها فأخبرتها ذلك فقالت اجلسي فكلي مما صنعت وصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول صلاة فيه افضل من الف صلاة فيما سواه من المساجد الا مسجد الكعبة) ( ).
(عن أنس قال : ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مسجد الكعبة ، جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم : أيهم هو؟ .
فقال أوسطهم : هو خيرهم . فقال أحدهم : خذوا خيرهم . فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى ، فيما يرى قلبه ، وتنام عيناه ولا ينام قلبه ، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم) ( ).
لقد هاجر النبي من مكة مضطراً لأنهم أرادوا قتله ،إذ تدل الآية أعلاه على أن مشاورة الذين كفروا ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أفرزت ثلاثة خيارات :
الأول : حبس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو في مكة .
الثالث : إخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة .
ثم استقر رأيهم على الأشد وهو القتل لذا قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ] ( ) وكأن هذه الخيارات مقدمة لحصر الأمر بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن كان حبس أو إخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينقطعان ، وهو في مكة ، أما القتل فيتجدد عزم قريش عليه وإن هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لذا كان هجوم المشركين في معركة بدر من أجل قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذا معركة أحد والخندق ، ومع هذا تسمى غزوة بدر وأحد والخندق .
بينما كان المشركون هم الذين يغزون , ولولا غزوهم المدينة لم تقع تلك المعارك , ويحتمل دخول الناس مع تلك الحالة وجوهاً :
الأول : كثرة دخول الناس للإسلام .
الثاني : إمتناع شطر من الناس عن دخول الإسلام .
الثالث : تريث وتباطئ الناس في دخول الإسلام .
والصحيح هو الأول , إذ كانت تلك المعارك نوع برزخ وحاجب دون دخول الناس الإسلام , لوجوه :
الأول : إنشغال الناس بالإستعداد لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
الثاني : حصول ثارات بسبب تلك المعارك .
الثالث : بذل رؤساء الكفر الوسع في تكذيب المعجزات .
الرابع : إنفاق الذين كفروا الأموال الطائلة لصد الناس عن الإسلام, وتسخير الشعراء لذم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والإستهزاء بالتنزيل , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ] ( ) .
وأدعو المؤسسات التربوية والعلمية في جميع الوطن العربي والعالم الإسلامي ، وكل الدول والمؤسسات والمستشرقين إلى إعادة قراءة تأريخ النبوة , وتبديل اسم هذه المعارك وجعله غزو المشركين للمسلمين في معركة بدر وأحد والخندق وحنين ونحوها بلحاظ قانون سماوي يتغشى سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
فليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم غزوة واحدة ، والمراد من الغزو هو الهجوم المباغت على المدن والقرى والنهب والسلب وإشاعة القتل بين أهلها ثم سبي النساء والأطفال ، وكان العرب يتقاتلون بينهم بمعارك تدوم لسنوات ، فمعركة البسوس استمرت أربعين سنة ، والمقل قال عشرين سنة ، وإبتدأت سنة 494 ميلادية وجرت بين أبناء عم , بين قبيلة تغلب بن وائل وبكر بن وائل ، بسبب قتل كليب بن ربيعة ناقة لضيف عند البسوس ترعى مع إبله واستغاثتها فقام ابن أخيها جساس بقتل كليب وهو ملك زمانه .
لقد انقطع الغزو ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) سواء الغزو بين قبائل العرب أو غزو المشركين للمسلمين .
وكذا بالنسبة لمعارك الإسلام إذ تذكر في كتب السيرة والتاريخ :
الأول : غزوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع تعيين هذه الغزوات ، فيقال غزوة بدر ، غزوة أحد ،غزوة الخندق ، غزوة حنين .
الثاني : معارك الإسلام ، فتذكر بعنوان معركة بدر ، معركة أحد وهكذا .
والأولى أن تذكر بأنها غزوات للمشركين ، فهم الذين هاجموا المسلمين في عقر دارهم ، الذين لم تكن لهم حاضرة إلا المدينة المنورة ، ومن الإعجاز حينئذ إبدال تسميتها يثرب بالمدينة .
وهل تستقرأ من معجزات بي صلى الله عليه وآله وسلم الحسية معجزات عقلية ، الجواب نعم ، ويكون هذا الإستقراء على وجوه :
الأول : استنباط واستقراء المعجزات العقلية من المعجزة العقلية .
الثاني : استقراء المعجزات الحسية من المعجزات العقلية .
الثالث : استقراء المعجزات الحسية من المعجزة الحسية .
الرابع : إقتباس المعجزات العقلية من المعجزة الحسية .
وهل إصرار الذين كفروا على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من أسباب زيادة ذنوبهم وعمومات قوله تعالى في آية البحث [لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ) الجواب نعم ، ليكون من معاني الآية الكريمة زجر الذين كفروا عن مواصلة غزو المدينة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
قوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ) .
إبتدأ هذا الشطر من الآية بحرف العطف الواو فبعد أن ذكرت الآية فضل الله عز وجل بتوالي النعم على الناس جميعاً ، البر والفاجر وإصرار الذين كفروا على المعاصي وإرتكاب السيئات ، وأن هذه المعاصي والسيئات سبب لإزدياد آثامهم وذنوبهم ، بينت آية البحث أن إرتكاب المعاصي سبب للعقاب الأليم في الآخرة .
ولا ينزل هذا العقاب إلا بالذين ارتكبوها وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [لَهُمْ]
لقد أخبر القرآن عن العذاب الأليم الذي ينتظر الذين كفروا في الآخرة ، كما في قوله تعالى [وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ) .
فهل العذاب المهين هو ذاته الأليم أم غيره ليجتمع العذابان على الكافر في الآخرة بلحاظ أن العذاب المهين ينزل بالذين كفروا لتسخيرهم نعم الله في المعصية ولإزدياد آثامهم من غير مبادرة إلى التوبة ، الجواب هو الأول ، فذات العذاب يكون أليماً لشدة وقعه على الذين كفروا ، ويكون مهيناً لهم لما فيه من الذل والهوان لهم بين الخلائق يوم القيامة .
وأخبرت آية البحث بأن الكفار يزدادون إثماً , وعطفت بحرف العطف الواو العذاب المهين على زيادة الإثم ، وتقدير الآية : ليزداد الذين كفروا إثماً في الحياة الدنيا ولهم عذاب مهين في الدنيا والآخرة ، لبيان إقامة الحجة على الذين كفروا في الدنيا بزيادة آثامهم وما يترتب على فعلهم المعاصي .
والآثام : جمع إثم ، ويأتي على وجهين :
الأول : الذنب والمعصية , و(الأثيم: الفاجر) ( ).
الثاني : جزاء المعصية ، ووزرها وأثقالها .
وإذا كان إزدياد الآثام في الحياة الدنيا لأنه من عالم الأفعال ، وليس في الآخرة عمل ، فهل العذاب المهين خاص في الآخرة ، الجواب لا ، ليكون من عطف العام على الخاص بلحاظ أفراد العالم الطولية .
وتدل الآية على إنعدام الشفيع للذين كفروا في الآخرة ، إذ يأتون بأوزارهم وآثامهم الكثيرة التي كانت تتراكم في الدنيا بسوء أفعالهم خاصة وأنهم أنكروا المعاد ولم يدّخروا له أعمالاً صالحة ,وفي التنزيل حكاية عن الكافرين يوم القيامة [فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
إذ يرى الكفار يومئذ شفاعة الملائكة والأنبياء للمؤمنين وشفاعة بعض المؤمنين لبعض .
لقد تمنى الذين كفروا العودة إلى الحياة الدنيا ليكونوا من المؤمنين ورغبوا بالإيمان على نحو القطع لما رآوا نفعه العظيم ومنزلة المؤمنين في الآخرة ، كما ذكر تمنيهم الإسلام بقوله تعالى [رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ] ( ).
وقال جمع من المفسرين (لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله ، وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس . أو أرادوا أنهم وقعوا في مهلكة علموا أنّ الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم) ( ).
(وسئل حكيم عن الصديق ، فقال : ( اسم لا معنى له ) ، أي : لا وجود له) ( ).
ولكن (وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : قَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي الصَّدِيقِ البَارِّ عِوَضَاً عَنِ الرَّحِمِ المَذْمُومَةِ )( ). والشواهد التأريخية وعالم الوجدان وتجاذب النفوس شواهد متجددة على صدق وصحة قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
علم المناسبة
ورد لفظ [عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ) في ثمان آيات من القرآن للدلالة على المهانة التي يلقاها الكفار يوم القيامة ، وهي الآية:
الأولى : قوله تعالى [بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ].
