المقدمـــــــــــة
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا موطناً ومحلاً لطاعته وعبادته ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) ومصداقاً لقانون وهو كل موضع في عالم الأكوان دار لتسبيحه وعبادته ، قال تعالى [يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) .
و[مَا] في الآية أعلاه سور الموجبة الكلية الجامع للعقلاء وغير العقلاء ، وجاء تغليب غير العقلاء في الآية لكثرتهم ولعجز الخلائق عن إحصاء عددهم أو معرفة أصنافهم وأجناسهم وهيئاتهم لبيان بديع صنع الله عز وجل ، وتأكيد فضل الله بهداية الخلائق إلى حمده وتسبيحه ، وهل هذا العموم واللامتناهي في التسبيح والتحميد لله من مصاديق قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
الجواب نعم من جهات:
الأولى : محاكاة الخلائق للناس بالتسبيح .
الثانية : إعانة الخلائق للناس في الحمد لله ، والتقاؤها جميعا بالتسليم بتنزيه مقام الربوبية .
الثالثة : ترغيب الناس عامة والمسلمين خاصة بالتسبيح والتحميد لأنه عمل كل الخلائق ، والناس من الخلائق أيضاً .
وهل يعلم الناس بتسبيح الخلائق كما في قوله تعالى [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ] ( ) .
الجواب تدل الآية أعلاه على صيرورة المسلمين والناس يعلمون بتسبيح الخلائق لما فيه من إزاحة الغفلة عنهم , فان قلت هذا صحيح بخصوص المسلمين ، فكيف الحال بالنسبة لعامة الناس ، الجواب لأن القرآن نزل بياناً وتفقيهاً للناس جميعاً ، قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الرابعة : الشهادة من عند الله عز وجل للخلائق بأنها تسبحه وتحمده وتثني عليه ، وهل من معاني لفظ [ما] في الآية أعلاه من سورة التغابن أنه ليس جميع الناس يقومون بالتسبيح .
الجواب لا , لأصالة الإطلاق .
فيمكن القول أن من معاني الدلالة التضمنية للآية هو يسبح لله ما في السموات والأرض وليس كل من في الأرض وحدهم , لبيان قانون وهو أن التسبيح ملاك التشابه والإتحاد بين العالم العلوي والعالم السفلي .
فجاءت الآية لبعث الناس على التسبيح ، وزيادة عدد المسلمين والحامدين لله عز وجل ، وتفضل الله عز وجل وأمر كل مسلم ومسلمة بقراءة سورة الفاتحة سبع عشرة مرة في اليوم بعدد ركعات الصلاة الواجبة وفيها آية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) لتكون حمداً لله متجدداً في كل ساعة, وضياء مباركا يشع من أركان الأرض على جنباتها , ومنها إلى الخلائق وعالم الأكوان .
وأكرم الله عز وجل الإنسان بالخلافة في الأرض بقوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) .
وقد احتجت الملائكة على هذا الأمر إذ أنهم لم ينالوا المرتبة العظيمة التي نالها الإنسان ، فلم ينل جنس من الخلائق الأخرى مرتبة الخلافة .
والمختار أن الملائكة لم تحتج على أمر الله لعمومات قوله تعالى [وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ) إلا أنهم تضرعوا إلى الله وارادوا أن يكون جنس الإنسان في تقواه مثل جنس الملائكة .
وكأنهم قالوا لماذا تجعل فيها كفارا يحاربون الأنبياء فاجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) بأن الدنيا هي دار السلام وأن الدين عنده سبحانه هو الإسلام , وأن الكفار يلقون الهوان والخزي في النشأتين , ومنه واقعة بدر وسحب رؤساء الكفر صرعى إلى القليب .
وبعد أن جاءت الآية المتقدمة من سورة الإسراء بتحدي الناس بالإتيان بمثل القرآن , جاءت آية أخرى بالتحدي بعجز الناس عن الإتيان بعشر سور من القرآن بقوله تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
ثم يضيق موضوع التحدي لينحصر بسورة واحدة من القرآن بقوله تعالى [وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
وجاء لفظ سورة بصيغة التنكير ليشمل السور الطويلة والقصيرة , لبيان قانون وهو استمرار واتصال التحدي بالقرآن وسوره في كل زمان وفيه غنى عن الغزو .
نعم فيه دعوة لبيان إعجاز القرآن ونشر أحكامه وبيان رجحانها على الأحكام الوضعية , والتي تلتقي كثير منها مع سنن وأحكام القرآن .
وكان قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه دفاعاَ عن النفوس والعقيدة والتنزيل , ويحتمل وجهين :
الأول : إنه دفاع عن ضرورة .
الثاني : إنه دفاع وقائي .
الجواب هو الأول , إذ كان المسلمون في بداية كل معركة كارهين للقتال , قال تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ] ( ).
ومن معاني الآية أعلاه عدم ثبوت إنحصار الغاية من خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة بدر التعرض لقافلة أبي سفيان , وإن كان هذا التعرض من أجل المقاصة لأموال المسلمين التي استحوذ عليها كفار قريش عندما أرغموهم على الهجرة إلى الحبشة وإلى مكة ولكن هذا التعرض لم يقع , ولم تثبت مقدماته والقصد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إليه .
ويبين قوله تعالى [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ] ( ).
تمادي كفار قريش بالظلم , وإصرارهم على القتال وغزو المسلمين , فجاء النصر من الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر لقانون يتغشى الأرض من بدايات هبوط الإنسان فيها وإلى يوم القيامة بأن النصر بيد الله عز وجل , وأنه سبحانه ينصر المؤمنين عندما يتوالى عليهم الظلم والإضطهاد .
ولم يتعظ كفار قريش من هزيمتهم في معركة بدر ويلجأوا إلى الصلح مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما حرضوا القبائل وزحفوا بثلاثة آلاف رجل في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة لغزو المدينة .
ومن الآيات في صبغة السلم وإرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلح والوئام مع الناس عامة قيامه بعقد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة وفي حال إزدياد منعة وقوة المسلمين مما يدل بالأولوية القطعية على رضاه واستعداده للصلح في السنة الثالثة قبل أو بعد معركة أحد .
لقد كانت أصوات الصحابة ترتفع أثناء ذلك الصلح بالإنكار على بعض شروط قريش , فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) ( ).
وعندما امتنع سهيل بن عمرو ممثل قريش في صلح الحديبية عن كتابة هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى عليه وآله وسلم , وأبى إلا أن يكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام وكان هو الذي يكتب الصلح : (أكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو فجعل علي يتلكأ ويأبى ان يكتب إلا محمد رسول الله فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اكتب فان لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد) ( ).
وفيه مسائل
الأولى : كما أن عليا فارس الميدان فانه الكاتب لبنود الصلح.
الثانية : وثاقة النبي محمد صلى الله عليه وآله به .
الثالثة : طمأنينة المشركين لما يكتبه الإمام علي عليه السلام .
فلم يشترطوا ان يكون الكاتب منهم , ولم يطلبوا كاتباَ آخر , ولم يستحضروا النفرة منه لأنه قتل فرسانهم يوم بدر وأحد .
الرابعة : في الحديث دلالة على كتابة الإمام علي عليه السلام للقرآن بخط يده
الحمد لله الذي جعل النبوة والتنزيل سلاحين مجتمعين ومتفرقين لإستئصال الظلم من الأرض بالتبليغ وبيان قبح الظلم , وبالإنذار الدنيوي والوعيد الأخروي ، وفي التنزيل [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] ( ).
الحمد لله الذي جعل المصاديق والنعم التي يشكر الناس الله عز وجل عليها أكثر من أن تحصى ، وهي بحر لا ينزف بالدلاء ، ولا ينضب بالإغتراف والنهل .
وعن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) ( ).
الحمد لله الذي جعل الحمد له سبحانه حرثاً للدنيا والآخرة ، وإذ ينقطع تمتع الإنسان من [الْمَالُ وَالْبَنُونَ] ( ) في الحياة الدنيا ، فانه يتنعم بثنائه وحمده لله عز وجل في الدنيا , وفي عالم البرزخ , وفي الآخرة .
(عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: استكثروا من الباقيات الصالحات قيل : وما هن يا رسول الله؟
قال : التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ، ولا حول ولا قوة إلا بالله)( ).
وهل الولد الصالح والصدقة الجارية من الباقيات الصالحات ، الجواب نعم ، إذ يؤدي الولد الفرائض فيلحق الثواب أباه حياً أو ميتاً ، ويكون قبره روضة من رياض الجنة ، وتأتيه نسائم وطيب هذا الذكر .
وهل في تلاوة آيات القرآن حمد لله عز وجل أم لابد من النطق بالحمد لله ، الجواب هو الأول ، وتكون تلاوة القرآن حمداً لله من وجوه :
الأول : مجئ آيات الحمد لله في القرآن .
الثاني : ذات التلاوة من الحمد والشكر لله للهداية إليها .
الثالث : تسمى سورة الفاتحة بلحاظ كلمة (الحمد لله) التي فيها على وجوه :
الأول : سورة الحمد لأنها تبدأ بعد البسملة بالحمد لله ، (عن موسى بن جعفر، عن آبائه عليهم السلام قال: قال علي عليه السلام: قدم جعفر بن أبي طالب عليه السلام فتلقاه رسول الله صلى الله عليه وآله وقبل بين عينيه فلما جلسا قال رسول الله صلى الله عليه وآله له : ألا اعطيك ؟
ألا أمنحك ؟ ألا أحبوك ؟ قال: بلى يا رسول الله، فقال: تصلي أربع ركعات في كل ركعة
سورة الحمد وسورة.
ثم تقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقول هذا التسبيح عشرا ثم ترفع رأسك فتقول عشر مرات، ثم تسجد فتقول عشر مرات.
ثم ترفع رأسك فتقول عشر مرات ثم تقوم إلى الركعة الثانية فتفعل مثل
ذلك فذلك خمس وسبعون مرة في كل ركعة.
فان استطعت أن تصليها كل يوم فافعل، فان لم تستطع ففي كل جمعة، فان لم تستطع ففي كل شهر، فان لم تستطع ففي كل سنة، فان لم تستطع ففي عمرك مرة فإذا فعلت ذلك غفر الله ذنبك صغيره وكبيره، قديمه وحديثه، خطأه وعمده) ( ).
الثاني : سورة الحمد لله (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي) ( ).
الثالث : سورة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
لتجلي الحمد والثناء لله عز وجل في هذه الآية من سورة الفاتحة .
(عن أبى سعيد بن المعلى الانصاري ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاه وهو يصلي فصلى ثم أتاه فقال ما منعك ان تجيبني إذ دعوتك قال اني كنت أصلي .
فقال : ألم يقل الله عز وجل (يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم) ( ) الآية .
ثم قال الا اعلمك اعظم سورة في القرآن قال فكأنه نسيها أو نسى.
قلت يا رسول الله الذى قلت لي قال الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذى اوتيته) ( ).
والسور التي تبدأ بالحمد بعد البسملة هي :
الأولى : سورة الفاتحة .
الثانية : سورة الأنعام وتبدأ بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ]
الثالثة : سورة الكهف , والتي تبدأ بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا]
الرابعة : سورة سبأ , والتي تبدأ بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ]
الخامسة : سورة فاطر والتي تبدأ بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
وهذه السور كلها مكية لبيان لزوم تثبيت مفاهيم الحمد لله عند المسلمين , وتأكيد حاجتهم له .
الحمد لله الذي جعل آيات القرآن خزائن متعددة العلوم والأرزاق المباركة في الموضوع والحكم والدلالة , وتتضمن في ثناياها الإخبار عن خزائن الله ، قال تعالى [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ]( ).
وهل التنزيل من هذه الخزائن ، الجواب نعم ، إذ تفضل الله عز وجل وأنزل الوحي والكتب السماوية على الأنبياء ابتداء من أبينا آدم وحتى النبي محمد صلى الله عيه وآله وسلم (عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال : آدم قلت : يا رسول الله ونبي كان؟
قال : نعم . نبي مكلم . قلت : كم كان المرسلون يا رسول الله؟
قال : ثلثمائة وخمسة عشر . جماً غفيراً ) ( ).
وآيات القرآن من الذخائر والخزائن التي ذكرها الله في قوله تعالى [قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ] ( ).
ومن فضل الله جاء هذا الجزء من تفسيرنا للقرآن وهو الثمانون بعد المائة في قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) وبيان أسباب معركة بدر وأنها أعم من أن تختص بمسألة قتل عمرو بن الحضرمي من المشركين والذي رماه واقد بن عبد الله التميمي أحد أفراد سرية عبد الله بن جحش إذ كانوا سرية استطلاع ورصد .
ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتال أو رمي سهام ، وهو الأمر الذي بيّنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند عودتهم إلى المدينة وإمتناعه عن قبول الخمس الذي عزلوه له من الغنيمة ، وقيام المهاجرين والأنصار بتوجيه اللوم لعبد الله بن جحش وأفراد السرية على ما فعلوه , وذكر أنها أول سرية في الإسلام , لبيان القوانين التي تحكم سرايا الإسلام .
ولم يكن عبد الله بن جحش هو آمر هذه السرية بالأصل ، إنما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها أبا عبيدة بن الجراح ، ولكنه لما أراد أن يخرج من المدينة بكى وجداً ومحبة لرسول الله واشفاقاً من فراقه ، وهو معنى الصبابة في حديث الصحابي جندب بن عبد الله (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث رَهطًا، فبعثَ عليهم أبا عبيدة . فلما أخذ لينطلق، بكى صَبابةً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فبعث رجلا مكانه يقال له عبد الله بن جحش، وكتب له كتابًا، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ كذا وكذا :” ولا تكرهنَّ أحدًا من أصحابك على السير معك) ( ).
ولو بقي ذات الإختيار النبوي بأمرة السرية لعله لم يحدث قتل ابن الحضرمي من قبل تلك السرية .
لقد صار كفار قريش يخشون على قوافلهم والعير التي تسير بين مكة والشام ، ومكة واليمن محملة بالبضائع في ذهابها وإيابها ، وهذه الخشية ليست من المسلمين وحدهم ، ولكن من عموم القبائل والأعراب الذين أدركوا بطلان وزيف منهاجهم في عبادة الأوثان .
الحمد لله الذي جعل القرآن منهلاً للعلوم , ودعا الناس جميعاً للإغتراف منه ,واتخاذه نوراً مضياً ينير لهم دروب السعادة والهداية والرشاد ، ومن إعجاز القرآن أنه يجمع بين الرشاد وبين إنارته ونتائجه الحميدة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) بلحاظ أن معنى الصراط في الآية جامع لكل من :
الأول : الهداية إلى الصراط المستقيم والرأي السديد .
الثاني : المقدمات القريبة والبعيدة .
الثالث : ذات الفعل والعمل .
الرابع : ما يصاحب الفعل .
الخامس : النتائج الحميدة ، والعاقبة الحسنة .
ليكون معنى [الصِّرَاطَ] في الآية أعلاه حضور أسباب الهداية في الاختيار والهمّ بالفعل .ومقدماته وسنخيته الحسنة وكيفية إثباته وانتفاء الضرر فيه عن الذات والغير ، ومن الصراط وفروعه المباركة ما يترشح عنه من المنافع الدنيوية والآخروية .
وهذا التعدد في معاني وضروب الصراط من الإعجاز في ورود قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) في سورة الفاتحة ، ووجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة لها عدة مرات في اليوم ، لتكون حصناً وواقية لهم .
وعندما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة سنة (101 هجرية – 719 ميلادية) , كتب إلى مسلمة بن عبد الملك وهو بأرض الروم يأمره بالعودة بالمسلمين ولم تدم خلافته كثيراً إذ بقي فيها سنتين وبضعة أشهر .
اللهم لك الحمد لما أنعمت وأمليت بسوابغ نعم متتالية لسنا أهلاُ لها ، ولكنك سبحانك تفضلت بالإحسان والجود ، ولك الحمد أقصى مبلغ .
الحمد وأنت الذي جعلت الحمد لك نعمة أخرى منك سبحانك .
الحمد لله الذي جعل الكتب السماوية المنزلة تدعو إلى التوبة ، ويتصف القرآن بأن كل آية منه دعوة سماوية للتوبة تتجدد خمس مرات في اليوم بتلاوة المسلمين القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني الشامل لكل مسلم ومسلمة .
وهل هذه التلاوة من الشكر لله على النعم ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ] ( ).
الحمد لله الذي يهدي إلى الصراط المستقيم ، ويتفضل ويجعل هذه الهداية طاعة وحمداً له باللسان والفعل .
لقد جعل الله عز وجل الحمد له سبحانه واقية للقلوب من الجفاء والقسوة ، وهو صلاح وعلاج لها ، وبرزخ دون الغلظة أو الإبتعاد عن منازل الخضوع والخشوع لله عز وجل .
(عن أنس ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أحسنوا جوار نعم الله ، لا تنفروها ، فقلما زالت عن قوم فعادت إليهم) ( ).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم (من قال: قبح الله الدنيا، قالت الدنيا: قبح الله أعصانا للرب.) ( ).
الحمد لله الذي يجير من الدنيا والعذاب في الآخرة ويدخل من يشاء الجنة برحمة وفضل منه سبحانه .
الحمد لله الذي يظهر الجميل ويستر القبيح لترغيب الناس لفعل الجميل ودعوتهم للتدارك ولكن الذين كفروا يتمادون في الغي والضلالة كما يبينه قوله تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ).
وقد جاء الجزء السابق من هذا السفِر وهو التاسع والسبعون بعد المائة خاصاً بتفسير الآية أعلاه لبيان الحاجة إلى الشكر لله عز وجل ، والمداومة على الحمد سبحانه ، ومن الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن إبتداؤه بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) لتكون هذه الآية مدرسة في الشكر والفقاهة لما فيها من المسائل :
الأولى : بيان قيام المسلمين والمسلمات بالحمد لله .
الثانية : مواظبة المسلمين والمسلمات على الحمد لله عز وجل وعلى نحو الوجوب والإستحباب مجتمعين ومتفرقين .
الثالثة : فوز المسلمين بكنز عظيم وهو قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الرابعة : تأسي المسلمين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتعاهده للحمد لله , والثناء عليه سبحانه .
الخامسة : محاكاة المسلمين لآدم عليه السلام في ثنائه على الله عز وجل (عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا : بعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها , فقالت الأرض : أعوذ بالله منك أن تنقص مني ، فرجع ولم يأخذ شيئاً , وقال : يا رب إنها أعاذت بك فأعذتها .
فبعث الله ميكائيل كذلك . فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال : وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره ، فأخذ من وجه الأرض وخلط ولم يأخذ من مكان واحد ، وأخذ من تربة حمراء ، وبيضاء ، وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين فصعد به ، فبل التراب حتى صار طيناً { لازباً }( ) واللازب : هو الذي يلزق بعضه ببعض .
ثم قال للملائكة : إني خالق بشراً من طين ، فخلقه الله بيده لئلا يتكبر عليه إبليس ، فخلقه بشراً سوياً ، فكان جسداً من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة ، فمرت به الملائكة ، ففزعوا منه لما رأوه .
وكان أشدهم منه فزعاً إبليس ، فكان يمر به فيضربه ، فيصوّت الجسد كما يصوّت الفخار يكون له صلصلة فيقول : لأمر ما خلقت! ويدخل من فيه , ويخرج من دبره , ويقول للملائكة : لا ترهبوا منه فإن ربكم صمد وهذا أجوف ، لئن سلطت عليه لأهلكنه .
فلما بلغ الحين الذي يريد الله أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة : إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له ، فلما نفخ فيه الروح فدخل في رأسه عطس فقالت الملائكة : الحمد لله .
فقال : الحمد لله فقال الله له : يرحمك ربك . فلما دخلت الروح في عنقه نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخلت إلى جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قبل أن تبلغ إلى رجليه عجلاً إلى ثمار الجنة . وذلك قوله تعالى { خلق الإِنسان من عجل }( ) .) ( ).
الحمد لله الذي أحب عباده وأحب كلمة الحمد لله ، فجعلهم ينطقون بها ويغمرون الأرض باللهج بها ، لتكون الحياة الدنيا دار الحمد له سبحانه ، فليس من دقيقة تمر على أهل الأرض إلا وهناك عدد من المؤمنين ينطقون بالحمد لله .
وهو من أسرار قراءة المسلمين سورة الفاتحة في الصلاة والتي تبدأ بعد البسملة بقوله [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) ليكون هذا النطق باباً لرحمة الله بالناس جميعاً ، وعوناً لهم في الشدائد ، وطريقاً إلى سبل الهداية والرشاد, ووسيلة مباركة لمحو الذنوب .
الحمد لله الذي يمهل العباد جميعاً ، فليس من عبد إلا وقد أمهله الله عز وجل ، ولا يأتي هذا الإمهال بمفرده ومجرداً بل يقترن بفضل الله عز وجل بالنعم المتتالية , فمع الإمهال يأتي الإملاء ، ولا يختص بالجمع بينهما فريق من الناس دون آخر , وهو باب للتوبة والإنابة والدعاء وسؤال العباد لله عز وجل من كنوز الدنيا وخزائن الآخرة .
وفي التنزيل [وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] ( ).
حرر في 12/ ربيع الآخر 1440
20/12/2018
قانون الإسلام والسلام نظيران
ورد قوله تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( ) على نحو الإطلاق الذي يتغشى أفراد الزمان الطولية والمكانية العرضية ، فلو دار الأمر بين إرادة الإطلاق والعموم بأن الدين التام هو الإسلام من أيام آدم وأيام ما بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وبين التقييد الزماني ومن حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيكون تقدير الآية : أن الدين بعد رسالة محمد هو الإسلام .
فالأصل هو الأول لأصالة الإطلاق والعموم وعدم وجود تقييد ، ولمجئ آيات متعددة تخبر عن الأنبياء بأنهم مسلمون كما في إبراهيم عليه السلام ، قال تعالى [مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ) وفي قوم لوط ونزول العذاب فيهم ، قال تعالى [ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ] ( ) أي لوط وابنتيه , و(عن سعيد بن جبير قال : كانوا ثلاثة عشر .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله { فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين }( ) قال : لو كان فيها أكثر من ذلك لنجاهم الله ليعلموا أن الإِيمان عند الله محفوظ لا ضيعة على أهله) ( ) , وقد شهد القرآن للنبي محمد بأنه على ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً.
وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام (إن لوطا لبث في قومه ثلاثين سنة
يدعوهم إلى الله عز وجل ويحذرهم عذابه، وكانوا قوما لا يتنظفون من الغائط، ولا يتطهرون من الجنابة، وكان لوط ابن خالة إبراهيم، وكانت امرأة إبراهيم سارة أخت لوط ، وكان لوط وإبراهيم نبيين مرسلين منذرين، وكان لوط رجلا سخيا كريما يقري الضيف إذا نزل به، ويحذرهم قومه .
قال : فلما رأى قوم لوط ذلك منه , قالوا له: إنا ننهاك عن العالمين، لا تقر ضيفا ينزل بك إن فعلت فضحنا ضيفك الذي ينزل بك وأخزيناك، فكان لوط إذا نزل به الضيف كتم أمره مخافة أن يفضحه قومه، وذلك أنه لم يكن للوط عشيرة .
قال: ولم يزل لوط وإبراهيم يتوقعان نزول العذاب على قومه، فكانت لابراهيم وللوط منزلة من الله عز وجل شريفة، وإن الله عز وجل كان إذا أراد عذاب قوم لوط أدركته مودة إبراهيم وخلته ومحبة لوط فيراقبهم فيؤخر عذابهم . قال أبو جعفر عليه السلام: فلما اشتد أسف الله على قوم لوط وقدر عذابهم وقضى أن يعوض إبراهيم من عذاب قوم لوط بغلام عليم فيسلى به مصابه بهلاك قوم لوط .
فبعث الله رسلا إلى إبراهيم يبشرونه بإسماعيل، فدخلوا عليه ليلا ففزع منهم وخاف أن يكونوا سراقا، فلما رأته الرسل فزعا مذعورا قالوا: [فَقَالُوا سَلاَمًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ* قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ]( ) والغلام العليم هو إسماعيل من هاجر .
فقال: إبراهيم للرسل: ( أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون ؟ قالوا: بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين ) ( ) .
فقال إبراهيم: فما خطبكم بعد البشارة ؟[ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ] ( ) إنهم كانوا قوما فاسقين، لننذرهم عذاب رب العالمين. فقال إبراهيم عليه السلام للرسل: إن فيها لوطا ! .
قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله أجمعين، ( إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين ) ( ).
قال: ” ( فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون * قالوا بل جئناك بما كانوا فيه ) ( )”قومك من عذاب الله ” يمترون * وأتيناك بالحق ” لننذر قومك العذاب ” وإنا لصادقون “
” فأسر بأهلك ” ( )يا لوط إذا مضى لك من يومك هذا سبعة أيام ولياليها ” بقطع من الليل ” ( )إذا مضى نصف الليل ” ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم ” ” وامضوا ” في تلك الليلة ” حيث تؤمرون “( ) .
فقضوا ذلك الامر إلى لوط أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين قال: فلما كان يوم الثامن مع طلوع الفجر قدم الله عز وجل رسلا إلى إبراهيم يبشرونه بإسحاق ويعزونه بهلاك قوم لوط، وذلك قوله تعالى: ” ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ” ( )يعني زكيا مشويا نضيجا ” فلما رأى ” إبراهيم “
[فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ] ( ).
فبشروها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب فضحكت يعني فتعجبت من قولهم [قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ] ( ).
فلما جاءت إبراهيم البشارة بإسحاق وذهب عنه الروع أقبل يناجي ربه في قوم لوط ويسأله كشف البلاء عنهم فقال الله عز وجل:[ يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ] ( ) عذابي بعد طلوع الشمس من يومك محتوما غير مردود) ( ).
وقد ورد في كتابنا الموسوم (تفسير سورة يوسف )والمطبوع قبل ثلاثين سنة من كتابة هذه السطور سنة 1440 هجرية أن المراد من قوله تعالى [وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ] ( ) هو يوسف عليه السلام لما ورد في التنزيل حكاية عنه [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] ( ) فقد وصف يوسف نفسه عليه السلام بأنه عليم , لبيان أنه بشارة إبراهيم عليه السلام , وهذا المعنى لا يتعارض مع كون المبشر به إسماعيل أو إسحاق لإرادة معنى الجنس والتعدد من لفظ [عَلِيمٍ] في قوله تعالى [إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ] ( ) وإذا أعطى الله سبحانه فانه يعطي بالأتم والأوفى .
ليكون العلم متوارثا في ذرية إبراهيم من الأنبياء للملازمة بينه وبين النبوة .
وهل يمكن استقراء قانون بلحاظ توالي العليم في طبقات وذرية ابراهيم وبعد اسماعيل كان يوسف وهو من نسل اسحاق وأن نعمة البشارة بالعليم متوارثة في ذرية إبراهيم إلى أن فاز بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، بدليل قوله تعالى حكاية عن إبراهيم [وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ] ( ).
الجواب نعم بخصوص الأنبياء والأولياء فهو من بشارة إبراهيم ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] ( ).
(عن أبي أمامة قال : قلت : يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟
قال : دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام) ( ).
فهل دعوة الرسول إبراهيم بشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنها فقط دعوة , الجواب هو الأول وهو من الإعجاز في أدعية الأنبياء بأنها بشارة وتضرع إلى الله تعالى .
ومن الإعجاز اللفظي للإسلام إجتماعه والسلام في الحروف والتقارب بينهما بالرسم لبيان إتحاد وتشابه الموضوع والمنهج والنتائج , كما جاء الإسلام تحية بين الناس , وشؤبوب ( ), رحمة ومودة .
وعن جابر بن عبد الله (قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم السَّلاَمُ قَبْلَ الْكَلاَمِ) ( ).
وفي حديث ضعيف سنداَ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ولا تدعوا أحدا إلى الطعام حتى يسلم) ( ).
لقد صاحب الإسلام وجود الإنسان في الأرض , فقد كان آدم مسلما َ وبين النبي والمسلم عموم وخصوص مطلق , فكل نبي هو مسلم , وليس العكس .
وقد أخبر الله عز وجل بأن من أسمائه الحسنى (السلام) وهذا الإخبار لطف منه تعالى بالمسلمين والناس جميعاَ , قال تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ] ( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ انصرف من صلاته , قال (اللهم أنت السلام , ومنك السلام , وتباركت ياذا الجلال والإكرام ).
والسلام منهاج النبوة , فليس من نبي إلا وجاء بالسلام ودعا إليه , وتحمل أشهد ضروب الأذى من المشركين لنشر الإسلام , وتثبيته في الأرض , والسلام مقدمة لبعثة الأنبياء والرسل , ونوع مناسبة لتدبر الناس بمعجزات الأنبياء , لذا فإن مشركي قريش قادوا الجيوش نحو المدينة , واثاروا الفتن وبدأوا بالقتال , ودخلوا المعارك من أجل حجب الناس عن التدبر في معجزات النبوة والركون إلى الإسلام وما فيه من السلام والموادعة بين الناس .
والإسلام دين الفطرة , وهو من مصاديق ومضامين نفخ روحه في آدم ليكون الإسلام هو الأصل في عمل وأخلاق الإنسان , قال تعالى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ] ( ).
وهل الزكاة من فطرة الإنسان التي تذكرها الآية أعلاه الجواب نعم من جهات :
الأولى : الزكاة إقرار بأن النعم من عند الله عز وجل .
الثانية : التسليم بأن لله عز وجل حق في المال الذي بيد العبد .
الثالثة : إنبعاث المسلم لإخراج الخمس ماله .
الرابعة : الزكاة تأديب للمسلمين .
الخامسة : الزكاة نوع هداية ورشاء.
السادسة : في الزكاة حكما ومضمونا وحساباَ تفقه في الدين , وهل في هذا الحساب ثواب الجواب نعم , بلحاظ أنه سعي بالفكر ومقدمة ومبادرة إلى إخراج الحق الشرعي
السابعة : الزكاة سلام ودعوة للسلام .
قانون لم يقع القتال إلا في أيام معدودة من ست سنوات من (23) سنة مدة البعثة النبوية .
يتجلى في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قانون وهو أن أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ابتدأت بالصبر والتحمل والإمتناع عن المبارزة والقتال وحتى عن الخصومة والتدافع , إنما كان السلاح هو تلاوة آيات القرآن بما يبين قانون حب الله عز وجل للناس , ورأفته بهم برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي هي [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ), وتلقى الذين كفروا هذه الرأفة بالصدود والعداوة والتهديد وإيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين , والتنكيل بهم , والإستيلاء على أموالهم , مع السب والقذف والحجز والحبس وضرب العزلة , والحصار عليهم والقتل أحياناً , لتكون الهجرة ضرورة للقطع بعدم استعمال النبي صلى الله عليه وآله وسلم السلاح , ومن عمومات قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ). معرفة أجيال الناس المتعاقبة بالأذى الذي لاقاه الأنبياء من قومهم وعلى نحو الإجمال .
والمراد من لفظ القوم في المقام أعم من القرية والقبيلة وصلات النسب , إنما يشمل الذين يتوجه لهم الأنبياء بالدعوة إلى الإسلام , ومنه فرعون وملئه إذ جاءهم موسى بالبينات , فلما أحضر فرعون السحرة لمقابلة معجزة موسى عليه السلام بالسحر والخفة والمغالطة , تفضل الله عز وجل بمعجزة صيرورة عصاه ثعباناً , قال تعالى[فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ*وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ] ( ) .
وقد بدأت دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة والقرى التي حولها وهو أعم من قريش بدليل قوله تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ), وأنشئت مكة في القرن الخامس قبل الإسلام تقريبا بمعجزة تدفق الماء من بئر زمزم ببركة دعاء إبراهيم عليه السلام وبعد مجيئه بزوجته هاجر وابنه إسماعيل للإقامة في ذات الموضع .
كما ورد في التنزيل [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] ( ).
لتكون الإقامة عند البيت الحرام سبباً للماء والعشب والرزق الكريم واجتماع القبائل في تلك البقعة المباركة التي كان فيها دحو وانبساط الأرض.
وذكر أن العمالقة أول من سكن مكة ثم أعقبتهم في سكنها قبيلة جرهم الثانية وفي أيامهم أسكن إبراهيم هاجر وإسماعيل الذي تزوج منهم , وكان سكنهم حوالي مكة إنما قدموا إليها عندما رآوا الطير تنزل في الموضع فأدركوا وجود ماء فيه حيث تدفق الماء من بئر زمزم والتي لها عدة اسماء تدل على كونها معجزة وآية ملكوتية , وهذه الأسماء هي :
الأول : ركضة جبرئيل.
الثاني : سقيا إسماعيل.
الثالث : حفيرة عبد المطلب.
الرابع : المصونة.
الخامس : برة.
السادس : شبعة.
السابع : طعام طعم.
الثامن : شفاء سقم. ( )
ومن خصائص معارك الإسلام أيام النبوة :
التأخر الزماني للمعارك عن أيام البعثة النبوية فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص مدة البعثة من جهات :
الأولى : بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمره أربعون سنة .
الثانية : مكث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله عز وجل بصبر ومن غير أن يحمل سلاحاً , أو يأمر بقتال .
الثالثة : هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وكان اسمها يثرب , ومكث فيها عشر سنوات , (عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة ، فمكث بمكة ثلاث عشرة يوحى إليه ، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين ، ومات وهو ابن ثلاث وستين) ( ) .
الرابع : لم يقع قتال بين المسلمين والمشركين مدة ثمانية عشر شهراً تقريباً من بداية وصول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ولو لم يصر مشركوا قريش على القتال يوم بدر لما وقع القتال يومئذ .
الخامس : لم يقع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قتال في السنة التاسعة والعاشرة آخر سني الهجرة , نعم خرج إلى تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة ولكنه لم يقع فيها قتال .
لتكون معركة حنين آخر معارك النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ووقعت في شهر شوال من السنة الثانية للهجرة وتسمى غزوة حنين , مع أن سبب المعركة والذي بدأ الهجوم والقتال هم قبيلة هوازن وثقيف بإصرار من رئيس هوازن يومئذ مالك بن عوف عبد النضري , وكان معه على ثقيف عبد ياليل بن عمرو الثقفي , وقد همّ مالك بن عوف بغزو واستباحة مكة بعد تحقق الفتح .
ولعله كان يرجو نصرة المشركين والمؤلفة قلوبهم له , وكان مالك هذا مصر على الإغارة على مكة ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ولا يستمع إلى النصيحة وما فيه التروي والحكمة , ومن شعره :
تَعَرَّضَ ضَيْطارُو خُزاعةَ دُونَنَا … وما خَيْرُ ضَيْطارٍ يُقَلِّبُ مِسْطَحا ( ).
الضياطرة جمع ضيطار وهو الضخم من الرجال , والمسطح عود من أعواد الخباء والفسطاط , أي ليس معه , في القتال إلا عود خباء فلا ينفعه شيئاً وأن كان ضخم الجسم .
وبينما كان دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ضد المشركين منحصراً في ست سنوات فإن سني البعثة الثلاثة والعشرين وعاء زماني لنزول آيات القرآن , إذ إبتدأ نزوله في أول أيام البعثة بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ) .
وهو من إعجاز القرآن الذاتي وتغشى نزوله مدة أيام وسنوات الدعوة كلها , وفيه إعجاز غيري للقرآن بأن صار ومانعا من القتال وزاجرا عنه , وسلاحا وتوثيقا لها عند وقوعها , لتعلم الأجيال ما صدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بمعارك والحروب ببركة نزول القرآن بفضل من الله عز وجل , قال تعالى [وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً] ( ) .
ومعنى فرقناه أي مفرّقاً , مع البيان والتفصيل .
وعلى مكث أي على تؤدة ولحاظ الوقائع والأحداث وكل كلمة من الآية أعلاه أمارة وواقية من الغزو والإقتتال , ووسيلة للدعوة إلى الله عز وجل بالحجة والبرهان , ومن فضل الله عز وجل أن براهين التوحيد من اللامتناهي , ومنها قوله تعالى في الآية أعلاه [لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ] ( ) .
فلم تقل الآية لتقرأه على عشيرتك الأقربين أو أهل بيتك أو أصحابك أو المهاجرين والأنصار , إنما ورد ذكر الناس لتبقى تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم متوجهة للأجيال المتعاقبة من الناس في كل زمان .
ليتدبروا في معانيه ويتمعنوا في أسراره وذخائره , وتكون معارك الإسلام الأولى حجة على الذين كفروا , وشاهداً على أن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز المشركين , ولم يسع للغزو والقتال .
وبإحصاء سني الدعوة النبوية تتجلى حقيقة وهي أن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لم يقع إلا ضمن سنوات متتالية من مجموع ثلاث وعشرين سنة لبيان قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت بالسيف .
ولم يلجأ إليه في بداية الدعوة أنما آثر الهجرة , وحينما اضطره المشركون إلى القتال اختصر قتاله على الدفاع لصد جيش المشركين , والإحتراز منهم , وتفريق جموعهم , وهذا التفريق لم يكن بغزو أو قتال , ولم يعسكر مجتمع المدينة مع كثرة وشدة الأخطار , إنما تتوجه كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسرايا أصحابه لمحل تجمع المشركين الذين ينوون غزو المدينة , كما في كتيبة بني المصطلق والتي تسمى غزوة بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة عند ابن اسحاق .
( وهي غزوة المريسيع وهى في شعبان سنة ست عند ابن إسحق، وفى سند أربع عند موسى بن عقبة وفى شعبان سنة خمس يوم الاثنين لليلتين خلتا منه عند ابن سعد، والخندق بعدها عنده في ذي القعدة من السنة.) ( ).
إذ بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم يجمعون الجيوش , ويبعثون إلى القبائل لغزو المدينة , فلم يتعجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمر , ولم يبادر بالهجوم إنما بعث بريدة بن الحصيب الأسلمي ليعلمه حالهم . فلقي قائدهم ورئيسهم الحارث بن أبي ضرار وهو الذي يعد العدة للهجوم على المدينة ,
فكلمه بريدة , وحذره , ثم عاد إلى المدينة ليخبر الرسول بخبرهم , والذي بادر إلى الخروج ولتوجه نحوهم , فلما علم الحارث ومن معه بقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خافوا وفزعوا , وتفرق العرب عنهم والأعراب الذين جهزهم لغزو المدينة , وهو من مصاديق ما ورد (عن أبي امامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فضلت على الأنبياء بأربع : أرسلت إلى الناس كافة ، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً ، فأينما رجل أدركه من أمتي الصلاة فعنده مسجده , وعنده طهوره ، ونُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي ، وأحل لنا الغنائم) ( ).
فلما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المريسيع وهو ماء بني المصطلق لم يتعجل بالإغارة عليهم , إنما ضرب عليه قبته , وكانت معه عائشة , وأم سلمة , لتكون فيه مندوحة للقوم , كي يتفرقوا , ويتجنبوا القتال , أو يطلبوا الصلح .
ولما اصطفوا للقتال انهزم بنو المصطلق ووقعت أموالهم غنائم في أيدي المسلمين وتم سبي النساء والصبيان وسرعان ما اطلقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إذ تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم جويرية بنت الحارث قائدهم ودخلوا بالإسلام .
وليصبح الحارث أبا أم المؤمنين , قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] ( ).
وبعدها بسنوات يبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط ليقبض منهم الزكاة , ولكنه خشي منهم (وكان بينه، وبينهم عداوة في الجاهلية) ( ).
و(أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه بسند جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعاني إلى الإِسلام ، فدخلت فيه وأقررت به ، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها ، قلت يا رسول الله : ارجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإِسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إليَّ يا رسول الله رسولاً يبان كذا وكذا ليأتيك ما جمعت من الزكاة ، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الابان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث إليه إحتبس الرسول فلم يأتِ فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله ورسوله فدعا بسروات قومه .
فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان وقت لي وقتاً يرسل إليَّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة ، وليس من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطه فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة ، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي ، فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البعث إلى الحارث فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا : هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك ، قال : ولم؟ قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله .
قال : لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته ولا أتاني ، فما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني وما أقبلت إلا حين احتبس عليَّ رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خشيت أن تكون كانت سخطة من الله ورسوله ، فنزل { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبإ فتبينوا } إلى قوله { حكيم }.) ( ) .
وبينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ضد المشركين منحصراً في ست سنوات فإن سني البعثة الثلاثة والعشرين وعاء زماني لنزول آيات القرآن , إذ إبتدأ نزوله في أول أيام البعثة بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ) .
وهو من إعجاز القرآن الذاتي وتغشى نزوله مدة أيام وسنوات الدعوة كلها , وفيه إعجاز غيري للقرآن بأن صار ومانعا من القتال وزاجرا عنه , وسلاحا وتوثيقا لها عند وقوعها , لتعلم الأجيال ما صدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بمعارك والحروب ببركة نزول القرآن بفضل من الله عز وجل , قال تعالى [وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً] ( ) .
ومعنى فرقناه أي مفرّقاً , مع البيان والتفصيل .
وعلى مكث أي على تؤدة ولحاظ الوقائع والأحداث وكل كلمة من الآية أعلاه أمارة وواقية من الغزو والإقتتال , ووسيلة للدعوة إلى الله عز وجل بالحجة والبرهان , ومن فضل الله عز وجل أن براهين التوحيد من اللامتناهي , ومنها قوله تعالى في الآية أعلاه [لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ] ( ) .
فلم تقل الآية لتقرأه على عشيرتك الأقربين أو أهل بيتك أو أصحابك أو المهاجرين والأنصار , إنما ورد ذكر الناس لتبقى تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم متوجهة للأجيال المتعاقبة من الناس في كل زمان .
ليتدبروا في معانيه ويتمعنوا في أسراره وذخائره , وتكون معارك الإسلام الأولى حجة على الذين كفروا , وشاهداً على أن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز المشركين , ولم يسع للغزو والقتال .
الرسل أولوا العزم دعاة سلام
لقد أصطفى الله عز وجل مائة وأربعة وعشرين ألف إنسان فجعلهم أنبياء من بين أهل الأرض ، ونالوا مرتبة الإصطفاء والإجتباء ، وحباهم الله عز وجل بالوحي ينزل عليهم ، وصاروا قادة وأئمة للأمم ، وتخلف شطر من أهل زمانهم عن التسليم بنبوتهم وقام بعضهم بايذائهم .
فبعث الله عز وجل النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن مصدقاً للنبوات وداعياً إلى الإيمان برسالتهم ،والإقرار بجهادهم والتأسي والإقتداء بهم ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] ( ) ومن بين هؤلاء الأنبياء اختار الله عزوجل ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً جاء كل واحد منهم بشريعة ليكمل منهاج الذي سبقه، ومن بين هؤلاء الرسل كان الرسل أولي العزم وهم سادة الأنبياء .
وفي صفات أولي العزم وجوه :
الأول : هم الذين أمروا بالقتال حتى مضوا على ذلك نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان( ) .
الثاني : يحتمل إرادة جميع الأنبياء في قوله تعالى [أُوْلُوا الْعَزْمِ] ( ) أو إرادة عدد منهم ، لوجود الحرف [مِنْ] في قوله تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ] وفيها وجهان :
أولاً : إرادة التبعيض كما في حرف [مِنْ] المتكرر في قوله تعالى [اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] ( ).
ثانياً : جاءت [مِنْ] لبيان الجنس أي عموم جنس الرسل , وهي التي يصح وقوع الموصول معها , وفي محلها كما في قوله تعالى [يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ] ( )أي التي من ذهب , أو هي ذهب .
والمشهور والمختار أن حرف [مِنْ] في قوله تعالى [أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ] للتبعيض .
الثالث : الرسول من أولي العزم هو الذي جاء بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من سبقه .
الرابع : عن الإمام محمد الباقر عليه السلام (وهم سادة النبيين وعليهم دارت رحى المرسلين) ( ).
ولم يرد لفظ [الْعَزْمِ]ولا [أُوْلُوا الْعَزْمِ] إلا مرة واحدة في القرآن ليبقى موضوعاً يعتني به المسلمون والمسلمات في كل زمان من جهات :
الأولى : المراد من أولي العزم .
الثانية : المنزلة العظيمة للرسل أولي العزم .
الثالثة : عدد الرسل أولي العزم .
الرابعة : أسماء الرسل ذوي العزم .
الخامسة : الموضوع الذي ورد فيه ذكر أولي العزم .
إذ جاءت الآية بخطاب وأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر والتحمل في الدعوة إلى الله , وتبليغ الرسالة بقوله تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ] ( ) .
وابتدأت الآية أعلاه بالحرف الفاء الذي يفيد الفورية ، وبيان قانون وهو حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصبر في الزمن الحال واللاحق , وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ( ).
وهل في الآية دعوة للمسلمين بالإلحاق والتبعية ، ويكون تقديرها : وأصبروا كما صبر أولوا العزم ، الجواب هو نعم ، ويتجلى من الخطابات العامة والتي يختص بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) في بعث المسلمين على التحلي بالصفات الحميدة للأنبياء والرسل ، والصبر في طاعة الله , وشكره تعالى على التخفيف عنهم بأداء الفرائض والعبادات .
الخامسة : يتضمن الكتاب الذي يأتي به الرسول من أولي العزم شريعة جديدة تدعو الناس جميعاً للعمل بها ، وكأنها ناسخة لما قبلها من الشرائع مع أنها تصديق لها .
والنبوة لطف وإحسان من عند الله عز وجل ، وهو على وجوه :
الأول : اللطف والإكرام لذات الأنبياء ونفوسهم الطاهرة .
الثاني : اللطف بأتباع الأنبياء لهدايتهم , لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، فكل من النبي والرسول جاء بالحق والتنزيل .
الثالث : الإحسان للناس جميعاً بشآبيب الرحمة ببركة الرسالة السماوية .
وهناك موضع بين مكة والمدينة اسمه حرة أشجع ظهرت فيه نار الحدثان في الفترة بين رسالة عيسى عليه السلام ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فكانت بعض طرائف العرب يتزلفون إلى هذا النار ويعبدونها تشبهاَ بالمجوس . (( ))
وعندما تفضل الله عز وجل وقال للملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وقد أنعم الله على الناس بتوالي بعثة الأنبياء .
وصحيح أن النبوة إنقطعت بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا أن معالم وأحكام النبوة باقية في الأرض ومنها مسألة أولي العزم من الرسل إذ أنها متجددة وتدعو المسلمين لبيان سننهم واتباع نهجهم وإحصاء الآيات التي تبين صبرهم وجهادهم ، ولم يعين القرآن أسماء الرسل أولي العزم ، وهو من وجوه دعوة العلماء والمسلمين كافة للتحقيق في الأمر ، واستقراء المواعظ منه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
وهل عدم تعيين وحصر أسماء الرسل أولي العزم في القرآن مثل إخفاء الصلاة الوسطى بين الصلوات كما في قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى] ( ) وعدم تعيين ليلة القدر من بين ليالي شهر رمضان ليجتهد المسلمون والمسلمات في أداء الصلوات اليومية وإحياء ليالي رمضان بالعبادة .
الجواب لا تصل إلى مسألة الصلاة الوسطى وليلة القدر ، خاصة مع تعدد المراد من الرسل أولي العزم .
وفي المراد من الرسل أولي العزم أقوال :
أولاً : جميع الأنبياء الذين عددهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي .
ثانياً : المراد الرسل وعددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً .
ثالثاً : المقصود عدد مخصوص من الرسل كما سيأتي بيانه .
الرابع : كل من مدحه الله بالصبر من الأنبياء هو من أولي العزم , وهناك ملازمة بين النبوة والصبر .
الخامس : تشريف الناس جميعاً بمواثيق الأنبياء ، وكل نبي يحمل ميثاقه وميثاق الرسول الذي قبله ، إذ أنه يدعو إلى شريعته ، كما يقوم بالبشارة بميثاق وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي ذكر أولي العزم من بين الأنبياء والرسل حجة على الذين كفروا ، والذين عاندوهم وطعنوا فيهم ، وفي شرائعهم كما يبين القرآن الأذى الذي لاقاه كل من الرسل نوح ، وابراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكيف أنهم صبروا على أذى قومهم والطواغيت .
ومن خصائص الرسل أولي العزم أنهم تعرضوا إلى البلاء والأذى من حين ولادتهم ، لتكون سلامة كل واحد منهم ابتداء من الولادة وأيام النشأة معجزة له ، وشاهداً على اللطف من الله عز وجل بالناس في إصلاحه للرسالة ، ولزوم تصديق الناس به ، إذ عزم السلاطين واتباعهم والرؤساء ونحوهم على قتل بعضهم من حين الولادة .
لبيان أن الصبر يشمل ويلزم آباءهم وأمهاتهم أيضاً باستثناء عيسى عليه السلام فان البلاء شمل خصوص أمه إذ ليس له أب , وقد لاقت مريم أشد البلاء من حين ولادتها ، فقد كانت أمها (حنة) ترجو أن يولد لها ولد وعند الولادة كانت مريم .
وفي التنزيل (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى) ( ) لبيان حسرتها وأسفها لما كانت تتلهف له من النذر بأن تلد ولداً .
ومن إعجاز الآية أعلاه بيان الشأن العظيم لمريم إذ تدل الآية على تفضيلها على الولد ، لذا قيل أن قوله [وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى] ( ) من كلام الله عز وجل وليس من كلام مريم أي أن الله عز وجل يعلم بأن الأنثى التي وضعتها مريم هي أفضل من الولد الذي تطمح إليه وتطمع أن يكون خادماً في المسجد إذ كانت هذه الخدمة خاصة بالرجال دون النساء .
وكانت أمها تتقرب إلى الله بتسميتها مريم ومناه العابدة والمرتفعة , لبيان موضوعية الاسم في صلاح الشخص ، ورجاء فضل الله عليه ذكراً كان أو أنثى .
وهل فيه دعوة للآباء والأمهات في اختيار الأسماء الحسنة للأبناء وصيرورتها سبباً للهداية الخاصة وعناية الناس بذات الشخص ، وهل من موضوعية للإسم واستعاذة أمها لها في اعتناء زكريا بمريم عليها السلام ، الجواب نعم ، وفي التنزيل [وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ] ( ) .
و(ابن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كل ولد آدم ينال منه الشيطان يطعنه حين يقع بالأرض بأصبعه لما يستهل ، إلا ما كان من مريم وابنها لم يصل إبليس إليهما) ( ).
وجاءت آيات قرآنية تخص أولي العزم , وتشير إليهم على نحو الإجمال وهي :
الأولى : قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ] ( ).
الثانية : في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ] ( ).
الثالثة : قوله تعالى [شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ] ( ).
قانون الهجرة نصر
هل كانت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق الصبر , الجواب نعم فذات الهجرة والشروع فيها صبر , وهو نصر [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
ولولا فضل الله عز وجل بنزول الآية أعلاه بالإخبار عن كون الهجرة نصرا ً لما قاله أحد , وهي نصر ومقدمة للنصر .
والنسبة بين الصبر والنصر في المقام عموم وخصوص مطلق , فالصبر أعم , والصبر في طاعة الله عز وجل سبيل إلى النصر , ومتعقب له , لذا تضمنت آية ببدر بعد الإخبار عن تحقق النصر بفضل من الله الأمر بالتقوى. والنصر نوع طريق للتحلي بالصبر بأداء الواجبات العبادية والتفقه في الدين , والإمتناع عن المعاصي والسيئات .
وهل صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في سني الدعوة الأولى من قاعدة وهي : أن مواجهة الباطل ليست غاية أو مطلوبة في كل وقت .
الجواب لا , إنما كان هذا الصبر مواجهة للباطل وبياناً لسنخية النبوة , وشاهدا على صدق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وإخبارا عن قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يغزو أحداً , وأن النصر والفتح سيتحقق له من غير غزو وقتال , وهو الذي أدركته قريش , وخاف رجالها من بزوغ شمس الإسلام سريعاً في مكة والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم .
ولم ينو المشركون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واضطراره للهجرة , فهل يتم فتح مكة من غير هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتجهيز الجيوش من المدينة الجواب نعم .
وهل كان صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على أذى المشركين في مكة أمراً وجودياً أم عدمياً , الجواب هو الأول , فقد كان هذا الصبر جهاداً ويدل عليه توجه الأمر من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالصبر , وفي سورة المدثر قال تعالى (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)
عن ابن عباس : على ما أوذيت . ( ).
و(عن ابن عباس قال : أهدي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بغلة أهداها له كسرى فركبها جهل بن شعر ثم أردفني خلفه وسار بي ملياً ثم احتنا لي وقال لي : يا غلام،
قلت : لبيك يا رسول اللّه،
قال : إحفظ اللّه يحفظك احفظ اللّه تجده أمامك،
تعرَّف إلى اللّه في الرخاء يعرفك في الشدة،
وإذا سألت فأسأل اللّه وإذا استعنت فاستعن باللّه قد مضى القلم بما هو كائن فلو عمل الخلائق أن ينفعوك بما لم يقض الله لك لما قدروا عليه ولو جهدوا أن ينصروك بما لم يكتب اللّه عليك ما قدروا عليه فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل،
فإن لم تستطيع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً واعلم أن النصر مع الصبر فإن مع الكرب الفرج وإن مع العسر يسراً) ( ).
لبيان أن إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة صابراً في طريق النصر وهو الذي أدركه رؤساء الكفر من قريش فعزموا على الإجهاز عليه في فراشه , وإذ خشوا وخافوا من صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله عز وجل فإنه اضطر إلى الهجرة , فكانت سبيلاً أكثر وضوحاً وأيسر وسيلة لتحقيق النصر .
ليكون الطريق بين مكة إلى المدينة طريق النصر والظفر , لبيان قانون وهو أي فعل يلجأ إليه المشركون في محاربة النبوة والتنزيل يكون مناسبة لتقريب النصر للمؤمنين , وفيه دعوة لهم للتوبة والإنابة ولكنهم أصروا على تجهيز الجيوش لتشهد الجزيرة بسبب حماقتهم أشد ضروب المعارك في تأريخها ثم يضطرون ويقرون بالحاجة إلى دخول الإسلام عند فتح مكة في السنة الثانية للهجرة , بعد أن فقدوا الرجال وخسروا الأموال , وتحملوا آثام العداوة لله ورسوله .
قانون الدعاء ثناء على الله
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار الدعاء إذ أمر الله عز وجل به
وهيئ أسبابه ومقدماته ، ووعد بالإستجابة للدعاء وضمنها فضلاً ورحمة منه تعالى .
وليس من وقت مخصوص للدعاء أو هناك وقت أو مكان مستثنى من التوجه إلى الله بالدعاء ، كما أنه ليس من برزخ بين العباد وبين الله عز وجل في الدعاء والمسألة .
ويرد الدعاء بمعنى الإستغاثة ، وقد يكون عبادة ، وفي حديث عرفة وعن الإمام علي عليه السلام قال (أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير ، اللهم اجعل في سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً ، وفي قلبي نوراً ، اللهم اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، وأعوذ بك من وسواس الصدور ، وتشتت الأمور ، وعذاب القبر .
اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل ، وشر ما يلج في النهار ، وشر ما تهب به الرياح ، شر بوائق الدهر) ( ).
لقد بدأ نطق آدم في الجنة بالحمد لله وينتهي عالم الحساب بالحمد لله ، قال تعالى [وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
(جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأنزل الله { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي }( ) إذا أمرتهم أن يدعوني فدعوني أستجيب لهم) ( ).
وعن عبد الله بن مسعود وأناس من الصحابة في حديث أنه لما نفخ الله في آدم الروح فدخل في رأسه عطس ، فقالت الملائكة : الحمد لله فقال : الحمد لله ، فقال الله له ، يرحمك ربك فلما دخل آدم في عنقه نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخلت في جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قبل أن تبلغ إلى رجليه عجلاً إلى ثمار الجنة ، وذلك قوله تعالى [خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ] ( ).
والدعاء ذخيرة السماء في الأرض والصلة الإختيارية بين العباد وبين الله سبحانه , والشئ الذي يرفع إلى السماء السابعة بطرفة عين .
ولم يجعل الله عز وجل الناس يتوجهون إلى الدعاء عند الحاجة وحدها إنما رغّبهم بالدعاء وأمرهم به , وقال [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا] ( ).
وقال [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) ويكون تقدير الآية على وجوه مباركة منها :
الأول : ادعوني في حال الرخاء استجب لكم في حال الشدة .
الثاني : ادعوني في حال الشدة استجب لكم .
الثالث : ادعوني في الليل والنهار استجب لكم .
الرابع : ادعوني مجتمعين ومتفرقين استجب لكم [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
الخامس : ادعوني بأمور الدنيا استجب لكم في أمور الآخرة .
السادس: ادعوني بمسائل الآخرة استجب لكم في حاجات الدنيا , وأمور الآخرة .
السابع : ادعوني فاني أحب أن استجيب لكم وأقضي حوائجكم .
الثامن : ادعوني فان دعاءكم يصل إلي .
التاسع : ادعوني فليس بيني وبين دعائكم حاجب أو برزخ .
العاشر : ادعوني فان مقاليد السماوات والأرض بيدي فاستجب لكم .
الحادي عشر : ادعوني فاني أحب لعبادي الدعاء .
والدعاء سفر روحي يصعد بالعبد إلى عالم الملكوت ويخلصه من كدورات الدنيا وشوائب الشهوة وزخرف الحياة وفيه أيضاً سؤال هذا الزخرف ، وفي التنزيل [وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ).
لقد كانت حياة الأنبياء والأئمة عليهم السلام دعاءاً وذكراً وتسبيحاً .
ولابد من الملازمة بين الدعاء والعمل الصالح وتنزيه البطن وطيب الكسب ، قال رجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : أحب أن يستجاب دعائي ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :طهر مأكلك ولا تدخل بطنك الحرام ).
وهل هذا الحديث مخصص لإطلاق الآية الكريمة ، المختار لا ، فمن الدعاء وموضوع سرعة الإستجابة ما يتعلق بتطهير المأكل وحفظ البطن والفرج .
ويمكن القول أن في كل آية من القرآن دعاءً سواء في منطوقها أو مفهومها أو دلالتها وكذا في الجمع بين كل آيتين من آيات القرآن وهو من أسرار تلاوة المسلمين القرآن على نحو الوجوب العيني في كل يوم خمس مرات .
وهل إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بالدعاء واقية من الغزو والقتال ، الجواب نعم .
وهل إصرار الذين كفروا على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من أسباب زيادة ذنوبهم وعمومات قوله تعالى [لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ) .
الجواب نعم ليكون من معاني ووظائف الآية الكريمة أعلاه زجر الذين كفروا عن مواصلة غزو المدينة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
دعوة النبي في موسم الحج سلام
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة يطوف على القبائل ، في منازلها في منى , وهذا الطواف على وجوه :
الأول : سؤال النبي عن محل إقامة القبائل كما إذا سأل أين تقيم قبيلة تميم ، وأين يقيم الخزرج فيقصدهم ويجلس معهم .
الثاني: يرى النبي محل قبيلة ، فيسأل عنها ثم يأتيهم .
الثالث : دعوة بعض القبائل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفي مواطن الحج .
الرابع : من القبائل ما كان يعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم محل نزولها فيقصدها ، وتكررت زيارته لها في ذات الموسم , أو مواسم متعددة, وكان يدعو القبائل إلى أمور :
الأول : إيواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ودفع وذبّ أذى قريش عنه , وعن جابر بن عبد الله (إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَبِثَ بِمَكّةَ عَشْرَ سِنِينَ يَتّبِعُ النّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي الْمَوَاسِمِ وَمَجَنّةَ وَعُكَاظَ يَقُولُ مَنْ يُؤْوِينِي ؟ مَنْ يَنْصُرُنِي ؟ حَتَى أُبَلّغَ رِسَالَاتِ رَبّي وَلَهُ الْجَنّةُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَلَا يُؤْوِيهِ .
حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَرْحَلُ مِنْ مُضَرَ أَوْ الْيَمَنِ إلَى ذِي رَحِمِهِ فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ فَيَقُولُونَ لَهُ احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنْك وَيَمْشِي بَيْنَ رِجَالِهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَهُمْ يُشِيرُونَ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ , حَتّى بَعَثَنَا اللّهُ مِنْ يَثْرِبَ فَيَأْتِيهِ الرّجُلُ مِنّا فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ , فَيَنْقَلِبُ إلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ حَتّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إلّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ) ( ).
الثاني : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجالات القبائل لعبادة الله وحده .
الثالث : إنصات القبائل لتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن .
الرابع : نبذ الناس لعبادة الأصنام .
الخامس : النداء العام بالشهادة بالتوحيد وإجهاره وبصوت عال ومتكرر : (يَا أَيّهَا النّاسُ قُولُوا : لَا إلَهَ إلَا اللّهُ تُفْلِحُوا وَتَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَبَ وَتَذِلّ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ فَإِذَا آمَنْتُمْ كُنْتُمْ مُلُوكًا فِي الْجَنّةِ) ( ).
وهل كان الناس ينصتون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نداءاته ، الجواب نعم ، وبه جاءت الأخبار ، إذ صار الناس يحكون كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى الله في أسواق موسم الحج , ويتبعه عمه أبو لهب يرميه بكلام لصد الناس عنه .
وعن (ربيعة بن عباد من بنى الديل، وكان جاهليا فأسلم، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذى المجاز وهو يقول: ” يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ” والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضئ الوجه أحول ذو غديرتين( ), يقول: إنه صابئ كاذب.
يتبعه حيث ذهب.
فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب.) ( ).
وفي هذا الخبر مصداق لقوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ) من جهات :
الأولى : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإنذار والنداء .
الثانية : إختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسواق موسم الحج ليكون الإنذار جامعاً لأهل مكة والذين يقطنون حولها .
الثالثة : إجتماع الناس حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم يسمعون ما يقوله ويدعو إليه .
إذ يدل قول الراوي (والناس مجتمعون عليه) على انصاتهم له وتوجيه الأسئلة له ، وإجابته لهم ، وعن طارق بن عبد الله في حديث قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم مرتين بسوق ذي المجاز وأنا في بياعة لي فمر وعليه حلة حمراء فسمعته يقول : يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ورجل يتبعه يرميه بالحجارة وقد أدمى كعبيه وهو يقول يا أيها الناس لاتطيعوا هذا فإنه كذاب .
فقلت من هذا ؟
فقيل هذا غلام من بني عبد المطلب .
فقلت : من هذا الذي يرميه بالحجارة ؟
فقيل عمه عبد العزى أبو لهب بن عبد المطلب .
فلما أظهر الله الإسلام خرجنا من الربذة ومعنا ظعينة( ), لنا حتى نزلنا قريبا من المدينة .
فبتنا نحن في عود إذا أنا برجل عليه ثوبان فسلم علينا فقال : من أين أقبل القوم ؟ .
فقلت : من الربذة ومعنا جمل أحمر فقال : تبيعون الجمل فقال بكم ؟ فقلنا : بكذا و كذا صاعا من تمر فقال : أخذته و ما استقضى و أخذ بخطام الجمل , فذهب به حتى توارى بحيطان المدينة .
فقال بعضنا لبعض : تعرفون الرجل ؟ فلم يكن أحد منا يعرفه فلام القوم بعضهم بعضا وقالوا أتعطون جملكم من لا تعرفون ؟
فقالت الظعينة : فلا تلاوموا فلقد رأيت وجه رجل لا يغدر بكم فما رأيت أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه .
فلما كان العشي أتانا رجل فقال : السلام عليكم ورحمة الله أأنتم الذين جئتم من الربذة ؟ فقلنا نعم .
فقال : أنا رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم إليكم و هو يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر حتى تشبعوا و تكتالوا حتى تستوفوا فأكلنا من التمر حتى شبعنا واكتلنا حتى استوفينا ثم قدمنا المدينة من الغد .
فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب الناس على المنبر فسمعته يقول : يد المعطي العليا و ابدأ بمن تعول : أمك و أباك و أختك وأخاك وأدناك أدناك .
وثم رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع الذين قتلوا فلانا في الجاهلية , فخذ لنا بثأرنا , فرفع رسول الله صلى الله عليه و سلم يديه حتى رأيت بياض إبطيه فقال : لا تجني أم على ولد لا تجني أم على ولد ]) ( ).
وتبعد الربذة عن المدينة المنورة نحو (147م) كم من جهة الشرق بأطراف الحجاز وينزل بها حجاج العراق , ولا يستطيعون تجاوزها لبعد المسافة بين مراحل طريق الحجاج المعروف باسم (درب زبيدة) لأن زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور زوج هارون الرشيد هي التي أنشأته ,وذكر أنه طريق للقوافل قبل الإسلام .
وسكن أبو ذر الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الربذة بعد أن نفاه عثمان إليها.
ولم يكن معه إلا امرأته وغلامه .
وعن ياقوت الحموي أنها تعرضت سنة 319هجرية لمعارك وحروب بين أهلها وأهل ضرية , فارتحل عنها أهلها بعد أن استنجد أهل ضرية بالقرامطة( ) , وتبدل اسم الربذة في هذا الزمان إذ تسمى بركة أبي سليم.
فان قلت لماذا لم تمنع قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من الدعوة إلى الإسلام في الموسم ، الجواب لأنهم في أشهر حرم إذ تعمر هذه الأسواق في شهري ذي القعدة وذي الحجة .
ويرحل وفد الحاج من سوق مجنة إلى سوق ذي المجاز عند إنتهاء شهر ذي القعدة إذ أنه قريب من جبل عرفة ويبعد عنه ثلاثة أميال ويبعد عن مكة نحو (21)كم فتقام هذه السوق ( ) بين أول شهر ذي الحجة إلى اليوم الثامن منه وهو يوم التروية .
لذا سمي ذي المجاز لأن إجازة الحجيج إلى عرفات تكون منه ، وقيل تختص هذه السوق بالأدب والشعر ، ولكنه أعم ، وتلتقي فيها قوافل التجار ، وقد تكون أسعارها أرخص من الأسواق التي سبقتها مثل سوق عكاظ ، والمجنة لأن الناس يريدون أن يؤدوا مناسك الحج , ويخففوا عن أنفسهم المؤونة .
ليكون من الإعجاز في قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ) أي أن إبراهيم يؤسس
ويأتي هو واسماعيل بالمقدمات لإنذار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل مكة ومن حولها ، والقيام بالتبليغ في موسم الحج ، وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول :وأذن في الناس بالحج فهو دعوة إلى التوحيد .
الثاني : وأذن في الناس بالحج لتعاهد البيت الحرام .
الثالث : وأذن في الناس بالحج لينصتوا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيام بعثته ويستمعوا لدعوته إلى الإسلام .
الرابع : وأذن في الناس بالحج ليتوارث المسلمون هذا الأذان والإعلان والإستجابة له ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الخامس : وأذن في الناس بالحج فهو واقية دون الإقتتال بين الناس .
السادس : وأذن في الناس بالحج لأنه عنوان التوحيد , ومانع من الشرك والضلالة .
ولا يقدح بهذا القانون نصب المشركين الأصنام في البيت فسرعان ما زالت تلك الأصنام بفتح مكة ، وحتى أيام نصبها فهي محل ذم واستهجان وعدم قبول من أرباب العقول لتصير حجة على الذين كفروا ، وشاهداً على الحاجة العامة لفتح مكة وتحرير البيت الحرام من سطوة الذين كفروا , وتنزيهه من أمارات الشرك لتضمحل وإلى يوم القيامة في هذا الموضع المبارك, وهو من عمومات قوله تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
ولما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم البيت الحرام يوم الفتح كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنماً ، وجعل يطعنها بعود في يده ويقول [جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ] ( ) , والحق في المقام التوحيد وعبادة الله وتعظيم الشعائر أما الباطل فهو الأوثان وعبادتها والتقرب إليها وبها .
قانون صبر المسلمين معجزة للنبي ص
أصل الصبر والحبس , وهو ضد الجزع , وفي الإصطلاح الشرعي هو حبس النفس في مرضاة الله عز وجل , وحملها على الإنقياد إلى طاعته في الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة والحج , ومنها من ولوج المحارم وإتيان مانهى الله عز وجل عنه .
وتحمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه أعباء إضافية بسبب إيذاء الذين كفروا لهم , ليكون صبرهم أعم وأكبر وأعظم , بالإضافة إلى تلقيح الفرائض إبتداءً فلما لم يورثوها عن آبائهم , فتنزل آيات الصلاة فيمتثلوا لأمر الله عز وجل .
وفي السنة الثانية للهجرة نزلت الآيات بفريضة الصلاة والصيام والزكاة فتقيد المسلمون بها من غير أن يعتذروا أو يسألوا التأجيل والإرجاء لحين الفراغ من الدفاع بوجه جيوش الذين كفروا .
لقد لاقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الأوائل أشد الأذى من قريش , ولم يأمر بقتالهم ولا بحمل السيوف إنما أمر طائفة من المسلمين بالهجرة إلى الحبشة ثم أمر طائفة أخرى بالهجرة إلى المدينة ثم أذن الله عز وجل له بالهجرة فنزل قوله تعالى [وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا] ( ).
والسلطان هو العلم وليس السيف والسلاح ومن الآيات في سنخية عمارة الناس للأرض , وخلافة الإنسان فيها بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) تعدد وجوه السلطان فيها .
ليكون السلطان في الآية أعلاه على وجوه :
الأول : القرآن , فهو معجزة وحجة وشاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : ذات الهجرة إلى المدينة .
الثالث : الفرائض العبادية .
الرابع : الحدود والأحكام , لما فيها من الضبط وإصلاح المجتمعات , والمندوحة للناس للتوبة في الآيات والمعجزات .
الخامس : الإمامة والحكم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بالفصل بين الناس , ويتضمن هذا الفصل بأنه نسبة من الوحي , ولا يتعارض مع هذا القانون ما ورد (عن ابن عمر قال : اختصم رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : « إنما أنا بشر ، أقضي بينكم بما أسمع منكم ، ولعل أحدكم ألحن بحجته من أخيه ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار) ( ), وورد مثله عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد نزل القرآن بمنهاج الصبر والتحمل في مرضاة الله عز وجل .
والصبر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متعددة من جهات:
الأولى :الحاجة إلى الصبر .
الثانية : التحلي بالصبر .
الثالثة : اللجوء إلى الصبر .
الرابعة : موضوع الصبر .
الخامس : النتائج الحميدة والغاية من الصبر .
السادس : الثواب العظيم للصبر .
والصبر حبس النفس على ما تكره من غير جزع , والصبر صفة الأنبياء, وهو طريق النصر والغلبة على الذين كفروا , فإن قلت قد يصبر الذين كفروا .
الجواب نعم , ولكن صبرهم منقطع وغير مستديم لإدراكهم مع تقادم الأيام عدم استحقاق الكفر ومفاهيمه للصبر وتحمل الأذى بسببه قال تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] ( ).
وافتقارهم للغاية الحميدة للصبر , فيكتشف الذين كفروا ضياع سعيهم وأنهم أنفقوا أموالهم بالباطل .
قانون موضوعية مكة في الإنذار العام
من فضل الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاَ بأن يقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ الرسالة في كل يوم وفي أي موضع ومكان من الأرض .
وهل كان إختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم موضعاَ ومحلاَ ما للتبليغ بالوحي أم بالإجتهاد منه كما في طوافه على منازل القبائل في منى أيام الحج , أو عندما دخل هو وأصحابه دار الأرقم بن أبي الأرقم عند جبل الصفا في مكة .
الجواب هو الأول وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
فقد أنجاه الله وعصمه من السجن , ومن مكر قريش ليتخذ من الهجرة والسياحة في الأرض وسيلة ومناسبة للدعوة إلى الله عز وجل , مع تعاهده لإقامة الصلاة , ليكون كل من هذا الطواف على القبائل , وإقامة الصلاة تهيئة ومقدمة لهجرته إلى المدينة .
وبعد أن أعلن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسالته ، ودعا الناس إلى كلمة التوحيد ، وأقام الصلاة في المسجد الحرام ، ودخلت آيات القرآن بيوت أهل مكة ، واستقبلها شباب من قريش باعلان الإسلام ، ومنهم أبناء وبنات لرؤساء المشركين لأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير محض إجتمع نفر من هؤلاء الرؤساء في دار الندوة المجاور للبيت الحرام للتشاور بشأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإستشعارهم الخطر وخشيتهم الضرر ، ولا أصل لهذا الإستشعار ، ولكنه مرتكز على مفاهيم الضلالة والخوف من ترك المجتمعات لعبادة الأوثان ، ومن هؤلاء النفر :
الأول : عتبة بن ربيعة .
الثاني: شيبة بن ربيعة .
الثالث : أبو جهل .
الرابع : عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي ، وكانت كنيته أبا الحكم ، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كناه أبا جهل بسبب شدة ايذائه للمسلمين ، وقيامه بطعن سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر بالحرباء في قلبها وهي عجوز فقتلها , لأنها جاهرت بالإسلام وامتنعت عن الإرتداد عنه, ثم ظهر جهله جلياً يوم بدر بإصراره على القتال إلى أن قتل يومئذ لبيان مسألة في تسمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بأبي جهل بأن معركة بدر فيصل بين العلم والجهل , وإزاحة لسلطان أرباب الجهل عن الناس وهو من عمومات الفرقان في قوله تعالى[يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
وكان أبوه هشام بن المغيرة سيد بني مخزوم في حرب الفجار في قتال كنانة ضد قبائل قيس عيلان .
ولم ينحصر أذى أبي جهل بالمسلمين أو الذين هم تحت أمرته ، وعبيد له ولعشيرته بل كان يؤذي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويحرض على إيذائه وأهل بيته, وفي أحد الأيام كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في البيت الحرام ورهط من قريش جلوس في البيت وهم كما في رواية عبد الله بن مسعود :
الأول : أبو جهل بن هشام .
الثاني : عتبة بن ربيعة .
الثالث : شيبة بن ربيعة .
الرابع : عُقبة بن أبي معيط .
الخامس : أمية بن خلف .
السادس : الوليد بن عتبة (وعن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلى ورهط من قريش جلوس، وسلا جزور قريب منه.
فقالوا: من يأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره ؟ فقال عقبة بن أبي معيط: أنا.
فأخذه فألقاه على ظهره.
فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” اللهم عليك بهذا الملأ من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللهم عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط، اللهم عليك بأبي بن خلف – أو أمية بن خلف – ” شعبة الشاك..) ( ).
وذكر عبد الله بن مسعود السابع منهم ، ولم يحفظه الرواة حسب هذه الرواية .
وفي أخرى فقال أبو جهل : أيكم يجئ بسلا( ) جزور( ) بن فلان فيضعه على كتفي محمد إذا سجد .
ويظهر أن أبا جهل له سطوة وشأن بين قريش ، ويقوم بتوجيه الأوامر ، ولكنه آمر بالشر والعدوان ، قال عبد الله بن مسعود (فلقد رأيتهم صرعى يوم بدر) ( ).
ليصاحبه هذا الإسم إلى يوم القيامة ويتلقاه في الآخرة ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ) أن ينادي بذات الكنية بين الخلائق في مواطن الآخرة ، الجواب نعم .
وهل تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له (أبا جهل ) من الوحي وباذن الله أم هي إجتهاد من عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب هو الأول لعمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) لبيان حاجة الناس إلى الوحي في التمييز بين الحق والباطل , والصالح والطالح .
وتكون تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأبي جهل من مصاديق قوله تعالى [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ] ( ) وفي هذه التسمية إنذار للذين كفروا للكف عن إيذاء المسلمين من جهات :
الأولى : إيذاء المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة .
الثانية : الإيذاء والتضييق والتوبيخ من قبل المشركين للمسلمين في مكة قبل الهجرة ولوقف التعذيب الشديد الذي كانت قريش تمارسه ضد المسلمين ، ومنه تعذيبهم لبلال وخباب وعمار وأخيه ووالديه .
الثالثة : الإضرار بالمسلمات في مكة قبل الهجرة .
الرابعة : حبس بعض الشباب في البيوت لمنعهم من التجاهر بالإسلام ، ودعوة الناس له .
الخامسة : التعذيب لمن يتعرض للأصنام بسوء قولاً وفعلاً .
السادسة : التضييق المعاشي والمحاربة الإقتصادية للذين يعلنون إسلامهم .
السابعة : الحصار الإجتماعي والاَقتصادي لأهل البيت من بني المطلب وبني عبد المطلب لأنهم آزروا النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم ولم يتخلوا عن الصلة النسبية معه , وهذه المؤازرة إقرار ضمني بصدق نبوته .
وهل يختص هذا الحصار والعزل والمقاطعة بصحيفة قريش التي أمضاها أربعون رجلاً من رؤسائهم وعلقوها في الكعبة ليبدأ حصارهم لبني هاشم في شعب أبي طالب في أول شهر محرم من السنة السابعة للبعثة النبوية الشريفة ، إذ دخل نحو أربعين رجلاً من بني المطلب وبني عبد المطلب عدا نسائهم وأطفالهم الشعب , تحت طائلة الحصار .
لقد تحالفت قبائل قريش على مقاطعة ومحاصرة بني هاشم , وكتبوا بينهم صحيفة بعدم مجالستهم ، ومنع البيع والشراء معهم حتى يسلموا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لهم ليقتلوه ، ليكون هذا الحصار من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
واستمرت هذه المقاطعة نحو ثلاث سنوات أي حتى السنة العاشرة للبعثة النبوية ، ليكون عند المسلمين حسابان وتقويمان :
الأول : سنوات الدعوة الإسلامية والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة .
الثاني : الحساب والتقويم الذي يبدأ من هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة .
وقاموا بتعليق الصحيفة في الكعبة ليقرأها وفد الحاج والمعتمرين لزجرهم عن دخول الإسلام وبيان أن قريشاً لا يتسامحون في محاربتهم النبوة والإسلام حتى مع أهل وعشيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن باب الأولوية القطعية أنهم يحاربون من يدخل الإسلام أو يساعد النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من عموم أهل مكة والقرى التي حولها ، وهو من مصاديق تسمية مكة في القرآن أم القرى , قال تعالى[وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] ( ) لبيان أثر وسلطان أهلها على من حولها .
فجاءت الآية أعلاه بوجوب قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بانذار أهل مكة ، وهل فيها بشارة نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت من حصار قريش لهم , والغايات الخبيثة التي يقصدون .
الجواب نعم ، وهو الذي تجلى في الواقع وتوالي الأحداث ، لبيان قانون وهو تعقب الخزي والذل للذين كفروا بعد إنذارهم , لقانون الملازمة بين الإصرار على الكفر والخزي في النشأتين ، قال تعالى [كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * فَأَذَاقَهُمْ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] ( ) .
ويكون تقدير قوله تعالى : [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ), بلحاظ حصار قريش لبني هاشم على وجوه :
الأول : لتنذر مكة والقرى التي تحيط بها.
الثاني : لتنذر أهل مكة والساكنين فيها .
الثالث : لتنذر أهل مكة والقرى لا أن تحاربهم أو تقاتلهم .
الرابع : لتنذر مكة وما حولها وإن حاربت قريش ، فان هذه الحرب يجب ألا تمنعك من التبليغ والإنذار ، نعم يلزم الدفاع .
الخامس : لتنذر أم القرى وما حولها فيدخل الناس الإسلام بالإنذار .
السادس : لتنذر أم القرى وما حولها لكفاية الإنذار بالتبليغ وعدم الحاجة إلى القتال .
ومن معاني (ما حولها) الإخبار عن هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة , وأن إنذاره للناس لا يقف عند مكة وحولها .
ومنه خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف ليكون من معاني قوله تعالى (وما حولها) دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للخروج من مكة والهجرة إلى الطائف والمدينة , لأن كلاً منها من مصاديق وما حول مكة .
السابع : لتنذر أهل بيتك وأصحابك في أم القرى وما حولها ليكون بين موضوع الآية أعلاه وبين قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ) عموم وخصوص مطلق .
وليكون تقادم الأيام سبباً للتخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : لتنذر الناس بالقرآن فإنه يغني عن السيف .
التاسع : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) فتدخل طائفة وأمم من الناس الإسلام ويعجز رؤساء الشرك عن تحقيق نصر عليكم
العاشر : لتنذر وفد الحاج كل سنة ، لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يطوف على القبائل في منازلها في موسم الحج في كل من :
الأول : سوق عكاظ .
الثاني : سوق مجنة .
الثالث : سوق ذي المجاز .
الرابع : في البيت الحرام .
الخامس :في عرفة .
السادس : في منى .
من منافع نداء النبي بكلمة التوحيد في أسواق الموسم
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يطوف قبل الهجرة على منازل القبائل في موسم الحج يدعوهم إلى الإسلام ، ويتلو عليهم آيات القرآن , وبعد أن كانوا يتشوقون لسماع القصائد والأشعار في سوق عكاظ ومجنة وذي المجاز صاروا يستمعون إلى كلام فوق كلام البشر فيه حلاوة وطلاوة ، وتتعدد مقاصده ، ويناسب المدارك على اختلافها .
ويتصف سوق عكاظ بطول مدته بالمقارنة مع أسواق العرب الأخرى ،فيبدأ عند رؤية هلال شهر ذي القعدة ، ويستمر عشرين يوماً في آمن وأمان لأنه شهر حرام ، والناس في السوق في منازلهم وعلى راياتهم ،ويتولى رؤساء وأشراف كل قبيلة ضبط أفرادها وحلّ الخصومات إذ يتداخلون في البيع والشراء ، ويجتمعون في القاء القصائد والأشعار ، وحول الأدباء والفرسان والرؤساء ، فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن ليجذب الناس إليه مما يبعث الحسد في نفوس أولئك الذين فقدوا منزلتهم في تلك الأسواق .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحضر الأسواق بمفرده أو بعض أصحابه أو مع عمه العباس الذي يبين منازل القبائل ، وفي سوق عكاظ اجتمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع وفد كندة وهي قبيلة تسكن اليمن .
وهل أدركت قريش أثر دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام في الموسم على القبائل والوفود القادمة منها ، الجواب نعم ، لذا عزموا على التخلص من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسجنه أو قتله أو بجعل السجن مقدمة لقتله كما في قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) إذ يحتمل قوله تعالى [لِيُثْبِتُوكَ] إرادة السجن بالذات والحصر أو أنه مقدمة لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولو غيلة .
الجواب هو الثاني , خاصة وأن النبي مأمور بالدعوة إلى الله في كل الأحوال .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينادي في أسواق الموسم (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) ليكون هذا النداء دعوة للقبائل للنفرة من الأصنام ، وسبباً لتجرأ أفراد القبائل بتوجيه اللوم في قبح اختيارهم عبادتها ومحاربتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وليحضر هذا النداء وآيات القرآن في المنتديات قبل معركة بدر فيمتنع الناس عن إعانة كفار قريش ، وبعدها بالتدبر في ضروب الإعجاز في نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وليكون من معاني الذلة في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )معرفة الذين كفروا بقلة عدد المسلمين وضعفهم ، والنقص في رواحلهم وأسلحتهم .
لتتلقى القبائل خبر نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بانبهار وإقرار بالمعجزة النبوية الأمر الذي يترشح عنه نفع عام للإسلام لتصبح قوافل قريش عرضة للنهب لتجلي حقيقة وهي تسخير المشركين لأموال وأرباح التجارة في محاربة الحق والتنزيل ، ولحوق الهزيمة بهم حتى مع هذه الأموال .
فيكون هذا التغيير وإصلاح القبائل من مصاديق مكر الله عز وجل في الآية أعلاه بقوله [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
ويحتمل هذا إدراك نعمة هذا التغيير بلحاظ قوله تعالى [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا] ( ) وجوهاً :
الأول : إنه من مصاديق الآية أعلاه .
الثاني : إنه من مقدمات تنجز مضامين الآية أعلاه .
الثالث : فيه رشحة من رشحات مجئ الحق .
ومن الشواهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً تنجز فتح مكة من غير قتال يذكر .
لقد كان رجالات قريش واتباعهم من أهل مكة ومن حولها أشد الناس على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وعدم التصديق بها .
الثانية : الإستهزاء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، قال تعالى [وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ] ( ).
لقد أظهر الكفار السخرية بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به البشارة بالنعم ، والإنذار من النار، ومن أهم أسباب هذه السخرية دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم لترك عبادة الأوثان ولإزاحتها من البيت الحرام ، وفي سبب نزول الآية أعلاه ورد (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأبي سفيان بن حرب ، وأبي جهل بن هشام ، فقال أبو جهل لأبي سفيان : هذا نبي بني عبد مناف . يقول ذلك كالمستهزىء ، فنزل قوله : { وَإِذَا رَاكَ الذين كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً }( ) ، يعني : ما يقولون لك إلا سخرية .
ثم قال : { أهذا الذى يَذْكُرُ الِهَتَكُمْ }( ) بالسوء؟ ويقال : أهذا الذي يعيب آلهتكم؟ { وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كافرون } ( )، يعني : جاحدون تاركون) ( ).
الثالثة : إيذاء المشركين للمسلمين والمسلمات الأوائل , وكان معهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يرى أصحابه وهم يتلقون الأذى الشديد فأمرهم بالصبر والثبات على الإيمان , ويبشرهم بأمور:
الأول : الفرج , والذي يتعقب الكرب , فمن فضل الله عز وجل على المؤمنين والناس جميعاً إدراكهم بالوجدان والتجربة والشواهد لقانون وهو مع الصبر سعة ,ومع الشدة ورخاء , ومع الضيق إنفراج , ومع العزوف سهولة , ومع الشقاوة سعادة , ومع الحزن فرح وغبطة .
و (عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً وحياله حجر ، فقال : لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه ، فأنزل الله { فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً } ) ( ).
وجاءت الآية أعلاه بعسر واحد وإن تكرر لأنه معرف بالألف واللام , وجاءت بيسر متعدد لأنه ورد في الآية بصيغة التنكير , فإذا قلت : رأينا الهلال فصمنا , وأخبرتم عن الهلال فصمتم , فرد الخبر على إرادة هلال واحد هو هلال شهر رمضان .
أما إذا قلت رأينا هلالاً فسافرنا , ورأينا هلالاً فعدنا , فدل الأمر على أن الهلال الأول غير الثاني .
وكانت بشارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه متجددة في كل يوم ومقرونة بالحث على الصبر , ويتلقاها المسلمون والمسلمات بالقبول والرضا .
لقد كانت البشارات تترى على الصحابة من جهات :
الأولى : آيات وسور القرآن المكية التي تثني على المؤمنين وتبشر بالفرج , وتتضمن الوعد من عند الله عز وجل بالثواب العظيم والإيمان , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ] ( ).
الثانية : البشارة النبوية , وما ينطق به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من صيغ الفرح وقرب زوال الأذى والتعذيب على المسلمين .
وكان آل ياسر يعذبون في حر الظهيرة من قبل بني مخزوم , فيمر عليهم النبي فيقول لهم (صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ فَإِنّ مَوْعِدَكُمْ الْجَنّةُ) ( ).
الثالثة : تسارع الوقائع والأحداث بما يجعل الفرج يلوح في الأفق , وتتجلى أماراته بما فيه سكينة للمؤمنين .
الرابعة : دخول الناس في الإسلام , وفيه تثبيت للإيمان في صدور الذين سبقوا إليه والذين التحقوا بهم , ودعوة لهم للصبر من الأذى , وتلمس أسباب الفرج .
الخامسة : لجوء المسلمين إلى الدعاء وأداء الفرائض , قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
الثاني : بشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأصحاب بالنجاة من القوم الظالمين , وتحقق مصداق هذه البشارة على نحو الوجبة الجزئية بهجرة طائفة منهم إلى الحبشة , ثم قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وبقية أصحابه بالهجرة إلى المدينة , لتكون كل من الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته ودعوته إلى الله عز وجل , وفيها بشارة بالنجاة من القوم الظالمين , قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ).
الثالث : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كيد الظالمين بشارة للمسلمين بقرب الفرج وإنكشاف الكرب , وهذه السلامة من فضل الله عز وجل , قال تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ).
الرابع : بيان وتفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن بما يتضمن البشارة والوعد الكريم من الله عز وجل للمسلمين والمسلمات .
آية السيف والنسخ
بعد أن قالوا بنسخ آية السيف لمائة وأربع وعشرين آية ولا أصل له , قالوا أن آخرها نسخ أولها , ويدل وسطها على نسخ القتل بالتخويف والرصد للذين كفروا.
والنسخ هو رفع حكم متقدم بآخر متأخر ، ولا يقدر على النسخ الى الله عز وجل ، ونسب الى المشهور أن السنة تنسخ القرآن وقيل عليه جمهور الحنفية والمالكية وبعض الشافعية ومشهور الحنابلة والإمامية
والمختار أن السنة لا تنسخ القرآن ، ونفى عدد من العلماء نسخ السنة للقرآن نعم السنة تقيد إطلاق القرآن ، وتخصصه , ثم لتذكر الآيات التي تنسخها السنة والحديث الذي ينسخها لتستنين الحقيقة بالطرد والعكس .
ولا ترفع السنة أحكام القرآن ، فهي باقية الى يوم القيامة إنما جاءت السنة لبيانها وتثبيتها ، وهي مرآة لها ووسيلة رسالية للترغيب بالعمل بها ، وفي التنزيل [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
وأركان النسخ هي :
الأول : الناسخ .
الثاني : المنسوخ .
الثالث : موضوع النسخ والعبادة المزالة .
شروط النسخ :
الأول : أن يكون الناسخ متأخراً في النزول عن المنسوخ .
الثاني : لا يتحقق النسخ إلا مع التعارض ، أما مع إمكان الجمع والتقديم والترجيح فلا نسخ .
الثالث : تقييد النص المنسوخ بوقت ينتهي حكمه مع انقضاء وقته.
قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
وهل يحتمل مجئ زمان يعمل به بالمنسوخ ولو لمدة محدودة أو في موضع مخصوص ، الجواب نعم ، إذا كان باجتهاد من الفقهاء مع الرجوع إلى الناسخ بزوال السبب ، وهو من إعجاز القرآن وبقاء كل آية منه غضة طرية إلى يوم القيامة .
فان قلت وهل يمكن العمل بالمنسوخ في موضوع القبلة ، الجواب لا ، فليس من جهات :
الأولى : ليس كل منسوخ يمكن تجدد العمل الموقت به , وليس من آية تأمر المسلمين بالتوجه إلى بيت المقدس على نحو الحصر والتعيين , ولو على نحو مؤقت .
الثانية : تجدد الخطاب القرآني للمسلمين والمسلمات في كل زمان ومكان بالتوجه إلى البيت الحرام قبلة في الصلاة ، قال تعالى [وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ).
الثالثة : من معاني الآية أعلاه عدم إضطرار المسلمين في أي مكان لتغيير قبلتهم , وبيان قانون وهو توجههم إلى البيت الحرام قبلة من نعم الله عز وجل عليهم .
الرابعة : لم يرد ذكر استقبال بيت المقدس كقبلة للمسلمين في القرآن .
لقد أراد بعضهم للمسلمين القتال المتجدد والغزو باسم الجهاد ، ولا دليل عليه , ولوقوع الفتح , قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) .
إنما تدعو آيات القرآن إلى الموادعة والمسالمة ، ومن إعجاز القرآن ملائمته تبدل أحوال الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة , بما يؤدي إلى الهداية .
وأقوال العلماء في نسخ آية السيف لآيات الصلح والموادعة على وجوه :
الأول : نسخ آية لآيات الصلح والموادعة مثل [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ) قيل نسخت بقوله تعالى [وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً]( ).
الثاني : التباين بين حال العزة والقوة وحال الضعف والوهن عند المسلمين ، ففي حال العز والقوة تكون آية السيف ناسخة لآيات الصلح والموادعة فلا صلح ، أما إذا كان المسلمون في حال ضعف فلا يأس بالصلح وبه قال ابن عربي وابن تيمية ، ونسبُ إلى السدي وابن زيد ، ولكن الله عز وجل يقول [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
بما يفيد استدامة ودوام حال العز للمسلمين ، ومن وجوه ومصاديق العز إقامة المسلمين الفرائض والعبادات , وقيامهم بالتبليغ وصبرهم على الأذى في جنب الله ، ولا يضر الكافرون إلا أنفسهم ، قال تعالى [وَمَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ] ( ) , وقال تعالى وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاّفَ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .
الثالث : المختار عدم ثبوت نسخ آيات الصلح والموادعة ، وقد صالح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يهود المدينة كما صالح مشركي قريش في صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة عشر سنوات لولا أنهم نقضوا بنود هذا الصلح .
وفي جدال ومناظرة الحرورية مع الإمام علي عليه السلام وطلبهم منه أن ينهض لقتال أهل الشام بعد الصلح , وينهضون معه ذكرّهم بأمر الله عز وجل بالتحكيم في المسائل الشخصية . ليكون التحكيم في الأمور الإبتلائية العامة من باب الأولوية القطعية فقالوا للإمام علي عليه السلام (حكمت في دين الله برأينا، ونحن مقرون بأنا قد كفرنا، ونحن تائبون، فأقرر بمثل ما أقررنا به وتب ننهض معك إلى الشام .
فقال : أما تعلمون أن الله عز وجل قد أمرنا
بالتحكيم في شقاق بين رجل وامرأته، فقال تعالى [فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا] ( ) .
وفي صيد أصيب [ في الحرم ] كأرنب تساوي ربع درهم، فقال [يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ] ( ).
فقالوا: إن عمرا ( ) لما أبي عليك أن تقول هذا كتاب كتبه عبد الله علي أمير المؤمنين “، محوت اسمك من الخلافة وكتبت: ” علي بن أبي طالب “، فقد خلعت نفسك.
فقال لهم: لي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة، حيث أبي عليه سهيل ابن عمرو ، فقال: لو أقررت أنك رسول الله ما خالفتك، ولكني أقدمك لفضلك ( )، فاكتب: محمد بن عبد الله، فقال يا علي امح رسول الله، فقلت : يا رسول الله لا تسخو نفسي بمحو اسمك من النبوة، قال: فقفني عليه ، قال فمحاه بيده .
ثم قال : اكتب : محمد بن عبد الله ، ثم تبسم إلي ، فقال : يا علي إنك ستسام مثلها فتعطي .
فرجع معه منهم ألفان من حروراء ، وقد كانوا تجمعوا بها) ( ) .
وفي السنة الثامنة للهجرة تم فتح مكة ، وهو نعمة على كل من :
الأول : إنه نعمة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ كبرى كلية وهي أن خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكة بوحي وأمر من عند الله .
الثاني : فتح مكة نعمة على المسلمين من المهاجرين والأنصار والذين بقوا مستضعفين في مكة .
الثالث : فيه رحمة لوفد الحاج والمعتمرين , وتنزيه للبيت الحرام من الأصنام .
الرابع : إنه رحمة للناس جميعاً وانقطاع للغزو والقتال مع المشركين ، نعم وقعت بعد فتح مكة معركة حنين الكبرى ، وكان الغازي والمعتدي فيها المشركون من هوازن وثقيف بعد أن اطمأن المسلمون لكثرتهم كسبب وعلة لدفع غزو المشركين ، قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] ( ).
وأخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا بكر ببراءة إلى أهل مكة ، ثم بعث علياً على أثره فأخذها منه ، فكأن أبا بكر وجد في نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا بكر أنه لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن أبي وقاص : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث علياً بأربع : لا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد فهو إلى عهده ، وإن الله ورسوله بريء من المشركين( ).
كان علي عليه السلام ينادي : لا يطوف بالبيت عريان ، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك .
ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فان أمره وأجله الى أربعة أشهر فاذا مضت فان الله ورسوله بريئان من المشركين لبيان تعاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للعهود مع المشركين بعد أن أمكن الله منهم , مع أنهم قتلوا طائفة من المسلمين .
وأشهر الإمهال في قوله تعالى [فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ]( )، هي شهر شوال وذو القعدة وذو الحجة من السنة التاسعة , وشهر محرم من السنة العاشرة للهجرة , لأن المراد بالأشهر الحرم ليس خصوص المهلة إنما ذات الأشهر الحرم الثلاثة السرد والتي تنتهي بشهر محرم , وقيل تبدأ مدة الإمهال من اليوم العشرين من شهر ذي القعدة .
وهل هذا الإمهال من مصاديق الإملاء الذي ورد في الآية الكريمة [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ) والذي جاء الجزء السابق وهو التاسع والسبعون بعد المائة خاصاً بتفسيرها .
الجواب نعم ، فالإمهال النازل من السماء في المدة والأجل للذين كفروا من إملاء الله لهم .
فلا يتعرض فيها المسلمون للمشركين حتى الذين لم يعاهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , أما الذين عاهدوه فهم على قسمين :
الأول : ما كان عهده أقل من أربعة أشهر فتشمله الآية ويستمر الى أربعة أشهر لا يتعرض له أحد .
الثاني : الذي عدة عهده مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من أربعة أشهر فيستمر الى مدته وقد أسلموا في مدة الأربعة أشهر ولم يسح أحد عنهم في الأرض بعد الأشهر الأربعة , ولم يهربوا من مكة على الشرك ، إذ تذوقوا حلاوة الإيمان وأدركوا الحاجة اليه في النشأتين ، وعلموا بالبصر والبصيرة القبح الذاتي للكفر .
وتبدأ سورة التوبة بقوله تعالى [بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ* فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ]( ) وقد خاب سعي المشركين في الصدّ عن سبيل الله بالحرب على النبوة وقتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاولتهم تحريف التنزيل .
وتحريف الشئ إمالته والعدول به إلى جانب أو قصد ، وينقسم التحريف إلى قسمين :
الأول :التحريف اللفظي .
الثاني : التحريف في المعنى والتفسير والتأويل .
والأول أصل للثاني ونوع طريق ومقدمة له ، والمقصود من سلامة القرآن من التحريف هو سلامة حروفه وكلماته من التغيير والتبديل والنقص والزيادة , وهذه السلامة من إعجاز القرآن ، وهي حرز من التحريض في التفسير والتأويل ، والذكر هو القرآن بدليل ورود صفة التنزيل في الآية أعلاه ، وقال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] ( )وقال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً] ( ).
لتقيد الآية أعلاه الإطلاق في الجهة التي نزل عليها القرآن وبيان أنه نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص ويتعلق البحث في المقام بأمور :
الأول : مصاديق حفظ الله للقرآن .
الثاني : الغايات الحميدة لحفظ القرآن .
الثالث : الشواهد على سلامة القرآن من التحريف .
الرابع : الإعجاز الذاتي والغيري في حفظ القرآن من التحريف .
آية السيف والأمر بالمعروف
حينما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر لم يكن عنده سيف , ولم يرد لفظ سيف في القرآن , ومع هذا يقولون غزا تسعا وعشرين غزوة , وآية السيف هو قوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
وكأن هذه الآية تؤصل وتحدد الصلة بين المسلم وغير المسلم والتي قوامها الرحمة، بين أكثر من مليار مسلم وبين باقي سكان العالم ، لعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
والله عز وجل أكرم من أن يحصر الصلة بين المليارات من أهل الأرض بآية واحدة من مجموع (6236) آية من آيات القرآن خاصة وأن القرآن يفسر بعضه بعضا، قالوا آية السيف نسخت مائة وأربعة وعشرين آية ، وكأن آية السيف حرباً مفتوحة .
وهناك قول معروف إذا قوي المسلمون وكانت السلطة والقوة لهم استعملوا آية السيف وعملوا بها وبما هو في معناها ، وقاتلوا جميع الكفار حتى يدخلوا الإسلام أو يؤدوا الجزية ، أما إذا ضعف المسلمون ولم يستطيعوا قتال الجميع , فهم في صلح مع غيرهم .
ولا أصل لهذا القول لموضوعية آيات الصلح والموادعة ومنها الآيات [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ) [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( ).
[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ] ( ).
[وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( )
[فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( ).
[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ) [لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ]( ).
ولابد من دراسة أسباب النزول وسياق الآيات ، ولزوم ربط الحكم بالحكمة وسنن الرحمة التي هي ميثاق الأنبياء , إذ تبدأ سورة التوبة بقوله تعالى [بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( )، السورة التي تتضمن ذم المشركين من قريش ونحوهم الذين خرقوا الميثاق ، ونقضوا العهود .
وورد لفظ [عَاهَدتُّمْ] أربع مرات في القرآن ثلاثة في سورة التوبة وواحدة في سورة النحل ، وقال تعالى [وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا]( ).
ويمكن تأسيس قانون قرآني وهو ليس من حكم عام يشمل الناس أو المسلمين جميعاً ينحصر بآية واحدة ، والحكم فيها مجمل إنما تأتي آيات متعددة بخصوصه وبيانه مثل آيات الموادعة والسلم والرأفة والموعظة الحسنة وبعث الناس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي الأمر بالمعروف أطراف :
الأول : الآمر .
الثاني : موضوع الأمر كإقامة الصلاة واتيان الزكاة والدعوة إلى التوبة والإنابة ، وليس من حصر لموارد الأمر بالمعروف ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
الثالث : صيغة الأمر باللسان أو اليد ، وجهة العلو أو عدمها بصدوره من المساوي أو الأدنى .
الرابع : المأمور .
وقد لا يستجيب المأمور , ولكنه لا يعني إعراضه التام عن الأمر وموضوع الصلاح والخير الذي يتضمنه ، إنما يبقى ذات الأمر يصاحبه وإن أظهر عدم القبول به ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] ( ) وكذا بالنسبة للنهي عن المنكر , ففيه أطراف :
الأول : الذي ينهى عن المنكر والقبيح .
الثاني : موضوع النهي والزجر ، كالنهي عن الربا وشرب الخمر .
الثالث : صيغة النهي ، والصيغة في الأمر والنهي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة من القول والفعل ، وحتى ذات القول وكذا الفعل على درجات ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) ويجب تأليف مجلدات بقوانين :
الأول : قانون آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثاني : قانون مضامين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن .
الثالث : قانون جهاد الأنبياء بالأمر بالمعروف .
الرابع : قانون الملازمة بين النبوة والأمر بالمعروف .
الخامس : الآيات التي تبين قيام أتباع الأنبياء بالأمر بالمعروف .
السادس : قانون الآيات التي تبين قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
السابع : قانون الأمة التي تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثامن : الآيات التي تبين الأجر والثواب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
التاسع : الآيات التي تذكر وتوثق الإستجابة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
العاشر : الآيات التي تذكر امتناع الذين كفروا عن الإستجابة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الحادي عشر : آيات إقامة الحجة على الذين كفروا لإمتناعهم عن الإستجابة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثاني عشر : قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروع الإيمان, والمعروف المأمور به هو كل قول وفعل حسن شرعاً وعقلاً ، وتعرفه النفوس أنه من مصاديق الخير ، ويستحسن إتيانه ، وتطمئن له النفوس , أما المنكر فهو ما قبّحه وحرمه وكرهه الشرع ، وما تنفر منه النفوس .
ولو تعارض حكم الشرع مع طمأنينة أو نفرة النفوس فان حكم الشرع هو المقدم وهو الفيصل , وفيه النجاة وخير الدنيا والآخرة ، وهو الذي تسكن إليه النفوس طوعاً وانطباقاً وقهراً ، وهو من رشحات نفخ الله الروح في آدم .
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة الأنبياء ، وهو واجب على المسلمين ، وفي التنزيل حكاية عن لقمان وهو يوصي ابنه [يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ] ( ).
ولقمان بن عنقاء بن سدون , وقيل لقمان بن ثاران , وهو من نوبة السودان ذو بشرة سوداء هاجر من السودان إلى فلسطين .
وعن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أتدرون ما كان لقمان؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : كان حبشياً ) ( ).
وقد عمل لقمان راعياً للغنم , وعانق الحكمة فجالسه الناس وأحبوه , وأصغوه إليه , والحكمة معرفة أفضل الأشياء بأحسن السبل , وملاك العلم والحكيم الذي تصدر أقواله وأفعاله عن تدبر وسداد ورشاد , وتسمية لقمان الحكيم مقتبسة من قوله تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ] ( ).
لبيان قانون وهو أن فضل الله عز وجل بالمعارف والعلوم , أعم من أن يختص بالأنبياء , أو ذات الوحي , إذ يشمل الأولياء والصالحين بالتحديث والهداية وإنارة طريق الهدى , وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بوجوب تلاوة كل واحد منهم ذكراً أو أنثى عدة مرات وعلى الوجوب العيني قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا الصراط , وكذا كيفية وصيغته فأنها من الحكمة , عن ابن عمر ( عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن لقمان الحكيم كان يقول : إن الله إذا استودع شيئاً حفظه) ( ).
وسيأتي بيان وصايا لقمان الثمانية لابنه وعلى نحو التفصيل لما فيها من لغة الإرشاد والموعظة والترغيب بفعل الخير , وتعدد النصيحة , ولزوم إجتناب السيئات والآثام .
لتكون وصايا لقمان لابنه دعوة للمسلمين والمسلمات لتوصية الأبناء بفعل الصالحات والإمتناع عن الفواحش وما نهى الله عنه , قال تعالى [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا] ( ).
ولم يرد لفظ ( تجتنبوا ) في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان حال الفقاهة عند المسلمين , إن وصايا لقمان الحكيم دعوة للمسلمين والناس جميعاً لنبذ الغزو والقتل العشوائي , إنما تكون شآبيب الرحمة بين الناس سوراً جامعاً لحل الخصومات والخلافات .
وهي برزخ دون حدوثها من غير أن تصل النوبة إلى السيف الذي هو في هذا الزمان عبارة عن دمار شامل .
وذكر أن لقمان كان قاضياً في أيام النبي داود عليه السلام .
بالنبوة انقطعت عبادة الأصنام
بعد أن أعلن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبوته وأظهر رسالته بدعوة الناس للهدى والإيمان ، وأخذ يقيم صلاة الجماعة في اليوم الثاني لبعثته إذ كان يصلي إماماً ، وتصلي معه خديجة والإمام علي عليهما السلام ، مع إزدياد عدد المسلمين , وصار يبين للناس قبح عبادة الأصنام والسفاهة بالتقرب بها إلى الله , أظهر الكفار عداوتهم له بالتعدي عليه , وعلى أصحابه .
لقد ورد في القرآن حكاية عن رؤساء الكفر وكيف أنهم يدعون أتباعهم لتعاهد الأصنام والمحافظة عليها قوله تعالى [وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا] ( ).