الثانية : آية البحث .
الثالثة : قوله تعالى [وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ).
ليفيد الجمع بين آية البحث والآية أعلاه ان كلاً من المعصية وتعدي حدود الله سبب لسخط الله , وذكرت هذه الآية خلود الذين كفروا ويرتكبون المعاصي في النار ، ثم عطفت العذاب المهين على دخول النار ، لبيان قانون وهو أن النسبة بين العذاب المهين ودخول النار هو العموم والخصوص المطلق ، وأن العذاب أعم لما يلقاه الكفار في النار من الذم والتوبيخ والتقريع والملامة فيما بينهم لحث بعضهم بعضاً على إرتكاب المعاصي ، مع حال التبرأ والصدود بينهم ، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ] ( ) .
وقد يرد لفظ العذاب المهين في الآية القرآنية عقوبة للذين كفروا من غير ذكر الناس لبيان المراد من العذاب المهين هو دخول النار ، وهناك نوع تناف وتضاد بين الإملاء للكفار في الدنيا وبين عذابهم في النار من الإملاء سبب لبسط النعمة .
وقد ورد ذكر العذاب المهين بخصوص أيام الدنيا ، ولكن بصفة السلم والدفع عن بني اسرائيل بفضل من الله ، قال سبحانه [وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ] ( ) لنجاتهم من إذلال فرعون وقومه لهم وتسخيرهم في الأعمال الشاقة والمهينة ، وقيام فرعون وجنوده بذبح الأبناء واستحياء النساء منهم على نحو الخصوص.
قانون أسماء سور القرآن
لقد أكرم الله عز وجل الإنسان بجعل الإسم أول النطق وما علم الله به آدم عليه السلام إذ ورد في التنزيل [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، وهل من هذه الأسماء المستحدثات والمخترعات الجديدة ، وما يأتي به العلم الحديث من اكتشافات ، الجواب نعم لأن لفظ [كُلَّهَا] سور الموجبة الكلية .
أختلف في الإسم على وجوه :
الأول : انه عين المسمى على حقيقته واستدل عليه بآيات منها قوله تعالى [سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى]( )، أي قدس وعظم ربك وورد معنى آخر وهو نزه اسم ربك عن تسمية غيره به .
الثاني : الاسم غير المسمى .
الثالث : المراد من الإسم هو التسمية , وقال المعتزلة الإسم والتسمية بمعنى واحد ، مثل الصفة والوصف , وانكروا الصفات القديمة الزائدة عن ذات الله تعالى وقالوا ان صفاته عين ذاته.
الرابع : الاشتراك فقد يراد من الإسم التسمية ، وقد يراد منه المسمى.
وهل أسماء سور القرآن مما علمه الله لآدم وفيه وجوه :
الأول : تعليم الله لآدم اسم القرآن .
الثاني : تعليم الله عز وجل لآدم التنزيل والكتاب الشامل للصحف والكتب السماوية المنزلة .
الثالث : تعليم الله عز وجل لآدم اسماء سور القرآن .
والمختار هو الأول والثاني أعلاه .
لقد تفضل الله عز وجل وجعل القرآن مؤلفاً من سور كل سورة مستقلة باسمها وتبدأ بالبسملة باستثناء سورة التوبة التي تبدأ بقوله تعالى [بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( )، وقد بيّن الإمام علي عليه السلام على عدم ذكر البسملة في براءة لابن عباس لأن البسملة أمان ، وبراءة نزلت بانقطاع مدة العهد ، فلا يصح جمعها مع سورة الأنفال في سورة واحدة والقول بأن عدد سور القرآن (113سورة) فكل واحدة سورة مستقلة وعدد سور القرآن هي مائة وأربع عشرة سورة ، ومقدار كلمات سور القرآن من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في عدد الكلمات والآيات فمثلاً تبلغ آيات سورة البقرة خمساً وتسعين ضعفاً لعدد سورة الكوثر تتألف من ثلاث آيات وذات النسبة بين سورة البقرة وسورة النصر والتي تسمى سورة التوديع .
ومن أسماء السور ما هو توقيفي , ووحي من عند الله عز وجل وليس إجتهاداً وتفضل بتعليم جبرئيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأسماء السور كما يتبين بالمعارضة وتدارس الآيات والسور السنوي بين جبرئيل والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويمكن تقسيم السور من جهة الأسماء الى أقسام :
الأول : السور التي لها اسم واحد مثل سورة يوسف، سورة إبراهيم ، سورة يونس .
الثاني : السور التي لها اسمان وهي سور كثيرة ، مثل سورة النحل وتسمى سورة النعم لكثرة النعم التي تذكر فيها.
ومن السور ما يكون الإسم الثاني لها للفصل والتمييز بينها وبين غيرها فتسمى سورة النساء سورة النساء الكبرى لتسمية سورة الطلاق سورة النساء الصغرى .
وتسمى سورة الأنعام سورة الحجة .
وسورة الأنفال سورة بدر .
وتسمى سورة الإسراء سورة بني اسرائيل وسورة سبحان( ) لإبتدائها بقوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ]( ) وسورة مريم سورة كهيعص ، وتسمى سورة الكهف سورة أصحاب الكهف .
الثالث : السور التي لها أكثر من اسمين مثل سورة الفاتحة ومن أسمائها التوقيفية :
أولاً : فاتحة الكتاب .
ثانياً : الفاتحة .
ثالثاً : الحمد لله رب العالمين .
رابعاً : أم القرآن .
وقد ذكرتُ لها في هذا السِفر أربعاً وأربعين اسماً ( ).
وتسمى سورة البقرة سنام القرآن ، وفسطاط القرآن ، وتسمى سورة المائدة سورة العقود ، والسورة المنقذة.
وتسمى سورة التوبة لما فيها من الإخبار عن التوبة عن المؤمنين باسماء أخرى هي :
أولاً : سورة براءة ، وهذا الإسم مرادف لاسم من التوبة من جهة كثرة التسمية به ، كما أنه ورد في الحديث عن عائشة قالت (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّه ما نزل عليَّ القرآن إلا آية آية وحرفاً حرفاً خلا سورة براءة، وقل هو الله أحد، فإنّهما أُنزلتا عليَّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة كل يقول : يا محمد استوص بنسبة الله خيراً ) ( ).
ثانياً : سورة العذاب روى حذيفة (أنه قال : يسمون سورة براءة سورة التوبة وهي سورة العذاب) ( ).
ثالثاً : السورة الفاضحة لأنها تفضح المنافقين(عن ابن عباس أنه قال : كنا نسميها الفاضحة ، فما زالت تنزل في المنافقين ومنهم ، حتى أشفق كل واحد على نفسه) ( ).
رابعاً : السورة المبعثرة .
خامساً : السورة المقشقشة لأنها تقشقش من النفاق أي تبرأ منه
ليكون التذكير في سور القرآن بعذاب الآخرة موعظة للناس ، وفيه الكفاية في الإنذار فلا تصل النوبة الى السيف والغزو إلا أن يكون دفاعاً لتمادي الذين كفروا بالغي والضلالة ، ومنهم من جعل الإسم لسورة الكافرون ( ) .
سادساً : سورة البحوث( ) والبحوثة .
سابعاً : السورة الحافرة ، لأنها تحضر عن حال المنافقين .
ثامناً : السورة المخزية( ) .
تاسعاً : السورة الحافرة .
عاشراً : السورة المدمدمة ( ).
الحادي عشر : السورة المنكرة .
الثاني عشر : السورة المشردة .
وقيل تسمى سورة طه ، بسورة موسى ، وسورة الكليم( ) ، والأولى بقائها بذات الإسم سورة طه ، لأن المراد منه شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفعله .
الرابع : الجمع بين سورتين باسم واحد ، إذ تسمى سورة البقرة وآل عمران (الزهراوين) بالتوقيف والنص عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ” اقرؤوا القرآن فإنه شافع لأهله يوم القيامة، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فِرْقان من طير صوافّ يحاجان عن أهلهما( )، ومنها المعوذتان وهما سورة أعوب برب الناس ، وأعوذ برب الفلق .