فكانت الأصنام التي ذكرتها الآية أعلاه تعبد من قبل قوم نوح ثم صار العرب يعبدون مثلها ، فالصنم (ود) لقبيلة كلب القحطانية في دومة الجندل.
وتقطن قبيلة كلب في شمال الجزيرة العربية وتحالفت معها قريش لتأمين طرق قوافل قريش ، وأما الصنم سواع فهو لقبيلة هذيل، وأراضيهم قريبة من مكة .
وقال الجاحظ (وكما يقال أن هذيلاً أكراد العرب ) ( ).
لصبر الأكراد على تحمل المشاق وقتالهم مع الترك والفرس والعرب ، ومع هذا فان هذيلاً يعبدون الأصنام ، فكانوا بحاجة إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للهداية إلى الإسلام ، ونبذ الشرك وعبادة الأصنام .
وقبيلة مراد رأس قبيلة مذحج القحطانية من سبأ من بلاد اليمن فيقال قبيلة مراد بن مذحج بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان .
إذ تنقسم مذحج إلى عدة قبائل وهي :
الأولى : عنس جنوب صنعاء ، وفي مدينة ذمار .
الثانية : قبيلة سعد العشيرة ، والتي عرفت باسم جدها سعد بن مذحج ، وسمي سعد العشيرة لأن الله أمد في عمره حتى بلغ عدد أولاده وأحفاده ثلاثمائة رجل ، فاذا ركب فيهم وسأله بعض الناس عنهم ، فيقول هم عشيرتي ، خشية الحسد والعاين .
ولما تم فتح القادسية أنفذ سعد بن أبي وقاص عمرو بن معد يكرب إلى عمر بن الخطاب .
فسأله عمر عن سعد العشيرة فقال : (هم أعظمنا خميساَ، وأسخانا نفوساً، وخير نارنا رئيساً) ( ).
أي أكثر قبائل مذحج جيوشاً لأن المراد من الخميس هو الجيش ، وأشدهم باساً وتضحية , وأكثرهم عدداً وشدة ، وسعد العشيرة هو (أبو قبيلة زبيد) وإلى الآن تتصف قبيلة زبيد بكثرة الفروع والرجال .
الثالثة : قبيلة الحارث بن كعب (ملوك نجران ) وكان آخر ملوكهم أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يزيد بن عبد المدان فبعث لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شهر ربيع الآخر من سنة عشرة للهجرة خالد بن الوليد ، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام ثلاثة أيام قبل أن يقاتلهم ، والتقييد بالثلاثة تأكيد لتكرار الدعوة والإمهال والترغيب بالإيمان بالحجة والبرهان .
وقال له (فإن استجابوا لك فاقبل منهم، وأقم فيهم، وعلمهم كتاب الله وسنة نبيه، ومعالم الإسلام) ( ).
فأدرك خالد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد قتالهم ، وأن يعمل على دخولهم الإسلام بالدعوة والموعظة ، وحينما وصل خالد إلى ديارهم بعث الركبان يضربون في كل وجه ، وهم ينادون بكلمة التوحيد ، ويسألون الناس دخول الإسلام ، ويبشرونهم بالأجر والثواب , وهم يقولون :
(يا أيها الناس أسلموا تسلموا. فأسلم الناس ودخلوا فيما دعاهم إليه، وأقام خالد فيهم وعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة رسوله) ( ).
لقد كانت هذه السرية فتحاً وشاهداً على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً ، ولم يرد القتال ، ولم يرغب فيه ، لقد كان الأمر النبوي بالدعوة إلى الإسلام من غير قتال ظاهرة بالشواهد العملية ، فدخلوا الإسلام بفضل الله .
وكتب خالد بن الوليد إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبشره بدخول بني الحارث بن كعب بنجران الإسلام طواعية من غير قتال ، وجاء في كتابه :
(بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد النبي رسول الله من خالد بن الوليد السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته فاني أحمد اليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد يا رسول الله صلى الله عليك فإنك بعثتني إلى بني الحارث بن كعب وأمرتني إذا أتيتهم أن لا أقاتلهم ثلاثة ايام وأن أدعوهم إلى الإسلام فان أسلموا قبلت منهم وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه , وإن لم يسلموا قاتلتهم وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الاسلام ثلاثة ايام كما أمرني رسول الله.
وبعثت فيهم ركبانا يا بني الحارث أسلموا تسلموا.
فاسلموا ولم يقاتلوا وأنا مقيم بين أظهرهم آمرهم بما أمرهم الله به وأنهاهم عما نهاهم الله عنه .
وأعلمهم معالم الاسلام وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يكتب إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته) ( ).
وتدل هذه الرسالة على مسائل :
الأولى : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأمر أمراء السرايا بالدعوة إلى الإسلام بالبرهان وعدم اللجوء إلى القتال .
الثانية : قدّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة إلى الإسلام بالموعظة وتلاوة القرآن .
الثالثة : جعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدة ثلاثة أيام في دعوتهم للإسلام ، ولم يقيده بأنه إذا خشيت جانبهم أو رأيت أنهم اتخذوا هذه المدة للمكر بجيش المسلمين فاقطع مدة الدعوة وقاتلهم .
الرابعة : لزوم بذل المسلمين الوسع في الدعوة إلى الله .
الخامسة : تفقه المسلمين في سبل الدعوة إلى الإسلام بتقديم النصح والترغيب بالإسلام ، وبيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوة آيات القرآن .
السادسة : التوثيق التأريخي لكيفية دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله لتدرك أجيال المسلمين والناس جميعاً أن الإسلام انتشر بقانون [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
السابعة : تتقوم الدعوة إلى الإسلام بكلمة التوحيد ، والنطق بالشهادتين .
الثامنة : لم يرد في رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أو إشارة للغزو ابتداءً واستدامة .
التاسعة : هل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بأن بني الحارث سيدخلون الإسلام خلال أيام الدعوة الثلاثة أم لا ، الجواب هو الأول ليكون قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) أعم من ذات النطق فيشمل كل من :
الأول : اللفظ والحديث النبوي .
الثاني : علة وسبب الفعل الذي يأتي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : ذات اللفظ والسنة القولية .
الرابع : الفعل النبوي ، وصحيح أن الآية أعلاه ذكرت النطق بقوله تعالى [ما ينطق ] إلا أن مو ضوعها أعم .
الخامس : العلة الغائية من اللفظ والفعل النبوي .
السادس : موضوع اللفظ والفعل والتقرير النبوي .
السابع : أسباب ومواضيع وغايات الرسائل النبوية إلى أمراء وملوك زمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم
ثم سألهم رسول الله (بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية ؟ قالوا: لم نك نغلب أحدا.
قال: بلى قد كنتم تغلبون من قاتلكم.
قالوا: كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله، أنا كنا نجتمع ولا نتفرق , ولا نبدأ أحدا بظلم.
قال: ” صدقتم) ( ).
ثم أمر عليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قيس بن الحصين ، وهو من ضمن أعضاء وفدهم سنة عشر للهجرة , ثم بعث خلفهم عمرو بن حزم من بني النجار عاملاً على نجران في اليمن ليفقههم في الدين ويتلو عليهم آيات القرآن ويعلمهم السنة وأحكام الشريعة , ويأخذ منهم صدقاتهم ، وفيه نكتة وهي قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببعث عامل غير القائد والآمر الذي جرى الفتح ودخول الناس على يديه الإسلام ، وليس بين عودة وفد بني الحارث إلى نجران وبين انتقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أربعة أشهر .
وكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم كتابا ووثيقة تدل على عهده إليه ، وتبين ما أمره به ، ولزوم تقيده وعامة المسلمين بسنن التقوى .
وفيه (بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا بَيَانٌ مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ عَهْدٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ ، أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللّهِ فِي أَمْرِهِ كُلّهِ فَإِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ اتّقَوْا وَاَلّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَقّ كَمَا أَمَرَهُ اللّهُ وَأَنْ يُبَشّرَ النّاسَ بِالْخَيْرِ وَيَأْمُرَهُمْ بِهِ وَيُعَلّمَ النّاسَ الْقُرْآنَ وَيُفَقّهَهُمْ فِيهِ وَيَنْهَى النّاسَ فَلَا يَمَسّ الْقُرْآنَ إنْسَانٌ إلّا وَهُو طَاهِرٌ وَيُخْبِرَ النّاسَ بِاَلّذِي لَهُمْ وَاَلّذِي عَلَيْهِمْ وَيَلِينَ لِلنّاسِ فِي الْحَقّ وَيَشُدّ عَلَيْهِمْ فِي الظّلْمِ فَإِنّ اللّهَ كَرِهَ الظّلْمَ وَنَهَى عَنْهُ فَقَالَ { أَلَا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ }( ) .
وَيُبَشّرَ النّاسَ بِالْجَنّةِ وَبِعَمَلِهَا ، وَيُنْذِرَ النّاسَ النّارَ وَعَمَلَهَا ، وَيَسْتَأْلِفَ النّاسَ حَتّى يَفْقَهُوا فِي الدّينِ وَيُعَلّمَ النّاسَ مَعَالِمَ الْحَجّ وَسُنّتَهُ وَفَرِيضَتَهُ وَمَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ وَالْحَجّ الْأَكْبَرُ الْحَجّ الْأَكْبَرُ وَالْحَجّ الْأَصْغَرُ هُوَ الْعُمْرَةُ وَيَنْهَى النّاسَ أَنْ يُصَلّيَ أَحَدٌ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ صَغِيرٍ إلّا أَنْ يَكُونَ ثَوْبًا يُثْنِي طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ , وَيَنْهَى النّاسَ أَنْ يَحْتَبِيَ أَحَدٌ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يُفْضِي بِفَرْجِهِ إلَى السّمَاءِ , وَيَنْهَى أَنْ يُعَقّصَ أَحَدٌ شَعْرَ رَأْسِهِ فِي قَفَاهُ , وَيَنْهَى إذَا كَانَ بَيْنَ النّاسِ هَيْجٌ عَنْ الدّعَاءِ إلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ , وَلْيَكُنْ دَعْوَاهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ .
فَمَنْ لَمْ يَدْعُ إلَى اللّهِ وَدَعَا إلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ فَلْيُقْطَفُوا بِالسّيْفِ حَتّى تَكُونَ دَعْوَاهُمْ إلَى اللّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيَأْمُرَ النّاسَ بِإِسْبَاغِ الْوُضُوءِ وُجُوهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَأَرْجُلَهُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَيَمْسَحُونَ بِرُءُوسِهِمْ كَمَا أَمَرَهُمْ اللّهُ وَأَمَرَ بِالصّلَاةِ لِوَقْتِهَا ، وَإِتْمَامِ الرّكُوعِ وَالسّجُودِ وَالْخُشُوعِ
وَيُغَلّسُ بِالصّبْحِ وَيُهَجّرُ بِالْهَاجِرَةِ حِينَ تَمِيلُ الشّمْسُ.
وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَالشّمْسُ فِي الْأَرْضِ مُدْبِرَةٌ .
وَالْمَغْرِبِ حِينَ يُقْبِلُ اللّيْلُ لَا يُؤَخّرُ حَتّى تَبْدُوَ النّجُومُ فِي السّمَاءِ
وَالْعِشَاءِ أَوّلَ اللّيْلِ .
وَأَمَرَ بِالسّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ إذَا نُودِيَ لَهَا ، وَالْغُسْلِ عِنْدَ الرّوَاحِ إلَيْهَا ،
وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَغَانِمِ خُمُسَ اللّهِ وَمَا كُتِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَةِ مِنْ الْعَقَارِ عُشْرَ مَا سَقَتْ الْعَيْنُ وَسَقَتْ السّمَاءُ.
وَعَلَى مَا سَقَى الْغَرْبُ نِصْفُ الْعُشْرِ .
وَفِي كُلّ عَشْرٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاتَانِ وَفِي كُلّ عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ .
وَفِي كُلّ أَرْبَعِينَ مِنْ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ وَفِي كُلّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ .
وَفِي كُلّ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ سَائِمَةً وَحْدَهَا شَاةٌ فَإِنّهَا فَرِيضَةُ اللّهِ الّتِي افْتَرَضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَةِ فَمَنْ زَادَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيّ أَوْ نَصْرَانِيّ إسْلَامًا خَالِصًا مِنْ نَفْسِهِ وَدَانَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ فَإِنّهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ مِثْلُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا عَلَيْهِمْ.
وَمَنْ كَانَ عَلَى نَصْرَانِيّتِهِ أَوْ يَهُودِيّتِهِ فَإِنّهُ لَا يُرَدّ عَنْهَا ، وَعَلَى كُلّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ، حُرّ أَوْ عَبْدٍ دِينَارٌ وَافٍ أَوْ عِوَضُهُ ثِيَابًا . فَمَنْ أَدّى ذَلِكَ فَإِنّ لَهُ ذِمّةَ اللّهِ وَذِمّةَ رَسُولِهِ وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فَإِنّهُ عَدُوّ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا ، صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَى مُحَمّدٍ وَالسّلَامُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ) ( ).
والحديث ضعيف سندا إلا أنه مشهور ، وتلقاه العلماء بالقبول كما كان معروفاً أيام التابعين ، ورآه الزهري وسعيد بن المسيب وابن شهاب .
وقال يعقوب بن سفيان : لا أعلم في جميع الكتب أصح من كتاب عمرو بن حزم( ) ، ولا يخلو كلامه هذا من الإنفعال , وهناك ضعف في اسناده , فمثلاً ورد عن طريق يحيى بن حمزة عن سليمان ، قال حدثني الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده) ( ) واختلف الرجاليون في سليمان أعلاه , وهل هو سليمان بن داود الخولائي أو سليمان بن أرقم ، والمشهور أنه سليمان بن أرقم ، وهو ضعيف ، ولكن ورد الحديث بالإسناد عن (يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود قال حدثني الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده) ( ).
وقال ابن حبان (سليمان بن داود الخولاني من أهل دمشق ثقة مأمون وسليمان بن داود اليمامي لا شيء وجميعا يرويان عن الزهري) ( ).
العاشرة : أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد بالقبول من بني الحارث إن استجابوا ، فليس له أن يراجعهم أو يمتنع عن قبول استجابتهم .
ولم يقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان اسلموا ، إنما قال (فان استجابوا ) وهل المقصود منه المعنى الأعم من دخول الإسلام ، أم أن النسبة بين الإستجابة والإسلام التساوي ، المختار هو الأول لإرادة إمهالهم مدة أخرى تبين خلالها لهم أحكام الشريعة ، وتقديره : فان استجابوا للدعوة إلى الإسلام يومئذ . أو استجاب بعضهم , وطلب بعضهم الإمهال والبيان الإضافي .
الحادية عشرة : قيام آمر جيش المسلمين بارسال الرسل والمبلغين إلى الأسواق والبيوت والأشخاص من بني الحارث يدعونهم إلى الإسلام ، ويرغبونهم فيه ،وقولهم [اسلموا تسلموا] المراد منه أعم من القتال والإكراه في دخول الإسلام ، بل المراد السلامة في الآخرة ، والنجاة من العذاب يوم القيامة ، وتبين هذه الواقعة تحول الجيش إلى دعاة ومبلغين يطرقون الأبواب وينادون بالإسلام .
ولم يتلقاهم الناس بالسيوف أو الرماح والنبال ، ولم يحيطوا بهم ليقتلوا بعضهم ويأسروا بعضهم الآخر كما فعل بنو لحيان في بعث الرجيع في شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة ، وكان عدد أفراد هذا البعث عشرة ، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ عليهم مرثد بن أبي مرثد ، وقيل عاصم بن ثابت الأنصاري فاحاط بهم نحو مائة من لحيان ، وطلبوا منهم التسليم وأعطوهم الميثاق والعهد بالأمن وقتلوا سبعة منهم وسلّم ثلاثة , فقتلوا أحدهم وهو عبد الله بن طارق لمقاومته لهم، وأسروا اثنين وهما خبيب بن عدي الأنصاري ، وزيد بن الدثنة فباعوهما إلى قريش ليقتلوهما ثأراً لقتلاهم في معركة بدر .
وأرادوا أخذ بعض رؤوس بعث الرجيع لبيعها على قريش كما سيأتي بيانه .
وفي ذات الشهر أصاب رعل وذكوان وعصية القراء يوم بئر معونة وعددهم سبعون من الصحابة .
فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثين صباحاً على قتلة بعث الرجيع وقتلة القراء في بئر معونة .
وعن (قتادة، عن أنس بن مالك : أن رعلا وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عدو فأمدهم بسبعين من الانصار، كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم .
فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من العرب : على رعل وذكوان وعصية وبنى لحيان، قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رفع ” بلغوا عنا قومنا أنا لقد لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا) ( ).
ووقعت هذه الحوادث والغدر من المشركين في بدايات السنة الرابعة للهجرة ، أما سرية نجران فكانت في السنة العاشرة ، وقد صار الإسلام قوياً ، وتجلت للناس معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودخلت آيات القرآن البيوت في الأمصار ، وكان جيش خالد بن الوليد يتألف من أربعمائة رجل .
إنما تلقى الناس دعوة الإسلام بالقبول من غير تردد أو ممانعة ، وهل من موضوعية في هذه الإستجابة لفتح مكة في السنة الثامنة , وانتشار الإسلام وشيوع مفاهيم الإيمان وكثرة وفود القبائل إلى المدينة , وهم يعلنون اسلامهم .
الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً] ( ).
لقد أشرقت شمس الإسلام على الجزيرة العربية ، فصار ضياؤها ينفذ إلى شغاف القلوب ، ويسري في المجتمعات , ويرتسم على الألسنة بتلاوة القرآن والتفكر في دلالات آياته ، وفيه وجوه :
أولاً : إنه من الإعجاز الغيري للقرآن .
ثانياً : ملائمة الدعوة إلى الإسلام لإدراك العقل النوعي والعام .
ثالثاً : حاجة الناس في كل زمان إلى الدعوة إلى التوحيد وسيادة مفاهيمه .
رابعاً : نفرة عامة الناس من عبادة الأصنام ، وإن كانوا مقيمين عليها ، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ] ( ).
ويتصف عرب الجزيرة بالإستقلال والعناد ، وصعوبة الإنقياد للغير ، ولم تحكمهم ملوك ودول وقوانين عامة وإجتناب قيصر ملك الروم ، وكسرى ملك فارس من اقتحام الجزيرة بقصد احتلالها والإستيلاء عليها ، مع أن أهلها كانوا قبائل متفرقين ، وبينهم تفاخر وتنابز، وغزو وقتال ، وكان كثير منهم يرى أن الأمن بسيادة دولة وسلطان .
وكان ملوك تلك الأزمنة يدركون قلة الفائدة والنفع من إحتلال الجزيرة وهي أرض جرداء قاحلة مع الخشية من العرب الذين يقاتلونهم ويأبون استيلاء الغير على أراضيهم كما يخشون الأعراب الذين يقومون بالغارات على الجيوش الغازية في الليل وعند الغفلة .
ولم يعلم هؤلاء الملوك الغيب ، وأن النفط والغاز سيستخرج من أرض الجزيرة لتكون أغنى بقاع الأرض ، إذ جعل الله عز وجل هذه النعمة خالصة للمسلمين ، وينتفع منها الناس جميعاً .
ليكون من عمومات قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) لبيان قانون وهو أن الله عز وجل يتفضل بالرحمة والرزق الكريم للمؤمنين .
فقد بادرت القبائل في نجران للإيمان عندما وصلت سرايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليهم لتكون أرضهم خصبة ، وتخرج كنوزها فتصير عوناً للمسلمين في أدائهم الواجبات العبادية .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] ( ) وتسمى السنة العاشرة للهجرة النبوية سنة الوفود لكثرة الوفود التي جاءت إلى المدينة لإعلان اسلامهم وإسلام قومهم .
الثانية عشرة : يدل هذا الخبر على أن أكثر أفراد قبيلة بني الحارث كانوا على الشرك والضلالة ،وأنهم ليسوا أهل كتاب ، فقد يتبادر إلى الذهن أن أهل نجران هم من النصارى لما ورد في موضوع وأسباب نزول قوله تعالى [فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ]( ).
إذ بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل مدينة نجران يدعوهم إلى الإسلام ،ووفد على المدينة وفد من اربعة عشر رجلاً من نصارى نجران ، وقيل كان عددهم ستين وفيهم رجال من بني الحارث بن كعب وفيهم ثلاثة هم الرؤساء وهم :
الأول : العاقب وهو أميرهم وصاحب المشورة فيهم الذي يصدون عن رأيه وسمه عبد المسيح .
الثاني : السيد وهو صاحب رحلهم واسمه الأيهم( ) .
الثالث : الأسقف ، وهو الحبر الأعظم عندهم واسمه أبو حارثة .
فدخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما صلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صلاة العصر ليكون من الإعجاز في الصلوات اليومية الخمسة وأداء النبي والمسلمين لها جماعة صيرورتها شاهداً على صفات الرحمة والرأفة والإنقطاع إلى الله التي يتصف بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وأنهم ليسوا رجال حرب أو قتال ، وتدل صلاة الجماعة والإخلاص العبادي الظاهر فيها على عزوف المسلمين عن الغزو ، وإن كانوا هم الأكثر في العدد والعدة ، ومن الشواهد عليه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يمر في خروجه من المدينة المنورة وعودته إليها على قبائل وبيوت ورعاة مشركين فلم يتعرض لهم وكذا بالنسبة للسرايا التي يبعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتمر على هؤلاء .
نعم هذا المرور دعوة لهم للإسلام ، والإمتناع عن إعانة كفار قريش في غزوهم للمدينة وأطرافها ، وفي التنزيل [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا] ( ) وعن الإمام علي عليه السلام في الآية أعلاه قال (يعني الناس كلهم) ( ).
وهو آية فيما يسمى غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم تعرضه للناس ، نعم كانوا يرونه وأصحابه كيف يقرأون القرآن ، ويقيمون الصلاة , وتجلي سيماء الخشوع والخضوع عليهم في حلهم وترحالهم ، وهل هي دعوة صامتة لله عز وجل .
الجواب إنما هي دعوة علنية ظاهرة بالقول والفعل الشخصي والعام .
ولم تكن جميع الوفود التي تأتي للمدينة تقصد دخول الإسلام ، فمنهم من يحضر إلى المدينة ليستقرأ الحال ، فيرى معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليدخل الإسلام ويحضر صلاة الجماعة ويرجع إلى قومه يبلغهم تفاصيل ما رآى وسمع من الشواهد ويدعوهم إلى الإسلام ، ويبادر إلى أداء الصلاة خمس مرات في اليوم في بلدته أو قريته ، وهذا الأداء دعوة فعلية للإسلام .
وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بداية البعثة النبوية بدأ الصلاة في المسجد الحرام بمفرده لتصلي في اليوم الثاني معه خديجة ثم الإمام علي عليه السلام في اليوم الثالث ، ويزداد عدد المسلمين فان الذين يرجعون إلى قراهم مسلمين سرعان ما يلتحق بهم في مسالك الإيمان أفراد من ذوي قرباهم وعشيرتهم ، وهل هو من عمومات قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( )وتقديرها : وأنذروا عشائركم الأقربين .
الجواب نعم , ويأتي عدد من الناس بهذا القصد والنية , ولكنه يبادر إلى دخول الإسلام ، ويرجع إلى قومه مسلماً , ويتلقونه بالإستجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فيأتي وفد من شخصين مثلاً ليعودوا مرة أخرى مع جماعة وعدد من رؤساء قومهم إلى المدينة مسلمين ، قد أقاموا الصلاة في قراهم ومواضع سكناهم ، ويفاجئوا بآيات وسور قرآنية أخرى قد نزلت على النبي تتجلى فيها أحكام الشريعة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وهو من الإعجاز في نزول القرآن على نحو التدريج ، قال تعالى [وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً] ( ) وكان بين أول نزول آيات القرآن ونزول آخر آياته ثلاثة وعشرون عاماً ، وكان النزول بلحاظ الوقائع والمصالح والأسباب ، ولإعانة المسلمين في التدبر في آيات القرآن ، قال تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا] ( ).
في الفرائض إعراض عن الغزو
يتضمن القرآن الأوامر من الله بالعبادات والنسك والدعوة للتقيد بأحكامها ، وفيه دعوة سماوية للناس لدخول الإسلام ، وإنتفاء موضوع الغزو من المسلمين أو من غيرهم , والغزو نوع مفاعلة , ويـتألف من أطراف :
الأول : الغازي .
الثاني : الغزو .
الثالث : الغاية من الغزو .
الرابع : المغزو .
الخامس : أثر ونتيجة الغزو .
وقد إجتنب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغزو , ولكن المشركين كانوا يصرون على الغزو والهجوم على المدينة المنورة وعامة المسلمين ، وبين الكفر والعداء للإسلام عموم وخصوص مطلق ، وكذا ذات النسبة بين العداء للإسلام والقيام بغزو ديار المسلمين وبين الغزو ، فالعداء أعم ، فليس كل من يحارب الإسلام يقوم بغزو ثغور المسلمين , ومهاجمتهم في عقر دارهم ، وفيه تخفيف ولطف من عند الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من المهاجرين والأنصار ليقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ ويعاضدوه فيه ، ويؤدوا معه الصلاة والفرائض التي هي باب ووسيلة عقائدية مباركة لجذب الناس إلى الإسلام .
فبدل أن يسخر رؤوس الكفر عامة الناس للهجوم على المسلمين وغزو المدينة فانهم يختارون دخول الإسلام ، ومنهم من كان ينسحب من بين صفوف المشركين في ميدان المعركة ليلتحق بجيش المسلمين سواء في معركة بدر أو أحد أو الخندق ، وهو من الإعجاز في قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) بتقديره من جهات :
الأولى : يوم التقى الجمعان جمع مؤمن وجمع كافر .
الثانية : يوم التقى الجمعان للقتال , والله عز وجل قادر على أن لا يقع قتال .
الثالثة : يوم التقى الجمعان جمع يأتيه الأجر والثواب على الخروج إلى هذا اللقاء وهم المؤمنون ، وجمع يلحقه الخزي والذل في النشأتين وهم الكفار ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
الرابعة :اذكروا يوم التقى الجمعان وكنتم مستضعفين فنصركم الله ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
لقد ابتدأ القرآن بالبسملة [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) وجاءت هذه الآية ورسمها في أول كل سورة من القرآن باستثناء التوبة وسواء على القول بأنها آية من كل سورة أو أنها آية من سورة الفاتحة فان إفتتاح القرآن وكل سورة بها باعث للمسلمين على نشر شآبيب الرحمة في الأرض وبين المسلمين أنفسهم ومع الناس جميعاً .
إذ تدل البسملة على الإطلاق الموضوعي في رحمة الله وأنها حاضرة في كل آن ومكان وعلى العموم فيها إذ تتغشى الناس جميعاً وإن تباينت مشاربهم .
وهل تشمل رحمة الله في الدنيا الذين كفروا ، الجواب نعم ، وإن كان موضوع الرحمة في البسملة شاملاً للدنيا والآخرة .
وقد ورد الخطاب العام في القرآن بصيغ متعددة في دعوة للمطالب السامية والفضائل الحسنة والأخلاق الحميدة ، وتلقي التشريعات السماوية بالقبول والإمتثال .
فيتوجه الخطاب القرآني إلى نفوس الناس عامة ، ومنه النداء التشريفي للمسلمين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]ترغيب للناس جميعاً بالإيمان ونبذ الكفر والحرب والقتال ، وتوجه الخطاب والأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ) .
ليكون من معاني قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ] ( ) والذي نزل في بدايات الدعوة الإسلامية يا أيها النبي اجتهد بانذار الناس جميعاً من الآن وإلى يوم الدين .
وكما ورد الخطاب في القرآن بلفظ [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] فقد جاء بصيغة النسبة والنبوة العامة لآدم كما في قوله تعالى [يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ) لبيان اتحاد الناس بصفة الإنسانية والبنوة لآدم ، وأن القرآن تضمن أخبار الرسل السابقين والجامع المشترك بينهم هو العبودية لله عز وجل ولزوم حمده وشكره سبحانه .
أسباب معركة بدر
لقد كانت معركة بدر نتيجة لعداء المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحربهم على التنزيل , وعجزهم عن صدّ الناس عن دخول الإسلام بالتهديد والتوبيخ والتضييق والأذى النفسي والبدني , وقد اتخذ رؤساء الكفر من قريش من قافلة أبي سفيان واحتمال تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لها سبباَ وعلة للخروج بجيش كبير لقتاله وأصحابه .
لقد أراد كفار قريش التعجيل بالحرب والقتال لأنهم علموا بأن عدد المسلمين في إزدياد مطرد , وأدرك رؤساء قريش بخبرتهم وإحاطتهم بأخبار العرب والدول , وحفظهم الأشعار والقصص التي توثق الوقائع والحروب أن تجارتهم إلى الشام واليمن ستتعرض للنهب والسلب , إذ صاروا يخشون جهات :
الأولى : المهاجرون من المسلمين الذي إستحوذ الذين كفروا على أموالهم في مكة .
الثانية : أولاد المشركين أنفسهم .
الثالثة : الأعراب الذين صاروا أو يصيرون في حال تجرأ على قوافل قريش خاصةَ بعد مقتل عمرو بن الحضرمي إذ رماه واقد بن عبد الله التميمي بسهم , وهو من سرية عبد الله بن جحش والذين أسروا في نفس اليوم عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وهما من كفار قريش .
ولم يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن جحش وأفراد سريته بالقتال أو أسر رجل أو رجال من قريش انما أمرهم باستطلاع حال قريش , ورصدهم إذ بعثهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعددهم تسعة رهط من المهاجرين ليس فيهم أنصاري واحد في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة , أي قبل معركة بدر بشهرين .
وقيل (اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ) ( ), وقيل المجموع ثمانية.
وكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأميرهم عبد الله بن جحش كتاباَ (وأمره ان لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره احدا من اصحابه) ( ) .
وظاهر قوله صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه أن الكتاب لم يكن مغلقاَ ومختوماَ بختم لا يفتح إلا بازالة الختم والطين ، إنما طواه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاه عبد الله بن جحش وهو ابن عمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أميمة بنت عبد المطلب .
وحضر عبد الله بن جحش معركة بدر , وكان ممن استشاره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الأسرى , وخرج إلى معركة أحد , وتوجه بالدعاء إلى الله قائلاَ (اللّهُمّ إنّي أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ أَلْقَى الْعَدُوّ غَدًا فَيَقْتُلُونِي ثُمّ يَبْقُرُوا بَطْنِي وَيَجْدَعُوا أَنْفِي وَأُذُنِي ثُمّ تَسْأَلُنِي : فِيمَ ذَلِكَ فَأَقُولُ فِيكَ) ( ) , في معركة أحد , فقتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق , ومثّل بجثته , ودفن مع خاله حمزة بن عبد المطلب في قبر واحد .
لقد حرص عبد الله بن جحش على عدم النظر في كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الا بعد مسير يومين , ولما نظر فيه قال :
(سمعا وطاعة) ( ).
فليس من غايات هذه السرية القتال أو الرمي بالسهام , وقد تقدم البيان( ), وهل قوله (سمعا وطاعة) عن نفسه وأصحابه , أم عن نفسه خاصة , الجواب هو الثاني , مع ترغيب لأصحابه بذات القول , فبعد أن قرأ الكتاب أخبر أصحابه بمضمونه وقال لهم : ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نهاني عند خروجنا من المدينة أن استكره أحداَ منكم ، وخيّرهم بين طلب الشهادة والرغبة فيها وبين الرجوع .
وقال : أما أنا فسأمضي لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ترى لماذا ذكر الشهادة وليس من قتال محتمل الجواب لان عددهم قليل وقد دخلوا في أرض مكة وما حولها , فصاروا عرضة لان يتخطفهم المشركون .
ونخلة واد قريب من قرن المنازل ( السيل الكبير , ومن قرية الزيمة التي هي من أعمال مكة وتبعد عنها بين 40-50 كم لإمتداد وادي نخلة .
وأفراد سرية عبد الله بن جحش هم (مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، وَمِنْ حَلْفَائِهِمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ ، وَهُوَ أَمِيرُ الْقَوْمِ وَعُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ أَحَدُ بَنِي أَسَدِ خُزَيْمَةَ ، حَلِيفٌ لَهُمْ .
وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرٍ حَلِيفٌ لَهُمْ . وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ : سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ .
وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ عَنْزِ بْنِ وَائِلٍ ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَرِينِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ ، أَحَدُ بَنِي تَمِيمٍ حَلِيفٌ لَهُمْ وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ حَلِيفٌ لَهُمْ . وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ : سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ) ( ).
وساروا إلى موضع نخلة حيث أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقصد الرصد والإستطلاع , وتخلف عنهم سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان يطلبان بعيراً كانا يتعاقبان ركوبه .
ومرت عير لقريش تحمل زبيباَ وأدماَ وتجارة لقريش , وكان فيها رجال من قريش وأهل مكة منهم :
الأول : عمرو بن عبد الله الحضرمي .
الثاني : عثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي .
الثالث : نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي .
الرابع : الحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة .
فلما رأوا جماعة المسلمين هابوهم خاصةَ وأنهم نزلوا قريباَ منهم ولا يظن او يحسب المشركون أن أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصلون إلى نخلة ويكونون بالقرب من مكة , ولو جاءوا لزحفوا بجيش كبير وليس بضعة أفراد , وبينهم وبين المدينة المنورة التي انطلقوا منها نحو اربعمائة كيلو متر , ورآى أفراد السرية أن رجال القافلة رعبوا منهم قال عبد الله بن جحش.
(إن القوم قد رعبوا منكم، فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم، فحلقوا رأس عكاشة فأشرف عليهم، فلما رأوه أمنوا) ( ).
وكان العرب في الجاهلية يحرمون القتال في شهر رجب لحرمته , وهذه الحرمة موروثة عن ابراهيم عليه السلام وسنن الأنبياء لقوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ) .
ومن فضل الله عز وجل تهيئة مقدمات وأسباب حج البيت الحرام , وازاحة الموانع دونه , بمنع سفك الدماء , والثأر ونحوه في موسم الحج , وفي شهر رجب لأداء العمرة , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ), بتقريب وبيان قانون وهو إذا أمر الله عز وجل بشىء فانه يزيح الموانع التي تحول دون الإمتثال العام له , ومنه الواعز والإنزجار لتقيد العرب بحرمة القتال في الأشهر الحرم وعندما رآى أفراد القافلة عكاشة حالقاً رأسه أطمأنوا .
(وَقَالُوا عُمّارٌ لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ) ( ), أي أنهم قدموا مكة لأداء العمرة فهم في إحرام ونسك فلا ضير منهم ، وهل هذا الحلق من عمومات قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الحرب خدعة) .
الجواب لا , إنما أراد أفراد السرية إجتناب اللقاء والقتال مع أفراد القافلة لأنهم مأمورون بالرصد ومعرفة أخبار قريش حذراً من غزوهم المدينة على نحو المباغتة ، وتشاور أفراد السرية بينهم وقالوا : لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم به منكم , ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام أي أن الأولى هو إجتناب قتلهم وقتالهم , وأختلف في أوان الواقعة بخصوص ذات شهر رجب على وجهين :
الأول : وقعت هذه الواقعة في أول أيام من رجب وأفراد السرية يظنون أنه من جمادى الأخرى .
الثاني : وقعت الحادثة في آخر يوم من رجب , وهم يظنون أنهم في أول شهر شعبان .
والمختار الأول أعلاه إذ اعتذر أفراد السرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم قتلوا ابن الحضرمي عصراَ ثم رآوا هلال رجب الأصم وهو من الأشهر الحرم في المساء , إذ قالوا عند عودتهم إلى المدينة (يا رسول الله إنّا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أمسينا أم في جمادى )( ) .
ولم يستحضروا دلالة أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستطلاع والرصد على نحو التعيين والذي يدل بالدلالة التضمنية على إجتناب القتال وسفك الدماء سواء في الحل أو الحرم زماناً ومكاناً .
وهذا الإجتناب هو الأحسن لقادم الأيام , ولكن قام واقد عبد الله التميمي برمي عمرو الحضرمي بسهم فقتله , واستأسرت السرية رجلين من قافلة قريش هما :
الأول : عثمان بن عبد الله .
الثاني : الحكم بن كيسان .
وهرب الباقون ولم يدركوهم , ومن المؤرخين من يقول أن الذي هرب هو نوفل بن عبد الله , وليس جماعة , ثم حضر مع جيش المشركين في معركة الخندق فضرب بطن فرسه ليقتحم الخندق , فوقع فيه فمات هو وفرسه , وطلب المشركون جثته , وعرضوا فدية وثمناَ لإستلامها (فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خذوه فإنّه خبيث الجيفة خبيث الدية) ( ).
ليؤدب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بتسليم جثة الكافر من غير بدل أو عوض .
وقام عبد الله بن جحش بعزل خمس المال الذي استولوا عليه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وقسّم الأربعة أخماس الباقية بينه وبين أصحابه قبل أن ينزل من الله عز وجل الخمس , بقوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
وعن عكرمة عن ابن عباس (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “رغبت لكم عن غُسَالة الأيدي؛ لأن لكم من خُمْس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم”.)( ) .
ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يغزُ أحداَ وأكثر أيام المسلمين خالية من الحروب والقتال فهل يبقى ذو القربى واليتامى والمساكين من غير مؤونة إذا كان الخمس منحصراَ بغنائم الحرب , الجواب لا , والمختار عدم إنحصار الخمس بالغنائم .
ويدل الحديث أعلاه على عزوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جعل الصدقات وهي زكاة الأموال العامة رزقاً وحقاً لبني هاشم , (وعن مجاهد قال : كان آل محمد لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس)( )
فيأمر لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغنيمة في ثنايا دعوتهم للإسلام وجعله شرطاَ لأمانهم وسلامتهم , وليس هو في مقام الغزو والهجوم والعلم عند الله .
(وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : آل محمد صلى الله عليه وسلم الذين أعطوا الخمس . آل علي ، وآل عباس ، وآل جعفر ، وآل عقيل) ( ).
أي أنهم بعض من أبناء ذرية عبد المطلب , وإن وردت أخبار بشمول بني هاشم وبني عبد المطلب فيه .
(وعن جبير بن مطعم اخبره انه جاء هو وعثمان بن عفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسئلانه لما قسم فئ خيبر بين بنى هاشم وبنى المطلب فقال يارسول الله قسمت لاخواننا بنى المطلب بن عبد مناف ولم تعطنا شيئا وقرابتنا مثل قرابتهم .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انما هاشم والمطلب شئ واحد .
وقال جبير بن مطعم لم يقسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من ذلك الخمس شيئا كما قسم لبنى هاشم وبني المطلب – رواه البخاري في موضع آخر من الكتاب عن ابن بكير (وكذلك) رواه عبد الله بن المبارك عن يونس (قال البخاري) .
وعن الزهري عن سعيد بن المسيب عن جبير بن مطعم قال :لما قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سهم ذي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب مشيت انا وعثمان بن عفان .
فقلت : يا رسول الله هؤلاء اخوانك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله به منهم ارأيت اخواننا من بنى المطلب اعطيتهم وتركتنا وانما نحن وهم منك بمنزلة واحدة .
فقال : انهم لم يفارقونا في جاهلية ولا اسلام انما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد ثم شبك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه احداهما في الاخرى) ( ).
والقدر المتيقن أن هذه القسمة خاصة بغنائم خيبر وليست مطلقة لأن الصحابة التفتوا إليها , وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألون ويرجون التوسعة في توزيع الخمس لتشمل قريشاَ فبيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علة توزيع غنائم خيبر خاصة , فهي كقضية عين خاصة بواقعة مخصوصة , وعندما عاد عبد الله بن جحش وسريته إلى المدينة , ومعه الأسيران والعير وخمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبى رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ منه شيئاَ , وقال (ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام،)( ), (والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام) ( ).
تغيير أبي سفيان طريق القافلة
لم يكن إختيار أبي سفيان لقيادة قافلة قريش أمراً عرضياً أو عفوياً بل كان عن حنكة ودهاء إذ أدركت قريش ما يحيط بقوافلها من الأخطار وإحتمال تعرضها للنهب، إلى جانب شيوع أنباء بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين القبال ووصلوها إلى الشام ومعاشر التجار والبلاط فيها فإختاروه ليقوم بالتقليل من شأن معجزات النبوة وأعداد وشأن الذين دخلوا الإسلام .
وعند عودة أبي سفيان بالقافلة المحملة بالبضائع كان يكثر من السؤال عن سرايا وكتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومواضعها وحالما شعر بالخطر قام بتغيير سير القافلة .
وأخرج أحمد والبيهقي عن ابن عباس قال لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من القتلى قيل له عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس وهو أسير في وثاقه إنه لا يصلح لك .
قال : لمَ.
قال : لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أنجز لك ما وعدك ) ( ) .
ولا دليل على صدور هذا القول من العباس يومئذ ، والعباس أسير في أيدي المسلمين , وكان عبد الله بن عباس يومها صبياً صغيراً في مكة وذكر أنه لقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة وعمره ثمان سنين , ثم صار مجموع عدد الأحاديث التي رواها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو (1696) ولا بد أنه روي عن صحابة آخرين , وذكر وقائع لم يحضرها .
وكثير من أحاديثه من مراسيل الصحابة التي قيل هي كالمتصلة , أي أن الصحابي الذي يروي عن صحابي آخر تكون روايته كالمتصلة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ,.
ولم يرد مثل هذا الخبر عن أهل البيت والصحابة الذين كانوا مع النبي يومئذ وهم نحو ثلاثمائة حتى مع إسقاط عدد الشهداء يومئذ ، وعددهم أربعة عشر .
ولم يرد عن العباس نفسه والذي توفي سنة 32هجرية وعمره ثمان وثمانون سنة وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو أربعين حديثاً , وله أحاديث في صحيح مسلم , وحديث واحد في صحيح البخاري .
(عن الأحنف بن قيس ، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، قال : كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء إذ مرت سحابة فنظر إليها فقال لهم : « هل تدرون ما اسم هذه ؟ قالوا : نعم ، هذه السحاب . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والمزن ( )قالوا : والمزن . قال : « والعنانة .
ثم قال : « تدرون ما بين السماء والأرض ؟ قالوا : لا . قال : « فإن بعد ما بينهما إما واحدا أو اثنين وإما ثلاثا وسبعين سنة ، والسماء فوقها كذلك , والله فوق ذلك ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء وفي السماء السابعة ثمانية أوعال( ) بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء) ( ) .
ثم أن قافلة أبي سفيان يوم بدر وصلت إلى مكة ، إذ أن أبا سفيان كان يجد السير في الليل والنهار , وأرسل رسالة جيش المشركين ، وطلب لهم بالعودة إلى مكة , ووصلهم رسوله وهم بالجحفة التي تبعد عن مكة نحو (183)كم أي أنهم قطعوا مثلها تقريباً وكانوا قد قطعوا المسافة بين مكة والجحفة بعدة ليالِِ ثم وصلوا إلى موضع معركة بدر .
وحتى لو كان أبو سفيان أرسل رسالة العودة لهم وهو في الطريق إلى مكة ، ولم يصلها بعد فانه وصلها قبل أن يصل جيش المشركين إلى موضع بدر ، وقبل وقوع المعركة.
لقد كانت قافلة أبي سفيان تسير في الجادة العامة والطريق المتعارف بين الشام ومكة ، والذي يمر على ماء بدر ، وكان القاطنون على الماء ينتظرون قدوم القافلة لبيع الطعام والألبان وبعض البضائع عليهم ، إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بعث عيناً لإستطلاع الحال وهما :
الأول : عدي بن أبي الزغباء .
الثاني : بسبس بن عمرو.
فسارا حتى وصلا إلى ماء بدر بلحاظ أنه مجمع ومنزل للقوافل ، تحتاج إليه للتزود بالماء لأرباب القافلة والحمالين والإبل خصوصاً وأن عددها ألف بعير محملة بالذهب والفضة وبضائع أخرى .
ونزل عدي وبسبس قريباً من ماء بدر ، وأخذا شناً وهو وعاء وقربة لملئه بالماء .
وكان مجدي بن عمرو الجهني على الماء ، وهو الذي حجز في شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة بين سرية حمزة بن عبد المطلب ومعه ثلاثون رجلاً من المهاجرين وبين عير لقريش جاءت من الشام بصحبة وحماية ثلاثمائة رجل برئاسة أبي جهل إذ التقوا عند سيف البحر من ناحية العيص واصطفوا للقتال ، فمشى بينهم مجدي هذا ، وكان موادعاً وحليفاَ للفريقين فلم يقع قتال ( ).
وتقدم عدي وبسبس نحو الماء فشاهدا جاريتين عنده تتلازمان إحداهما تطالب الأخرى بدَين لها ، فقالت الملزومة لصاحبتها : إنما تأتي العير غداً أو بعد ، فاعمل لهم ثم أقضيك الذي لك , أي أوفي دينك الذي عليّ , (فقال مجدي صدقت ثم خلص بينهما) ( ), أي أنه فرّق بينهما , وكأن قوله وتفريقه بينهما هذا نوع حكم وقضاء لصدق خبر قدوم قافلة أبي سفيان.
وفيه مسألة وهي أن البيوت والقبائل التي على طريق قوافل قريش تنتفع منها ،وهو من أسباب إمتناع الأعراب والقبائل عن الهجوم والإغارة على هذه القوافل ، فسمع عدي وبسبس اللذين بعثهما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإستطلاع كلام الفتاتين ، وعلما بموعد وأوان وصول قافلة أبي سفيان ، فركبا بعيريهما وانطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبراه بما سمعا ( ).
وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساعتئذ بالمدينة أم في الطريق إلى بدر ، الجواب أنه كان خارج المدينة مع أصحابه الذين حضروا فيما بعد معركة بدر .
ثم جاءت العير وهي تريد أن تتوجه نحو ماء بدر وكأنها تتعجل الوصول إلى ماء بدر لقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه ، مع أنها قد ارتوت من الماء بالأمس ، وقد باتوا من وراء بدر على أن يصبحوا ببدر فضربوا الإبل بالعقل .
وتقدم أبو سفيان قبل القافلة نحو بدر ليستكشف الأمر وهو في حال حيطة وحذر ، فرآى مجدي بن عمرو الجهني لا يزال عند الماء فسأله :
هل أحسست أحدا ؟
قال مجدي : ما رأيت أحداَ أنكره سوى راكبين (أي عدي وبسبس) قد أناخا إلى هذا التل ثم استقيا وانطلقا ، فأتى أبو سفيان مناخ بعيريهما ، فأخذ من أبعارهما ، (ففتته فاذا فيه النوى ، فقال : هذه والله علائف يثرب) ( ), لكثرة التمر في يثرب ، وإتخاذه علفاً للحيوانات .
وتبذل الدول الأموال الطائلة على رصد تحركات العدو ومسار سراياه , وأعداد أفراده وأسلحته , وهذا الرصد مصاحب لحال الناس في قتالهم وإن اختلفت الكيفية , فيسأل أبو سفيان من كان على الماء ليخبره بالذي حضر إلى الماء فلا بد للمسافر أن يمر على ماء بدر ويتزود منه الماء ليخبره عن قدوم راكبين فيأتي إلى أبعار بعيريهما , فيقتته بيده ليعلم البلد الذي جاء منه , ولو عمل هذان العين التورية وأطعما بعيريهما الشعير حتى اعتادوا عليه فهل فيه تورية .
الجواب نعم , مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يمل إلى الخدعة في التورية , للتعرض لقافلة أبي سفيان ويوم معركة بدر طلب رؤساء المشركين من عمير بن وهب الجمحي أن يحزر لهم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فجال بفرسه حول العسكر , وأخذ يخمن عددهم , فرجع وقال , ثلاثمائة رجل أو يزيدون قليلاً , لبيان أنه ليس معهم نسوة .
ثم سأل الإمهال ليضرب في الوادي وينظر هل من مدد للمسلمين فلم يرَ شيئاً , ولم يكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في تجاهل أو عزوف عن معرفة أحوال جيش المشركين , فكما بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدي بن أبي الزغباء وبسبس بن عمرو سرية استطلاع أمامه .
فأدرك أبو سفيان أن الراكبين عيناً وسرية استطلاع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرجع أبو سفيان إلى أصحابه سريعاً إلى القافلة واستنهضهم ، وقام بتغيير مسار القافلة فأتخذ الساحل ، ولم تمر القافلة على بدر وصار يسير في الليل والنهار خشية الطلب ، مما يدل على أن القافلة اتخذت طريقاً آخر إلى مكة .
وصارت بمأمن وبعيدة وبمنآى عن لقاء جيش المسلمين ، ويدل عليه أنه (أَرْسَلَ إلَى قُرَيْشٍ قَيْسَ بْنَ امْرِئِ الْقَيْسِ – وَكَانَ مَعَ أَصْحَابِ الْعِيرِ خَرَجَ مَعَهُمْ مِنْ مَكّةَ – فَأَرْسَلَهُ أَبُو سُفْيَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالرّجُوعِ وَيَقُولُ قَدْ نَجَتْ عِيرُكُمْ فَلَا تُجْزِرُوا أَنْفُسَكُمْ أَهْلَ يَثْرِبَ، فَلَا حَاجَةَ لَكُمْ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ إنّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَقَدْ نَجّاهَا اللّهُ. فَإِنْ أَبَوْا عَلَيْك، فَلَا يَأْبَوْنَ خَصْلَةً وَاحِدَةً يَرُدّونَ الْقِيَانَ فَإِنّ الْحَرْبَ إذَا أَكَلَتْ نَكَلَتْ. فَعَالَجَ قُرَيْشًا وَأَبَتْ الرّجُوعَ وَقَالُوا: أَمّا الْقِيَانُ فَسَنَرُدّهُنّ فَرَدّوهُنّ مِنْ الْجُحْفَةِ) ( ), أي أن قريشاً عزموا مع علمهم بنجاة القافلة .
والقيان( ), هن :
الأولى : سارة مولاة أبي جهل عمرو بن هشام .
الثانية :مولاة لأمية بن خلف .
الثالثة : عزة وهي مولاة للأسود بن المطلب .
وقال أبو جهل لا نرجع حتى نرد بدراً ، وكان موضع بدر معروفاً عند العرب فهو موسم من مواسم العرب في الجاهلية ، يجتمعون فيه ، ولهم فيه سوق ، ولكن أوان معركة بدر كان في شهر رمضان ، وليس من سوق فيها ، ومع هذا أراد أبو جهل أن يسمع العرب وهم بمدنهم وقراهم بمسيرهم إلى بدر لإرهاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وفيه دلالة على أمور :
الأول : إصرار قريش على عدم دخول الإسلام .
الثاني : بيان حقيقة وهي أن مشركي قريش أكثر عدداً من المسلمين .
الثالث : ترهيب أهل القرى ومنعهم من دخول الإسلام .
الرابع : تحذير يهود المدينة من التعاون وإمضاء العقود والعهود مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : إرادة تجديد هيبة العرب لقريش ورجالاتها .
السادس : المقصود من وصول قريش إلى بدر سلامة قوافل قريش في مسيرها , وإنذار الناس عموماً من التعدي عليها أو سلبها ، فالذي يحتمل قيامهم بالإغارة على قوافل قريش أفراد ، فأظهرت قريش أنها تسير نحوهم بالف رجل بين فارس وراكب مع إظهار حقيقة وهي أنهم نفروا على عجل وفي ثلاثة أيام .
السابع : إنذار المسلمين وحلفائهم بأن قريشاً قادرة على الإستيلاء على الماء ومنعهم من الوصول إليه باستحواذهم على ماء بدر وغيره ، وقد سعت قريش عشية معركة بدر لمنع المسلمين من الماء .
أسماء معركة بدر
لقد كانت معركة الأولى في تاريخ الإسلام , وورد ذكرها في القرآن بالاسم كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ), وتسمى هذه المعركة بعدة أسماء :
الأول : غزوة بدر , وكأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي غزا المشركين في عقر دارهم .
الثاني : غزوة بدر الكبرى لموضوعيتها وشأنها , ووقوع القتال وتحقق النصر فيها للمسلمين .
الثالث : بدر القتال , للتمييز بينها وبين كتيبة سفوان إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في شهر ربيع الأول في السنة الثانية للهجرة خلف كرز بن جابر الفهري الذي أغار على أطراف المدينة والأنعام التي تسرح خارجها , أي كان بين بدر الأولى ومعركة بدر نحو ثلاثة أشهر , ولم يقع في معركة بدر الأولى قتال .
فلم يدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم كرز بن جابر قبل أن يدخل الإسلام .
الرابع : غزوة بدر العظمى( ), لشأنها ومنزلتها في التاريخ , والنصر العظيم فيها للمسلمين , وللتميز فيها وبين بدر الآخرة والتي تسمى أيضاً بدر الصغرى , وبدر الثانية , وبدر الموعد , لأن أبا سفيان لما إنصرف هو وجيش المشركين من معركة أحد (نَادَى : إنّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْقَابِلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِرَجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ قُلْ نَعَمْ هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدٌ) ( ).
وكما كانت بدر سوقاً , تعقد في شهر شعبان من كل سنة للتجارة , يقيم فيها الباعة والتجار ثمانية أيام , فتخلف ابو سفيان عن الموعد بدعوى أنه عام جدب , وحضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه وأقاموا ببدر, لا يشاركهم في تجارتها أحد من مشركي قريش يومئذ .
ليكون حضورهم هذا من الشكر لله عز وجل على نعمة النصر في معركة بدر قبله لسنتين والتي أصرّ ابو جهل وأصحابه على الوصول إليها والإقامة فيها ثلاثاً لترهبهم العرب , وتخشى جانبهم , وتمتنع عن الهجوم على قوافلهم , فلما رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المحل تناجوا للقتال , وتقدموا لمبارزة , فأخزاهم الله عز وجل بالهزيمة النكراء وسقط الذين أبوا إلا القتال منهم صرعى في المعركة .
الخامس : يوم الفرقان لتسميتها في القرآن بهذا الاسم , قال تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
السادس : معركة بدر , نسبة إلى ماء وبئر بدر الذي وقعت عنده المعركة ومنطقة القتال , وكان رجل اسمه بدر من قبيلة غفار وهو الذي حفرها .
قال الشعبي (كانت بدر بئر رجل يقال له بدر فسميت باسم صاحبها. قال الواقدي : ذكرت قول (الشعبي) لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا : فلأي شيء سميت الصفراء؟
ولأي شيء سميت الجار؟
هذا ليس بشيء،
إنما هو اسم الموضع. قال : وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري فقال : سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون هو ماؤنا ومنزلنا،
وما ملكه قط أحد غيرنا،
وما هو وهؤلاء من بلاد جهينة،
إنما هو من بلاد غفارة) ( ).
ولا ملازمة بين علة تسمية بئر مخصوصة وبين تسمية موضع .
والمراد من الجار أعلاه هو ميناء على البحر الأحمر بالقرب من ينبع وكان عامراً في صدر الإسلام ، وكانت السفن ترفاً إليه قادمة من أرض الحبشة ومصر والصين .
وضعف ميناء الجار في القرن الهجري عند إضطراب الأمن ،ويقع الجار على مسافة (10)كم من مدينة الرايس التي تبعد عن المدينة (170)كم من جهة الغرب .
وفي القرن السابع تحول فرض المدينة إلى ينبع والذي يبعد عن المدينة مسافة (220)كم وسمي ينبع لكثرة الينابيع فيه .
وكما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص جبل أحد لما بدا له (ان أحدا هذا جبل يحبنا ونحبه) ( ).
فإن ماء بدر موضع يحبه المسلمون شرّفه الله عز وجل بالذكر في القرآن بالاسم ليكون معلماً وتذكيراَ للمسلمين بفضل الله عز وجل عليهم , وشاهداً على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز المشركين يومئذ ولم يطلب القتال ولم يقصده .
وفيه دعوة للناس لإجتناب قتال النبوة والتنزيل , ولما فيها من الفضل والتمييز بين الإيمان والكفر , قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
وقد ورد لفظ (الْفُرْقَانِ) في القرآن ست مرات وليس فيه (يَوْمَ الْفُرْقَانِ) إلا في الآية أعلاه إذ جاء اسماء للقرآن ولما آتى الله عز وجل موسى وهارون كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
وتسمى معركة بدر للمعان السيوف ووقوع القتال فيها , مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرجو أن ينصرف المشركون من دون قتال , وتدل كثرة اسماء الذات أو الواقعة على أهمية وشأن المسمى , وقد تفضل الله عز وجل بكثرة اسمائه , وكل اسم له معنى ودلالة ومنافع للخلائق في النشأتين .
وعن ابن عباس (وابن عمر قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة غير واحد ، من أحصاها دخل الجنة)( ), وصنفت كتب متعددة بخصوص اسماء الله عز وجل , وأخرى باسماء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومنهم من أوصل اسماءه صلى الله عليه وآله وسلم إلى ثلاثمائة اسم بلحاظ الصفات المذكورة في القرآن , والذي اشكل في المقام قال أنها صفات وليست أسماء , منها :
الأول : النبي الأمي .
الثاني : خاتم النبيين .
الثالث : المجتبى .
الرابع : أبو القاسم .
الخامس : صاحب الفضيلة .
السادس : صاحب المقام المحمود .
السابع : سيد ولد آدم .
قانون التقوى واقية من حسد الكفار
قال تعالى [وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ] ( ).
الحسد آفة صاحبت بدايات خلق الإنسان ، وأول ذنب في السماء هو الحسد ,فقد حسد ابليس آدم لما آتاه الله من الكرامة والنفخ من روح الله إذ تفضل الله وأخبر الملائكة عن صيرورة آدم [فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) وأقام الله الحجة عليهم بأهليته لهذه الخلافة , لبيان قانون وهو دخول الملائكة في متعلق الحجة في قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( )إذ يتفضل الله باقامة الحجة على الخلائق كلها .
ثم أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم , فامتنع ابليس عن السجود لآدم حسداً , وقال [قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ] ( ).
وهل من موضوعية لحسد إبليس لآدم في أكله وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عز وجل عنها ، الجواب نعم , وقد ذكر القرآن سبب الأكل وأنه تم باغواء من ابليس ، وهو من رشحات الحسد , قال تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ] ( ).
وهو لا يتعارض مع القول أن حسد إبليس لآدم أخرجه من الجنة
وأول ذنب وجناية في الأرض بسبب الحسد إذ قتل قابيل بن آدم أخاه هابيل ،وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (لا تقتل نفس مسلمة ظلماً إلاّ كان على ابن آدم (الأوّل) كفل من دمه،
لأنه أوّل من سنّ القتل) ( ) .
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري في قوله تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ] ( ) أنها (ليسا لصلبه ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل) ( ).
ولكنه خلاف ظاهر الآية والنصوص والإجماع ،ولا يجهل بنو إسرائيل الدفن حتى يقتدي بعضهم بالغراب في قوله تعالى [فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ] ( ) إنما كان يتباريان بالتحنث والتطوع والقربة إلى الله .
وكان قابيل صاحب زرع فتقرب بادنى وأردئ ما عنده ، أما هابيل فكان صاحب غنم ، فعمد إلى أفضل كباشه فقربه ثم قاما يصليان ويسجدان لله رجاء قبول قربانهما بنزول نار تأكلهما فنزلت النار ولم تحرق أو تأكل أياً منهما ، إنما أخذت كبش هابيل ورفعته إلى السماء وسترته عن العيون وتركت زرع قابيل في دلالة على عدم قبوله .
و(قال سعيد بن جبير وغيره : فكان ذلك الكبش يرتع في الجنة حتى أهبط إلى إبراهيم في فداء ابنه ، قال سائقوا هذا القصص ، فحسد قابيل هابيل وقال له : أتمشي على الأرض يراك الناس أفضل مني؟ وكان قابيل أسن ولد آدم .
وروي أن آدم سافر إلى مكة ليرى الكعبة وترك قابيل وصياً على بنيه فجرت هذه القصة في غيابه ، وروى جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود : أن سبب هذا التقريب أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى فكان الذكر يزوج أنثى البطن الآخر ، ولا تحل له أخته توأمته ، فولدت مع قابيل أخت جميلة ، ومع هابيل أخت ليست كذلك .
فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل : أنا أحق بأختي ، فأمره آدم فلم يأتمر ، فاتفقوا على التقريب ، وروي أن آدم حضر ذلك فتقبل قربان هابيل ووجب أن يأخذ أخت قابيل ، فحينئذ قال له { لأقتلنك } ( ) .
وقوله هابيل : { إنما يتقبل الله من المتقين }( )كلام قبله محذوف تقديره ولِمَ تقتلني وأنا لم أجنِ شيئاً ولا ذنب لي في قبول الله قرباني؟ أما إني اتقيته وكنت على الحق . و { إنما يتقبل الله من المتقين } ) ( ).
لبيان كيف يؤدي الحسد بصاحبه إلى البطش والإنتقام ، فجاء حكم القصاص في الإسلام لمنع التمادي في الحسد ، واستحواذه على الجوارح ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) .
(وقال معاوية بن عمار : سألت الصادق عليه سلام اللّه عن آدم (عليه السلام) أكان زوّج ابنته من ابنه،
فقال : معاذ اللّه والله لو فعل ذلك آدم ما رغب عنه رسول اللّه {صلى الله عليه وسلم} وما كان دين آدم إلاّ دين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم} إنّ اللّه تبارك تعالى لما نزل آدم وحواء إلى الأرض وجمع بينهما ولدت حوّاء بنتاً وسمّاها ليوذا فبغت وهي أوّل من بغت على وجه الأرض فسلّط اللّه عليها من قتلها فولدت لآدم على أثرها قابيل .
ثم ولد له هابيل، فلما أدرك قابيل أظهر اللّه جنية من ولد الجان يقال لها جهانة في صورة إنسية وأوحى اللّه تعالى إلى آدم (عليه السلام) أن زوجها من قابيل فزوجها منه فلما أدرك هابيل أهبط اللّه تعالى حوراء إلى آدم (عليه السلام) في صورة إنسية وخلق لها رحماً وكان اسمها نزلة،فلما نظر إليها قابيل ومقها( ).
وأوحى اللّه تعالى إلى آدم (عليه السلام) أن زوّج نزلة من هابيل، ففعل ذلك.
فقال قابيل له : ألست أكبر من أخي وأحق بما فعلت به منه. فقال له آدم : يا بني إنّ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء.فقال : لا ولكنّك آثرته عليّ بهواك. فقال له آدم : إن كنت تريد أن تعلم ذلك فقرّبا قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أولى بالفضل من صاحبه.
قالوا : وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت نار من السماء فأكلتها.وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكلتها الطير والسباع،
فخرجا ليقرّبا وكان قابيل صاحب زرع وقرّب حبرة من طعام من أردى زرع وأضمر في نفسه : ما أبالي أيقبل مني أم لا لأتزوج أختي أبداً،
وكان هابيل راعياً صاحب ماشية فقرّب حملاً سميناً من بين غنمه ولبناً وزبداً وأضمر في نفسه الرضا للّه عز وجل) ( ).
وقيل الحسد تمني زوال نعمة المحسود ، وهو أعم من هذا المعنى فيشمل استغراب وجود نعمة عند شخص واستكبارها عنده , وكراهية استدامتها عليه .
وقد يوقع الحسد صاحبه بالغيبة والنميمة والإفتراء , ويكون سبباً للضغائن , لذا فهو مبغوض بالذات والأثر )
(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) ( ).
وهناك العائن الذي يصيب بعينه , والنسبة بين الحاسد وبينه عموم وخصوص مطلق ( )، والعائن فرد قليل ، وفيه دلالة على الصلة بين الروح والعين , وكأن تياراً مغناطيسياً يجري بسرعة الصوت يتوجه من العين إلى ذات الشئ الذي يتوجه إليه , ويمكن كبحه وقهره , ومنع أثره بالذكر والتسبيح من جهات :
الأولى : الذكر والتسبيح من ذات العاين الذي يحس بضرر عينه على غيره ، والأولى له تلاوة القرآن خصوصاً الآيات والسور التي تطرد العين كالمعوذتين .
و(عن عبد الله بن عامر قال: انطلق عامر بن ربيعة وسهل بن حنيف يريدان الغسل، قال: فانطلقا يلتمسان الخمرَ -قال: فوضع عامر جُبَّة كانت عليه من صوف، فنظرت إليه فأصبته بعيني فنزل الماء يغتسل .
قال : فسمعت له في الماء فرقعة، فأتيته فناديته ثلاثا فلم يجبني. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته. قال: فجاء يمشي فخاض الماء كأني أنظر إلى بياض ساقيه .
قال : فضرب صدره بيده ثم قال: “اللهم اصرف عنه حرها وبردها ووصبها”. قال: فقام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا رأى أحدكم من أخيه، أو من نفسه أو من ماله، ما يعجبه، فَليُبَرِّك، فإن العين حق”)( ).
وعلى العاين التفقه في الدين وأخذ الحائطة من إضراره بالناس بسبب عينه وحسده ، (وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : المؤمن يغبط والمنافق يحسد) ( ).
(عن الربيع بن أنس قال : مكتوب في الكتاب الأول ، أن الحاسد لا يضر بحسده إلا نفسه ، ليس ضاراً من حسد . وإن الحاسد ينقصه حسده ، وإن المحسود إذا صبر ، نجاه الله بصبره؛ لأن الله يقول { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين })( ) .
الثانية : الذي يدرك أن العين تصيبه لنعمة عنده يتمنى بعضهم زوالها عنه ، فعليه أن يحترز بالقرآن والشكر لله على النعم والأدعية المخصوصة والإستعانة بالكتمان في إنجاز الأعمال .
الثالثة : عامة المسلمين باللجوء إلى الإستعاذة الشخصية والعامة , وبالإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان يعوذ الحسن والحسين ويقول (أعيذكما بكلمات الله التامّة ، من كل عين لامّة ، ومن كل شيطان وهّامة) ( ).
وقد يتم نماء ضرر العين بالتمرين والإلحاح والجوع مع الخبث و القصد ، وقد تفسرها بعض مراكز الأبحاث تفسيراً علمياً خاصة مع أجهزة الرصد الدقيقة في التكنولوجيا المتطورة في هذا الزمان .
وقد يسأل بعضهم بصيغة السؤال الإنكاري كيف يؤثر النظر والسمع على الشئ والإضرار به من غير لمس وسبب مادي ، والجواب أنه من ضروب الإبتلاء في الدنيا ، والتفاعل بين النفوس والأشياء .
وقد تبيّن هذا الأمر ولو على نحو نادر في علم الباراسايكولوجي ، وهو ما وراء علم النفس ، ويسمى علم النفس الموازي , وما يتعلق بالأمور الخارقة وما فيه تأثير على الأجسام الفيزيائية دون فعل مادي ظاهر , أو لمس ومس ونحوه .
ومنه كان شاب ينظر إلى علبة الكبريت فتتحرك , وينظر إلى البيضة فينفصل بياضها عن صفارها ، وقد يكون الحسد بسبب بغضاء ونفرة وعداوة أو ليس له سبب شخصي ، ولكنه يؤدي إلى البغضاء والخصومة والنفرة .
وذكر الحسد في القرآن في آيات منها ما ذكر فيها بالاسم كما في قوله تعالى [وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ] ( )والإستعاذة من الحسد هي استعاذة من العائن أيضاً لأن العين فرع الحسد .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم استعيذوا بالله من العين فان العين حق ) .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (العين حق ولو كان سابق القدر سبقته العين) ( ) وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث (وإذا اغْتُسلتم فاغسلوا) ( ) ،أي إذا طلب من أحدهم الإغتسال لأن عينه أصابت آخر , فيقوم هذا المعيون بأخذ ماء غسيل العاين فيصب منه على رأسه وظهره من خلفه , ويكفىء القدح وراء ظهره لصرف العين .
وهل هذا الإغتسال واجب خاصة مع الأذى الشديد , أو مع وجود ظن بأن السبب للمرض هو العاين , الجواب إنه مستحب إلا أن يشرف المعيون على الهلاك أو تكون أمارة وشواهد بان العاين هو السبب فيجب حينئذ. لبيان سرعة العين في الإتلاف .
وليس من حصر للموضوع والجنس الذي تؤثر فيه العين وهي تصيب الكبار والصغار ، وأثرها بالأطفال أكثر , وتتلف الزرع ، وتهلك الدواب ، وتضعف الذكاء ، وقد تذهب بالصحة والعافية ولو إلى ساعات أو أيام ، ولا يجوز التسليم للحسد أو اليأس بل لابد من الدعاء والإستعاذة .
وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعوذ من الجان بقراءة القرآن , وكان يعوذ الحسن والحسين (عن علقمة، عن عبد الله، وعن ابن عمر قال: كل واحد منا كنا جلوسا عند رسول الله إذ مر به الحسن والحسين وهما صبيان
فقال : هات ابني أعوذهما بما عوذ به إبراهيم ابنيه إسماعيل وإسحاق فقال: أعيذكما
بكلمات الله التامة، من كل عين لامة، ومن كل شيطان وهامة) ( ).
ومن إعجاز القرآن الغيري أن كل آية منه حرب على الحسد ومنع من أن يكون قارئها حاسداً أو محسوداً , وفيه زجر عن الحسد , لتكون آيات القرآن واقية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من آفة الحسد , وتأديباً لهم , وبشارة بتوالي النعم عليهم .
وطرد الحسد مقدمة لأداء الفرائض والعبادات , وهو من أسرار وجوب قراءة كل مسلم ومسلمة آيات من القرآن في الصلاة اليومية .
وقيل أن بعض الحيوانات إذا نظرت للإنسان قد تصيبه كما في بعض الأفاعي ، وعن ابن عباس في بعض الكلاب (اذا غشيتكم فالقوا لها بشئ فان لها أنفساً يعني أعينا).
والحسد من وجوه الإبتلاء والإمتحان في الدنيا ، وصرفه أمر سهل ويسير بأحد أمور :
الأول : الدعاء .
الثاني : الإستعاذة بالله .
الثالث : قراءة القرآن والآيات الخاصة بصرف الحسد .
الرابع : الصدقة , والإنفاق في سبيل الله .
وفي قوله تعالى [وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ] ( ), قال بعضهم أن الميت لم يقل لولا أخرتني كي أصلي أو أصوم أو أحج إنما ذكر الصدقة .
والجواب إنما ذكر هذه الفرائض بقوله [وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ] ( ) كما أن المراد من الصدقة المعنى الأعم بدفع الزكاة الواجبة والمستحبة والخمس ، والصدقة ببذل الجهد في طاعة الله , وأداء كل من :
الأول : الواجبات البدنية من الصلاة والصوم , وبذل الجهد في طاعة الله عز وجل .
الثاني : الواجبات المالية من الزكاة والخمس .
الثالث : الواجبات البدنية المالية وهو الحج .
والناس في الحسد وعدمه على أقسام :
الأول : الذي يحسد غيره ولا يحسده أحد .
الثاني : الذي يحسد غيره ويحسده الناس .
الثالث : الذي يحسده غيره وهو يحسد الناس .
الرابع : الذي يحسد أحياناً وأحياناً لا يحسد .
الخامس : السالم من أثر الحسد فلا يحسد أحداً ولا يحسده غيره ، وهو المستجير بالله ، العائذ به ، الذي يتخذ التقوى جلباباً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( )في قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
السادس : الذي يحسده غيره في بعض أحواله أو أحوالهم.
ويتجلى في باب العين الحاجة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وإلى الأخلاق الحميدة ,إذ يحارب الحسد بحسن الخلق والرضا بما قسمه الله عز وجل , ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية أداء المسلمين الصلاة وهي واقية عبادية يومية متجددة من الحسد , فعلاً وأثراً , حاسداً أو محسوداً .
وفي الوقوف بخضوع وخشوع بين يدي الله عز وجل إنصراف عن الحسد وانشغال عنه , فلا يكون الخاشع لله عز وجل حاسداً , كما إنه واقية من الحسد لما فيه حال المسكنة والرق والعبودية , وهل وصف المسلمين بالذلة والضعف قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ), حرز وواقية من الحسد , الجواب نعم .
وكان النصر سبباً لتوجه الحاسدين إليهم لولا فضل الله عز جل , ومن نسبة نصر المسلمين في معركة بدر إلى الله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
لتكون هذه النسبة عصمة من الحسد ويتلو كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة على نحوالوجوب العيني , وكل آية أمن من الحسد .
وبلحاظ عنوان هذا البحث يكون تقدير آية ( ببدر ) على وجوه:
الأول : فاتقوا الله إحترازا من الحسد .
الثاني : فاتقوا الله لنجاتكم من الحسد , فقد يجلب الحسد الإرباك وسوء الإختيار والهزيمة .
الثالث :فاتقوا الله يحببكم الله , وينجيكم من حسد الكفار .
وأصاب الأنبياء حسد قومهم واقترن هذا الحسد بالأذى ، لولا ان منّ الله عز وجل عليهم بصرف هذا الحسد , ومنهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما أن بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وصار يدعو الناس إلى التوحيد وأدركت قريش أنها النبوة والإمامة والرياسة العامة بين الناس له والسيادة والعز لبني هاشم من بين رجالات قريش .
حتى امتلأت قلوبهم بالحسد والغيظ , ولم يقفوا عنده هذه الكيفية النفسانية بل تآمروا علانية لقتله , فغادر مكة مكرهاً فجهزوا الجيوش لمحاربته , لتتجلى معجزات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : إتفاق قريش على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : قانون نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكر قريش وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] ( ).
الثالث : قانون تسخير وتحريض قريش الأعراب لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : توظيف قريش نعمة رحلة الشتاء والصيف وأموالها وأرباحها ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه والتنزيل .
الخامس : قانون وقاية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من شرور الحسد .
لقد كان الناس في أيام ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتطلعون إلى النبي الخاتم الذي بشر به عيسى عليه السلام ، وتوارث البشارة به علماء اليهود والنصارى .
وحينما بعث الله عز وجل النبي محمداً جحد بنبوته أغلب رؤساء قريش وأرادوا أن تكون النبوة لغيره , وفي التنزيل [وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ] ( ) .
وهناك مسائل :
المسألة الأولى : هل من موضوعية للحسد في غزو قبائل العرب بعضهم لبعضه .
المسألة الثانية : أثر الحسد كسبب في غزو وقتال المشركين للمسلمين .
المسألة الثالثة : منافع بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وضع الحسد عن الناس .
أما المسألة الأولى فالحسد حاضر في الخصومة بين القبائل , لبيان أنه مذموم بذاته وأثره على الذات والغير , فيكون الحسد سبباً في سفك الدماء , ونهب الأموال .
وأما المسألة الثانية فإن الكفار حسدوا المهاجرين والأنصار لمبادرتهم إلى الإسلام وتلقيهم الأوامر والنواهي وخطابات الشارع بالقبول والإمتثال ,
ودلالة هذه المبادرة على سلامة نفوسهم من آفة الحسد , هذه الداء والكيفية النفسانية التي لم يستطع الذين كفروا قهرها فظهر قبح الحسد على أقوالهم وأفعالهم ,وتناجوا بالجحود والصدود والذي كان على مراتب وهي :
الأولى : إنكار بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ورميه بالسحر .
الثانية : الإستهزاء بالآيات القرآنية التي نزلت في بدايات الدعوة النبوية وقبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة والتصفيق والصفير عند تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها .
الثالثة : صدّ الناس عن الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : إيذاء وتعذيب الذين آمنوا من أهل مكة .
الخامسة : حصار بني هاشم في شعب أبي طالب .
السادسة : تشاور رؤساء الكفر في الكيفية التي يمنعون بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التبليغ والدعوة , وبعد أن انتشر وفشى الإسلام في مكة ودخل بيوتاتها , توجه رؤساء الكفر إلى أبي طالب عم النبي يطلبون منه إيقاف التبليغ والدعوة , حيث كان جواب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة له , وخالياً من التقية والخشية من الذين كفروا .
وعن ابن اسحاق في حديث قال : مشى رجال من رجالات قريش (إلى أبى طالب فقالوا يا أبا طالب ان أبن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فاما أن تكفه عنا وإما أن تخلى بيننا وبينه .
فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما هو عليه يظهر دين الله ويدعو إليه ثم شرى( ) الامر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا .
واكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينها فتذامروا عليه وحض بعضهم بعضا عليه ثم انهم مشوا إلى أبى طالب مرة أخرى فقالوا يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد إستنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يملك أحد الفريقين أو كما قال ثم انصرفوا عنه فعظم على أبى طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا باسلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا خذلانه.
وذكر أن أبا طالب لما قالت له قريش هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا للذى قالوا له فابق على وعلى نفسك ولا تحملني من الامر ما لا أطيق فظن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء وأنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه .
فقال له يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الامر حتى يظهره الله وأهلك فيه ما تركته ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبكى ثم قام فلما ولى ناداه أبو طالب فقال أقبل يا ابن أخى فأقبل عليه فقال إذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشئ أبدا) ( ) .
وبخصوص قول ابن اسحاق أعلاه
(فظن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء وأنه خاذله وسلمه …) فلا دليل على هذا الظن , أو أصل موضوعه فأراد أبو طالب إقامة الحجة على الذين كفروا , وبيان قانون وهو صدق دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعثته ورسالته .
السابعة : عزم المشركين على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو سجنه أو إخراجه من مكة , ثم حصر عزيمتهم على قتله , فاختاروا عشرة من الشباب الأقوياء من قبائل شتى للإشتراك بقتله وهو في فراشه .
الثامنة : بعث الرجال في طريق هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صبيحة ليلة المبعث عندما علمت قريش بخروجه صوب جهة المدينة مع علمهم بوجود أنصار له فيها , وجعلت قريش الجوائز لمن يأتي به وصاحبه بأن تدفع له ديتهما وهي مائتا ناقة بما يعادل مائتي ألف دولار في هذا الزمان , وهو مبلغ كبير آنذاك .
وهل يدل على استعداد كفار قريش لدفع الأموال الطائلة للقبض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتله قبل أن يصل إلى المدينة يثرب ويكون عنده جيش من المهاجرين والأنصار ويلزم قريشاً بذل الأضعاف المضاعفة من الأموال لقتاله وغزو المدينة .
الجواب نعم , لقد كان رجال قريش على بينة في الجملة بالوقائع وتاريخ العرب والمعارك التي جرت بينهم , ثم وقعت شواهد عندهم .
وأما المسألة الثالثة : فإن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرب على آفة الحسد , ومناسبة وسبب لتنزيه المجتمعات منه .
ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه وسيلة سماوية لطرد الحسد , وهو من أسرار تلاوة آيات وسور القرآن في الصلاة على نحو الوجوب العيني سواء بالنسبة للمصلين أو المصليات والجهربالقراءة في صلاة الصبح والمغرب والعشاء , وجاءت سورة بالإستعاذة من الحسد إذ أختتمت سورة الفلق بقوله تعالى [وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ] ( ), وبين الإيمان والحسد تضاد وتنافر , فالإيمان واقية من الحسد بشقيه و(عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد) ( ).
فلا يكون المؤمن حاسداً , كما أن الإيمان حرز ودرع يدفع عنه حسد الغير , فإن قلت قد يكون ذات الإيمان سبباً لحسد الأخرين , الجواب نعم , كما في حسد كفار قريش لكل من :
الأول : للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ آتاه الله عز وجل النبوة من بينهم .
الثاني :حسد قريش لبني هاشم أن بعث الله عز وجل النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم من شجرتهم , وفي التنزيل [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] ( ).
الثالث : حنق وحسد كفار قريش للصحابة الذين بادروا التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتجلى حسدهم بتعذيب بعضهم , كما في تعذيبهم لبلال وعمار ووالديه ومن معاني الحسد أنه أسف على النعمة والخير الذي عند الغير ,ولأن الدعوة إلى الإسلام للناس عامة فلا أصل أو موضوع لحسد قريش للمسلمين وتجهيز الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبقاء باب الدخول في الإسلام والتحلي بالإيمان مفتوحاً للناس جميعاً .
لقد جاءت السنة النبوية ببيان القبح الذاتي للحسد .
وأضراره على صاحبه في النشأتين بما يبعث النفرة في النفوس و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) ( ), نعم للإنسان أن يغبط , وقال بعض العلماء : الحسود لا يسود , أي لا يصل إلى مراتب السيادة , ولهذا المثل قصة مع وزير الخليفة العباسي المعتصم , لذا فإن أخوة يوسف ومن أجل أن يكونوا هم الأقرب إلى أبيهم منه جعلوه في أسفل البئر, فتفضل الله عز وجل , وآتاه النبوة ورفعه على سرير الملك ’ قال تعالى [وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا] ( ).
خصائص معارك أيام النبوة
لقد امتحن الله عز وجل الأنبياء بتبليغ الوحي والتنزيل , والصبر في الدعوة إلى الله عز وجل , ومن مصاديق المعجزة الحاضرة مع كل نبي مسألتان بينهما تضاد , وهما :
الأولى : إتباع طائفة من الناس للنبي في دعوته , وتصديقهم لمعجزته .
الثانية : عداوة المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وكل طائفة منهما من الكلي المشكك في العدد والفعل , وقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكثرة أصحابه مع شدة عداوة عداوة المشركين له , وحملهم السيوف لقتله وأصحابه ليكون من مصاديق قوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) أمور :
الأول : إضطرار المسلمين للدفاع وعدم ترك الإيمان وسنته , قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) .
الثاني : إجتناب المسلمين الهجوم والغزو .
الثالث : عدم الإبتداء بالقتال حتى عندما يكون هذا الإبتداء نوع مباغتة للعدو , وسبباً بتحقيق النصر على الذين كفروا , فليس من طرف في القتال يطمئن إلى أن عدوه لا يباغته في ساعة غفلة أو ثغرة في صفوفه إلا بالنسبة لحال قتال المشركين مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنه لا يبدأ القتال , مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : الحرب خدعة , مما يدل على أن الإبتداء بالقتال ليس من الخدعة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرجو تفرق الجيش وعدم وقوع القتال .
ولو تفرق الجيشان فإن المشركين يرجعون إلى أهليهم بما سمعوه في الميدان من آيات القرآن , ونداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتوحيد (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) .
وقد ورد حديث (الحرب خدعة) في رجاء التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة الخندق , إذ جاءه نعيم بن مسعود يومئذ وقال (فقال : يا رسول الله إنّي قد أسلمت وإنَّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت،
فقال له رسول الله صلّى الله عليه : إنّما أنت فينا رجل واحد،
فخَذِّل عنّا إنْ استطعت فإنّ الحرب خدعة.
فقال لهم : إنّ قريشاً وغطفان جاءوا لحرب محمّد،
وقد ظاهرتموهم عليه،
وإنّ قريشاً وغطفان ليسوا (كهيئتكم)،
البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أنْ تحولوا عنه إلى غيره،
وإنّ قريشاً وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره،
وإنْ رأوا نهزة وغنيمة أصابوها،
وإنْ كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل،
والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إنْ خلا بكم،
فلا تقاتلوا القوم حتى تأخذوا رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أنْ يقاتلوا معكم محمّداً حتى تناجزوه،
فقالوا : لقد أشرتَ برأي ونصح. ثمّ خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : يا معشر قريش قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّداً،
وقد بلغني أمر رأيت أنَّ حقّاً عليَّ أنْ أبلّغكموه نصحاً لكم فاكتموا عليَّ. قالوا : نفعل.
قال : تعلمُون أنَّ معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا في ما بينهم وبين محمد،
وقد أرسلوا إليه،
أنْ قد ندِمنا على ما فعلنا،
فهل يرضيك عنّا أنْ نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم (فنعطيكم) فتضرب أعناقهم،
ثمّ نكون معك على من بقي منهم؟ فأرسل إليهم أنْ نَعَم،
فإن بعث إليكم اليهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً،
ثمّ خرج حتّى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحبّ الناس إليَّ ولا أراكم تتّهموني،
قالوا : صدقت،
قال : فاكتموا عليَّ قالوا : نفعل،
ثمّ قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم،
فلمّا كانت ليلة السبت في شوّال سنة خمس،
وكان ممّا صنع الله برسوله،
أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان،
فقالوا لهم : إنّا لسنا بدار مقام،
قد هلك الخف والحافر،
فاغدوا للقتال حتّى نناجز محمّداً ونفرغ ممّا بيننا وبينه.
فأرسلوا إليهم : إنّ اليوم السبت،
وهو يوم لا يُعمل فيه شيئاً،
وكان قد أحدث بعضنا فيه حدثاً فأصابه ما لم يخفَ عليكم ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّداً،
فإنّا نخشى إنْ (ضرستكم) الحرب واشتدّ عليكم القتال تسيروا إلى بلادكم،
وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمّد.
فلمّا رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة،
قالت قريش وغطفان : تعلمون والله إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ،
فأرسلوا إلى بني قريظة،
إنّا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا،
فإن كنتم تريدون القتال،
فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ،
ما يريد القوم إلاّ أنْ تقاتلوا،
فإنْ وجدوا فرصة انتهزوها،
وإنْ كان غير ذلك إنشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل في بلادكم،
فأرسلوا إلى قريش وإلى غطفان : إنّا والله لا نقاتل معكم حتّى تعطونا رهناً،
فأبوا عليهم وخذل الله بينهم،
وبعث الله تعالى عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد،
حتّى انصرفوا راجعين والحمد لله ربّ العالمين.) ( ) .
فكانت الخدعة أمرا حسناً وسبباً لفك الحصار عن المدينة , ومنع زيادة الجيوش والأحزاب من المشركين .
ومن خصائص معارك النبوة مسائل :
الأولى : حضور المعجزة , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] ( ) .
الثانية : تعدد مصاديق المعجزة الدفاعية إذ تكون على قسمين :
الأول : المعجزة الحسية , منها حال النعاس عند الصحابة , ونزول الغيث ليلة المعركة .
الثاني : المعجزة العقلية , ومنها حال الفزع الذي ملأ قلوب الكفار , ومجىء الوحي في المعركة , ونزول الآيات التي تخص المعركة , وهل هو على أقسام :
أولاً : نزول آيات من القرآن قبل المعركة بما يفيد الإخبار عن وقوعها وتثبيت قلوب المؤمنين , والبشارة بالنصر , منه قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ *وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] ( ) .
ثانياً : نزول القرآن أثناء المعركة , إذ يتغشى الوحي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الميدان , وهو من الإعجاز في نبوته لصيرورة أجنحة الملائكة واقية له ولأصحابه من سهام وسيوف المشركين .
وعن عبد الله بن عباس قال حدثنا (عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: “لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ” إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ”( )، فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلائِكَةِ”)( ) .
ثالثاً : نزول آيات من القرآن بعد المعركة بما تتعلق بموضوعها , وتوثيق المعجزات فيها , وتوكيد حقيقة إعتداء الذين كفروا وكون إصرارهم على القتال والظلم هو السبب في نشوب القتال , فنزلت بهم الخسارة واختاروا الهزيمة , ولحقهم الذل , منها قوله تعالى بخصوص معركة أحد [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ] ( ) .
ليكون هذا النعاس نوع أمنة , ولبيان قانون وهو أن الله عز وجل هو الذي يدافع عن المؤمنين ويصد الذين كفروا إذ تفضل بإنزال الملائكة لنصرتهم , قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] ( ) .
الثالث : المعجزة الحسية العقلية ومنها نزول الملائكة مددا وعونا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالثة : توثيق السنة النبوية , لوقائع القتال , وهو على وجوه .
الأول :السنة القولية , وهي ما قاله وما نطق به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص المعركة سواء قبل أو أثناء أو بعد المعركة ومنها مشاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه .
وهل الرؤيا التي يراها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص المعركة من الوحي أم من الرؤيا الصادقة , الجواب تحتمل الرؤيا النبوية الوجهين , حسب الموضوع والدلالة .
فمثلا في معركة احد وحينما نزل جيش المشركين بجوار جبل أحد والذي يبعد عن المدينة نحو خمسة كيلو متر (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إني رأيت بقراً تنحر ، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً ، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا ، فإن أقاموا بشر مقام ، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها »)( ) .
لبيان أن رؤيا النبي مدد وعون للمسلمين , وسبيل هداية لهم في ساعة الضيق ولمنع الإرباك والإختلاف والتنازع الإجتهادي في إختيار كيفية الفعل في التصدي للذين كفروا في عدوانهم .
الثاني : السنة الفعلية الخاصة بالمعارك , ومنها مانزل بها قرآن مثل قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
وقد تجتمع السنة القولية والفعلية في موضوع متحد .
فحينما وقع أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي الشاعر في الأسر عند المسلمين , وكان محتاجاً وذا بنات .
قال : (يَا رَسُولَ اللّهِ لَقَدْ عَرَفْتَ مَا لِي مِنْ مَالٍ ، وَإِنّي لَذُو حَاجَةٍ وَذُو عِيَالٍ فَامْنُنْ عَلَيّ فَمَنّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَأَخَذَ عَلَيْهِ أَلّا يُظَاهِرَ عَلَيْهِ أَحَدًا فَقَالَ أَبُو عَزّةَ فِي ذَلِكَ يَمْدَحُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيَذْكُرُ فَضْلَهُ فِي قَوْمِهِ
مَنْ مُبَلّغٌ عَنّي الرّسُولَ مُحَمّدًا … بِأَنّك حَقّ وَالْمَلِيكُ حَمِيدُ
وَأَنْتَ امْرُؤٌ تَدْعُو فِي الْحَقّ وَالْهُدَى … عَلَيْك مِنْ اللّهِ الْعَظِيمِ شَهِيدُ
وَأَنْتَ امْرُؤُ بُوّئْتَ فِينَا مَبَاءَةً … لَهَا دَرَجَاتٌ سَهْلَةٌ وَصُعُودُ
فَإِنّك مَنْ حَارَبْتَهُ لَمُحَارَبٌ … شَقِيّ وَمَنْ سَالَمَتْهُ لَسَعِيدُ
وَلَكِنْ إذَا ذُكّرْتُ بَدْرًا وَأَهْلَهُ … تَأَوّبَ مَا بِي : حَسْرَةٌ وَقُعُود) ( ) .
وأخذ عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم موثقاً على أن لا يظاهر عليه وقد دعا المسلمون عندما وقع في الأسر إلى الإسلام فقال : لا , حتى أضرب في الخزرجية يوماً إلى الليل ) , ولكن أغراه المشركون تخرج معهم في معركة أحد فقتل .
الثالث : السنة التقريرية وهي ما فعل في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسكت عنه ولم يمنعه , لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يسكت على الباطل , ومنه بخصوص معركة بدر حينما خرج فتية من الأنصار لمبارزة عتبة بن ربيعة وأخيه شيبة , وابنه الوليد بن عتبة , والذين سألوا المبارزة , فلم يمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء الفتية حينما خرجوا للمبارزة وهم :
الأول : عوف بن الحارث .
الثاني : معوذ بن الحارث , وأمهما عفراء .
الثالث : عبد الله بن رواحة .
ولكن المشركين وبعد أن تعرفوا عليهم وأنهم من الأنصار أبوا مبارزتهم و(قَالُوا : مَا لَنَا بِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ ثُمّ نَادَى مُنَادِيهِمْ يَا مُحَمّدُ أَخْرِجْ إلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ وَقُمْ يَا عَلِيّ فَلَمّا قَامُوا دَنَوْا مِنْهُمْ قَالُوا : مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالَ عُبَيْدَةُ عُبَيْدَةُ وَقَالَ حَمْزَةُ حَمْزَةُ وَقَالَ عَلِيّ : عَلِيّ ، قَالُوا : نَعَمْ أَكْفَاءٌ كِرَامٌ) ( ) .
لتتعقب السنة القولية السنة التقريرية , وتتضمن السنة القولية في المعركة الأمر والنهي وهما شعبتان من الوحي , ومن أسباب النصر ومصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
ومما تتصف به معارك أيام النبوة
الأولى : صبغة الدفاع التي كان عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثانية : قلة عدد جيش المسلمين في مقابل عدد أفراد جيش المشركين , وكانت النسبة بينهما في الغالب هي الثلث أي أن عدد المسلمين ثلث عدد المشركين في ميدان المعركة , وهو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله في ذاته ، وفي تعقب النصر له فيها .
الثالثة : النقص الظاهري في أسلحة المسلمين وفي خيامهم ورواحلهم , فكان عند المسلمين في معركة بدر فرسان فقط , وقيل فرس واحد , بينما كان مع جيش المشركين مائة فرس منها ثلاثون عند بني مخزوم وحدهم وهي عنوان القوة والمنعة وكل الخيالة يلبسون الدروع .
ومعهم أيضاً سبعمائة بعير ( ), وليس مع المسلمين سوى سبعين بعيراً كانوا يتناوبون على ركوبها في قطع مسافة مائة وخمسين كيلو متر بين المدينة وميدان معركة بدر , ومنهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن ابن مسعود : (قَالَ كُنّا نَتَعَاقَبُ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَةً عَلَى بَعِيرٍ فَكَانَ عَلِيّ وَأَبُو لُبَابَةَ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَإِذَا كَانَتْ عُقْبَتُهُ – عَلَيْهِ السّلَامُ – قَالَا لَهُ ارْكَبْ وَلْنَمْشِ عَنْك يَا رَسُولَ اللّهِ فَيَقُولُ مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى عَلَى الْمَشْيِ مِنّي ، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنْ الْأَجْرِ مِنْكُمَا) ( ).
وهل كان ذات التناوب مصاحباً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عند عودتهم من معركة بدر , الجواب لا كثرة الغنائم التي خلفها المشركون .
فمن عادة المنهزم أن يخفف عن نفسه إلى جانب كثرة قتلى المشركين ,وصيرورة رواحلهم غنائم للمسلمين , ورجوعهم من معركة بدر على الرواحل , وقد أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلاَ من زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة كلاً على راحلة , ليبشرا أهل المدينة بالنصر , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
ومن مصاديق النصر وإنقطاع الضعف والذل عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الرواحل من معركة بدر بعد أن خرجوا إليها يتناوبون على سبعين بعيراً , وكان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً. الجواب نعم لأن العودة على الرواحل أمارة على زوال الذل والذي معناه الضعف والقلة في العدد , والنقص في الرواحل .
لقد كان عدد قتلى المشركين سبعين , وأسراهم سبعين وأغلبهم من الرؤساء , إلى جانب الإبل التي كانت بصحبة جيش المشركين للمؤونة في الطريق وعند الإقامة في بدر , إذ كانوا عازمين على الإقامة فيها ثلاثة أيام يذبحون ويقيمون الولائم لتسمع بهم العرب فتهابهم , فكانت مناياهم لأنهم حاربوا الله ورسوله .
ولتكون هذه الغنائم من مصاديق الحق في قوله تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ) .
وكان الأنبياء السابقون إذا حازوا وأصحابهم غنائم جمعوها فتنزل نار فتأكلها , كما ورد (عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي من الأنبياء جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه .
ونصرت بالرعب مسيرة شهر يكون بين يدي إلى المشركين فيقذف الله الرعب في قلوبهم .
وكان النبي يبعث إلى خاصة قومه وبعثت أنا إلى الجن والإنس. وكانت الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار فتأكله وأمرت أنا أن أقسمه بين فقراء أمتي .
ولم يبق نبي إلا أعطي سؤله وأخرت أنا دعوتي شفاعة لأمتي ) ( ).
وبعد إنقضاء معركة بدر أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تجمع الغنائم في مكان واحد , ثم ساروا إلى المدينة , وفي الطريق نزل المسلمون في الصفراء فقسمت الغنائم .
وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فداء كل أسير للذي أسره يطلب فداءه من أهله أو يطلقه ليكون هذا الجعل نوع تعهد من الذين أسروهم بسلامة الأسرى والحفاظ عليهم في الطريق , وعند الوصول إلى المدينة.
الرابعة : قصر مدة المعركة , فلم تتجاوز مدة معركة بدر بضع ساعات من نهار ليتغير معها التاريخ إلى يوم القيامة , وهو من الشواهد على الآية أعلاه , فحينما قال الله عز وجل تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) فان هذا النصر وبركاته مستمرة ومتصلة ,وكذا بالنسبة لمعركة أحد , فمع أن عدد جيش المشركين ثلاثة آلاف رجل وكانت لهم جولة في المعركة فإنهم إنسحبوا في ذات يوم المعركة , إذ ألقى الله عز وجل الرعب في قلوبهم .
وهذا الرعب من الجنود في قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
لقد كانت معارك أيام النبوة كنزاً من المعجزات تقتبس منها الأجيال المواعظ والعبر ، وتكون شاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والخلق الحميد الذي يتصف به ، وكيف أن صبره وجهاده مرآة وامتداداً لسنن الأنبياء من قبله .
وهذه المعجزات من وجوه :
الأول :أسباب المعركة بجمع المشركين الجيوش وزحفهم على المدينة للقتال.
الثاني :مقدمات المعركة وهي على شعبتين :
الأولى : مناجاة الذين كفروا بالهجوم والقتال والوعيد للمؤمنين والوعد بأنهم سيقتلون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويأتون بأصحابه أسرى إلى مكة .
الثانية : إنقطاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الدعاء وأداء الفرائض ، وتلاوة القرآن والتحلي باسمى مراتب الصبر .
الثالث :التقاء الصفين والذي يدل عليه قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( )ويكون حال الجيشين فيه على شعبتين بينهما تضاد :
الأولى :مناداة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكلمة التوحيد مع امتناعه عن القتال ونهيه أصحابه عن البدء بالقتال .
الثانية : قيام المشركين برمي السهام والنبال وتقدم عدد منهم وسط الميدان للمبارزة كما في معركة بدر وأحد ، وفي معركة الخندق حدث اقتحام خيل من قريش الخندق ، وتقدم أحدهم وهو عمرو بن ود العامري وطلب المبارزة ،وهو فارس قريش ، وكان عمره تسعين سنة ، والأصل في مثل هذا العمر الميل إلى فعل الخير والتدبر في المعجزات ، ولا أقل إجتناب القتال ومحاربة النبوة .
فبارزه الإمام علي عليه السلام فقتله في آية نادرة في التأريخ وانهزمت خيل المشركين وعادوا خلف الخندق (وأقبل نوفل بن عبدالله بن المغيرة المخزومى على فرس له ليوثبه الخندق فوقع في الخندق فقتله الله وكبر ذلك على المشركين وأرسلوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام انا نعطيكم الدية على أن تدفعوه الينا فندفنه .
فرد إليهم رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه خبيث خبيث الدية فلعنه الله ولمن ديته ولا ممنعكم ان تدفنوه ولا ارب لنا في ديته، وقيل اعطوا في جثته عشرة آلاف.) ( ).
(عن ابن عباس ان رجلا من آل المغيرة قال لأقتلن محمدا فأوثب فرسه في الخندق فوقع فاندقت رقبته فقالوا يا محمد ادفعه إلينا نواريه وندفع إليك ديته فقال ذروه فإنه خبيث خبيث الدية) ( ).
وقيل أن طلب الجثة وقع بخصوص عمرو بن ود العامري ، والصحيح هو بخصوص جثة نوفل بن عبد الله المخزومي .
الرابع : نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبيل المعركة وأثناءها قولوا لا إله إلا الله وتوجهه إلى الدعاء واتخاذه سلاحاً لمنع استدامة القتال ولتحقيق النصر ،وهو من عمومات قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) .
الخامس : وقائع المعركة والآيات التي تنزل فيها وبخصوصها والتي تدعو الناس إلى الإيمان ، والإمتناع عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحث المؤمنين على الثبات في مقامات الهداية .
السادس : آيات القرآن النازلة بخصوص معارك الإسلام الأولى وسبل الموعظة والبرهان فيها ، وتجدد العلوم والمسائل المستقرأة منها في كل زمان وإلى يوم القيامة ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ) وما تتضمنه من الشواهد التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد القتال ولم يدع إليه ، وأنه كان في كل معركة يرجو عدم وقوع القتال ، وأن يمتنع الذين كفروا عنه .
قصة أبي جندل شاهد على إرادة النبي الصلح والوئام
أبو جندل هو العاص بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس القرشي العامري وابوه سهيل بن عمرو من كبار رجال قريش وخطيبها المفوه , وقد أسر في معركة بدر , وهو الذي جاء بعد أربع سنوات من أسره مندوباً عن قريش في صلح الحديبية .
أسلم ابو جندل قديماً , وقبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة , وأراد أبو جندل الهجرة أيضاً فحبسه ابوه , وقيده بالسلاسل وعذبه , مما يدل على قسوة رؤساء الكفر وإن تعذيبهم لا ينحصر بالمستضعفين من المسلمين , بل يشمل أبناء الرؤساء أنفسهم .
إن تعذيب سهيل بن عمرو لابنه وتوثيقه بالحديد بسبب إسلامه إنذار للمسلمين بوقوع معركة بدر وجريان الدم بين الفريقين .
فلم يوجه رؤساء المشركين اللوم إلى سهيل بن عمرو على حبسه وتعذيبه ابنه , مع استمرار هذا الحبس لسنوات إنما كان مشركوا مكة يحث بعضهم بعضاً على القسوة والبطش بالمؤمنين عموما .
لقد أفزعهم دخول الإسلام في بيوتهم , وهو من أسباب نعتهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالساحر , وليكون من معاني قوله تعالى [أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ] ( ), سعي قريش لصرف أبنائهم عن الإنصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتباعه والتسليم بنبوته , فهم يخبرون أبناءهم وأهل مكة ومن يفد إليها من وفد الحاج وغيرهم , ومن يلتقون به في أسفارهم أن آيات القرآن كالشعر ,وأن حوادث الدهر تأتي على النبي فيهلك , والمراد من ريب المنون حوادث الزمان , ولكن آيات القرآن تترى بما يبطل مغالطتهم , وهو من أسرار نزول القرآن على نحو التدريج .
ولم يكن أبو جندل هو الابن الوحيد لسهيل الذي حبسه فقد كان عنده ولد آخر اسمه عبد الله بن سهيل اسلم هو الآخر قديماً , وهاجر إلى الحبشة , ثم عاد إلى مكة حينما سمع المهاجرون في الحبشة بأن قريشاً اسلمت , فأخذه ابوه سهيل بن عمرو , فأوثقه وحمله على ترك الإسلام , فتظاهر عبد الله بالرجوع عن اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ] ( ) .
وعندما خرجت قريش إلى معركة بدر لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين خرج عبد الله معهم مصاحباً لأبيه , فلما التقى الجيشان , وأظهر أبو جهل وأصحابه العزم على القتال وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإبادة المسلمين يومئذ ، خاصة مع قلة عددهم وأسلحتهم بالنسبة لجيش المشركين , انتقل عبد الله بن سهيل إلى صفوف المسلمين ليكون في انتقاله هذا وانضمامه لجيش المسلمين زيادة لإيمانهم , وتثبيطاً لعزائم قريش , فهو لم يعتزل القتال , إنما إنحاز إلى جانب أخوته المهاجرين والأنصار , وهو من أسباب تشديد سهيل بن عمرو على ولده أبي جندل , ليتجلى مصداق متعدد لقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) في التعاضد والمؤازرة وما فيه تقوية القلوب .
وكانت سهلة بنت سهيل بن عمرو أخت أبي جندل ممن أسلم بمكة وهاجرت الهجرة الأولى إلى الحبشة مع زوجها أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة.
كما أسلم حاطب أخو سهيل بن عمرو وعم أبي جندل قبل دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم ، وهاجر حاطب إلى أرض الحبشة , وشهد حاطب بن عمرو معركة بدر أي أنه رآى أخاه أسيراً مثلما رآى الإمام علي عليه السلام أخاه عقيلاً أسيراً يومئذ كما شهد حاطب معركة أحد .
وكان قد نزل في هجرته إلى المدينة على رفاعة بن عبد الله المنذر أخي أبي لبابة بن عبد المنذر , وقيل إن أخاه سليط بن عمرو شهد بدراً معه , ولم يثبت .
لقد رآى سهيل بن عمرو أهل بيته يدخلون الإسلام , وكان الأولى به الإتعاظ منهم وأقام على الكفر إلى يوم الفتح فاسلم وحسن إسلامه .
ولم يكن أبو جندل وحده من الشباب المسلم في مكة الذين يعيشون حال الإضطهاد والأذى من آبائهم وعشائرهم من قريش , وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوصيهم بالصبر , نعم كل واحد منهم داعية إلى الله عز وجل وصبرهم معول لهدم بناء الأصنام وعبادتها في مكة ويحتمل عددهم كثرة وقلة في مكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً :
الأول :بقاء عدد الشباب المسلم في مكة على ما هو عليه من غير زيادة أو نقيصة .
الثاني :إزدياد عدد المسلمين في مكة بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إصابة عدد المسلمين في مكة بالنقصان التدريجي .
والصحيح هو الثاني , وهو من الإعجاز الغيري في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولم يمنع الأذى الذي يلاقيه المسلمون في مكة عامة الناس من الدخول في الإسلام , ومن الشواهد عليه أن المهاجرين بقوا يتوافدون على المدينة قبل و بعد معركة بدر وأحد , فلا يخلو أسبوع من وفود عدد من المهاجرين إلى المدينة .
وأنشأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجمع الصفة في ناحية المسجد النبوي لإيواء المهاجرين الجدد قبل أن ينتقلوا إلى سكن ومحل يأوون إليه , وكان عددهم أحياناً يصل إلى مائة , وقد تقدم البيان .
وفي صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة وبينما يكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاب الصلح مع سهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل من مكة يرسف بالحديد وتثقل حركته القيود يريد اللحاق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والنجاة من الأذى الذي هو فيه , فرمى نفسه بين أظهر المسلمين الذين أحزنهم ما رأوا وكانوا يرجون يومئذ الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فلما رآه أبوه سهيل بن عمرو قام إليه وضرب وجهه وأخذ بتلبيبه وأخذ يجره ليرده إلى قريش , ثم إلتفت سهيل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقال : هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي , إذ كتبوا في مسودة الصلح أن يرو الرجال الذين يأتون من قريش إليهم .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنا لم نقض الكتاب بعد , أي يدخل أبو جندل مع المسلمين وحينما يتم إمضاء وختم عقد الصلح يكون ملزماً , ولكن سهيل بن عمرو أخذه العناد فقال : إذاً والله لا أصالحك على شىء أبداً .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد الصلح مع قريش , وهو مستعد للقبول بالشروط لأنه نبي الرحمة وإمام السلام , ويدعو إلى الأمن المجتمعي والسلم الأهلي , ويعلم ان هذا السلم طريق الهداية ووعاء لتدبر الناس بالمعجزات والبراهين التي تدل على التوحيد , ووجوب عبادة الله عز وجل .