وعن زيد بن اسلم قال : سحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل من اليهود فاشتكى فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين وقال : إن رجلاً من اليهود سحرك ، والسحر في بئر فلان ، فأرسل علياً فجاء به فأمره أن يحل العقد ويقرأ آية فجعل يقرأ ويحل حتى قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنما نشط من عقال .
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت : كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غلام يهودي يخدمه يقال له لبيد بن أعصم ، فلم تزل به يهود حتى سحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذوب ولا يدري ما وجعه ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة نائم إذا أتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه , والآخر عند رجليه ، فقال الذي عند رأسه للذي عند رجليه : ما وجعه؟
قال : مطبوب( ) .
قال : من طبه؟ قال : لبيد بن أعصم . قال : بم طبه؟ قال : بمشط وماشطة وجف طلعة ذكر بذي أروان وهي تحت راعوفة البئر( ) .
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غدا ومعه أصحابه إلى البئر فنزل رجل فاستخرج جف طلعة( ) من تحت الراعوفة .
فإذا فيها مشط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن مشاطة رأسه، وإذا تمثال من شمع تمثال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإذا فيها أبر مغروزة ، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة ، فأتاه جبريل بالمعوّذتين فقال : يا محمد { قل أعوذ برب الفلق }( ) وحل عقدة { من شر ما خلق }( ) وحل عقده حتى فرغ منها وحل العقد كلها وجعل لا ينزع إبرة إلا يجد لها ألماً ثم يجد بعد ذلك راحة .
فقيل : يا رسول الله لو قتلت اليهودي فقال : قد عافاني الله وما وراءه من عذاب الله أشد فأخرجه( ) وهل يمكن الإستدلال بأن للحاكم ألا يقتل الساحر ، الجواب نعم خصوصا وأن لبيداً هذا سحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه .
الخامس : تسمية عدة سور بالحواميم ، وفي المرسل (عن الخليل بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا ينام حتى يقرأ { تبارك }( ) و { حم } السجدة .
وقال : الحواميم سبع ، وأبواب جهنم سبع : جهنم ، والحطمة ، ولظى ، وسعير ، وسقر ، والهاوية ، والجحيم . تجيء كل حاميم منها يوم القيامة تقف على باب من هذه الأبواب فتقول : اللهم لا تدخل هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرأني) ( ) .
وهي متتاليات في نزولها وفي ترتيبها في القرآن وهي :
الأولى : سورة المؤمن .
الثانية : سورة السجدة وتسمى سورة فصلت .
الثالثة : سورة الشورى .
الرابعة : سورة الزخرف .
الخامسة : سورة الدخان .
السادسة : سورة الجاثية .
السابعة : سورة الأحقاف .
وتتصف بالتشاكل والتشابه فكل سورة منها استفتحت بالكتاب أو وصفه وتسمى (آل حم) ( ) ومنها السور المسبحات التي لم تكن مرتبة ومتتالية في القرآن .( وأخرج الحاكم عن ابن مسعود قال: الحواميم ديباج القرآن. قال السخاوي: وقوارع القرآن الآيات التي يتعوذ بها ويتحصن، سميت بذلك لأنها تفزع الشيطان وتدفعه وتقمعه كآية الكرسي والمعوذتين ونحوها) ( ).
وسور الطواسين وتعرف أيضاً باسم ورد الطواسم ، وهي من السور المكية ، ومرتبة ومتتالية في القرآن , وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : من قرء سورة الطواسين الثلاث في ليلة الجمعة كان من أولياء الله وفي جوار الله وكنفه، ولم يصبه في الدنيا بؤس أبدا واعطى في الاخرة من الجنة حتى يرضى وفوق رضاه وزوجه الله مائة زوجة من الحور العين( ).
وهناك آيات مخصوصة لها أسماء تستقل بها منها آية الكرسي [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ] ( ) .
وآية العز ، (عن معاذ بن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : آية العز : { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً . . . }( ) الآية كلها) ( ).

قانون سلامة القرآن من التحريف
قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ) فليس من نبي أو كتاب بعد القرآن ينسخه أو يبدل أحكامه ، والمراد من الذكر القرآن لبيان أنه يذّكر الناس بوظائفهم العبادية وعلة خلقهم ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) .
ومن مصاديق العبادة تعاهد التنزيل ، وليس من حصر لمصاديق الحفظ في الآية الكريمة أعلاه ومنها ما هو ثابت في كل زمان ومنها ما هو متجدد حسب الحال ، وتقديرها :
الأول : إنا نحن نزلنا الذكر وأنه له لحافظون في الأرض وبين الناس).
الثاني : وانا له لحافظون من النقيصة سواء النقيصة في الآيات أو الكلمات أو الحروف .
الثالث : وانا له لحافظون من الزيادة في كلماته وحروفه .
الرابع : وانا له لحافظون في حروفه وكلماته [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] ( ).
الخامس : وانا له لحافظون في نظمه وترتيب سوره ، فابتدأ نظم القرآن في المصحف بسورة الفاتحة وهو ثابت إلى يوم القيامة مع أنها ليست أول سور القرآن نزولاً ، نعم هي سورة مكية .
السادس : وانا له لحافظون في إعجازه .
السابع : وانا له لحافظون إلى يوم القيامة .
الثامن : وانا له لحافظون من التحريف والتبديل والتغيير .
التاسع : وانا له لحافظون كتاباً بين الدفتين .
العاشر : وانا له لحافظون بفضل ورحمة منا ، فلا يقدر أحد على حفظ القرآن وكلماته التي تبلغ (77439) سبعة وسبعين الفاً وأربعمائة وتسعاً وثلاثين كلمة .
الحادي عشر : وانا له لحافظون فلا نبي يبعث بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا كتاب ينزل بعد القرآن .
الثاني عشر : وانا له لحافظون من الشيطان وجنوده من الإنس والجن .
الثالث عشر : وانا له لحافظون بين الناس عموماً .
الرابع عشر : وانا له لحافظون بتلاوة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة اليومية ، وعن أبي موسى قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تعاهدوا هذا القرآن ، فلهو أشد تفلتا من قلوب الرجال من الإبل من عقلها)( ).
الخامس عشر : وانا له لحافظون بحفظ عدد من المسلمين لآياته وسوره عن ظهر قلب , وعن عبد الله (ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صفتي أحمد المتوكل مولده بمكة ومهاجره إلى طيبة ، ليس بفظ ولا غليظ ، يجزي بالحسنة الحسنة ولا يكافىء بالسيئة .
أمته الحمادون يأتزرون على أنصافهم ، ويوضئون أطرافهم ، أناجيلهم في صدورهم ، يصفون للصلاة كما يصفون للقتال ، قربانهم الذي يتقربون به إلى دمائهم ، رهبان بالليل ليوث بالنهار) ( ).
السادس عشر : وانا له لحافظون لما بين الدفتين .
السابع عشر : وانا له لحافظون في كل زمان .
الثامن عشر : وانا له لحافظون بجمع المسلمين له (عن زيد بن ثابت قال: أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال : إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس ، واني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن الا أن تجمعوه ، وإني أرى أن تجمع القرآن . قال أبو بكر : فقلت لعمر : كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال عمر : هو – والله – خير. فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري ورأيت الذي رأى عمر . قال زيد بن ثابت : وعمر جالس عنده لا يتكلم .
فقال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك ، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتتبع القرآن فاجمعه ، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمراني به من جمع القرآن . قلت : كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
فقال أبو بكر : هو – والله – خير . فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر . فقمت فتتبعت القرآن اجمعه من الرقاع والإِكاف والعسب وصدور الرجال ، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة بن ثابت الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم }( ) إلى آخرهما .
وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ، ثم عند عمر حتى توفاه الله ، ثم عند حفصة بنت عمر) ( ) .
وكان عند الإمام علي عليه السلام مصحف خاص به جمعه في الأيام الأولى بعد وفاة رسول الله صل الله عليه وآله وسلم ، وكان عند عدد من الصحابة مصاحف .
التاسع عشر : وانا له لحافظون باعانة المسلمين على تعاهده وحفظه .
العشرون : وانا له لحافظون بمداد العلماء والتضحيات وإنفاق المسلمين في سبيل الله ، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ]( ).
الحادي والعشرون : وانا له لحافظون في كل زمان ومكان .
الثاني والعشرون :وانا له لحافظون بصرف الناس عن السعي لتبديله وتغييره .
الثالث والعشرون : وانا له لحافظون لبيان البرهان بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً ، وأن الكفار هم الذين كانوا يهجمون ويغزون بلاد المسلمين .