ثم سأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الرجاء , فأجزه لي . أي إكراماً لي أتركه لي بمعزل عن مسألة كتاب الصلح وعدم تنجزه بعد .
فقال سهيل : ما أنا بمجيزه لك .
فأكد عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة أخرى : بلى , فافعل .
قال : ما أنا فاعل , وكان أبو جندل يعلم حال أبيه من الإصرار والعناد , وسمع كلامه وجداله مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فتوجه أبو جندل إلى المسلمين وكان عددهم نحو ألف وأربعمائة فجعل (يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَأُرَدّ إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونِي فِي دِينِي ؟ فَزَادَ ذَلِكَ النّاسَ إلَى مَا بِهِمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ ، فَإِنّ اللّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ، إنّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَهْدَ اللّهِ وَإِنّا لَا نَغْدِرُ بِهِمْ) ( ).
وحينما عاد سهيل بأبي جندل إلى مكة تفلت منهم أبو جندل والتحق بأبي بصير وجمع من شباب مكة المسلمين في سيف البحر ممن هربوا من جور واضطهاد قريش قبل وبعد صلح الحديبية , فصاروا يعترضون قوافل قريش , ويقاتلون الذين يرافقونها , فأرسلت قريش إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تناشده الله والرحم أن يرسل إليهم ويضمهم إليه في المدينة ولهم الأمان .
وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان عن قانون وهو أن رضا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلح وشروط قريش الجائرة يؤدي إلى النصر والفتح , قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
هل من النساء نبية
تختص النبوة بالرجال ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى] ( ) أي ليسوا ملائكة ، وقال تعالى [وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ] ( ) وقيدت الآية بأن الأنبياء من أهل القرى أي من البشر من سكنة المدن والحضر والمدر وليس من أهل البوادي ولا من النساء أو من الجن .
وحكى أبو الحسن الأشعري الإجماع على أن الله لم يبعث نبياً إلا من الرجال ( ).
وقال بعض العلماء بنبوة كل من النسوة :
الأولى : سارة بنت هاران زوجة إبراهيم عليه السلام , وهي أم النبي إسحاق وجدة النبي يعقوب والذي يسمى أيضاً إسرائيل , وإليه يرجع نسل بني إسرائيل .
ولسارة منزلة وشأن عظيم إذ كلمتها الملائكة وبصيغة الإحتجاج اللطيف , كما في قوله تعالى [وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ] ( ).
كما سمعت سارة ببشارة الملائكة لإبراهيم بغلام عليم ، وفي التنزيل[فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتْ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ] ( )., أي لطمت وجهها بباطن كفها لإظهار التعجب والحياء كعادة النساء , وقيل ضربت جبهتها بأطراف أصابعها .
وهل هو من علامات عدم نيلها مرتبة النبوة , الجواب لا .
وقالت أنها يتعذر حملها لإجتماع أمرين عندها :
الأول : إنها عجوز إذ بلغ عمرها تسعين سنة .
الثاني : إنها عقيم لم تنجب حتى في أيام الشباب وفترة الحيض , مما يدل بالأولوية القطعية على عدم إنجابها في آخر سني حياتها .
واستجيبت دعوة سارة في نجاتها في فرعون , وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينما إبراهيم (هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه سارة، إذ نزل منزلا فأتى الجبار رجل، فقال :
إنه قد نزل بأرضك رجل معه امرأة أحسن الناس، فأرسل إليه فجاء، فقال: ما هذه المرأة منك؟
قال: هي أختي. قال: فاذهب فأرسل بها إليّ، فانطلق إلى سارة فقال: إن هذا الجبار سألني عنك فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني عنده، فإنك أختي في كتاب الله، وأنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك.
فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي. فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها، فتناولها، فأخذ أخذًا شديدًا .
فقال: ادعي الله لي ولا أضرك .
فدعت له فأرسل.
فأهوى إليها، فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد. ففعل ذلك الثالثة فأخذ، [فذكر] مثل المرتين الأوليين .
فقال ادعي الله فلا أضرك. فدعت، له فأرسل. ثم دعا أدنى حجابه، فقال: إنك لم تأتني بإنسان، وإنما أتيتني بشيطان، أخرجها وأعطها هاجر، فأخرجت وأعطيت هاجر، فأقبلت، فلما أحس إبراهيم بمجيئها انفتل من صلاته، قال : مَهْيَم؟
قالت: كفى الله كيد الكافر الفاجر، وأخدمني هاجر) ( )
ولا يدل هذا الأمر على أنها نبية ، لأن استجابة الدعاء لا تنحصر بالأنبياء ،وفي خطاب عام للمؤمنين , قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
وذكر الملك لهاجر بالاسم يدل على شأنها وأنها لم تكن من عامة الجواري وفي سفر التكوين يذكر القصة (انتقل ابراهيم من هناك الى ارض الجنوب و سكن بين قادش و شور و تغرب في جرار
و قال ابراهيم عن سارة امراته هي اختي فارسل ابيمالك ملك جرار و اخذ سارة
فجاء الله الى ابيمالك في حلم الليل و قال له ها انت ميت من اجل المرأة التي اخذتها فانها متزوجة ببعل و لكن لم يكن ابيمالك قد اقترب اليها فقال يا سيد اامة بارة تقتل
الم يقل هو لي انها اختي و هي ايضا نفسها قالت هو اخي بسلامة قلبي و نقاوة يدي فعلت هذا
فقال له الله في الحلم انا ايضا علمت انك بسلامة قلبك فعلت هذا و انا ايضا امسكتك عن ان تخطئ الي لذلك لم ادعك تمسها
فالان رد امراة الرجل فانه نبي فيصلي لاجلك فتحيا و ان كنت لست تردها فاعلم انك موتا تموت انت و كل من لك
فبكر ابيمالك في الغد و دعا جميع عبيده و تكلم بكل هذا الكلام في مسامعهم فخاف الرجال جدا
ثم دعا ابيمالك ابراهيم و قال له ماذا فعلت بنا و بماذا اخطات اليك حتى جلبت علي و على مملكتي خطية عظيمة اعمالا لا تعمل عملت بي
و قال ابيمالك لابراهيم ماذا رايت حتى عملت هذا الشيء
فقال ابراهيم اني قلت ليس في هذا الموضع خوف الله البتة فيقتلونني لاجل امراتي
و بالحقيقة ايضا هي اختي ابنة ابي غير انها ليست ابنة امي فصارت لي زوجة
و حدث لما اتاهني الله من بيت ابي اني قلت لها هذا معروفك الذي تصنعين الي في كل مكان ناتي اليه قولي عني هو اخي
فاخذ ابيمالك غنما و بقرا و عبيدا و اماء و اعطاها لابراهيم و رد اليه سارة امراته
و قال ابيمالك هوذا ارضي قدامك اسكن في ما حسن في عينيك
و قال لسارة اني قد اعطيت اخاك الفا من الفضة ها هو لك غطاء عين من جهة كل ما عندك و عند كل واحد فانصفت
فصلى ابراهيم الى الله فشفى الله ابيمالك و امراته و جواريه فولدن
لان الرب كان قد اغلق كل رحم لبيت ابيمالك بسبب سارة امراة ابراهيم
و افتقد الرب سارة كما قال و فعل الرب لسارة كما تكلم
فحبلت سارة و ولدت لابراهيم ابنا في شيخوخته في الوقت الذي تكلم الله عنه
و دعا ابراهيم اسم ابنه المولود له الذي ولدته له سارة اسحق) ( ).
الثانية : أم موسى بن عمران , ولعل منشأ القول بنبوتها قوله تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ] ( ).
وقد تكرر لفظ (أُمِّ مُوسَى) في القرآن إذ ورد في آية أخرى تفصلها عن الآية أعلاه آية واحدة , قال تعالى [وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وورد ذكرها بلفظ (أمه) كما في قوله تعالى [فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ), والوحي لها بالإلهام أو إخبار ملك , أو سماعه من وراء حجاب ولكنه ليس وحي نبوة ورسالة وقيل بإحتمال أنه وحي رؤيا وهو بعيد .
وقد ذكر الله عز وجل في القرآن وحيه إلى النحل , كما في قوله تعالى [وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ] ( ).
ولم يرد اسم أم موسى في القرآن أو السنة لبيان متعلق موضوع المعجزة بخصوص موسى عليه السلام , وقال مقاتل (واسمها يوكابد من ولد لاوى بن يعقوب) ( ).
ومعنى يوكابد : مجد الله .
وقيل اسمها باخته , أو بنت هافد بن لاوي بن يعقوب , وقيل أيارخا , و(أباذخت), ويوحناد , وبادونا .
و هل هارون النبي شقيق موسى لإمه وابيه , أو أنه أخوه من أبيه وحده , الجواب هو الأول .
لقد صارت أم موسى مرضعة له بالمعجزة لتزرع في نفسه الإيمان , وحب أخوته .
وفي سفر الخروج (و اخذ عمرام يوكابد عمته زوجة له فولدت له هرون وموسى و كانت سنو حياة عمرام مئة و سبعا و ثلاثين سنة) ( ).
والمراد من عمرام هو عمران أبو موسى عليه السلام , ولعل المراد من العمة أعم من أخت الأب إنما تتصل بالنسب معه من جهة الأب .
وفي سفر العدد : (و اسم امراة عمرام يوكابد بنت لاوي التي ولدت للاوي في مصر فولدت لعمرام هرون وموسى ومريم اختهما) ( ), وقيل أن جبرئيل هو الذي أمر أم موسى برضاعته عند ولادته ،وأن تلقيه في البحر , وكانت مدة هذه الرضاعة ثلاثة أشهر , وقيل أربعة أشهر , وقيل ثمانية , وكانت تخشى بكاءه بسبب قلة اللبن فيسمع الجيران فيفشون امره ويخبرون عن وجود مولود في بيت أحد بني إسرائيل في السنة التي كان فرعون يقتل كل من يولد عندهم خوفاً ممن يولد فيكون سبباً بزوال حكمه بناءً على رؤيا رآها وأولها له بهذا المعنى بعض علمائهم .
ولكن موسى كان لا يبكي وهو في المهد , كما كان لا يتحرك في حجر أمه.
الثالثة : مريم بنت عمران , وهي أقرب الثلاثة إلى الوحي والمعجزة إذ كانت ولادتها نوع معجزة وفضل من الله عز وجل , وكان حملها وولادتها لعيسى عليه السلام معجزة تتجلى منافعها إلى يوم القيامة , وكلمتها الملائكة وأخبرتها عن عظيم منزلتها .
ولدت مريم العذراء في فلسطين , في مدينة الناصرة , وكان أبوها صاحب صلاة بني إسرائيل في أيامه , (وهي مريم بنت عمران بن ماثان بن العازر بن اليود بن اخنر بن صادوق بن عيازوز بن الياقيم بن ايبود بن زريابيل بن شالتال بن يوحينا بن برشا بن امون بن ميشا بن حزقا بن احاز بن موثام بن عزريا بن يورام بن يوشافاط بن ايشا بن ايبا بن رحبعام بن سليمان بن داود عليه السلام) ( ).
ووقع بعض الخلاف في نسب مريم , ولكن الثابت أنها من ذرية داود النبي عليه السلام , وعن ابن عباس : بين عمران أبي موسى , وعمران أبي مريم ألف وثلاثمائة سنة( ).
وتوفى والدها وهي في بطن أمها , إذ حملت بها أمها بعد أن جلست عن المحيض والولد , وبينما هي تجلس تحت ظل شجرة رفعت رأسها لتنظر إلى طير يزق فرخاً له , وهذا المنظر ونحوه يتكرر لكل إنسان ليكون تذكيراً للإنسان في بديع صنع الله عز وجل فتاقت نفسها إلى الولد , واستحضرت قانون القدرة المطلقة لله عز وجل وأنه سبحانه (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهو الذي يتفضل فيجعل الأرحام تحمل بالأجنة , ويحتمل قوله تعالى [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُور] ( ), في موضوعه وجوهاً :
الأول : شمول الآية للولادة عن معجزة أو حال عقم , أو شيخوخة , أو عاهة ومرض .
الثاني : القدر المتيقن من الآية أعلاه إرادة قانون وهو أن تحديد جنس المولود بمشيئة من عند الله عز وجل .
الثالث : حصر الآيات باسباب نزول مخصوصة (نزلت هذه الآية في الأنبياء عليهم السلام فشعيب ولوط كان لهما إناث دون ذكور وإبراهيم كان له ذكور دون إناث ومحمد صلى الله عليه وسلم جمع الإناث والذكور) ( ).
الرابع : من الناس من لا يولد له إلا الأناث , ومنهم يكون أولاده كلهم ذكوراً .
والمختار شمول الآية لهذه الوجوه , فتشمل إرادة الولادة عن العقم سواء من طرف الرجل أو المرأة , وكذا يتعلق موضوع الآية بالإنجاب بواسطة الأنابيب , (وعن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم} إنّ من يمن المرأة تبكيرها بالأُنثى قبل الذّكر،
وذلك إنّ الله تعالى يقول : {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ} . ألا ترى إِنّه بدأ بالإناث قبل الذّكور) ( ), وهو لا يتعارض مع يمن المرأة بتبكيرها بالذكر ..
لقد اشتاقت أم مريم إلى مولود وتربيته وحضانته عندما رأت طائراً يطعم فرخه , فتوجهت بالدعاء إلى الله عزوجل , ونذرت أن يكون المولود خادماً في بيت المقدس , كما ورد في التنزيل [إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ).
ويختص الذكور بخدمة بيت المقدس والتعبد فيه فلا تخدم فيه النساء لذا فإن سؤال أم مريم متعدد من جهات :
الأولى : سؤال الحمل والإنجاب .
الثانية : سؤال الحمل عن كبر وتوقف المبيضين عن العمل وتعذر الحيض مطلقاً .
الثالثة : دعاء أم مريم لأن يكون مولودها ذكراً , وعن ابن عباس في حديث أن أم مريم قالت لزوجها (ليس جنس من جنس الأنبياء إلا وفيهم محرر غيرنا ، وإني جعلت ما في بطني نذيرة تقول : نذرت أن أجعله لله فهو المحرر .
فقال زوجها : أرأيت أن كان الذي في بطنك أنثى والأنثى عورة – فكيف تصنعين؟ فاغتمت لذلك فقالت عند ذلك { رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك السميع العليم } يعني تقبل مني ما نذرت لك) ( ).
أي قالت أن ذراري الأنبياء من بني إسرائيل كان عندهم محررون لخدمة المسجد والكنيسة والإنقطاع للعبادة فيها إلا نحن ليس عندنا محرر في الكنيسة .
فقال لها كيف إذا ولدت انثى .
وتدل هذه الأخبار عن أن بعض ذراري الإنبياء مشغولون بالعبادة والتقوى وعمارة المساجد , وليس الهجوم والغزو .
وقد ورث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وقيل حال السلم والزهد والتقوى ،وسنن التقوى وبها جاء القرآن .
وتفضل الله عز وجل وتقبل مريم لتنشأ عفيفة بتولاً , طاهرة , وتكفل زكريا عليه السلام تربيتها , وهو زوج خالتها , قال تعالى [فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
ولم تكن مريم خادمة للمسجد فقط إنما كانت تنزل عليها المعجزة الحسية إذ يتفضل الله عز وجل برزقها من الطعام , ولم يكن مثل طعام الناس فلا تتبين المعجزة , أو يقوم بعضهم بإنكارها .
إنما كان طعامها مبايناً لما بين أيدي الناس من جهة إختلاف أوانه , فكان زكريا يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء , وفاكهة الشتاء في الصيف , وصحيح أن الآية أعلاه تخبر عن رؤية زكريا الرزق عند مريم إلا أن موضوعها أعم وأن أهل المسجد يرون هذه المعجزة خاصة وأنها كانت متكررة بدليل قوله تعالى [كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
لتكون آية الطعام هذه مقدمة لولادة عيسى من غير أب , وحمل الناس على تصديقها , وعدم إيذاء عيسى وهو في المهد .
كما كانت باعثاً لزكريا لسؤال الله عز وجل عن الولد من امرأته العاقر بعد ان رآى عند مريم فاكهة في غير حينها ومن غير فعل أحد من البشر ، ولا يقبل نوع تلك الفاكهة التخزين إذ تتعرض للتلف بعد أيام من إقتطافها , فكيف وقد إنقضى على موسمها بضعة شهور ، ويراها طرية عند مريم .
وقد أنعم الله عز وجل بذات النعمة على فاطمة عليها السلام , ولم يقل المسلمون بأنها نبية , مع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة بضعة مني (عن المسور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “فاطمة بضعة مني) ( ).
وعن جابر بن عبد الله إن رسول الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم (أقام أيّاماً لم يُطعم طعاماً،
حتى شقّ ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه،
فلم يصب في بيت أحد منهنّ شيئاً،
فأتى فاطمة عليها السلام فقال : يا بنيّة هل عندكِ شيء آكلُ فإنّي جائع؟
فقالت : لا والله بأبي أنتَ وأمّي،
فلمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عندها،
بعثت إليها جارة لها برغيفين وبضعة لحم،
فأخذته منها ووضعته في جفنة وغطّت عليه وقالت : لأوثرنّ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نفسي ومن عندي،
وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة من طعام،
فبعثت حسناً وحسيناً إلى جدّهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجع إليها،
فقالت : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله قد أتانا الله بشيء فخبّأته لك،
قال : فهلمّي به،
فأُتي به فكشف عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً،
فلمّا نظرت إليه بهتت وعرفت أنّها من بركة الله،
فحمدت الله تعالى وصلّت على نبيّه،
فقال (عليه السلام) : من أين لك هذا يا بنيّة؟
قالت : هو من عند الله إنّ الله يزرق من يشاء بغير حساب،
فحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيّدة نساء بني إسرائيل،
فإنّها كانت يرزقها الله رزقاً حسناً فسُئِلت عنه {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ [يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي عليه السلام،
ثم أكل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين وجميع أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته جميعاً حتى شبعوا.
قالت فاطمة : وبقيت الجفنة كما هي فأوسعت منها على جميع جيراني فجعل اللَّه فيها بركة وخيراً) ( ).
وقد أكرم الله عز وجل مريم بنت عمران بأنها المرأة الوحيدة التي ذكر اسمها في القرآن مع التكرار , إذ ورد في القرآن أربعاً وثلاثين مرة , منها ما توالى في عدة آيات كما في سورة آل عمران إذ مدد أربع مرات في بذات العدد من الآيات في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ*إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ] ( ).
وجاءت المعجزة العظمى لمريم بولادتها لعيسى عليه السلام من غير أب لتكون شهادة سماوية برسالته , وتكون أمته من أعظم الأمم , ووثقها القرآن لتبقى إلى يوم القيامة ,
ومن العلماء من استدل بخطابات الملائكة إلى مريم وإلى أم موسى بأن كل واحدة منهما نبية , وموضوعية إختصاص مريم بالإصطفاء من عند الله عز وجل [وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ] ( ).
ولا ملازمة بين حديث الملائكة والنبوة , فليس كل من تحدثه الملائكة نبيا خاصة وأنه ليس بين النساء نبية .
وقيل بنبوة نسوة أخريات وهن :
الأولى : حواء .
الثانية : هاجر زوجة إبراهيم عليه السلام , وهي أم إسماعيل عليه السلام .
الثالثة : آسيا زوجة عمران .
وفي موسوعة الكتاب القديم والجديد ذكرت عدة نبيات :
الأولى : مريم أخت موسى وهارون عليهما السلام ، وفي سفر الخروج (فاخذت مريم النبية اخت هرون الدف بيدها و خرجت جميع النساء وراءها بدفوف و رقص و اجابتهم مريم رنموا للرب فانه قد تعظم الفرس و راكبه طرحهما في البحر) ( ).
الثانية : خلدة امرأة شلوم وسكنت القسم الثاني من مدينة القدس , في عهد الملك يوشيا وتنبأت عن خراب بيت المقدس .
وقد لا يعني التنبأ بلوغ مرتبة النبوة وقد تكون ورثته من الأنبياء وخزائن الملوك وفي سفر الملوك الثاني : (فذهب حلقيا الكاهن و اخيقام و عكبور و شافان وعسايا الى خلدة النبية امراة شلوم بن تقوة بن حرحس حارس الثياب و هي ساكنة في اورشليم في القسم الثاني و كلموها
فقالت لهم هكذا قال الرب اله اسرائيل قولوا للرجل الذي ارسلكم الي هكذا قال الرب هانذا جالب شرا على هذا الموضع و على سكانه كل كلام السفر الذي قراه ملك يهوذا .
من اجل انهم تركوني و اوقدوا لالهة اخرى لكي يغيظوني بكل عمل ايديهم فيشتعل غضبي على هذا الموضع و لا ينطفئ) ( ).
وحيث ذكر اسم أب وجد زوجها وأنه شلوم بن توقهة بن حسرة ( ).
فإنه لم يذكر اسم أب خلدة , إنما عرفت بأنها زوجة شلوم .
الثالثة : دبورة النبية , وكانت قاضية وحاكمة وشاعرة , وهي القاضية الوحيدة كامرأة التي تحدث عنها الكتاب المقدس , وكان بنو إسرائيل يصعدون إليها للقضاء إذ كانت تقيم في جبل أفرايم تحت شجرة نخيل سميت بإسمها نخلة دبورة بين رام الله وبيت آيل .
وأفرايم بن النبي يوسف ومعنى أفرايم (الأثمار المضاعفة)
ودبورة هي التي أمرت القائد باراق ليحارب سيرا وجيش كنعان , وطلب منها أن تصاحبه بأن تخرج معه إلى المعركة فأستجابت لطلبه
ولعل معنى النبية في العهد القديم ليس مثل المراد في الإصطلاح في الكتاب والسنة .
فقد يشمل عندهم الصديقين , وقد ورد نعت مريم في القرآن بأنها صدّيقة , قال تعالى [مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] ( ).
إن العناء والأذى والحرب التي يلاقيها الأنبياء من الذين كفروا أمارة على عدم تولي النساء اهذه الوظيفة الجهادية تخفيفاً عنهن وعن أتباع النبوة وعن المؤمنين .
قانون أركان الإسلام
للإسلام معنيان :
الأول : المعنى اللغوي وهو الإنقياد والتسليم والخضوع .
الثاني : المعنى الإصطلاحي وهو النطق بالتوحيد والإقرار بالربويبة لله عز وجل والإتيان بالشهادتين .
وقد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أركان الإسلام في قوله (بُني الإِسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، والحج) ( ).
والركن لغة الجانب والناحية الأقوى والأظهر ، والركن ما يمال إليه يقال : ركن إلى الدنيا أي مال إليها ، وأركان الإسلام قواعده ومناهجه ، والتي لا يستقيم إلا بها , وهي :
الركن الأول : النطق بالشهادتين وهو ركن من أركان الإسلام ، وفيه اقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشهادتين هما :
الأولى : شهادة أن لا إله إلا الله .
الثانية : شهادة أن محمداً رسول الله .
وهل الشهادتان بعر ض واحد ، الجواب أن شهادة التوحيد مقدمة ، وهي الأكبر ومصاحبة لوجود الإنسان في الأرض ، وتدين بها الخلائق كلها ، وفي التنزيل [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ) .
ومن الإعجاز في السنة الدفاعية مناداة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفين وقبل بدئ القتال وهو يخاطب الكفار : قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) لبيان قانون وهو أن دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضد المشركين ، وأنه لا يقاتل أهل الكتاب ولا هم يقاتلونه .
(أخرج البخاري عن نافع . أن رجلاً أتى ابن عمر فقال : ما حملك على أن تحج عاماً وتعتمر عاماً وتترك الجهاد في سبيل الله ، وقد علمت ما رغب الله فيه؟ قال : يا ابن أخي : بني الإِسلام على خمس : إيمان بالله ورسوله ، والصلاة الخمس ، وصيام رمضان ، وأداء الزكاة ، وحج البيت . قال : ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه؟ : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما }( ) { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة }( ) قال : فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان الإِسلام قليلاً ، وكان الرجل يفتن في دينه ، إما قتلوه وإما عذبوه حتى كثر الإِسلام ، فلم تكن فتنة .) ( ).
الركن الثاني : أداء الصلاة التي هي عمود الدين ، ومن الإعجاز مصاحبة الصلاة للإنسان من حين هبوط آدم للأرض إلى يوم الدين ، وفي عيسى ورد في التنزيل [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا] ( ) .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) ليكون من معجزات النبي الغيرية أي التي تتجلى في عمل وحال غيره إتقان أجيال المسلمين ذكراناً وأناثاً للصلاة وتقيدهم بأركان وأجزاء الصلاة كما صلاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد تقع خصومة ونزاع بين فرق وطوائف المسلمين ، ولكنهم يجتمعون طوعاً وقهراً وانطباقاً خمس مرات في اليوم ، ليكون دعوة لهم للصلح والمؤاخاة والموادعة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
إذ ابتدأت عمارة الإنسان للأرض بصلاة آدم وحواء فهل تستمر الصلاة مع وجود الإنسان أم أنها تنقطع ويكون انقطاعها سبباً لقيام الساعة .
المختار هو الأول للملازمة بين عمارة الإنسان للأرض وبين الصلاة التي هي مرآة العبادة ومصداقها اليومي ، وهذا المعنى من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) لإرادة الإطلاق وأصالته في المقام ، وعدم وجود مقيد من جهة أفراد الزمان الطولية ، وتقدير الآية : وما خلقنا الجن والإنس إلا ليعبدوني في كل يوم من أيام الحياة الدنيا .
ومن الإعجاز الغيري لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن لا تمر دقيقة على أهل الأرض إلا وهناك أفراد وجماعة يقيمون الصلاة بلحاظ كبرى كلية وهي أن تعيين أوقات الصلاة حسب الآيات الكونية وسير الشمس ، فبلد تجب فيه الصلاة الصبح وآخر تجب فيه صلاة الظهر ، وقرية تكون فيه صلاة العصر وهكذا ، قال تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ), وجماعة يؤدون الصلاة في أول وقتها وجماعة في وسطه وآخرون في آخره .
ومن معاني خاتمة الآية أعلاه أن صلاة الصبح هي قرآن الفجر إذ يشهدها ملائكة الليل عند مغادرتهم الأرض وصعودهم إلى السماء ويشهدها ملائكة النهار عند نزولهم إلى الأرض .
الركن الثالث : الزكاة لغة هي النماء والزيادة ، وهي في الإصطلاح الشرعي مقدار من المال يخرج من مال الغني عند اجتماع النصاب والشرائط ليدفع إلى الفقير ، وفيه النماء والزيادة والبركة والطهارة لكل من:
الأول : دافع ومعطي الزكاة .
الثاني : ذووا دافع الزكاة .
الثالث : الذي يسعى في تحصيل وإيصال الزكاة , وهو من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابع : الذي تصله وتأتيه الزكاة .
فان قلت كيف تكون الطهارة والبركة عنده ، الجواب من جهات :
الأولى : الإنفاق على النعمة والعيال من مال الزكاة .
الثانية : الإمتناع عن السرقة والمعاصي لما في وصول مال الزكاة إليه من غير عناء ونصب من الموعظة والعبرة .
الثالثة : تعدد ضروب الموعظة من الزكاة منها الأغنياء يخرجون من أموالهم حقوق الفقراء طواعية وبقصد القربة إلى الله ليدركوا طوعاً وقهراً لزوم تحليهم بالأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة بلحاظ قانون وهو أن الإنفاق في سبيل الله خلق حميد ونهج قويم ، وترغيب بالأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة .
وكأن الغني الذي يدفع الزكاة للفقير وهو يقول له : أعطيك حق الله الذي في مالي لتعمل به في رضوان الله ، وتحرص على إجتناب معصيته سبحانه ، وفي التنزيل [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
ومن وجوه الطهارة في الزكاة أنها تنمي ملكة الألفة والمحبة بين عموم المسلمين والناس ، قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
ويحتمل الضمير [هم] في الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : أرباب الأموال الذين يدفعون الزكاة ,وتقدير الآية : يا رسول الله خذ من أموال الأغنياء صدقة تطهرهم وتزكيهم بها .
الثاني : المراد دافعوا الزكاة مع ذويهم وأهليهم .
ويكون تقدير الآية : خذ من أموال الأغنياء صدقة تطهرهم وأهليهم وتزكيهم وأهليهم .
الثالث : المقصود طرفا الزكاة الذين يدفعونها والذين يتلقونها ويقبضونها والتقدير : خذ من أموال الأغنياء صدقة للفقراء ,تطهر وتزكي الأغنياء والفقراء .
الرابع : الذين يخرجون من أموالهم الزكاة والذين يقومون بالسعي في إخراجها والترغيب فيه ، والنهي عن حبس الزكاة ، ويكون تقدير الآية : خذ من أموال الأغنياء صدقة تطهر وتزكي الأغنياء والفقراء والذين يسعون في إخراج الزكاة .
الخامس : إرادة عموم المسلمين والمسلمات , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية ، ويكون تقديرها بلحاظ الوجه الأخير أعلاه : يا رسول الله خذ من أموال الأغنياء صدقة وزكاة واجبة تطهر وتزكي الأغنياء والفقراء وعامة المسلمين والمسلمات ، وهذه الطهارة دعوة للوئام بين الناس واستئصال للجريمة, وزاجر عن الغزو وإشاعة القتل .
وهو من الإعجاز الغيري لآيات القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فليس من فصل بينهما .
والزكاة مدرسة عقائدية وأخلاقية وفيها إصلاح للمجتمعات ونشر لشآبيب الرحمة والمودة بين كل من :
الأول : بين الأغنياء والفقراء .
الثاني : بين المسلمين عامة .
الثالث : بين المسلمين والناس لما في الزكاة من الدلالة على تقيد المسلمين بالفرائض السماوية والإنفاق من أموالهم .
ومعاني الرحمة هذه من مصاديق التطهير والتزكية في قوله تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا] ( ) ويبعث دفع الزكاة الواجبة المسلمين للبذل ودفع غيرها من الصدقات المستحبة , والإكثار من الذكر ,
و (جاء فقراء المهاجرين فقالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالدرجات العُلَى والنعيم المقيم. فقال: “وما ذاك؟” قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق! قال: “أفلا أعلمكم شيئًا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين”. قال: فقالوا: يا رسول الله، سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله. قال: “ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) ( ).
ويحتمل دفع الصدقة المستحبة بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : إنه من الصدقة في قوله تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً].
الثاني : صيرورته من أسباب التطهير في قوله تعالى [ تُطَهِّرُهُمْ].
الثالث : إنه من مصاديق التزكية في قوله تعالى [وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا] .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، إذ يبعث الإمتثال بالزكاة الواجبة على دفع الصدقة المستحبة , وفيه أمر وترغيب وحث من السنة النبوية ، و(عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم قال :
على كل مسلم صدقة قيل أرأيت إن لم يجد ؟
قال يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق قال قيل أرأيت إن لم يستطع ؟
قال يعين ذا الحاجة الملهوف قال قيل له أرأيت إن لم يستطع ؟
قال يأمر بالمعروف أو الخير قال أرأيت إن لم يفعل ؟
قال يمسك عن الشر فإنها صدقة) ( ).
وفي الزكاة ثواب لكل من :
الأول : المسلم الذي يدفع الزكاة الواجبة .
الثاني : المسلم الذي لم يتحقق عنده النصاب الذي يلزم معه إخراج الزكاة .
الثالث : المسلم الذي يحسب أمواله ويحصي أرباحه , ويرى عدم تحقق النصاب عنده .
الرابع : المسلم الذي يتشوق أن يكون عنده نصاب فيدفع الزكاة .
الخامس : الساعي في جمع الزكاة , والذي يحث عليها , ويرغب فيها , ويحذر من التخلف عن أدائها .
السادس : المسلم الذي يدعو لدافع الزكاة ويستغفر له .
السابع :الذي يستلم الزكاة بتدبر بأنها من فضل الله عز وجل .
وفيه بيان لقانون عملي وهو أن إنشغال المسلمين بالزكاة حساباَ وإخراجاَ ودفعاَ وفيضاَ وتسليماَ وتسخيراَ في أمور الحياة برزخ دون الإنشغال بالغزو وشاهد على إجتناب المسلمين الغزو وقد وعدهم الله عز وجل بالسعة في الرزق .
الركن الرابع : الصيام إذ أوجب الله على المسلمين والمسلمات صيام شهر رمضان ، ومن الآيات أنه الشهر الوحيد الذي ذكر اسمه في القرآن من بين أشهر السنة الإثني عشر بينما ذكر يوم السبت في القرآن إلى جانب يوم الجمعة مع أن عدد الأيام سبعة أيام , والجمعة عيد الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : قد وردت الآية أعلاه بالخطاب بصيغة التذكير [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فكيف يشمل الوجوب المسلمات .
الثانية : هل يشمل حكم الصيام المنافقين أم لا .
أما الأولى فان خطاب التذكير شامل للمذكر والمؤنث , وورد الخطاب للتغليب , كما في قول القمران , لإرادة الشمس والقمر ، مع أن القمر يستمد نوره من ضياء الشمس .
وقال المتنبي :
(ولو كان النساء كمثل هذي … لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب … ولا التذكير فخر للهلال) ( ).
فيتساوى الرجل والمرأة في التكاليف العبادية إلا ما خرج بالدليل واختصاص أحدهما به كسقوط الصلاة عن المرأة أيام الحيض ، ووجوب غسله عليها بعد إنقطاعه .
أما المسألة الثانية أعلاه ففيها وجهان :
الأول : القدر المتيقن من خطاب (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) المؤمنون ظاهراَ وباطناَ بينما يبطن المنافقون الكفر وإن أظهروا الإيمان.
الثاني : شمول المنافقين بوجوب الصلاة والصوم .
والمختار هو الثاني , لأنهم أسلموا ظاهراَ , ونطقوا بالشهادتين فيتوجه لهم الخطاب بالتكاليف , وفيه دعوة لهم لتنزيه الذات عن الكفر الخفي والمبطن , وتدل عليه آيات عديدة واسباب نزولها في المنافقين ممن كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها قوله تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ] ( ) .
ووردت نصوص في المقام منها ( عن أبي بن كعب قال :صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الصبح فقال : أشاهد فلان؟ قالوا : لا . قال : اشاهد فلان؟ قالوا : لا . قال : إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين ، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموها ولو حبواً على الركب) ( ).
لقد كان المنافقون يحضرون الصلاة اليومية في مسجد الرسول , ويصلون خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما كانوا يخرجون في سرايا الدفاع , ومنهم رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
وعندما صار جيش المشركين الزاحف على المدينة في معركة أحد على بعد خمسة كيلو مترات من المدينة وحلّوا في سفح جبل أحد وعددهم ثلاثة آلاف رجل خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدافعا وعن ضرورة في ألف من الصحابة فانخزل المنافقون من وسط الطريق وعددهم ثلاثمائة , مع أن خروجهم دفاع عن أنفسهم وعيالهم .
وهل كان هؤلاء الثلاثمائة يحضرون الصلاة , ويصومون عندما فرض الصيام أم لا .
الجواب أنهم كانوا يؤدون الفرائض العبادية , وبين الذين يتوجه إليهم الخطاب (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) والمؤمنين عموم وخصوص مطلق , فهذا الخطاب يشمل كل الذين أظهروا الإيمان بالنبوة والتنزيل .
وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على المنافقين عند موتهم ولما توفي عبد الله بن أبي رأس النفاق جاء ابنه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسأله مسائل :
الاولى : طلب قميص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكفن به أباه عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
الثانية : صلاة النبي على أبيه .
الثالثة : استغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم له .
وقد أجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه المسائل ثم نزل قوله تعالى [وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ] ( ).
وهناك ملازمة بين بعثة الأنبياء وبين السلام فليس من إلا وهو يعمل لواء السلام حتى في ميدان المعركة فلا يقاتل الأنبياء , إلا دفاعاً , واكثرهم لم يقاتلوا إنما تحملوا بالحلم والصبر عند تلقي الأذى من قومهم مع مواصلة الدعوة إلى الله عز وجل .
وقد أخبر القرآن عن قتال طائفة من الأنبياء , كما في قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
وجاءت السنة بالبيان منها ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد حينما أدمى المشركون وجهه الشريف .
(قال عبد الله لقد رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يحكي نبياً من الأنبياء ويقول اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)( ) .
وسيأتي في جزء لاحق إن شاء الله قانون الإسلام والسلام توأمان .
وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , بتحية الإسلام وهي السلام , وكان يؤكد عليها ويوصي بها .
وعن( أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن السلام اسم من أسماء الله وضعه الله في الأرض ، فافشوا السلام بينكم) ( ).
ليكون معنى إفشاء السلام أعم من أن يختص بالتحية بل يفيد نشر معاني الود والألفة فيما بين المسلمين , وبينهم وبين غيرهم من أهل الإصلاح وحتى نظام الكفارات والعقوبات في الإسلام , جاء بطريقة التكافل الإجتماعي والتعاون الإقتصادي .
قال تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
فقد قدمت الآية إطعام الفقراء أو كسوتهم بلباس أو تحرير أو عتق عبد مملوك , وهو من أسرار إنقراض الرق في الإسلام .
وفي المرسل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال : (دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ) ( ).
لإفادة العموم بعدم قتال من جاور المسلمين من الشمال والجنوب , وهل فيه بشارة إنتشار الإسلام [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
الجواب نعم .
وعن (عن ابن عباس قال : سمعت عمر يقول : لما توفي عبد الله بن أبي ، دعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة عليه ، فقام عليه فلما وقف قلت أعلى عدوّ الله عبد الله بن أبي القائل كذا وكذا ، والقائل كذا وكذا؟! أعدد أيامه ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبسم ، حتى إذا أكثرت قال « يا عمر أخر عني اني قد خيرت ، قد قيل لي { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة } فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها ، ثم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه ، فعجبت لي ولجراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم – والله رسوله أعلم – فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان { ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره }( ) فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله عز وجل) ( ).
ومن الإعجاز في التكاليف العبادية وأركان الإسلام أنها تأتي على النفاق , وتزيحه عن القلوب , وتمنع من استحواذه على الجوارح وعالم الأفعال .
إذ يكون المنافق في صراع مع نفسه , وشدّ وتردد بين الإيمان الظاهري والكفر الباطني , وكل آية من القرآن هي حرب على هذا الكفر , فمن إعجازها الغيري نفاذها إلى شغاف القلوب , وكذا بالنسبة للعبادات البدنية والمالية فإنها تنزيه للمسلم والمسلمة من النفاق والشك والريب , ولا يعلم النفع العظيم من الفرائض وطردها للنفاق من النفوس والمجتمعات إلا الله عز وجل .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال، معهم حُزَم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار) ( ) .
ليدل قوله : (ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوًا)
على إنتفاع المنافق طوعا وقهرا من الصلاة اليومية عند حضوره لها , وهذا النفع دنيوي وأخروي , وفيه تبديد للنفاق , كما تبين خاتمة الحديث حاجة المنافقين لحضور الصلاة , ووجوب عدم تخلفهم عنها , وتدل بالدلالة التضمنية على أن المنافقين يحضرون شطراَ من الصلاة كصلاة الظهر والعصر دون الصلوات الأخرى .
ويبعث حضور عامة المسلمين الصلاة اليومية الخوف في قلوب المشركين , وهذا الحضور العام والمواظبة على الصلاة والصيام من مصاديق قوله تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ.
ومع أن شهر رمضان ليس من الأشهر الحرم إلا أن الله عز وجل أكرمه بذكر اسمه في القرآن , وأخبر عن نزول القرآن فيه والمنافع العظيمة لهذا النزول على الناس جميعاَ , قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
والعسر الشدة والضيق وأسباب الغم والهم ، أما اليسر السعة والمندوحة وتفريج الكرب ، وأزالة الهم والغم والتعدد في اليسر مقابل الإتحاد في العسر من مصاديق قوله تعالى [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]( ).
وعن (جابر بن عبد الله قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ثلثمائة أو يزيدون ، علينا أبو عبيدة بن الجراح ، ليس معنا من الحمولة إلا ما نركب فزوّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جرابين من تمر .
فقال بعضنا لبعض : قد علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أين تريدون وقد علمتم ما معكم من الزاد ، فلو رجعتم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فسألتموه أن يزوّدكم ، فرجعنا إليه ، فقال : إني قد عرفت الذي جئتم له ، ولو كان عندي غير الذي زوّدتكم لزوّدتكموه . فانصرفنا ، ونزلت { فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً }.
فأرسل نبي الله إلى بعضنا ، فدعاه ، فقال : أبشروا فإن الله قد أوحى إليّ { فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً } وإن يغلب عسر يسرين)( ).
وتبين آيات الصيام إنشغال المسلمين في شهر رمضان عن الغزو والهجوم بالعبادة والنسك , والتدبر في آيات القرآن , والإمساك عن الطعام والشراب .
ومن الجلي والواضح للوجدان أن الصيام يضعف الإنسان عن القتال ويجعله يميل إلى الإقامة وعدم الخروج للسفر , وليس ثمة فترة بين هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزول فرض الصيام , وعن واثلة بن الأسقع ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، وأنزل الانجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان) ( ).
لقد فرض الله الصيام في السنة الثانية للهجرة , وهي ذات السنة التي وقعت فيها معركة بدر , وفي اليوم السابع عشر من شهر رمضان , وهل اختارت قريش أوان المعركة حال الضعف البدني بالعبادة والنسك عند المسلمين .
الجواب نعم , وهو من مصاديق الذلة في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ), ليكون من الإعجاز في أركان الإسلام أنها سبب للمدد من عند الله عز وجل ونزول الملائكة لنصرتهم , ولا يختص هذا المدد بميدان المعركة وساحة الوغى بل هو حاضر في كل مكان وزمان ليصاحب المسلمين والمسلمات ويأخذ بأيديهم نحو منازل العز والرفعة , كما يمنع الصيام المسلمين من الثأر والإنتقام لأنه باعث للرحمة والرأفة في النفوس , وأداء المسلمين الصيام فيه على نحو الوجوب العيني من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وقد رخّص الكتاب والسنة بالإفطار في السفر فمن باب الأولوية عند اشتداد القتال .
ويصوم المسلمون ثلاثين يوماَ مدة ما بين هلالي شهر رمضان وشهر شوال .
والذي تأتي بعده الأشهر الحرم ذو القعدة وذو الحجة ومحرم , لتتصل أسباب المنع الذاتي والحكم الزماني العام عن الغزو والقتال , فيكون شهر رمضان والصيام فيه دعوة للناس للهداية والإيمان , وهو مناسبة للتدبر في آيات القرآن , ليضاعف الله عز وجل فيه الأجر والثواب لمن يكون القرآن جليسه , فيهدي الله عز وجل الناس إلى الإيمان بفضل منه سبحانه من غير حاجة للجوء إلى القتال إلا أن يكون دفاعاَ .
الركن الخامس : حج بيت الله الحرام وهو شعيرة أوجبها الله عز وجل على آدم وذريته , وأول من حج البيت الحرام آدم عليه السلام وتلقته الملائكة يومئذ بالبشرى بقبول حجه .
وصاحب الأمر بالحج بعث الرسل للقيام بالتبليغ , وهو الذي تدل عليه الآيات التي تتضمن بناء إبراهيم وإسماعيل للبيت الحرام , ودعوتهما الناس إلى أداء فريضة الحج والترغيب فيها مع وعد من الله عز وجل بمجىء الناس للحج كما يدل عليه قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ), فيصل أذان ونداء إبراهيم إلى بضع مئات من الأمتار من مكة , ولكن يتوافد الناس لأداء الحج وللإقامة فيها بالوعد الإلهي الظاهر في الآية أعلاه , وتكثر ذرية إبراهيم ورجال قريش , وهذه الكثرة من رشحات حال الأمن والغنى الذي صارت عليها مكة .
وهل هي من مقاصد إبراهيم عليه السلام في دعائه [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ), الجواب نعم , لتكون كثرة أهل مكة ووجود قريش والمستضعفين فيها مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديق شطر من أهلها بنبوته .
وبينما فرضت الصلاة في الأيام الأولى للبعثة النبوية الشريفة فإن فرض الحج جاء في السنة التاسعة للهجرة , فهل يدل هذا على التباين الرتبي بين الصلاة والحج .
الجواب لا , ولكن الحج كان أمراَ متسالماَ عليه عند العرب ويتعاهدونه بالأداء كل سنة مع الإقرار بأنه من ملة إبراهيم ومن الحنيفية وقد جاءت الآيات بالحث على اتباع الحنيفية , قال تعالى [بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ) .
(وعن ابن عباس :أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذن في الناس فقال : يا قوم ، كتب عليكم الحج ، فقام رجل من بني أسد فقال : يا رسول الله ، أفي كل عام؟ .
فغضب غضباً شديداً فقال : والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم وإذن لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا ، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه .
فأنزل الله { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم }( ) نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة ، فأصبحوا بها كافرين ، فنهى الله عن ذلك وقال لا تسألوا عن أشياء أي إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك ولكن انتظروا ، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه) ( ).
وقيد وجوب أداء الحج بالإستطاعة وتوفر الزاد والراحلة والأمن وسلامة السرب.
ليكون كل من فرض وأداء الحج مناسبة للعصمة والسلامة من الغزو والهجوم والغارات على الغير , كما أن الحج وسيلة لدخول الناس الإسلام , وهو مناسبة للمناظرة والإحتجاج وبيان المعجزات لتكون مناسك الحج أكثر تأثيراً ونفعاً من السيف في الدعوة إلى الإسلام , وهو من أسرار أدائه في الأشهر الحرم كيلا يرقى الجدال والخصومة فيه إلى لمعان السيوف وجريان الدماء .
وبينما كان العرب يتجاذبون الأحاديث , ويتبارون في الأشعار في أيام الموسم وأسواق مكة صاروا فيه يرون آيات القرآن , والإستدلال على إعجازها لتجلي قانون وهو أن آيات القرآن فوق كلام البشر شعراً ونثراً .
تجلي إعجاز القرآن بعلوم مستحدثة
الإجماع والشواهد والوجدان على أنه لا مثيل أو نظير لكلام الخالق والذي يتحدى الناس في كل زمان حتى مع الإرتقاء العلمي , وهل يدل قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ), على التقارب بين البلدان والشعوب والمؤسسات في هذا الزمان وصيرورة تحقق اجتماع بين مختصين وأطراف وكل واحد في بلده ومحله بوسائل الإتصال الحديثة من غير حاجة إلى الإجتماع في محل وموضع واحد والتعرض للأخطار وكثرة الإنفاق وتعطيل الإعمال الأخرى .
الجواب نعم , فإن الآية أعلاه تبشر بزمان العولمة واعتماد التقنية الحديثة وعلوم الحاسوب , وكأنها من مفردات وقدرات الجن الفائقة .
وما يترشح من العلوم والدقة والذكاء الصناعي من مصاديق قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ) لتنتج وآلات التصنيع أضعافاً مضاعفةً مما لو كان يصنع الأشياء بيده كمعامل النسيج والسيارات وذات آلات الحاسوب .
ومن العلوم المستحدثة تقنية النانو أي القياس الجزئي بما هو متناه في الصغر بجزء ويساوي النانو واحداً من مليون من المليمتر , ومن البليون من المتر , فمثلاً يكون قطر الشعرة الواحدة من شعر الرأس (7500) نانو متر , ويستحيل رؤية النانو بالعين المجردة أو بعض المكبرات البسيطة .
وأصل (نانو) أي القزم والصغير.
ولا يقف علم النانو عند مرحلة القياس إنما هو واسطة تسخر في تقنيات جزئية دقيقة وإنتاج مواد وأجهزة متطورة بما فيه النفع للأفراد والمجتمعات والأمم , ومنه صناعة أجهزة صغيرة ودقيقة في علوم الطب والتشخيص السريع للأمراض وعلاجها بتحليل الهواء الخارج من الرئتين في عملية الزفير , والأجهزة الألكترونية وإنتاج سيارات تعمل بالطاقة النظيفة وكفاية شرب الإنسان للماء القليل , وبما ينفع الصائم إذ يرتوي بإناء ماء عند السحور فلا يشعر بالعطش ساعات الصيام حتى في أيام القيظ الحارة .
ولا تخلو هذه التقنية من أعراض جانبية ضارة ولابد من معالجتها وتداركها .
وهذا العلم ليس بحديث إنما الإنتفاع الواسع والدقيق منه يفتح آفاق من العلم والتقنية في باب الطب والوقاية والعلاج والقضاء على الامراض المزمنة , وإطالة عمر الإنسان , وينتفي في الجملة إصطلاح الأمراض المستعصية , ومنه صناعة أجهزة وآلات دقيقة ومتطورة , فيكون مثلاً هناك حاسوب أصغر من الأنملة , ومن ضروب علم النانو توفير مياه نظيفة لعامة أهل الأرض وإكتفاء الإنسان بشرب لتر واحد بدل خمسة وعشرين لتراً كي يدخل الماء إلى الأنسجة , كما ستكون ثورة في الزراعات وتوفير الغذاء بأسعار زهيدة , وهو من الإعجاز في آيات الرزق العام في القرآن , ومنها قوله تعالى [ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ] ( )
ليكون من إعجاز القرآن تحديه للناس في كل زمان ومكان حتى في زمان إتصال الناس بعضهم ببعض .
والذكاء الصناعي من خصائص ذات صبغة علمية وحسابية تتصف بها مناهج الحاسوب وتشبه التفكير البشري وأنماطه .
وعرّف النانو بأنه علم هندسة صنع الآلات الذكية .
قانون فريضة الزكاة واقية من الغزو
الحمد لله الذي جعل الزكاة من وظائف النبوة إذ يأمر النبي قومه بالزكاة ،ولما جعل الله عز وجل لنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء والقرآن آخر الكتب السماوية والشريعة الإسلامية تتصف بالتمام، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ) تفضل الله عز وجل بقانون الزكاة متكاملاً من جهات :
الأولى : الفرض من عند الله واقتران وجوب الزكاة بالصلاة ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )ولا تصل النوبة في المقام إلى علم الأصول بحمل الأمر في الآية أعلاه على الوجوب لدلالة آيات القرآن الأخرى والسنة النبوية على هذا الوجوب إنما يقتبس علم الأصول في المقام من القرآن والسنة بالإستدلال بأن الأصل في الأمر هو الوجوب .
الثانية : إرادة قصد القربة إلى الله بالزكاة فهي عبادة ، قال تعالى [قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ] ( ).
الثالثة : ذكر المستحقين للزكاة من الفقراء والمحتاجين لمنع الخصومة في كيفية توزيع أموال الصدقات وللتسهيل على الحكام والعلماء في تقسيمها ولقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، وقاعدة منع الجهالة والضرر ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الرابعة : وضع ضابطة بخصوص المال الذي تتعلق به الزكاة من جهة الجنس والمقدار .
وهوالنصاب أي مقدار معين من المال أو قيمة العين إذا بلغه المال والربح عند تمام الحول وجبت الزكاة إلا ما خرج بالدليل كما في قوله تعالى بخصوص الغلات [وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ] ( ) والأصناف التي تجب فيها الزكاة على وجوه :
الأول : الذهب والفضة والمسكوكات والعملات الورقية والسندات وأختلف في الحلي وقيل تشملها عمومة أدلة الزكاة ، والمختار عدم وجوب الزكاة فيها إذا لبستها المرأة للزينة ، وحتى لو هجرتها وأعرضت عنها عند كبرها بعد أن كانت تلبسها .
وتجب زكاة النقد والسبائك من الذهب إذ بلغ النصاب وهو عشرون دينار ، ومقدارها (85) غراماً وزكاته ربع العشر أي 2,5 % فاذا كان عنده مقدار النصاب أو أكثر فانه يتحرى سعر الغرام الواحد من نوع الذهب الذي عنده سواء كان صيرفياً (24) حبة أو (21)حبة أو (18)حبة .
ثم تضرب قيمة الغرام الواحد في عدد الغرامات التي عنده ، ليكون الحاصل فيه الذهب الذي عنده بالعملة المتعارفة في البلد كالدينار والجنيه
ثم يستخرج قيمة الزكاة ، فاذا كان مقدار الذهب 1000 غرام يستخرج مقدار الزكاة كالآتي :
1000÷ 100 = 10 .
10× 2,5 = 25 غرام قيمة الزكاة .
أو 1000÷ 40 = 25 غرام قيمة الزكاة أيضاً ، بلحاظ أن نسبة 2,5% هي 40 من الألف .
الثاني : زكاة الأنعام .
الثالث : زكاة الغلات أو الزروع واجماع المسلمين على الزكاة في الغلات الأربعة وهي :
الأولى : الحنطة .
الثانية : الشعير .
الثالثة : التمر .
الرابعة : الزبيب .
(عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ إِنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم- الزَّكَاةَ فِى هَذِهِ الأَرْبَعَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ) ( )( ).
والمراد من الحنطة القمح وقد تسمى الطعام أيضاً .