الرابع والعشرون : انا نحن نزلنا الذكر بواسطة جبرئيل وانا له لحافظون حتى تبليغه النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس والعشرون : انا نحن نزلنا الذكر من اللوح المحفوظ .
السادس والعشرون : انا نحن نزلنا الذكر ولا يقدر على تنزيله وحفظه إلى الله سبحانه .
السابع والعشرون : انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون في سوره التي تبلغ مائة وأربع عشرة سورة .
الثامن والعشرون : وانا له لحافظون في أسماء وترتيب سوره .
التاسع والعشرون : وانا له لحافظون في كل آن من آنات الزمان .
الثلاثون : وانا له لحافظون في ثوابه وأجره .
الحادي والثلاثون : وانا له لحافظون في عالم البرزخ إذ يقي صاحبه وتاليه من عذاب القبر (عن ابن عباس قال : [ ضرب رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله عليه وآله و سلم .
فقال : يا رسول الله ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : هي المانعة هي النجية تنجيه من عذاب القبر ] ( ) قال حديث حسن غريب وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : [ وددت أن { تبارك الذي بيده الملك }( ) في قلب كل مؤمن ] ذكره الثعلبي وعن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : [ إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى أخرجته من النار يوم القيامة وأدخلته الجنة وهي سورة تبارك ]) .
الثاني الثلاثون : وانا له لحافظون يوم القيامة ، إذ يأتي القرآن بأبهى صورة ويكون شفيعاً للمؤمنين .
وعن عبد الله بن عمرو قال (عبد الله بن عمرو قال :
[ قال النبي صلى الله عليه وآله و سلم : ( يؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة فيوقف في اول درج الجنة ويقال له اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها ) ) ( ).
وفيه شاهد على سلامة القرآن من التحريف ما دامت السموات والأرض لأن المتبادر إلى الذهن من الحديث أعلاه قراءة المسلمين والمسلمات في كل زمان للقرآن كتنزيله .
(وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب ، يقول لصاحبه : هل تعرفني ؟ أنا الذي كنت أسهر ليلك ، وأظمئ هواجرك ، وإن كل تاجر من وراء تجارته .
وأنا لك اليوم من وراء كل تاجر ، فيعطى الملك بيمينه ، والخلد بشماله ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، ويكسى والداه حلتان ، لا يقوم لهما الدنيا وما فيها ، فيقولان : يا رب ، أنى لنا هذا ؟ فيقال لهما : بتعليم ولدكما القرآن ، وإن صاحب القرآن يقال له يوم القيامة : اقرأ ، وارق في الدرجات ، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلك عند آخر آية معك)( ).
ولا بد من غايات حميدة وعلل كريمة في حفظ القرآن منها :
الأولى : وإنا له لحافظون )لأنه كتاب خلافة الإنسان في الأرض ، فعندما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )أجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فامتثلوا لأمر الله عندما أمرهم بالسجود لآدم ، قال تعالى [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ] ( ) .
وجاء قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ) بصيغة الجمع لأنها أبلغ من صيغة المنفرد ، ولبيان عظيم قدرة الله وأن أوامره ومشيئته تخترق السموات السبع ، وللتأكيد على عظمة مسألة التنزيل وأن طرق السموات والأرض بيد الله عز وجل .
الثانية : وانا له لحافظون رحمة بأهل الأرض .
الثالثة : وانا له لحافظون ليتلو المسلمون والمسلمات القرآن في الصلاة اليومية الواجبة والنافلة ، فمن الإعجاز أن صلاة المسلمين سبب ونوع طريق لحفظ القرآن ، وهي نتيجة وغاية لحفظ القرآن .
الرابعة : وانا له لحافظون ليكون حجة على الناس إلى يوم القيامة ، وفي التنزيل [قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ] ( ).
الخامسة : وانا له لحافظون لاستدامة الحياة الإنسانية على الأرض ببركة التنزيل بين ظهراني الناس .
السادسة : وانا له لحافظون ليزداد المسلمون إيماناً .
السابعة : وإنا له لحافظون ليهتدي الناس .
الثامنة : وانا له لحافظون لتنمية ملكة التقوى والصلاح عند الناس .
التاسعة : وانا له لحافظون ليتدبر الناس في آياته , قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ) .
العاشرة : وانا له لحافظون حباً من الله عز وجل للناس عامة والمؤمنين خاصة .
الحادية عشرة : وأنا لحافظون لتحدي الذين كفروا وفضحهم وخزيهم وتحذير الناس منهم .
الثانية عشرة : وانا له لحافظون ليتعاهد الناس أركان الدين كما أمر الله عز وجل بها .
الثالثة عشرة : وانا له لحافظون لإستدامة البركة في الأرض .
الرابعة عشرة : وانا له لحافظون ليدوم الحمد لله في الأرض ، وكل تلاوة في القرآن هي شكر وحمد لله عز وجل بمعناها ودلالتها ، ومن فضل الله عز وجل تعدد أسباب البركة في الحياة الدنيا منها ما ورد ذكره بصفة البركة على نحو النص كما في قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ] ( )وقوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
ومنها ما تدل الشواهد والقرائن والمعنى على بركته ، كالرزق الكريم ، والإملاء المتعدد من عند الله الذي تدل عليه آية البحث ، إذ يتصف كل إملاء من عند الله عز وجل بالبركة ، ولكن الذين كفروا حجبوها عن أنفسهم ، فجاءت آية البحث بالإخبار بأنه شر لهم , وسبب في إزدياد آثامهم .
الخامسة عشرة : وانا له لحافظون ليفوز المسلمون بالأجر والثواب لقراءتهم القرآن (عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم.
إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه، لا يعوج فيقوّم ولا يزيغ فيستعتب ولا تقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد.
فاقرأوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما أني لا أقول ألم حرف ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة) ( ).
السادسة عشرة : وانا له لحافظون لينهل الناس من علومه .
وفي هذه الساعة وصلني خبر مفاده كشف أقدم مخطوطة للقرآن ، وفي جامعة برمنكهام البريطانية بعد فحصها بالكاربون المشع قدّر عمرها بنحو ألف وثلاثمائة وسبعين سنة .
والمراد من السنين أعلاه هي السنوات الميلادية ، وهي بلحاظ الفرق بين السنوات الميلادية والهجرية ، فكل مائة سنة ميلادية تعادل مائة وثلاث سنوات هجرية باضافة نحو (42)سنة أخرى فيكون الحساب الهجري قبل نحو (1412)وبما أنه مرّ على انتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى (1440) سنة فان هذه المخطوطة من أيام الصحابة مع إحتمال هامش الخطأ في تقدير عمرها بلحاظ نسبة الزيادة فيه , لتكون من أيام النبوة , وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرسل على كتاب الوحي لتدوين الآيات , وكان بعض أهل البيت والصحابة يكتبون الآيات والسور النازلة .
وهذه المخطوطة وأن لم تكن جامعة لسور القرآن إلا أن مطابقة الآيات الموجودة بين أيدينا للآيات والسور الموجودة في المخطوطة شاهد وأمارة على سلامة القرآن من التحريف .
ومن الشواهد على سلامة القرآن من التحريف أمور :
الأول : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن على المسلمين حالماً ينفصل عنه الوحي ، بتدوينها .
الثاني : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكتاب الوحي بتدوين الآيات حال نزولها (عن خارجة بن زيد ، أن نفرا دخلوا على أبيه زيد بن ثابت ، فقالوا : حدثنا عن بعض أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال : كنت جاره ، فكان إذا نزل الوحي بعث إلي فآتيه فأكتب الوحي ، وكنا إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا ، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا ، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا . فكل هذا نحدثكم عنه ؟)( ).
الثالث : تناقل المسلمين آيات القرآن حال نزولها .
الرابع : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات وسور القرآن في الصلاة ، وهل يكون أختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآيات والسور بعد الفاتحة في كل فرض باجتهاد منه ، أم بالوحي .
المختار هو الثاني ، ففي كل مرة لا يقرأ النبي سورة مخصوصة إلا بوحي من عند الله ، لتكون هذه القراءة من مصاديق الحفظ في قوله تعالى[وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الخامس : من إعجاز القرآن دلالته على خلوه من التحريف ، فهو شاهد على سلامته من النقص والزيادة بمضامينه القدسية والصلة بين آياته .
وقد ظهرت فرق ومذاهب عند المسلمين ، وحدثت فتن بينهم ، ولكنهم جميعاً حرصوا على سلامة القرآن من التبديل والتحريف ، وهذا الحرص من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) وأن قيل قد ذهب بعضهم لوجود نقص في القرآن .
والجواب لا عبرة بالقليل النادر ، ولا ينخزم إجماع المسلمين على سلامة القرآن من التحريف.
لقد أراد الله عز وجل تنزيه وسلامة القرآن ، وإقرار الناس بأنه كلام الله ، ليتلقوا أحكامه بالقبول والإمتثال الحسن .
وهل حفظ الله عز وجل للقرآن وكلماته من أفراد النعمة في قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، الجواب نعم ، وفي كل لحظة من دقائق وساعات الحياة الدنيا يحفظ الله عز وجل القرآن .

الضرب بالسواك وعند النشوز فقط
قال تعالى[الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا] ( ).
ووردت في هذه الآية كلمات لم ترد في غيرها من آيات القرآن وهي :
الأولى : قوامون .
الثانية : فالصالحات ، باضافة الفاء .
الثالثة : حافظات لعدم وجود ألف ولام فيها .
الرابعة : حَفِظَ .
الخامسة : نشوزهن .
السادسة : فعظوهن .
السابعة : أهجروهن .
الثامنة : في المضاجع .
التاسعة : اضربوهن .
العاشرة : أطعنكم .
الحادي عشرة : تبغوا .
لبيان الإعجاز في إختصاص بعض الآيات بكلمات معينة والأسرار والمواعظة الكامنة فيه ، وبيّن القرآن إحتمال النشوز من الرجال أيضاً بقوله تعالى [وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا] ( ) .
وأصل النشوز لغة الإرتفاع ، وكأن المرأة الناشز ترتفع عن المكان الذي يضاجعها فيه زوجها وتتعالى عن طاعته .
والنشوز في الإصطلاح الخروج عن طاعة الزوج ، ونشوز الرجل إرتفاعه عن المحل الذي يجمعه مع زوجته وتركه مضاجعتها والتقصير في واجباته نحوها ، ولم يعاشرها بالمعروف ، قال تعالى [وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ] ( )وقعوده عنها (يقال نشز فلان أي قعد على نشز ومكان مرتفع من الأرض )[ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ] ( ) بخصوص الطلاق والإعادة في العدة .
لم تقل الآية المسلمون قوامون على المسلمات أو المؤمنون قوامون على المسلمات دون المؤمنات لأن المؤمنة أعلى درجة عند الله من المسلمة ، قال تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( ).
ولم تقل الآية المسلمون قوامون على أزواجهم من أهل الكتاب مثلاً ، ولكن قالت الرجال قوامون على النساء لبيان قانون من الإرادة التكوينية من أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة بحيث جعل الله عز وجل القيمومة بيد الرجل وأعانه عليها ، وهيئ المرأة لقبول هذه القيمومة في الجملة .
ومن أسرار مجئ الآية بصيغة الجملة الخبرية أنها قانون ثابت في الأرض بمدد وعون من الله ، وفيه الأجر والثواب ، وهل في صيغة الجملة الخبرية أعلاه شاهد على أن خلافة الإنسان بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )خاصة بالرجال دون النساء خصوصاً وأن الرجال اختصوا بالنبوة فليس من امرأة نبية .
الجواب نعم ، ولكن هذا لا يمنع من تولي المرأة المناصب الرفيعة في الدول والمؤسسات .
وبدأت هذه القيمومة من حين خلق الله آدم وحواء في الجنة إذ علم الله آدم الأسماء كلها ليعلمها لحواء وتنتفع منها ، كما ورد في الخطاب من عند الله لآدم ، وقلنا [وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ).
فتوجه خطاب السكن في الجنة من الله عز وجل إلى آدم ، وهل في هذا الخطاب من القيمومة اشارة أن محل سكن العائلة يختاره الزوج ، الجواب نعم ، إلا مع الشرط أو الضرر .
ثم كان خطاب الإباحة لهما معاً بالأكل والتنعم بخيرات الجنة ثم جاء التكليف على نحو الإشتراك والإنفراد [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ] ( ) ، وكذا بالنسبة للعقوبة بسبب المعصية [فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ).
وقيدت الآية القيمومة بأمرين :
الأول : فضل الله ، وموضوعية التفضيل منه في الخلقة والهيأة وقدرة الرجل على العمل الشاق وكسب المعاش .
الثاني : إنفاق الرجال على النساء ، ولو قال رجل لتنفق على امرأتي القيمومة أو أن امرأة قالت أن انفق على زوجي فهل لي قيمومة عليه ، الجواب لا ، لإخبار الآية بتفضيل يؤهل الرجل خلقة وشرعاً وواقعاً للقيمومة ولا عبرة بالقليل النادر .
و حتى في الكتب السابقة لزوم طاعة المرأة للرجل كما في الكتاب المقدس .
(ايها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب
5: 23 لان الرجل هو رأس المرأة كما ان المسيح أيضا رأس الكنيسة وهو مخلص الجسد
5: 24 و لكن كما تخضع الكنيسة للمسيح كذلك النساء لرجالهن في كل شيء) ( ).
ولا يجوز في الإسلام ضرب المرأة , أما آية القيمومة فهي بيان وفيها تفقه في الدين ، وهي مانع من ضرب الرجل لزوجته إلا مسمى الضرب وصرف الطبيعة الخالي من الأذى عند الضرورة بموضوع مخصوص وهو النشوز ويكون ضرباً خفيفاً والذي هو أقرب للمداعبة ويحمل في ثناياه المودة ، وبعض كتب أهل الكتاب تحمل المرأة مسؤولية إغواء آدم في الأكل من الشجرة وتعدّها أصل الخطيئة كما حكي عن التوراة ، وهو العهد القديم عند النصارى .
بينما نسب القرآن الإغواء إلى إبليس وأنه أزل آدم وحواء معاً ، قال تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ] ( ) ومع أن الخروج من الجنة والهبوط إلى الأرض بأمر ومشيئة ومدد من عند الله فانه سبحانه نسبه إلى ابليس بلحاظ حرمانه آدم وحواء من نعيم الجنة .
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنساء في حجة الوداع ، إذ قال (ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك ، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً}( ) ألا وإن لكم على نسائكم حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً . فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ، وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) ( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأسوة الحسنة للمسلمين والناس جميعاً في صلته مع ازواجه وإحسانه إليهن ورفقه بهن ، وصبره عليهن والحرص على العدل بينهن ، ورفقه بهن ، وصبره عليهن ، والحرص على العدل بينهن ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
(عن بن عباس قال قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم وان درعه مرهونة بثلاثين صاعا من شعير أخذها رزقا لعياله) ( ) وفيه مسائل :
الأولى : حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على توفير الزاد والمؤونة لعياله .
الثانية : تولي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإنفاق على عياله من ماله الخاص .
الثالثة : كثرة إنفاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعدم عزل وتوفير مال الإنفاق والخمس ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
الرابعة : وجود رجال من اليهود في المدينة إلى حين وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومزاولتهم التجارة فيها ، وعدم طردهم منها (قلت ( السندي ) : وقد يقال كيف يكون ذلك مع أن اليهود الذين كانوا بالمدينة قد قتل بعضهم وأخرج بعضهم إلا أن يقال : إن هذا اليهودي من سكان خيبر والله أعلم ) ( ).
ولكن الكلام ظاهر بأن اليهودي يسكن المدينة لقلة مال الرهن وللتبادر بقرب مسكن ومحل عمل المرتهن الذي رهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنده الدرع .
(عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الخلق كلهم عيال الله فأحب الخلق إلى الله انفعهم لعياله) ( ).
الخامسة :عدم إدخار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأموال .
وعن (انس بن مالك قال كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند بعض نسائه فارسلت احدى امهات المؤمنين بصحفة( ) فيها طعام فضربت التي في بيتها يد الخادم.
فسقطت الصحفة فانفلقت فجمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الفلقتين ثم جعل يجعل فيهما الطعام الذى كان في الصحفة ويقول غارت أمكم وحبس الخادم حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها ، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت) ( ).
وعن (أُمِّ مُوسَى عَنْ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ كَانَ آخِرُ كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم-الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)( ).
وفي قوله تعالى[فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ]( ) تكرر واو العطف عدة مرات منها مرتان بين ثلاث حالات وهي :
الأولى : الموعظة .