وفي الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام قال (تجب الزكاة على
الحنطة والشعير والتمر والزبيب إذا بلغ خمسة أوساق: العشر ان كان سقي سيحا وإن كان سقي بالدوالي فعليه نصف العشر، والوسق ستون صاعا والصاع أربعة أمداد) ( ).
والأمداد : جمع مدّ ، ومقداره نحو ثلاثة أرباع الكيلو غرام تقريباً.
واختلف علماء المذاهب فيما يخص غير الغلات الأربعة على أقوال منها :
الأول : تجب الزكاة بكل ما يقصد بزراعته استنماء الأرض ، وبه قال أبو حنيفة أي أنه جعل موضوعية للقصد والغاية من اشغال الأرض ، فلا تجب الزكاة بزرع للأدوية , ولا في الحطب والحشيش .
واستدل بقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : فيما سقت السماء أو كان عشرياً العشر ) بحمل الكلام على عمومه .
الثاني : أما صاحباه وهما أبو يوسف ابن إبراهيم الأنصاري القاضي ومحمد بن الحسن الشيباني واللذان قاما بتدوين ونشر فتاوى أبي حنيفة فقالا : لا تجب الزكاة إلا ما له ثمرة باقية حولاً كاملاً .
الثالث : لا تجب الزكاة فيما عدا الحنطة والشعير والتمر والزبيب ، قال به الإمامية ..
الرابع : قال المالكية بأنه لا تجب الزكاة في الثمار عدا التمر والعنب ، ولكنهم توسعوا في الحبوب إذ تخرج الزكاة من السلت والذرة والأرز والدخن والعلس ، ومن الحمص والفول والعدس واللوبياء .
ومن ذوات الزيوت الأربع وهي الزيتون والسمسم والقرطم وحب الفجل .
الخامس : ذهب أحمد بن حنبل إلى القول بوجوب الزكاة في كل ما يزرعه الناس من الحبوب والثمار ، وما يجتمع فيه وصفان :
الأول : الكيل .
الثاني : اليبس مع البقاء لإمكان إدخاره ليشمل الغلات الأربعة وما كان قوتاً كالأرز والدخن والذرة ، والقطنيات كالفول والعدس والماش والحمص واللوبيا .
كما قال أحمد بتعلق الزكاة بالبذور كبذر البطيخ ، وبذر القثاء وبذور الكتان وبذور القطن وبذور الرياحين وحب البقول كالفجل , والرشاد او الطماطم والحلبة والثمار التي تجفف كالفستق واللوز .
وورق الشجر الذي يقصد في الزراعة كالآس والسدر.
ولا تجب الزكاة في الخضار كلها ، وفي ثمار التفاح والتين والموز والرمان والبرتقال ، ولا في الجوز لأنه معدود واحتج الحنابلة بما ورد (عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ وَلَا خَمْسِ أَوَاقٍ وَلَا خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ صَدَقَة) ( ).
السادس : قال الشافعية تجب الزكاة في الزروع والثمار التي تكون قوتاَ ويعتاش عليه البدن , لا ما يؤكل تنعماَ ودواء , فتجب في التمر والعنب , ومن الحبوب الحنطة والشعير والأرز , والعدس والذرة , والحمص والباقلاء .
ولا تجب الزكاة على هذا القول في التين والجوز واللوز والرمان والتفاح والسمسم والزعفران .
ومن فلسفة الزكاة في الإسلام استغناء الأغنياء والفقراء المسلمين عن الغزو والسلب والنهب , أما الأغنياء فمن وجوه :
الأول : يدل اخراج الأغنياء من أموالهم إلى غيرهم على الخشية من الله عز وجل والقربة إليه سبحانه , بالدلالة التضمنية على تنزهم عن أكل مال الغير .
الثاني : سنخية الزكاة شاهد على معاني المودة والرحمة والألفة بين الناس .
الثالث : دلالة تعيين الأصناف التي تجب فيها الزكاة على قيام المسلمين بالزراعة وعمارة الأرض ومزاولة التجارة , والكسب الحلال .
فوجوب الزكاة من التمر والعنب شاهد على زراعة المسلمين للأشجار المعمرة والعناية بها وحراستها ومتابعة التلقيح .
الرابع : حال الغنى عند المسلمين من أموال الزراعة والتجارة ولا ملازمة بين الزراعة والغنى فقد يقوم المسلم والإنسان مطلقاَ بالزراعة ولكنه لا يحقق النصاب في الكسب فلا تجب عليه الزكاة ولكن تستحب له الصدقة مطلقاَ , قال تعالى [وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
والقانع هو الذي ترسل له إلى بيته من غير أن يسألك , قال تعالى [يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ] ( ).
والمعتر الذي يتعرض لك وقد يلمح عن حاجته ولكنه لا يسأل , وتشمل الآية الذي يسأل عطاءه من الحصاد والمال , وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فكلوا وادخروا ما بدا لكم” وفي رواية: “فكلوا وادخروا وتصدقوا” . وفي رواية: “فكلوا وأطعموا وتصدقوا”)( ).
ليكون المسلمون في باب الكسب والزكاة على أقسام :
الأول : الذين تجب عليهم الزكاة , ولا يدل هذا الوجوب على الغنى , فقد يدفع المسلم ما يجب عليه , ولكنه يقترض في نهاية الحول .
وعن الإمام جعفر بن محمد عليه السلام (أَطعمُ القانع والمعتر ثلثاً ، والبائس الفقير ثلثاً ، وأهلي ثلثاً) ( ).
إن علماء الإسلام مدعوون لإصدار أحكام واحدة فيما يخص الزكاة ومتعلقها ومقدارها , والأجناس التي تجب فيها بلحاظ الكتاب والسنة , فقد كان للتباعد في البلدان سبب في إختصاص كل أهل بلد بإتباع مذهب معين من المذاهب الأربعة .
ولم يعد لهذا الأمر موضوعية في زمن العولمة والسرعة , وقد لا يطاق الوقوف الطويل على التفاصيل وتعدد الفتوى على المذاهب فيما يخص المسألة الفرعية الواحدة بما قد يبعث الملل والسأمة ومع عظيم شأن رؤساء المذاهب الأربعة فلا خصوصية لهم تجعل التقيد التام بأقوالهم يرقى إلى مرتبة الكتاب والسنة على مرّ الأزمنة , إنما يجمع بين أقوال الفقهاء , قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
حتى على فرض عدم إمكان الوصول إلى إتفاق تام في المسائل الفقهية والأصولية والكلامية , فمن الممكن التوصل إلى إتفاق عام بين المسلمين على نحو الموجبة الجزئية في شطر من تلك المسائل وقد أصدرت قبل خمس عشرة سنة فتوى بعنوان (ضرورة إندماج المذاهب الإسلامية).
فلا بد من التخفيف عن المسلمين بالتخلص من تعدد أقوال المذاهب في الحالة الواحدة التي يمكن الجمع فيها بين الأقوال خاصة وأن الخلاف فيها صغروي ، ولكنه لا يخلو من أسباب العناء ومعاني الفرقة , قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
الثاني : المسلم الذي يكسب قوته بيده , وتكون عنده فضلة وزيادة في المؤونة , ولكنها لا ترقى إلى مقدار النصاب , ومتعلق الزكاة بها , فلا تجب عليه الزكاة , ولا يستحق منها إلى أن يصدق عليه أنه فقير .
الثالث : الذي لا يملك قوت سنته بالفعل ,ولكنه يملكه بالقوة بأن يخرج إلى العمل كل يوم فيكسب قوته وقوت عياله , فلا تجب عليه أو له الزكاة والخمس .
الرابع : الفقير والمسكين اللذين لا يملكان قوت سنتهما وإن سعيا وعملا , وورد ذكرهما في قوله تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
الخامس : المسلم الذي يكسب مال يتعلق بجنسه الزكاة كالتمر والحنطة ولكن ما يرده لا يبلغ النصاب , فلا تجب عليه الزكاة , ولكن عدم الوجوب هذا لا يمنع استحباب الصدقة والإنفاق في سبيل الله عز وجل , وهو من الإعجاز في ذكر الزكاة من جهة تعيين الأصناف الذين تجب عليهم , والذين يستحقون الصدقات بقوله تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
السادس : الذي عنده كسب ويأتيه رزق في مال غير زكوي ولا تتعلق به الزكاة وإن كان مقداره أكثر من مقدار النصاب في المال الزكوي , وفي وجوب الزكاة وتعيين أصنافها دعوة له للإنفاق في سبيل الله عز وجل , والتصدق من ماله .
ويدل حصر الزكاة بأجناس مخصوصة على بعث المسلمين للعمل , وترغيبهم بالتجارة والصناعة والكسب من غير أن تفرض عليهم زكاة أو ضريبة , وتتجه الحكومات في هذه الأزمنة إلى تشجيع المؤسسات الصغيرة والأفراد على العمل والإنتاج بالتخفيف عنهم في الضرائب وقد سبقهم الإسلام قبل أكثر ألف وأربعمائة سنة , إلى سنن القوانين السماوية في هذا الباب ليكون هادياً للأنظمة والحكومات .
السابع : المسلم الذي ليس عنده مؤونة سنته بالقوة أو بالفعل , والمراد من القوة أنه يستطيع كسب قوته يومه عندما يخرج للعمل , أما المراد من امتلاكها بالفعل , فهر إدخار قوت سنته بالفعل
الثامن : الفرد العاجز عن إدخار قوت سنته وفق الشأن اللائق به , وهو الذي يصدق عليه أنه فقير ويستحق سهماً من الزكاة .
وفيه ترغيب للفقراء بالتطلع إلى الأغنياء بما عندهم من حق الله عز وجل الذي أوجبه عليهم من غير أن تصل النوبة لهم بالغزو أو الحث عليه , وذات نظام الزكاة السماوي دعوة للناس للإسلام والتراحم والتوادد بينهم.
ومن إعجاز القرآن والتشريع الإسلامي أن نظام الكفارات والتي تشبه العقوبات يتقوم بإعانة الفقراء .
فكفارة افطار يوم من شهر رمضان عن عمد إطعام ستين مسكيناً , أو عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين , وكفارة اليمين والحلف اطعام عشرة مساكين .
قانون التدبر في القرآن من الصراط المستقيم
التدبر لغة التفكير وتصريف النظر في عواقب الأمور ، وتحتمل النسبة بين التفكر والتدبر وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي , وأن التدبر هو نفس التفكر .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : التفكر أعم من التدبر .
الثانية : التدبر أعم من التفكر .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للافتراق .
والمختار أن النسبة بينهما هي الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه فالقدر المتيقن من التدبر لغة هو التفكر في العواقب ، وما يؤول إليه الأمر ، بينما التفكر هو تصريف القلب في الموضوع والدليل .
وقد يقول بعضهم لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما أقدمت على الفعل الفلاني ، أي لو علم من بادئ أمره ما يؤول إليه الفعل الذي فعله لما تجرأ وأقدم عليه في إشارة لإظهاره الندم والحسرة .
قال ابن منظور (وفلان ما يَدْرِي قِبَالَ الأَمْرِ من دِباره أَي أَوَّله من آخره ويقال إِن فلاناً لو استقبل من أَمره ما استدبره لَهُدِيَ لِوِجْهَةِ أَمْرِه) ( ).
والتدبر في الإصطلاح أعم إذ أنه يشمل التفكر في آيات القرآن من جهات متعددة منها عواقب الأمور .
وهل التدبر في آيات القرآن علم مستقل بذاته وباعث للعناية بها تأليفاً وقراءة وجمعاً في المعاني الخاصة والعامة من الصراط المستقيم , الجواب نعم ، فهي نعمة من عند الله ورشحة من ذخائر القرآن، وسبيل لتثبيت معانيه في الأذهان ، وزيادة في الإيمان ومضاعفة في الحسنات وضياء ينير القبر بعد الوفاة بلحاظ أن علم التفسير اشتغال بالقرآن وتدبر في مضامينه ودلالات آياته وتسليم باعجازه ,وإقرار بأنه كلام الله ، قال تعالى [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ] ( ).
ومن منافع التدبر في آيات القرآن أنه منهاج وصراط مستقيم للعمل بمضامينه ، والتدبر في القرآن وآياته أعم من أن يختص بالنظر بعواقب الأمور ، ومن وجوه التدبر في القرآن :
الأول : أسرار نزول كلام الله عز وجل إلى الأرض .
الثاني : إنحصار نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره من البشر .
الثالث : لقد توالى نزول الصحف والكتب السماوية على الأنبياء ، ولم ينزل مثل القرآن إعجازاً أو موضوعاً أو دلالة .
الرابع : التدبر في أسرار إنفراد القرآن من بين الكتب السماوية بخصائص متعددة من ضروب الإعجاز .
الخامس : تقسيم القرآن إلى سور وآيات .
السادس : ترتيب سور القرآن بلحاظ أنه ترتيب توقيفي .
السابع : سلامة القرآن من التحريف .
الثامن : ميل النفوس إلى القرآن .
التاسع : السهولة واليسر في حفظ القرآن .
العاشر : ميل النفوس للإمتثال لما في القرآن من الأوامر والنواهي .
الحادي عشر : إدراك العقول لمضامين آيات القرآن .
وإفاضاته ليست محدودة ، فهي متجددة ومتشعبة , ومنها ما يستقرأ بلحاظ الوقائع والعلوم المستحدثة ، وكما قمنا بتقسيم إعجاز الآية القرآنية إلى قسمين :
الأول : إعجازي ذاتي .
الثاني : إعجاز غيري .
فيمكن أيضاُ تقسيم التدبر في القرآن إلى قسمين :
الأول : التدبر في ذات القرآن .
الثاني : التدبر الغيري في فضل وأثر القرآن .
ومن لطف الله عز وجل تفضله عليّ بقيامي بتأليف أجزاء التفسير وتصحيحها ومراجعتها بمفردي ليس معي إلا الإحسان والعون والمدد منه سبحانه ، وأسأل الله عز وجل أن يهيئ لي فريق عمل للإسراع في إنجاز الأجزاء التالية مع توفير هذا الفريق عني جهدا وبما لا ينقص الأجر والثواب , ولتنمية ملكة إتباع منهجية استنباط واستقراء في التفسير .
ومن الفيض الإلهي وأسرار هذا الإنفراد تحري الدقة والتفصيل في الموضوع وبيان الحكم والإتيان بالدليل والمدرك والتوسعة في المعاني وكثرة القوانين في هذا التفسير ،وهي مستقرأة من ذات آيات القرآن ، وتضيئ ثناياها لآلىء من السنة النبوية الشريفة .
ثم جاء قانون (لم يغز النبي – ص – أحداً) لأكتب فيه المجلدات ،وهذا هو الجزء الرابع عشر الخاص بهذا القانون ،وليس من تحديد وتعيين لعدد الأجزاء الخاصة به ، كما أنه دعوة للعلماء لسبر أغوار آيات القرآن بلحاظ السنة النبوية ، وصيرورتها شاهداً من عالم الوحي على سلامة منهاج النبوة من الغزو .
ولتتجلى معاني الرحمة في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) في علوم التفسير ،وفي الدفاع عن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومنع الغلو والتحريف فيها .
والمتواتر في علم السنة النبوية والتأريخ الإسلامي هو ذكر عدد غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإختلاف في عددها بين تسع وعشرين وسبع وعشرين وست وعشرين غزوة . والمختار ليس من غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد جعل الله عز وجل النبوة الصلة بين السماء والارض , وتبعث علوم الوحي الطمأنينة والبهجة في النفوس , وتمنع من الكأبة والحزن والكدورة , وأول نبي في الأرض هو آدم عليه السلام كان نبياً رسولاً إلى نفسه وحواء ومن ثم لأولاده وأحفاده فما أن يولد واحد منهم حتى تكون النبوة بإنتظاره لهدايته إلى الصراط القديم .
ولم يبعث أول الأنبياء للقتال والغزو , وليس هناك من يقاتله أو يحاربه, والجميع أبناؤه وأحفاده , وكذا خاتم النبيين لم يبعث لقتال أو غزو إنما كان [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وهل تشمل الرحمة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأجيال الماضية , الجواب نعم ,وفيها تصديق للنبوات السابقة .
وإكرام لأنصار وأتباع وأمم الأنبياء السابقين , وقد وثّق القرآن قول الحواريين , كما في التنزيل [مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] ( ).
فإن قلت قد فرض الإسلام الجزية على اليهود والنصارى وألحق بهم المجوس , والجواب لقد كان موضوع الجزية هو دفاع المسلمين عن أهل الذمة , فيخرج المسلمون للدفاع , ويرابطون في الثغور يذبون عن أهل المدن من المسلمين والمسلمات وأهل الكتاب وعوائلهم وأموالهم وأراضيهم وزراعاتهم فيؤخذ نوع ضريبة بسيطة عن الرجال البالغين من أهل الكتاب دون النساء والصبيان فلا جزية عليهم , وليس الأمر كما هو اليوم بأن يحكم في البلاد دستور عام فيساوي في الدفاع ولباس الزي العسكري المسلم وغير المسلم بلحاظ المواطنة .
حيث لا جزية في المقام لأن الكتابي يدافع بنفسه وماله عن البلاد , فإن قلت قد ورد قوله تعالى [حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] ( ), والجواب إذا تبدل الموضوع تغير الحكم , وكما في عتق الرقبة في الكفارة قال تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ).
وقوله تعالى في كفارة اليمين [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
ويتضمن هذا الجزء وهو الثمانون بعد المائة دراسات بخصوص معركة بدر , ومقدمات معركة أحد , وكيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة كانوا يدفعون أسباب القتال ولم يلتفتوا إلى تهديد كفار قريش مع تحقق مصداقه فيما بعد بهجومهم ومحاصرتهم المدينة ولكنهم عجزوا عن تحقيق غاياتهم الخبيثة , فقد أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد , فرجع بفضل الله إلى المدينة سالما من القتل ولكنه مثقل بالجراحات مع كسر أسنانه الأمامية لتكون شاهداً وحجة على الذين كفروا بأنهم أرادوا فعلاً فقتله يوم معركة بدر إذ يعني جريان الدم من وجنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكسر أسنانه , وشق شفته على أنهم بذلوا الوسع وبطرائق متعددة لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الله عز وجل أنجاه .
وحينما أشاع الذين كفروا في ميدان المعركة بأنهم قتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن قال ابن قمئة : قتلت محمداً , لم تكن هذه الإشاعة كذبة متعمدة , إنما كان ابن قمئة يظن أنه قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسرعان ما انتشر هذا الخبر بين الصحابة في ميدان المعركة , وأثره على النفوس بالغ إذ يبعث على الحزن والقنوط لولا أن عصمهم الله عز وجل حتى تبين لهم كذب هذه الإشاعة , والتي وصلت إلى المدينة ليكون بيان عدم صحتها مواساة لأهل المدينة في خسارة الجيش التي سبعين شهيداً يومئذ .
وعندما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة في معركة أحد تلقتهم امرأة من بني دينار فنعوا إليها كل من :
الأول : أبوها .
الثاني : زوجها .
الثالث : أخوها .
إذ استشهدوا في معركة أحد , وتلقت المصيبة بصبر واسترجاع واحتساب وما لبثت أن قالت كما في حديث سعد بن ابي وقاص (ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظر إليه.
قال: فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.) ( ).
أي أن المصيبة بعدك تهون .
قانون أدعية الأنبياء في القرآن مستجابة
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا نعمة لذاتها وللآخرة ويتقوم الحرث فيها بالإيمان والعمل الصالح .
وهناك تداخل بين الإيمان والعمل الصالح فيأتي الفرد الواحد من القول أو العمل على وجوه :
الأول : إنه مصداق وفرد من الإيمان كما في قوله (أشهد أن لا إله إلا الله ).
الثاني :من العمل الصالح الهجرة في سبيل الله لسلامة الدين ، قال تعالى [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] ( ) وفي قوله تعالى [وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ] ( ) , أي واظبوا على أداء الفرائض والعبادات وتنزهوا عن فعل المعاصي , وتحملوا الأذى في جنب الله .
الثالث : العنوان الجامع للإيمان والعمل الصالح ، ويتجلى بأبهى حلله في إتيان الصالحات بقصد القربة إلى الله عز وجل .
وتحتمل أدعية الأنبياء وسؤالهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسلامته وكثرة أتباعه وأنصاره ونصره وجوهاً :
الأول : إنها وحي من عند الله للأنبياء بأن سألوه سبحانه في موضوع وأحكام النبوة .
الثاني : إنها إجتهاد منهم بعد أن أخبرهم الله عز وجل برسالته وأنه خاتم النبيين ، وادراكهم بأنه سيحفظ وأمته النبوة والتنزيل .
الثالث : إرتكاز أدعية الأنبياء إلى الوحي فهو الأصل إذ يتوارث الأنبياء البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : إتصاف أدعية عدد من الأنبياء كالرسل بأنها من الوحي وبعض الأنبياء بالإجتهاد منهم بعد العلم بالبشارة .
الخامس : التفصيل في أدعية ذات النبي الواحد فبعض أدعيته وحي ، وبعضها ليست من الوحي ولكنها فرع ومرآة للوحي وورد حكاية عن إبراهيم في التنزيل [وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا] ( ).
المختار هو الأول والثالث والخامس من غير تعارض بينها لموضوعية الوحي في أدعية الأنبياء التي وثقها القرآن .
والوحي لغة هو الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام وكل ما ألقيته إلى غيرك ، وهو إعلام في خفاء ، وقد تقدم البيان( ) والوحي من الكليات المشككة الذي يقع على مسميات متعددة ذات معنى واحد .
وهو في علم الكلام تعليم وإلقاء الله عز وجل للأنبياء ما يتعلق بأمور الدين بواسطة الملائكة من غير واسطة بشر .
ومن الوحي الحديث القدسي والسنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية والدفاعية وإنقطاع الوحي بإنتفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى , ولكن بقي التحديث أي تحديث الملائكة , والرؤيا الصالحة بفضل ولطف من عند الله عز وجل , قال تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ).
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن رؤيا الأنبياء وحي ، قال تعالى في قصة إبراهيم وإسماعيل[فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ] ( ) .
وأول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح .
والوحي مصدر التكاليف والشرائع ، وقيل لولاه لانقطعت أخبار السماء ، ولكنه نوع طريق لتبليغ التنزيل والأحكام , وأبى الله إلا أن تكون هناك واسطة بينه وبين الخليفة في الأرض .
وورد لفظ الوحي في نحو سبعين موضعاً من القرآن ، كما انه ورد بصيغ أخرى كما في قوله تعالى [ وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( )[قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ] ( ).
[فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] ( ) وفي إبراهيم عليه السلام ورد الوحي بفريضة الحج [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ).
لقد حبّب الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بداية البعثة الإنفراد والخلوة في غار حراء يتحنث في الليالي ذوات العدد أي ليالي متعددة , ثم يرجع إلى خديجة , ويتزود إلى أن جاءه الحق ونزل جبرئيل , وقال [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( ).
ومراحل الوحي هي :
الأول : تفضل الله عز وجل بالوحي والأمر .
الثاني : نزل الملك وهو الواسطة بالوحي .
الثالث : تلقي الموحى إليه وهو النبي للوحي .
الرابع : قيام النبي بتبليغ الوحي .
وهل هناك وحي خاص بالنبي ، الجواب نعم ، وهو من اللطف الإلهي وإصلاح النبي للقيام بوظائف الدعوة والتبليغ ، ومن الوحي ما هو صحائف ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى]( ) .
ومن أدعية الأنبياء في القرآن أدعية نوح عليه السلام منها [رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا] ( ).
ليتغشى دعاء نوح المؤمنين والمؤمنات إلى يوم القيامة ,فتصاحبهم دعوة الأنبياء لهم بالمغفرة , وسؤال العفو لهم من الله عز وجل , فيكون دعاء الأنبياء صاحباً كريماً لكل مؤمن ومؤمنة , وليس من حصر لموضوع دعاء النبي نوح زماناً أو مكاناً .
ولم يأت بخصوص شريعته إنما هو شامل للمؤمنين في الشرائع السماوية المتعاقبة وبيّن القرآن بجلاء النعم التي كان يتمتع بها قوم عاد وقوم هود , وما رزقهم الله من الجنات والعيون والزراعات وكثرة الأنعام , والقصور الشاهقة .
ولكنهم كانوا يعبدون الأصنام وينكرون المعاد (عن ابن عباس ومن طريق ابن اسحق عن رجال سماهم ومن طريق الكلبي قالوا جميعاً : إن عاداً كانوا أصحاب أوثان يعبدونها ، اتخذوا أصناماً على مثال ودَّ ، وسواع ، ويغوث ، ونسر ، فاتخذوا صنماً يقال له : صمود ، وصنماً يقال له : الهتار ، فبعث الله إليهم هوداً .
وكان هود من قبيلة يقال لها الخلود ، وكان أوسطهم نسباً وأصبحهم وجهاً ، وكان في مثل أجسادهم أبيض بعد أبادي ، العنفقة ، طويل اللحية ، فدعاهم إلى الله ، وأمرهم أن يوحدوه وأن يكفوا عن ظلم الناس ، ولم يأمرهم بغير ذلك ، ولم يدعهم إلى شريعة ولا إلى صلاة ، فأبوا ذلك وكذبوه .
وقالوا : من أشد قوّة ؟ فذلك قوله تعالى { وإلى عاد أخاهم هوداً }( ) كان من قومهم ولم يكن أخاهم في الدين { قال يا قوم اعبدوا الله }( ) يعني وحدوا الله { ولا تشركوا به شيئاً ما لكم }( ) يقول : لكم { من إله غيره أفلا تتقون }( ) يعني فكيف لا تتقون { واذكروا إذ جعلكم خلفاء }( ) يعني سكاناً { في الأرض من بعد قوم نوح }( ) فكيف لا تعتبرون فتؤمنوا وقد علمتم ما نزل بقوم نوح من النقمة حين عصوه ؟! { واذكروا آلاء الله }( ) يعني هذه النعم { لعلكم تفلحون } أي كي تفلحوا .
وكانت منازلهم بالأحقاف ، والأحقاف : الرمل . فيما بين عمان وحضرموت باليمن ، وكانوا مع ذلك قد أفسدوا في الأرض كلها ، وقهروا أهلها بفضل قوّتهم التي آتاهم الله) ( ).
وتوجه هود بالدعاء إلى الله عز وجل وقال [رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ] ( ), ولما نزل العذاب بقوم هود أنجاه الله عز وجل ومن آمن معه , وكان عددهم قليلاً , قال تعالى [وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ] ( ) .
وبلاد عاد وقوم هود في الأحقاف التي تقع جنوب الجزيرة العربية والتي صارت في هذا الزمان صحراء قاحلة وخالية من السكان , وقد تعمر وتكون فيها ثروات وتبنى فيها المساجد وتنشأ المدن والقرى , وهو من بركات ذكرها في القرآن ووراثة المؤمنين لتلك الديار .
لبيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكثرة أصحابه من المهاجرين والأنصار , وعدم نزول العذاب بقريش إلا ما كسبت أيديهم بغزوهم المدينة وإصرارهم على القتال ومحاربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ولم يكن هود يرفع السلاح ,ولم يقاتل وكان حسن التوكل على الله عز وجل , وفي التنزيل حكاية عنه [إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
وإبراهيم عليه السلام من الرسل الخمسة أولي العزم , ولم يرفع سلاحاً ولم يقاتل , إنما كان يدعو إلى الله عز وجل بالحجة والبرهان , لذا أكرمه الله عز وجل ونعته بأنه أمة , قال تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا] ( ).
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إقتداؤه بالنبي إبراهيم وسنته , وفي التنزيل [مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
أي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يقاتل ولم يحارب ولكن قومه أصروا على قتاله لبيان مصداق في الدراسة المقارنة بين حياة وسيرة الأنبياء , ومنه قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)( ) .
وكذا النبي لوط فإنه لم يقاتل ولم يحارب , ولكنه كان يدعو إلى الله عز وجل بالإنذار والموعظة والتحذير من الرذائل والفواحش التي كان يتصف بها قومه ومع هذا فقد اوجه إلى الله عز وجل بسؤال النصر عليهم كما ورد في التنزيل [قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ] ( ).
ليكون هذا الدعاء سلاحاً بيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فيدعون به على القوم المفسدين المشركين الظالمين.
إذ جمع كفار قريش الرذائل بعبادة الأوثان ومحاربة النبوة والتنزيل , وتعددت أدعية موسى عليه السلام التي وردت في القرآن ومنها [قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ] ( ), [رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ] ( ), [قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي] ( ).
وسأل سليمان الله عز وجل بقاء النعمة , ودوام فضله وإعانته عز وجل له لتسخيره في طاعته كما ورد في التنزيل [رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ] ( ).
واجتهد أيوب بالدعاء والتسبيح طلباً للعافية والسلامة كما ورد في التنزيل [أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ), وأرسل الله عز وجل يونس إلى أهل نينوى في العراق في القرن الثامن قبل الميلاد تقريباً ليدعوهم إلى التوحيد وأداء الفرائض فامتنعوا عليه , وأبوا إلا الإقامة على الشرك , فوعظهم وأكثر من إنذارهم .
وأخبرهم بحلول العذاب وأنه تارك لهم البلدة مهاجراً ومعرضاً عنهم لتلبسهم بالمعصية وإرتكاب الفاحشة , وصدودهم عن دعوة الحق , ولما تجلت أمارات الإنذار , وسهام البلاء فزعوا إلى الله عز وجل تائبين منيبين , وتركوا ما هم فيه من النعم , وخرجوا إلى رؤوس الجبال وإلى البيداء .
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (لا ينجي حذر من قدر ، وأن الدعاء يدفع من البلاء ، وقد قال الله في كتابه { إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ) ( ).
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما دعا يونس على قومه أوحى الله إليه أن العذاب مصبحهم . فقالوا : ما كذب يونس وليصحبنا العذاب ، فتعالوا حتى نخرج سخال كل شيء فنجعلها مع أولادنا فلعل الله أن يرحمهم . فأخرجوا النساء معهن الولدان ، وأخرجوا الإِبل معها فصلانها ، وأخرجوا البقر معها عجاجيلها ، وأخرجوا الغنم معها سخالها فجعلوه إمامهم ، وأقبل العذاب فلما أن رأوه جأروا إلى الله ودعوا ، وبكى النساء والولدان ، ورغت الإِبل وفصلانها ، وخارت البقر وعجاجيلها ، وثغت الغنم وسخالها ، فرحمهم الله فصرف عنهم العذاب إلى جبال آمد ، فهم يعذبون حتى الساعة) ( ) .
ومضى يونس إلى سبيله , قال تعالى [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ] ( ), أي لا نضيق عليه في المعيشة والحياة لأن (لَنْ نَقْدِرَ) من التقدير وليس من القدرة , وذو النون هو نفسه يونس ,والنون الحوت لأنه ابتلعه إذ ركب يونس في سفينة مع قوم وهاج البحر , وارتأى ركاب السفينة لأن يخفف عن حملها بأن يلقى أحدهم في البحر , فاقترعوا بينهم , فوقعت القرعة على يونس , فاشفقوا عليه لما رأوا من حسن سمته وإنقطاعه إلى الذكر وأعادوا القرعة مرة أخرى فوقعت عليه , ثم ثالثة فوقعت عليه أيضاً , فسلم للأمر وألقى بنفسه في البحر , لتتلاقفه الأمواج ويبتلعه الحوت .
وأوحى الله عز وجل إلى الحوت أن يطويه في بطنه ولا يأكل لحمه , ولا يهشم له عظماً , فيتوجه إلى الدعاء , وهو في بطن الحوت , قال تعالى [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ), وهذه الظلمات هي :
الأولى : ظلمة الليل .
الثانية : ظلمة البحر .
الثالثة : ظلمة بطن الحوت .
وقالت الملائكة (صوت معروف في أرض غريبة) ( ).
فيتفضل الله عز وجل ويذكر دعاءه في القرآن ليسمعه المسلمون والناس إلى يوم القيامة , ويتخذوا منه نبراساً ودرساً بالحاجة إلى الدعاء في حال الرضا والضيق , والانتفاع العظيم من الدعاء فلا يظن أحد أن حوتاً يبلع إنسان ثم يخرج سالماً من بطنه .
وقد تقع مثل هذه الحادثة مستقبلاً وعلى نحو متكرر بواسطة العلم والتقنية الإحترازية للدلالة على الإعجاز في نزول القرآن وصدق آياته فاذا أنعم الله عز وجل بنعمة فإنه أكرم من أن يرفعها , ولكنها تأتي بالواسطة والعلم وفضل من الله عز وجل , وأوحى الله عز وجل إلى الحوت فألقاه على الساحل وهو سقيم وعليل فأنبت الله عليه شجرة , قال تعالى [وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ] ( ), ليستظل بظلها ,ويتغذى من ثمرها.
ومن الإعجاز في ذكر هذه الشجرة في القرآن وكونها طعاماً واحداً يتغدى به النبي يونس إكتشاف علماء الغذاء في هذا الزمان فوائد ومنافع عظيمة لليقطين , ليرجع يونس إلى قومه وقد أنابوا إلى الله عز وجل .
أما النبي محمد صلى الله عليه آله وسلم فإنه لم يهاجر من مكة ولم يغادرها إلا بعد أن عزموا على قتله في الليلة التي هاجر فيها , إذ جاء جبرئيل وأمره بالخروج إلى المدينة مهاجراً ولم يدع على قومه مع ضلالتهم وشركهم , إذ كان يسأل الله عز وجل الهداية حتى جاء فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة فيدخل أهلها في الإسلام .
لقد دعا الأنبياء الله عز وجل الهداية للناس , ودعاء النبي واقية من القتال , وبرزخ دون اللجوء إليه , وقد سأل الأنبياء الله عز وجل النجاة من القوم الظالمين .
ويدل هذا السؤال بالدلالة التضمنية على عزوف الأنبياء عن القتال , وورد حكاية عن إبراهيم في التنزيل [لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ] ( ), وفي موسى ورد قوله تعالى [فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] ( ).
كما ورد من قبل في البشارة لنوح بنجاته من الظالمين قال تعالى [فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] ( ).
(عن أبي ذر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق) ( ).
وأدعية الأنبياء وسؤالهم الله عز وجل بالنجاة لأنفسهم والمؤمنين ودعائهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته من الوحي الذي تفضل الله عز وجل به عليهم , ولا يعلم النفع العظيم من أدعيتهم إلا الله عز وجل , ومنه صرف كيد المشركين , وعجزهم عن مواصلة غزو المدينة , وعن إطالة ساعات وأيام معارك الإسلام الأولى .
قانون صحف الأنبياء في القرآن
وردت الأخبار بنزول الصحف على الأنبياء ، وليس من حصر لها ، ومنها :
الأول : الصحف التي نزلت على النبي آدم عليه السلام , إذ نزلت عليه إحدى وعشرون صحيفة ، كما في الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام .
الثاني: صحف النبي شيث ونزلت عليه خمسون صحيفة .
الثالث : ما نزل على النبي إدريس , ونزلت عليه ثلاثون صحيفة و(كان بين نوح وبين آدم عشرة آباء كلهم على الإسلام . وكان إدريس جدّ أبي نوح ولم يكن بين آدم ونوح نبي مرسل ، وكان إدريس نبياً ولم يؤمر بقتال , ويقال : أنزل عليه عشرون صحيفة ، وقد آمن به كثير من الناس) ( ).
الرابع : صحف النبي إبراهيم , ونزلت عليه عشرة صحائف .
الخامس : صحف النبي موسى ونزلت عليه عشرة صحائف ، وورد قوله تعالى [وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
وتتضمن هذه الصحائف الحكم والمواعظ والأخلاق الحميدة وتأكيد وجوب الإقرار بالوحدانية لله عز وجل والتنزه عن الشرك ، وهل جاء القرآن بمضامين هذه الصحف .
الجواب نعم ، وهو من مصاديق عموم البيان في قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
(عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل على شيث خمسين صحيفة ، وعلى ادريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف ، وأنزل التوراة والإِنجيل والزبور والفرقان .
قلت يا رسول الله : فما كانت صحف إبراهيم؟ قال : أمثال كلها أيها الملك المتسلط المبتلى المغرور لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم ، فإني لا أردها ولو كانت من كافر ، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ويتفكر فيما صنع ، وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال ، فإن في هذه الساعة عوناً لتلك الساعات واستجماعاً للقلوب وتفريغاً لها .
وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه حافظاً للسانه ، فإن من حسب كلامه من عمله أقل الكلام إلا فيما يعنيه ، وعلى العاقل أن يكون طالباً لثلاث مرمة لمعاش ، أو تزوّد لمعاد ، أو تلذذ في غير محرم .
قلت يا رسول الله : فما كانت صحف موسى؟ .
قال : كانت عبراً كلها عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، ولمن أيقن بالموت ثم يضحك ، ولمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها ، ولمن أيقن بالقدر ثم ينصب ، ولمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل .
قلت : يا رسول الله : هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ . قال : يا أبا ذر نعم { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى }( ) ) ( ).
وجاء النسخ في الشرائع بخصوص شطر من الأحكام إذ بعث الله عز وجل الأنبياء مبشرين ومنذرين ، ويمكن تقسيمهم تقسيماً استقرائياً إلى أقسام :
الأول : الأنبياء الذين يتلقون الوحي من غير أن يروا الملك ، وقد يبعث الله سبحانه النبي لنفسه أو لأسرته أو لقومه كما في يونس [وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ] ( ).
وعدد الأنبياء هو مائة وأربعة وعشرون ألف نبي .
الثاني : الرسل ، وهو أصحاب الشرائع المبتدأة والذين بعثوا إلى الناس جميعاً وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر .
الثالث : الرسل أولوا العزم ، وهم خمسة :
الأول: نوح عليه السلام .
الثاني : إبراهيم عليه السلام .
الثالث : موسى عليه السلام .
الرابع : عيسى عليه السلام .
الخامس : محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكل نبي يعمل برسالة الرسول الذي قبله , ويبشر بالرسول الذي يأتي من بعده من الرسول ، (وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وبين موسى وعيسى ألفا سنة) ( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن بين عيسى وبينه نحو ستمائة سنة ، وقيل خمسمائة وستون وليس فيها نبي .
وقد قال عيسى عليه السلام كما في التنزيل [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ).
فيشمل هذا النسخ في الشرائع البيان والتوسعة في الأحكام ، لإنتشار الإسلام في كل زمان ومكان ، وتتجلى مفاهيم الإسلام بعد نبوة محمد بالتوحيد وإقامة الفرائض والمناسك .
وتحتمل البشارة المتعاقبة والتي تصدر من الرسول السابق ببعثة الرسول اللاحق بخصوص القتال والغزو وجوهاً :
الأول : البشارة مقدمة للإستعداد للقتال دفاعاً عن الرسول اللاحق .
الثاني : إرادة تأكيد الرسالة اللاحقة لإعانة الرسول في الغزو .
الثالث : دعوة النبي أو الأنبياء الذين يسبقون الرسول اللاحق بالقتال والغزو كمقدمة لرسالة الرسول .
الرابع : لا ملازمة بين البشارة بالرسول اللاحق وبين القتال والغزو .
الخامس : دلالة قيام الرسول اللاحق بالبشارة بمن يأتي بعده من الرسل على الإمتناع عن الغزو .
والصحيح هو الأخير , ومن الإعجاز ذكر الآية أعلاه من سورة الصف , خصوص الرسول عيسى عليه السلام وبشارته بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسعَ عيسى إلى غزو , ولم يحمل سلاحاً أبداً .
ويتوفى الله سبحانه الرسول ولكن بشارته تبقى حية غضة متجددة يخاطب بها أهل كل زمان .
فلا تنحصر بشارة عيسى بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأجيال السابقة للنبي عيسى عليه السلام إنما هي مستمرة ومتصلة إلى يوم القيامة , وتقدير الآية :
الأول : ومبشراً برسول سيأتي من بعدي اسمه أحمد .
الثاني : ومبشراً برسول أتى من بعدي اسمه أحمد .
الثالث : ومبشراً برسول يأتي من بعدي هو وأمته .
وعن كعب الأحبار (أن الحواريين قالوا لعيسى يا روح الله هل بعدنا من أمة قال نعم أمة أحمد حكماء علماءأتقياء أبرار اسمه أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الله الناس على قدمي وأنا العاقب فلا نبي بعدي) ( ).
نزول الغيث عشية بدر معجزة
تفضل الله عز وجل وأنزل مطراً من السماء ، وهو من مصاديق البركة فيه وعمومات قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ] ( ) بأن تنتفع أجيال المسلمين والناس جميعاً من المطر ليلة معركة بدر .
وقد ذكر الله عز وجل فضله في نزول الغيث من السماء ليلة بدر بقوله تعالى [إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ] ( ) .
لقد سبق جيش المشركين إلى الماء ، ومنعوا المسلمين منه فأصابهم الظمأ واحتلم بعضهم , وقد تعذر عليهم الغسل ، فتفضل الله عز وجل وأنزل الغيث رحمة وبشارة .
(عن ابن عباس: أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء ، فظمىء المسلمون وصلوا مجنبين محدثين فكانت بينهم رمال ، فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن , وقال : أتزعمون أن فيكم نبياً وإنكم أولياء الله وتصلون مجنبين محدثين؟
فأنزل الله من السماء ماء فسال عليهم الوادي ماء ، فشرب المسلمون وتطهروا , وثبتت أقدامهم , وذهبت وسوسته ) ( ), ومن الآيات إلى هذا الزمان تهطل الأمطار الغزيرة بين سنة سنة وأخرى في مكة وتلك المناطق من الجزيرة لتجري السيول في الأودية .
لقد أنزل الله عز وجل المطر تلك الليلة ليكون السبق إلى الماء حينئذ أمراً زائداً ، ولبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية وتجلي عون ومدد من الله عز وجل للمسلمين من جهات :
الأولى : شراب المسلمين الماء وإنتفاء الضمأ .
الثانية : اغتسال المسلمين من ماء المطر .
الثالثة : خزن المسلمين الماء لإحتمال إطالة مدة البقاء في بدر أو أستمرار المعركة لأكثر من يوم .
الرابعة : بعث السكينة في نفوس المسلمين من جهة الخشية من استحواذ الذين كفروا على الماء فلا تسيخ أو تنزلق فيها الأقدام .
الخامسة : تلبيد الأرض التي كان يسير عليها المسلمون في بدر إذ كانت أرضهم دهاساَ أي أنها رمل ليّن تسوخ فيه الأقدام ويصعب فيها السير وكان المسلمون يرومون السبق إلى الماء ، وحينما نزل الغيث صار المشي فيها أسهل .
أما أرض المشركين فكانت ملبدة يسهل السير فيها ، فلما نزل المطر صارت وحلة يشق المشي فيها فذات المطر يكون نفعاً وبركة للمسلمين , ووبالاً على الذين كفروا حتى مع إتحاد المكان وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
لقد كان نزول المطر عشية معركة بدر مدداَ من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهات :
الأولى : توفير ماء الشرب والغسل للمسلمين .
الثانية : تثبيت الإيمان في قلوب المسلمين .
الثالثة : إزاحة الشك من نفوس الصحابة , فما دام معهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنهم يظنون ويعتقدون بالإقامة في أفضل موضع ويختارون المقدمات التامة لدخول المعركة , ولما استحوذ المشركون على آبار الماء واختاروا الأرض التي يستطيعون معها الحركة والإغارة وجولان الخيل جاءت المعجزة بهطول الأمطار وهي مقدمة للنصر على المشركين .
الرابعة : تطلع الصحابة للمعجزة الحسية والعضلية في ساعة الشدة , فإذا كانت معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأتي في ساعة الرخاء واليسر فجاء نزول الغيث والماء من السماء ليكون معجزة بذاته , وبشارة النصر للتنزيل والنبوة يوم بدر.
ومن إعجاز القرآن توثيق هذه المعجزة الحسية لتكون معجزة عقلية أيضاَ وباقية إلى يوم القيامة , قال تعالى [إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ] ( ), وقيل في الآية أعلاه فعل محذوف وهو (اذكروا) .
ولكن معنى الآية أعم على :
الأول : حمل الآية على ظاهرها من غير حذف , وهو الأصل .
الثاني : تقدير حذف وهو على أقسام .
أولاَ : تقدير حذف فعل .
ثانياَ : تقدير حذف اٍسم .
ثالثاَ :تقدير حذف حرف .
وكل قسم منها متعدد في لفظه ودلالته منها :
الأول : اشكروا الله عز وجل إذ يغشيكم النعاس .
الثاني : يجازيكم الله عز وجل إذ يغشيكم النعاس .
الثالث : استجاب الله عز وجل دعاءكم إذ يغشيكم النعاس أمنة منه لقوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
الرابع : أبشروا إذ يغشيكم النعاس .
الخامس : اطمأنوا إذ يغشيكم النعاس .
السادس : لا تخافوا إذ يغشيكم النعاس .
السابع : إذ يغشيكم النعاس نعمة من عند الله عز وجل فهذا النعاس أكبر من الأمر الإرادي المقصود , إنما هو فضل من عند الله عز وجل .
الثامن : إذ يغشيكم النعاس فيحول دون الرغبة بالغزو , والمناجاة بالبطش والإنتقام .
وهل الآية أعلاه شاهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد القتال , ولا يغزو أحداَ , الجواب نعم , وهو الذي نبينه في الجزء التالي وهو الواحد والثمانون بعد المائة إن شاء الله .
الخامسة : نزول المطر سبب لقلة خسائر وقتلى المسلمين , ووسيلة لسرعة انقضاء المعركة .
السادسة : إنه مناسبة لإستبشار المهاجرين والأنصار , وتطلعهم إلى المدد من عند الله عز وجل يوم المعركة وفي التنزيل [تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ).
وقد جاءت نعمة وممد آخر وهو نزول النعاس على الصحابة قال تعالى [إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ] ( ).
وقدمت الآية تغشى النعاس للمسلمين لدلالة نوم المسلمين تلك الليلة على عصمتهم من الخوف والرهبة من جيش الذين كفروا , ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقي قائماَ يصلي ويدعو الله عز وجل النصر والغلبة .
وحينما صار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون قريبين من ماء بدر أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام والزبير وسعد بن أبي وقاص لتلمس أخبار المشركين , فوجدوا شخصين من جيش المشركين وكان (عبدين لقريش) ( ), فجاؤوا بهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يصلي نافلة , وهذه الصلاة إلتجاء إلى الله عز وجل , ونوع دعاء إليه , وقالا : نحن سقاة لقريش , فعلموا بأنهما ليسا من قافلة أبي سفيان , وأن جيش المشركين قريب منهم .
فاستحضروا تهديدهم ووعيدهم واحتمال وقوع المعركة , وهو من مقدمات قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ), وتهيئة أذهان الصحابة لدخول المعركة , فلما سلّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخرج من صلاته , قال لهما : أخبراني أين قريش ؟
قالا : وراء هذا الكثيب , والكثيب هو التل , والمرتفع من الرمال في الصحراء بسبب الرياح , والجمع كثبان .
فقال : كم عدد القوم ؟
فقالا : لا علم لنا .
فلم يغلط عليهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون وهو حضور مصاديق قوله تعالى [ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) حتى في الحرب ومع عبيد المشركين .
فقال لهما : كم ينحرون من الإبل كل يوم , أي وهم في طريقهم من مكة إلى موضع بدر .
فقالا : يوماً عشراً , ويوماً تسعاً .
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” القوم ما بين التسعمائة إلى الألف “.
ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدى بن نوفل، والنضر ابن الحارث، وزمعة بن الاسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ود.
قال: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: ” هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها “)( ).
لقد كان نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام في معركة بدر
رحمة بالمسلمين وبالذين كفروا إذ أنه باعث للطمأنينة في نفوس المسلمين , ودعوة لهم لإتباع الوحي وما يأمرهم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وهو لا يأمر بالغزو إنما يأتيه الأمر من الله عز وجل بأن يصبر هو والمسلمون مع بيان قانون وهو أن هذا الصبر طريق النصر والظفر , وأن النصر لا ينحصر بميدان المعركة والقتال .
فتعاقب أيام التنزيل وهي تزخر بالمعجزات سبب لجذب الناس إلى منازل الهدى والإيمان , أما وقد أصرّ مشركوا قريش على القتال في معركة بدر فقد جاء المدد بنزول المطر ليطمئن المسلمون ويتزودوا من الماء , وتغشاهم النعاس عشية المعركة لطرد الخوف الذي يصاحب الأرق ثم ينزل ألف من الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ,قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ), فقد كانت قريش تعد العدة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حين هجرته .
ومنهم من قال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منع المشركين ماء بدر ، ولا دليل عليه ، ولعله لم يثبت في السنة النبوية وأحاديث الصحابة ، كما أن المشركين لم يذكروا هذا الأمر ، أو يجعلوه من أسباب هزيمتهم خاصة وأن الذي يخسر المعركة يكثر من الأعذار , نعم قد يكون هذا الأمر بعد بدء المعركة وانتصار المسلمين , وفي رواية ابن اسحاق وابن الأثير أن المشركين وردوا الحوض وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بعدم إعتراضهم .
وقيل أن المسلمين ردموا بئر الماء بعد أن استولوا عليه وشربوا منه.
(قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر نزل به.) ( ).
ويظهر من هذا الخبر وغيره أن آبار الماء في بدر متعددة ، وهو من أسرار إتخاذ العرب لهذا الموضع سوقاً في الجاهلية ، ومرور القوافل عليه ، فحينما تأتي قافلة مؤلفة من ألف بعير كما في قافلة أبي سفيان أو قافلة مؤلفة من ألفي بعير كما في قافلة أمية بن خلف إلى موضع بدر ، ويبيتون يوماً وليلة ، فلا يعقل أن تكون بئر واحدة في الموضع .
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحُدّثْت عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ أَنّهُمْ ذَكَرُوا : أَنّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ وَلَا نَتَأَخّرَ عَنْهُ أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ قَالَ بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ .
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ ، فَنَنْزِلَهُ ثُمّ نُغَوّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ ثُمّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً ثُمّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرّأْيِ .
فَنَهَضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ النّاسِ فَسَارَ حَتّى إذَا أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ نَزَلَ عَلَيْهِ ثُمّ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوّرَتْ وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ فَمُلِئَ مَاءً ثُمّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ) ( ).
إنما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدم إستحواذ المشركين على الماء ، كما أنه لم يمنعهم من ورود الحوض والأخذ من الماء .
وهل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في السرايا من المدينة من مصاديق الآية أعلاه أم يقف الأمر عند الهجرة إلى المدينة الجواب هو الأول .
ومن خصائص الرسل ترغيب الناس بعمل الصالحات , وتذكيرهم بعالم الآخرة وأهوال الحساب مع الحرص على بعث النفرة في نفوسهم من فعل السيئات .
وعن المقداد بن معد يكرب (عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : ألا وإني قد أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها , ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه ] ( ),( ).
وقد كانت سنة الرسل أولي العزم نبراساً ومدرسة للأجيال في لأمر بالمعروف وإصلاح المجتمعات والنهي عن المنكر .
قانون إعجاز النبوة بخصوص أسرى بدر
لقد كان عدد أفراد جيش المشركين في معركة بدر ثلاثة أضعاف عدد المسلمين الذين في الميدان أو يزيد على هذه النسبة , مما يدل على رجحان كفة المشركين في القتال خاصةً , مع كثرة رواحلهم ودروعهم , وحدة سيوفهم ونبالهم .
لقد خرجت قريش من مكة بزهو وخيلاء فقد كان عددهم نحو ألف مدججي بالسلاح والسيوف والدروع السابغة والخوذ والفولاذية , ومعهم مائتان من الخيل والجياد , وسبعمائة من الإبل .
وعندما وصلوا إلى ميدان بدر إختاروا الموضع الأحسن لجولان وصهيل الخيل والإغارة على المسلمين , وتمادوا في الغي عندما رأوا قلة عدد المسلمين وليس معهم إلا فرسان , لقد ظنوا أنهم صاروا قريبين من قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن نجى من مكرهم بالهجرة ليلة المبيت التي عزموا على قتله فيه , وفاتهم حضور مدد وحفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم يستحضروا أصل الاستصحاب مع أنه أصل عقلائي فكما أنجاه الله ليلة المبيت هو والإمام علي , ونجاه هو وأبو بكر في طريق الهجرة , فان الله ينجيه هو والمهاجرين والأنصار يوم بدر , وهذه النجاة من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
ومن عمومات قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ).
(وعن سعد بن أبي وقاص قال رأيت يوم أحد عن يمين رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده يعني جبرئيل وميكائيل) ( ).
وابتدأ المشركون القتال برمي السهام ثم طلبوا المبارزة , ليلحقهم الخزي فيقع منهم سبعون قتيلاً في ساعة من نهار اليوم السابع عشر من شهر رمضان ويصيبهم الفزع ويدب الهلع في صفوفهم ليصيروا بين قتيل وأسير وهارب , إذ وقع سبعون منهم أسرى في أيدي المسلمين .
وعدد الأسرى هذا معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقلة عدد أصحابه , والنقص في أسلحتهم , وعدم إستعدادهم للقتال , فليس في حساب وظن رجال قريش وقوع نفر أو بضعة رجال منهم أسرى بأيدي المسلمين فكيف وقد خسروا سبعين قتيلاً , ومثلهم أسرى , وحينما تفقدوا جماعتهم بعد الفرار والإبتعاد عن ميدان المعركة وأحصوا أصحابهم , وكان المفقودون على وجوه :
الأول :الذين رأوهم وقد سقطوا قتلى .