الثانية : الهجران في المضاجع .
الثالثة : الضرب .
وأختلف في دلالة الواو على قولين :
الأولى : إفادة مطلق الجمع كما تقول : رآى زيد وحسن الهلال ، ليدل على تحقق الرؤية في ذات الوقت ولا دلالة على الأسبق في الرؤية بخلاف ما إذا قيل رآى زيد ثم حسن الهلال .
الثاني : إفادة الترتيب ، كما لو قلت : صليت الظهر والعصر ، فلابد من الترتيب بينهما .
وقد اخترنا قولاً ثالثاً مستقلاً ومستحدثاً من جهات :
الأولى : قد تأتي الواو لمطلق الجمع أو الترتيب بحسب القرائن .
الثانية : قد تكون الواو في القرآن جامعة للجمع والترتيب بلحاظ تعدد وجوه التفسير .
الثالثة : تقدم الجمع درجة ثم الترتيب .
الرابعة : تقدم الترتيب ثم مطلق الجمع .
وجاءت كل من الواوين في آية البحث للترتيب ، وليس للجمع ، وقد يسقط العمل بما بعد الواو الثانية وهو [وَاضْرِبُوهُنَّ] وقد يسقط العمل بالثانية والثالثة وهو [وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ] ( ) ولكن لا يجوز اسقاط المعطوف بعد الواو الأولى دون المعطوف بعد الواو الثانية ، فلا يصح بعد الموعظة الإنتقال إلى الضرب مباشرة ، وإن كان الضرب مقيداً بأنه برفق وليس مبرحاً.
وفي ضرب المرأة المذكور في آية البحث أنه بالسواك ونحوه ، وورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (لا ينبغي للرجل أن يمتنع من جماع المرأة فيضاربها إذا كان لها ولد مرضع ويقول لها: لا أقربك فاني أخاف عليك الحبل فتغيل ولدي، وكذلك المرأة لا يحل لها أن تمتنع على الرجل فتقول: أنا أخاف أن أحبل فاغيل ولدي، فهذه المضارة في الجماع على الرجل والمرأة .
وأما النشوز فقد يكون من الرجل ويكون من المرأة، فأما الذي من الرجل فهو يريد طلاقها فتقول له: أمسكني ولك ما عليك وقد وهبت ليلتي لك ويصطلحان على هذا، فإذا نشزت المرأة كنشوز الرجل فهو الخلع إذا كان من المرأة وحدها فهو أن لا تطيعه وهو ما قال الله تبارك وتعالى: ” واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ” فالهجر أن يحول إليها ظهره في المضجع، والضرب بالسواك وشبهه ضربا رفيقا) ( ).
ومن أسرار قوامة الرجل في الأسرة التخفيف عن المحاكم واروقتها ، وجعل الأسرة تحل خلافتها ، فيما بين أفرادها ، وداخل أسوار المنزل بلطف ومودة ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
وذكر السواك بالحديث دلالة على حضور الإيمان والتقوى في الصلة بين الزوج والزوجة ، وإجتناب النشور ، ولو خشي من وقوعه أو أنه حدث فعلاً فان الضرب الرقيق وسيلة متأخرة من غير أن تنقطع معه وبعده الموعظة (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عليكم بالسواك فإنه مطهرة للفم مرضاة للرب مفرحة للملائكة يزيد في الحسنات ، وهو من السنة يجلو البصر ، ويذهب الحفر ، ويشد اللثة ، ويذهب البلغم ، ويطيب الفم) ( ).
وبالنسبة للسواك وهيئته فيجب أن يكون من شجر الأراك وهي شجرة دائمة الخضرة ، ويبلغ ارتفاعها نحو أربعة أمتار وتخلو من الشوك ، وتتصف أغصانها بأنها غضة ، وتوجد في الحجاز ونجران وجازان ، وفي صعيد مصر والسودان ، وإيران والهند وباكستان .
وقيل أن السواك يأخذ من جذور شجرة الاراك بعد أن يصبح عمرها سنتين أو ثلاثة ثم تنظف وتعدل وتقّطع وتنظف قبل عرضها في الأسواق ، ويجوز أخذ السواك من أشجار أخرى ، ولا يزيد السواك في طوله على شبر أي يجوز أن يكون أقل من الشبر المعتدل .
كما أن قوله تعالى [وَاضْرِبُوهُنَّ] أعم من أن يختص بالزوج فقد يأتي الضرب من الأب أو من الأم ، ولكن أيضاً بشرط أن يكون بالسواك .
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : دخل حائطا من حوائط الأنصار فإذا فيه جملان يضربان ويرعدان فاقترب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهما فوضعا جرانهما بالأرض فقال من معه : سجد له فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( ما ينبغي لأحد أن يسجد لأحد ولو كان أحد ينبغي أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لما عظم الله عليها من حقه ) ( ).
وقال تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
لبيان قانون وهو القبح الذاتي للفساد والقتل من قبل أن يخلق آدم ولتأكيد أنه سبب للحساب يوم القيامة .
ومن معاني [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ]( ) النفرة العامة عند الناس من القتل وإن كان ثأراً ولا عبرة بميل طوائف من الناس له في الجاهلية .
وكان العرب في الجاهلية يظنون أن الرجل المقتول يخرج من رأسه طائر يسمى (الهامة ) ويبقى يحلق فوق قبره وهو يقول اسقوني اسقوني إلى أن يثأر له ، وأن ينهبوا أموالهم وتسمى (فورة الدم ولا يحسب من الدية ، ويستثنى الأرض والعرض ، وابطلها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الطيرة وقال (لا طيرة ولا هامة في الإسلام ) .
وكان القاتل وعصبته يجلون من البلدة ولا يعودون إلا بهدنة وأمارة أو قتل القاتل أو يتم التصالح ، وينتقم أفراد عشيرة المقتول من أي رجل يقرب إلى القاتل بالنسب ، وجاء الإسلام بتحريمه بقوله تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( ) وبالدية في قتل الخطأ .
وهل المراد الحكم بالقصاص وان لم يتم التنفيذ والتقدير أم المراد تنفيذ القصاص أم المعنى الجامع لها ، المختار هو الثالث لأن الحكم بالقصاص زاجر عن القتل .
قال تعالى [فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ]( ) بخصوص ندم هابيل بن آدم على قتله لأخيه هابيل .
والندم من الكلي المشكك في ذاته وكيفيته ومدته وزمانه .
ومن إعجاز الآية أعلاه مجيؤها بصيغة الجمع [النَّادِمِينَ] مع أنه أول قتل في الأرض لبيان قانون وهو ليس من قاتل إلا ويندم على إقدامه على القتل وسفك الدماء واستحضاره لصورة المقتول وهو ينظر إليه أو يتوسل إليه , وفيه حث على التوبة والإستغفار .
وهل لقاتل المؤمن من توبة ، منهم من قال بعدم قبول توبته لقوله تعالى[وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا *وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ]( ).
ولا دليل في الآية عليه , ودية قتل المسلم على ستة أصناف يتخير الجاني بينها :
الأول : مائة بعير فحل .
الثاني : مائتا بقرة كل بلد بحسبه .
الثالث : ألف دينار ذهب ، والدينار مثقال ذهب عيار ثمان عشرة حبة .
الرابع : ألف شاة .
الخامس : عشرة آلاف درهم ، وكانت كل عشرة دراهم تساوي ديناراً من الذهب ، ولكن في هذا الزمان إرتفع سعر الذهب كثيرا بالنسبة للفضة فاتسع التباين بينهما .
السادس : مائتا حلة .
الدينار ثلاثة أرباع المثقال الصيرفي (4,64)غرام وهو أربع وعشرون حبة أي يكون دينار الدية ثمان عشرة حبة ، وليس المتعارف في السوق وهو واحد وعشرون حبة .
وقيل يكفي في دية الخطأ (5250)مثقال من الفضة ونصفها للأنثى .
وتجوز المصالحة على الأقل من الدية او الأكثر والعمد سواء بسلاح أو الذبح أو العصا والحجارة ، ومن الفقهاء من قال بأن القتل بالعصا أو الحجارة الصغيرة من شبه العمد ، لكن المدار على قصد وإرادة القتل والقانون الوضعي فيه القصاص أن كان عن سبق إصرار وترصد .
قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ).
والدية عقوبة مالية ، قال تعالى [وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا]( ).

صناعة جهاز شخصي لتعيين القبلة بدقة
تعيين القبلة على نحو الدقة العقلية وليس العرفية ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الحمد لله الذي جعل الصلاة ركناً من أركان الإسلام وهي عمود الدين.
ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) أنه لا تمر دقيقة على أهل الأرض إلا وهناك جماعة أو قوم يصلون في بعض أرجاء الأرض ، فقد يكون وقت صلاة الصبح في قرية أو بلدة وقت صلاة الظهر في بلدة أخرى ، ووقت صلاة العصر في أخرى ، ووقت صلاة المغرب أو العشاء في قرية أو بلدة أخرى أو أكثر من بلدة ، وكذا بالنسبة للمناطق المنقطعة عن العمران وراكبي البحار والجار المسلمين الذين يضربون في الأرض في كل من الصور أعلاه ، ويكون من معاني الآية أعلاه : ليعبدوا الله في كل آن من آنات الزمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
فالصلاة مع التباين والإختلاف في الزمان والمكان واحدة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ).
ومن شرائط الصلاة الطهارة بالوضوء أو الغسل المخصوص كغسل الجنابة أو التيمم ، والمختار أن الأغسال المستحبة والمسنونة لا تجزي عن الوضوء سواء الأغسال الزمانية كغسل الجمعة أو غسل يوم العيدين أو الأغسال المكانية مثل غسل الدخول المسجد الحرام أو الأغسال العقلية كالغسل بلاط .
ومن شروط الصلاة استقبال المصلي البيت الحرام بمقاديم بدنه طيلة وقت الصلاة .
ومن وسائل تعيين القبلة .
ومعرفة القبلة بواسطة الشاخص ، أو النجم القطبي (الجدي ) ويترس مسألة القبلة بعنوان (علم الهيئة ) ومنها استخدام البوصلة أو استخدام بعض التطبيقات التي تحمل على الهواتف النقالة الذكية والخدمة الكريمة التي بذلتها غوغل بتطبيق تقنيات حديثة لتعيين اتجاه القبلة بواسطة كاميرا الجوال الذكي وتعيين الموقع الجغرافي لصاحبه واتجاه البيت الحرام على الخريطة .
خاصة وأن الأرض كروية وتدور حول نفسها باعجاز في الخلق تعيين القبلة رياضياً وجغرافياً وفلكياً وهندسياً وصيغ المسح والتصوير والقياس .
إذ أن الخارطة للكرة الأرضية مسطحة ، وبما أن الأرض كروية الشكل فان لا يمكن الإعتماد على الخارطة المسطحة ، بل لا بد من الرجوع إلى الجسم الكروي (GLobe).
تعيين القبلة عبر الأقمار الصناعية يشارك فيه فقهاء وعلماء الفلك والفيزياء.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يستقبلون المسجد الأقصى وهم في المدينة إلى أن نزل نسخ القبلة ، قال تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ] ( ).
يحتاج المسلمون تعيين القبلة في أمور :
الأول : الصلاة اليومية والمستحبة والنوافل .
الثاني : الطواف .
الثالث : بناء ذبح الأنعام .
الخامس : دفن الأموات، ويستحب استقبال القبلة عند الجلوس .
كما ورد قوله تعالى [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ) وكان تعيين القبلة ونسخها من المسائل الإبتلائية والإمتحان ، قال تعالى [وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ءوَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
قال تعالى [وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ).
والمراد من قوله تعالى [شَطْرَهُ] أي جهته لكفاية الجهة للبعيدة وقيل أن جبرئيل عيّن القبلة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي وسميت قبلة وحي ، وقد صلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد هجرته إلى المدينة ستة عشر شهراً متوجهاً إلى بيت المقدس .
وإذا أنعم الله عز وجل على أهل الأرض بنعمة فانه أكرم من أن يرفعها، كما في قصة مريم والمائدة اليومية إذ ورد قوله تعالى [كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ) فكما يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف , وفي هذا الزمان تحققت هذه النعم بالعلم والتقنية بالزراعة المغطاة ووسائل النقل السريعة وحسن الحفظ ، وكذا كان تعيين قبلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي لتكون في هذا الزمان بالعلم والإنتفاع الأمثل منه في باب العبادات والمناسك .
وهناك طرق لتعيين القبلة من أمريكا ونحوها منها :
الأول : حل المسافة الأقصر ، وكان هناك خيط مشدوداً بين موقع المصلي وبين الكعبة بطريقة الدائرة العظمى في المثلثات الكروية .
الثاني : حل الإتجاه الثابت برسم خط مستقيم على الخارطة المسطحة ، وأن كانت لا تمثل واقع الكرة الأرضية .
الثالث : إفتراض حفر ثقب مستقيم في باطن الأرض من المدن البعيدة كاوتاوا عاصمة كندا في القارات ومكة على نحو فيزيائي ولا تصل النوبة اليه.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : البيت قبلة لأهل الحرام ، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي ) ( ).
المطلوب ومع الإرتقاء العلمي في هذا الزمان نقترح صناعة جهاز صغير يرتبط بالأقمار الصناعية والرادار لتعيين القبلة لأي بلد على نحو الدقة العقلية وبسهولة ويسر ، كما لو كان يعطي ضوء أخضر إذا وافق القبلة وعلى نحو الدقة العقلية ، ويمكن أن يدخل له برنامج في الهاتف النقال ، ولكن يبقى له مصباح صغير مستقل أصغر من الكاميرا ، ولكنه يمنع من اللبس .
ويشترك في تعيينه فقهاء وعلماء فيزياء وجغرافيا ، وقد يكون لهذا الجهاز رواج في العالم ، ولنا براءة اختراعه وفيه تخفيف عن المؤمنين والمؤمنات .
بيان الصلاة في عرفة ومزدلفة قصراً وجمعاً
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي) وإجماع المسلمين على أدائه الصلاة قصراً وجمعاً في عرفة ومزدلفة، وفي هذه الأيام بين سكنه في مكة وبين عرفة فترى بعض الحجاج العراقيين خاصة منهم من يصلي الظهر والعصر يوم عرفة تماماً ومنهم قصراً ويكثر الإنشغال بتقدير المسافة بين الفندق وعرفة، ولا تصل النوبة إليه وليس له موضوعية وهو مناف لقاعدة[وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] إلى جانب عمومات وحدة المسلمين في مناسك الحج.
ولا أصل لهذا التباين والإختلاف، فالصلاة لأهل الموقف في عرفة ومزدلفة قصراً أسوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومكة مولده ومحل بعثته وسنيها الأولى، بالإضافة إلى الإجماع على أن أهل مكة من المسلمين الذين صلوا خلف النبي في عرفة ومزدلفة قصرّوا في الصلاة، ولم يأمر أحداً منهم بالصلاة تماماً.
وذهب أصحاب الشافعي وأحمد ومالك إلى أن المكي لا يقصر ولا يجمع لأنه غير مسافر، والسفر عندهم ثلاثة وثمانون كيلو متراً أو أكثر، وقال أبو حنيفة بالجمع والقصر وأن سببه النسك، فيقصرون ولو في منى، ولم يذكر أحد من فقهاء المسلمين غير أهل مكة في الخلاف، بلحاظ أن غيرهم من أهل الأمصار في حال سفر، ويحملون الزاد والشراب وجاءوا لتأدية النسك.
ولم يرد عن المعصومين عليهم السلام ما يشير إلى تمام صلاة الحاج القادم من العراق أو بلاد فارس في المشاعر، وبالإسناد عن إسحاق بن عمار قال: قلت للإمام الصادق عليه السلام : في كم التقصير ؟ فقال : في بريد ، ويحهم كأنهم لم يحجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله فقصروا.
وفي صحيحة الحلبي عنه عليه السلام قال: أن أهل مكة إذا خرجوا قصروا، وإذا زاروا ورجعوا إلى منزلهم أتموا.
ويدل تأكيد الحكم بخصوص أهل مكة على التسالم والأولوية بأن وفد الحاج من الأمصار يصلون الظهر والعصر في عرفة قصراً.
فادعو الحجاج العراقيين كافة إلى أداء صلاة الظهر والعصر في عرفة قصراً وجمعاً وأداء صلاة العشاء قصراً في مزدلفة، والعمل بالنص في المشاعر، ولا أصل لإعتبار المسافة الشرعية فيها، والحكومة هنا للنأسي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضوابط وحدة المسلمين، قال تعالى[فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ] ( ).
في الصفا والمروة
وقال تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ] ( ).