الثاني : الذي تأكدوا من وقوعهم أسرى بأيدي المسلمين .
الثالث : الذين لم تعرف حالهم ومآلهم , فكان أفراد جيش المشركين يتمنون لهم أن الوقوع في الأسر أيضاً , لقانون من البديهيات وهو أن الوقوع في أيدي المسلمين خير وأفضل من القتل , للطمأنينة إلى رأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بهم .
لقد كان العرب في زمن جاهلية وغزو , وميل إلى البطش بالعدو , وسرعة الإجهاز عليه بالسيف , وفي تأريخهم أخبار عن القيام بقتل الأسير أو بيعه , وممن لم يكن أسيراً في معركة وتقابل صفين , بل ممن تم غزوهم ومداهمتهم في قراهم وبيوتهم أو في الطريق , ومع إعتداء قريش إمتنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل الأسرى لبيان إطلالة صفحة مشرقة على الجزيرة تتجلى فيها معاني الرأفة حتى بالعدو .
ولم يستصحب المشركون حفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فبادروا إلى القتال يوم بدر , فحينما وقع سبعون منهم أسرى استصحبوا العناية بهم لحسن خلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورحمته بالناس .
وهذا الاستصحاب والإعتقاد يشمل كلاً من :
الأول : أفراد جيش المشركين .
الثاني : ذات الأسرى من المشركين .
الثالث : ذووا الأسرى .
الرابع : أهل مكة .
ولم تكن مسألة الأسرى خاصة بالمشركين , إنما كان العرب عموماً يتناقلون خبرهم وحالهم وكيفية معاملة النبي والمسلمين لهم , إذ اشرأبت الأعناق وانصت الناس إلى أخبار وقائع معركة بدر ونصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالمعجزة , ليكون من معاني صيغة الجمع قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
جزاء الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على صبرهم وجهادهم وتحملهم الأذى من قريش حتى إذا ما شهرت قريش سيوف الإبادة الجماعية جاء نصر من الله عز وجل , ومن الدلائل على إرادتهم الإبادة الجماعية للمسلمين يوم بدر أنهم لا يستطيعون الوصول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بقتل الصحابة من المهاجرين والأنصار والذين أظهروا العزم على الصبر في الميدان والتضحية بالنفوس فداء للنبوة والتنزيل .
فإن قلت : في معركة أحد كاد المشركون أن يصلوا إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد فرّ وانسحب عنه أكثر الصحابة , والجواب لقد سقط سبعون قتيلاً من الصحابة في معركة أحد , ومنهم من قاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصار كالمدرعة للحيلولة دون وصول سهام المشركين له .
ومن منافع ورشحات نصر المسلمين في معركة بدر اصابة المشركين باليأس والقنوط من قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معجزات أسرى معركة بدر تأني وتأخر المشركين في الهجوم على المدينة المنورة , ومن أسباب وخصائص هذا التأخر هول المصيبة والفاجعة التي حلت بقريش فبعد أن كانوا يستحضرون معارك العرب , وأخبارها وما قيل فيها من الأشعار في دار الندوة في مكة , صاروا هم موضوعاً للأشعار والأخبار بين القبائل .
وهل وصلت وقائع معركة بدر لبلاط قيصر الروم وكسرى فارس , الجواب نعم , خاصةً وأن لقريش صلات مع تجار كل من البلدين , ومعاملات وصفقات فإذا كانت القافلة تتألف من ألف بعير , أو ألف وخمسمائة بعير فلابد من تعدد التجار الذين يبيعونهم ويشترون منهم .
أسرى بدر معلمون
عن ابن عباس قال: كَانَ نَاسٌ مِنْ الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِدَاءٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِدَاءَهُمْ أَنْ يُعَلِّمُوا أَوْلَادَ الْأَنْصَارِ الْكِتَابَةَ قَالَ فَجَاءَ يَوْمًا غُلَامٌ يَبْكِي إِلَى أَبِيهِ فَقَالَ مَا شَأْنُكَ قَالَ ضَرَبَنِي مُعَلِّمِي قَالَ الْخَبِيثُ يَطْلُبُ بِذَحْلِ بَدْرٍ وَاللَّهِ لَا تَأْتِيهِ أَبَدًا)( ) ، وفيه مسائل :
الأولى : صيرورة الأسرى من المشركين معلمين في المدينة .
الثانية : ثبات مبادئ الإسلام عند الناشئة , وعدم خشية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من تعليم المشركين لأبناء الأنصار والمهاجرين مفاهيم الكفر .
الثالثة : اقتباس المعلمين المشركين من الطلبة المسلمين سنن الإسلام ، وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يكون التلاميذ المسلمون هم الذين يعلمون المعلمين درر التوحيد , فيعلمونهم القراءة والكتابة ليعلموا المشركين أحكام الشريعة .
الرابعة : لم يشترط النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على المعلمين من المشركين تعليمهم القرآن سوراً وآيات ، لأن هذا التعليم يحصل باليوم والليلة في المسجد والبيت والزقاق .
الخامسة : لم يرد في التأريخ قيام الأسرى بتعليم أبناء الذين قاموا بتأسيرهم .
السادسة : تجرأ الأسير وقيامه بضرب التلميذ من أبناء الأنصار .
السابعة : حينما بلغ الأنصاري قيام الأسير بضرب ابنه لم يوبخه ولم يشتك عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما اكتفى بعدم ارسال ابنه إلى درسه .
وهل أرسله إلى درس غيره من الأسرى أم لا ، الجواب هو الأول، فقد بعث نزول القرآن حب التعليم في نفوس الأنصار والمهاجرين وأبنائهم وهو من الإعجاز الغيري للقرآن .
إن جعل الأسرى المشركين معلمين في مدينة الرسول تكريم لهم , وفيه دعوة لعدم إيذائهم أو التعدي عليهم , وحث لأهل المدينة لإعانتهم وإطعامهم وكسوتهم , وبيان معجزة للقرآن والسنة وهي أن نفوس الطلبة لا تميل إلى المعلم , إنما هو الذي ينجذب إليهم في دينهم وهدايتهم , فالملاك ليس الأشخاض ومنازلهم إنما الإعتقاد السليم والنهج الإيماني القويم .
فمن إعجاز القرآن الغيبي أن سيرة المهاجرين والأنصار وأبنائهم مرآة للقرآن , وبيان عمل لما يدعو إليه من الأخلاق الحميدة , وليقتدي ابناء الأنصار والمهاجرين بعيسى عليه السلام , (وعن ابي سعيد الخدري وابن مسعود مرفوعاً قال : إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتّاب ليعلمه فقال له المعلم : اكتب بسم الله .
قال له عيسى : وما بسم ؟ .
قال له المعلم : ما أدري؟! .
قال له عيسى : الباء بهاء الله ، والسين سناؤه ، والميم مملكته ، والله إله الآلهة ، والرحمن رحمن الآخرة والدنيا ، والرحيم رحيم الآخرة .
أبو جاد : الألف . الآء الله ، والباء بهاء الله ، جيم جلال الله ، دال الله الدائم .
هوَّزَ : الهاء الهاوية ، واو ويلٌ لأهل النار واد في جهنم ، زاي زين أهل الدنيا ، حطي ، حاء الله الحكيم ، طاء الله الطالب لكل حق يرده ، أي أهل النار وهو الوجع .
كلمن : الكاف الله الكافي ، لام : الله القائم ، ميم ، الله المالك ، نون الله البحر ، سعفص : سين ، السلام ، صاد الله الصادق ، عين الله العالم ، فاء الله ذكر كلمة صاد الله الصمد) ( ).
والحديث ضعيف سنداً بإسماعيل بن يحيى التميمي وقيل يروي الأباطيل عن الثقات , لذا رُمي حديث ( الأنبياء لا تورث ) بالضعف لأنه في طريق سلسلته , أما من جهة دلالة حديث عيسى عليه السلام فهو من الإعجاز في نبوته , وقد تكلم وهو في المهد .
قانون خصال النبي ص قبل وأثناء وبعد المعركة
لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ثلاثمائة وأربعة عشر من الصحابة من المدينة وهم لايعلمون بأن قتالاً سيقع , وأنهم سيلاقون جيوش المشركين , وليس للمسلمين مدد أو مأوى غير المدينة ولم ينزل شطر من آيات القرآن بعد أن كانت تنزل بالتدريج والتوالي .
وكان عدد المهاجرين ممن معه ثلاثة وثمانين رجلاً , أما الانصار فكان عددهم مائتين وواحد وثلاثين , منهم مائة وسبعون من الخزرج , وواحد وستون من الأوس .
عن عامر بن عبد الله قال : خرج رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر , (فقال لأصحابه تعادوا فوجدهم ثلثمائة وأربعة عشر رجلا ثم قال لهم تعادوا فتعادوا مثل ذلك مرتين فأقبل رجل وهم يتعادون على بكر له ضعيف فتمت العدة ثلثمائة وخمسة عشر رجلا , فقال : أنتم اليوم على عدة النبيين وعدة أصحاب طالوت) ( ).
وفي الحديث مسائل :
الأولى : إرادة زيادة المعرفة والتعارف بين المسلمين في الطريق إلى معركة بدر .
الثانية : تفقد أحوال الصحابة .
الثالثة : تقوية عزائم الصحابة , والشد على قلوبهم .
الرابعة : طرد الخوف والفزع من نفوس الصحابة .
الخامسة : زيادة الألفة بين المهاجرين والأنصار .
السادسة : تجدد معاني الأخوة الإيمانية بين المهاجرين والأنصار , والتذكير بالمؤاخاة الخاصة التي عقدها بينهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وتجديدها في أشق الأحوال بساحة الوغى .
السابعة : منع اندساس شخص غريب بين الصحابة .
الثامنة : الإحتراز من عيون الذين كفروا .
التاسعة : بيان الضبط عند المسلمين , وتوجه الأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كقائد عام وإمام .
العاشرة : اليسر والتسهيل في معرفة عدد المفقودين بعد انقضاء المعركة .
الحادية عشرة : التعداد المتكرر للصحابة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية عشرة : قيام الصحابة بالتعداد فيما بينهم فلم يكلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرداً أو جماعة مخصوصة بالقيام بالعد وحساب عددهم , ولم يجعل الرؤساء يحسبون الذين معهم من قبائلهم , أنما وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمر للصحابة مجتمعين ومتفرقين إذ أنهم في ميدان المعركة , وفي حال تلقي الأذى وبذل الوسع وإحتمال الشهادة في سبيل الله عز وجل .
الثالثة عشرة : بيان وجه الشبه وإتحاد العدد بين البدريين وعدد المرسلين , للدلالة على أنهم على الحق .
الرابعة عشرة : بشارة النصر على القوم المشركين بذكر طالوت وأصحابه والذي لم يكن نبياً ولكنه ملك بمشيئة وأمر من الله عز وجل إلى نبي زمانهم , إذ ورد في التنزيل [وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وقد أنعم الله عز وجل على البدريين بأن كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إماماً وقائداً ليكون حضوره المعركة من أسباب نصر المسلمين فيها , وهل يصح تقدير قوله تعالى [َلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
ولقد نصركم الله عز وجل يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأنتم أذلة , الجواب نعم ولكن ليس بإرادة خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده من صيغ الجمع , إنما يكون تقدير المعنى أعلاه : ولقد نصركم الله يا محمد أنت وأصحابك فالمراد من (ميم) الذكورة الواردة في (نصركم) البدريون , وعامة الصحابة , وعموم المسلمين .
لقد كانت معركة بدر ونتائجها حاضرة في أذهان رؤساء قريش لها من يوم وقوعها , إذ تناجوا بالثأر لقتلاهم فيها .
أما المسلمون فلم يتناجوا بغزو المشركين للنصر الذي فازوا به يومئذ , خاصة وأن آية النصر هذا تدعوهم للصبر والتحلي بتقوى الله عز وجل بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
فمن التقوى التي تذكرها الآية أعلاه بعد النصر في معركة بدر وجوه :
الأول : تعاهد أداء الفرائض والعبادات .
الثاني : الحرص على طاعة الله عز وجل والرسول , قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الثالث : التفقه في الدين .
الرابع : التحلي بالخشية من الله عز وجل بالسر والعلانية .
الخامس : محاربة النفاق وطرده من النفوس والمجتمعات .
السادس : إتخاذ التقوى فريضة وليس فضيلة وحدها , لمجىء الآية أعلاه بصيغة الأمر ولغة الإطلاق بقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ) والذي يحمل على وجوب التقوى وحضورها في كل قول وفعل , ومنه عدم التعدي .
السابع : إرادة البشارة بالنصر والفتح للمسلمين , مع تحليهم بالتقوى والصبر , قال تعالى [إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الثامن : التقوى زينة ظاهرة , وحال من الخشوع والخضوع لله عز وجل , وهي مناسبة لجذب الناس لسبل الهداية والرشاد , ليصبح شطر من الذين خرجوا لمحاربة النبوة والتنزيل يفكرون بدخول الإسلام .
والتقوى فعل حسن بالذات والأثر , قال تعالى [وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] ( ).
التاسع : من إعجاز آية (بِبَدْرٍ) حضور الأمر بتقوى الله عز وجل مع النصر والغلبة للمؤمنين , ليكون من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
لقد كان المشركون بعد معركة بدر يبعثون التهديد والوعيد تلو التهديد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , أما المهاجرون فيهددونهم بالإعادة إلى مكة بالأسر أو الإسترداد مع العذاب , وأما الأنصار فيجمع قريش بين دعوتهم للتخلي عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين قتلهم في ميدان المعركة واستباحة المدينة , ليكون من معاني قوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ) المناجاة بالثبات على الإيمان , وعدم الخوف أو الخشية من المشركين .
وإذا كانت وقائع ونتائج معركة بدر حاضرة عند المشركين عند اللقاء يوم أحد بالثأر والوعيد وإرادة البطش فقد كانت حاضرة عند المسلمين من جهات :
الأولى :الحمد لله على نعمة النصر , وهو من الإعجاز في تلاوة كل مسلم ومسلمة لقوله تعالى [ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ), عشر مرات في اليوم .
لتكون هذه التلاوة من الشكر لله عز وجل على النصر في معركة بدر واستدامة للحمد لله عز وجل على هذه النعمة وما يتفرع عنها من الفيض , ففي كل يوم من أيام الحياة الدنيا يشكر المسلمون الله عز وجل على هذه النعمة .
وهو من مصاديق عموم الخطاب القرآني وصيغة الجمع في آية ببدر لحث أجيال المسلمين على الشكر لله بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
الثانية : الإعراض عن تهديد كفار قريش , وهذا الإعراض ليس على نحو السالبة الكلية أو الجزئية , أنما هو نوع تحد وأمر وجودي مقرون باليقظة والحيطة والحذر .
الثالثة : تلقي المسلمين لأخبار تهيئة وجمع قريش الجيوش لقتال المسلمين بالإستعداد للدفاع , والرغبة والشهادة , خاصةً من أولئك الصحابة الذين لم يشاركوا في معركة بدر لأنهم كانوا يظنون أن كتيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها كانت للإستطلاع .
وفي التنزيل [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
قانون أسماء النار إنذار
لقد ذكر الله عز وجل الجنة والنار في مواضع عديدة من القرآن ، ومن الإعجاز في ذكرهما أن النفس تنبسط وتغمرها البهجة عند ذكر الجنة ورياضها ، وحال النعيم الذي فيها ، وكل مرة تذكر فيها الجنة لها خصوصية ومعنى ودلالة بلحاظ نظم وسياق الآية .
وتنقبض النفس عند ذكر القرآن للنار وشدة العذاب فيها إذ جاءت الآيات بذكر العذاب العظيم الذي يلقاه الذين كفروا في الآخرة للإتيان باللازم للدلالة على الملزوم , ولتعدد ضروب الإنذار التي تكون حاضرة في الوجود الذهني طوعاً وقهراً .
وصحيح أن الاسم غير المسمى إلا أن الاسم إشارة ذات معنى إلى المسمى , لتكون نوع ملازمة بينهما فاذا ذكر أحدهما تبادر إلى الذهن الثاني , وهو من أسرار تخصيص الاسم لذات المعنى , كما تستقرأ الدلالة من كثرة الإستعمال سواء بخصوص الحقيقة أو المجاز .
وقد ورد ذكر النار في القرآن مائة وستاً وعشرين مرة كما ذكرت باسم جهنم فيه سبعاً وسبعين مرة ، قال تعالى [وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ]( )، ومن أسماء نار الآخرة :
الأول : النار .
الثاني : جهنم ، لبعد عقرها ، وتعدد طبقاتها .
الثالث : الحطمة ، لأنها تكسر وتهشم كل ما يلقى فيها .
الرابع : الموقدة ، قال تعالى [وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ]( ).
الخامس : سقر ، سميت به لشدة حرها .
السادس : الجحيم .
السابع : لظى ، قال تعالى [كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى]( )، وكلا : حرف ردع وزجر ، وابطال لمعنى كلام متقدم ، وقال تعالى [فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى]( )، للدلالة على توهجها واشتداد حرها .
الثامن : نزاعة للشوى ، أي تقلع وتحرق أعضاء البدن ، وقيل الشوى : جلود الرأس فمن شدة حرارتها نزعها لجلد رأس الكافر .
التاسع : السعير ، لأنها تفوح وتهيج ، قال تعالى [فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ]( ).
العاشر : الهاوية ، قال تعالى [فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ]( )، وسماها الله عز وجل الهاوية لأن اذا دخلها الكافر هوى فيها من الأعلى الى الأسفل .
الحادي عشر : سميت النار أم الكافر لأنه يأوى ويرجع إليها ، ويكون في مقرها وحجرها وكأنها أمه ، لبيان أنه أخطأ الفعل والقصد.
ومنهم من جعل هذه الأسماء لطبقات ودركات النار ، وجزء منها بحسب قدر الذنوب والمعاصي واستدل عليه بقوله تعالى [لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ]( )، بلحاظ أن أبواب جهنم عمودية ، وليست أفقية فيكون كل جزء وباب منها فوق الآخر , وهي كالآتي :
الطبقة الأولى : أي الأعلى : جهنم ، وقيل (هي منزل أهل الكبائر من المسلمين) ( )، ولا دليل عليه , خاصة وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : أدخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ( ))، وعلى جهنم يمر الناس كلهم لقوله تعالى [وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا]( ) ( ) أي يصل إليها ويشرف عليها (عن يعلى بن منبّه أن النبي {صلى الله عليه وآله سلم} قال : تقول النار للمؤمن يوم القيامة جزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.) ( ).
(وعن جابر أنَِّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول بعضهم لبعض : أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم : قد دخلتموها وهي خامدة) ( ).
ولم تذكر أكثر كتب الحديث هذا الخبر ، وذكر في حلية الأولياء 5/212 وغيره منسوباً إلى خالد بن معدان ت 103 هجرية ولم يرفعه ، وهو تابعي أدرك عددا من الصحابة وله مراسيل كثيرة .
الطبقة الثانية : السعير : وهي دار من أعرض عن الإسلام أو خرج منه, قال تعالى [فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ] ( ), أي لا ينفعهم اعترافهم يوم القيامة بذنوبهم .
وهذا الإعتراف غير شهادة أعضائهم وجوارحهم عليهم , لبيان أن انكار الكافرين الذنوب يوم القيامة لا يستمر بل تقوم عليهم الحجة ويدخلون النار بإعترافهم بذنوبهم , ومن الدلائل على هذا الإعتراف قولهم [وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ] ( ).
الطبقة الثالثة : الحطمة : وهي دار الذين كذبوا بالنبوة .
الطبقة الرابعة : الجحيم : وهي منزلة الذين كذبوا الرسل وترد الجحيم عند العبرانيين في الأسفار بمعنى المكان المظلم المخيف , وقيل أنه في المسيحية محل إنتظار الناس جميعاً يوم القيامة الأبرار والفجار , أي أنه من مواطن الحشر , أما في المصطلح القرآني فالجحيم هي النار , قال تعالى [وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ] ( )، وهي مثوى الذين قتلوا الأنبياء بغير حق .
الطبقة الخامسة : سقر : وهي منزل المشركين ، وعبدة الأوثان .
الطبقة السادسة : لظى : وهي مقر نزول الذين قالوا بإلهين .
الطبقة السابعة : الهاوية : وهي دار آل فرعون ، وأصحاب المائدة الذين كفروا برسالة عيسى ، والمنافقين ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا]( ) . ويحتاج إثبات هذا التقسيم إلى دليل.
وقيل بتقسيم آخر لترتيب درجات ودركات النار وهو :
الأولى : الهاوية .
الثانية : السعير .
الثالثة : الجحيم .
الرابعة : سقر .
الخامسة : الحطمة .
السادسة : لظى .
السابعة : جهنم .
وفي أبواب النار ورد عن ابن عباس أنه قال هي :
الباب الأول : جهنم.
الثاني : السعير.
الثالث : سقر.
الرابع : الجحيم .
الخامس : لظى .
السادس : الحطمة.
السابع : الهاوية( ) .
(وعن خطاب بن عبد الله قال : قال علي : أتدرون كيف أبواب جهنم؟ قلنا كنحو هذه الأبواب . قال : لا ، ولكنها هكذا . ووضع يده فوق وبسط يده على يده ) ( )
قلنا : نعم كنحو هذه الباب. فقال : لا ولكنها هكذا ووضع إحدى يديه على الأخرى وإن الله تعالى وضع الجنان على الأرض،
ووضع النيران بعضها فوق بعض .
فأسفلها جهنم وفوقها لظى وفوقهما الحطمة وفوقها سقر وفوقها الجحيم وفوقها السعير وفوقها الهاوية.) ( ) .
وقد جعل الله عز وجل أبواب الجنة ثمانية وهي أكثر من أبواب النار، لبيان قانون وهو سعة الجنة كما في قوله تعالى [وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( ) ولأن الجنة فضل من الله ، والنار عدل وجزاء ، والفضل أوسع من العدل، ولأن الجنة رحمة ورأفة ، والفضل أوسع ، ولبيان قانون وهو كثرة العفو والمغفرة يوم القيامة .
والمختار أن هذه الأسماء هي لذات النار ولا مانع من إطلاقها على أبواب النار لتكون تعريفاً بها ، ولبعث الخوف والرهبة في قلوب الذين كفروا ، وهل هذا الخوف من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] .
أم أن القدر المتيقن من الآية هو إرادة إصابة الذين كفروا بالخوف والفزع عند اللقاء ، وفي حومة الوغى خاصة وأن الآية جاءت بسين المستقبل القريب في قوله تعالى [سَنُلْقِي…]
الجواب هو الأول ، وهو أن تسمية نيران الآخرة وابوابها من الرعب الذي تذكره الآية أعلاه ، والمراد من السين في [سَنُلْقِي] قرب أوان الرعب واستدامته , إن حرب مشركي قريش على النبوة والتنزيل من أسباب استحقاقهم العذاب وهو من الإعجاز في مجىء السور المكية بلغة الإنذار والوعيد , ومنها قوله تعالى [إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا] ( ), وهذه الآية من سورة المعارج وهي مكية .
ومن وجوه معناها :
الأول : ليكون تقدير الآية : سنلقي وسوف نلقي الرعب في الدنيا والآخرة في قلوب الذين كفروا , إذ تتعدد الأسماء مع إتحاد المسمى ، وهو من الدلائل على شدة حر النار، وعذاب الكافرين فيها، وكل وصف له معناه ودلالته ، وهذا التعدد من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
وعن جعفر بن محمد عليه السلام (وقد سئل عن قوله تعالى: ( فلله
الحجة البالغة ) ( ) .
فقال: إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: أكنت عالما ؟ فإن قال:
نعم قال له: أفلا عملت بما علمت ؟ وإن قال: كنت جاهلا قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه, وذلك الحجة البالغة) ( ) .
الثاني : سنلقي في قلوب الذين يحاربون النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرعب .
الثالث : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بتذكيرهم بعذاب النار .
الرابع : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب في الدنيا , وهو مقدمة لعذاب الآخرة .
الخامس : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب في ميدان المعركة وخارجها .
السادس : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب والخوف والفزع مجتمعين ومتفرقين .
السابع : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليصيبهم الوهن في ميدان المعركة .
الثامن : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب لإشراكهم بالله وظلمهم وتعديهم , قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
وهل الرعب الذي ألقاه الله عزوجل في قلوب الذين كفروا من مصاديق الجنود في قوله تعالى [وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا] ( ).
أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه نزول الملائكة لحراسة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الغار , الجواب هو الأول إذ تتصف الجنود في الآية أعلاه بالتعدد والكثرة في الجيش والأفراد , مع التعدد في معارك الإسلام , وحضور جند الله عز وجل مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حله وترحاله .
ومن هذه الجنود حال الرعب الذين نفذ إلى قلوب الذين كفروا واستولى على جوارحهم ويكون مقدمة وسبباً لفرارهم من ميدان معركة بدر ومعركة أحد في ذات اليوم الذي بدأت فيه .
ومن ذات الرعب عجزهم في غزوهم المسلمين في معركة الأحزاب عن إختراق الخندق الذي حفره النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وهل يشتد عذاب النار على الذين يسارعون في الكفر , الجواب نعم ، لذا أخبرت الآية قبل السابقة عن أمور :
الأول : عدم إضرار الذين كفروا بالله والمؤمنين .
الثاني : حرمان الذين كفروا من النصيب والحظ في الآخرة .
الثالث : نزول العذاب العظيم بالذين كفروا في الآخرة .
وعن الإمام الباقر عليه السلام في قوله [وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ]( )، ” فوقوفهم على الصراط) ( ) .
وأما صعودا فجبل من صفر من نار وسط جهنم .
وأما أثام فهو واد من صفر مذاب يجري حول الجبل فهو أشد النار عذابا( ).
وذكر الجنة والنار المتعدد في القرآن شاهد على حب الله عز وجل للناس والمؤمنين والمسلمين على نحو الخصوص بتحذيرهم وإنذارهم , والناس جميعا , وحاجتهم لما فيه من البشارة والإنذار .
وهل ذكر النار المتعدد في القرآن زاجر عن الغزو , الجواب نعم , وهو وسيلة لإزاحة الناس عن مواطن الكفر وعن نصرة رؤسائه في هجومهم وغزوهم المدينة المنورة لذا لا يستطيع الناس إحصاء النعم الإلهية المترشحة عن كل آية من آيات من آيات القرآن , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
ويدعو ذكر الناس في القرآن الناس إلى دخول الإسلام وهو من أسرار ورود ذكرها في السور المكية وعلى نحو البيان الذي ينفذ إلى شغاف القلوب , وجاء ذكرها في الأمور الشخصية كما في ذم أبي لهب عم النبي والأخبار عن سوء عاقبته بقوله تعالى [سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ] ( ),[وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ] ( ). ثم ورد الإخبار عنها في السور التي بعدها بقوله تعالى [كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ] ( ).
ويمكن بيان الترتيب في ذكر النار في السور المكية من جهتين :
الأولى : ترتيب السور وفق ترتيب السور في المصحف .
الثانية : لحاظ أوان نزول آيات وسور القرآن المكية , بلحاظ كبرى كلية وهي أن ترتيب آيات السورة الواحدة توقيفي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليه الإجماع أما بالنسبة لترتيب السور فهو توقيفي أيضاً وقال جماعة بأن نظم سور القرآن في المصاحف تم في أيام عثمان .
ومع أن سورة العلق من أوائل السور التي نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنها تتضمن الوعد والوعيد فلا تبدأ المصاحف بها , إنما بدأ ترتيب القرآن بعد سورة الفاتحة بسور البقرة وآل عمران .
و(عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قمتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوّذ .
قال: ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه: “سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة”. ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة سورة.) ( ).
لذا يستحب للمسلم أن يسأل الله عز وجل الرحمة والفوز بالجنة عند تلاوته أو سماعه لآية من آيات الرحمة والثواب الجزيل , وأن يسأل الله عز وجل النجاة من العذاب عندما يمر بآية فيها عذاب , أما حال المصلي عندما يمر بآية فيها رحمة أو عذاب فذهب الشافعي إلى استحباب سؤال المصلي الرحمة عند المرور بآية فيها رحمة , والتعوذ من النار عند مروره بآية فيها عذاب .
وقال النووي بالإطلاق أي سواء كانت صلاة فريضة أو مستحبة ونافلة , وللإمام المأموم المنفرد .
واستدل على الإستحباب بالحديث أعلاه , وحديث حذيفة قال : (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة فقرأها، ثم النساء فقرأها، ثم آل عمران فقرأها، يقرا مترسلاً، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوذ تعوذ. وروى أبوداود والنسائي وغيرهما عن عوف بن مالك قال قمت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ) ( ).
وقال أبو حنيفة بكراهة السؤال عند آيات الرحمة , والإستعاذة في الصلاة .
ومنهم من قال بالتفصيل بعدم الجواز في الفريضة لأن وظيفة المأموم الإنصات , قال تعالى [ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ), بخلاف النافلة فيجوز فيها السؤال والإستعاذة .
والأولى الإقتصار على قراءة القرآن .
وهل يصح الإستعاذة من أبواب النار مع سؤال الله عز وجل بعدم الولوج إليها , الجواب نعم , بلحاظ سؤال النجاة من مقدمات دخول النار , الإقتصار في صلاة الفريضة على قراءة آيات القرآن .
والمختار ترك السؤال والتسبيح والإستعاذة في صلاة الفريضة , بلحاظ ـن الصلاة توقيفية , ومن إعجاز القرآن أن ذات آية الرحمة سؤال للفوز بها , وتلاوة آية عذاب سؤال الله عز وجل بالنجاة من هذا العذاب .
ومن إعجاز القرآن قصور علوم التفسير عن بلوغ كنه آياته مع بذل العلماء في كل زمان الوسع في التفسير , وإعانة عامة المسلمين بالرضا والإكرام الإجلال لمقام العلماء ليبقى هذا العلم السامي مفتوحاً إلى يوم القيامة , قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
ليدرك كل عالم يحقق في علوم القرآن إمكان استنباط مسائل مستحدثة من ذات الآية القرآنية مع التقيد بأصول التفسير بالرجوع إلى ذات القرآن والمأثور عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقواعد اللغة العربية , قال تعالى [وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ] ( ).
قانون أولوا العزم ليسوا غزاة
قال تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ] ( ) ,يتوجه الخطاب في الآية أعلاه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته للصبر على أذى الكفار مثلما صبر الرسل أولوا العزم ، وفيه شاهد على عدم مبادرة الرسول إلى الهجوم والغزو .
لقد جعل الله عز وجل القرآن شاهداَ على التاريخ , وهذه الشهادة من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْ] ( ), ومن عمومات الشهادة في قوله تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً] ( ).
وقد تحمل الأنبياء وعلى نحو العموم الإستغراقي أشد ضروب الأذى من قومهم , ولكنهم أقاموا الحجة عليهم , وخصّ الله عز وجل أولي العزم في الآية أعلاه لبيان جهادهم وعزائمهم في الدعوة إلى الله عز وجل , وهل عفوهم وصفحهم عمن آذاهم من هذا الصبر .
الجواب نعم , وكانوا يتحلون بالزهد , ويتصفون بالإنقطاع إلى العبادة , وورث منهم المسلمون هذه الخصلة الحميدة .
و(روى كعب في صفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال : مولده مكة وهجرته بطيبة , وملكه بالشام , وأمته الحمادون يحمدون الله على كل حال وفي كل منزلة، يُوَضِئون أطرافهم و (ويتورّون) إلى (الجهاد) وفيهم وعاة الشمس ويصلون الصلاة حيث أدركتهم ولو على ظهر الكناسة) ( ).
وتقدير الآية :
الأول : يا أيها النبي اصبر كما صبر الأنبياء .
الثاني : يا أيها النبي اصبر كما صبر الرسل .
الثالث : يا أيها النبي اصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل والذين كان صبرهم أشد من صبر عامة الأنبياء .
لقد لاقى أولوا العزم صنوف الأذى الذي لاقاه عامة الأنبياء فتحلوا بالصبر , ليكون الأذى الذي لاقوه مجتمعين ومتفرقين تعرض له النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأكثر أولي العزم لم يهجم عليهم مشركوا قومهم بجيوش ويقاتلوهم مثلما قاتل مشركوا قريش النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي سفر التثنية ورد في خطاب من الله عز وجل إلى موسى (حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها الى الصلح
فان اجابتك الى الصلح و فتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير و يستعبد لك
و ان لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها
و اذا دفعها الرب الهك الى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف
و اما النساء و الاطفال و البهائم و كل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك و تاكل غنيمة اعدائك التي اعطاك الرب الهك
هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الامم هنا
و اما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب الهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما
بل تحرمها تحريما الحثيين و الاموريين و الكنعانيين و الفرزيين و الحويين و اليبوسيين كما امرك الرب الهك) ( ).
ليكون من صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة إلى التوحيد , وسؤال الصلح , وإذا دخل أهل بلدة الإسلام فيكون لهم ما للمسلمين من الحقوق , ويدعون إلى العمل بالحكم الشرعي , وهو خطاب الشارع , المتعلق بإفعال العباد , سواء كان الحكم التكليفي بأقسامه الخمسة:
الأول : الوجوب , وهو الذي يجب اتيانه ويؤثم الذي يتركه , كأداء الصلاة .
الثاني : المندوب والمستحب , وهو ما اقتضى فعله من غير إلزام, كالصدقة غير الواجبة , وافشاء السلام .
الثالث : المباح والذي يخيّر فيه المكلف بين الفعل أو الترك , وليس من مدح أو ذم من جهة الشريعة في فعله أو تركه .
ومن صيغ المباح (لاَ جُنَاحَ) كما في قوله تعالى [فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ] ( ), ويسمى المباح , الجائز, والحلال .
ومنه (لا حرج) , وذكر أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو قال (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَاقِفًا عَلَى رَاحِلَتِهِ بِمِنًى , فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَرَى أَنَّ الْحَلْقَ قَبْلَ الذَّبْحِ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ .
فَقَالَ : اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ .
قَالَ : ثُمَّ جَاءَهُ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَرَى أَنَّ الذَّبْحَ قَبْلَ الرَّمْيِ فَذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ فَارْمِ وَلَا حَرَجَ .
قَالَ فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قَدَّمَهُ رَجُلٌ قَبْلَ شَيْءٍ إِلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ .
وَجَاءَهُ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْحَلْقَ قَبْلَ الرَّمْيِ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ ارْمِ وَلَا حَرَجَ) ( ).
ويدل الحديث أعلاه على عدم وجود حاجب بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعامة المسلمين , وعلى بلوغهم مرتبة التفقه في الدين , مع وجوب الضبط في ترتيب مناسك حج البيت الحرام , واللجوء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسألة حيث يجدون السماحة والتخفيف عن الناس ومنهم الجاهل بالحكم , وهو من عمومات قوله تعالى [وما أرسلناك إلاَّ رحمةَ للعالمين] ( ).
الرابع : المكروه , وهو الحكم الذي أمر الشارع بتركه , ولكن من غير إلزام أو حتم , فلا يؤثم الذي يأتيه , ولكن لو تركه المكلف إمتثالاَ فإنه يثاب , وقد يكون المكروه مقدمة للحرام , والمستحب والمكروه كالمتضادين , فقد يقع المكلف عند ترك المستحب بالمكروه وما فيه حرج أو أذى .
كما في ترك السلام عن عمد وعلى نحو الإستمرار .
الخامس : المحرم وهو الفعل الذي نهى عنه الشارع على نحو الجزم والحتم , ويؤثم الذي يأتيه مثل الربا والزنا , وشرب الخمر , قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
وأختلف في الرسل أولي العزم على وجوه :
الأول : المراد من أولي العزم جميع الرسل , وعددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر , عن جابر بن عبد الله قال ( بلغني أن أولي العزم من الرسل كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر) ( ).
الثاني : المقصود من أولي العزم ما ورد في قوله تعالى [شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا] ( ).
الثالث : عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (سادة النبيين والمرسلين خمسة، وهم أولوا العزم من الرسل ، وعليهم دارت الرحى : نوح، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلى الله عليهم وعلى جميع الانبياء) ( ) , وهو الوارد عن ابن عباس( ) .
الرابع : المراد نوح ،وابراهيم ،ويعقوب ،ويوسف ،وأيوب ،وموسى ،وداود ،وعيسى عليهم السلام ،ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد ورد نفي وجود العزم عند آدم بقوله تعالى [وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا] ( ).
الخامس : أولوا العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى , عن قتادة , ولم يذكر النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم معهم لأن الآية الكريمة تضمنت توجيه الأمر له بالصبر مثل الصبر الذي كانوا عليه , وتقدير الآية : واصبر يامحمد فإنك من أولي العزم كما صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام .
السادس : المراد إسماعيل ويعقوب وأيوب ، وليس آدم منهم ، ولا يونس ولا سليمان( ).
السابع : المقصود من أولي العزم ستة وهم :
أولاً : نوح الذي صبر على الأذى الشديد من قومه الذي استمر إلى أن جاء الطوفان .
ثانياً : إبراهيم الذي صبر على القائه في النار .
ثالثاً : إسحاق .
رابعا : يعقوب .
خامسا : يوسف الذي صبر على القائه في البئر ، ثم صبر بدخوله السجن ، ولولا القرآن وآياته لم يتبادر إلى الأذهان أن النبي يدخل السجن ويبقى فيه سنوات .
سادساً : أيوب .
وقيل ستة نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان .
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ السجن فيه ست مرات كلها بخصوص النبي يوسف ، قال تعالى [وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ] ( ) وقال تعالى حكاية عن يوسف [يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ] ( ).
وهل في تكرار لفظ السجن في القرآن بخصوص النبي يوسف عليه السلام بشارة سلامة ونجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من السجن ، الجواب نعم .
وفيه بشارة للمسلمين والمسلمات وبيان لفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم خاصة وأن مشركي قريش سعوا في حبسه ، وتقييده ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) .
لقد كانت دعوة الرسل أولي العزم الأربعة الذين سبقوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم دعوة سلمية وهم :
الأول : الرسول نوح ، قال تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] ( ) و(نوح بن لمك بن متوشلخ بن اخنوخ بن يارد ، وقد كان سام بن نوح نبياً) ( ) .
فتبين هذه الآيات قيام نوح عليه السلام بانذار قومه بالوحي والبيان والفعل وعلى نحو متصل .
وتدل الوقائع والأخبار أنه لم يكن عنده جيش , ولا كان أصحابه يقاتلون بل كان يتلقى الأذى الشديد من قومه .
وقيل أن نوحاً أبو البشر الثاني لغرق أهل الأرض بالطوفان , ولم يبق إلا من كان في سفينة نوح , ومنهم تكاثر الناس ، قال تعالى [وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ] ( ) .
وفي الخبر (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : سام أبو العرب ، وحام أبو الحبش ، ويافث أبو الروم) ( ).
الثاني : الرسول إبراهيم الخليل عليه السلام
وهو أبو الأنبياء , وخليل الله , ومن الرسل أولي العزم.
وقد ذكرته الكتب السماوية ,وينتسب إليه اليهود والنصارى والمسلمون نسب العقيدة والتوحيد , وفي التنزيل [وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] ( ).
وإبراهيم من نسل نوح من ابنه تارح وولد في العراق على اختلاف في موضع ولادته , ولوط ابن أخيه هاران .
لقد ذكرت سور وآيات القرآن إبراهيم وجهاده في سبيل الله عز وجل , وبينت أن هذا الجهاد بالسلم والموعظة والصبر في طاعة الله عز وجل من النار التي ألقاه فيها نمرود وقومه , ليتزوج إبراهيم من هاجر بعد هجرته إلى مصر فتنجب له إسماعيل , ويهاجر بها إلى مكة بعد إظهار زوجته سارة غيرتها وحسدها ليكون مقدمة لبناء البيت الحرام , بعد رآى إبراهيم قوماً يعبدون الشمس , وآخرون يعبدون القمر , وفي التنزيل [ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ] ( ).
ليعرض إبراهيم عن قوم نمرود ولا يجمع جيشاً لمحاربتهم , وقد لا يجد مثل هذا الجيش والأنصار , ليدل الأمر في مفهومه على الثناء على المهاجرين والأنصار , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
إنما توجه إبراهيم عليه السلام إلى مكة وبنى البيت الحرام , ودعا الناس لعبادة الله عز وجل , والتنزه عن الشرك ومفاهيمه , كما هاجر إلى مصر , ثم رجع إلى الأرض المقدسة .
لقد واجه إبراهيم عبادة الأوثان بالإنكار والتقبيح , وفي التنزيل [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
وبقي قومه متمسكين بعبادة الأوثان , وسنحت مناسبة العيد لإبراهيم أن يدخل المعبد وهو فارغ من الناس فيقوم بتكسير الأصنام , وترك أكبرها ووضع الفأس في رقبته , ولما عادوا ووجدوا الأصنام قد كسرت بإستثناء كبيرها سألوا إبراهيم أنت الذي قمت بكسر الأصنام فقال اسألوا الصنم .
وآمن لوط لإبراهيم في دعوته إلى الله عز وجل .
فخرجا من المدينة وفي قوله تعالى [وَقَالَ إِنِّي مهاجر إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
أنهم هاجروا من كوتا قرية من سواد الكوفة وتوجهوا إلى الشام , وحينما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كانت ثلاثمائة وستون صنماً تحيط بالبيت الحرام وفي داخل الكعبة , وصار لكل قبيلة صنم , وأدخلت أصنام صغيرة البيوت في المدينة المنورة والقرية ,وليس في معبد مخصوص مثل زمان إبراهيم عليه السلام ,فتفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزة العقلية وهي آيات القرآن تترى في نزولها لتتلى في البيت الحرام بصلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وثلة من أصحابه فيه .
وتدخل هذه الآيات بيوت مكة فتكشف زيف وقبح الأصنام واقتنائها, وكأنه من عدم إجتماع الضدين , وينقل الركبان الآيات تحفة وهدية مباركة, وهو من مصاديق الإنذار في مقام الوعيد على عبادة الأوثان وقرب تنجز فتح مكة , ومع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقم بكسر الأصنام في أول أيام نبوته مثلما فعل إبراهيم إلا أن كفار قريش سعوا في قتله وأختاروا عشرة من الشبان من قبائل شتى لإضاعة دمه وجعل بني هاشم يضطرون لقبول الدية , ولم يعلموا أن الله عز وجل ناصره , فنزل جبرئيل بالأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى المدينة , وفيه شاهد على أنه لا يرمي لقتال ولايسعى إليه .
لقد نجى بنفسه لإقامة شعائر الله عز وجل , ولمحاربة الأصنام بالحجة والبرهان , ولم يهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ليجمع الجيوش للإغارة على مكة التي هي بلد حرام وآمن , صحيح أن المشركين عاثوا فيها , ورفعوا لواء الوثنية مع أنها أنشئت على التوحيد إلا أنه اكتفى بالإقامة في المدينة يتلقى آيات القرآن , ويرتقي المنبر ليبني أحكام الشريعة , ويزداد عدد أصحابه من المهاجرين والأنصار فانتفضت قريش وجهزت الجيوش لقتاله .
لقد امتاز إبراهيم عليه السلام من بين الرسل برفع قواعد البيت الحرام ودعوة الناس إلى الحجة , وكان أول من حج البيت الحرام من قبل هو آدم عليه السلام ولكن تعاقبت أجيال وقرون , وأعرض الناس عن الحج حتى قام إبراهيم بعمارة البيت وبنائه من جديد , وتوارث ذرية إبراهيم وعامة العرب حج البيت ولكن أدخلوا فيه مفاهيم الشرك , فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتزول هذه المفاهيم ومعاني الشرك في البيت الحرام وإلى يوم القيامة , ليكون من مصاديق وحدة موضوع جهاد الرسل أولي العزم صيرورة هجرة إبراهيم مقدمة وصراطا لقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتثبيت لواء التوحيد في مكة والجزيرة بلواء (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) ( ).
الثالث :من الرسل أولي العزم موسى عليه السلام الذي أنعم الله عز وجل عليه وكلمه قبلاً , واستجاب دعوته وجعل أخاه هارون نبياً ووزيراً له.
ومن خصائص الرسل أولي العزم جهادهم لطغاة زمانهم بالكلمة والحجة , وإبطال المغالطة , وهو من معاني الصبر في قوله تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ] ( ).
ولقد أنعم الله عز وجل عليهم بأن صاروا سبباً لفضح الطواغيت أمام الملأ من قومهم , فمال بعضهم إلى الإيمان , كما في مؤمن آل فرعون وكان كل واحد من الرسل أولي العزم أمة يدعو إلى الله عز وجل بمفرده لتصل دعوته إلى طائفة كبيرة من الناس , وتصدوا للعذاب من قبل الطواغيت من غير أن يحملوا السلاح , ويحرضوا الناس على القتال , فالأرض وما عليها ملك لله عز وجل , وهو ملك قدرة ومشيئة وتصرف مطلق , وفي التنزيل [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
ومن خصائص أولي العزم أن رزقهم الله عز وجل تمام الحجة , وإستحضار البرهان , وهل هذا الإستحضار من سرعة البديهية , الجواب لا , إنما هو من الوحي ويمكن تأسيس قانون وهو إستحضار الأنبياء البرهان وحي ) ويأتي في الجزء التالي إن شاء الله .
فعندما احتج إبراهيم عليه السلام بحضرة نمرود وحضور الوزراء والقادة بأن الله عز وجل يحيي ويميت , لبيان أن نمرود عاجز عن البقاء والخلود في الدنيا وأما الله عز وجل لابد وأن يميته , تجاهل نمرود هذا الأمر الشخصي طغياناً , كما ورد في التنزيل [إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] ( ).
إذ جاء إبراهيم بحجة تتجدد كل يوم وكذا بالنسبة لموسى عليه السلام فقد إحتج على فرعون , وواجه السحرة بالمعجزة أمام جموع من الناس في يوم عيدهم بعد أن نعت فرعون وأصحابه موسى بالسحر والكذب قال تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ] ( ).
ترى لماذا جمعوا بين السحر والكذب في الإفتراء على موسى الجواب لإخراج سحرة فرعون وأنهم سحرة ولكن ليسوا بكاذبين , وحينما ألقوا عصيهم تبين أنهم الكاذبون , وأن موسى هو الصادق الامين , فبادر السحرة إلى التوبة والإنابة .
لقد حمل موسى عليه السلام لواء الإسلام بالدعوة إلى الله في دواوين فرعون الذي قال [فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى] ( ).
وقال [وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ] ( ), ولم ينحصر جهاد موسى بخصوص فرعون إنما كان إماما لبني إسرائيل في سبل الهداية والصلاح .
الرابع :الرسول عيسى عليه السلام , وهو معجزة من حين ولادته , فليس له أب , مع حال الورع والتقوى التي كانت عليها أمه مريم , وورثت هذه الحالة عن والديها ثم اختارت التفرد بمكان منفصل عن قومها للتبتل , وجاء إليها رسول من الله هو جبرئيل في هيئة إنسان ذي هيبة ففزعت منه , فطمأنها وبشرها بولادة عيسى عليه السلام بعذريتها ومن غير أن يمسها بشر ببديع قدرة الله عز جل .
ثم جاءت إلى قومها تحمل عيسى فرموها بالبغاء فأشارت إلى المولود ليتكلم بإذن الله عز وجل كما ورد في التنزيل [قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا] ( ).
لقد أكرم الله سبحانه عيسى عليه السلام بعد أن بلغ وكبر بأن أنزل عليه الإنجيل لتكون ولادته بمعجزة مقدمة للتصديق بالكتاب الذي جاء به , ثم أخذ عيسى بالسياحة في الأرض ودعوة الناس على مختلف مشاربهم إلى الإيمان والمعجزات تترى بين يديه من إحياء الموتى , وشفاء الأبرص , وصناعة الطير من الطين ليطير في الهواء بإذن الله عز وجل بما يفيد التباين الجلي بين المعجزة والسحر .
وآمن به الحواريون , وأظهروا الأخلاص في إتباعه ونشر الدعوة إلى الله عز وجل , وقد اكرمهم الله عز وجل بأن ذكرهم في القرآن بقوله تعالى [قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] ( ).
وخصهم الله عز وجل بمعجزة لعيسى إذ سألوه نزول مائدة من السماء بسسب شدة الجوع التي أصابتهم , ولزيادة الإيمان وتسكن قلوبهم , وللإجتهاد في الدعوة إلى الله عز وجل ورسالة عيسى كما ورد في التنزيل [قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ] ( ).
الخامس : الرسول محمد بن عبد الله بن المطلب صلى الله عليه وآله وسلم ولد بمكة في شهر ربيع الأول عام الفيل , ويكون عمره في السنة الأولى للهجرة ثلاثاً وخمسين سنة , وهو خاتم النبيين , وسيد المرسلين , وأمه آمنة بنت وهب , وأختلف في وفاة والده عبد الله على أقوال :
الأول : توفي والد الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمه حامل به .
الثاني : توفي والد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعمر الرسول شهران .
الثالث : توفي والد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعمره سبعة أشهر .
الرابع : توفي والد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعمره تسعة أشهر .
الخامس : توفي والد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعمره ثمانية وعشرون شهراً .
وللرسل أولي العزم صفات وهي :
الأولى : قيام أولوا العزم بالإحتجاج والإتيان بالبينة على الملوك ورؤساء القوم لجذب الناس للإيمان .
واحتج موسى على آدم عليه السلام حينما إلتقى به بعد موته , ولكن كان لآدم حجته أيضاً , وعن عمر بن الخطاب قال : (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن موسى قال يا رب أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة؟ فأراه الله آدم فقال : أنت أبونا آدم؟ فقال له آدم : نعم . قال : أنت الذي نفخ الله فيك من روحه ، وعلمك الأسماء كلها ، وأمر الملائكة فسجدوا لك؟ .
قال : نعم . فقال : ما حملك على أن أخرجتنا من الجنة؟ فقال له آدم : ومن أنت؟ قال : موسى قال : أنت نبي بني اسرائيل الذي كلمك الله من وراء الحجاب ، لم يجعل بينك وبينه رسولاً من خلقه؟ .
قال : نعم . قال : فما وجدت أن ذلك كان في كتاب الله قبل أن أخلق؟ قال : نعم . قال : فلم تلومني في شيء سبق فيه من الله القضاء قبل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عند ذلك فحج آدم موسى . فحج آدم موسى) ( ).
الثانية : دعوة أولي العزم الرؤساء والطواغيت إلى كلمة التوحيد , وعدم الخشية أو الخوف منهم .
الثالثة : مواجهة الملوك والرؤساء لبراهين التوحيد وأمام الملأ والجنود .
الرابعة : توثيق القرآن لجهاد الرسل أولي العزم على نحو التفصيل .
الخامسة : بيان القرآن لمعجزات الرسل أولي العزم .
السادسة : التعاقب بين الرسل أولي العزم وبين كل واحد والآخر منهم سنوات عديدة , وتفضل الله عز وجل ببعث أنبياء فيها إلا بالنسبة للفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام فمع أنها نحو ستمائة سنة إلا أنه ليس من نبي فيها , وهو معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابعة : تعدد ذكر كل رسول من الرسل أولي العزم في القرآن .
بحث أصولي
الحكم هو الخطاب من الله ورسوله بالأمر أو النهي , ومنه [فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
وينقسم الحكم إلى التكليفي والوضعي :
الأول : الحكم التكليفي , وتجري فيه الأصول العملية الأربعة التي تنتج الحكم الظاهري وهي :
الأول : البراءة .
الثاني : الإستصحاب .
الثالث :الإحتياط .
الرابع : التخيير .
وفي الحكم التكليفي جهد ومشقة , ويتعلق بأفعال المكلفين البالغين العاقلين .
ويشترط في الحكم التكليفي القدرة على الحكم المكلف به بخلاف الوضعي فلا يشترط أن يكون في مقدور الإنسان .
ويأتي التكليف بالخطاب والأمر بالفعل أو الترك , أما الخطاب الوضعي فإنه خبر من الشارع بتحقق أمور أو عدمها كرجوع الميراث والوصية أو عدمها .
وقد يجمع الحكم التكليفي والوضعي في مصداق وموضوع واحد , كما في البيع فإنه تنطبق عليه الأحكام التكليفية , وقد يسمى هذا الحكم , الحكم الواقعي الثانوي .
وهو على شعبتين :
الأولى : الحكم المستنبط من الأدلة الفقاهتية ، ويسمى أيضاً الأصول العملية .
الثانية : الحكم المستنبط من الأدلة غير القطعية وتسمى الأمارة .
وفي التكليف أركان :
الأول : جهة صدور التكليف من الله عز وجل , إذ يتفضل الله عز وجل بالتكليف , فإن قلت قد يأتي التكليف بالسنة النبوية , كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم( خذوا عني مناسككم) ( ) .
والجواب هذا صحيح , قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) لذا يذكر في علم الأصول بأن الحكم هو خطاب الشارع بالإضافة العامة وهي أن صدور التكليف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو بأمر من عند الله عز وجل , قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
الثاني : المكلَف بالفتح وهو العبد بأن يكون بالغاً عاقلاً حياً موجوداً , قادراً على الإمتثال وهل يصح تكليف الغافل والجاهل، الجواب نعم , لأنها أمور عرضية إختيارية , ورفع القلم أمر آخر .
الثالث : التكليف , وهو سنخية الخطاب الموجه من الشارع إلى المكلف – بالفتح – كما في صيغة الأمر في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ) .
وقد يأتي التكليف بصيغة الجملة الخبرية كما في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) , ومن خصائص خطاب التكليف تقدمه زماناً على الفعل والإمتثال وليس مقارناً له أو متأخراً عنه , وأن لا تكون في ذات التكليف مفسدة .
الرابع : المكلف به أو المأمور به , وهو ذات الفرد من التكليف والفعل أو الترك , وهو على قسمين :
الأول : جنس الفعل كما في قوله تعالى [وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
الثاني : إرادة كلي من المعين من أمر مخصوص ولكن من غير تعيين أحد الأفراد , كما لو كان إتيان أحد أفراد التخيير مجزياً .
كما في أفراد الكفارة ,[ لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
الثالث : إرادة فعل مخصوص مثل أداء فريضة الصيام , قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ).
وقد يكون الفعل بحسب الحال كما في النكاح , فالأصل فيه الإستحباب , وقد يكون واجباً أو مباحاً أو مكروهاً أو محرماً .
ويكون البيع حكماً وضعياً بلحاظ انتقال الملكية , وقد يترشح الحكم التكليفي من الحكم الوضعي في مصداق واحد , فإذا جرى عقد الزواج وهو حكم وضعي تترتب أحكامه على الرجل من وجوب النفقة ونحوه , وعلى المرأة من حفظ الزوجية وشرائطها وامتناع أي من الطرفين من النشوز , وحسن العشرة من الأحكام الوضعية في الزوجية .
ومدار الحكم التكليفي قدرة الإنسان على أدائه .
والأحكام هو جمع حكم وهو مقتضى خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين من طلب أو تخيير أو وضع , والحكم التكليفي والوضعي فرعا الحكم الشرعي الذي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين , ويعرف أيضاً بأنه المتعلق بأفعال العباد .
ومراتب الحكم هي :
الأولى :مرتبة الإقتضاء , يعني وجود المقتضي له وكونه حسن ذاتاً وشرعاً وعقلاً , وفيه مصلحة ونفع مع عدم وجود مانع .
الثانية : مرتبة الإنشاء وهو تحقق إنشاء الحكم ويوالي تسبق إلزام المأمور.
الثالثة : مرتبة الفعلية : بصيرورة الحكم على نحو الإرادة والجد , وقصد الإلزام وتلقي المأمور له .
الرابعة :مرتبة التنجيز : يعلم المكلف بالحكم الفعلي وتقدم عنده الحجة والإمارة , ويترتب عليه أداؤه , ويؤثم على تركه إن كان واجباً .
الثاني : الحكم الوضعي : هو الذي يتعلق بقول وفعل الإنسان من غير أمر لازم بخصوصه , مثل حكم الزوجية والذي تنطبق عليه الأحكام التكليفية الخمسة بحسب الحال والموضوع , كما يترتب على عقد النكاح أحكام تكليفية ووضعية سواء بالنسبة للزوج كوجوب الإنفاق أو بالنسبة للزوجة كوجوب التمكين , ومن الأحكام ما تكون مشتركة وجامعة لهما مثل العشرة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وعدم النشوز , إلى جانب ما فيه من أمور الإباحة , أو الكراهة أو الحرمة فإنما تترشح الأحكام عنه .
والذي لا ينقطع بالفراق والطلاق ، وهو من أسرار قانون الطلاق الرجعي في الإسلام ، وحق الزوج في الرجوع بزوجته في العدة ، ولزوم تزيينها له بيتها واليسر في رجوعه بها ومن غير شهادة أحد .
ولا يشترط في موضوع الحكم الوضعي البلوغ والعقل فيشمل أموال القاصرين , ويتعلق بالسبب والمسبَب , والشرط والمانع .
ويتعلق الحكم الوضعي بما هو أعم من تصرفات الإنسان فيشمل الميراث , وأسبابه , ووجوب النفقة , والجنون وفقد العقل والصغر بما لا يكون لإرادة الإنسان شأن في وجودها .
الثاني : ينقسم الحكم إلى قسمين :
أولاً :الحكم المولوي وهو الأمر من الشارع على نحو الالزام والأداء التام كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ), فلابد من إتيان الصلاة بأوقاتها وشرائطها لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : (صلّوا كما رأيتموني أصلّي)( ) والسنة النبوية مرآة للقرآن وتفسير له .
أو يكون النهي قطعياً , مثل قوله تعالى [وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ] ( ) .
ثانياَ : الأمر الإرشادي وهو إرشاد المكلف لفعل فيه مصلحة دنيوية , مثل الأمر بكتابة القرض والدين بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ] ( ).
فكتابة الدين ليس بواجب ولكنها تمنع من الخلاف والخصومة , وكذا بالنسبة للكاتب فيجوز أن يكون الكاتب أحد الطرفين الدائن والمدين .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها لم تقيد الكاتب بصفة وشرط الإسلام أو الإيمان , إنما أخبرت عن وصف واحد وهو العدل .
ولو دار الأمر بين الحكم المولوي والإرشادي , فإن الأول هو الأصل لأصالة الوجوب في الأمر إلا مع القرينة الصارفة ولعمومات قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
وقد يقال بأن الفرق بأن المولوي حكم تكليفي قد لا يضر بصحة الفعل مثل النهي عن الإرتماس في الماء بالنسبة للصائم , وأنه لا يبطل الصوم به أو أن النهي إرشاد إلى بطلان الصوم لصوم النهي في المركبات .
ولكن هذا المعنى يفيد المغايرة في معنى كل من الأمر المولوي والإرشادي .
وبالنسبة للأذى بالماء فإنه غير مفطر للصائم , وعن الإمام الباقر قال : لا يضر الصائم ما صنع إذا إجتنب ثلاث خصال : الطعام والشراب والنساء , والإرتماس في الماء) .
والضرر أعم من الإفطار , فالإرتماس في الماء ليس مفطرا .
وكأن تقسيم الحكم إلى حكم مولوي وإرشادي هو من تقسيمه إلى واجب ومستحب من جهة الأمر بالفعل , وإلى المحرم والمكروه من جهة النهي .
وقيل أن المولى مؤسس للأمر المولوي , ولا حكم للعقل فيه , على عكس الإرشادي , فان للعقل حكماً فيه , ولكن وظيفة العقل الإمتثال لأمر الله عز وجل , والفصل بين الواجب والمستحب , وإذا كان قوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ] ( ), أمراً إرشادياً . فكيف يكون قوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ] ( ), نهياً مولوياً مع التشابه في اللفظ , ومنهم من يقول بأن نهي آدم وحواء عن الأكل من الشجرة مولوي .
وإلا فأن الأمر من الله عز وجل تجب طاعته ولا يجوز التخلف منه , إلا أن يكون المراد منه الندب والإستحباب والإرشاد .
كما أن قوانين الجنة تختلف عن أحكام الأرض , بدليل أن الملائكة كانوا يتحدثون مع آدم وحواء , ولموضوعية القرائن في تعيين مرتبة المراد هل هو الوجوب أو الإستحباب .
واستطاع إبليس أن يوسوس لهما ويتحدث معهما بما فيه الإغواء والزلل , لذا نسب الله عز وجل أكلهما من الشجرة إلى إبليس بقوله تعالى [وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ر بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( ).
الثالث : تقسيم الحكم إلى حكم واقعي وظاهري .
أولاً : الحكم الواقعي هو الثابت الصادر من الشارع بدليل قطعي وعرف بأنه الحكم الموافق للواقع وذات الأمر , ولا يختلف فيه العلماء كما في قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( ).
لبيان الصلة والإتحاد بين المسلمين والمؤمنين من الأمم السابقة بأداء التكاليف وأن المسلمين تقيدوا بالحكم الواقعي وامتثلوا له وتوارثوا تعاهده , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ثانياً :الحكم الظاهري وهو الذي يصل إليه المجتهد بالأولوية الظنية كأخبار الآحاد , والأمارات والأصول العلمية وهي .
الأول :الإستصحاب .
الثاني :البراءة .
الثالث : الإحتياط .
الرابع : التخيير .
وبينما لا يختلف الفقهاء في الحكم الواقعي لأن دليله قطعي, فقد يختلفون في الحكم الظاهري بحسب ما يتيسر للفقيه من الأدلة ولموضوعية إجتهاده , ولحاظ السند والمتن والدلالة , وقدرته الفقهية على الجمع بين الأدلة واستنباط الحكم الشرعي .
يقسم الحكم الأولي والثانوي إلى قسمين .
الأول : الحكم الأولي وهو الحكم الثابت بالأصل للموضوع كتاباً وسنة من غير لحاظ لحال طارئة كالضرورة .
كما في وجوب الصلاة والصوم , وحرمة الخمر والزنا والربا , واستحباب النكاح من غير طرو سبب عرضي عليه , وكذا بخصوص الإباحة .
الثاني :الحكم الثانوي : وهو الطارىء للشئ والموضوع بسبب حدوث أمر خارجي كما في إفطار الصائم عند المرض أو السفر كما في قوله تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ).
وكذا بالنسبة لحالات الضرورة إذ يباح في الضرورة ما لا يباح في غيرها , وقاعدة ( كل ما غلب الله عليه فإن الله أولى بالعذر)
وقاعدة نفي الحرج في الدين , إذ يرتفع الحكم الأولي بالعذر والضرر , وكأن الحكم الثانوي تشريع في طول الحكم الأولي .
ولو دار الأمر بين الحكم الأولي والثانوي , فالأصل هو الأول وهو الأكثر والأغلب في أعمال المكلفين , إلا في صورة الحرج والضرر ونحوهما , ولو شك أو ظن المكلف فإن وظيفة الشاك هي الحكم الأولي , كما في حرمة الخمر .
يقسم الحكم التأسيسي والإمضائي إلى قسمين :
الأول :الحكم التأسيسي أو الإبتدائي , وهو الحكم الذي يأتي ابتداء وجعلاً من الشارع , ومنه العبادات والفرائض .
الثاني : الحكم الإمضائي وهو ما يترشح عن الحكم التأسيسي .
ويحتمل الصبر عن الغزو وجوهاً :
الأول :إنه واجب .
الثاني : إنه مستحب .
الثالث : إنه أمر مباح .
الرابع : إنه مكروه .
الخامس : إنه حرام .
والمختار هو أن الأصل الوجوب والإستحباب إلا مع العنوان الثانوي الطارئ .
أثر بدر في وقائع معركة أحد
لقد أحب الله عز وجل نبيه والذين اتبعوه وأخلصوا في نصرته فافاض عليهم بالجزاء العاجل في الدنيا بالنصر في معركة بدر ، ليكون معجزة ظاهرة للحواس إذ أدرك الناس أموراً :
الأول : قانون نصرة الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : قانون الملازمة بين النبوة والنصر .
الثالث : قانون الذي يريد الله نصره لا يقهره أعداؤه .
الرابع : قانون مصاحبة العز للإيمان وعدم الإفتراق بينهما .
الخامس : قانون عجز الذين كفروا عن إلحاق الضرر بالنبي وأنصاره ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
السادس : قانون النصر القريب للنبي .
لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مهاجراً خائفاً ليس معه إلا فرد واحد من أصحابه ويلاحقهما المشركون بالخيل والسلاح ، وجعلوا مائتي ناقة لمن يأتي بهما أو يقتلهما بلحاظ أن دية كل واحد منهما مائة ناقة .
وعن (سراقة بن مالك بن جعشم قال جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر دية كل واحد لمن قتله أو أسره فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس .
فقال يا سراقة إنى قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم فقلت إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا) ( ).
أي أنهم خرجوا ونحن ننظر إليهم , أراد سراقة التدليس واللبس على الجالسين كيلا يلحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد منهم فيقبضون الجعل ، ولينطلق سراقة خلفهم خلسة من قومه
فيرى المعجزة بعجزه عن الوصول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن ساخت يدا فرسه في الأرض عندما صار قريباً منه .
نعم كان هناك صحابة من الأنصار والمهاجرين بانتظار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ليحضر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجل من المسلمين معركة بدر التي خرج إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المدينة في اليوم الثاني عشر من شهر رمضان ، وقيل كانت المسافة بين المدينة وموقع معركة بدر (257) كم في طريق القوافل القديمة ، وبين بدر ومكة في طريق القوافل هذا (402) كم .
ولكن المسافة الآن بين المدينة وبدر بطريق النقل البري والسيارات (153)كم وبين مكة وبدر (343)كم أما المسافة بين بدر وساحل البحر الأحمر الذي يقع غربها فهي (30)كم .
وإستحضر الشعراء واقعة بدر وأحداثها يوم معركة أحد , إذ يطلب المشركون الثأر, ويشكر المسلمون الله على النصر يوم بدر ليكون هذا الشكر مانعا من الغرور , وجامحا للرغبة في الغزو , وهو دعوة للمشركين للتدبر وزاجرا لهم عن التعدي .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى فِي يَوْمِ أُحُدٍ :
يَا غُرَابَ الْبَيْنِ أَسْمَعْتَ فَقُلْ … إنّمَا تَنْطِقُ شَيْئًا قَدْ فُعِلْ
إنّ لِلْخَيْرِ وَلِلشّرّ مَدًى … وَكِلَا ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ
وَالْعَطِيّاتُ خِسَاسٌ بَيْنَهُمْ … وَسَوَاءٌ قَبْرٌ مُثْرٍ وَمُقِلّ
كُلّ عَيْشٍ وَنَعِيمٍ زَائِلٌ … وَبَنَاتُ الدّهْرِ يَلْعَبْنَ بِكُلّ
أَبْلِغْنَ حَسّانَ عَنّي آيَةً … فَقَرِيضُ الشّعْرِ يَشْفِي ذَا الْغُلَلْ
كَمْ تَرَى بِالْجَرّ مِنْ جُمْجُمَةٍ … وَأَكُفّ قَدْ أُتِرّتْ وَرِجِلْ
وَسَرَابِيلَ حِسَانٍ سُرِيَتْ … عَنْ كُمَاةٍ أُهْلِكُوا فِي الْمُنْتَزَلْ
كَمْ قَتَلْنَا مِنْ كَرِيمٍ سَيّدٍ … مَاجِدْ الْجَدّيْنِ مِقْدَامٍ بَطَلْ
صَادِقِ النّجْدَةِ قَرْمٍ بَارِعٍ … غَيْرِ مُلْتَاثٍ لَدَى وَقْعِ الْأَسَلْ
فَسَلْ الْمِهْرَاسَ مَنْ سَاكِنُهُ ؟ … بَيْنَ أَقْحَافٍ وَهَامٍ كَالْحَجَلْ
لَيْت أَشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا … جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الْأَسَلْ
حِينَ حَكّتْ بِقُبَاءٍ بَرْكَهَا … وَاسْتَحَرّ الْقَتْلُ فِي عَبْدِ الْأَشَلْ
ثُمّ خَفّوا عَنْ ذَاكُمْ رُقّصًا … رَقَصَ الْحَفّانِ يَعْلُو فِي الْجَبَلْ
فَقَتَلْنَا الضّعْفَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ … وَعَدَلْنَا مَيْلَ بَدْرٍ فَاعْتَدَلْ
لَا أَلُومُ النّفْسَ إلّا أَنّنَا … لَوْ كَرَرْنَا لَفَعَلْنَا الْمُفْتَعَلْ
بِسُيُوفِ الْهِنْدِ تَعْلُو هَامَهُمْ … عَلَلًا تَعْلُوهُمْ بَعْدَ نَهَلْ
[ رَدّ حَسّانٍ عَلَى ابْنِ الزّبَعْرَى ]
فَأَجَابَهُ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ قَالَ
ذَهَبْت يَا بْنَ الزّبَعْرَى وَقْعَةٌ … كَانَ مِنّا الْفَضْلُ فِيهَا لَوْ عَدَلْ
وَلَقَدْ نِلْتُمْ وَنِلْنَا مِنْكُمْ … وَكَذَاكَ الْحَرْبُ أَحْيَانًا دُوَلْ
نَضَعُ الْأَسْيَافَ فِي أَكْتَافِكُمْ … حَيْثُ نَهْوِى عَلَلًا بَعْدَ نَهَلْ
نُخْرِجُ الْأَضْيَاحَ مِنْ أَسْتَاهِكُمْ … كَسُلَاحِ النّيبِ يَأْكُلْنَ الْعَصَلْ
إذْ تُوَلّونَ عَلَى أَعْقَابِكُمْ … هُرّبًا فِي الشّعْبِ أَشْبَاهَ الرّسَلْ
إذْ شَدَدْنَا شَدّةً صَادِقَةً … فَأَجَأْنَاكُمْ إلَى سَفْحِ الْجَبَلْ
بِخَنَاطِيلَ كَأَشْدَافِ الْمَلَا … مَنْ يُلَاقُوهُ مِنْ النّاسِ يُهَلْ
ضَاقَ عَنّا الشّعْبُ إذْ نَجْزَعُهُ … وَمَلَأْنَا الْفَرْطَ مِنْهُ وَالرّجَلْ
بِرِجَالٍ لَسْتُمْ أَمْثَالَهُمْ … أُيّدُوا جِبْرِيل نَصْرًا فَنَزَلْ
وَعَلَوْنَا يَوْمَ بَدْرٍ بِالتّقَى طَاعَةِ … اللّهِ وَتَصْدِيقِ الرّسُلْ
وَقَتَلْنَا كُلّ رَأْسٍ مِنْهُمْ … وَقَتَلْنَا كُلّ جَحْجَاحٍ رِفَلْ
وَتَرَكْنَا فِي قُرَيْشٍ عَوْرَةً … يَوْمَ بَدْرٍ وَأَحَادِيثَ الْمَثَلْ
وَرَسُولُ اللّهِ حَقّا شَاهِدٌ … يَوْمَ بَدْرٍ وَالتّنَابِيلُ الْهُبُلْ
فِي قُرَيْشٍ مِنْ جُمُوعٍ جُمّعُوا … مِثْلَ مَا يُجْمَعُ فِي الْخِصْبِ الْهَمَلْ
نَحْنُ لَا أَمْثَالُكُمْ وُلْدَ اسْتِهَا … نَحْضُرُ النّاسَ إذَا الْبَأْسُ نَزَلْ( ).
وقدم ابن عائشة على الوليد بن يزيد.
قال الفرزدق: حضرت الوليد، وعنده ندماؤه، وقد اصبح، فقال لابن عائشة يغني بشعر ابن الزبعرى: من الرمل
ليت أشياخي ببدر شهدوا … جزع الخزرج من وقع الأسل
فقتلنا الصيد من ساداتهم … وعدلنا مثل بدر فاعتدل
فقال ابن عائشة: لا أغني هذا يا أمير المؤمنين. فقال: غنه، وإلا جرعت لهواتك الأمرين! قال: فغناه، فقال: أحسنت والله. أنا على دين ابن الزبعرى يوم قال هذا الشعر.
قال الحافظ بن عساكر: بلغني أن ابن عائشة لما انصرف من عند الوليد بن يزيد، نزل بذي خشب، فلحقه طرب، فغنى على قصر ذي خشب، ومشى على الشرفات، فسقط، فمات( ).
ما قبل معركة أحد
من المتسالم أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا منقطعين إلى العبادة والذكر ، فحينما تنزل آية من القرآن يتلقونها بالتدارس وتكرار التلاوة والحفظ ، والحرص على معرفة مضامينها وأسباب نزولها ، والإمتثال لما فيها من الأوامر ، وإجتناب ما تنهى عنه .
ويهبّون إلى أداء الصلاة خمس مرات في اليوم متفرقة وموزعة في أوقات مخصوصة من الليل والنهار ، وتقيد المسلمين بذات أوقاتها معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وشاهد على إنقطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته للعبادة والنسك , وأيهما أشد على الإنسان أن يدخل الإسلام فيتقيد بأداء الصلاة خمس مرات في اليوم أم يخرج إلى الدفاع والقتال .
الجواب هو الثاني ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( )وهل الكُره جلب المشقة للنفس من دون إكراه من أحد ، الجواب لا ، والمختار أن النسبة بين الكُره في الآية أعلاه وبين الإكراه هي العموم والخصوص المطلق سواء كان الكُره بالضم أو بفتح الكاف (كَرهاً) ومع نفرة الطباع من القتال فان الآية تبين قانوناً وهو تنافي القتال والحروب مع مبادئ الإسلام ، وأن المسلمين كافة يكرهون القتال مطلقاً .
وورد (عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :ثلاث من أصل الإيمان : الكفّ عمّن قال : لا إله إلاّ الله ما لم يره بذنب،
ولا يخرجه من الاسلام بعمل،
والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أُمتي الدّجال لا يبطنه ضنّ ولا شك، والإيمان بالأقدار) ( ).
وليس المقصود من الجهاد الحصر بالقتال والهجوم إنما يراد منه مجاهدة النفس والتقيد بالفرائض والواجبات والدفاع .
لقد وقعت معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة وهي كره وإكراه للمسلمين لإصرار رؤساء الكفار من قريش على القتال يومئذ ، فكان النصر حليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مع قلة عددهم وأسلحتهم ورواحلهم ومؤنهم ، ونزل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
ولم يتدبر الذين كفروا بمعجزة النصر هذه وسقوط سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً منهم ، إنما أخذتهم حمية الجاهلية ، وطمعوا في ضعف وقلة عدد المسلمين ، وظنوا أن الحفاظ على خط سير قوافلهم بين مكة والشام ، ومكة واليمن مرهونة بالهجوم على المدينة ، وغزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في عقر دارهم ، قال تعالى [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ) .
لقد لجأ كفر قريش إلى الشعر وهو ديوان العرب لتحريض الناس على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ومن ضروب هذا التحريض الشعري رثاء قتلى بدر من المشركين والتأسي على فقدهم , والحزن على فراقهم , والخسارة والحسرة التي ألمت بقريش لقتلهم أذلاء , وتبارى الشعراء وأنفقت قريش الأموال عليهم , وكان عند أبي بكر زوجة من كلب يقال لها أم بكر فلما هاجر إلى المدينة طلّقها , فتزوجها ابن عمها وهو شداد بن الأسود الذي رثى قتلى بدر من المشركين .
تُحَيّي بِالسّلَامَةِ أُمّ بَكْرٍ … وَهَلْ لِي بَعْدَ قَوْمِي مِنْ سَلَامِ
فَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ … مِنْ الْقَيْنَاتِ وَالشّرْبِ الْكِرَامِ
وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ … مِنْ الشّيزَى تُكَلّلُ بِالسّنَامِ
وَكَمْ لَكِ بِالطّوِيّ طَوِيّ بَدْرٍ … مِنْ الْحَوْمَاتِ وَالنّعَمِ الْمُسَامِ
وَكَمْ لَكِ بِالطّوِيّ طَوِيّ بَدْرٍ … مِنْ الْغَايَاتِ وَالدّسُع الْعِظَامِ
وَأَصْحَابِ الْكَرِيمِ أَبِي عَلِيّ … أَخِي الْكَاسِ الْكَرِيمَةِ وَالنّدَامِ
وَإِنّك لَوْ رَأَيْت أَبَا عَقِيلٍ … وَأَصْحَابَ الثّنِيّةِ مِنْ نَعَامِ
إذًا لَظَلِلْت مِنْ وَجْدٍ عَلَيْهِمْ … كَأُمّ السّقْبِ جَائِلَةِ الْمَرَامِ
يُخَبّرُنَا الرّسُولُ لَسَوْفَ نَحْيَا … وَكَيْفَ لِقَاءُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ( ).
وروي ذات الشعر
( وكائن بالقليب قليب بدر … من الفتيان والعرب الكرام )
( أيوعدني ابن كبشة أن سنحيا … وكيف حياة أصداء وهام )
( أيعجز أن يرد الموت عني … وينشرني إذا بليت عظامي )
( إلا من مبلغ الرحمن عني … بأني تارك شهر الصيام ) ( ).
لقد حارب الذين كفروا الإسلام بسيوفهم وليس بأفواههم وحدها ، وتبين خاتمة الآية أعلاه قانوناً يشمل هذا المعنى أي لابد أن يظهر الله دينه وإن بذل الذين كفروا الوسع وانفقوا الأموال في محاربة الإسلام .
لم يكن في الجزيرة قبيلة أو بلدة أغنى وأكثر ثراء من أهل مكة وقريش بالذات ، وكانت تجارتهم بالذهب والفضة ، والخيل والإبل والحبوب والفاكهة ، وفي دعاء إبراهيم لأهل مكة [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ] ( ) .
ومن خصائص أهل المدن والحضر الذين يزاولون التجارة وينغمسون في البيع والشراء عدم الميل إلى القتال ، والمرابطة بالسلاح ، وهم ليسوا قادرين على صدّ غارات القبائل والبلدان الأخرى في بعض الأحيان ، خاصة مع صيرورة كثرة أموالهم سبباً لإغراء القبائل والأعراب بهم والمناجاة بالإغارة عليهم ، فتفضل الله عز وجل وجعل مكة بلداً آمناً سواء في الأشهر الحرم أو مطلق أيام السنة ، قال تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ] ( ) نعم عندما حاربوا النبوة والتنزيل , وسخّروا الأموال الكثيرة التي عندهم في غزوهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله سبحانه بالدعاء عليهم .
ونزل قوله تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ]( ) في معركة أحد بعد أن كثر عدد قتلى المسلمين وأدمى المشركون وجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن محمد بن إسحاق في حديث معركة أحد (فوقفت هند والنسوة معها يمثّلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجدعنّ الآذان والأُنوف،
حتى أخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشيّاً،
وبقرت من كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع فلفظتها،
ثم علت صخرة مشرفة فصرخت :
نحن جزيناكم بيوم بدر
والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان من عتبة لي من صبر
أبي وعمي وأخي وبكري
شفيت صدري وقضيت نذري
شفيت وحشي من غليل صدري .
واسم هند له عدة معاني منها :
الأول : السيف :
الثاني : جماعة من الإبل نحو مائة وكأن تسمية المرأة بهذا الاسم أنها تعدل هذا العدد من الإبل , وأن ديتها كدية الرجل .
الثالث : المائتين من السنين .
الرابع : نسبة التسمية إلى بلاد الهند .
(عن الواقدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: لما كانت وقعة بدر، قتل فيها عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة؛ فأقبلت هند بنت عتبة ترثيهم، وبلغها تسويم الخنساء هودجها في الموسم ومعاظمتها العرب بمصيبتها بأبيها عمرو بن الشريد وأخويها صخرٍ ومعاوية، وأنها جعلت تشهد الموسم وتبكيهم، وقد سومت هودجها براية، وأنها تقول: أنا أعظم العرب مصيبةً، وأن العرب قد عرفت لها بعض ذلك .
فلما أصيبت هند بما أصيبت به وبلغها ذلك، قالت: أنا أعظم من الخنساء مصيبة ً، وأمرت بهودجها فسوم براية، وشهدت الموسم بعكاظ، وكانت سوقاً يجتمع فيها العرب، فقالت: اقرنوا جملي بجمل الخنساء، ففعلوا .
فلما أن دنت منها، قالت لها الخنساء: من أنت يا أخيّة؟ قالت: أنا هند بنت عتبة أعظم العرب مصيبةً، وقد بلغني أنك تعاظمين العرب بمصيبتك، فبم تعاظمينهم ؟ .
فقالت الخنساء: بعمرو بن الشريد، وصخرٍ ومعاوية ابني عمرو، وبم تعاظمينهم أنت؟ قالت: بأبي عتبة بن ربيعة، وعمي شيبة بن ربيعة، وأخي الوليد. قالت الخنساء: أو سواءٌ هم عندك؟ ثم أنشدت تقول:
أبكي أبي عمراً بعينٍ غزيرةٍ … فليلٌ إذا نام الخلي هجودها
وصنوي لا أنسى معاوية الذي … له من سراة الحرتين وفودها
وصخراً، ومن ذا مثل صخرٍ إذا غدا … بساهمة الآطال قباً يقودها
فذلك يا هند الرزية فاعلمي … ونيران حربٍ حين شب وقودها
فقالت هندٌ تجيبها:
أبكي عميد الأبطحين كليهما … وحاميهما من كل باغٍ يريدها
أبي عتبة الخيرات ويحك فاعلمي … وشيبة والحامي الذمار وليدها
أولئك آل المجد من آل غالبٍ … وفي العز منها حين ينمي عديدها) ( ).
ولم يكن عتبة أبو هند حامي الأبطحين : وهما بطحاء مكة وسهل تهامة , إنما كان هو الباغي عليهما .
قالوا : وقال عبد الله بن الحسن : قال حمزة : الّلهم إن لقينا هؤلاء غداً فإنّي أسألك أن يقتلوني ويبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأُذني،
فتقول لي يوم القيامة : فيم فعل بك هذا؟
فأقول : فيك. فلمّا كان يوم أُحد قتل فبقر بطنه وجدعت أُذنه وأنفه،
فقال رجل سمعه : أمّا هذا فقد أُعطي في نفسه ما سأل في الدنيا،
والله يعطيه ما سأل في الآخرة.
قالوا : فلمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون ما بأصحابهم من جدع الآذان والأُنوف وقطع المذاكير،
قالوا : لئن أدالنا الله عليهم لنفعلنّ بهم مثل ما فعلوا،
ولنمثلنّ بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قطّ،
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال عطاء : قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أُحد أربعين يوماً يدعو على أربعة من ملوك كندة : مسرح،
وأحمد،
ولحي،
وأخيهم العمردة( )، ولعل في الخبر تصحيفا لأسماء ملوك كندة ، فقد ورد عن (عمرو بن عنبسة: أَن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “ما أُبالي أَن يهلك الحيّان جميعًا فلا قَيْل ولا ملك، أَلاَ فَلَعَن اللهُ الملوكَ الأَربعة. جمدًا ومسرحًا ومخوساً وأَبضعة وأُختهم العمردة”)( ) .
وكان لكل واحد من هؤلاء الملوك واد يملكه , ووفدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعهم الأشعث بن قيس وأسلموا ثم ارتدوا فقتلوا يوم النجير .
وعلى معن من هذيل،
يقال لهم : لحيان،
وعلى بطون من سليم وعلى ذكوان وعصبة والقارة،
وكان يقول : الّلهم أشدد وطاءك على مُضر واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف،
فأجاب الله دعاه وقحطوا حتى أكلوا أولادهم وأكلوا الكلاب والميتة والعظام المحرقة،
فلمّا انقضت الأربعون نزلت هذه الآية لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ( ).
وهل كانت معركة بدر هي السبب الوحيد لعدوان وغزو المشركين المدينة في معركة أحد ، الجواب لا ، إنما كانت الأسباب متعددة ومنها أسباب معركة بدر ذاتها ، أي أن المشركين اتخذوا من معركة بدر سبباً لغزوهم المسلمين مع أن المشركين هم الذين أصروا على القتال وبدأوه .
كما اتخذوا من ذات أسباب معركة بدر سبباً لتجهيز الجيوش لمحاربة النبوة والتنزيل ، وهو من أسرار زحف قريش نحو المدينة بثلاثة آلاف رجل لمعركة أحد ، بينما كان عددهم في معركة بدر نحو ألف رجل .
ويمكن تـأسيس قاعدة وهي : تراكم أسباب تعدي المشركين , وهذا التراكم من مصاديق وضروب إزدياد آثام الذين كفروا مع إملاء الله عز وجل لهم وتوالي النعم عليهم ، كما في قوله تعالى إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا.
وسيأتي البيان في قانون الإملاء للمشركين في معركة أحد في الجزء التالي إن شاء الله .
قانون عصمة النبي من خسارة معركة :
من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يبدأ قتالاَ , ولا يغزو أحداَ , ومع هذا لم يستطع المشركون تحقيق غلبة ونصر عليه , ولم يتعرض إلى هزيمة وخسائر .
أما بخصوص معركة أحد فقد تكبد فيها المسلمون خسارة جسيمة , ولكنهم لم ينهزموا ولم يخسروا المعركة , وهل للإنذار بالقرآن موضوعية في انتصارات الإسلام .
الجواب نعم , لما فيه من بعث الخوف في نفوس الناس من محاربة النبوة والتنزيل , وثبات المهاجرين والأنصار من الأوس والخزرج فيها , وخروج السرايا من المسلمين وحدوث بعض المناوشات بينهم وبين كفار قريش , وحضور آيات الإنذار حجة في الميدان .
ومن إعجاز القرآن الغيبي أن كل آية منه تتضمن في دلالتها زجر المشركين عن قتال المسلمين .
كما تدعو المسلمين إلى تعاهد سنن التقوى والخشية من الله عز وجل في أنفسهم وعباداتهم ومعاملاتهم , لقد كان المسلمون في شغل شاغل عن الغزو , كانوا فرحين بالهداية والرشاد , وفي التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ).
ثم أن هناك صلات قربى بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين من جهة وبين عامة قبائل قريش وخاصةً رؤسائها منهم .
لقد استعدت قريش لمعركة بدر , وعزموا على القتال وخوض غمار المعركة وجاءوا بمائتي فرس وسبعمائة بعير وهو عدد كبير وله أثر وموضوعية في سير مجريات المعركة ونتائجها , ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا يمتلكون سلاح الدعاء والثبات في منازل الإيمان , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ] ( ).
لقد كان نصر المسلمين جلياً في معركة بدر .
أما بالنسبة لمعركة أحد فقد تهيأت لها قريش ببعث الرسل والمندوبين والشعراء إلى حلفائهم , ومن ولاهم من القبائل من كنانة والأحباش وأهل تهامة .
وسخرت قريش أكثر من خمسين ألف دينار ذهباً للمعركة كل دينار مقدار مثقال , وتحملوا نفقات أفراد الجيش ومنهم من دفعوا نفقة عياله حال غيابه , وتعهدوا إن قتل او أسر بالإنفاق عليهم .
ومن الإعجاز في نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المعارك التباين في العدو والعدة بين الكثرة التي عند المشركين في عددهم وعدتهم وأسلحتهم وخيلهم , وبين القلة الظاهرة عند المسلمين في العدد والعدة والرواحل .
وفي وصف المسلمين بالذل في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) دعوة للدراسة المقارنة بين حال المسلمين من الضعف , وزهو وكثرة جيش المشركين يوم بدر , لذا إلتجأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدعاء حالما رآى جيوش قريش قد أقبلت يومئذ فقال :
(اللّهُمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا ، تُحَادّك وَتُكَذّبُ رَسُولَك ، اللّهُمّ فَنَصْرَك الّذِي وَعَدْتنِي ، اللّهُمّ أَحِنْهُمْ الْغَدَاةَ) ( ).
لقد كانت معارك الإسلام الأولى دعوة للناس جميعاً للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعصمته في القول والفعل وكيف أن الله عز وجل عصمه من الهزيمة والإنكسار ليكون عدم إنسحاب أو فرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ميدان المعركة من الشواهد على رضاه بفضل الله عز وجل , وثقته بتأييده ونصره , وهل يحق الإحتجاج بسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الهزيمة في معارك الإسلام الأولى على عصمته .
الجواب نعم , ومن إعجاز القرآن ذكره لقتال طائفة من الأنبياء من غير ذكر لخسارة تعرضوا لها , إنما تدل الآيات على نصر الأنبياء وأصحابهم , وعدم دبيب الوهن والضعف إليهم , قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
قانون تعدد الشهود يوم القيامة
الشهادة بيان لحق وكشف لحقيقة واثبات حق لطرف على آخر , وهي أمر معروف بين أهل الأرض سواء في حال الخصومة أو من غير خصومة وخلاف ، ولا يعلم منافع الشهادة إلا الله عز وجل لما فيها من مقدمات العدل ودفع الغبن ، ومنع الشقاق والإقتتال .
ولو أن قريشاً اتخذوا الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم شهوداً على صدق رسالته بالإنصات والإستماع لهم لما وقعت معركة بدر وأحد والخندق ، وكذا لو أنهم رجعوا إلى الكتب السماوية السابقة التي تبشر بنبوته وتذكر صفاته إجمالاً .
وتكون موضوعية للشهود في المسائل الخلافية وإدعاء طرف وإنكار الطرف الآخر .
لذا ورد عن النبي أنه قال (الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِلاَّ فِي الْقَسَامَةِ ) ( ).
القسامة هي قيام جماعة من ذوي مقتول بالحلف بادعاء قتله من قبل جماعة أو أسرة مخصوصة إذا وجد في موضع خاص بهم كالبيت أو المحلة أو القرية وعليه آثار الضرب ويسمى اللوث وهو العداوة الظاهرة إذا علم من هو القاتل فليس من قسامة .
ويحلف خمسون رجل من عصبة القتيل على أن هؤلاء قتلوه وإن لم يكونوا خمسين يكرر اليمين على الحاضر منهم ، فاذا كانوا عشرة حلف كل واحد منهم خمس مرات أما إذا نكلوا فيحلف المدعى عليهم خمسين يميناً ، وقال شطر من الفقهاء بابتداء المدعى عليهم باليمين .
والشهادة في الدنيا من الخبر والإخبار ويسمى في علم المنطق بالمركب التام الذي يصح وصفه بالصدق أو الكذب ، ولا يشمل هذا التعريف التنزيل وكلام المعصوم لأنه حق ، ولا يحتمل إلا الصدق , وقد ينسى الشاهد في الحقوق والعقود مع تقادم الأيام ، وقد يخاف من الإدلاء بالشهادة وجهها ، أو أنه يطمع في أمر رغّب به أو رشوة وهي محرمة على الطرفين الدافع والآخذ .
وقد تكون الشهادة إجمالية تلزم التباين أو أن الشاهد لم يستيقن الواقعة لقيد اليقين في الشهادة ، وقد يمتنع عنها أدباً ومنعاً للحرج أو يحول دون شهادته حائل أو يكتم الشهادة عن عمد وهو أمر لا يجوز ، قال تعالى [وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ]( )وفي الشريعة ضوابط خاصة بالشهادة( ) .
وقد يخشى الشاهد على نفسه وماله وعرضه ، ومع الأمن تكون الشهادة فريضة إذا كان الإمتناع عنها سبباً لضياع حقوق الآخرين ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ] ( ) .
وكـأن الشهادة في الدنيا مرآة ومقدمة للشهادة في الآخرة وتذكير بمواطن الحساب ، وتعدد وكثرة الشهود على الواقعة وعلى الشخص الواحد ، ويتصف الشهود في الآخرة بالصدق ، فليس من كذب يومئذ ، ولا سهو أو نسياناً ، قال تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] ( ) .
ومن الشهود في الآخرة :
الأول : الملكان الموكلان بالإنسان واللذان كانا يحصيان عمله في الدنيا ، قال تعالى [وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ] ( )وعن (ابن عباس في قوله { سائق وشهيد } قال : السائق من الملائكة ، والشهيد شاهد عليه من نفسه) ( ), و(جابر بن عبد الله : الشاهد يوم القيامة والمشهود الناس) ( ).
الثاني : شهادة الأنبياء والمرسلين ، قال تعالى [وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ] ( ).
لبيان قانون وهو أن الدنيا دار الإذن للذين كفروا في العمل والإعتذار والندم والتوبة ، وتلقي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والزجر عن الفواحش فلا يطلب يوم القيامة من الكفار أن يؤدوا الفرائض , وأن يرجعوا عن المعاصي ، ولا يعاتبون على سيئاتهم بقصد التوبة والإنابة .
الثالث : شهادة الإنس والجن والمدر والحجر (قال عبد الله بن مسعود: إن الجبل يقول للجبل : يا فلان هل مرّ بك : اليوم ذاكر لله عز و جل ؟ فإن قال نعم سر به ثم قرأ عبد الله { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا }( ) الآية قال : أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير( ).
وعن أنس بن مالك قال : ما من صباح ولا رواح إلا تنادي بقالع الأرض بعضها بعضا : يا جاراه هل مر بك اليوم عبد فصلى لله أو ذكر الله عليك ؟
فمن قائلة لا ومن قائلة نعم رأت لها بذلك فضلا عليها , وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
[ لا يسمع صوت المؤذن جن لا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ]) ( ).
الرابع : شهادة المسلمين على الناس , ومنه شهادتهم على كفار قريش وانهم كانوا يصرون على غزو المدينة والقتال ، قال تعالى [لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ( ) .
إنما تكون الآخرة دار حساب وجزاء ، وجاء قوله تعالى وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ لإنذار الذين كفروا من فوات الإعتذار والتوبة بمغادرة الدنيا إلى عالم الآخرة .
الخامس : شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يحضر شاهداً على الناس بقيامه بتبليغ الرسالة على الوجه الأتم ، وإقامة الحجة على الناس ، قال تعالى [فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا] ( ) .
السادس : حضور الأنبياء والأولياء كشهداء على أممهم ، فيثنون على الذين اتبعوهم ونصروهم ، ويفضحون الذين كذبوهم وآذوهم ، قال تعالى [وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ]( ) حينئذ يتمنى الذين كفروا لو تبتلعهم الأرض التي تحت أقدامهم من شدة الفزع وهول العذاب .
السابع : شهادة الأرض على الناس وما فعلوه على ظهرها من حين هبوط آدم إليها , وصيرورة الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) بضروب العبادة والنسك وطاعة الله .
وفي قوله تعالى [إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا *بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا] ( ) .
وورد عن أنس بن مالك (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل ما عمل على ظهرها ، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { إذا زلزلت الأرض زلزالها }( ) حتى بلغ { يومئذ تحدث أخبارها }( ) قال : أتدرون ما أخبارها جاءني جبريل قال : خبرها إذا كان يوم القيامة أخبرت بكل عمل عمل على ظهرها ) ( ) .
وأخرج البيهقي (في سننه عن رجل من بني جهينة أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الصبح { إذا زلزلت الأرض } في الركعتين كلتيهما فلا أدري أنسي أم قرأ ذلك عمداً .) ( ).
والحديث ضعيف سنداً لأنه مبهم ، فلم يذكر اسم الراوي ، فلا يرقى للإحتجاج به ، حتى لو قال أحد رجال السند حدثنا الثقة عن فلان عن رسول الله فقد يكون ثقة عنده ضعيفاً عند غيره .
ولو دار الأمر في قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين النسيان والعمد ، فالأصل هو العمد والقصد , لأنه [ َمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى] ( ), ولبيان وسمو هذه السورة (عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه (عليه السلام) : {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن) ( ).
الثامن : شهادة الكتب السماوية على الناس وهذه الشهادة من جهات :
الأولى : نزول الكتب والصحف من السماء على الأنبياء .
الثانية : قيام الأنبياء بتبليغ مضامين الكتب السماوية .
الثالثة : حضور أحكام الشرائع بين الناس .
الرابعة : تواتر آيات التنزيل في الوجود الذهني للناس.
الخامسة : قيام الصالحين بتلاوة آيات التنزيل , وهل هذه التلاوة حجة على ذات الصالحين , أم أن القدر المتيقن أنها حجة على الذين تتلى عليهم , الجواب هو الأول .
وتشهد الكتب السماوية على الناس يوم القيامة بنزولها بالفرائض والنهي عن المعاصي والسيئات .
وتشهد على الذين أعرضوا عنها , وامتنعوا عن الإنصات لها , وما فيها من الأحكام والسنن , وتأتي وتحضر آيات القرآن في مواطن يوم القيامة بأبهى حلة لتشهد للمؤمنين بتلاوتها والعمل بها , وتكون نوراً يكسي وجوههم , وتشهد على كفار قريش من جهات :
الأولى :محاربة كفار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاء بآيات القرآن من عند الله عز وجل .
الثانية : إنكار نزول آيات القرآن .
الثالثة : محاولة منع الناس من الإنصات للقرآن , وفي التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] ( ).
وعن ابن عباس (قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته ، فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون }.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخفى قراءته لم يسمع من يحب أن يسمع القرآن ، فأنزل الله { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) ( ).
الرابعة : إظهار الذين كفروا العداوة لمن آمن بآيات القرآن .
الخامسة : آيات القرآن يوم القيامة لتبن للناس عامة والذين كفروا أنها حق وصدق , وأنها كلام الله عز وجل في الأرض .
السادسة : شهادة آيات القرآن بأنها خير محض , وأنها رحمة للناس جميعاَ , قال تعالى [أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ).
ومن الإعجاز في سنخية وأوان نزول آيات وسور القرآن , مجىء السور المكية بالإنذار والوعيد , ليكون من معاني الرحمة فيها لقريش زجرها لهم عن إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ودعوتها لهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم قتاله أو محاربته.
التاسع: شهادة العلماء وأتباع الانبياء والذين قاموا بتبليغ أحكام الشريعة إلى الناس , وفي التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
العاشر :شهادة المؤمنين الذين تلقوا الرسالات بالقبول والرضا والمعجزات بالتصديق , ليشهد بعضهم لبعض , ويشهدوا على الذين كفروا , قال تعالى [قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ] ( ).
إذ سألوا الله عز وجل الشهادة لهم وتزكيتهم ثم سألوه أن يشهدوا على الناس . لبيان أن هذه الشهادة مرتبة سامية للمؤمنين .
الحادي عشر : شهادة الإنسان على نفسه ، إذ تنطق جوارحه بما كانت تفعل ، قال تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
وقد ينكر الإنسان يوم القيامة الذنوب والآثام التي ارتكبها ، مع مواجهة الملائكة له بما كانوا يكتبونه من أفعاله ، فلا يرضى إلا بشاهد من نفسه حينئذ يأمر الله عز وجل جوارحه لتنطلق بأمرين :
الأول : الشهادة على صاحبها .
الثاني : ما كانت تلك الجوارح والأعضاء تفعله .
(عن أنس في قوله { اليوم نختم على أفواههم }( ) قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه قال : أتدرون ممن ضحكت؟
قلنا : لا يا رسول الله .
قال : من مخاطبة العبد ربه فيقول : يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول : بلى .
فيقول : إني لا أجيز عليَّ إلا شاهداً مني .
فيقول : كفى بنفسك عليك شهيداً ، وبالكرام الكاتبين شهوداً ، فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي ، فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول بعداً لكن وسحقاً ، فعنكن كنت أناضل) ( ).
والمناضلة هي الرمي بالسهام ، وجاءت في الحديث بمعنى المدافعة والذب عنها خشية تعرضها لعذاب النار .
وقد يظن شطر من الكفار بأن تقادم القرون وتعاقب العوالم وكثرة أهل المحشر سبب لنسيان ذنوبه وعدم الإلتفات إليها ، وإن كان بعضهم يظن ليس ثمة مدة لقوله تعالى [قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ] ( ) .
فتترى الشهادات على الإنسان ثم يفاجئ بشهادة جوارحه بما يجعل الفعل وكأنه حاضر ومدرك بالحواس ، وفيه تحذير وإنذار للناس بلزوم استعداد الإنسان لعالم الآخرة وإجتناب شهادة الشهود التي تدخله النار ويتجلى هذا الإجتناب بالتوبة والإنابة ، ومن خصائص الشهادة يوم القيامة عدم كتمانها وسلامتها من الغفلة أو الزور أو التدليس .
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً بالسنن التي تتضمن السعادة والطمأنينة في الدنيا بالإيمان , ومبشراً باللبث الدائم في النعيم في الآخرة ، ومنذراً من فعل السيئات وضررها على صاحبها في الدنيا والآخرة , قال تعالى [فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا] ( ).
ليهجر رجال قريش الصدود عن الدعوة إلى التوحيد , ويمتنعوا عن العناد والإستكبار ،ويكفوا عن عبادة الأوثان ، ولكنهم أصروا على الآثام وجحدوا بالنعم التي تفضل الله عز وجل بها عليهم من بين أهل الجزيرة من وجوه :
الأول : جوار البيت الحرام في مكة .
الثاني : انتساب قريش لإبراهيم الخليل بالبنوة .
الثالث: السلامة والأمن من الغزو والنهب ، مع وقوع الغزو بين القبائل التي حولها , قال تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ] ( ).
الرابع : كثرة أموال قريش , ومما تتصف به قريش آنذاك حال الثراء والملكية الخاصة للرجال والنساء منهم.
الخامس : توالي قوافل التجارة بين مكة والشام , وبين مكة واليمن .
السادس : إكرام القبائل وأهل الأمصار لقريش خاصة واستماعهم لهم ، وقيام رجال قريش بحل الخصومات بينها .
السابع : وفود قبائل العرب إلى مكة في موسم الحج وأيام العمرة .
الثامن : منزلة رجال قريش عند هرقل ملك الروم , وعند كسرى فارس ، وصِلاتهم مع الوزراء ورجال البلاط ، وكانت قريش في تجارتها تمر في الطريق على الأمراء ورؤساء القبائل ويحلون ضيوفاً عليهم ، كما كانت لهم بساتين في الطائف يذهبون إليها في الصيف ويقيمون فيها أياماً وأشهراً .
التاسع : تشريف قريش ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين ظهرانيهم ومن أوسطهم نسباً وأرفعهم بيتاً ليدعو العرب والعجم إلى الإسلام [وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ] ( ).
لقد سألت قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل لهم جبل الصفا ذهباً ليؤمنوا بنبوته ولو استجاب الله لهم لانتفعوا من تلك المعجزة واقتتلوا من أجلها وأنكرها شطر منهم ،وقال شطر آخر بأنه سحر من عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل كان الكفار يعلمون بأن جبل الصفا من شعائر الله وأنه لا يتحول إلى ذهب ولا يكون قابلاً للزوال لقوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ] ( ) .
الجواب نعم ، فقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتثبيت سنن إبراهيم عليه السلام ، وليصبح جبل الصفا ذهبا لأهل مكة في كل موسم حج ،وهو أمر ظاهر للعيان لبيان قانون وهو أن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسية مثل معجزاته العقلية في بقائها حية وغضة إلى يوم القيامة .
وشهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ), عامة وشاملة لأمور الدنيا والآخرة , كما إنه يحضر يوم القيامة ليشهد للمؤمنين , ويشهد على الكافرين .
وعن ابن عباس : لما نزلت الآية أعلاه وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أمر علياً ومعاذ أن يسيرا إلى اليمن ، فقال : انطلقا فَبَشِّرا ولا تُنَفِّرا ، ويَسِّرا ولا تُعَسِّرا ، فإنه قد أنزل عليَّ { يا أيها النبي أنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً } ( ) قال : شاهداً على أمتك ، ومبشراً بالجنة ، ونذيراً من النار ، وداعياً إلى شهادة لا إله إلا الله { بإذنه وسراجاً منيراً }( ) بالقرآن) ( ).
ومن شهادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة بيانه لأهل الحشر أنه لم يغز المشركين , لأنهم الذين بدأوا القتال في معركة بدر وأحد , وزحفوا لحصار المدينة في معركة الخندق , مع إصرار منهم على الإعراض عن دعوة الحق والهدى .
ثم تشهد على المشركين جوارحهم , بما يؤكد هذه الحقيقة ,وهل يحضر كل من موضوع معركة بدر وأحد والخندق وحنين للشهادة , الجواب نعم إذ يدل قوله تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] ( ).
على وجود احساس عند السماء وعند الأرض ساعة سؤال الله عز وجل لهما , ويشهد المهاجرون والأنصار بأنهم لم يروموا الغزو إنما آمنوا بالله ورسوله ودعوة الحق , فحاربهم وقاتلهم المشركون .
كما تشهد الدواب والسيوف والدماء التي سالت في ميادين المعارك , إن التذكير بالشهادة المتعددة يوم القيامة دعوة للإصلاح والتدبر بالمعجزات ونبذ الإقتتال والحروب التي تجلب الخراب والدمار .
إجازة آية الله الشيخ غلام حسنين أستاذ الدراسات العالية في الحوزة العلمية في النجف الأشرف / والإجازة قبل ( 25) سنة .
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين وبعد…. فإن الحكمة الإلهية والألطاف السماوية تتغشى دائماً أهل الأرض , ونعمه تعالى عليهم متصلة من غير إنقطاع ومنها تفضل سبحانه بجعل العلماء ورثة للأنبياء وفضّل مدادهم على دماء الشهداء ونصبهم أعلاماً لعباده ومناراً في بلاده وجعلهم حواجز واقية من الضلالة , وأبواباً للهداية وجعل الخوف منه تعالى مستقراً في نفوسهم إكراماً لهم وخصهم بالخشية منه تفضلاً منه تعالى عليهم وعلى الناس فقال تعالى[إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] وممن شملته هذه العناية الإلهية , ونالته هذه النعمة العظيمة جناب علم الإعلام وحجة الإسلام الشيخ صالح الطائي دامت بركاته فإنه قد أتعب نفسه دائباً في تحصيل العلوم الشرعية والمعارف الإلهية عن مداركها العقلية والنقلية وأني رأيت شطراً من تقريراته وعدداً من كتبه المطبوعة وغيرها من المخطوطة التي تظهر ملكة مباركة يقتدر معها على إستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، ورأيته قد إرتقى في مراتب الفضل والفضلية وبلغ مرتبة الإجتهاد ومن الذين بذلوا غاية وسعهم في خدمة شريعة سيد المسلمين صلى الله عليه وآله وسلم شكر الله سعيه وأجزى أجره وإني أبتهل إلى الله تعالى أن يزيد في تأييده وتسديده وحفظه بلطفه وإحسانه وكرمه وأوصيه بملازمة التقوى وترك متابعة الهوى وان يأخذ الحائطة لدينه فإنه ما زلّ من سلك سبيل الإحتياط وان لا ينساني من صالح دعائه والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.