والصفا جبل مطل على البيت الحرام من جهة ركن الحجر الأسود والذي يسمى أيضاً الركن الشرقي.
أما المروة فهو جبل مقابل له من جهة الركن العراقي , ويقعان شرق البيت الحرام ، وكأنهما في هذا الزمان من المسجد الحرام ، والصفا جبل مرتفع , والمروة أقل إرتفاعاً منه ويقعان بين بطحاء مكة والمسجد الحرام .
والشعائر : جمع شعيرة ، وهي العلامة ، والشعار للنسك وشاهد على العبادة والتقوى .
وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : ذات جبل الصفا والمروة من شعائر الله وبيان موضوعيتها في الإسلام لبيان أن سعي الذين كفروا بينهما ليس من شعائر الله.
الثاني : المقصود الأرض والمسعى بينهما ، بذكر الملزوم وإرادة اللازم .
الثالث : المعنى الأعم الجامع لذات موضع الجبلين , وأرض المسعى لذا لابد من الصعود على الصفا والإنتهاء عند جبل المروة ، وليس في سطحه .
الرابع : المقصود خصوص السعي بينهما , وتقدير الآية : إن السعي بين الصفا والمروة من شعائر الله .
وكان فيهما أصنام ويطوف بها المشركون ، فتخرج بعض المسلمين فنزلت الآية ، وان كان عليهما أصنام وسعى بينهما المشركون فهي من شعائر الله بتقريب أن سعي المسلمين يزيح هؤلاء , وورثت قريش وأهل مكة والعرب الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة من إبراهيم إلى أن تم فتح مكة من غير قتال , ونزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]( ).
وقد سعى بينهما آدم وحواء ، وسعى إبراهيم بتوجيه من جبرئيل لبيان نكتة وهي أن هذا السعي ليس إجتهاداً من الأنبياء .
تدعو الآية للزيادة بالعبادات .
وتحتمل تسمية الجبلين وجوهاً :
الأول : أصل تسمية جبل الصفا والمروة من عند الله عز وجل.
الثاني : التسمية من مصاديق [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ).
الثالث : هذه التسمية من وقائع تأريخية منها هبوط آدم وهو صفوة الله على جبل الصفا ، وهبوط حواء على جبل المروة وهو المروي (و { الصفا } جمع صفاة ، وقيل : هو اسم مفرد جمعه صفى وأصفاء ، وهي الصخرة العظيمة ، قال الراجز :
مواقعُ الطَّيرِ على الصَّفى …
وقيل : من شروط الصفا البياض والصلابة ، و { المروة } واحدة المرو ، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين ، ومنه قول الذي أصاب شاته الموت من الصحابة : فذكيتها بمروة ، ومنه قول الأمين : اخرجني إلى أخي فإن قتلني فمروة كسرت مروة ، وصمصامة قطعت صمصامة .
وقد قيل في المرو : إنها الصلاب . قال الشاعر : [ الوافر ]
وَتَوَلَّى الأَرْضَ خِفّاً ذَابِلاً … فإذَا ما صَادَفَ الْمَرْوَ رَضَخْ) ( ).
وبعد أن كان آدم وحواء يقيمان في الجنة , وسئل الإمام الصادق عليه السلام (أمن جنان الدنيا كانت أم من جنان
الآخرة: فقال: كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان
الآخرة ما خرج منها أبدا “، قال: فلما أسكنه الله الجنة أتى جهالة إلى الشجرة،
لأنه خلق خلقه لا تبقى إلا بالأمر والنهي والغذاء واللباس والأكنان
والتناكح، ولا يدرك ما ينفعه مما يضره إلا بالتوقيف، فجاءه إبليس فقال له: إنكما إن
أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين وبقيتما في الجنة أبدا “،
وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة وحلف لهما أنه لهما ناصح، كما قال الله تعالى
حكاية عنه: ” ما نهكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من
الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ” ( ) فقبل آدم قوله فأكلا من الشجرة وكان
كما حكى الله ” بدت لهما سوآتهما ” ( ) وسقط عنهما ما ألبسهما الله تعالى من لباس
الجنة، وأقبلا يستتران من ورق الجنة ” وناديهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما
الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ” ( ) فقالا كما حكى الله عز وجل عنهما: “
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ” فقال الله لهما: “
اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ( ) قال: إلى يوم القيامة.
قوله: ” فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو
ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين “( ) قال: فهبط آدم على الصفا وإنما سميت الصفا
لأن صفوة الله نزل عليها، ونزلت حواء على المروة وإنما سميت المروة لأن المرأة نزلت
عليها، فبقي آدم أربعين صباحا ” ساجدا ” يبكي على الجنة، فنزل عليه جبرئيل عليه
السلام فقال: يا آدم ألم يخلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته ؟
قال: بلى، قال: وأمرك أن لا تأكل من الشجرة فلم عصيته ؟ قال: يا جبرئيل إن إبليس
حلف لي بالله إنه لي ناصح، وما ظننت أن خلقا ” يخلقه الله يحلف بالله كاذبا) ( ).
الرابع : حصول التسمية باختيار أهل الحرم .
والمختار الأول والثاني والثالث .
لقد سألت قريش النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصير جبل الصفا ذهباً ليصدقوا بنبوته ، ولم يسألوا أن يكون جبل المروة ذهباً لأن جبل الصفا أعلى وأكثر إرتفاعاً .
ومعجزاته حسية بالإضافة إلى أن هذا الميل من سعي الناس فرزقهم الله عز وجل في كل سنة صيرورة هذا الجبل ذهباً بوفود الحاج والمعتمرين .
ولو جعله لقريش ذهباً لكسروه بالفؤوس وتقاتلوا عليه ، ثم أنكروا المعجزة أو قالوا أنها سحر ،ليكون بقاؤه من عمومات قوله تعالى [وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ]( ) وهما جذب إلى مقامات الطاعة الغني والفقير .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما يصعد الصفا للسعي يطيل الوقوف بمقدار قراءة سورة البقرة .
ويستحب عند الزحام التعجيل والشروع بالسعي
وطول المسافة بينهما مع علو الصفا وعلو المروة 395 ثلاثمائة وخمسة وتسعون متراً .
وكانت أرض المسعى من تراب ، ولم ترصف ، وليس له سقف إلى القرن الثالث عشر الهجري .
والسعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة وبه قال الشافعي وأحمد ، وفي رواية عن مالك ، وقال أبو حنيفة أنه واجب( ) .
وقيل أن السعي بين الصفا والمروة سنة ومندوبة ( ) ، ومن تركه لا تلزمه كفارة ، ونسب إلى إبن عباس وأنس وأبن الزبير .
ولكن ورد (عن ابن عباس قال : سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا ) ( ) .
والمتبادر من لفظ كتب هو الفرض والوجوب ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) .
(عن عامر الشعبي قال : كان وثن بالصفا يدعى أساف ووثن بالمروة يدعى نائلة ، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما ويمسحون الوثنين ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا : يا رسول الله إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين وليس الطواف بهما من الشعائر! فأنزل الله { إن الصفا والمروة . . . }( ) الآية .
فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه ، وأُنِّثَتْ المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثاً) ( ).
ولكن تذكير الصفا من صفوة الله وهو آدم عليه السلام وصعوده على الصفا ، وتأنيث المروة من نسبة إلى حواء وهي امرأة آدم .
والمشهور بين علماء الإسلام والمختار أن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة .
( أو أعتمر ) المراد العمرة المفردة أو عمرة التمتع .
إذ أن الإحكام التكليفية خمسة وهي :
الأولى : الوجوب .
الثاني : الإستحباب .
الثالث : الإباحة .
الرابع :الكراهة .
الخامس : الحرام .
وخالف الكعبي من المعتزلة ومن تبعه بنفي المباح بلحاظ أن المباح يفيد ترك حرام ما ، ولكن الأحكام ليست بالدقة العقلية ، وقالوا لكل شهر عمرة ، والمختار تجوز العمرة في كل يوم ، إنما ورد ذكر الشهر للحث والندب إلى العمرة .
ومجموع السعي سبعة اشواط أربعة من الصفا إلى المروة وثلاثة من المروة إلى الصفا ، ليكون الإنتهاء على المروة .
ويصح السعي بالإضافة الجديدة في المسعى لإخبار الثقة بأن الصفا كان ممتداً وطويلاً ، ولا يشدد المسلم على نفسه بالسعي بما يخالف النظام .

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn