المقدمـــــــــــة
الحمد لله الذي تفضل على العباد بالهداية إلى الحمد والثناء عليه سبحانه وبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية بالحمد له والدعوة إلى تسبيحه .
وأنزل الله القرآن , وأوجب على كل مسلم ومسلمة تلاوته وجوباً عينياً وهو يتضمن الحمد له سبحانه ، ويتلو كل مسلم ومسلمة قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) سبع عشرة مرة لبيان مصداق من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) من وجوه :
الأول : مواظبة المسلمين على الحمد لله سبحانه .
الثاني : عدم الرخصة في الترك ، فلا يجوز أبداً ترك أي مسلم ومسلمة قول الحمد لله ، فان قلت وكيف هو حال الأخرس والخرساء ، الجواب يأتيان بما يدل على حمدهما لله عز وجل .
الثالث : إقرار المسلمين بأن الله عز وجل هو رب العالمين وفيه حصن وواقية من الشرك والضلالة .
الرابع : إقتران الحمد لله مع التسليم بأن الله عز وجل هو رب السموات والأرض ، وما بينهما وما فيهما .
الخامسة : تلاوة المسلمين لآية الحمد ، وهم في الصلاة مجتمعين ومتفرقين ، والجامع المشترك هو حال الخضوع لله عز وجل أي أن حمد المسلمين لله ليس باللسان وحده ، إنما يكون من جهات :
الأولى : اللسان .
الثانية : القلب .
الثالثة : الجوارح .
الرابعة : الفكر والبدن بحال الخشوع , والوقوف بين يدي الله عز وجل.
الخامسة : الإمتناع عن المعاصي والذنوب .
السادسة : إجتناب الإضرار بالغير ، أو نشر مفاهيم الكراهية إذ أن قول الحمد لله حجة على العباد بأن النعم التي عنده عظيمة .
السابعة : إجتناب إيذاء من يقول الحمد لله , ويشكر الله على ما عنده من النعم .
السادس : رجاء الثواب من عند الله على قول الحمد لله ، وهذا الرجاء شاهد على الإيمان والتسليم بأن الربوبية المطلقة لله سبب للرزق والأمن والإقرار باليوم الآخر.
السابع : توارث المسلمين لقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) فما يغادر المسلم الدنيا إلا وهي زاهرة بقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ]وورث أبناؤه منه [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) وأداءها في الصلاة .
الحمد لله الذي جعل الحمد له سبحانه عنوان الأخوة بين المسلمين وسبيل نبذ الطائفية والفرقة ، فهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
وهل هو من معاني الشواهد والأمارات على الوحدة والإتحاد بين المسلمين وأهل الملل السابقة في مقام الثناء على الله من اليهود والنصارى ، الجواب نعم ، وكل أمة من الأمم تقول الحمد لله ، وهو من الشواهد على أن الناس جميعاً يلهجون بذكر الله عز وجل والثناء عليه .
فالحمد لله جامع مشترك مصاحب للناس في أجيالهم المتعاقبة ، وهو من الشواهد على خلافة الإنسان في الأرض وقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
الحمد لله منّا ومن المسلمين والناس جميعاً على النعم الجليلة والأيادي الكريمة السابغة ما ظهر منها وما لم يظهر للعيان ، وما تدركه العقول وما لا تحيط به الأوهام .
الحمد لله الذي رزق الإنسان الذاكرة وهي نعمة عظيمة وفرع نعمة العقل ، فمن خصائص الإنسان وقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) أن رزقه التفكر والتدبر ، لتتجلى معاني العبودية والخشوع لله عز وجل باستذكار العبد لنعم الله عليه وعلى والديه وعلى المؤمنين جميعاً .
وفي التنزيل حكاية عن سليمان [رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ]( )، فأراد سليمان التوفيق إلى شكر الله والى العمل الصالح الذي يرضي الله عز وجل من جهة الكم والكيف والموضوع بما يناسب النعم التي عند الإنسان ، وسعيه في الخيرات وأن يجعله الله عز وجل من المؤمنين الصالحين في الدنيا والآخرة , وليكون ملاك دولة سليمان العلم والإيمان والعدل ، والباعث للشوق إلى الحكم بالحق والعدل , وهو ومقدمة وبشارة إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحكم بالقرآن وعلوم الوحي ، قال تعالى [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ] ( ).
وروي أن (أبا جعفر المنصور استدعى عبد الله بن طاوس ومالك بن أنس ، فلما دخلا عليه أطرق ساعة، ثم التفت إلى ابن طاوس، وقال له: حدثني عن أبيك فقال: حدثني أبي أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله تعالى في سلطانه فأدخل عليه الجور في حكمه.
فأمسك أبو جعفر ساعة؛ قال مالك: فضممت ثيابي خوفاً أن يصيبني دمه. ثم قال له المنصور: ناولني تلك الدواة، ثلاث مرات، فلم يفعل، فقال له: لم لا تناولني فقال: أخاف أن تكتب بها معصية فأكون قد شاركتك فيها، فلما سمع ذلك قال: قوما عني، قال: ذلك ما كنا نبغي. قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس فضله من ذلك اليوم)( ).
لقد مات ابن عبد الله بن طاووس في سنة 132 ذي السنة التي زال فيها ملك بني أمية ، واستلم الحكم أبو العباس السفاح لذا شكك في صحة هذه الرواية ، وإن كان هذا الأمر قد يصح بلحاظ أن أبا جعفر المنصور كان ولياً للعهد أيام أبي العباس ، خاصة وأنه أكبر منه ولكن لأن أمه كانت أمة لم يبدأ الحكم به ، ولكن لو دار الأمر بين الكتاب بالدواة ما هو حق وصحيح أم جور فالأصل هو الأول ، لحمل عمل المسلم على الصحة وذكرت ذات المسألة لأبيه طاووس اليماني .
وعن الهيثم الطائي قال : حج سليمان بن عبدالملك، فخرج حاجبه فقال: إن أمير المؤمنين قال: ابغوا إلي فقيها أسأله عن بعض المناسك، قال: فمر طاووس، فقالوا: هذا طاووس اليماني، فأخذه الحاجب، فقال: أجب أمير المؤمنين .
قال: أعفني، فأبى، ثم أدخله عليه.
قال طاووس: فلما وقفت بين يديه قلت: إن هذا لمجلس يسألني الله عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين ! إن صخرة كانت على شفير جب في جهنم، هوت فيها سبعين خريفا، حتى استقرت قرارها، أتدري لمن أعدها الله ، قال: لا، ويلك لمن أعدها ، قال: لمن أشركه الله في حكمه فجار، قال: فبكا لها ( ).
وتفكر في الأمر أي أجال فكره فيه وأسباباً ومقدمات وذاتاً ونتائج ، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة( )( ).
الحمد لله الذي يعلم ما كان وما يكون ، وينفرد سبحانه بالإطلاع على كل شيء من الظاهر والباطن ، وفي التنزيل [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).
الحمد لله الذي جعل الإعتصام به واللجوء اليه نجاة من كل كرب في الدنيا والآخرة , وفيه قانون وهو التأكيد في كل لحظة بأن ملك السموات والأرض بيد الله وأنه ملك تدبير ومشيئة ورحمة بالناس والخلائق جميعاً.
وقال تعالى [إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( )، إذ انتقل الخطاب في الآية أعلاه من الغيبة وبيان قانون التوحيد الذي يتغشى السموات والأرض إلى الأمر من الله وبصيغة الخطاب للسامع بقوله [فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] للمبالغة في الترهيب ، فتكون الرهبة من الله عز وجل لا غيره لتدل الآية في مفهومها على قانون من وجوه :
الأول : قانون رهبة الناس جميعاً من الله والخوف منه سبحانه.
الثاني : قانون خشية ورهبة الناس من الله في الحياة الدنيا .
الثالث : قانون رهبة الناس من الله يوم القيامة .
الرابع : قانون عدم جواز إرهاب الفرد والجماعة والدولة للناس.
الخامس : قانون الله وحده وهو المرهوب منه ، ولا يصح أن يكون الإنسان مرهَباً بالفتح ، ومرُهبِاً لغيره.
ومن خصائص نفخ الروح في آدم ، وتفضل الله عز وجل بجعل الإنسان[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) إجتماع الرجاء والخوف في قلب الإنسان فيؤدي الصلاة والزكاة ، ويصوم قربة إلى الله , ويحج بيت الله الحرام رجاء الفضل والإحسان والثواب من عند الله عز وجل ومع هذا فانه يخاف ويخشى الله عز وجل ، قال تعالى [إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا]( ) .
فان قلت كيف يكون الرجاء والخوف متلازمين عند الإنسان مع التسليم بعدم إجتماع الضدين ، الجواب إنهما حاضران في الوجود الذهني الذي هو خارج قواعد القانون أعلاه والخوف والرجاء كالجناحين للطائر وسلاح للعمل ومناهجه ، فلا أمن محض ولا قنوط ويأس .
ويجمع الموضوع المتحد بين الرجاء والخوف ، إذ يرجو العبد الثواب في أداء الواجب ، ويخاف من تركه , ويبذل الوسع في العمل الصالح ، ويجتنب المحارم .
وقيل الأولى أن يغلب الخوف في حال الصحة ، والرجاء عند المرض ، وجمعت آيات عديدة بين الرجاء والخوف منها قوله تعالى [أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ) .
(عن أنس قال دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ثابت وهو في الموت .
فقال له: كيف تجدك قال أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو وآمنه مما يخاف النهي) ( ).
وكل من الرجاء والخوف من الله مجتمعين ومتفرقين دعوة للسلم المجتمعي ، وباعث للمودة والحب بين الناس ، وبرزخ دون الإرهاب ونشره .
وبعد أن صدرت ستة عشر جزء من هذا السِفر المبارك بخصوص قانون مستحدث (لم يغز النبي ص أحداً) أشرق هذا الجزء بفضل من عند الله عز وجل بقانون آخر وعلم جديد , وهو (التضاد بين القرآن والإرهاب ) في أجزاء متعاقبة مع عودة إلى تفسير آيات سورة آل عمران وإلى قانون (لم يغز النبي ص أحداً) في أجزاء أخرى إن شاء الله ، واقتباس المسائل والأحكام من آيات القرآن لتأسيس مدرسة عقائدية تحارب التكفير وشوائبه .
ويحتمل هذا التضاد وجوهاً :
الأول : تجلي التضاد بين القرآن والإرهاب في كل سورة من سور القرآن .
الثاني : تبعث كل آية من القرآن النفرة من الإرهاب سواء في منطوقها أو مفهومها أو تلاوتها .
الثالث : وضوح التضاد في عدد وشطر من آيات القرآن .
الرابع : يعصم القرآن بمجموع آياته وسوره من الإرهاب .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، إذ يدعو التنزيل السماوي إلى إجتناب إخافة الناس وبعث الرعب في صفوفهم وإدخال الفزع إلى البيوت أو جعله حاضراً في الأسواق والمنتديات إلا بخصوص التخويف من البطش وعقاب الله عز وجل فهو أمر حسن ، ويتوجه إلى المؤمن والكافر والغني والفقير والذكر والأنثى ، وفيه الأجر والثواب تبليغاً وإنصافاً وتلقياّ بالقبول والرضا ، قال تعالى [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ) .
إنما جاء القرآن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحجة والبرهان والدليل المقرون بالموعظة والإرشاد وبيان منافع الإيمان والصلاح ، ومضار الضلالة والفساد ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار امتحان وإبتلاء وهيئ للمؤمنين أسباب ومقدمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مع وجود آذان صاغية للإنصات لهم ، ومن خصائص الإنسان أنه يرجو فضل الله في تبديل الحال إلى الأحسن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ] ( ) وقد هدى الله عز وجل المؤمنين للدعاء رجاء الصلاح والإصلاح ، ودفع المفاسد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) وهذه الهداية وعظيم نفعها برزخ دون الإرهاب واشاعة لغة القتل والتفجيرات .
فمن كان يرجو الله عز وجل يستحي منه ، ويتجنب إيذاء عامة الناس الذين هم عباد الرحمن ، وجعل الحياة الدنيا دار سكناهم ، وهي مزرعة لعالم الحساب والجزاء .
وهناك تعارض بين قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ]( )، وبين التطرف والإرهاب في موضوعه وغاياته .
فالآية أعلاه وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تفيد معنى النهي عن إكراه الناس على الدين .
وعن سعيد بن جبير في موضوع الآية أعلاه قال : نزلت في الأنصار خاصة . قلت : خاصة ، كانت المرأة منهم إذا كانت نزورة( )، أو مقلاة تنذر : لئن ولدت ولداً لتجعلنه في اليهود تلتمس بذلك طول بقاءه ، فجاء الإِسلام وفيهم منهم .
فلما أجليت النضير قالت الأنصار : يا رسول الله أبناؤنا وإخواننا فيهم ، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت { لا إكراه في الدين } ( )فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم ، فأجلوهم معهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي قال : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يعيش لها ولد ، فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم ، فجاء الإِسلام وطوائف من أبناء الأنصار على دينهم .
فقالوا : إنما جعلناهم على دينهم ، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا ، وأن الله جاء بالإِسلام فلنكرهنهم ، فنزلت [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ]( )، فكان فصل ما بينهم إجلاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني النضير ، فلحق بهم من لم يسلم ، وبقي من أسلم( ).
إن سنخية النظام العالمي في هذا الزمان وموضوعية الدساتير والقوانين فيه ، وتقسيم الأرض جغرافياً إلى دول ، كل شعب يقع ضمن حدود دولة ينتمي إليها مع موضوعية الوطنية والجامع المشترك فيها يبين الإعجاز في الآية أعلاه ، وأن يلتفت الناس الى العبادات وفعل الصالحات ، مع التنزه عن الإرهاب أو الدعوة إليه أو المساعدة عليه.
وفي العبادات تحقيق للغايات الحميدة من غير إضرار بالغير , قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
وتقع حادثة إرهابية في مكان ما من العالم ليكون الإستهجان منها عاماً ، سواء بالنسبة لعامة الناس او وسائل الإعلام أو المؤسسات وقد تلحق التهمة الإسلام مع إدراك الجميع براءة الإسلام والمسلمين من الإرهاب ، ولا يمكن أن تكون القضية الشخصية سبباً لتوجيه اللوم إلى أمة عظيمة تستنكر هذه الواقعة .
ويدل القرآن والسنة على حرمتها وجاءا بالمنع منها ، وقد تقدم قانون الإسلام والسلام توأمان ( ).
ومن الإعجاز اللفظي بينهما اتحاد الحروف وتشابه مواضعهما باستثناء زيادة الهمزة في لفظ الإسلام ليكون منه وبه ابتداء السلام ، وهو ركيزة الأمن والسلم المجتمعي ، والواقية من الإرهاب .
وهل السلم ونبذ الإرهاب حاجة المسلمين أم أنه أمر مندوب , الجواب هو الأول ، فترك الإرهاب ، مع الدعوة للتنزه عنه حاجة لكل الناس ، وعموم أهل الأرض ، ليكون من القاسم المشترك بينهم ، لذا جاء النداء العام في القرآن ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
إذ بينت الآية أعلاه علة تقسيم الناس إلى شعوب وقبائل ذوو أنساب متحدة وهو المتعارف والمتوارث بينهم بلباس التقوى والصلاح , وليس التعدي والإرهاب .
لقد جاء القرآن بلزوم تعاهد سلامة المجتمع والحرص على أمنه ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج بمفرده ليطوف حول المدينة تأميناً لها، كما كان يبادر للخروج للتعدي للغزاة الكفار الذين يهجمون على أطراف المدينة ، وكان له جار يهودي لا يؤذيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وربما استلف منه ثم يؤدي إليه ، مما يدل على حرص النبي محمد صلى الله عيه وآله وسلم على حفظ الأموال العامة والخاصة , وفيه ندب للمسليين لعدم السطو على أموال الناس عموماً.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن الناس مسلطون على أموالهم( ).
وعن (ابن عباس قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير لأهله)( ).
مما يدل على حقيقة وشواهد تأريخية تؤكد وجود طائفة من اليهود في المدينة حتى بعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى واستمر وجود اليهود في المدينة.
ففي حديث ابن شهاب أن صفية بنت حيي بن أخطب زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت لها جارية ذهبت إلى عمر بن الخطاب في أيام حكمه وأخبرته بأن صفية تحب يوم السبت وتصل اليهود .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تزوج صفية وان عمرها سبع عشرة سنة وهي ابنة سيد بني النضير في السنة الخامسة للهجرة ، ، وكانت قد تزوجت سلام بن مشكم ولم تلد منه ، ثم طلقها ، وتزوجت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق , ورأت ليلة الزفاف وقيل بعده بأيام في المنام كأن القمر يسقط في حجرها فتفاءلت خيراً وفرحت .
وفي الصباح قصت رؤياها على كنانة ، وهو من فرسان بني قريظة ، فلطمها على وجهها ، وقال (إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب أي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم يزل الاثر بها حتى أتى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألها عن ذلك فأخبرته الخبر ) ( ).
وقال ابن سعد (أخبرنا بكر بن عبد الرحمن قاضي الكوفة، حدثني عيسى بن المختار بن عبد الله بن أبي ليلى الأنصاري عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: لما ظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خيبر صالحهم على أن يخرجوا بأنفسهم وأهليهم ليس لهم بيضاء ولا صفراء، فأتي بكنانة والربيع، وكان كنانة زوج صفية والربيع أخوه وابن عمه.
فقال لهما رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: أين آنيتكما التي كنتما تعيرانها أهل مكة.
قالا : هربنا فلم تزل تضعنا أرض وترفعنا أخرى فذهبنا فأنفقنا كل شيء.
فقال لهما: إنكما إن كتمتماني شيئا فاطلعت عليه استحللت به دماءكما وذراريكما؛ فقالا : نعم.
فدعا رجلا من الأنصار فقال: اذهب إلى قراح كذا وكذا ثم ائت النخل فانظر نخلة عن يمينك أو عن يسارك فانظر نخلة مرفوعة فأتني بما فيها. قال: فانطلق فجاءه بالآنية والأموال فضرب أعناقهما وسبى أهليهما، وأرسل رجلا فجاء بصفية فمر بها على مصرعهما فقال له نبي الله، صلى الله عليه وسلم: لم فعلت.
فقال : أحببت يا رسول الله أن أغيظها. قال: فدفعها إلى بلال وإلى رجل من الأنصار فكانت عنده.) ( ).
ولكن هذا الخبر ضعيف لضعف محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري (ضعّفه يحيى بن سعيد، قال أبو حاتم محله الصدق ولكن شغل بالقضاء فساء حفظه) ( ) .
(وقال أبو زرعة : صدوق ) ( ).
وفي توليته للقضاء ذكر أن يوسف بن عمر والي الكوفة (قال لمقرن: اطلب لي رجلاً يصلح للقضاء وليكن عاقلاً صليتاً قال فحدثني مقرن قال: سألت فما وجدت الخير يصح إلا على محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى والقاسم ابن الوليد الهمداني فبعثت إليهما.
فقلت : إن الأمير سألني رجلاً للقضاء، وقد وقع الخير عليكما فما رأيكما.
فبكيا وقالا: أعفنا من هذا، فقلت: إنما كنت أرى هذا معروفاً، فأما إذا وقع منكما على الخوف وانصرفا فلما كان من الغد جاءني ابن أبي ليلى فقال : فكرت فيما قلت ولي عيال، وقد رأيت أن أرحل فيه.
قلت : اغد إلى الحيرة فإني غاد إلى الأمير، فحضر، فلما دخلت على يوسف قال لي : أين الرجل ، قلت: بالباب، قال أدخلوه، وكان ابن أبي ليلى جميلاً فصيحاً.
فقال له يوسف : ممن الرجل ، قال: من اليمن، قال: من أي بطن ، قال: من الأنصار، قال: فأنت موضع لحاجتنا، ما رأيك في القضاء ، فقلت: أعمل بما رأيت، قال: وقد وليتك قضاء الكوفة وأجريت عليك مائتي درهم، واقعد للناس بالغداة والعشي، إلا أن يستغنوا.
قال : فإن رأى الأمير أن يبعث معي حرساً حتى يقعدني في المسجد الأعظم ليراه الناس فيكون أجل لي، قال: يا فلان اركب معه.
قال مقرن : ثم قال لي: أراد ابن أبي ليلى أن يخبر الناس أنه مجنون، قال : فأسر يونس بناحية ابن أبي ليلى وقربه) ( ) .
وعند التعارض بين الجرح والتعديل يؤخذ بالجرح الغالب.
وقد ثبت في السنة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن التعذيب وعن المثلة , إنما قتل كنانة بن الربيع قصاصاً لأنه قتل محمود بن مسلمة ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج من صفية حال سبيها.
وعندما سمع عمر بن الخطاب ما تقوله الجارية عن أم المؤمنين فأرسل إليها وسألها ، فأجابت بلغة الوقار والحلم الذي عرفت به.
وقالت : أما السبت فأني لم أحبه منذ أبدلني الله به يوم الجمعة ، وأما اليهود فان لي فيهم رحماً وأنا أصلِها ، ثم قالت صفية للجارية (ما حملك على ما صنعت قالت : الشيطان . قالت : اذهبي فأنت حرة) ( ) مما يدل على وجود اليهود في المدينة وأن أم المؤمنين تساعد المحتاج منهم ، وجواز إعانة ذي الرحم وإن كان من ملة أخرى .
(وأخرج ابن سعد بسند حسن عن زيد بن أسلم قال: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي توفى فيه واجتمع إليه نساؤه فقالت صفية بنت حيي: إني والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي فغمزن أزواجه ببصرهن. فقال: مضمضن فقلن: من أي شيء فقال: من تغامزكن بها والله إنها لصادقة)( ).
وماتت صفية سنة اثنتين وخمسين للهجرة ، وقيل سنة خمسين ، ولم يعتد أحد على اليهود في المدينة حتى مع صيرورة المدينة عاصمة المسلمين وعامرة بمساجدها يفدها العرب من كل مكان ، وتخرج منها سرايا الدفاع بل تحسنت تجارة اليهود وانتعشت أسواقهم.
ولم يزاول إرهاب وعنف ضد يهود المدينة أو غيرهم كما كان نصارى نجران في أمن من المسلمين .
والوعظ من منهاج الأنبياء ، وقد اتخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر آلة مباركة للدعوة والوعظ وتلاوة آيات القرآن , وبيان الأحكام والإجابة على الأسئلة بفيوضات الوحي والبيان بصيغة البشارة والإنذار .
ومن خصائص منبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه آلة نبوية للحصانة من الإرهاب سواء في فعله أو تلقيه مما يلزم الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته وسنته ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
وإرتقاء المنبر من صيغ خدمة الناس والسعي في الإصلاح ودفع أسباب الفساد ، وليس هو وسيلة للتسلط والقهر ، وسيبقى المنبر في الإسلام واقية من الإرهاب ولا عبرة بالقليل النادر , والآن وفي زمن العولمة والفضائيات يجب أن يكون منبر الجمعة والخطابة شاهداً على تنزه المسلمين من الإرهاب ، وداعية إلى نشر الأمن في عموم الأرض ، وباعثاً للنفرة من العنف والظلم ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) إنتفاع الناس جميعاً من منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد أعرض النبي صلى الله عن المشركين ، وهل هذا الإعراض من الصبر أم أنه من مصاديق قول النبي (أدبني ربي فأحسن تأديبي)( ) الجواب إنه منهما معاً إذ أن هذا الإعراض أمر وجودي ، وجهاد ضد المشركين بمقابلة أذاهم وغزوهم بالصبر والحلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ) فلم تقل الآية (اتبع ما يوحى إليك) كي يتطلع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما يوحى إليه من أوامر مستحدثة بخصوص المشركين ، أو تنزل آيات ناسخة لحال الموادعة والصبر .
إنما ذكرت الآية الوحي بصيغة الماضي لبيان استدامة صبغة السلم والإحتجاج في دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام .
وفيه شاهد بأن القول بنسخ آية السيف لأكثر من مائة آية من آيات الموادعة والسلم لا أصل له إلا أن يثبت نسخ أي آية بدليل من القرآن أو ذكر السنة للآية الناسخة والمنسوخة , لتبقى آيات السلم في القرآن تدعو المسلمين والناس جميعاً إلى نبذ الإرهاب.
لقد صدرت أجزاء هذا السِفر المبارك بالتعاقب بلطف من الله وكان آخرها الجزء السابق وهو الثالث والثمانون بعد المائة وستتوالى أجزاء أخرى إن شاء الله بتفسير الآيات وأخرى بذات عنوان ( لم يغز النبي (ص) أحدا ) .
وجاء هذا الجزء بقانون مستحدث وهو (التضاد بين القرآن والإرهاب) وستصدر منه أجزاء متعددة بلحاظ قراءة آيات القرآن بما يدل على دعوة القرآن للسلم وإشاعته للأمن ، وبعثه السكينة في النفوس.
وجرت العادة في المناهج في الكتب الدراسية في عديد من الدول تدريس غزوات وسرايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يلزم على الأخذ بقولنا والحجج والبراهين الواردة في هذا السِفر التي تؤكد كل من القانونين أعلاه إعادة النظر في بعض تلك المناهج.
والقرآن كنز سماوي نزل من بطنان العرش يتصف بخلوه من العنف والكراهية ، وهو حرب على الكفر ومفاهيم الفساد في الأرض ، وأظهرها الكفر والضلالة ، لأنه أم الكبائر ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا] ( ).
لذا قام الكفار بتجهيز الجيوش من مكة والقبائل التي حولها وساروا لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , وكان القرآن ينزل في ذات الوقت بالعفو والرحمة ويدعو إلى السلم والسلام ، ويبين الأحكام الشرعية ، وذات البيان ندب إلى الوئام ، ومادة للصلاح والأخوة في طاعة الله .
فحينما آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الصحابة كانت الصلاة قوام هذه الأخوة ، إذ كانوا يقفون متصافين بين يدي الله خمس مرات في اليوم ، وهو الذي أغاظ الكفار.
وفي سبب نزول قوله تعالى [وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ) (قال الكلبي: كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل، فشكو ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.) ( ) .
لبيان أن المشركين كانوا يزاولون الإرهاب ضد المسلمين باللسان والشتم ويتعمدون دفعهم إلى مقابلتهم بالمثل لإشعال الفتنة والإقتتال , فنزل القرآن بدفع الإرهاب وإماتة فتنته .
والإرهاب على أقسام :
الأول : التخويف والتهديد بالقتل والتفجير والبطش .
الثاني : تنفيذ القتل وسفك الدماء .
الثالث : إعانة الإرهاب بالمال ونحوه .
الرابع : نصرة الإرهاب والثناء على أصحابه .
الخامس : إغراء بعض الشباب على الإرهاب وحثهم على تنفيذه وكل فرد منها محرم سواء بالذات أو كونه مقدمة للفعل الإجرامي ، كحرمة المقدمة لحرمة ذيها ، ولأن ذات المقدمة محرمة بالذات ، ومن الأدلة على التحريم قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وقوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) وقوله تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ).
إلى جانب الأدلة العقلية والضوابط القانونية في هذا الزمان والتي صار لها موضوعية في منهاج العمل والعقوبات ، والتي وجدت في أغلبها للنفع العام ودفع المفسدة .
لقد جعل الله سبحانه الحياة الدنيا دار امتحان وإختبار ، ومن ضروبه الصراط المستقيم إذ أنه يتغشى أفراد الزمان الطولية في المصاحبة للناس في الدنيا والآخرة إذ إنه على قسمين :
الأول : الصراط المستقيم في الدنيا ، وهو سنن التقوى وما كان دون الغلو ، ويرتقي عن التقصير ويمتنع عن الباطل ،وهل الإرهاب من الغلو الجواب نعم ، وهو من الغلو الضار بالنفس والغير لما فيه من بث روح الذعر والرعب من الغدر والمباغتة والتعدي والتفجير الذي صار كالرعد والصاعقة التي تصيب فرداً أو جماعة قليلة ، ولكنها تبعث الرعب والحزن والأسى في قلوب الناس جميعاً .
الثاني : الصراط في الآخرة ، وهو جسر على جهنم يمر عليه الناس جميعاً ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا] ( ).
(عن أبي أمامة سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إني لأعلم آخر رجل من أمتي يجوز الصراط ، رجل يتلوى على الصراط كالغلام حين يضربه أبوه تزلّ يده مرة فتصيبها النار ، وتزل رجله مرة فتصيبها النار.
فتقول له الملائكة : أرأيت إن بعثك الله من مقامك هذا فمشيت سوياً أتخبرنا بكل عمل عملته؟ فيقول : أي وعزته لا أكتمكم من عملي شيئاً فيقولون له : قم فامش سوياً.
فيقوم فيمشي حتى يجاوز الصراط فيقولون له : اخبرنا باعمالك التي عملت فيقول في نفسه : إن أخبرتهم بما عملت ردوني إلى مكاني فيقول : لا وعزته ما عملت ذنباً قط.
فيقولون : إن لنا عليك بينة ، فيلتفت يميناً وشمالاً هل يرى من الآدميين ممن كان يشهد في الدنيا أحد . فلا يراه.
فيقول : هاتوا بينتكم فيختم الله على فيه ، فتنطق يداه ورجلاه وجلده بعمله فيقول : أي وعزتك لقد عملتها وان عندي العظام العظائم المضرات فيقول : اذهب فقد غفرتها لك) ( ).
لقد صارت فتنة الإرهاب مسألة إبتلاء عالمية وترشح هذا المصطلح طوعاً وإنطباقاً عن زمن العولمة والتداخل بين الغرب والدول والحضارات ، فلابد من إعادة النظر , وقراءة جديدة للموروث الفكري والعقائدي والأخبار التي في مناهج التدريس ، والتي يعاد ذكرها في وسائل الإعلام بما يجعلها ذات أثر وتأثير .
فمثلاً تدّرس في الثانوية العامة لأحدى المؤسسات العلمية الفقهية العريقة والتي تتصف بكثرة طلبتها , وفي بلدان متعددة مسألة وقول باطل ولا أصل له : وهو جواز الإستنجاء بورق التوراة والإنجيل إذا كانت خالية من اسم الله , عن الشيخ محمد الخطيب الشربيني المتوفى سنة 977 هجرية والذي قال (وجوزه القاضي بورق التوراة والإنجيل وهو محمول على ما علم تبديله منهما وخلا عن اسم الله تعالى ونحوه وألحق بما فيه علم محترم جلده المتصل به دون المنفصل عنه بخلاف جلد المصحف فإنه يمتنع الاستنجاء به مطلقا)( ).
لقد أكرم الله عز وجل التوراة والإنجيل بأن أنزلهما من السماء ولذات الاسم وحده قدسية خاصة حتى وإن طرأ التحريف عليهما سواء على القول بأن الاسم غير المسمى أو على القول بأنه عين المسمى .
وورد في القرآن ما يدل على قدسية التوراة والإنجيل مطلقاً ، قال تعالى [وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ] ( ) ، وقال تعالى [وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ] ( ) أي فيها وما بقي منها .
وعن ابن عباس (قال : اعطى الله موسى التوراة في سبعة الواح من زبرجد فيها تبيان لكل شيء وموعظة التوراة مكتوبة ، فلما جاء بها فرأى بني إسرائيل عكوفاً على العجل ، فرمى التوراة من يده فتحطمت ، وأقبل على هرون فأخذ برأسه ، فرفع الله منها ستة أسباع وبقي سبع { ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون }( ) قال : فيما بقي منها) ( ).
(عن الإمام الرضا، عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين صلوات
الله عليه: ليس في القرآن يا أيها الذين آمنوا إلا وفي التوراة يا أيها المساكين) ( ).
وفي انجيل لوقا ( ورفع عينيه الى تلاميذه و قال طوباكم ايها المساكين لان لكم ملكوت الله) ( ) وفيه (روح الرب علي لانه مسحني لابشر المساكين ارسلني لاشفي المنكسري القلوب لانادي للماسورين بالاطلاق وللعمي بالبصر و ارسل المنسحقين في الحرية و اكرز بسنة الرب المقبولة) ( ).
وماذا على القائمين على تلك المؤسسة لو لم يضعوا هذا الكتاب في المناهج أو يحذفوه منها بعد سنوات من وضعه أو يشيروا في التحقيق والهامش إلى بطلان هذا القول وأنه قول شاذ .
وهو يشرح لكتاب شهاب الدين أبي شجاع الأصفهاني (شرح الإقناع لأبي شجاع ) وهو يشرح كتاب الماوردي المتوفى 450 هجرية (الإقناع في الفقه الشافعي ).
ولابد أن هذه المسألة ستحذف من مناهج هذه المؤسسة أو قد حذفت الآن لكنها مناسبة لإعادة النظر في المناهج الدراسية وفق ضابطة كلية وهي إجتناب ما ينمي روح التطرف ، وما يغذي الفتنة والتكفير والإرهاب بين الأفراد والجماعات , ويسبب الحرج مع أهل الملل السماوية الأخرى خاصة في زمن العولمة والكشف العام وتبادل المعلومات بيسر وسرعة .
لابد من تعليم الناشئة ما يلائم الفطرة السليمة وأحكام القرآن والسنة ، ومن خصائص الحياة الدنيا تجلي المعاني فيها ، وصيرورة العقل فرقاناً للوقائع من جهة ملائمتها للفطرة أو مخالفتها لها .
ومن البديهيات أن الإرهاب مناف للفطرة والعقل والرشاد ، وأنه شر وضرر بالذات والأثر ، وقد أنعم الله عز وجل على الناس بنزول الكتب السماوية ، وهي مجتمعة ومتفرقة تنهى عن الإرهاب وتمنع من الإضرار بالنفس والغير , سواء صدر الإرهاب من الفرد أو الجماعة واستند إلى عصبية أو قول أو وصية أو تأويل نص , إذ يفيد الجمع بين النصوص حتى من الجهة المتحدة النهي عن الإرهاب.
لقد ابتدأت أجزاء هذا السِفر المبارك بتفسير سورة الفاتحة ثم صدرت خمسون جزء في تفسير سورة البقرة بفضل من عند الله ، ثم أنعم الله عز وجل علينا بصدور مائة واحد عشر جزءً من سورة آل عمران ، وحتى الآية (178) منها وهو قوله تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ) .
وكلها قوانين من ذات مضامين هذه الآيات بلطف من عند الله عز وجل ، ومنها أجزاء متعددة كل جزء بتفسير آية واحدة , كما صدر أكثر من جزء بتفسير آية واحدة , وتضمنت أجزاء منه نفي الغزو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وبالحجة والبرهان والوقائع التأريخية والشواهد ليكون فيها دعوة لإعادة المناهج الدراسية بما يوافق المصاديق الواقعية ويبين إشراقات الرحمة في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويأتي هذا الجزء بعلم جديد صبغته الصدق , وهو ملائم لزمان العولمة والوقائع الفردية التي تقع فيه ، ودفع أثرها وضررها.
ومن خصائص القرآن أن كل آية منه تبعث رسالة إلى الناس ببراءته من الإرهاب ، وأنه لا يدعو إلا إلى الإيمان والألفة بين الناس جميعاً ، وقد ورد خطاب [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] في عشرين موضعاً من القرآن تبين قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوظائف التبليغ والخطاب لكل الناس على اختلاف مشاربهم .
وينشغل المسلم عن الإرهاب والعنف والإضرار بالغير بآيات القرآن وما فيها من الإعجاز من وجوه :
الأول : بلاغة القرآن .
الثاني : أحكام القرآن والتي تشمل العبادات والمعاملات ، فأي مسألة تواجه الإنسان يجد لها حكماً أو إشارة في القرآن ، قال تعالى [وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاَء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] ( ).
الثالث : جزالة ألفاظ القرآن .
الرابع : انتفاء التعارض بين آيات القرآن .
الخامس : تلاوة المسلم للقرآن في الصلاة وخارجها .
السادس : آيات الرحمة والإحسان والعفو في القرآن .
السابع : الآيات القرآنية التي تنهى عن الظلم والإرهاب .
الثامن : استقراء العلوم والدلائل من الجمع بين كل آيتين من القرآن ، وهو علم شريف صدرت بخصوصه عدة أجزاء من هذا التفسير .
كما جاءت بعض أجزاء هذا التفسير في الصلة بين آية قرآنية وآية مجاورة لها كما في الجزء الجزء الخامس العشرين بعد المائة الذي جاء خاصاً بالصلة بين الآية (152) والآية (151).
والجزء السادس والعشرين بعد المائة في صلة شطر من الآية 153 بشطر من الآية 151 .
والجزء التاسع والعشرين بعد المائة في الصلة بين شطر من الآية 153 وشطر من الآية 154 من سورة آل عمران .
والجزء الواحد والخمسون بعد المائة والذي اختص بصلة شطر من الآية 161 بشطر من الآية 164 من سورة آل عمران والحمد لله، ليتجلى مصداق لقانون وهو أن علوم القرآن من اللامتناهي.
وقد أفردت باباً في تفسير كل آية اسمه (في سياق الآيات) باستقراء المسائل واستنباط المفاهيم والأحكام من الجمع بين الآية محل البحث والآيات القليلة التي سبقتها , والتي تأتي بعدها في نظم القرآن ، خاصة وأن هذا النظم توقيفي من تعيين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع معارضة ومدارسة جبرئيل له .
وأمر جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوضع الآية عند نزولها في موضعها من القرآن ، والسورة .
(وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً إذ شخص بصره فقال : أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ]( )، إلى قوله {تذكرون})( ).
وهل يدل الأمر الوارد في الحديث أعلاه على أن جبرئيل أعلى مرتبة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب لا ، من جهات :
الأولى : تعلق الأمر بذات الآية وموضعها .
الثاني : التسليم بموضوعية جبرئيل في نظم القرآن .
الثالث : هذا الموطن من المواطن التي لا يدل فيها الأمر على أنه من العالي إلى الداني ، فقد يكون من المساوي أو الأدنى .
الأحكام الشديدة كانت تزجر الناس عن ارتكاب الجريمة , وقد يكون الأثر العرضي عكسياً ، للتباين والتغيير الحاصل في النفوس والمجتمعات والتداخل الحضاري ، وكان الشاب يمتنع عن الجريمة خشية العقوبة القاسية ، ولأنه قد يتمرد الشباب على ذات القوانين من واقع الإطلاع على الأحكام والتسامح في البلدان المتقدمة , ومن انتشار ظاهرة تعاطي المخدرات والخمور واختلاط الجنسين ، ووسائل الإعلام .
نرجو دراسة هذه المسألة بأن الواقع الحالي في بعض المجتمعات في العالم الثالث يستلزم تخفيف قوانين العقوبات ، والميل في شطر منها إلى الغرامة المالية بدل السجن ، وبما يساهم في الإصاح ودفع مقدمات الإرهاب .
وقد اقترحت قبل عشرين سنة إنشاء فضائية خاصة بالسجون وتكون هذه الفضائية تابعة للأمم المتحدة , ومجلس حقوق الإنسان تكون تربوية إصلاحية هادفة يتعظ بها الإنسان من غيره فيجتنب دخول السجن بترك مقدماته , وتستبين معاناة السجناء للناس للتعاون في إيجاد الحلول لها .
والتعزير حق لله يسقط بالتوبة بخلاف الحدود تقبل فيه البينة.
وسيأتي إن شاء الله في الأجزاء التالية وفي ذات منهجية هذا الجزء كل من قانون :
الأول : قانون أداء الصلاة واقية من الإرهاب .
الثاني : قانون موضوعية العبادات في الحصانة من الإرهاب .
الثالث : قانون التفكر بالآيات الكونية وبدائع السموات والأرض حرز من الإرهاب .
وقد تكرر في القرآن قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ] ( ) وفيه دعوة للناس للتدبر في أمور الدنيا والآخرة ، ومنه أن الإرهاب لا يحقق أي غاية إلا الفساد والضرر والخسارة لصاحبه ولغيره .
الرابع : قانون السنة النبوية شاهد على تنزه الإسلام عن الإرهاب .
الخامس : قانون النصوص النبوية التي تنهى عن الإرهاب .
السادس : محاربة الإرهاب بالسنة النبوية .
السابع : عدم رضا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ترويع الآمنين .
وقيل ان الإختلاف بين الناس من الأمور الفطرية ، وأنها من أسرار التكامل وتنظيم العيش والمجتمع على نحو أفضل ولا دليل عليه ، إذ تفضل الله عز وجل وأنزل الكتب السماوية وبعث الأنبياء لمنع الإختلاف ، وزيادة مرتبته ووتيرته وتحوله إلى نزاع وقتال .
لقد جاءت الكتب السماوية بالتعايش بين الناس من غير لحاظ اللغة والجنس والعرق والدين .
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أشرف الإيمان أن يأمنك الناس , وأشرف الإسلام أن يسلم الناس من لسانك ويدك وأشرف الهجرة أن تهجر السيئات , وأشرف الجهاد أن تقتل وتعقر فرسك( ).
لقد ورد النهي عن الإرهاب في القرآن والسنة من جهات :
الأولى : النهي عن البغضاء والجهر بالكراهية ، والتفاخر بالذات الذي يدل في مفهومه على الإنتقاص من الآخرين أفراداً وجماعات .
فلا أحد يحب لنفسه أن ينزل به الإرهاب والقتل والتفجير ، لذا يجب أن يحب للناس جميعاً ما يحب لنفسه ، وإذ أوصى النبي محمد صلى لله عليه وآله وسلم بالجار ، وأمر بالإحسان إليه في أحاديث عديدة متواترة, فمن باب الأولوية أن يتقيد الإنسان بقوانين البلد الذي يحل فيه ، والذي أكرمه ، قال تعالى [هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ]( ).
الثانية : المنع من مقدمات الإرهاب ، والأسباب والطرق التي تؤدي إليه ، ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية تلاوة كل مسلم ومسلمة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، للتنزه عن الإرهاب بلطف من عند الله عز وجل بابعاد المسلمين عنه ، ودفع الناس عن إرهابهم والإضرار بهم .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أحب للناس ما تحب لنفسك ( ).
لقد وردت الأحاديث بصفة الإطلاق والعموم ، الإطلاق في الحب وإرادة الأمر الحسن ، والعموم أنه للناس جميعاً وليس للذات أو للمؤمنين أو المسلمين وحدهم ، وعن أبي الدرداء قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا الدرداء أحسن جوار من جاورك تكن مؤمنا وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما وارض بقسم الله لك تكن من أغنى الناس( ).
الثالثة : بيان القبح الذاتي للإرهاب ونشره بين الناس.
الرابعة : النهي عن الرذائل ، والأخلاق الشريرة ، فيدخل الإرهاب فيها .
الخامسة : العقاب الأليم في الآخرة على الإرهاب وظلم الآخرين والتعدي عليهم وعلى حقوقهم ، قال تعالى [إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ]( ).
ان إجتناب الإرهاب والنفرة منه تغليب للعقل على الهوى ، فالإرهاب حرام ولا يصح نقلاً وعقلاً وعرفاً .
وعن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لن يستكمل مؤمن إيمانه حتى يكون هواه تبعاً لما جئتكم به( ).
لقد أكره الذين كفروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الهجرة من مكة ، وهل هذا الإكراه من الإرهاب الجواب نعم ، قال تعالى [الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ]( ).
لقد جاء ذم الإرهاب والقتل بغير حق من أيام أبينا آدم عليه السلام ، وقتل قابيل لأخيه هابيل ليبقى قانون إلهي مصاحب لأهل الأرض وإلى يوم القيامة ويتجلى بقوله تعالى [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ]( ).
وهل الإرهابي من المسرفين , الجواب نعم ، وكما أن موضوع الآية أعلاه في بني اسرائيل فهي للمسلمين والناس أيضاً لبعث النفرة في النفوس من القتل وسفك الدماء ، وعن الحسن البصري(أنه قيل له في هذه الآية : أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ قال : أي والذي لا إله غيره)( ).
وينهى القرآن والكتب السماوية كلها عن صناعة الإرهاب الموازي والرد على الإرهاب بمثله ، قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( )، ولابد من محاربة آفة الإرهاب وسرطان القتل العشوائي ، وإبطال منابعه الفكرية ، وتجفيف مصادره المالية ، وبيان أضراره على الناس والسلم المجتمعي في أرجاء العالم ,
لقد جعل الله عز وجل القرآن إماماً في الصلاح والإصلاح ونبذ الإرهاب ، ومنه ما يسمى الإسلاموفوبيا والخشية من المسلمين والتحامل والتمييز ضدهم ، ولا أصل للتخوف منهم أو كراهيتهم.
لقد ذم الله عز وجل رؤساء الكفر من قريش الذين يدعون الى الإرهاب ويرعبون الناس قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]( ).
والفرق بين الكيد والمكر أن الكيد إرادة الإضرار بالغير على نحو ظاهر وبيّن ، أما المكر فهو السعي بخفية للإضرار ، وكان خبث وعتو فرعون ظاهراً وعلنياً إذ أنه يدّعي الربوبية ، ويجاهر بمحاربة موسى والتنزيل ، قال تعالى [وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ]( )، والإرهاب محرم سواء كان كيداً أو مكراً أو مقدمة لهما مجتمعين ومتفرقين .
وستبقى عبادة الله وحسن الخلق ونبذ الإرهاب الجامع الأكبر بين الناس ، وسبيل الألفة والمحبة بينهم ، وفي التنزيل [وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ]( ).
والإرهاب لغة مصدر الفعل الثلاثي (رهب) ومعناه أخاف وفَزّع فالإرهاب الإخافة والإفزاع .
وليس للإرهاب دين أو وطن ، ولا غاية محددة ويتعارض الإرهاب مع الإحكام الشرعية والقوانين الوضعية والدولية .
ومن معاني الإرهاب وإصطلاحه في هذا الزمان السعي في سلب نعمة الأمن في المجتمعات ، وإيجاد حاله من التوتر والرعب والإضرار بالأفراد والطوائف ، وهو انتهاك للحقوق بظلم وتعد غير مشروع .
ولابد من معالجة حالات التخلف والبطالة والإحباط بين جيل الشباب وتسليحهم بالوعي والتفقه في أمور الحياة ، وإصلاح البنى التحتية وبيان أضرار الإرهاب وأنه لا يصلح أن يكون حلاً في أي من الموازين ، ومن صيغ معالجة الإرهاب أيضاً القراءة السليمة للسنة النبوية بقانون (لم يغز النبي ص أحداً ) والحث على الوسطية وترك التشدد مع الحث على لغة الحوار والإحتجاج بالبرهان ولغة الإنصاف .
لقد جاء زمن العولمة ووسائط الإتصال العام بين الناس لتقر كل طائفة وأهل ملة بوجود غيرهم وحقهم في الحياة والأمن .
ولقد صارت مسألة الإرهاب فتنة عالمية ، وأعطيت أكثر من واقعها ، إذ تعمل الدول والأجهزة الأمنية على تطويقها والمنع من مقدماتها ، والإحتراز منها ، فاذا حدث عمل إرهابي في بلدة في الشرق فان المدن في المغرب تتخذ الإحترازات وتدخل الإنذار ، مما يسبب الإرباك والفزع والإرهاق وبذل الأموال ، وحال القلق والفزع ، ويدل على أن الإرهاب ضرر عام .
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ) ( ).
(عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قضى رسول الله صلى الله عليه واله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع نقع الشئ، وقضى بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء، وقال: لا ضرر ولا ضرار.) ( ).
وعنوان (التضاد بين القرآن والإرهاب ) لم يتعرض له في دراسة أو رسالة أو مقالة ، ويتفضل الله عز وجل علينا باصدار أجزاء من التفسير بخصوصه نعمة منه سبحانه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
ومن اللطف والمنّ من الله عز وجل أن العنوان والمعنون في هذا الجزء بكر لم يذكر في المجلدات ليأتي في هذا السٍفر المبارك على أجزاء متعاقبة في قراءة قرآنية للوقائع والأحداث والمسائل الإبتلائية في هذا الزمان بما يجلي الأبصار ، ويمنع من اللبس والوهم ، ويصدّ عن الإرهاب ومفاهيمه.
لقد صارت بلاغة وإعجاز القرآن تراثاً ثقافياً للبشرية تنهل منه الأحكام والسنن والأخلاق الحميدة ، ويبعد الناس عن الإرهاب ومظاهر العنف العام ، وسيأتي في قانون تعاقب الأنبياء أن الملل السماوية تتبرأ من الإرهاب وممن يقوم به .
لقد جعل الله الحياة الدنيا محلاً لتذوق حلاوة الأمان , فيجب الحصانة من الإرهاب , وليكون تعاون الناس في صيرورة هذا الأمان منهاجا وقانونا مستديما ومصاحبا للأجيال مقدمة وبشارة لمصاديق قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
حرر في الحادي عشر من شهر رجب 1440 هجرية
18/3/2019
الإرهاب لغةً
يقال (رَهِبْتُ الشَّيْءَ رُهْباً ورَهَباً ورَهْباً ورَهْبَةً: أي خِفْتَه، وأَرْهَبْتُ فلاناً. والرَّهْبَاءُ: اسْمٌ من الرَّهَب. والإرْهَابُ: الرَّدُّ، أرْهِبْ عنكَ الإبلَ: أي رُدَّها) ( ).
(وأرْهَبَهُ واسْتَرْهَبَهُ أخافَهُ) ( ), ورهوباً (والأَرْهَابُ بالفَتْحِ : مَا لاَ يَصِيدُ مِنَ الطَّيْرِ كالبُغَاث
والإرْهَابُ بالكَسْرِ ؛ الإِزعاجُ والإِخَافَةُ تقُولُ : ويَقْشَعِرُّ الإِهَابُ إذَا وَقَعَ مِنْهُ الإِرْهَابُ والإِرْهَابُ أَيْضاً : قَدْعُ الإِبِلِ عن الحَوْضِ وذِيَادُهَا وقد أَرهب وهو مجازٌ ومن المَجَازِ أَيضاً قَوْلُهُمْ : لَمْ أَرْهبْ بك أَي لَم أَسْتَرِبْ كذا في الأَساس) ( ).
وفي اللغة الإنكليزية يكون معنى الإرهاب هو إتخاذ العنف والتخويف بلغة لأغراض سياسية .
وفي اللغة الفرنسية عن قاموس ميكرو روبير , عرف الإرهاب بأنه الإستعمال المنظم لوسائل استثنائية للعنف من أجل تحقيق هدف سياسي مثل الإستيلاء أو المحافظة أو ممارسة السلطة .
ولعل الإرهاب بمفهومه العالمي لبيان حوادثه ومصاديقه في هذا الزمان غير موجود في قواميس اللغة العربية .
فهذا العنف لجماعات ليس له مصطلح خاص في اللغة بالذات , وهناك تعاريف عالمية متقاربة للإرهاب لإتحاد موضوعه وإن اختلفت الأسماء فإن المعنى والمسمى واحد , وصار معروفاً عند الناس جميعاً على اختلاف لغاتهم , وهذه المعرفة العامة إنذار بلزوم التنزه عنه , واشارة إلى تعدد أضراره .
ومن التعاريف للإرهاب أصول فكرية , ويرتبط بغايات سياسية .
الثاني :كل جناية أو جنحة سياسية يترتب عليها الخوف العام.
الثالث : هو كل عمل عنف عشوائي .
الرابع : هو عمل عنف ذو خطورة وضرر عام .
الخامس : هو عمل من أعمال العنف يحدث رعباً وفزعاً , وأوسع من محل وقوعه .
السادس : العنف الخاص المقترن بالتخويف العام .
السابع :هو العنف الذي تنفر منه نفوس عامة الناس .
وذكرت مسألة الإرهاب في المؤتمر الأول لتوحيد القانون العقابي الذي انعقد في مدينة وارسو في بولندا سنة 1930.
وصار الإرهابي نعت للذي يتخذ العنف والإضرار الشديد بالغير سبيلاً لتحقيق أهدافه السياسية , والجمع إرهابيون .
وجاء في هذا الجزء قانون وهو (الحروف المقطعة حرب على الإرهاب ) لبيان أن تلاوة آيات القرآن برزخ دون التطبيقات التي تحرض على الكراهية والإستهزاء بالقيم والقواعد والملل ، إذ كان المشركون عند صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون في المسجد الحرام يصفقون بالأيدي ، كما في قوله تعالى [وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ] ( ) والتصدية التصفيق باليد ، وهو من الصدى ، أي صوت الجبال ، وما تعكسه الجدران ، والمكاء هو التصفير بالفم كما يفعل الرعاة ، وهذا الفعل من المشركين من مقدمات الإرهاب فأراد الله عز وجل اشغالهم واسكاتهم لينصتوا للقرآن .
ويكون للناس حق الإنصات له والتدبر في معانيه ، وفيه رحمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , وبالذين كفروا أنفسهم وعامة الناس ، وفيه من أسباب الهداية والدعوة إلى الرشاد , قال تعالى[إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]( ).
لقد اتخذ الذين كفروا من ولايتهم واشرافهم على البيت الحرام وسيلة للظلم وحجب حقائق التنزيل عن الناس وتحشيدهم لمحاربة النبوة والتنزيل ، والأصل أن تكون هذه الولاية رحمة للناس وأمن ، ودعوة إلى السلام ، فنزل قوله تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
إن أنظمة الهجرة والجنسية أمر حسن وقدمت فيه الدول الغربية الخلق الحسن والسماحة ، ولابد من أمور :
الأول : صدور الشكر من الذين هاجروا بالتقيد بالأنظمة والقوانين ، قال تعالى [هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ] ( ) .
الثاني : حماية المهاجرين المسلمين وغيرهم من العنف والإرهاب .
الثالث : التعايش والتداخل في المجتمع ، ونشر مفاهيم التسامح وثقافة المودة بين أهل البلاء الواحدة .
وجاءت آيات القرآن والأحاديث النبوية بالترغيب بالعمل الصالح والحجب عن الإرهاب والإنزجار عنه , وعن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:
إمام عادل،
وشاب نشأ في عبادة الله،
ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه،
ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه،
ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه،
ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله،
ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه”)( ).
مادة رهب في القرآن
مثلما لم يرد لفظ (سيف)في القرآن , فانه لم يرد فيه لفظ إرهاب بمعانيه المختلفة , أو لفظ إرهابي , لبيان قانون وهو مجئ القرآن لنشر شآبيب الرحمة وبعث السكينة في النفوس , قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وجذر لفظة (الإرهاب) هو كلمة(رهب) وقد تكررت هي ومشتقاتها نحو ثمان مرات في القرآن وتتعلق أغلبها بالخشية من الله عز وجل .
ومنها :
الأولى : [وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ]( ).
الثانية : [وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ]( ).
الثالثة : [وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ]( ).
الرابعة : [تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ]( ).
الخامسة : [إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ).
السادسة : [إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا]( ).
السابعة : [وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ]( ).
الثامنة : [وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا]( ).
وجاءت ستة منها بخصوص الرهبة من الله عز وجل ، وواحدة في مكر وحيلة وإرهاب سحرة فرعون للناس .
وجاءت واحدة في إعداد المسلمين مقدمات الدفاع لبعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ، وهو قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ) .
وليس هذا من الإرهاب منطوقاً ومفهوماً وإصطلاحاً من جهات :
الأولى : انه خاص بالإحتراز من العدو .
الثانية : موضوع الآية ليس الإرهاب إنما تهيئة مستلزمات الدفاع دون استعمالها إلا عند ضرورة الدفاع .
الثالثة : القدر المتيقن من الآية الحيطة والحذر ، قال تعالى [خُذُوا حِذْرَكُمْ]( ).
الرابعة : المراد زجر الذين كفروا في هجومهم المستمر على المسلمين إذ نعتتهم الآية أعلاه بأنهم أعداء الله وأعداء المسلمين ، فهذه الآية حرب على الإرهاب , ومنع من استدامته.
الخامسة : الإنفاق في سبيل الله ، وشراء الرواحل والسلاح .
السادسة : رجاء الثواب للمسلمين لاختتام الآية بقوله تعالى [وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
وهذه الآية دعوة للناس جميعاً للخوف والرهبة من الله عز وجل ، فهي لا تخرج عن سياق وموضوع آيات الرهبة الأخرى الواردة في القرآن , وهذا الخوف إكرام للناس .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( )، الجواب نعم , ليكون الجامع المشترك بين الناس خوفهم ورهبتهم من الله سبحانه , وهو من أسباب الإنزجار العام عن الإرهاب .
بين الخوف والإرهاب
النسبة بين الخوف والإرهاب العموم والخصوص المطلق , فكل إرهاب هو خوف وليس العكس , إذ تجمع مفردة الإرهاب بين أمور .
الأول : الخوف .
الثاني : الفزع والذعر .
الثالث : البطش .
الرابع :الإضرار بالذات والغير , والإرهاب فعل شخصي وجماعي ولكنه لا يرقى إلى الحرب والتمرد والعصيان .
وأطلق لفظ (عهد الإرهاب) على الفترة التي تلت الثورة الفرنسية (1793-1794) إذ قتل الآلاف بنعتهم بأعداء الثورة .
وقام روبسبير باعدام أكثر أصحابه من زعماء الثورة الفرنسية , وقيل أعدم ستة آلاف في ستة أسابيع , فتحرك اثنان من رجال الثورة وقادا قوة عسكرية صغيرة واقتحما دار البلدية التي كان روبسبير يخطب فيها , وأصابت رصاصة روبسبير في فكه وقيدوه وساقوه إلى المقصلة مع مائة من أتباعه وأعدموهم جميعاً , وبه انتهى عهد الإرهاب .
ونزلت آيات القرآن بحرمة الإرهاب الرسمي والشخصي ولا تصح التنظيمات من أجل الإرهاب والقتل العشوائي ، والإغتيالات .
وفي السنة النبوية شواهد على حرمة الإرهاب وهذا القتل ، فعندما تجاهر بعض المنافقين بالعداء للنبي وإرادة إثارة الفتنة ، أظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصبر ونهي عن قتله كما في كتيبة بني المصطلق لبيان قانون وهو حرمة القتل على القول المخالف وان كان فيه ضرر .
ومن معاني النسبة بين الخوف والإرهاب أن الخوف من الله زاجر عن الإرهاب وحافظ منه ، وفي قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) أن الحكم بالقصاص والقود من الجاني سبب لمنع القتل والتجرأ في سفك الدماء ، فاذا علم الإنسان أنه إذا قتل غيره يقاد به ، وتقطع رقبته يتجنب القتل ويهرب منه وإن كان مستطيعاً وقادراً عليه سواء بالقتل علانية وقبلاً أو خفية وغيلة ، فكذا بالنسبة للخوف من الله عز وجل فقد جاءت آيات القرآن بوجوب الخوف منه سبحانه ، وهذا الخوف ذو صبغة عامة تتغشى الناس جميعاً ، وخاصة تتعلق بالأفراد ، وهو مانع من الإرهاب لأن الله عز وجل ينهى عن الإضرار بالغير ، وعن بث روح الخوف والفزع بين عباده ، قال تعالى [وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا] ( ).
وقال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ).
ومن خصائص الإرهاب أنه باعث على الخوف عند كل من :
الأول : ذات الإرهابي فتراه فزعاً خائفاً .
والأصل أن يكون الخوف من الله ، والذي يملي على الإنسان التقوى ، والإحتراز من سفك الدماء .
الثاني : الخوف عند الذين يخشون وقوع العمل الإرهابي عليهم ، فتجد أحدهم خائفاً وهو في عمله أو في الطريق أو حتى وهو في البيت.
الثالث : الخوف على العيال ، وأفراد الأسرة من العمل الإرهابي .
الرابع : خوف القائمين على الأمن العام من وقوع عمل إرهابي ، وكثرة همّهم وصيغ احترازهم .
ويشمل الخوف من الإرهاب الغني والفقير ، والمسلم والكتابي وغيرهما ، والرجل والمرأة ، والكبير والصغير لبيان قانون وهو أن أضرار الإرهاب وإحتماله أكثر مما يظن أصحابه من النفع الذي يجلبونه منه .
وهذا الخوف أذى لصاحبه والسبب فيه ، بخلاف الخوف من الله فانه رحمة وفي قوله تعالى [قَالَ رَجُلاَنِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا]( )، أي أنعم عليهما بالخوف منه سبحانه
وعن يحيى بن سعيد قال : ما من أحد يخاف لصاً عادياً ، أو سبعاً ضارياً ، أو شيطاناً مارداً ، فيتلو هذه الآية[إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( )،إلا صرفه الله عنه( ).
قانون تحرير الرق منع من الإرهاب
من خصائص بعثة الأنبياء توجه الأنبياء بالدعوة إلى الإيمان إلى الناس جميعاً ، بمرتبة واحدة ، الغني والفقير ، والسيد والعبد ، والرجل والمرأة ، فدخل الإسلام رجال وشباب من أشراف قريش ، ودخله العبيد ، وأدرك الكل التساوي في ملاكات الإسلام ، وأن الفضل على مراتب التقوى ، لقوله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( )، وما أن هاجر النبي محمد الى المدينة حتى آخى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار لتكون هذه المؤاخاة وأداً للعنصرية والتمايز الطبقي في الإسلام إلى يوم القيامة .
وفيه استئصال للإرهاب ، وغلق لباب من أبوابه بمنع الإرهاب ضد العبيد ، ومحو أسباب صدور الإرهاب من ذات العبيد لأنهم لم يبقوا عبيدا أذلة وحتى الذي بقي على الرق من المسلمين فان أخوّة الإيمان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت وعموم الصحابة تجعله في غبطة دائمة ، وتبعثه على التنزه عن الإرهاب.
وهل إكرام الاسلام للعبيد سبب لهجوم الذين كفروا وإصرارهم على القتال ، الجواب نعم ، إذ أن هذه المسألة إبتلائية عامة فلا يرضى أرباب العمل والسادة المالكون للعبيد عتقهم على نحو مباشر أو بالواسطة كالكفارة ، وقد جاء القرآن بالثناء على العبد المملوك إذا كان مؤمناً قال تعالى [وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ]( )، وهذا الثناء دعوة للمسلمين لإكرام العبد المسلم ، والتعاون في عتقه وعدم النظر بعد عتقه لقيد الرق الذي كان فيه.
وعن سهل بن سعد قال : مرّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ما تقولون في هذا ، قالوا : حري إن خطب أن ينكح ، وإن شفع أن يشفع ، وإن قال أن يستمع.
قال : ثم سكت ، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال : ما تقولون في هذا، قالوا : حري إن خطب أن لا ينكح ، وإن شفع أن لا يشفع ، وإن قال لا يُستمع . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هذا خير من ملء الأرض مثل هذا( ).
والمراد من الرق هو كون الإنسان مملوكاً لغيره ويكون على وجوه من جهة الجنس :
الأول : عبد لسيدة حرة .
الثاني : عبد لسيد حر .
الثالث : أمة انثى لسيد ذكر .
الرابع : أمة انثى لسيدة حرة.
ويجوز الإشتراك بالعبد والأمة بأن يرقها أكثر من حر.
والإجماع على تحقق المنع في الإرث من وجوه :
الأول : الكفر .
الثاني : القتل .
الثالث : الرق .
وتكون مانعية الرق من الطرفين الوارث ، والموّرث ، فاذا كان المورث عبداً كان ماله لسيده وان كان عند العبد ولد حر ، وان كان الوارث رقاً فلا يرث من غيره.
ويشمل الرق المانع من الإرث كلاً من :
الأول : القن ، وهو الذي يكون والده عبداً لمواليه ، وكذا أمه .
الثاني : العبد المتشبث بالحرية مثل المكاتب المشروط .
الثالث : أم الولد ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا]( ).
ومن الإعجاز في الجامع بين الأحكام ونظم القرآن، ورود لفظ (رقبة مؤمنة) ثلاث مرات في القرآن، كلها في آية واحدة ، وتتضمن الترغيب بالعتق ، فكل واحدة منها تقول [تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] وقد لا تجد في القرآن تكرار ثلاث كلمات متتاليات في آية قرآنية ثم لا ترد في آية أخرى كما في قوله تعالى [تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] والوارد في قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
ليكون من الإعجاز في الآية أعلاه وتعدد الحكم تحرير عبد مؤمن من الرق كفارة للقتل الخطأ ونحوه , وتقديم العتق على الصيام شهرين مع أن المسلمين يتشوقون إلى الصوم ، وكان أهل الجزيرة يتحملونه بيسر ولكن لا تصل النوبة الى صوم الكفارة في المقام إلا بعد العجز عن عتق عبد مسلم ، سواء كان العبد مملوكاً لذات الشخص القاتل أو أنه يشتريه ويعتقه أو يسأل الحصول عليه هبة ونحوه ثم يعتقه , وفيه دلالة على إرادة استئصال الرق في الأرض , وهو الذي تحقق مصداقه الخارجي , وفيه شاهد على الإعجاز القرآني في عالم الواقع .
وجاءت الآية أعلاه بصيغة الجملة الخبرية لتتضمن النهي عن قتل المؤمن وحرمته ، وتدعو لعتق العبد المؤمن عند قتل الخطأ وكأن في هذا العتق بدلا وتعويضا عن المؤمن المقتول.
ترى ما هي الصلة بين العتق وعدم الغزو والإمتناع عن الإرهاب ، الجواب هو السبب والمسُبب ، فهذا العتق نعمة عظمى تؤدي الى تهذيب النفس ، وإصلاح الجوارح ، والسعي في بناء صرح الأخلاق الحميدة في المجتمعات ، وهناك تناف وتباين بين الأخلاق الحميدة وبين الإرهاب .
إذ يبقى الذي يُعتق شاكراً لله عز وجل وللمؤمنين على تخليصه من ربق الرق.
وفي التأريخ الحديث صارت حروب بسبب عتق العبيد ، وامتناع الأسياد عنه كما في الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) ميلادية.
والتي سميت حرب تحرير العبيد , وراح ضحيتها أكثر من ستمائة الف من الجنود القتلى وهي أكثر من خسار الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية الى جانب القتلى من المدنيين ليتحرر أربعة ملايين إذ كانت نسبة العبيد في عدد من الولايات الجنوبية نحو 49% من سكانها ، أغلبهم يعملون في الزراعة وخصوص زراعة القطن لبيان الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل ألف وأربعمائة سنة ، إذ قضي على الرق بفضل آية من القرآن ، وعلى نحو تدريجي لمئات السنين مع الرفق بمن بقي في الرق وتطلعه إلى نيل حريته حتى زال الرق في الإسلام .
( عن عكرمة قال : مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأبي مسعود الأنصاري وهو يضرب خادمه فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم والله لله أقدر عليك منك على هذا . قال : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمثل الرجل بعبده فيعور ، أو يجدع . قال : أشبعوهم ولا تجيعوهم ، واكسوهم ولا تعروهم .
ولا ولا تكثروا ضربهم فإنكم مسؤولون عنهم ، ولا تعذبوهم بالعمل ، فمن كره عبده فليبعه ولا يجعل رزق الله عليه عناء) ( )
قراءة في[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا]
لقد خلق الله عز وجل عدداً غير متناه من الملائكة من نور ، وجعلهم منقطعين إلى تسبيحه وعبادته ، قال تعالى [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجارون إلى الله ، لوددت أني كنت شجرة تعضد)( ).
والأطيط : صوت الرحل عندما يجلس عليه الراكب من الثقل لأن الراحل من الخشب فاذا ركب عليه الرحل فيصدر الخشب صوتاً وهذه المال ليس في الأرض ، إذ تبعد الملائكة الله بلا ملل ولا كلل ولا فتور ، لذا توجه الملائكة بالدعاء إلى الله ليعمر الناس بقاع الأرض بكثرة السجود ولتشهد لهم هذه البقاع يوم القيامة .
وهل أراد الملائكة بقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) ان يكون الناس عقولاً بلا شهوة أم أرادوا منهم غلبة العقل على الشهوة ، الجواب لم يقصد الملائكة هذا التفصيل إنما توسلوا وتضرعوا إلى الله ، لذا قال لهم سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) إن إخبار الله للملائكة بخلافة الإنسان في الأرض إكرام مركب من جهات :
الأولى : إكرام للإنسان وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ) .
ولم يرد لفظ [كَرَّمْنَا] في القرآن إلا في الآية أعلاه وبخصوص الناس ، وتدل واو العطف في [وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ] ( ) على الغيرية وأن الإكرام غير هذا الحمل .
الثانية : إكرام الملائكة بأن أخبرهم الله عز وجل عن جعل خليفة له في الأرض ، ولم ينل الملائكة منزلة الخلافة لا في السماوات ولا في الأرض ، نعم نزلوا مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر وأحد والخندق وحنين مع بقاء الإمامة في الميدان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ولا يتعارض هذا القول منا مع ورود الأخبار بأن الملائكة سألوا سوالاً إنكارياً لجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) مع إفساده فيها ، إلا أن هذا السؤال يتضمن التضرع والتوسل .
الثالثة : إكرام الله عز وجل للأرض بأن جعل فيها خليفة له سبحانه ، مما يملي على الناس تعاهد هذه الخلافة بالعبادة لله والصلاح ، والتنزه عن الفساد .
ولقد تكرر حرف العطف (الواو) في الآية أعلاه أربع مرات وهي من عطف الخاص على العام والمصداق على المفهوم الكلي فتجلت معه مصاديق من الفضل والإحسان الذي لا يقدر عليه إلا الله عز وجل .
وهل الفضائيات في هذا الزمان ومن في الشرق يرى من في المغرب ، ورؤية الإنسان وهو في بيته للأخبار والوقائع في البر والبحر وأسرار البحار وعلوم الفضاء من عمومات قوله تعالى[وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ] ( ) أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو ركوب الناس الراحلة والسيارة والسفينة والباخرة والطائرة .
المختار هو الأول ليكون العمل على المعنى الأعم ويقال فلان حمل على أهله إذ كان ثقيل المرض (وفلان حمل على أهله إذا كان ثقيل المرض. قال:
ألا هل أتى أمّ الصبيين أنني … على نأيها حمل على الحي مقعد
وما عليه محمل أي معتمد ومعول. قال كثير:
يزرن أمير المؤمنين وعنده … لذي المدح شكر والصنيعة محمل
واستحملت فلاناً نفسي، أي حملته حوائجي. وتحملت بفلان على فلان في الشفاعة) ( ).
ويدل على مناسبة القرآن لكل زمان ومكان , وإمكان عرض الوقائع عليه والصدور بالحكم عن آياته ، ومنه حرمة الإرهاب وأن الملائكة سألوا الله عز وجل تنزيه الأرض من القتل العشوائي.
وبخصوص ما ورد في التنزيل على لسان الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
قيل : ( أي فنحن أولى من هذا فرجحوا نظرهم على علم الله في خلقه لذلك قال لهم إني أعلم ما لا تعلمون فوصفهم ينفي العلم الذي علم الحق من هذا الخليفة مما لم يعلموا وأثنوا على أنفسهم فمسئلتهم جمعت ذلك حيث أثنوا على أنفسهم وعدلوها وجرحوا غيرهم وما ردوا العلم في ذلك إلى الله فهذا من يخل الطبع بالمرتبة وهذا يؤيد أن الملائكة كما ذهبنا إليه تحت حكم الطبيعة وإن لها أثراً فيهم) ( ).
والمختار أن قول الملائكة هذا ليس من ترجيح لنظرهم على علم الله إنما هو رجاء إرتقاء الناس مطلقاً لمنازل التقوى والصلاح والتنزه عن الفساد مطلقاً ومنه الإرهاب ، ليكون من مصاديق إكرام الناس في قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ) دعاء وتضرع الملائكة لله عز وجل بخصوصهم ليكونوا صلحاء ويتخذوا من الدنيا مزرعة للآخرة ، فيهبط آدم إلى الأرض ويصاحبه دعاء الملائكة له ولذريته .
ومن الشواهد على منافع دعاء الملائكة للناس أمور :
الأول : نفرة عامة الناس من الفساد .
الثاني : قيام الذي يتولون شؤون الحكم بمحاربة الفساد في الأعم الأغلب .
الثالث : استهجان وانكار الناس لما يقع من الفساد ، وإظهار البراءة منه بينما تجد الذي يعمل الصالحات يتفاخر الناس بالإنتساب إليه والصلة معه حياً وميتاً .
ترى ما هي النسبة بين الفساد الذي ذكرته الملائكة والإرهاب فيه وجوه :
الأول : إرادة التساوي والفساد هو ذاته الإرهاب .
الثاني : الفساد والإرهاب مما إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا إجتمعا .
الثالث : المراد العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الفساد أعم من الإرهاب .
الثانية : الإرهاب أعم من الفساد .
الرابع : العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الفساد والإرهاب .
الخامس : إرادة التباين بين الفساد والإرهاب .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثالث أعلاه ليكون من الإعجاز قول الملائكة كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا]( ) إرادة العموم وسور الكلية الجامع لكل أفراد الزمان في أي أوان ، وليتعاون الناس من أجل استئصال الفساد ، والمنع من تعدد وتوالي افراده ، فقد يأتي المفسد بالإرهاب والسلب والنهب .
لقد أراد الملائكة منع وقوع معركة بدر بلحاظ أن خروج المشركين اليها من الفساد فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ليكون من علم الله عز وجل في المقام الإذن من الله لذات الملائكة بالنزول لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وقهر المفسدين وإلحاق الهزيمة بهم وإصابتهم بالخزي والهوان .
والإيمان بالملائكة واجب ، وهم لا يلتقون مع الإنسان في صفات الأكل والشرب ، والجوع والعطش ، وهم عقول من غير شهوة ، ومسكنهم السموات ، وسخرّهم الله عز وجل للقيام بوظائف عبادية في السماء والأرض .
ولما شاء الله أن يخلق الإنسان ليعمر الأرض ، أخبر الملائكة ، وذكرهم لأشرف صفة للإنسان وهي الخلافة في الأرض، لبيان ذكر الصفة الأحسن ، ولتعيين واجبهم وعملهم أزاء بني آدم ، لذا فان إخبار الله عز وجل للملائكة بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) ثناء على جنس الإنسان ، وهو وان جاء بصيغة الجملة الخبرية إلا أنه يتضمن الأمر لتعلم الملائكة بالمخلوق الجديد الذي يعمر الأرض ومنزلته وأنه خليفة لله في الأرض ، ولتقوم الملائكة بالنزول بالوحي للأنبياء ونصرتهم وإعانتهم.
ومن خصائص ورشحات الآية أعلاه الصلة بين كل انسان والملائكة ، وما من إنسان إلا وتختتم حياته ومغادرته الدنيا بقبض الملائكة لروحه بأمر من الله عز وجل , قال تعالى [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ]( ) .
فكما التقى آدم في الجنة مع الملائكة ، وقام الملائكة بالوحي للأنبياء ، فان الملائكة هم آخر من يودع الإنسان في الدنيا وهو من مصادق الإكرام العام للناس بقوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا]( )، نعم تحضر ملائكة العذاب عند قبض روح الكافر ، بخلاف المؤمن إذ تحضر عنده ملائكة الرحمة .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن المؤمن إذا قُبض، أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي إلى روح الله. فتخرج كأطيب ريح مسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا يشمونه حتى يأتوا به باب السماء، فيقولون ما هذا الريح الطيبة التي جاءت من قِبل الأرض؟ ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك، حتى يأتوا به أرواح المؤمنين، فَلهُم أشدّ فرحًا به من أهل الغائب بغائبهم .
فيقولون: ما فعل فلان؟ فيقولون: دعوه حتى يستريح، فإنه كان في غمّ! .
فيقول: قد مات، أما أتاكم ، فيقولون: ذُهب به إلى أمه الهاوية. وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسْح فيقولون: اخرجي إلى غضب الله، فتخرج كأنتن ريح جيفة، فَيُذْهَب به إلى باب الأرض( ).
فأخبرت الآية أعلاه بأن الملائكة رسل الله الى العبد ، وأنهم لا يقبضون روح أحد من الناس إلا بأمر من الله بقصد ذات الشخص على نحو التعيين ، ليكون قبض أرواح بني آدم على يد الملائكة من الجواب والرد على سؤالهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) .
وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أول من لبى الملائكة قال الله { إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } ( ) قال : فزادوه فأعرض عنهم ، فطافوا بالعرش ست سنين يقولون : لبيك لبيك اعتذاراً إليك ، لبيك لبيك نستغفرك ونتوب إليك.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن سابط إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : دحيت الأرض من مكة ، وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أوّل من طاف به ، وهي الأرض التي قال الله [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وكان النبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتاها هو ومن معه ، فيعبدون الله بها حتى يموتوا فيها ، وأن قبر نوح ، وهود ، وشعيب ، وصالح ، بين زمزم وبين الركن والمقام( ).
وعن ابن عباس قال : لقد أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يدخلها قال الله { إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء }( ) وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عام الجن بنو الجان ، ففسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ، فلما أفسدوا في الأرض بعث عليهم جنوداً من الملائكة ، فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور ، فلما قال الله { إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } ( )كما فعل أولئك الجان فقال الله { إني أعلم ما لا تعلمون }( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر . مثله .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة ، وكان اسمه الحارث ، فكان خازناً من خزان الجنة ، وخلقت الملائكة كلهم من نور غير ذلك الحي ، وخلقت الجن من مارج من نار . وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت ، فأول من سكن الأرض الجن ، فأفسدوا فيها ، وسفكوا الدماء وقتلوا بعضهم بعضاً.
فبعث الله اليهم إبليس في جند من الملائكة فقتلهم حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ، فلما فعل إبليس ذلك اغتر بنفسه وقال : قد صنعت شيئاً لم يصنعه أحد ، فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم تطلع عليه الملائكة .
فقال الله للملائكة { إني جاعل في الأرض خليفة } فقالت الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء }( ) كما أفسدت الجن قال { إني أعلم ما لا تعلمون } ( )يقول : إني قد أطلعت من قلب ابليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره( ).
لقد أضفنا معنى آخر في تأويل قول الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، وهو أن الملائكة لم تحتج على خلافة الإنسان في الأرض التي أخبرهم الله بها ، إنما ذكروا الأفعال القبيحة التي تصدر من شطر من ذرية آدم عليه السلام من الكفار والفاسقين فقد سألوا الله عز وجل أن يكون الناس في الأرض مثل الملائكة في عبادتهم وتسبيحهم فلا يكون فرعون مقابل موسى ، وبيد فرعون الملك والسلطان مع إدعائه الربوبية بقوله [أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( )، ولا يكون أبو جهل وأمثاله في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يتلقون التنزيل بالجحود والصدود فأجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
وسألوا الله تنزيه الأرض من الإرهاب المفزع لعامة أهل الأرض , وتوسلوا لمنع الحروب وسيل الدماء في المعارك والتفجيرات .
لقد توسل الملائكة الى الله بأن يرحم الناس باصلاحهم وهدايتهم وهل تفضل الله عز وجل بتقليل الفساد والقتل في الأرض بسبب دعاء وتوسل الملائكة ، المختار نعم .
ولا يتعارض هذا المعنى وإرادة الملائكة من القول [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، مع القول بتوجيههم الإستفهام الإنكاري فلم يتوجه هذا الإنكار الى المشيئة الإلهية إنما يتوجه الى الناس الذين تغلب الشهوة عندهم على العقل وموازين الحكمة ، مع تجلي الآيات الباهرات لهم ، ومع تفضل الله عز وجل بخلافتهم وعمارتهم للأرض وتسخير ما في السموات والأرض لهم.
وهل في الآية بشارة نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معارك الإسلام الدفاعية الأولى , الجواب نعم ، فمن يجحد بالرسالات ويتمادى في حربه على النبوة والتنزيل تنزل الملائكة لميدان المعركة لدفعه ، قال تعالى في خطاب للملائكة [فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ]( ).
وفي قصة معركة بدر قال ابن عباس : فقال أبو جهل: لا تقتلوهم قتلا ولكن خذوهم أخذا، حتى تعرفوهم الذي صنعوا من طعنهم في دينكم، ورغبتهم عن اللات والعزى. فأوحى الله إلى الملائكة [أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( )، فقتل أبو جهل لعنه الله، في تسعة وستين رجلا وأسر عقبة بن أبي مُعَيْط فقتل صبرا، فوفى ذلك سبعين -يعني: قتيلا( ).
لقد بيّن الله عز وجل للملائكة أن الإنسان مخلوق من عقل وشهوة ، وليس هو مثل الملك الذي هو عقل محض ، فالإنسان الذي غلب عقله على شهوته ينال الخلود في النعيم ، والذي غلبت شهوته على عقله , ويرتكب الفساد والقتل يدخل النار.
قالوا احتجت الملائكة على جعل الإنسان [في الأَرْضِ خَلِيفَةً] كما ورد في التنزيل [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
وذكرنا قولاً مستحدثاً وهو أراد الملائكة أن يكون الناس مثلهم في الإنقطاع الى التسبيح والعبادة ، وأن لا يكون فرعون ملكاً يدعيّ الربوبية في أيام موسى , ولا طغاة قريش في حربهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولا عبيد الله بن زياد أميراً يأمر بقتل الإمام الحسين عليه السلام ، فاجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وهو لا يتعارض مع القول من الملائكة بصيغة الإستفهام والإحتجاج لبيان فضل الله على الناس ، والعلم عند الله.
كتيبة حمراء الأسد
وتسمى في كتب التفسير والسيرة والـتأريخ غزوة حمراء الأسد ، ولا أصل لتسميتها غزوة لغة واصطلاحاً ففي الغزو أطراف :
الأول : الغزاة .
الثاني : موضوع الغزو .
الثالث : المغزو سواء كان بلدة أو قرية أو قبيلة .
الرابع : وقوع القتال بين الغازي والمغزو .
الخامس : ترتب الأثر على الغزو من السلب والنهب ، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ).
ولا يقوم الغازي بالغزو إلا وهو يرجح النصر والكسب والنهب والسبي ، بينما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يقصد جهة أو قبيلة أو بلدة ، وكان عدد أصحابه مائتين ونيف ليلاحق نحو ثلاثة آلاف رجل من الغزاة المشركين شاكي السلاح .
إنما كانت كتيبة حمراء الأسد فرع غزو المشركين للمدينة في معركة أحد ، إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي للمعركة خلف جيش المشركين .
وفي خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ خلف جيش المشركين مسائل :
الأولى : منع المشركين من الرجوع إلى القتال والهجوم على المدينة .
الثانية : بعث الفزع والخوف في قلوب المشركين .
الثالثة : تبكيت المنافقين والذين في قلوبهم مرض ومنع إرجافهم في المدينة .
الرابعة : الإخبار عن قانون وهو عدم هزيمة المؤمنين في معركة أحد .
الخامسة : تنمية ملكة المنعة والعز عند المؤمنين .
السادسة : بيان قانون وهو إستدامة طاعة الصحابة لله والرسول حتى في أشق الأحوال ، قال تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] ( ).
وهل في الخروج إلى حمراء الأسد مع عدم وقوع قتال فيه من الشدة على الكفار ، الجواب نعم .
السابعة : التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً ، لما في هذا الخروج من أسباب إنزجار المشركين مع كثرة تعدد وتوالي الإغارة على المدينة والبطش بالمؤمنين .
الثامنة : دعوة الناس للإيمان ومنعهم من نصرة الذين كفروا .
التاسعة : إرادة الأجر والثواب للمهاجرين والأنصار وذويهم .
العاشرة : بيان قانون وهو خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف العدو مع شدة جراحاته وجراحات أصحابه ، وفيه استغاثة وشكوى إلى الله ، ودعوة للناس جميعاً لنجدتهم وإعانتهم ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( ).
الحادية عشرة : بيان صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتسليم الصحابة بالرسالة وعلمهم بالتنزيل .
الثانية عشرة : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف العدو تكذيب لإدعائه النصر والإنتصار في معركة أحد ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يأتي تكذيب الذين كفروا بالسنة القولية والفعلية ثم تأتي آيات القرآن بالتأكيد والذم السماوي لدعوى المشركين النصر فيها ، تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ) إذ أن هذه الآية خاصة في سبب النزول بكتيبة حمراء الأسد .
ويحتمل سبب خروج النبي وأصحابه في كتيبة حمراء الأسد وجوهاً :
الأول : الأمر من عند الله بواسطة جبرئيل .
الثاني : إخبار العيون والركبان بأن جيش قريش يريدون الرجوع للإغارة على المدينة (وقدم رجل من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسأله عن أبى سفيان وأصحابه فقال: نازلتهم فسمعتهم يتلاومون ويقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكة القوم وحدهم ثم تركتموهم ولم تبتروهم، فقد بقى منهم رءوس يجمعون لكم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – وبهم أشد القرح – بطلب العدو ليسمعوا بذلك، وقال: لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال) ( ).
وقال الواقدي (حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: لما كان في المحرم ليلة الأحد إذا عبد الله بن عمرو بن عوف المزني على باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، وبلال جالسٌ على باب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وقد أذن بلال وهو ينتظر خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى أن خرج، فنهض إليه المزني .
فقال: يا رسول الله، أقبلت من أهلي حتى إذا كنت بمللٍ فإذا قريش قد نزلوا، فقلت: لأدخلن فيهم ولأسمعن من أخبارهم. فجلست معهم .
فسمعت أبا سفيان وأصحابه يقولون: ما صنعنا شيئاً، أصبتم شوكة القوم وحدتهم، فارجعوا نستأصل من بقى! وصفوان يأبى ذلك عليهم) ).
الثالث : المبادرة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتحقيق غايات إيمانية من الخروج ولمنع المشركين من العودة من وسط الطريق أو الرجوع حال أو بعد الوصول إلى مكة بأيام أو بضعة شهور خاصة مع النصر الذي إدّعوه .
والأصل هو الأول ، ولا يتعارض معه الوجه الثاني والثالث أعلاه
لقد أشاع المشركون يوم معركة أحد بأنهم قتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , وصحيح أنه تبين لرؤسائهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، حاضر في الميدان ، ولم يقتل ، وهو من أسباب تعجيل أبي سفيان بالإنسحاب إلا أنه لا يمنع من استدامة بقاء هذه الإشاعة تتناقلها العامة ، مع سكوت قادة جيش المشركين عن استمرار تداولها.
فجاء خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خلف المشركين إبطالاً لهذه الإشاعة ، لتدخل الغبطة إلى نفوس المسلمين والمسلمات ويزدادوا إيماناً ، وتهون عليهم مصيبة فقد سبعين من الصحابة في معركة أحد ، قال تعالى [وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا]( ).
وعن أنس يحدث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان من أحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل ومن كان الله عز وجل ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه( ).
ولو رجعنا إلى عالم الأرقام والإحصائية في المقام لتبين ما يلي :
الأول : عدد المسلمين في معركة بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر ، بينما عدد المشركين نحو ألف .
الثاني : عند المسلمين في معركة بدر فرسان ، وعند المشركين مائة.
الثالث : كثرة الأسلحة من السيوف والدروع والنبال وغيرها التي عند المشركين سواء في بدر أو معركة أحد .
الرابع : في معركة أحد خسر المسلمون سبعين شهيداً وسقط اثنان وعشرون قتيلاً من المشركين ، ولم يؤسر أحد من المسلمين يوم أحد ، بينما وقع سبعون من المشركين أسرى بيد المسلمين في معركة بدر.
وفي الصحيح ( عن البراء أنه قتل منهم سبعون وأسر سبعون. وهذا قول الجمهور، ولهذا قال كعب بن مالك في قصيدة له:
فأقام بالعطن المعطن منهم * سبعون عتبة منهم والاسود)( ).
واستشهد من المسلمين يوم بدر أربعة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ولم يكونوا في غزوة ولم يغادروا المدينة إلى غزو ، إنما كانت كتيبة استطلاع بامامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الذين كفروا أصروا على القتال .
ولو لم يلتق المسلمون والمشركون في بدر فهل يقام المشركون يتتبع المسلمين أم يكتفون بالإقامة في بدر كما وعد أبو جهل حينما امتنع عن الإستجابة لدعوة أبي سفيان بالعودة بعد الإطمئنان لسلامة القافلة المختار هو الأول ، فقد أبى المشركون إلا القتال يومئذ ، وهو من أسباب إقامة الحجة عليه ونصر الله عز وجل للمسلمين .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا وصل إلى موضع يقصده أو قوم تفرقوا أو ظهر عليهم يقيم فيه ثلاث ليال ، وهو من الإعجاز في السنة الدفاعية من جهات :
الأولى : يدفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الإقامة الشرور .
الثانية : يمنع النبي المشركين بجمع حشودهم في ذات المكان .
الثالثة : يقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الإقامة بالعرصة أداء الصلاة جماعة فيها ، وصيرورتها مسجداً ومكاناً لذكر الله .
الرابعة : ترغيب الناس في تلك المناطق بذكر الله وهل يتم دخولهم للإسلام ، الجواب نعم , ولو على نحو الموجبة الجزئية , قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ( ).
الخامسة : بيان قانون وهو الإستقرار والسلم العقائدي والمجتمعي في المدينة المنورة حتى مع غياب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها لأكثر من ثلاثة أيام بلحاظ مدة الوصول إلى مواضع الإقامة الموقتة والعودة منها إلى المدينة ، وكأنه تهيئة ومقدمة لمغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
السادسة : تنمية ملكة الصبر عند الصحابة من المهاجرين والأنصار .
السابعة : تجلي قانون وهو طاعة الصحابة لله ورسوله بلحاظ كبرى كلية وهي أن إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الأماكن من مصاديق الوحي والأمر من عند الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فاقامة المسلمين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها من مصاديق قوله تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] ( ).
ولقد أنهزم جيش المشركين من معركة بدر ، ولم ينهزم النبي وأصحابه من معركة أحد مع الخسارة التي تلقوها يومئذ .
لقد عاد المشركون من معركة بدر الى مكة بذل وهوان وهو من مفهوم قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) بالإضافة إلى تحقق المصداق لذلة وهوان الذين كفروا حينما عادوا إلى مكة وتركوا أموالهم غنائم عند المسلمين .
وكذا عادوا بذلٍ من معركة أحد ولكن مع فارق رتبي كبير ، فقد عادوا من معركة بدر خاسرين خائبين قد خلفوا خلفهم سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً .
أما في معركة أحد فقد انكسروا في بداية المعركة وهمّوا بالفرار ولكن ترك الرماة المسلمين أماكنهم مكّن خيالة المشركين برئاسة خالد بن الوليد وعِكرمة ابن أبي جهل من الهجوم على جيش المسلمين من الخلف وإرباكهم وايقاع القتلى فيهم ، ومع هذا خسر المشركون اثنين وعشرين رجلاً منهم حملة لواء المشركين الذين خروا قتلى واحداً بعد الآخر بظلمهم المركب لأنفسهم إذ قاموا بالغزو ثم أصروا على القتال والمبارزة ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ] ( ).
فان قلت قد أدّعى المشركون النصر في معركة أحد , ونظموا به الأشعار والقصائد .
الجواب لا أصل لهذا النصر ، ومن مصاديق نفيه والوقائع التي تشهد على تكذيبه كتيبة حمراء الأسد التي وقعت في اليوم التالي لمعركة أحد إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف جيش المشركين ، متعقبين لهم ، فان قلت وما فائدة هذا الخروج .
الجواب لقد علم المشركون به فلم يرجعوا لمنازلة المسلمين إنما عجلوا السير نحو مكة هاربين إذ ظنوا كثرة عدد جيش المسلمين وأن المهاجرين والأنصار الذين تخلفوا عن معركة أحد خرجوا في حمراء الأسد ، ولا يجانب هذا الظن الحقيقة فقد سار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الملائكة عن أيمانهم وعن شمائلهم إذ أن البشارة بنزولهم بقوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( )، لا تختص بيوم واقعة أحد .
فلا دليل على عروج الملائكة إلى السماء حالما انتهت معركة أحد ، فالحرب لم تضع أوزارها بعد ونزول الملائكة رحمة وطمأنينة للمؤمنين ، قال تعالى [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( ) .
ومن معاني طمأنينة القلوب في الآية أعلاه رجحان عدم عودة جيش المشركين للقتال خاصة بعد الخسارة الكبيرة التي نزلت بالمسلمين يومئذ.
وتعلم الملائكة أن جبرئيل سينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم للخروج خلف المشركين ، وهو وأهل بيته وأصحابه مثخنون بالجراحات ويحتاجون صرف المشركين عن العودة الى المدينة أو الإنقلاب عليهم لقتالهم ، وقد نزل قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، في معركة أحد .
ولو دار الأمر بين بقاء الخوف في قلوبهم بعد معركة أحد ، أو انقطاعه بانتهاء المعركة فالصحيح هو الأول ، وهو من أسرار تعجل المشركين بالعودة إلى مكة خاصة عندما سمعوا بلحاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلفهم.
لقد تلاوم المشركون فيما بينهم في طريق العودة ، وهمّوا بالرجوع الى ميدان المعركة أو غزو المدينة ، ويحتمل هذا التلاوم وجوهاً :
الأول : تلاوم عامة جيش المشركين .
الثاني : توجه الأتباع من جيش المشركين باللوم الى الرؤساء كأبي سفيان وصفوان بن أمية .
الثالث : التلاوم بين رؤساء المشركين .
الرابع : لوم الرؤساء للأتباع ، وعدم إجهازهم على المسلمين .
الخامس : التلاوم العام في جيش المشركين .
ولا تعارض بين هذه الوجوه لأن هذا التلاوم فرع الرعب الذين استولى على قلوب المشركين ومنهم الرؤساء الذين جهزوا الجيوش ، وانفقوا الأموال الطائلة على الجيوش ، وسخروا إبل التجارة لمحاربة الإسلام ، وطافوا على القبائل وحلفائهم لندبهم لقتال النبوة والتنزيل واستأجروا المقاتلين وما يسمى في إصطلاح هذا الزمان (المرتزقة ) .
وتبين آية البحث حال التباين بين المسلمين والذين كفروا في ذات الواقعة والأيام ، فالمسلمون مستجيبون لله والرسول ، وخرجوا طاعة لله ورسوله أما الذين كفروا فانهم اتبعوا الشيطان ، ويعيشون حال تلاوم بينهم وتتغشاهم الحسرة مع إدعائهم النصر في معركة أحد ، قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا]( ).
لقد طاف الذين كفروا ولأشهر متتابعة على القبائل لدعوتهم للحرب على النبوة والتنزيل بينما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه منقطعين إلى طاعة الله في الذكر والتلاوة والعبادة ، ومجتهدين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي الطريق الى معركة أحد سأل بعض الأنصار النبي محمداً دعوتهم لحلفائهم من اليهود ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أظهر توكله على الله .
وعن ابن إسحاق من غير طريق زياد عن الزهري أن الانصار يوم احد قالوا يا رسول الله ألا نستعين بحلفائنا من يهود فقال لا حاجة لنا فيهم( ).
كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد كاتب ووادع اليهود في المدينة ، وكتب بينه وبينهم كتاباً للنصرة ، ولما جاءت جيوش الذين كفروا وأطلت على المدينة قابلهم بالدعاء والصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم أقل من ربع عدد جيش المشركين ثم خرجوا في اليوم التالي للحوق بهم لأنهم همّوا بالرجوع إلى المدينة لغزوها .
وقد تفضل الله عز وجل ومنع المواجهة واللقاء مرة أخرى بين الفريقين ، ولو تقابلوا لكانوا ثلاثة آلاف رجل من الكفار مقابل مائتين ونيف من المؤمنين الذين أثقلتهم الجراحات ، ونالوا مرتبة ملاقاة التخويف من المشركين بزيادة الإيمان كما في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
وإذ انكشف المسلمون في معركة أحد ، وصار المشركون قريبين من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحجارتهم تصل إليه ، وأصابته الجراحات حتى من هذه الحجارة التي يرمونها بالأيدي ، وكان عدد المسلمين سبعمائة .
فكيف وعددهم في حمراء الأسد مائتان ونيف وكلهم جراحات وقد أنهكتهم واقعة أحد والتي لم تمر عليها إلا ساعات معدودة إذ عادوا من ميدان المعركة عند الغروب من يوم السبت ، وتوجهوا في كتيبة حمراء الأسد صباح يوم الأحد وبعد صلاة الصبح ، ليكرمهم الله عز وجل بآية البحث .
وتخبر الآية بأن هذا الخروج حسنة وإحسان , قال تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] ( ) ، وصرف الله المشركين وجعل حالهم على وجوه :
الأول : الإمتناع عن القتال أكثر من نصف نهار يوم النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
الثاني : العجز عن الإقامة في ميدان المعركة ومحيط جبل أحد ، ولم يستطيعوا بعد معركة أحد سرح إبلهم وخيلهم في زروع المسلمين حول المدينة.
الثالث : هزيمة وخسران الذين كفروا في بدايات معركة أحد ليستحضر الطرفان وقائع معركة بدر .
الرابع : كثرة العتاب وتبادل اللوم بين رؤساء جيش المشركين وهل تعلم عامة جيش المشركين بهذا التلاوم الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ]( ) .
وهل يختص الخزي في هذا التلاوم برؤساء الكفر أم يشمل عامة أفراد الجيش الجواب هو الثاني ، فأراد الله عز وجل إبتلاء الذين زحفوا لمحاربة النبي والقرآن بأن يروا غلبة التلاوم على قادتهم مع تهيئ أسباب كثرة العدد والعدة عندهم .
الخامس : تعجيل الذين كفروا بالعودة إلى مكة .
السادس : اصابة الذين كفروا بالخوف عندما وصلتهم أنباء بأن النبي صلى الله وآله وسلم خرج بأصحابه من المهاجرين والأنصار ، وأهل المدينة الذين تخلفوا عن معركة أحد.
ولم يكتف رؤساء المشركين بالتلاوم بينهم ، إنما عزموا على العودة إلى المدينة والهجوم عليها ، وإستئصال المسلمين .
(وقالوا أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم ) ( ).
لقد علم أبو سفيان وأصحابه بخروج النبي والمهاجرين والأنصار خلفهم ، فصرفوا النظر عن العودة إلى المدينة واختاروا العافية بالعودة إلى مكة مدعين بالنصر ، وقد نظموا الشعر بهذه المناسبة ، ورد عليهم المسلمون ، ومما قاله المشركون يومئذ (قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فِي يَوْمِ أُحُدٍ :
كُلّهُمْ يَزْجُرُهُ أَرْحِبْ هَلّا … وَلَنْ يَرَوْهُ الْيَوْمَ إلّا مُقْبِلَا
يَحْمِلُ رُمْحًا وَرَئِيسًا جَحْفَلَا) ( ) .
(وَقَالَ الْأَعْشَى بْنُ زُرَارَةَ بْنِ النّبّاشِ التّمِيمِيّ – قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : ثُمّ أَحَدُ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ – يَبْكِي قَتْلَى بَنِي عَبْدِ الدّار ِ يَوْمَ أُحُدٍ :
حُيّيَ مِنْ حَيّ عَلَيّ نَأْيُهُمْ … بَنُو أَبِي طَلْحَةَ لَا تُصْرَفُ
يَمُرّ سَاقِيهِمْ عَلَيْهِمْ بِهَا … وَكُلّ سَاقٍ لَهُمْ يَعْرِفُ
لَا جَارُهُمْ يَشْكُو وَلَا ضَيْفُهُمْ … مِنْ دُونِهِ بَابٌ لَهُمْ يَصْرِفُ
وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى يَوْمَ أُحُدٍ :
قَتَلْنَا ابْنَ جَحْشٍ فَاغْتَبَطْنَا بِقَتْلِهِ … وَحَمْزَةَ فِي فُرْسَانِهِ وَابْنَ قَوْقَلِ
وَأَفْلَتَنَا مِنْهُمْ رِجَالٌ فَأَسْرَعُوا … فَلَيْتَهُمْ عَاجُوا وَلَمْ نَتَعَجّلْ
أَقَامُوا لَنَا حَتّى تَعَضّ سُيُوفُنَا … سَرَاتَهُمْ وَكُلّنَا غَيْرُ عُزّلِ
وَحَتّى يَكُونَ الْقَتْلُ فِينَا وَفِيهِمْ … وَيَلْقَوْا صَبُوحًا شَرّهُ غَيْرَ مُنْجَلِي)( ).
لقد رضي المشركون بكثرة قتلى المسلمين وقلة قتلاهم ، ولم يعلموا أنهم باؤوا بقتلهم وأنهم ملاقوهم يوم القيامة بدمائهم ، وهو من أسرار أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدفن شهداء أحد (ادفنوهم بدمائهم وثيابهم) ( ) .
ولقد خشي المشركون قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في اليوم الثاني لمعركة أحد بالخروج خلف المشركين للثأر للشهداء في تلك المعركة بينما احتاج المشركون أكثر من سنة ليتوجهوا في معركة أحد للغزو والقتال , ولم ينالوا شيئاً أما النبي وأصحابه فقد نالوا في خروجهم إلى حمراء الأسد أموراً :
الأول : الثناء والمدح من عند الله وأصحابه بنزول آيات من القرآن ، إذ نزلت ثلاث آيات متتاليات من القرآن بخصوص كتيبة حمراء الأسد وهي :
الأولى : الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ.
الثانية : الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
الثالثة : فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ.
الثاني : ميل الناس للإسلام.
الثالث : الحزن العام لما أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وخسارة سبعين شهيداً منهم إذ يدرك الناس أنه ليس عندهم إلا الدعوة الى الله , وفي التنزيل[وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا]( ).
الرابع : تحقيق النصر من غير قتال أو غزو أو هجوم ، وهو نعمة عظمى ، فان قلت كيف يكون النصر من غير قتال ، والجواب قد ورد الإخبار عن النصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمور:
الأول : وهو سابق لزمان معركة أحد ، ويتعلق بالهجرة قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
الثاني : في صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
الثالث : البشارة بفتح مكة , قال تعالى [لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
الرابع : منع جيش المشركين من العودة والإغارة على المدينة .
الخامس : تحقيق مصداق لإستجابة المسلمين لأمر الله ورسوله بالخروج الفوري خلف العدو مع كثرة جراحاتهم.
السادس : بعث الخوف في قلوب الذين كفروا .
السابع : علم أهل مكة والمدينة والطائف وأفراد القبائل بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خرجوا خلف العدو لمنعهم من التمادي في الظلم والتعدي , والعودة للقتال في المدينة وحواليها.
الثامن : بيان قانون وهو كثرة جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم تقعدهم عن الجهاد الدفاعي .
التاسع : عدم قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغزو ، فتسمية هذا الخروج بأنه غزوة حمراء الأسد لا أصل له ، فمن شرائط الغزو وجود طرف آخر مغزو ويتوجه له الغزاة، والمناجاة بالغزو ، وتحديث النفس بالسلب .
وهو أمر مفقود في حمراء الأسد إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المدينة يوم الأحد السادس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ووصل إلى حمراء الأسد يوم الإثنين وأقام فيها يوم الثلاثاء والأربعاء وعاد وأصحابه من غير قتال .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى كلمة التوحيد ، ومن نطق بها عصم دمه , إذ يكفي الظاهر من غير تحقيق على الباطن وما في القلب .
وعن أسامة بن زيد قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقات من جهينة فصبحناهم وقد ندروا بنا فخرجنا في آثارهم فأدركت منهم رجلا فجعل إذا لحقته قال لا إله إلا الله فظننت أنه يقولها فرقا من السلاح , فحملت عليه فقتلته فعرض في نفسي من أمره شئ .
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم قال لي أقال لا إله إلا الله ثم قتلته قلت إنه لم يقلها من قبل نفسه إنما قالها فرقا من السلاح قال لي أقال لا إله إلا الله ثم قتلته فهلا شققت عن قلبه حتى تعلم أنه إنما قالها فرقا من السلاح .
قال أسامة فما زال يكررها علي أقال لا إله إلا الله ثم قتلته حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ( ).لبيان قبح القتل لمن ينطق بكلمة التوحيد , وهذا الحديث زاجر عن الإرهاب .
ويمنع الحديث أعلاه التشديد والشرائط بخصوص كلمة (بحقه) لما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَمَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ ، وَمَالَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ( ).
ومن حقها القصاص ، وهو أعم من القتل فيشمل العقوبة مطلقاً والنهي عن الغصب والربا ونحوه .
العاشر : بدل أن يتلقى النبي وأصحابه العلاج والمداواة من جراحاتهم من معركة أحد فانهم خرجوا لدفع المشركين عن المدينة ليس بالقتال والغزو إنما بذات الخروج وحده وكفايته من غير قتال وهو حال أكثر تلك التي تسمى غزوات النبي التسعة والعشرين أو السبعة والعشرين.
والإجماع على تسمية خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد بالغزوة , ولا أصل لهذا الاسم وهو مخالف للواقع ، وقراءة التأريخ ، إنما كان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى حمراء الأسد مانعاً وبرزخاً دون الغزو ومن الطرفين.
ليكون من معاني[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ]( )، صرف الغزو والقتال عن المسلمين والناس بآية ولطف وفضل من عند الله ، كما في خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد والذي كان بوحي من عند الله عز وجل , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ]( ).
فان قلت الرسول والمؤمنون هم الذين خرجوا , فمن المؤمنون الذين يرون عملهم , الجواب على وجوه :
الأول : المسلمون والمسلمات في المدينة والذين عجزوا عن الخروج .
وهل يشمل الذين تخلفوا عنه , الجواب نعم ، فلا ينسلخ المسلم عن الإيمان لتخلفه عن الخروج لحمراء الأسد ، خصوصاً وان النبي صلى الله عليه وآلله وسلم اشترط للخروج الى حمراء الأسد المشاركة بمعركة أحد .
الثاني : المسلمون خارج المدينة سواء الذين يعلنون اسلامهم أو الذين يخفونه .
الثالث : التابعون وتابعوا التابعين .
الرابع : الشهداء الذين قتلوا في معركة بدر وأحد لقوله تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
الخامس : أفراد الكتيبة نفسها بأن يرى بعضهم صبر وتقوى بعضهم الآخر واثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، إذ يرى الملائكة أعمال بني آدم , قال تعالى [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ]( ).
السادس : يعلم عامة الناس صدق إيمان المسلمين وأداءهم العبادات والمناسك ، وفيه دعوة للإيمان .
فان قلت ذكرت الآية قيد الرؤية , ويكون تقديرها على وجوه :
الأول : فسيرى الله عملكم.
الثاني : فسيرى رسول الله عملكم.
الثالث : فسيرى المؤمنون عملكم .
والقدر المتيقن من الرؤية هي الرؤية البصرية فكيف تشمل الآية التابعين ومن بعدهم ، أو أنها تتعلق بعمل الأجيال المتعاقبة وإطلاع كل لاحق على عمل السابق بلحاظ عموم معنى الآية , والجواب المراد من الرؤية في الآية أعم من الرؤية البصرية.
وعن ابن عباس قال (لما انصرف أبو سفيان و المشركون عن أحد وبلغوا الروحاء قالوا : لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم شر ما صنعتم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فندب الناس فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد أو بئر أبي عيينة فأنزل الله عز وجل { استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح })( ).
ويدل هذا الحديث على ان مسألة قتل النبي هي الغاية الأولى للكفار في هجومهم في معركة أحد وأنهم كانوا يطمعون بسبي المؤمنات .
وهذه التلاوم حجة على الذين كفروا من جهات :
الأولى : قبح الغاية التي زحفوا من أجلها للقتال .
الثانية : عزم المشركين على إشاعة القتل في أهل المدينة وسبي نسائهم ، ومن خصائص الغازي عدم التفريق بين أهل البلدة ، وقد يقتلون من يميل إليهم ، ومن يزودهم بالأخبار، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً] ( ).
الثالثة : إقرار رؤساء جيش المشركين بعدم تحقيق أي غاية من الغايات الخبيثة التي جاؤوا من أجلها .
لقد انسحبوا من ميدان معركة أحد والرعب يملأ صدورهم ، وعندما كانوا وسط الطريق إلى مكة استحضروا ما وعدوا به عامة أهل مكة من الثأر لقتلاهم في معركة بدر ، ومن جلب المهاجرين موثقين بالحبال والأصفاد .
وعندما أخبر الله عز وجل الملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لم يحتج الملائكة على خلافة الإنسان في الأرض وعمارة الأنبياء والصالحين لها بسنن التقوى ، إنما احتجوا على وجود مفسدين في الأرض ، ومنهم كفار قريش الذين أشاعوا عبادة الأوثان في جوار البيت الحرام .
وعندما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حاربوه بالسيوف وسالت الدماء ، وصدق على كفار قريش أنه يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، ليكون احتجاج الملائكة يوم خلق آدم عليه السلام وقول الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) مقدمة لهزيمة المشركين في معركة بدر وخيبتهم يوم معركة أحد .
وهو من أسرار نزولهم لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة في معركة بدر لبيان قانون وهو أن نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعد من عند الله عز وجل قبل خلق الله آدم عليه السلام ، وهو من خصائص [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )بأن كتب الله عز وجل لهم النصر .
وفيه شاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يغزو ولا يسفك الدماء بغير حق ، وحتى أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقتل إنما كان على نحو القضية الشخصية كالقصاص ، وفيه قطع للقتل ، ومنع من الفساد .
لقد أحس رؤساء جيش المشركين بالإستحياء من أفراد الجيش الذين معهم لأنهم رجعوا من غير أن يحققوا أي منجز فأظهروا التلاوم .
وهل هذا التلاوم من التورية والرياء ، وأنهم غير صادقين فيه ، الجواب لا ، فالأصل هو أن تلاوم الكفار فيما بينهم حقيقة خاصة وأنهم لم يذكروا إلا الوقائع التي تدل على خزيهم ، وليكون هذا التلاوم من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) من جهات :
الأولى : من قطع الطرف المذكور في الآية أعلاه سقوط اثنين وعشرين من فرسان قريش في معركة أحد ، وهل يحتسب السبعون الذين سقطوا في معركة بدر أم أن القدر المتيقن هو قتلى المشركين في معركة أحد ، الجواب على وجوه :
الأول : إرادة قتلى المشركين في المعارك السابقة لنزول الآية اللاحقة له.
الثاني : قطع الطرف أعم من القتل إذ يتضمن خذلان الأتباع لرؤساء الكفر ، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا]( ).
وصحيح أن مضمون الآية أعلاه يتعلق بعالم الآخرة ، وإن موضوع تبرأ الأتباع من رؤساء الكفر أمر مستمر ومتصل في الحياة الدنيا .
الثالث : هل من القطع في الآية أعلاه من سورة آل عمران دخول طائفة من المشركين الإسلام بالتوبة وإرادة الذين التحقوا بركب الإيمان ، وتخلوا عن الكفر ، الجواب لا .
الرابع : إجتناب كثير من الناس القتال ، وامتناعهم عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : موت وهلاك بعض رؤساء الكفر على الفراش وببلاء ورزايا وفتنة من عند الله ، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ]( ).
السادس : إنشغال طائفة من الكفار بأمور أخرى غير قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : كبت الذين كفروا ولحوق الذل والهوان بهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَكْبِتَهُمْ] وهل تلاوم الذين كفروا وسط الطريق إلى مكة من هذا الكبت .
الجواب نعم لبيان قانون وهو إذا هجم الكفار على المدينة صاحبهم الرعب والفزع ، وإذا رجعوا من ميدان المعركة لازمهم الكبت والخذلان ، والنسبة بين الخذلان وتلاومهم في طريق العودة هو العموم والخصوص المطلق .
الثالثة : من الكبت الذي تذكره الآية أعلاه عجز المشركين عن تحقيق النصر في معركة أحد ، أو الثأر فيها لقتلاهم .
ترى ما هي النسبة بين النصر والثأر ، الجواب هو العموم والخصوص من وجه ، فالنصر أعم وأعظم ، وقد حال الله عز وجل بين المشركين وبين بلوغ الغايات التي أرادوا .
تأريخ الإرث
الأرث لغة (الأصل ، والرماد ، والبقية من كل شئ) ( ).
وقال ابن الأَعرابي الإِرْثُ في الحَسَب والوِرثُ في المال( )، ولكن يصح استعمال الإرث في المال .
ومن أسماء الله عز وجل الوارث فهو الباقي الدائم الذي تعود له كل الموجودات ، وفي التنزيل [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
وعن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي عليهم السلام قال : كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم متعني بسمعي وبصري حتى تجعلهما الوارث مني ، وعافني في ديني وجسدي ، وانصرني ممن ظلمني حتى تريني فيه ثأري ، اللهم إني أسلمت نفسي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، وخليت وجهي إليك ، لا ملجأ منك إلا إليك ، آمنت برسولك الذي أرسلت ، وبكتابك الذي أنزلت( ).
أي الباقي في الأجر والثواب من تسخير السمع والبصر في طاعة الله ، والإرث والميراث في الإصطلاح هو التركة التي يخلفها الميت فتكون لذويه وقرباه حسب مراتب الميراث ودرجات القرب وفق آية المواريث ، قال تعالى [يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ]( ).
كان العرب في الجاهلية يعتمدون الرجولة والقوة في الإرث ، فلا ترث النساء ولا الأطفال ، بل ذات المرأة قد تكون ميراثاً من زوجها فاذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ولا دخل لأهلها بشأنها لتصبح على أحد وجوه :
الأول : زواج أحد الأولياء لأرملة الميت , وقد يتزوجها ابن الميت ما دامت ليست أمه التي ولدته.
الثاني : عدم الزواج منها .
الثالث : طلب المال والفدية منها ليؤذن لها بالزواج من غيرهم.
الرابع : أن تقوم المرأة برد صداقها ، بعد موت زوجها ، لتغادر بيت الزوجية ، وتختار لنفسها النكاح.
الخامس : يقوم الولي بعضلها حتى تموت ، فنزل قوله تعالى [لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا]( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي( ).
لبيان لزوم العناية بالعيال ، والرفق بهم والإنفاق عليهم وتخصيص الأب وقتاً لتعليمهم الفرائض والآداب والأخلاق الحميدة وفي التنزيل [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ]( ).
وفيه دعوة للمسلمين لتعاهدهم وأهليهم الصلاة اليومية في أوقاتها ، وتكون بالنسبة للعيال من الأمر بالأمر ، فيأتيهم الخطاب التكليفي من الله بالصلاة ، ويقوم الأب بأمرهم بأدائها ، وهذا التعاهد من أسباب التوقي من الإرهاب , وهل تشمل الآية الزوجة.
الجواب نعم ، وهو من مصاديق العموم فيها ، ولقوله تعالى [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا]( ).
وذكر أن الآية أعلاه من سورة النساء نزلت في كبشة ابنة معن بن عاصم من الأوس توفى عنها زوجها أبو قيس بن الأسلت ، فجنح عليها ابنه ، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقالت : يا رسول الله ، لا أنا ورثت زوجي ، ولا أن تركت فأنكح ، فنزلت هذه الآية( ).
وكان بعض الأولياء يلقي ثوبه على امرأة المتوفى فيحبسها لنفسه أو لغيره ، وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره ، فيحبسها، فقد تموت زوجته فيتزوجها أو يزوجها ابنه.
وجاء القرآن والسنة بالإنقطاع القهري لعقد النكاح عند وفاة الزوج ، وليس على المرأة إلا عدة الوفاة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام ويقترن بها الحداد ، ومظاهر الحزن على الزوج ، ولها أن تتزوج بعد العدة.
لقد تضمنت الآية عدم عضل وإجحاف الزوجة ، أما آية الميراث فهي أعم في موضوعها وحكمها ، إذ أنها ذكرت حصة وسهاماً للبنات والزوجة والأم .
والميراث قديم في الأرض، ولكنه كان يعطى وفق قواعد الرجولة والقوة والقربى ، وكان اليونان والرومان يعطونه للذي يتعاهد الأسرة ، والمحارب منهم .
ويحق للمورث أن يختار من يرثه سواء من أبنائه أو أقاربه أو غيرهم ، وقيل كان المصريون القدامى يعطون المرأة من الميراث مثل ما يُعطى الرجل.
أما اليهود فالظاهر أنهم كانوا يخصّون الولد الذكر بالميراث ، ولا يعطون البنت منه ، الا مع فقد الولد الذكر وإذا تعدد الأولاد الذكور فان الميراث يدفع لأكبرهم , وفي سفر العدد ( وتكلم بني اسرائيل قائلا ايما رجل مات و ليس له ابن تنقلون ملكه الى ابنته ، وان لم تكن له ابنة تعطوا ملكه لاخوته و ان لم يكن له اخوة تعطوا ملكه لاخوة ابيه ، وان لم يكن لابيه اخوة تعطوا ملكه لنسيبه الاقرب اليه من عشيرته فيرثه فصارت لبني اسرائيل فريضة قضاء كما امر الرب موسى)( ).
والظاهر أن الزوجة لا ترث من الزوج ، ولكنه يرث مالها كله ان ماتت قبله ، نعم تعيش الأرملة من التركة ولا ترث الأم من ابنها شيئاً ، ويكون للولد البكر مثل حظ اثنين من أخوته الصغار ، لحق البكورة إلا مع الإتفاق على قسمة الميراث بالسوية فيصح حينئذ ، ويكون للبنات حق النفقة من التركة حتى يتزوجن ويكون للبنت قيمة مهرها من التركة بقدر ما كان يحتمل أن يعطيها أبوها أي بلحاظ الشفقة والعطف الأبوي.
ويمكن القول بوقوع النسخ في باب الإرث في الإسلام فكان للحلف والنصرة والولاء نصيب فيه , قال تعالى [وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ]( ).
وكان التوارث بالإسلام والهجرة والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إذ جعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل اثنين منهم أخوين ، وقال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا]( ).
ولقد آخى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار ليأتلف المهاجرون حياة المدينة ، ويمدهم الأنصار بالعون ، ولتتجلى معاني الأخوة الإيمانية ، وهذه الأخوة خاصة ولكنها من عمومات قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
وصار التوارث بين كل متآخين لمدة مديدة ثم انقطع التوارث بهذه الأخوة ونسخ بنزول قوله تعالى[وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ]( )، فان النصرة والمشورة والنصيحة استمرت بين الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وصوله المدينة بنحو ستة أشهر.
ومنه آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين كل من أبي بكر وخارجة بن زهير.
وبين أبي عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ.
وبين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك.
وبين الزبير بن العوام وسلامة بن سلامة بن وقش.
وبين طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك.
وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع .
وآخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة.
وبين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت الأنصاري.
وكان عدد الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار أول مرة تسعين.
ثم نسخ هذا التوارث ، فجعلت الولاية والإرث للأقرب في الرحم والنسب، قال تعالى [وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ]( )، لقد جاء القرآن ببيان المواريث من جهات :
الأولى : سهام الأصول والفروع ، كالأب والابن والحفيد .
الثانية : نصيب الزوج والزوجة مع عدم التعضيل بلحاظ وجود ولد عند الميت سواء كان الزوج أو الزوجة ، قال تعالى[وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ]( ).
الثالثة : سهام الأخوة والأخوات للأبوين أو للأب أو للأم وحدها قال تعالى [وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ]( ).
الرابعة : حق الإنسان بأن يوصي بثلث ماله لمن يشاء من غير معصية.
الخامسة : أولوية قضاء الدين الذي في ذمة الميت عند وجود تركة.
ولا يرث الكافر من المسلم ، وكذا لا يرث المسلم الذي بقي في مكة من المهاجر .
وهناك مسألتان :
الأولى : هل كان نظام الميراث في الإسلام سبب لقيام المشركين بغزو المدينة على نحو متعدد .
الثانية : هل تشريع الإسلام لنظام دقيق وعادل في الميراث مانع من الإرهاب .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم ، إذ ألغت قوانين الإرث في الإسلام استحواذ الرجل وكبير الأسرة على التركة ، ومنعته من التصرف المطلق بها ، ونزل القرآن باعطاء المرأة حقها كاملاً وان كانت بنتاً أو أختاً فمثلاً إذا ماتت امرأة وليس عندها إلا بنت وزوج ، وهو أبو ذات البنت ، فانه يرث ربع التركة بينما ترث ابنته ثلاثة أرباع التركة وإن كانت متزوجة من غريب فيتلقى المسلم هذا الحكم بالقبول لأنه تنزيل من عند الله ، قال تعالى [فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ]( ).
بالإضافة إلى حرمان الكافر من تركة المسلم وان كان أباه أو ابنه لأن الكفر من موانع الإرث، فيرى الكافر التركة كيف تذهب الى الأبناء والأحفاد والزوجات وهو لا يأخذ شيئاً منها ، وكانت قريش أصحاب إبل كثيرة ، وتجارات متعددة ، ولهم ديون على القبائل فاغاظهم نظام الإرث في الإسلام وأدركوا أن المعاملات في الشريعة الإسلامية تجري وفق قواعد عامة دقيقة ليس فيها محاباة أو استثناء لأحد ، ونزل قوله تعالى [وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا]( )، أي أكلاً شديداً بأن يستحوذ الرجل على ميراثه وميراث غيره وما هو حلال وما هو حرام .
فقد يتعلق بالميراث حق للغير من الديون الشرعية أو ديون للناس أو الأمانات والعين المرهونة عند المورث .
والآية أعلاه شاهد على أن العرب كانوا لا يورثون النساء والصبيان ، فلما نزل القرآن بميراثهم غضب المشركون ، وجهزوا الجيوش لمنع إنفاذ أحكام الشريعة ، وكانوا لا يرضون بذهاب أموالهم إلى البنت التي تزوجت من غيرهم ، ويستولي النسيب على التركة.
وأما المسألة الثانية فان النظام الدقيق في الميراث مانع من الإرهاب ، وحرب عليه لما فيه من العدالة والإنصاف والبيان الذي يحول دون اللبس والتعدي في تقسيم التركة .
فات قلت قد اختلف علماء الإسلام في مسألة العول أو عدمه ، إذ ذهب مشهور المسلمين الى العول ، وكذا في مسألة الرد والنقصان ، والمراد من العول هو الزيادة في السهام يترتب عليها نقص في الأنصباء ، في بعض دخول الزوج والزوجة على الورثة .
أما الرد لغة فهو الرجوع والصرف وفي الإصطلاح زيادة في الأنصباء ونقص في السهام , للرد على أصحاب الفروض , كمن مات وترك بنتين أو أختين , وقد بينته تفصيلا في كتبي الفقهية ( ).
وموجبات الإرث أما نسب كالأبوة والبنوة , وأما سبب كالزوجية .
النسب مراتب ثلاث .
الأولى : الأبوان أو الولد وان نزل .
الثانية : الأخوة وأولادهم وان نزلوا والأجداد وان علوا .
الثالثة : الأخوال والاعمام .
وهناك موجبات الارث .
وموانع الارث , وحجب حرمان , وحجب نقصان .
ومن الإعجاز في الشريعة الضبط والدقة في مقادير السهام .
والميراث لغة مصدر للفعل ورث يرث ارثاً وميراثاً , ويعني انتقال الشئ من شخص إلى غيره , وهو في الإصطلاح ما يستحقه الوارث من تركة الذي وافاه الأجل بالقرابة أو السبب الموجب للارث حسب الكتاب والسنة سواء كانت التركة مالاً أو عقاراً أو مكائن وآلات ونحوه من الحقوق , فهو ينتقل بعد الموت إلى الوارث متحدا أو متعددا , إذ لا بد للمال من مالك فحينما ينزل الموت بالإنسان ينتقل ماله قهراً إلى غيره .
فجاء الإسلام بأحسن وأدق النظم في ضبط الميراث , ويحد هذا بعد الوارث وصلته بالمورث , بحيث يعلمه الإنسان هل هو ممن يرث أو لا .
وما هي حصة كل فرد من الورثة , وموانع الإرث والحجب بما يتضمن العدالة والتفسير الصحيح والإنصاف , ويمنع من الخصومة والشقاق في الإرث .
ولولا بيان قوانين الإرث في الكتاب والسنة لسالت دماء بين الأرحام , وغصت المحاكم بالشكاوى وإقامة الدعوى , فمثلا قوله تعالى [وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ] ( ).
أي أن الأبوين والأولاد من المرتبة الأولى , سواء كانوا أولاده صلبيين أو أحفاداً .
وهناك مسائل :
الأولى : إذا لم يكن للمتوفي قريب من المرتبة الأولى إلا ولد ورث المال كله , وكذا كانت بنتاً .
الثانية : إن لم يكن عند الميت إلا أولاد ذكور ورثوا المال بالتساوي .
الثالثة : إذا كان أولاده ذكوراً واناثاً يكون الميراث [فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ] ( ).
الرابعة : إذا لم يكن للميت إلا أبواه كان للأب الثلثان ولأمه الثلث , لو كان للميت أحد أبويه حياً والأخر ميتاً , ورث الحي المال كله , وامه كان عند الميت أخوة إذ أنهم من المرتبة الثانية فلا يرثون .
إذا كان الأب والأم حيين , وكان للميت بنت واحدة ولم يكن عنده أخوة يحجبون الأم عما هو أكثر من السدس يكون للأب الخمس , وللأم الخمس وللبنت ثلاثة أخماس قال تعالى [وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ] ( ).
ويخرج من التركة :
أولاً : ما يلزم لتجهيز الميت بعد موته , مثل قيمة الكفن , والحنوط , والتغسيل , وحفر القبر والدفن إن كان بثمن وليس من تبرع فهذه النفقات تخرج قبل تقسيم الميراث .
ثانياً : تخرج الديون التي على الميت سواء كانت ديوناً لله سبحانه, كالحج والكفارات والنذور والزكاة والخمس , أو ديوناً للناس مثل القروض والإيجارات , وثمن البيع قال تعالى [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ).
ثالثاً : تخرج الوصية بشرط عدم زيادتها على ثلث التركة , ويتحقق الإرث بأركان .
الأول : الوارث , وهو وجود شخص ينتمي بالقرابة أو السبب للميت عند موته .
الثاني : الموّرث وهو الشخص الذي توفى , سواء كان قد توفى فعلا أو حكماً مثل المفقود الذي لا يعرف حاله من الحياة أو الموت أو المكان .
والمفقود لغة هو اسم مفعول من فقدت الشئ إذا أظللنه يقال فقد الشئ يفقده فقداًَ , إذا غاب عنه وعدمه .
وفي فقه الشافعي تتربص زوجة المفقود أربع سنين وهي أعلى مدة الحمل على ينفيه الطب والواقع , وأربعة اشهر وعشراً عدة الوفاة , وفي رواية حتى يبلغ سن المفقود تسعين سنة من ولادته ثم تحل للأزواج , وفي هذه الأزمنة والإتصال السريع فيها لابد من التغيير في حكم المفقود وعدم تربص الزوجة لأربع سنوات .
الثالث : الموروث : ويطلق عليه لفظ التركة أو الميراث أو الإرث , ويشمل ما يتركه الميت بعد وفاته من الأموال والمنافع والإباحة .
وكانت الزوجة العرب إرثاً وليس وارثة .
وقيل ان الإرث من ضروريات الدين , وقد يستدل عليه بقوله تعالى [وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا] ( ).
والمراد من التراث في الآية أعلاه الميراث لإرادة صيغة الذم للذين يستولون على تركة الميت , ولا يورثون النساء والصبيان , ويستحوذون على ميراث الأيتام .
وإثم الاعتداء وأكل شئ من الميراث حرام , وقيل معنى لماً أي شديد , وشروط الإرث :
الأول : تحقق موت المورث الذي عنده مال وتركة , ويلحق به الميت حكماً كالمفقود والأسير إذا حكم الحاكم بموتهما .
الثاني : حياة الوارث ساعة موت الموّرث .
الثالث : صلة القرابة كالبنوة أو السبب كالزوجية بين المورث والوارث التي يترتب عليها الإرث .
الرابع : وجود مال وتركة للميت .
الخامس : بقاء تركة وإرث بعد إخراج تجهيز الميت والدين , أما الوصية فإنها تنفذ في الثلث , أي أن الوصية لا تمنع من وجود تركة بل تدل عليها بخلاف الدَين فقد يأتي على التركة كلها .
السادس : انتفاء وجود مانع من موانع الإرث كالكفر والقتل والرق , وهذا المانع يتعلق بشخص الوارث أو هو والمورث .
السابع : لحاظ مرتبة القرابة بالنسبة للميت , فمع وجود القريب من المرتبة الأولى كالأب فإن الجد أو الأخ لا يرثان لانهما من المرتبة الثانية , وحتى أفراد المرتبة الواحدة فقد يحجب بعضهم بعضاً كما في حجب الإبن الصلبي للحفيد .
والإرث في تعيينه على أقسام :
الأول : الإرث بالنص القرآني والفرض : وهو سهم الوارث المسمى في القرآن , وتسمى هذه الحصص الفرائض , ويسمى الذي له سهم في الكتاب ذا فرض , الذي له حدى وحد أدنى , كما في الزوج , قال تعالى [وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ] ( ).
وتوجه الخطاب في الآية أعلاه لبيان التكليف وعمومات الرجال قوامون على النساء , وجاءت الآية بصيغة الجمع (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ ) (فَلَهُنَّ الثُّمُنُ)
لبيان اشتراك زوجات الميت في الربع أو الثمن إن كان عنده أكثر من زوجة .
والورثة حسب سهامهم :
الأول : النصف : وهو نصيب ثلاثة : الزوج مع عدم الولد , والبنت المنفردة .
والأخت المنفردة للأبوين أو للاب خاصة مع عدم وجود وارث معها من المرتبة الأولى .
الثاني : الربع : وهو نصيب اثنين : الزوج إن كان للزوجة ولد , وإن نزل سواء من ذات الزوج أو من غيره ممن سبق وإن تزوجت منه , والزوجة مع عدم وجود ولد للزوج .
الثالث : الثمن : وهو سهم الزوجة وإن تعددت مع الولد للزوج وإن نزل .
الرابع : الثلثان : وهو سهم
1- البنتان فصاعداً مع عدم الإبن .
2- الإختان فصاعداً من الأبوين أو الأب .
الخامس : الثلث وهو لاثنين :
1- الأم مع عدم وجود ولد للميت , أو حاجب من الأخوة للميت .
2- الإثنان فصاعداً من كلالة الأم ذكوراً أو أناثاً أو ذكرا وبنتين .
السادس : السدس : وهو لثلاثة :
1- كل واحد من الأبوين مع الولد وإن نزل .
2- الأم مع الأخوة للأب والأم أو للأب مع وجود الأب لأن وجود أخوة للميت يحجب الأم عن الأكثر من السدس وإن لم يرثوا .
3- الواحد من ولد لأم ذكراَ كان أو انثى .
والعول في الإصطلاح هو زيادة في السهام يحصل معها نقص في الأنصباء , فالعول خاص بالمواريث .
وأول مسألة جرى فيها عول هي في أيام عمر بن الخطاب إذا ماتت امرأة وورثها زوج وأختان شقيقتان وحصة الزوج هي النصف مع عدم الولد , وحصة الأختين الثلثان أي 4/6 فيكون المجموع 7/6 بزيادة سدس فصار تزاحم بين السهام , فقام عمر بتقسيم النقص أي السبع على الثلاثة الزوج والأختين كلا حسب سهامه .
واستشار عمر الصحابة في ذلك وقال : والله ما أدري أيكم قدم الله وأيكم أخر , وإني ان بدأت بالزوج فاعطيته حقه كاملاً لم يبق للأختين حقهما , وان بدأت بالأختين فاعطيتهما حقها كاملاً لم يبق للزوج حقه , وأشار عليه العباس بن عبد المطلب يجعل الماء سبعة أجزاء وقال له : أرأيت لو مات رجل وترك ستة , لرجل عليه ثلاثة , وأخر له عليه أربعة كيف تصنع , اليس تجعل المال سبعة أجزاء قال , نعم , فقضى عمر بالعول , وسبب العول اشتراك الزوج أو الزوجة مع البنت أو البنات أو الأخوات للأبوين , وللأب في التركة.
وقال الإمامية والظاهرية بأن النقص لايؤثر على حصة الزوج لأن الله عز وجل جعل له حداً أعلى وهو النصف مع عدم الولد والربع مع الولد , انما يأتي النقص على الاخوات .
ومسألة العول والرد قليلة الوقوع في الإرث , إذ بيّن القرآن أحكام الإرث العامة وحتى مسألة العول والرد ففيهما إجماع مركب أي فيهما قولان لا ثالث لهما ، والضابطة الكلية فيهما أن التركة كلها للورثة لا تخرج الى غيرهم وان الخلاف في جزء يسير منها .
لقد منع نظام الإرث في الإسلام من الإرهاب داخل الأسرة ، ومن السخط والإنتقام وترجمته بأفعال ضد الآخرين عامة .
والأخوة على ثلاثة أقسام .
الأول : الشقيق من الأب والأم .
الثاني : الأخ من الأب .
الثالث : الأخ من الأم .
فلو وجد الثلاثة كورثة , فيرثه الأخ الشقيق من الأب والأم , ويرثه الأخ من الأم , ولا يرث الأخ من الأب شيئاً أما إذا ترك الأخوين من الأب ومن الأم فيرثانه , أي أن الأخ من الأم يكون صاحب فرض , ولكنه ليس من العصبة ,.
والعول لغة الزيادة , قال تعالى [ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا] ( ).
وهو في الإصطلاح زيادة في السهام ونقص في الأنصباء وتزاحم وارثين أو اكثر من أصحاب الفروض في مقدار النصيب بحيث لو أعطي أحد الورثة نصيبه كاملاً لزم نقص أو حرمان وريث آخر من نصيبه , ولا يرث الوارث بالتعصيب شيئاًَ من المال إن لم يبق له شئ , أما مستحق الإرث بالفرض فلا يسقط بسبب نقصان الأنصباء .
وقوانين الإرث في الإسلام واقية من الإرهاب من وجوه :
الأول : العدالة والإنصاف في الإرث .
الثاني : إنتفاع الموارث من مال الموّرث وصيرورته ملكاً خاصاَ له .
الثالث :يكفي الإرث في أحيان كثيرة لحاجة الوارث ،وفيه إشغال له عن إيذاء الآخرين .
الرابع : إطلاق يد الوارث في حصته من الإرث دفعة واحدة ، فيأتيه المال من غير تعب أو عناء لبيان فضل الله عليه ، وفيه دعوة له ولعياله للشكر لله عز وجل على هذه النعمة والترحم والإستغفار للميت الذي ترك له المال .
وهل يشمل المقام قوله تعالى [هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ]( ) بلحاظ أن الميت في تركه التركة محسن للوارث ، أم أن الميراث جاء قهراً على المورث خاصة في حال موت الفجأة ، والحوادث .
الجواب هو الأول فالمورث محسن للوارث ، وأن انتقل المال اليه قهراً ويلحقه الحساب والوزر في جمعه .
وفي قانون الإرث عام للمسلمين والمسلمات من جهات :
الأولى : الرضا بما قسم الله للوارث من السهام .
الثانية :الصبر بالنسبة لمن حجب عنه الإرث .
الثالثة : حفظ حقوق الزوجة والبنات .
الرابعة : تعاهد سهام الصبيان والقاصرين وعدم التعدي عليها .
ولما احتجت الملائكة على تفضل الله بجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) أخبرهم الله سبحانه بأنه يعلم ما لا يعلمون ، ومن علمه تعالى وضع الضوابط في الإرث بما يمنع من الإرهاب والإقتتال .
وقوانين الإرث رياضة عامة في العدالة , وتنمية لملكة الزهد والتعفف عن حقوق الآخرين لبيان قانون من الإرادة التكوينية ، وهو أن الشرائع مانعة من الإرهاب وتزجر عنه بالذات والدلالة والمفهوم إنها واقع يومي يذكر الإنسان بلزوم الإبتعاد عن الإرهاب ، ومنها العبادات ، فمثلاً من علة الصيام أن الصائم يعلم بحال الفقير وما يعانيه من الجوع والعرى ونقص المؤونة فيتصدق عليه ويعطف عليه ، وفيه دلالة على ان الإنسان يجب أن يفكر بحال الآخرين الذين يريد أن يرهبهم ويزاول العنف ضدهم فهم في حال فقر إلى رحمة الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] ( ).
قانون الجامع المشترك بين معارك الإسلام الأولى
يدل لفظ المعركة على الإعتراك في الميدان والتزاحم وقتال الجنود بعضهم بعضاً ، وقد يأتي الإعتراك بمعنى التنازع ، فيقال : اعترك الطرفان عند القاضي بخصوص ملكية الأرض (واعتركت الإبل في الورد : ازدحمت) ( ).
ويأتي بمعنى التصادم ، أما إذا ذكرت المعركة بصيغة الإطلاق أو بقيد ميدان القتال فالمراد هو المعركة , وقال الأزهري : الموضع الذي يعتركون فيه إذا التقَوا ، والجميع المعارك ( ).
ولكن المراد من المعركة هو حال العراك والقتال ، وليس الموضع ، فاذا اردنا أن نذكر معركة مخصوصة لابد أن نذكر موضعها على نحو التعيين أو ما يشير إليه .
فيقال : معركة بدر ، معركة أحد ، فالمعركة هي المكان والموضع والمحل لها ، وكانت معارك الإسلام الأولى دفاعية محضة ، وتحمل بالنسبة للمسلمين صفة الضرورة ، إذ يقوم على لجوئهم إلى الدفاع أمور حميدة منها :
الأول : بقاء ونماء مبدأ التوحيد .
الثاني : جذب الناس إلى الهدى والإيمان ، وجعله إرثاً عاماً .
الثالث : تنزيه المسجد الحرام وعموم الجزيرة من عبادة الأوثان والأخلاق المذمومة.
الرابع : قطع الغارات والقتال بين الناس والعصبية القبلية التي تؤدي الى سفك الدماء ، لذا يتضمن قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، الأمر بنبذ الخلافات العشائرية والقبلية ، فصحيح أن الآية أعلاه جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن الأمر والنهي ، الأمر بجعل الإيمان هو الملاك والصراط والفيصل , والنهي عما يتعارض معه.
لقد أنعم الله عز وجل على الناس ببعث الأنبياء وإنزال الكتب من السماء وكل واحد منها رسالة سلام وأمن ، ولكن الذين كفروا يمتنعون عن الإنقياد لمبادئ التوحيد وسنن الأمن ، ولم يكتفوا بهذا الإمتناع إنما قاموا بتجهيز الجيوش لمحاربة النبوة والتنزيل .
الخامس : استدامة بقاء التنزيل في الأرض ، وعمل الناس بمضامينه وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل من موضوعية لرسالته في حفظ الكتب السماوية السابقة والعمل بها ، الجواب نعم ، إذ أكرم الإسلام الأنبياء السابقين ونزل القرآن بتصديق نبوتهم والمعجزات التي جاءوا بها ، ومنها المعجزة المتعددة لكل من موسى عليه السلام وهو الرسول الذي يتبعه اليهود ، وعيسى عليه السلام وهو الرسول الذي يتبعه النصارى .
ولم يُكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الصحابة أو أحكام الإسلام الكتابي على ترك دينه ، والأصل هو طهارة الكتابي وفي فتاوانا جواز نكاح الكتابية.
لقد قامت الحجة على الذين كفروا من قريش بصدودهم عن المعجزات الحسية والعقلية التي تدعوهم إلى الإيمان ، ولا تختص بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما كانوا مجاوري البيت الحرام وهو ذاته معجزة وإرث أبيهم إبراهيم عليه السلام الذي تلتقي الديانات السماوية في صدق رسالته ، ومجيئه بالحنفية ، وجهاده من أجلها بنفسه وأولاده ، ومن خصائص الرسول أمور :
الأول : دعوة الناس عامة إلى اتباعه .
الثاني : عدم إنصياع الرسول للذين كفروا ، فلا تختص دعوته بنفسه أو عياله أو جماعته .
الثالث : توالي دعوة الرسول الناس للهدى والإيمان.
الرابع : جريان المعجزة الباهرة على يد الرسول ، وتجددها بذات الهيئة والصفة ، وبهيئة أخرى فيها رضا لله عز وجل.
ويمكن القول أن النسبة بين معارك الإسلام هي العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
وكل منهما له مصاديق وأفراد متعددة .
ومن مادة الإلتقاء والقاسم المشترك بينها من وجوه :
الوجه الأول : إبتداء الذين كفروا بالتحشيد للمعركة وتحريض الشعراء لإلقاء القصائد في هجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والإستهزاء بالتنزيل مع ذكر أمجاد قريش والتغني بالأوثان وإظهار الحرص عليها واللجوء إليها .
الوجه الثاني : بذل الذين كفروا الأموال الطائلة في مقدمات المعركة وشراء الرواحل وإصلاح الأسلحة بينما ينشغل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بالعبادات والفقاهة في الدين .
فان قلت هل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يعلمون بتحشيد قريش لقتالهم ، واذا كانوا يعلمون ، فلماذا لا يقابلونه بالمثل لقوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ).
الجواب ، لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يعلمون باستعداد قريش للقتال سواء بالنسبة لمعركة بدر أو معركة أحد أو الخندق ، وهذا العلم من جهات :
الأولى : الوحي من عند الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإخبار عن أحوال المشركين ، وما يعدونه للتعدي والغزو .
الثانية : نزول آيات القرآن بالتحذير والإنذار من الذين كفروا وكيدهم ، قال تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
الثالثة : ما ينقله الركبان من الأخبار .
الرابعة : ما يأتي به القادمون إلى المدينة وعموم الذين يخرجون من مكة وهم على أقسام :
الأول : الذين أدوا مناسك العمرة وعادوا إلى المدينة ، ومن مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن أداء العمرة مستحب في كل يوم من أيام السنة ، لتكون مناسبة للتبليغ .
الثاني : الذين يفدون إلى مكة للتبضع ، وشراء المؤن والحبوب أو الإقتراض من قريش أو الشراء بالسلف( ) ، فيتصلون بأهلها ، ويجالسونهم ويسمعون ما يدور وما يقع في مكة.
الثالث : الذين يأتون لأداء مناسك الحج ، ويحضرون أسواق مكة التي تكون محلاً لأخبار القبائل وأهل مكة ، ويتداول فيها الناس المسائل ذات الأهمية .
الرابع : الذين يفدون إلى مكة لزيارة ذوي القربى ، ولحاجاتهم الخاصة فيغادرونها وقد رأوا كيف أن قريشاً قد عسكرت مكة وجهزت الأسلحة .
الخامس : رؤية الناس لرؤيا ورجال من قريش يخرجون إلى القبائل والذين تربطهم معهم أحلاف ليدعوهم إلى نصرتهم في قتالهم مع النبي .
السادس : ذات القبائل التي يأتيها رجال قريش وشعراؤهم وهم يطلبون نصرتهم ، إذ تقوم تلك القبائل بالإخبار عن مجئ قريش لهم وطلبهم النصرة .
السابع : شيوع ما ينفقه رجال قريش على الإستعداد للقتال ، وما يبذلونه لرجال القبائل والشعراء وكيفية ترغيبهم بالقتال .
الثامن : الركبان الذين يلتقون في الطرق والمنازل التي في الطريق بين مكة وغيرها ، سواء كان بينهم تعارف أم لم يكن بينهم تعارف فقد يبيتون في موضع واحد ، ويتبادلون الأخبار.
التاسع : يستنطق الله الناس بما يفضح الذين كفروا ويكشف الإرهاب ومقدماته , وفي التنزيل [وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( )، لقد كان التضاد جلياً وظاهراً بين المسلمين والذين كفروا من جهات :
الأولى : تحلي المسلمين بالخشوع والخضوع لله عز وجل وإظهار الذين كفروا من قريش الإستكبار والعتو .
الثانية : تلاوة المسلمين لآيات القرآن ، وإقامة الذين كفروا على عبادة الأوثان .
الثالثة : طاعة المسلمين لله والرسول ، وتجلي مصاديق الرحمة عليهم ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) بينما يبتلى الذين كفروا بنقص في الأموال وضيق الصدر والإرتباك .
الرابعة : تفاني المسلمين في الدفاع والذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينما يتجافى أكثر الذين كفروا عن النفير ، ويميلون إلى استئجار من يخرج بديلاً عنهم ، ومنهم من يسقطون عنه الديون ليقاتل نيابة عنهم .
الخامسة : إزدياد عدد المسلمين على نحو الإطراد والنقص المتتالي في عدد المشركين ، فكل فرد يدخل الإسلام يزيد في عدد المسلمين وينقص عدد الذين كفروا ، وفيه تقوية للمسلمين وزيادة إيمانهم وبعث للفرقة والوهن في صفوف الذين كفروا ، وفي الدخول المتتابع للناس في الإسلام مسائل :
الأولى : إنه من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ لا يجتمع الناس على الخطأ .
الثانية : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) .
الثالثة : إصابة الذين كفروا بالوهن ومنعهم من التمادي والإصرار على القتال .
الرابعة : التأجيل والتأخير في هجوم الذين كفروا للنقص الحاصل في رجالهم ، وما يحدثه دخول الناس الإسلام من الذعر والإرباك بين المشركين .
الخامسة : إذا دخل فرد الإسلام فان أسرته وعائلته يميلون معه إلى الإسلام ، خاصة وأن هذا الدخول قائم على التصديق بالحجة والبرهان الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين وتوجههم بالشكر لله عز وجل ، قال سبحانه [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً]( ).
فان قلت أن السورة أعلاه آخر سور القرآن نزولاً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الخبر ، والكلام هنا عن بدايات الهجرة ، والجواب أن إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره .
فصحيح أن السورة أعلاه تذكر دخول الناس جماعات وأفواجاً في الإسلام بعد فتح مكة ، ومنها الوفود المتعددة التي جاءت الى المدينة في السنة التاسعة للهجرة ، وهم يعلنون إسلامهم والذين من خلفهم من قبائلهم حتى سميت تلك السنة (عام الوفود) لتكون التسمية والمسمى معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاخبار السورة عن دخول الناس أفواجاً في الإسلام بعد فتح مكة لا يمنع من التسليم بدخولهم فيه قبلها ، نعم هناك فارق رتبي من جهات :
الأولى : العدد ، بأن صار عدد الذين يدخلون الإسلام في إزدياد كل يوم وكل شهر ، وهو من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : عدم وقوع إرتداد بين المسلمين ، فالذي يدخل الإسلام لا يغادره وإن زاول الذين كفروا أشد الأذى والترهيب معه ، ويدل قوله تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا]( )، وجاء لفظ (لايزالون) لبيان استدامة واستمرار حرب الذين كفروا على الإسلام ، وأن عداوتهم متصلة ومتجددة ، وفيه شاهد على غدر الذين كفروا بعد صلح الحديبية ، والحاجة الى فتح مكة لتجفيف منابع الإرهاب واستئصاله.
الثالثة : التخفيف عن الناس في دخولهم الإسلام ، فالذين بادروا الى دخوله في السنين الأولى لاقوا أشد الأذى وتوجه لهم اللوم ، واضطروا إلى الهجرة إلى الحبشة والى المدينة ، ولكن الذين أسلموا فيما بعد لم يلاقوا ذات الأذى في شدته ، فكان الذي لاقوه أخفّ كثيراً ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،ومصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
الرابعة : كان أغلب المسلمين الأوائل من أهل مكة والمدينة ، أما المسلمون في السنوات الأخيرة فمن مدن وقرى متعددة ، وجاء سلمان الفارسي من بلاد فارس في مراحل ليصل إلى المدينة ثم يدخل الإسلام .
الوجه الثالث : ثبات المسلمين على الإيمان ، وعصمتهم مجتمعين ومتفرقين عن الإرتداد على أي حال .
لقد كان الذين كفروا يظنون أنهم بالقتال يحملون المسلمين على ترك إتباع النبي وعلى نحو السالبة الجزئية في الكم والكيف ، وهذا الظن من أسباب اشعالهم الحروب ، وتجهيزهم الجيوش العظيمة ، فيجدون المهاجرين والأنصار يستبسلون في القتال ، بل أدركوا هذه الحقيقة قبل المعركة من جهات :
الأولى : عدم التفات الصحابة إلى تهديد ووعيد الذين كفروا .
الثانية : ثبات الذين آمنوا في منازل الهدى ، وإظهارهم الطاعة لله ورسوله في العبادات والمعاملات .
وعن أبي العالية قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت[أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ] ( )، فخافوا أن يبطل الذنب العمل ، ولفظ عبد بن حميد : فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالكم( ).
الثالثة : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والانصار بعد هجرته إلى المدينة بخمسة أشهر ، وكانت هذه المؤاخاة تتقوم بالإيمان واتباع الحق والهدى (وعن أنس قال : حالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين قريش والأنصار في داري بالمدينة.) ( ), والميراث , وفيه إغاظة للذين كفروا فالمهاجرون صاروا يتوارثون مع الانصار , وليس عند المهاجرين من مال , فقد أكرههم الكفار على ترك أموالهم , ليصيروا ورثة ولو على نحو التعليق لأخوانهم من الأنصار .
ومن منافع هذه المؤاخاة وجوه :
الأول : زجر الذين كفروا عن القتال , ومنعهم من الإرهاب .
الثاني : بعث السكينة والقناعة في نفوس المسلمين ، وعدم السعي للقتال والغزو وقيل في قوله تعالى [وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ]( )، بالقناعة والرضا [وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ] بالخزي والطمع( ).
الثالث : إزالة أسباب الفرقة بين المهاجرين والأنصار .
الرابع : منع الإفتتان بما قد يقوله المنافقون وقد وثّق القرآن بعض هذا القول ومنه [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
الخامس : إزاحة أسباب الوحشة والغربة عن المهاجرين .
السادس : ترغيب الناس بالإسلام ونزل بعد معركة بدر قوله تعالى [وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
فنسخت هذه الآية التوارث بالمؤاخاة .
الرابعة : تدافع الصحابة من أجل المبارزة ، وحبهم للدفاع واجتهادهم لطلب النصر ، وفي التنزيل [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ]( )، وعشية معركة بدر أرسلت قريش عمير بن وهب الجمحي ليحرز عدد المسلمين ، فطاف حول معسكرهم ثم عاد وقال ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون ولكن امهلوني حتى انظر أللقوم كمين أو مدد قال فضرب في بطن الوادي حتى ابعد فلم ير شيئا فرجع إليهم( ).
ومن وجوه التباين في المقام أن المشركين لا يثبتون على الكفر لإنتفاء الموضوع ، فمن فضل الله على الناس قانون عدم الثبات على الكفر ومفاهيمه إذ أن الكفر عرض متزلزل , فالأصل هو الإيمان ، وجعل الله البيت الحرام شاهداً على هذا القانون .
وهل البيت الحرام وبناء البيت من قبل إبراهيم وإسماعيل مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديق الناس به .
الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
الوجه الرابع : نزول آيات من القرآن بخصوص كل معركة من معارك الإسلام ، تبين قوانين متعددة :
الأول : قانون التباين والتضاد بين نزول القرآن والإرهاب إذ يدعو القرآن إلى السلم ، ونبذ القتال.
الثاني : قانون بعث النفرة في النفوس من القتال وسفك الدماء.
الثالث : قانون دعوة الناس للتدبر بآيات القرآن ، وإتخاذها فيصلاً وحكماً بين الناس من غير أن تصل النوبة إلى القتال .
الرابع : تأكيد قانون (لم يغز النبي محمد (ص) أحداً) إذ يزحف المشركون للقتال ويبدأ برميهم السهام وتقدم أفراد منهم للمبارزة ، ومن الآيات في المقام عدم استجابة الصحابة لدعوة المبارزة إلا بعد الإلحاح من قبل المشركين ، مع أن عدم الإستجابة هذا قد يبدو في عرف الميدان نوع فشل وجبن ولكن الأمر صار في الإسلام مختلف ، لأن عدم الخروج للقاء المبارز من المشركين شاهد على التنافي والتضاد بين القرآن والقتال ، وكذا يلزم عدم رد الإرهاب بمثله , وفيه محاصرة له , وشاهد على حسن السمت , قال تعالى[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ).
وفيه مصداق عملي لقانون وهو أن القرآن يدعو إلى السلم المجتمعي والحوار والإحتجاج ونبذ القتال ، وفي التنزيل [أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( )، ويقال استبصر أي أيقن.
الخامس : قانون نصر الله عز وجل للمسلم على الكافر في مبارزة التحدي ، وفي معركة بدر أصرّ ثلاثة من كبار قريش على القتال ، وتقدموا إلى وسط الميدان وطلبوا المبارزة ، وهم :
الأول : عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، وذكر الواقدي عن عبد الرحمن بن عبد العزيز عن خبيب بن عبد الرحمن الأنصاري قال: خرج أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس إلى مكة يتنافران إلى عتبة بن ربيعة فسمعا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأتياه فعرض عليهما الإسلام وقرأ عليهما القرآن فأسلما ولم يقربا عتبة ورجعا إلى المدينة فكانا أول من قدم بالإسلام إلى المدينة( )، أي قبل بيعة العقبة الأولى والثانية.
الثاني : شيبة بن ربيعة .
الثالث : الوليد بن عتبة .
وهناك مسألتان :
الأولى : هل كانت هناك حاجة لطلب المبارزة هذه .
الثانية : هل طلب المبارزة هذا من الإرهاب أو أنه فرع منه .
أما المسألة الأولى فليس من حاجة أو سبب عقلائي لطلب المبارزة هذا ، ومن مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ) لزوم الإمتناع عن مقاتلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فهؤلاء الذين طلبوا المبارزة كانوا معارضين للقتال ، وكبيرهم هو عتبة بن ربيعة الذي مشى بين صفوف جيش قريش وهو يحثهم على عدم القتال ، بعد أن قام حكيم بن حزام بن خويلد وهو ابن أخي خديجة بنت خويلد أم المؤمنين ، وصار يدعوهم الى الإمتناع عن القتال ، وفيه شاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يبدأوا القتال ولم يطلبوه ، وأن إبتداءه ونشوب المعركة راجع إلى المشركين ، ولو لم يقاتلوا لعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة ورجع المشركون الى مكة ليجدوا قافلة أبي سفيان في انتظارهم ، ويأخذوا أموالهم ويفرحوا بسلامتها وكثرة الأرباح فيها.
فان قلت قد خشي المشركون تجدد تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الى قوافل قريش خاصة مع تزايد عددهم يوماً بعد يوم وأسبوعاً بعد آخر .
فارادوا الإجهاز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ومنع الخطر الذي يهدد قوافلهم.
والجواب لا دليل على هذا الهاجس والخوف ، ثم أن احتمال التعرض لقافلة ليس سبباً لمعركة بين فريقين كل واحد منهما عدد رجاله بالمئات .
ولم تطلب قريش من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه شرطاً لمنع القتال وهو الإمتناع عن التعرض لقوافلهم ، ليضطروا بعد أربع سنوات وفي صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة إمضاء شروط السلم بين الفريقين لعشر سنوات والذي سمّاه الله عز وجل فتحاً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ) .
وسيأتي ما يبين دلالة هذه الآية على التضاد بين القرآن والإرهاب لأن القرآن يسمى الصلح فتحاً .
قوانين الحفظ
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار الحفظ) وليس من حصر لمصاديق الحفظ فيها في الحياة الدنيا ، ومنها :
الأول : حفظ الإنسان جنيناً في بطن أمه حتى ولادته .
الثاني : آية الله في جعل الوالدين يرفقان بالولد في صباه ، لذا جاء القرآن بالتأكيد على بر الوالدين ، قال تعالى [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا] ( ) ، وقال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا] ( ).
الثالث : حفظ الله لأرزاق العباد مجتمعين ومتفرقين ، قال تعالى [وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ]( ).
الرابع : حفظ الأنبياء في أشخاصهم إلى حين أيام النبوة ، وقيامهم بالتبليغ ،وكان حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة حسية له ، وهل هذه المعجزة متحدة أم متعددة ، الجواب هو الثاني .
فقد أراد المشركون قتله قبل أن يبعث نبياً ثم إجتهدوا في السعي لقتله ، حتى أنه لجأ إلى الهجرة بوحي من الله عز وجل لأنهم أرادوا قتله في ذات ليلة الهجرة ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
الخامس : حفظ كل فرد من الناس بلطف خاص به أو عام من عند الله ، فقد يكون الحفظ قضية شخصية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ] ( ) وأخرى يتفضل الله يدفع البلاء عن الجماعة والأمة دفعة واحدة كما في صرف الناس عن المعارك والحروب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
السادس : سلامة الناس من الإرهاب وصرفهم عنه ،وبعث النفرة في نفوسهم منه ،ومن الذي يقوم به فإذا وقعت حادثة إرهابية فانها نادراً ما تتجدد .
لقد أراد الله عز وجل للحياة الدنيا أن تكون وعاءً ومحلاً لحفظ الناس إلا من كتب الله عز وجل عليه الموت وأسباب الهلاك ، فجاء القرآن والكتب السماوية بالنهي عن الإرهاب .
السابع : حفظ الأنظمة العامة والأعراف التي تجعل الناس في أمن وسلام ، وتدفع عنهم الإرهاب ، قال تعالى [الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ]( ).
الثامن : حفظ الله عز وجل للتنزيل ، وآيات الكتاب المبين من جهات:
الأولى : رسم حروف وكلمات القرآن .
الثانية : التلفظ بآيات القرآن من غير لحن ،ومن إعجاز القرآن الغيري أنك قد تجد غير العربي يلفظ القرآن بصيغة سليمة خالية من اللحن مع أنه لا يعرف من العربية غير القرآن .
الثالثة : كلمات وآيات القرآن ،وعصمتها من الزيادة أو النقصان ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) .
الرابعة : حفظ عمل أمة من المسلمين في كل زمان بالقرآن وأحكامه .
الخامسة : حفظ القرآن من الإرهاب فلا يضر إرهاب الكفار بالقرآن ، ولا يقدر الإرهاب نسبه فعله إلى القرآن .
السادسة : حفظ القرآن في تفسيره وحصانته في علوم تأويله ،وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( )، وقال أحدهم لابن الأعرابي اللغوي الأديب .
وهل يذاق اللباس ؟
أراد التعريض بقوله تعالى [فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ] ( ) فأجابه ابن الأعرابي لا بأس أيها النسناس هب أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ما كان نبياً ؟
أما كان عربياً ؟
أي أن الله عز وجل يبتلي الذين كفروا بالجوع والفقر والخوف ، فتظهر آثارها على أبدانهم وكأنها لباس لهم .
وذكر لفظ الذوق في الآية لبيان رأفة الله عز وجل بالناس في عدم شدة استقرار الجوع والخوف لمنعهم من الإرهاب والبطش وترغيبهم بالتوبة والإنابة .
وهناك في المقام عدة قوانين :
الأول : قانون آيات حفظ القرآن) وهو عام من جهة ذكر الآيات والتحقيق فيها .
الثاني : قانون حفظ القرآن بالسنة .
الثالث : قانون دلالة السنة على حفظ القرآن .
الرابع : قانون حفظ السنة بالقرآن.
الخامس : قانون سعي المسلمين في حفظ القرآن ز
السادس : قانون خلو القرآن من الزيادة والنقيصة إلى يوم القيامة ، فان قلت هناك دعوات من بعض الجهات والمؤسسات بخصوص بعض آيات القرآن والتي تتعلق بالقتال.
والجواب المراد علم التفسير ، ببيان أن هذه الآيات لم تتضمن الأمر بالقتال والغزو إنما تتضمن الدفاع ضد مشركي قريش وأخذ الحائطة منهم.
أما حذف كلمة أو آية من القرآن فهو أمر مستحيل ودونه خرط القتاد لأن الله عز وجل وعد المسلمين والناس بعدم تحقق هذا الحذف أبداً ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
وفي عدم حفظ القرآن نعمة ورحمة بالناس جميعاً ، ومنع يومي متجدد من الإرهاب , والإرهاب الموازي .
وهل يكون الخطاب بالأمن من التحريف بكتاب الله وقوله تعالى [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]( ).
الجواب نعم ، فكل كلمة من القرآن هي رحمة بالناس ، وباب لنزول الغيث والفضل من عند الله تعالى ، وسبب للأجر والثواب في تلاوتها وحفظها والعمل بمضامينها.
السابع : قانون موضوعية الصلاة في حفظ القرآن .
الثامن : قانون شأن العبادات والفرائض في حفظ القرآن.
التاسع : قانون النواهي القرآنية من أسباب حفظ القرآن.
العاشر : قانون الآيات الكونية وأسرار الخلق والكواكب والنجوم من أسباب حفظ القرآن.
طلب عتبة يوم بدر المبارزة من الإرهاب المتعدد
من قواعد القتال في السابق المبارزة بين الفرسان والشجعان , وأحيانا بين الرؤساء , وقد تحسم المبارزة المعركة أو تكون مقدمة لنصر أي من الفريقين ، ولكن في معركة بدر لم تحسم المبارزة المعركة لإصرار الذين كفروا على إدامة القتال ، وهذا الإصرار غرس للإرهاب لولا فضل الله باستئصال الشرك.
لقد سعى عتبة بن ربيعة وهو يطوف بين صفوف جيش المشركين يدعوهم إلى الإمتناع عن القتال , ووعد بأنه يدفع دية ابن الحضرمي الذي قتلته سرية عبد الله بن جحش بن رئاب الاسدي وكان معه ثمانية رهط من المهاجرين في آخر جمادى أو أول رجب من السنة الثانية للهجرة النبوية.
وتطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عتبة بن ربيعة وهو على جمل أحمر يسعى بين المشركين لمنع القتال .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنْ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ إنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا) ( ).
وفيه مسائل :
الأولى : نعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة إلى منع القتال بالخير , مع أنه مبشر بالنصر.
الثانية : بيان التضاد بين النبوة والقتال , وبينها وبين الإرهاب .
الثالثة : تأكيد قانون وهو أن الإمتناع عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم رشاد .
الرابعة : كأن دعوة عتبة لإجتناب القتال فرصة أخيرة للرشاد وإجتناب الذين كفروا الخسارة الفادحة التي تترشح عن قتاله للنبي محمد صلى الله وآله وسلم وأصحابه خاصة , وقد نزل جبرئيل والملائكة إلى ميدان المعركة قبل نشوبها , قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
الخامسة : إبتداء القتال ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نقيض الرشاد , وخلاف سنن العقل .
لقد رضي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين إنصرافهم عن القتال لبيان قانون وهو قبح سفك الدماء , وإن لم يقع القتال في معركة بدر فإن المعجزات النبوية سبب لجذب الناس للهدى ومقامات الصلاح .
قال تعالى [لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] ( ).
لقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما يقوم به عتبة وأنه يدعو إلى الخير من غير أن يعرفه , ولكنه نعته بأنه صاحب الجمل الأحمر
, وما لبث أن جاء حمزة الذي كان أقرب لجيش المشركين فسأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه ، فقال هو عتبة بن ربيعة وهو يدعو إلى أمور وهي :
الأول : الإمتناع عن القتال لإنتفاء سببه وموضوعه , ولثبوت سلامة قافلة أبي سفيان .
الثاني : الأمر للجيش بالرجوع إلى مكة من غير قتال , ولو رجعوا هل يلومهم أهل مكة ، الجواب لا , خاصة وأن أبا سفيان بعث لهم برسالة يطلب منهم الرجوع.
ولا تريد بعض الطوائف من قريش القتال .
الثالث :إعلان عتبة بان يحسبوا الرجوع عليه , وهو يتحمل مسؤوليته الأدبية , فكان يقول (يا قوم أعصبوها اليوم برأسي وقالوا جبن عتبة) ( ).
الرابع : استعداد عتبة لدفع دية ابن الحضرمي.
وهل سعى عتبة في منع الإرهاب ، الجواب إنه موجود يومئذ فهو ملازم للكفر وتهديد ووعيد الكفار ، ولكنه أراد الحيلولة دون أشد ضروبه وهو القتال ومحاربة النبوة والتنزيل , قال تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) وإلا فانه بادر للخروج مع قومه من مكة ومعه ولده وأخوه ، مع أن ولده الآخر وهو أبو حذيفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحاضر معه في معركة بدر ، ثم ما لبث عتبة أن تقدم للمبارزة أثر تبكيت وتوبيخ أبي جهل له ، وكان الأجدر به الإنسحاب من ميدان المعركة كما انسحب أفراد وجماعات آخرون من جيش قريش ، وهم غير معروفين أو مشهورين الإصلاح مثل عتبة , لكن الله عز وجل [يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ] ( ) .
ولكن عتبة اختار البقاء على الباطل والإقدام على المبارزة , والإلحاح في الدعة إليها وقدّم معه ابنه الوليد وأخاه شيبة ، وما كان لهما أن يعتذرا منه للجهالة والأعراف في تلك الأزمنة ولرغبتهم بالإنتقام ليبوء عتبة باثمه وإثم كل منهما , قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ] ( ).
وهل كان طلبهم المبارزة من الإرهاب ، الجواب نعم ، إنه من الإرهاب لعامة المهاجرين والأنصار ، وللمسلمين والمسلمات وذوي المهاجرين في مكة لذا تفضل الله عز وجل وأهلك الثلاثة في ذات ساعة المبارزة ، وهل المقام يشمله قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ).
أم أن القدر المتيقن هو موضوع نزول الآية ورمي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حفنة تراب في وجوه المشركين , ودخوله لعيونهم ومناخرهم .
المختار هو الأول وأن قبول الإمام علي عليه السلام وحمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعبيدة بن الحارث تحدي الذين كفروا المبارزة من مصاديق الآية أعلاه.
لتكون نتيجة المبارزة واضحة عند المسلمين ، وتكون الآية أعلاه بشارة غلبة المسلمين ودحر الإرهاب المتمثل بالإصرار على المبارزة .
ترى ماذا لو لم يطلب أي من الكفار المبارزة يومئذ فهل يقع قتال ؟
الجواب نعم , ألا أن يشاء الله , إذ قام المشركون برمي السهام والنبال والهجوم العام .
فقد تجلت معاني الإرهاب في أقوال وأفعال المشركين يوم بدر ، ونصر الله المسلمين يومئذ ليشكروا الله عز وجل بالتنزه عن الإرهاب والإبتعاد عن الإضرار بالناس ، وبدء الهجوم ومباغتة الآمنين في بيوتهم ومساكنهم ، وفي الأسواق وميدان العمل والأماكن العامة التي أراد لله عز وجل لها أن تكون آمنة ووعاء للتدبر في بديع صنع الله عز وجل ، وحسن المعاملة بين الناس والصلات الحسنة بينهم التي هي مدخل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وأخرج ابن مردويه عن زينب بنت يزيد بن وسق قالت : كنت عند عائشة إذ جاءها نساء أهل الشام ، فقلن يا أم المؤمنين : أخبرينا عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : كان خلقه القرآن وكان أشد الناس حياء من العواتق في خدرها( ).
ولم يكن طلب المبارزة من قبل عتبة وابنه وأخيه من الإرهاب .
من قواعد الحرب , إنما هو تعدد وظلم للذات والغير ، وإرهاب من قبل رؤساء الكفر للذين في ميدان معركة بدر من جهات :
الأولى : إنه إرهاب ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقتل أصحابه واضعاف الإسلام .
الثانية : تخويف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه المطلوب بعد مقتل بني هاشم
الثالثة: بعث الفزع والخوف في قلوب عموم الصحابة .
الرابعة : إعطاء رسالة للمهاجرين بأنهم مطلوبون لقريش , وأنها لا ترضى إلا بقتلهم .
الخامسة : إرهاب الأنصار بأن قريشاً يبارزون ويقتلون أبناء عمومتهم الذين اسلموا واتبعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فمن باب الأولوية أنهم يسعون لقتل غيرهم من أتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة : ترويع المسلمات سواء في المدينة أو مكة .
فإن قلت لم يرض عتبة وأخوه وابنه بمبارزة الأنصار , الجواب إنما قدموا الأولى وأرادوا الأشد في الإنتقام , وكأنهم يقولون نقتل ابناء عمنا ثم نأتي عليكم , فخر عتبة وأخوه وابنه صرعى في أول مبارزة .
وفيهم نزل قوله تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ] ( ), لبيان أن الكفار الذين يسعون في مسالك الإرهاب , ويطلبون القتال ويعشقون سفك الدماء يكون مصيرهم إلى النار , بينما يدعو المسلمون إلى المحبة والأمن في الدنيا والآخرة .
(وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : لما التقوا يوم بدر قال لهم عتبة بن ربيعة : لا تقتلوا هذا الرجل ، فإنه إن يكن صادقاً فأنتم أسعد الناس بصدقه ، وإن يكن كاذباً فأنتم أحق من حقن دمه.
فقال أبو جهل بن هشام : لقد امتلأت رعباً.
فقال عتبة : ستعلم أينا الجبان المفسد لقومه.
قال : فبرز عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة ، فنادوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فقالوا : ابعث إلينا أكفاءنا نقاتلهم.
فوثب غلمة من الأنصار من بني الخزرج ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اجلسوا( ) . . . قوموا يا بني هاشم . فقام حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث فبرزوا لهم.
فقال عتبة : تكلموا نعرفكم أن تكونوا أكفاءنا قاتلناكم.
قال حمزة : أنا حمزة بن عبد المطلب . . . أنا أسد الله وأسد رسوله . فقال عتبة : كفء كريم.
فقال علي : أنا علي بن أبي طالب . . . فقال : كفء كريم.
فقال عبيدة . أنا عبيدة بن الحارث . . . فقال عتبة : كفء كريم! فأخذ حمزة شيبة بن ربيعة ، وأخذ علي بن أبي طالب عليه السلام عتبة بن ربيعة ، وأخذ عبيدة الوليد .
فأما حمزة ، فأجاز على شيبة ، وأما علي فاختلفا ضربتين ، فأقام فأجاز على عتبة ، وأما عبيدة فأصيبت رجله . قال : فرجع هؤلاء وقتل هؤلاء.
فنادى أبو جهل وأصحابه : لنا العزى ولا عزى لكم ، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار . فأنزل الله { هذان خصمان اختصموا في ربهم) ( ).
(وعن سليمان بن حرب يقول شهد علي عليه السلام بدرا وهو ابن عشرين سنة) ( ), (عن أبي إسحاق، في تسمية من شهد بدراً من قريش، ثم من بني هاشم قال: وعلي بن أبي طالب عليه السلام، وهو أول من آمن به.
وأجمع أهل التاريخ والسنن على أنه شهد بدراً وغيرها من المشاهد، وأنه لم يشهد غزوة تبوك لا غير، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلفه على أهله.
( أنبأنا أبو عبد الله محمد بن محمد بن سرايا الفقيه وغير واحد بإسنادهم إلى محمد بن إسماعيل: حدثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله حدثنا إسحاق بن منصور السلولي، حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق.
قال: سأل رجل البراء وأنا أسمع: أشهد عليّ بدراً؟ قال: بارز وظاهر) ( ).
فقد يحصل لبس في سنخية وأسباب القتل في حينه , وتحول العصبية والأموال والأخبار دون التمييز بين الحق والباطل عند كثير من الناس , ولكن مع تقادم الأيام وتجلي الحقائق يكشف التباين والتضاد بين الخصمين , ثم يأتي عالم الآخرة ويقف الناس بين يدي الله عز وجل , وتستحضر تلك الوقائع وتكشف أسبابها الحقيقية إذ تنطق الجوارح , وتشهد الأرض والشجر والحجر على الناس , لتكون عاقبة المؤمنين النعيم , ويساق الذين كفروا إلى النار , فلا يؤدي الإرهاب إلا إلى شدة الحساب .
السابعة : تخويف الأوس والخزرج وعموم أهل المدينة بأن قريشاً سيغزون المدينة لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والفتك بأصحابه وسبي النساء , ولم تمر ثلاثة عشر شهراً على معركة بدر حتى جاءت قريش غزاة بقصد الإرهاب في معركة أحد , مع أنهم خسروا معركة بدر , ليكون من منافع نصر المسلمين في معركة بدر أنها حرب على الإرهاب كما يأتي بيانه في هذا الجزء إن شاء الله .
الثامنة : تخويف وإرهاب المسلمين الذين خرجوا مع جيش المشركين بأن لا يهاجروا فيتعرضوا للقتل أو الأسر .
التاسعة : الصدّ عن سبيل الله ، وإرادة منع المسلمين من أداء الفرائض.
العاشرة : تعطيل المناسك ، وصدّ الناس عن المسجد الحرام والحج والعمرة ولو على نحو السالبة الجزئية لأن مشركي قريش هم الذين يتولون الزعامة والأمرة في مكة يومئذ ، قال تعالى [اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
الحادية عشرة : إرهاب أفراد جيش المشركين أنفسهم بمنعهم عن الإسلام , لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة يدعو الناس إلى الإسلام , ويقف في المسجد الحرام صافاً قدميه راكعاً ساجداً , وتراه قريش وعموم أهل مكة والوافدون إليها سواء للحج أو العمرة.
ومن الناس من هداه الله عز وجل للإيمان واستجاب لهذه الدعوة , ومنهم من امتنع لكن هذا الإمتناع ليس من السالبة الكلية , فلابد أن تلك الدعوة تركت أثراً في النفوس , وبعثت كثيراً من الناس على التفكر والتدبر بما فيهم الذين خرجوا إلى محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل , فترى قلوبهم تميل إليه ولكن سيوفهم عليه للعصبية والأموال التي بذلتها قريش والأحلاف .
وانفاق الأموال في محاربة النبوة من الإرهاب ، ولكنه لن ينفع أصحابه ، إنما يجلب لهم الأذى والبلاء في الدنيا ، والعذاب في الآخرة ، قال تعالى [الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ]( ).
وبينما كان عتبة يعرف بالسعي في الصلح بين الناس , ويبذل الأموال في الإصلاح بين القبائل والأفراد قبل الإسلام تجده يصر على المبارزة يوم بدر فقتله الإمام علي عليه السلام ليجر إلى القليب , وتخرج ابنته هند مع زوجها أبي سفيان إلى معركة أحد , وهي تنشد الأشعار التي تحرض على القتال , وهل أشعار هند يومئذ من الإرهاب ضد المسلمين.
الجواب نعم لذا ذم الله عز وجل الشعراء الذين يقولون الباطل , ويحثون على المنكر وإرادة قتال المسلمين ، فقال تعالى [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ *أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ *وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ] ( ).
فالآية أعلاه وإن جاءت بصيغة المذكر(الشعراء) إلا أنها تشمل النساء اللائي يقلن الأشعار للغواية والإرهاب ومحاربة الإسلام ، إنما ورد لفظ التذكير للتغليب ولأنه الأعم.
إبتداء معركة بدر إرهاب ونهايتها حرب على الإرهاب
لقد بعث الله عز وجل النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وأنزل عليه سوراً وآيات من القرآن , وأمره بتبليغ الناس بنبوته وأحكام شريعته , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ).
وتحملت قريش إعلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبوته على غضاضة وحنق , وسألوه ألا يبلغها للناس , ومشى كبراؤهم إلى أبي طالب عم النبي , وجاءوا بمسائل مع تهديد وإنذار , وهي .
الأولى : تقديم الثناء على أبي طالب وقالوا له إن لك (سِنّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِينَا)( ).
الثانية : تذكير أبي طالب بأنهم سبق وان طلبوا منه ان ينهى النبي عن قيامه بدعوته ، ولكنه لم يمتنع ، ولم يذكروا الدعوة وحدها , إنما ذكروا سبّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآبائهم.
الثالثة : إعلان قريش عدم الصبر على شتم النبي لآبائهم .
ولم يشتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم آباءهم ، ولكنه ذم عبادة الأصنام ، وأشار إلى جهالة الذين يعبدونها .
الرابعة : إعلان قريش عن سخطهم لسب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آلهتهم وإنكاره لنصب الأصنام في البيت الحرام ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل انكار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نصب الأصنام هذا من الوحي أم برأي منه.
الثانية : هل نصب الأصنام في البيت الحرام من الإرهاب .
أما المسألة الأولى فان هذا الإنكار من الوحي ، وبه جاء القرآن وكل الكتب السماوية السابقة ، والأصل في وجود الإنسان في الأرض هو العبادة والخضوع لله لأن آدم وحواء نزلا من الجنة بسنن التقوى واليقين الذي لا يخالطه شئ ، برؤية الآيات وتكليم الملائكة لهما .
وأما المسألة الثانية فان نصب الأصنام في البيت الحرام مقدمة للإرهاب ، ودعوة إليه لأنه محاولة لطمس قوانين العدل والإنصاف , ومنع من استحضار الخشية من الله عند الإقدام على الفعل.
ثم خيّرت قريش أبا طالب بين أمرين :
الأول : أن يكف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن قريش وآلهتهم .
الثاني : التخلية بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليقوموا بحبسه وتقييده أو قتله ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) .
وهل طلب قريش هذا من أبي طالب من الإرهاب , الجواب نعم ، فهو إرهاب ومقدمة للفتنة , يريدون المنع بقوة السلاح من توجيه الذم لعبادة الأصنام.
فلم يغضب أبو طالب ولم يؤيدهم في كلامهم إنما ردهم بجواب رقيق ليس فيه ما يدل على رضاه بما جاءوا به ، فاضمروا الغيظ في نفوسهم ، وأظهروا التذمر ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يواصل دعوته وتبليغه الرسالة ، ويتلو آيات القرآن ، ويقف خمس مرات في اليوم للصلاة في المسجد الحرام ، ويقف خلفه الإمام علي عليه السلام وخديجة الكبرىِ بمرأى ومسمع من قريش , وأصحابه في إزدياد .
في رسالة ود وسلام من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته إلى أهل مكة والقبائل العربية ودعوتهم للإيمان ، وهو من بركات أمر الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام بالدعوة للحج ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب”السيرة” أنهم وجدوا حجرا بمكة في أسِّ الكعبة مكتوب عليه : تعملون السيئات وترجون الحسنات؟ أجل كما يجتنى من الشوك العنب( ).
ثم عادت قريش إلى أبي طالب فاعادوا عليه ذات المقالة ولكن بصورة أظهر في الإنذار والوعيد ، لتمادي قريش بالإرهاب على نحو علني، ويتعمد رجالها بعث الخوف والفزع في قلوب المسلمين وبني هاشم أيضاً ، مما حمل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على دعوة طائفة من أصحابه للهجرة الى الحبشة تلك الهجرة التي كانت بقصد النجاة والسلامة من الإرهاب ، ومنع كفار قريش من إشاعته وسفك الدماء ، ومن أٍسباب نزول قوله تعالى [وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ]( )، أي (الذين مكروا برسول الله في دار الندوة) ( ).
ثم هاجر النبي محمد صلى الله وآله وسلم نفسه الى المدينة وصارت الأخبار تدخل مكة تباعاً عن إنشاء دولة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ملاكها النطق بالشهادتين وإقامة الصلاة وتبليغ الأحكام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وليس في عمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المدينة التحشيد للغزو أو الهجوم على قريش أو الثأر منهم لقتل بعض الصحابة مثل سمية وياسر والدي الصحابي عمار بن ياسر .
فان قلت قد أخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أستقر به الحال في المدينة ببعث سرايا من أصحابه وخروجه بنفسه في كتائب ودوريات حول المدينة .
والجواب هذا صحيح وليس فيه إرهاب لأحد ، وكانوا يخرجون ويعودون إلى المدينة من غير قتال أو غزو لأحد ، ولا يقومون بأخذ أموال الكفار غنائم .
نعم قد وقع قتل عمرو بن الحضرمي واستيلاء على أموال قافلة صغيرة لقريش من قبل سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة في شهر رجب من السنة الثانية ، ولكن هذه السرية خاصة بالإستطلاع ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتال ولم يرض على ما فعلوه.
وصار المسلمون يلومون أفراد السرية عند عودتهم إلى المدينة وبالتأكيد علمت قريش وغيرها بعدم رضا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما فعلته السرية ، ويمكن طلب الدية وكما تبرع بها صبيحة معركة بدر عتبة بن ربيعة درءً للفتنة.
ولكن أبا جهل وبعض رؤساء قريش أرادوا القتال ،وعزموا على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وإرهاب المسلمين والمسلمات الذين لا زالوا في مكة ، وهم في حال استضعاف من المشركين ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
فحالما وصل رسول أبي سفيان إلى مكة يدعو أهلها لإنقاذ قافلته أعلنوا النفير العام ، وقاموا بتوبيخ وتبكيت الذي كان يميل إلى القعود ، فمن منافع قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) وخلافة الإنسان في الأرض أن أكثر النفوس ترفض الإرهاب ولا تميل إلى العنف ومقدمات القتال بالإضافة إلى معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام والتي تجعل سعي قريش للقتال أمراً مستهجناً وإن إدعوا إرادة إنقاذ القافلة ، وهذه المعجزات من جهات :
الأولى : فضل الله على قريش ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين ظهرانيهم .
الثانية : تعدد المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وقبل أن يهاجر إلى المدينة , ومنها انشقاق القمر إذ سأله المشركون أن يريهم آية فانشق القمر , قال تعالى [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ]( ) .
ومنها سلام الحجر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال : إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن( ).
الثالثة : نزول آيات القرآن بصبغة وصيغة ومضامين قدسية يعجز الناس عن الإتيان بمثلها ،قال تعالى [قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ) .
الرابعة : تضمن السور المكية الإنذار والوعيد على الكفر والإصرار عليه ليكون من إعجاز القرآن الغيري إنشغال الكفار بأنفسهم ، وإدراكهم لسوء إختيارهم ، قال تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] ( ) ، وهذا الإنشغال سبب للنفرة الخاصة والعامة من القتال .
ليكون من إعجاز آيات الوعيد بالعذاب الأخروي للكفار كف أيديهم ومنعهم من مواصلة القتال .
الخامسة : نزول السكينة على المؤمنين فيتلقون الأذى من الذين كفروا بالصبر والحلم ، ويرجون الثواب على هذا الصبر من غير أن يتخلوا عن الحيطة والحذر .
السادسة : تجلي قانون من قوانين النبوة والإيمان ، وهو عدم بدء المسلمين بالقتال وإن تهيأت لهم أسباب المباغتة .
نعم جعل الله عز وجل قصة ولدي آدم موعظة للمؤمنين في كل زمان ، كما في قوله تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ*لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ] ( ).
(عن ثوير بن أبي فاختة قال: سمعت علي بن الحسين عليه السلام يحدث رجلاً من قريش قال: لما قرب أبناء( ) آدم القربان قرب أحدهما أسمن كبش كان في ضأنه، وقرب الآخر ضغثا ” من سنبل فتقبل من صاحب الكبش وهو هابيل، ولم يتقبل من الآخر، فغضب قابيل
فقال لهابيل: والله لأقتلنك، فقال هابيل [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ]( ).
فلم يدر كيف يقتله حتى جاء إبليس فعلمه فقال: ضع رأسه بين حجرين ثم اشدخه، فلما قتله لم يدر ما يصنع به فجاء غرابان فأقبلا يتضاربان حتى اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، ثم حفر الذي بقي الأرض بمخالبه ودفن فيه صاحبه، قال قابيل[يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ]( ).
فحفر له حفيرة ودفن فيها فصارت سنة يدفنون الموتى، فرجع قابيل إلى أبيه فلم ير معه هابيل فقال له آدم: أين تركت ابني قال له قابيل: أرسلتني عليه راعيا .
فقال آدم : انطلق معي إلى مكان القربان وأحس قلب آدم بالذي فعل قابيل، فلما بلغ مكان القربان استبان قتله، فلعن آدم الأرض التي قبلت دم هابيل، وامر آدم أن يلعن قابيل .
ونودي قابيل من السماء: لعنت كما قتلت أخاك، ولذلك لا تشرب الأرض الدم، فانصرف آدم فبكى على هابيل أربعين يوما وليلة، فلما جزع عليه شكا ذلك إلى الله فأوحى الله إليه : إني واهب لك ذكرا خلفاً من هابيل، فولدت حواء غلاما ” زكيا ” مباركا “، فلما كان يوم السابع أوحى الله إليه : يا آدم إن هذا الغلام هبة مني لك فسمه هبة الله، فسماه آدم هبة الله) ( ).
لبيان مسألة وهي إن لم يدافع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن أنفسهم يقتلهم المشركون ، لذا كان هذا الدفاع ضرورة وحاجة للأجيال المتعاقبة من المسلمين والناس جميعاً .
وفي صبيحة يوم بدر ، وبعد أن قال الشيطان للمشركين [لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ] ( ) وأصطف الفريقان قال أبو جهل : (اللهم أولانا بالحق فانصره.
فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه فقال : يا رب إن تهلك هذه العصابة في الأرض فلن تعبد في الأرض أبداً . فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فأرم به وجوههم ، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة فولوا مدبرين .
وأقبل جبريل عليه السلام فلما رآه إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع إبليس يده ثم ولى مدبراً وشيعته.
فقال الرجل : يا سراقة أتزعم أنك لنا جار، فقال [إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ) ، فذلك حين رأى الملائكة ) ( ).
لقد إبتدأت معركة بدر بارهاب وتعد من قبل منظمة إرهابية كبرى وهم مشركوا قريش وتخطيطهم للغزو والإبادة في حرب على عقيدة التوحيد .
والأصل أن تكون هي السائدة في الأرض والحاكمة في مكة وجوار المسجد الحرام ، وأن تجري توليته وفق ضوابط وسنن التوحيد ، قال تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) .
ويدل قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) على أن المشركين هم الذين أرادوا القتال ، وأبوا الإنصراف أو الإمتناع عنه ، إذ أن لفظ الإستغاثة شاهد على الحاجة والإضطرار في اللجوء إلى الله عز وجل خاصة وأن هذه الإستغاثة لم تكن وليد ساعة القتال ، إنما كانت من عشية المعركة وقبل إبتدائها كما كان يدعو عندما لحم القتال .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه : اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد .
لبيان قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقابل الإرهاب بالدعاء والصبر .
أما بالنسبة لنهاية معركة بدر فقد كانت حرباً على الإرهاب إذ أراد مشركوا قريش إستئصال الإسلام وإيقاف التنزيل فتفضل الله بقطع الكفر وهلاك طائفة من الكفار مع إستدامة نزول آيات القرآن .
ليكون من إعجاز القرآن إستدامة وتوالي نزوله حتى مع إرادة الذين كفروا إيقاف التنزيل [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ) ومن خصائص بعثة الأنبياء الحيلولة دون استفحال الإرهاب وصيرورته منهاجاً وديناً .
إذ يفصح الأنبياء بصبرهم وتقواهم الطواغيت ، وأرباب الضلالة ويمنعون مما يتولد عنه الإرهاب .
ومن معاني الفرقان في قوله تعالى [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) أن معركة بدر فعل وتميز بين الإرهاب ودعوة الحق ، وإزاحة لرؤساء الكفر عن منازل السيادة والرئاسة التي يشيعون بواسطتها الإرهاب ، ويمنعون الحقوق، ويحجبون الناس عن الإيمان وأحكام التنزيل التي تدعو إلى نبذ الإرهاب ، وتحذر منه وتتضمن الإخبار عن العفوية الأليمة عن الفساد وسفك الدماء .
قانون المعجزة قطع للإرهاب
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار رحمته وعفوه ، ويصرف فيها البلاء عن الناس لبيان عظيم قدرته ، وحضور سلطانه في كل أوان ومكان ،وهو سبحانه [بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ) علم تدبير ومشيئة ، وتفضل الله ببعث الأنبياء ومصاحبة المعجزة لهم ، وهي الشاهد على النبوة ومصداقها والدليل عليه والمائز الذي يميز النبي عن غيره ، وفي خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال الله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى] ( ).
ولا تختص معجزة النبي بالفرد الواحد منها ، بل هي متعددة ومتكررة ، وإن كانت بالأصل واحدة ، مثل ناقة صالح إذ كان الناس يرون بين اليوم والآخر آين منها بأن تعطي من الحليب بما يكفي القرية كلها وعصا موسى فان مصاديق إعجازها تكررت في مصر ، وعندما أشرف بنو اسرائيل على البحر الأحمر هروباً من فرعون ، قال تعالى [أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ]( ).
وقد تفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعدد أصل المعجزات عنده , وكل آية من القرآن معجزة متجددة إلى يوم القيامة إلى جانب معجزاته الحسية .
ومع تيسير سبل التحقيق والطباعة , والنشر على الشبكة العنكبوتية لابد من إحصاء تلك المعجزات بالاسم والمسمى ليتسنى للعلماء مناقشتها وإمضاؤها أو الوقوف عند بعضها وتنقيحها ، كما أدعو إلى إحصاء معجزات النبي الحسية بأن تذكر كل معجزة بالاسم مع نبذة عنها وما يدل على صدق كونها معجزة .
وكل معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم رادع عن الإرهاب ومقدماته .
ومن المعجزات الحسية ما كانت مستقلة بذاتها كحنين الجذع , وامتثال الجبل لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وتكثير الطعام القليل على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكفي للعدد الكثير , وبركة عصا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومنها ما ورد عن جابر بن عبد الله قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة بني ثعلبة وخرجت على ناضح لي فأبطأ علي حتى ذهب الناس فجعلت أرقبه ويهمني شأنه فاذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الناس فقال ما شأنك قلت أبطأ علي جملي قال اذهب معي فكأنه نفث فيها ثم مج من الماء في نحره .
ثم ضربه بالعصا فوثب فقال اركب قلت إني ارضى ان يساق معنا قال اركب فركبت فوالذي نفسي بيده لقد رأيتني واني اكفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارادة ان لا يسبقه.
واخرج أبو نعيم من وجه آخر عن جابر نحوه وزاد : ثم قال اركب بسم الله فما ركبت دابة قبله ولا بعده اوسع ولا أوطأ منه ان كان لينطلق بي فأكفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حياء منه( ).
ومنها ما ترشح من آيات القرآن من وجوه :
الأول : قانون المعجزة الحسية سبب لنزول الآية القرآنية .
الثاني : قانون الملازمة بين معجزة حسية ونزول آية قرآنية .
الثالث : قانون إتحاد موضوع آية قرآنية ومعجزة حسية .
الرابع : قانون توثيق الآية القرآنية للمعجزة الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : قانون شهادة القرآن بصدق المعجزة الحسية .
السادس : قانون المعجزة دعوة للكف عن الإرهاب .
السابع : قانون المعجزة تحلية للمجتمعات .
الثامن : قانون المعجزة عصمة من الإرهاب .
معركة بدر طرد للإرهاب
لقد تعاون المشركون يوم بدر على نشر الإرهاب وإرادة إشاعة القتل وسفك الدماء , فأنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالنصر بمعجزة وآية منه بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
ليكون من معاني وتقدير الآية أعلاه وجوه :
الأول : ولقد نصركم الله ببدر على أئمة الإرهاب .
الثاني : ولقد نصركم الله ببدر لإستئصال الإرهاب .
الثالث : ولقد نصركم الله ببدر من غير إرهاب .
الرابع : ولقد نصركم الله ببدر فلا تلجأون إلى الإرهاب .
الخامس : ولقد نصركم الله ببدر على الإرهاب .
السادس : ولقد نصركم الله ببدر لأنكم حاربتم الإرهاب .
السابع : ولقد نصركم الله ببدر لمنع استدامة الإرهاب في الأرض .
الثامن : ولقد نصركم الله ببدر لقانون قهر الإيمان للإرهاب .
التاسع : ولقد نصركم الله ببدر لأنكم إمتنعتم عن الإرهاب .
العاشر : ولقد نصركم الله ببدر لأنه يحب الذين يحاربون الإرهاب .
الحادي عشر : ولقد نصركم الله ببدر لصيرورة الترهيب والخوف من الله وحده , قال تعالى [وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ).
الثاني عشر : ولقد نصركم الله ببدر لقطع إرهاب وتخويف الذين كفروا للمسلمين والناس كافة .
الثالث عشر : ولقد نصركم الله ببدر لبيان زيف الإرهاب والتهديد بالأوثان والشياطين .
وفي مرسلة قتادة قال :[ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ] ( )، قال : بالآلهة قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ليكسر العزى فقال سادنها : وهو قيمها يا خالد إني أحذركها لا يقوم لها شيء ، فمشى إليها خالد بالفأس وهشم أنفها) ( ).
الرابع عشر : ولقد نصركم الله ببدر فصار الذين كفروا عاجزين عن إنفاذ إرهابهم .
الخامس عشر : ولقد نصركم الله ببدر لتملأ الرهبة قلوب الذين كفروا فيجنحوا للسلم .
السادس عشر : ولقد نصركم الله ببدر فلا يزاول الذين نافقوا الإرهاب ضدكم .
السابع عشر : ولقد نصركم الله ببدر لتفوزوا بثواب محاربة الإرهاب .
الثامن عشر : ولقد نصركم الله ببدر لتنزيه مكة وما حولها من الإرهاب .
التاسع عشر : ولقد نصركم الله ببدر على الذين ينفقون أموالهم في الإرهاب ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] ( ) .
العشرون : ولقد نصركم الله ببدر لبيان بأس وبطش الله بالذين ينشرون مفاهيم الإرهاب .
الحادي والعشرون : ولقد نصركم الله ببدر على الذين يحاربون النبوة والتنزيل .
الثاني والعشرون : ولقد نصركم الله ببدر على ورثة فرعون في نشرهم الإرهاب ، وعن الحسن البصري (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنّ لكل أمة فرعون ، وفرعون هذه الأمة أبو جهل) ( ).
الثالث والعشرون : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة , فلا يضركم إرهاب الذين كفروا ، لتتضمن آية (ببدر) البشارة من جهات متعددة منها دفع ترهيب وتخويف الذين كفروا ، لذا كان عدد من الصحابة بعد معركة بدر حينما يبلغهم تهديد ووعيد الذين كفروا يتشوقون للقائهم في ميدان القتال ، قال تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
الرابع والعشرون : ولقد نصركم الله ببدر كيلا تخافوا من الإرهاب .
الخامس والعشرون : ولقد نصركم الله ببدر ليمتنع الناس عن طاعة رؤساء المشركين في سعيهم للإرهاب والتهديد والبطش ، قال تعالى [ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) .
السادس والعشرون : ولقد نصركم الله ببدر لتقيموا الصلاة بأمن من الإرهاب ، قال تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى] ( ).
(عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه إلا بين أظهركم، قالوا : نعم.
فقال : واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته.
قال : فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه ، فقيل له: ما لك.
قال : إن بيني وبينه خندقاً من نار وهؤلاء أجنحة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً قال : وأنزل الله[كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى]( )، إلى آخر السورة يعني أبا جهل [فَلْيَدْعُ نَادِيَه] ( ) يعني قومه [سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ]( )يعني الملائكة) ( ).
السابع والعشرون : ولقد نصركم الله ببدر لتنزيه المسجد الحرام ولعمارته باقامة الصلاة فيه كل ساعة من الليل والنهار ، وإلى يوم القيامة وعن الإمام (جعفر بن محمد أن أول صلاة جماعة جمعت في الإسلام ، يوشك أن تكون التي أنكرها أبو جهل ، صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه عليّ رضي الله عنه فمرّ به أبو طالب ومعه ابنه جعفر فقال : صل جناح ابن عمك ، وانصرف مسروراً يقول :
إنَّ عليّاً وجعفرا ثقتي … عند مُلِمِّ الزمان والكُرَبِ
والله لا أخذل النبيّ ولا … يخذله من كان ذا حَسَبِ
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما … أخي لأمي من بنيهم وأبي
فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك .) ( ).
الثامن والعشرون : ولقد نصركم الله ببدر لتتعاهدوا نعمة النصر بالصبر والصلاح .
طبقات المفسرين
ورد لفظ التفسير في القرآن مرة واحدة بقوله تعالى [وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا] ( ) بينما تعدد ذكر التأويل في القرآن منها ، قال تعالى [ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ]( )، وقال تعالى [رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ]( ).
[وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً]( )، وقد صاحب علم التفسير نزول القرآن وهو من إعجازه وأسرار بقائه سالماً من التحريف والتبديل والتغيير .
ويمكن ذكر طبقات المفسرين على وجوه :
الطبقة الأولى : تفسير القرآن للقرآن , فمن إعجاز القرآن تفسير بعضه لبعض .
وهل الناسخ والمنسوخ , والمطلق والمقيد في القرآن من التفسير في المقام الجواب لا , لأن المقصود هنا البيان والتوضيح .
الطبقة الثانية : السنة النبوية ، وهذا التقسيم ابتدء في هذا السِفر إذ دأب المفسرون على ذكر الصحابة كطبقة أولى للمفسرين ، ولكن النبي محمداً هو الإمام في تفسير القرآن ، وهو لا يتعارض مع تفسير القرآن بعضه لبعض ، ولكن المراد من طبقات المفسرين خصوص الرجال والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الرائد في التفسير وتفسيره حجة ، ويفتح أبواباً من العلم .
و(عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : علّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام باباً يفتح منه ألف باب( )، وفي قصة موسى عليه السلام والخضر ورد قوله تعالى [سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا]( ) .
وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى لَو صَبَرَ لاَقْتَبَسَ مِنْهُ أَلْفَ بَابٍ( ).
وهذا التفسير على أقسام :
الأول : بيان معاني الآية القرآنية ودلالات ألفاظها .
الثاني : مجئ قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفسيراً وتأويلاً لآيات القرآن .
الثالث : السنة النبوية الفعلية مرآة للقرآن .
الرابع : إحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآيات القرآن .
الخامس : جواب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأسئلة والإستفتاءات بآيات من القرآن ، وقد صدر لنا قبل ثلاثين سنة جزءان من كتابنا الموسوم (تفسير النبي ص للقرآن) .
وكل من تفسير القرآن للقرآن وتفسير السنة النبوية للقرآن أصل في التفسير , وحرز وأمن في علوم التأويل , وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
وطبقات المفسرين على وجهين :
الأول : الترتيب في تعاقب السنة والعلماء من جهات :
الأولى : السنة النبوية .
الثانية : طبقة الصحابة .
الثالثة : طبقات التابعين .
الرابعة : أيام التدوين .
الطبقة الثالثة : المفسرون من الصحابة ، ومن أكثرهم كلاما في علم التفسير الإمام علي عليه السلام وابن عباس الذي كان يقول (ما عندي من تفسير القرآن فهو عن علي بن أبي طالب) ( ).
ومنهم عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ، وعبد الله بن عمر ، وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو .
الطبقة الرابعة : المفسرون من التابعين , ومنهم مجاهد مولى ابن عباس وسعيد بن جبير ، وعلقمة صاحب عبد الله بن مسعود ، وعكرمة وقتادة .
الطبقة الخامسة : تابعوا التابعين من رجال أواخر القرن الثاني وعامة القرن الثالث للهجرة .
الطبقة السادسة : المتأخرون من المفسرين من رجال المائة الرابعة والخامسة والسادسة للهجرة .
الطبقة السابعة : متأخروا المتأخرين من المفسرين من رجال المائة السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة للهجرة أي الذين الفوا في علوم القرآن قبل السنة الألف للهجرة النبوية.
الطبقة الثامنة : وهم المفسرون في المائة الحادية والثانية والثالثة بعد الألف للهجرة النبوية الشريفة .
الطبقة التاسعة : وهم المعاصرون من المفسرين وأبناء الأجيال القريبة السابقة ، وتشمل المفسرين حتى السنة الخمسمائة بعد الألف للهجرة .
الطبقة العاشرة : وهم المفسرون والعلماء المختصون في علوم القرآن بعد السنة الخمسمائة والألف إلى السنة السبعمائة والألف للهجرة ، وهذا التقسيم في أكثره مستحدث في هذا السِفر كتقسيم استقرائي .
وقد ألّف عدد من العلماء كتباً خاصة بطبقات المفسرين منهم جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت911)هجرية وقال في المقدمة أنه لم يجد من أعتنى بافراد طبقات المفسرين بمؤلفات مثلما اعتني بإفراد المحدّثين والفقهاء والنحاة وغيرهم: المفسرون من السلف والصحابة والتابعين وأتباع التابعين( ) .
وذكر جملة من المفسرين بلغة المدح والثناء منهم (إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل أبو عثمان الصابوني النَّيْسابُورِيّ.
الواعظ، المفسّر، المحدِّث، الأستاذ شيخ الإِسلام إمام المسلمين، أوحد وقته شهدت له أعيان الرجال بالكمال في الحفظ، والتفسير، وغيرهما، حدث عن زاهر السرخسي، وأبي طاهر بن خُزَيْمة، وعبد الرحمن بن أبي شرَيح .
وعنه أَبو بكر البَيْهَقِي ،وعبد العزيز الكَتّانيّ، وطائفة. وكان كثير السماع والتصنيف وممن رُزق العِزَّ، والجاه، في الدين، والدنيا، عديم النظير، وسيف السنة، ودافع أهل البدعة، يُضرَب به المثلَ في كثرة العبادة والعلم والذكاء والزهد والحفظ، أقام شهراً في تفسير آية. ولد سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، ومات يوم الجمعة رابع محرم سنة تسع وأربعين وأربعمائة. ورثاه أبو الحسن الدّاوُدِيّ بقوله:
أودى الإمامُ الحَبْرُ إسماعيل … لهفِي عليه فليس منه بَدِيلُ
بكَتِ السَّما والأرضُ يومَ وفاته … وبكَى عليه الوحيُ والتَّنْزِيل
في أبيات أخرى.) ( ).
وأشاد بتفسير القرطبي وقال (بَقِيّ بن مَخْلد بن يزيد أبو عبد الرحمن الأندلسي القرطبي الحافظ أحد الأعلام، وصاحب ” التفسير والمسند.
أخذ عن يحيى بن يحيى الليثي، ورحل إلى المشرق، ولقي الكبار فسمع بالحجاز أَبا مُصْعب الزُّهْريّ، وإبراهيم بن المنذر الحِزَاميّ ، وبمصر يحيى ابن بُكَير، وأبا الطاهر بن السَّرْح ،وبدمشق هشام بن عمار، وببغداد أحمد بن حنبل، وبالكوفة يحيى بن عبد الحميد الحِمّانيّ ،وأبا بكر بن أبي شيبة، وخلائق.
وعدد شيوخه مائتان وأربعة وثمانون رجلاً، وعنى بالأثر، وكان إماماً زاهداً صوّاماً صادقاً، كثير النذر، مجاب الدعوة، قليل المثل، بحراً في العلم، مجتهداً، لا يقلد أحداً، بل يُفتي بالأثر، وهو الذي نشر الحديث بالأندلس وكثّره وليس لأحد مثل مسنده ولا تفسيره.
قال ابن حَزْم: أقطع أنه لم يُؤَلَّف في الإسلام مثل تفسيره، ولا تفسير ابن جرير ولا غيره) ( ).
وذكر أبا محمد الحسين بن مسعود بن محمد البغوي وكتابه (معالم التنزيل في التفسير ) وكتبه الأخرى (شرح السنة ، المصابيح ، الجمع بين الصحيحين ، التهذيب في الفقه ).
وكان لا يلقي الدرس إلا على طهارة وكان قانعاً ورعاً يأكل الخبز وحده ، ثم عُذِل وعوتب فيه فصار يأكله بالزيت ، وقال (مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة وقد جاوز الثمانين ولم يحج.) ( ) مع أنه طاف بلاد خراسان وسمع من علمائها .
ولقب البغوي نسبة إلى بلدة يقال لها (بغ) وبقشور في خراسان قريبة من مرو إذ ولد فيها ومات في مدينة مرو الرود وتسمى بالفارسية (مرو كوجك)و(مرو الصغرى ) للتمييز بينها وبين (مرو الشاهجان) من مدن خراسان .
وبين مرو الروذ ومرو الشاهجان مائتا كيلو متر ، وقيل مائتان واربعين ، وتقع مدينة مرو على ضفة نهر المرغاب ، وهي في هذا الزمان عاصمة منطقة ماري في دولة تركمانستان وكان في القديم يضرب المثل بأهلها بالتدبير في التفقه ، وكانت مدينة اسلامية كبيرة ، عرف أهلها بالأدب العربي والعلم .
وتفسير البغوي مختصر لتفسير الثعالبي , لكنه طرح ما يرى أنها أحاديث موضوعة وأراء مبتدعة ووصفة الخازن في مقدمة تفسيره بأنه من أجمل المصنفات في علم التفسير وأعلاها جامع للصحيح من الأقاويل .
وصنف الداوودي محمد بن علي بن أحمد (ت 945) هـ وهو من تلامذة السيوطي كتاب طبقات المفسرين ، وذكر فيه المفسرين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ، وذكر فيه المفسرين من الشيعة والمعتزلة ، وبلغ عدد الذين ترجم لهم في الكتاب (136) ولم يكتمل الكتاب .
وألف أحمد بن محمد الأدنروي من علماء القرن الحادي عشر ، ومنهم من يكتبه الأدنه وي كتاباً في أسماء المفسرين وكتبهم ، واعتمد ما نسميه هنا ( الترتيب القرني ) أي جعل لكل مائة سنة طبقة من المفسرين .
ويتوالى عدد وأشخاص المفسرين في كل زمان ، وفيه تعاهد للقرآن وتصديق لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتوثيق لأسباب النزول وتفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن ، وصدوره عنها في القول والفعل , وباعث للشوق في الغوص في علوم القرآن .
ويبين هذا الزمان الحاجة لإظهار إشراقات القرآن بتأكيد قبح الإرهاب ، وتبكيت أهله ، وأنه لا دين له وأن التنزيل برئ منه ، قال تعالى [قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ]( ).
قانون القاسم المشترك بين معارك الإسلام الأولى
من خصائص النبوة الدعوة السلمية إلى الله عز وجل بلحاظ مجئ الأنبياء بالمعجزة ، وهي أمضى سلاح إذ يخاطب العقول وتتوجه إلى الناس جميعاً مع التباين في منازلهم وشأنهم ونسبة ذكائهم وفطنتهم ، وهو من أسرار كون المعجزة على قسمين :
الأول : المعجزة الحسية .
الثاني : المعجزة العقلية .
وكل منهما حجة وبرهان تدركه العقول ويخالط الجوانح ، ويصعب على الإنسان الإعراض عنه أو تجاهله .
ومن إعجاز ذات المعجزة أنها واقية من القتال والغزو واستدامة المعارك ، وتجلى هذا القانون بعدم استدامة معارك الإسلام الأولى اكثر من بضع ساعات ، كما في معركة بدر ، ومعركة أحد ، وحتى مدة القتال في حصار الخندق , وبخصوص معركة أحد لا أحد يتوقع أن المشركين يزحفون بثلاثة آلاف رجل ، ويقطعون أربعمائة وخمسين كيلو متر بعد أن هددوا وتوعدوا لمدة عام كامل ، حتى تحققت ساعة البطش والإنتقام إذ عسكر جيش مؤلف من ثلاثة آلاف مقاتل في مشارف المدينة المنورة ، وعند سفح جبل أحد ، ولا زالت مواضع المعركة معلومة إلى الآن خاصة مع وجود مقبرة الشهداء من الأنصار والمهاجرين ، واتخاذ المسلمين لها مزاراً في كل يوم.
ومع كثرة عدد جيش المشركين فلم يأتوا مشياً على الأقدام أو بالتعاقب على الإبل والخيل ، إنما كانت عندهم إبل بعددهم إلى جانب مائتي فرس لم تركب ظهورها في الطريق كيلا تنهك وتفتر أثناء القتال مما يدل على الإنفاق الكثير من قبل كفار قريش على الجيش ، ولابد أن لهذا الإنفاق غايات ، ولكنها تتصف بالمكر والخبث والعداء لله ورسوله وللمؤمنين، وقال تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) لبيان أنه يوم مشهود من كل من :
الأول : يعلم الله عز وجل بهذا اللقاء وأخبر عنه لشدته وموضوعيته وأثره على الأجيال .
الثاني : نزول خمسة آلاف من الملائكة إلى ميدان المعركة ، وحضورهم المعركة ومشاركتهم فيها ، لتكون هذه المشاركة من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) عندما أحتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) .
وليس من ملك في السماء يرضى على الإرهاب إنما ينزلون ليدفعوه ويحولوا دون تحقق أفراد عديدة منه , وهو من مصاديق قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) .
و (عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا كان ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى .
فإذا كان يوم عيدهم باهى بهم الملائكة , فقال : يا ملائكتي ما جزاء أجير وفى عمله؟ قالوا : ربنا جزاؤه أن يؤتى أجره .
قال : يا ملائكتي عبيدي وإمائي قضوا فريضتي عليهم ثم خرجوا يعجون إليّ بالدعاء وعزتي وجلالي وكرمي وعلوي وارتفاع مكاني لأجيبنهم ، فيقول : ارجعوا فقد غفرت لكم وبدلت سيئاتكم حسنات فيرجعون مغفوراً لهم) ( ).
كما يشهد الملائكة المكلفون بتدوين وكتابه أعمال البشر المعركة لقوله تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] ( ) .
فالملائكة الموكلون بالصحابة حضروا معركة بدر , وكذا الملائكة المكلفون بكتابة أعمال أبي جهل وأصحابه حضروا المعركة .
الثالث : حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اللقاء ، وهو عرضة للقتل إذ أن الغاية الأولى للذين كفروا هي قتله .
لتكون سلامته من القتل يوم أحد من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية .
الرابع : حضور ثلاثمائة وثلاثة عشر من المهاجرين والأنصار المعركة ، فكانوا شهوداً عليها يرون لأهليهم والتابعين وقائع المعركة ، وأطلق عليهم لقب (البدريين )تشريفاً .
ومنهم من هاجر إلى الشام أو إلى العراق وأقام فيه لينقل للناس وقائع المعركة ، والمعجزات التي صاحبتها ، وفي هذا النقل دعوة للإيمان وارضا بفضل الله ، وعدم إتخاذ الإرهاب طريقاً لتحقيق الغايات ، ولا يصح إعتماده وسيلة لمحاربة الإسلام .
الخامس : حضور أكثر من تسعمائة من جيش المشركين المعركة ليصير هذا الحضور طريقاً للتوبة والإنابة .
السادس : شهادة آيات القرآن على معركة بدر , ونزول عدد منها بخصوص هذه المعركة ووقوع سبعين من المشركين أسرى بيد المسلمين واستقراء المواعظ والعبر منها ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
ويكون تقدير قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) ، على وجوه منها:
الأول : يوم التقى الجمعان جمع إرهابي ، وجمع مدافع عن الحق والهدى .
الثاني : جمع يريد نشر الإرهاب وهم الكفار , وجمع يسعى جاهداً لإستئصال الإرهاب وهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فهم لا يريدون إيقاف الإرهاب فحسب ، إنما يبذلون الأنفس من أجل القضاء على الكفر وما يلازمه من الإرهاب.
الثالث : جمع الكفار الذي يسعى إلى إرهاب كل من :
أولاً : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
عن قتادة قال لي رجل : قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لتكفن عن شتم آلهتنا أو لتأمرنها فلتخبلنك ، فنزلتوَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ.
فصحيح أن النبي معصوم ولكن هذا لا يمنع من توجه الكفار بارهابهم إليه إذ كانوا يتجاهرون بالعزم على قتله ، والوعيد بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إرهاب موجه إلى المسلمين والمسلمات وإلى أهل المدينة جميعاً ومنهم اليهود .
لقد أنكشف أمر الكفار بعد بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعرف الناس سوء فعلهم ، وعدم ترددهم في الإقدام على القتل وسفك الدماء بغير حق ، وهل حصارهم لبني هاشم في شعب أبي طالب من الإرهاب .
الجواب نعم فهو إرهاب إقتصادي وعقائدي وحرب على العادات الحسنة في المجتمعات .
ثانياً : زحف ثلاثة آلاف من المشركين بخيلهم وأسلحتهم إرهاب للمهاجرين ، وكانوا من قبل أن يأتوا بعثوا لهم الرسائل بأنهم سيأسرونهم ويرجعونهم إلى مكة مقيدين بالسلاسل.
لقد هرب المهاجرون إلى المدينة للسلامة من إرهاب المشركين ، والنجاة بأنفسهم ودينهم ، ولم يرق هذا الأمر للمشركين فبذلوا الأموال الطائلة وعطلوا تجاراتهم ، وأخلوا بالتزاماتهم التجارية مع تجار الشام ليهجموا على المدينة وهم يظنون استئصال الإسلام ، ثم العودة بسرعة لرحلة القوافل بين مكة والشام مع زيادتها كماً وكيفاً لأن العرب ستنصاع لقريش، وتكون طرق القوافل آمنة ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
فعاد المشركون من هجومهم وإرهابهم في معركة أحد بالفشل والخيبة، فان قلت قد أدّعوا النصر , والجواب لا موضوعية لإدعاء أحد طرفي القتال النصر ، وأنت ترى في التأريخ الحديث كل طرف يدعي النصر حتى المنهزم.
ثالثاً : لقد أراد المشركون في معركة أحد ومقدماتها إرهاب الأنصار إذ أغاظهم إيواؤهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين ونصرتهم له.
وهل وصلت إلى مكة أنباء قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ومضامينها ودلالاتها ، الجواب نعم.
لقد كانت قريش قبل وبعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تجتمع في دار الندوة وتتابع الأخبار وتستعرض الأمور ، وما يأتي به عمّار وحجاج البيت الحرام ، والتجار وغيرهم ، ويربطوا الحاضر بالماضي ويستقرئوا المستقبل بلحاظ هذا الربط إلا أن الكفر أعمى بصائرهم وجعلهم عاجزين عن استحضار المعجزة النبوية القاهرة للضلالة والإرهاب في المقام وكان هجومهم في معركة أحد استدراجاً لهم , قال تعالى [وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
ليكون من معاني المؤاخاة الحرب على الإرهاب , وزجر المشركين عن مواصلة التعدي ، ومنعهم من توالي الهجوم , وبدل أن يتعظ المشركون من معاني هذه المؤاخاة ويرضوا عن الأنصار لحسن إيوائهم للمهاجرين ويتدبروا في دلالة المؤاخاة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى صيرورة المسلمين أمة متآخية بمعالم الإيمان ، فانهم حشدوا الجنود لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ]( ) . وكانت قصة فرعون وقوم صالح معروفتين عند أهل مكة ، ولكنهم يكذبون التنزيل , وفي الآية أعلاه دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالصبر وبشارة استئصال رؤساء الإرهاب والدعاة إليه.
والمؤاخاة وتعاهدها من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) وقام المشركون ببعث رسائل الإرهاب والتخويف للمهاجرين والأنصار ، وتقترن هذه الرسائل بالأخبار والإخبار عن تجهيز المشركين للجيوش لمعركة أحد ، وكانت المدة بين رسائل التهديد ومسير جيوش المشركين إلى معركة أحد مناسبة يومية متجددة للتدارك ، ومنع هذا المسير ، ومما هو معروف تأريخياً عند عرب الجزيرة الوساطة والتدخل لطلب الهدنة والصلح بين المتنازعين ، وتحمّل أعباء الديات ونحوها لإمضاء الصلح عند إصرار كل من الطرفين على شروطه ، واتخاذ الأشهر الحرم مناسبة لنزع فتيل الفتنة.
ولكن هذا الأمر لم يظهر ويتجلى في معارك الإسلام الأولى ، فلم يبرز من كبار المشركين من يدعو إلى الصلح ونبذ القتال ، ولم يتم صلح الحديبية إلا بعد أن ظهر الضعف والوهن على قريش ، وعجزوا عن مواجهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
ومن دلائل التضاد بين القرآن والإرهاب أن الله عز وجل سمّى صلح الحديبية فتحاً لأنه واقية من القتال ، ومانع من استمراره.
(عن أنس، قال : لمّا رجعنا من غزوة الحديبية،
قد حيل بيننا وبين نسكنا،
فنحن بين الحزن والكآبة،
فأنزل الله تعالى عليه [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، الآية كلّها.
فقال رسول الله : لقد نزلت عليَّ آية هي أحبُّ إليَّ من الدُّنيا جميعاً)( ).
ويدل قلة سعي بعض الأشراف في الصلح بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين إلى أن النزاع أعظم وأكبر من الصراعات والعصبية القبلية التي كانت بين العرب في الجاهلية ، إذ تجلى التناقض بين الإيمان والكفر ، وأدرك الناس عدم التعايش بينهما ، فكانت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلمية محضة ، ولكن الذين كفروا ركبوا جادة الإرهاب واختاروا الهجوم والغزو المتكرر ضد المسلمين وسعوا في إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع شهادتهم له بالصدق والأمانة وقبل أن يعلن نبوته.
(قال المسور بن مخرمة : قلت لأبي جهل وكان خالي : يا خال هل كنتم تتهمون محمدا بالكذب قبل أن يقول مقالته.
فقال والله يا ابن أختي لقد كان محمد وهو شاب يدعى فينا الأمين فلما وخطه الشيب لم يكن ليكذب.
قلت يا خال فلم لا تتبعونه فقال يا ابن أختي تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف فأطعموا وأطعمنا وسقوا وسقينا وأجاروا وأجرنا فلما تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي فمتى نأتيهم بهذه) ( ).
وهل تكرار محاولات إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإرهاب ، الجواب نعم ، وهو من أشد وأقسى مصاديق الإرهاب ، لبيان قانون وهو فشل تلك المحاولات معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه مسائل:
الأولى : فيه تأسيس للقضاء على الإرهاب.
الثانية : بيان قبح خطط الإغتيال وإن تم اغتيال شخص لإيمانه فان الله عز وجل يجعل بدائل له ، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فليس له بديل ، ولا يتلقى الوحي ونزول القرآن غيره لذا حفظ الله من القتل والأغتيال ، وهذا الحفظ من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثالثة : لحوق الخزي بالذين كفروا وفضحهم بين الناس ، بارادة اشاعة القل ونشر الدمار والخراب , وتوريث مفاهيم الإرهاب فنجّى الله الناس منها .
قانون حفظ طرق التنزيل واقية من الإرهاب
لقد جاءت كل الكتب السماوية بالإخبار عن قانون وهو أن السموات والأرض وما بينهما وما فيهما ملك طلق لله عز وجل لا يشاركه فيه أحد ، وتفضل سبحانه وأمر كل مسلم ومسلمة بتلاوة قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) ليجددوا عهد العبودية لله وعصمتهم من الشرك خمس مرات في اليوم وفق الآيات الكونية من طلوع الفجر وزوال الشمس وغروبها وصلاة العتمة .
(عن ابن مسعود قال : أخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة صلاة العشاء ، ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : أما أنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم.
ولفظ ابن جرير ، والطبراني ، وقال : إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب ، قال : وأنزلت هذه الآية [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ]( )، حتى بلغ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.
وقد تفضل الله بحفظ وتأمين طرق نزول آيات القرآن إلى أن تصل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتلوها على الناس ، وتدون في المصاحف .
ولم يكتف جبرئيل بالنزول بالآيات بل كان يأتي بالحديث القدسي وبالوحي ، وكان يقوم بمذاكرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآيات وسور القرآن مرة كل سنة إلا في السنة التي انتقل فيها إلى الرفيق الأعلى فان جبرئيل تدارس مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرض القرآن مرتين ، وأدرك النبي أنها أمارة على قرب أجله .
(وأخرج ابن الأنباري عن ابن مسعود قال : كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن في كل سنة مرة ، وأنه عارضه بالقرآن في آخر سنة مرتين ، فأخذته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك العام)( ).
ولابد أن المقصود المعارضة والتدارس في كل سنة بخصوص ما نزل فيها وما قبلها من الأيام والسنوات ، أما المعارضة الأخيرة فكانت بالقرآن كله ، ومن معاني المعارضة في المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يعرض القرآن على جبرئيل ، ليقابله بما أوحاه له ، للتثبت منه وتجديد حفظه وتوثيقه ، وبعث الطمأنينة في نفوس الصحابة والمسلمين بأن القرآن غض وطري عند مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا .
ويكون العرض وهذا التدارس في شهر رمضان , وكان جمع القرآن على العرضة الأخيرة وفيه شاهد بأن آيات السلم والسلام والصفح والعفو باقية في رسمها وتلاوتها وحكمها إلى يوم القيامة وهي تزيح شبح الإرهاب عن المجتمعات.
وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه جبريل كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ ، يعرض النبي صلى الله عليه وسلم عليه القرآن ، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة( ).
وقد حفظ الله عز وجل القرآن وتنزيله وطرقه من وجوه :
الأول :نزول آيات القرآن وتوالي هذا النزول من غير حاجز أو مانع .
الثاني : أوان نزول آيات وسور القرآن ، كل في أوانه الذي يعلمه الله عز وجل من قبل أن يخلق آدم ، فكانت الملائكة تستبشر بهذا النزول لأنه من وعد الله عز وجل لهم بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) عندما احتجوا على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وهو يفسد فيها ويسفك الدماء ، فكل آية من القرآن حرب على الفساد ، وزاجر عن سفك الدماء والإرهاب .
الثالث : يحفظ الله عز وجل اللوح المحفوظ الذي أنزل منه القرآن ، قال تعالى [بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ] ( ) .
و(عن ابن عباس قال : نزل القرآن جملة واحد من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا ، فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة ، ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة.
فقال المشركون : لولا نزل عليه القرآن جملة واحد . فقال الله { كذلك لنثبت به فؤادك }( ) أي أنزلناه عليك متفرقاً ليكون عندك جواب ما يسألونك عنه ، ولو أنزلناه عليك جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عندك جواب ما يسألونك عنه) ( ).
الرابع : تفضل الله عز وجل بحفظ الملك الذي ينزل بالقرآن وهو جبرئيل وطرق السماوات التي ينزل فيها ، وإن كان هناك كفار يقاتلون المؤمنين ، ويشيعون الإرهاب في الأرض فهل من فتنة يثيرها الشياطين في طرق السماوات .
الجواب لا ، ومن بديع صنع الله أن السموات ملأى بالملائكة ليس فيها محل ينفذ أو يقيم فيه الشيطان ، لذا حينما نزل ألف ملك لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وخمسة آلاف في معركة أحد لم يكن حاجب أو مانع يعرقل نزولهم إنها صاروا حاضرين في ميدان المعركة بقوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) .
الخامس : حفظ آيات القرآن في طرق السموات وإلى حين وصولها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد اثنى الله عز وجل على جبرئيل ، وشهد له بالأمانة لبيان سلامة كلمات وحروف القرآن من التحريف والتبديل عند النزول ، قال تعالى [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ]( ).
ويدل احتجاج الملائكة على جعل الإنسان في الأرض خليفة مع فساد شطر من الناس على تنزه الملائكة عن الفساد والرذائل والذنوب كبيرها وصغيرها ، لذا أثنوا على أنفسهم وقالوا [وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، وقد أمضى الله عز وجل لهم هذا الثناء وبيّن لهم أن علمه يفوق علمهم.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مطمئناً إلى أمانة جبرئيل ويخاطبه بأنه أمين الله عز وجل على وحيه .
وقد ورد (عن الأوزاعي قال : المعنى إنّ جبرئيل أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : يا جبرئيل صف ليّ النّار؟فقال : إنّ الله أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت ثمّ أوقد عليها ألف عام حتّى اصفرّت ثمّ أوقد عليها ألف عام حتّى اسودّت فهي سوداء مظلمة لا يضي لهيبها ولا جمرها،
والّذي بعثك بالحقّ لو أنّ ثوباً من ثياب أهل النّار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعاً ولو أنّ ذَنوَباً من سرابها صبّت في الأرض جميعاً لقتل من ذاقه .
ولو أنّ ذراعاً من السلسة التي ذكرها الله( )، وضع على جبال الأرض جميعاً لذابت وما استقلّت ولو إنّ رجلاً دخل النّار ثمّ أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه فبكى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبكى جبرئيل لبكائه .
وقال : أتبكي يا محمّد وقد غفر الله لك (ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر)( )، قال : أفلا أكون عبداً شكوراً،
ولم بكيت يا جبريل وأنت الروّح الأمين أمين الله على وحيه،
قال : أخاف أن أبتلي بما أبتلي هاروت وماروت. فهو الّذي منعني عن اتكالي على منزلتي عند ربّي فأكون قد آمنت مكره فلم يزالا يبكيان حتّى نوديا من السّماء أنً يا جبرئيل ويا محمّد إنّ الله قد أمنكما أن تعصياه فيعذبكما ففضّل محمّد على الأنبياء كفضل جبرائيل على ملائكة السّماء)( ).
السادس : حفظ القرآن في صدور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يغادره جبرئيل ساعة نزوله بآيات من القرآن إلا بعد حفظه لها ، وتثبته منها.
وهل كان لأسباب النزول موضوعية في حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للقرآن ، الجواب نعم ، لبيان قانون في منافع أسباب النزول والتدريج والتوالي في نزول القرآن ، وأن كثيراً منها لا تنزل إلا بلحاظ أسبابها وموضوعها ، قال تعالى [وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً]( ) .
(عن عبد الله بن عمرو قال : سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقلت : يا رسول الله هل تحس بالوحي ، فقال : أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تقبض) ( ).
لقد حفظ الله عز وجل طرق نزول القرآن حتى وصل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبلّغ به وأخبر المسلمين بالآيات والسور التي نزلت عليه وأمر كتّاب الوحي بكتابتها ، وحث المسلمين على تدوين آيات القرآن ، وهو من عمومات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ) .
التلاوة نهي يومي عن الإرهاب
من إعجاز القرآن حفظه بين المسلمين ، وحفظ المسلمين للقرآن ، ومن الإعجاز عدم إنحصار حفظه بالصدور والقراءة المستحبة ، بل تكون تلاوة القرآن خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني من أول أيام نزوله وإلى يوم القيامة.
فمن الإعجاز في حفظ القرآن أن الآية حالما تنزل للمؤمنين تتلى في الصلاة لبيان قانون وهو إنشغال المسلمين بالعبادة والنسك ، وإمتناعهم عن الغزو والهجوم ، قال تعالى [قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] ( ).
وهل لعلم التفسير والـتأويل موضوعية في حفظ القرآن ، الجواب نعم ، ولا يختص هذا التفسير بالكتب والمجلدات الخاصة به ، بل يشمل كلاً من:
الأول : حديث المنابر .
الثاني : مجالس الذكر والوعظ (عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن الله عز وجل يقول لملائكته عند انصراف أهل مجالس الذكر والعلم إلى منازلهم: اكتبوا ثواب ما شاهدتموه من أعمالهم فيكتبون لكل واحد ثواب عمله، ويتركون بعض من حضر معهم فلا يكتبونه،
فيقول الله عز وجل: ما لكم لم تكتبوا فلانا أليس كان معهم ، وقد شهدهم فيقولون: يا رب إنه لم يشرك معهم بحرف ولا تكلم معهم بكلمة فيقول الجليل جل جلاله: أليس كان جليسهم.
فيقولون: بلى يا رب فيقول: اكتبوه، معهم إنهم قوم لا يشقى بهم جليسهم فيكتبونه معهم فيقول تعالى: اكتبوا له ثوابا مثل ثواب أحدهم)( ).
الثالث : ذكر آيات الأحكام ودلالتها ومعانيها والعمل بها وموافقة عمل المسلمين للنص القرآني وصيغ الأوامر والنواهي فيه سواء في العبادات أو المعاملات .
ومن إعجاز القرآن البيان والوضوح في مضامينه وأوامره ونواهيه التي تتضمن الرحمة والحث على الصبر والإحسان والشفقة والدعوة إلى الصلح , ودفع أسباب الكدورة والخصومة , ومنع مقدمات القتال والحرب .
الثامن : تدارس ومعارضة جبرئيل القرآن مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل سنة.
التاسع : تلاوة المسلمين لآيات وسور القرآن في الصلاة وعلى نحو يومي متجدد ، ومن الإعجاز في فلسفة ودلالة الصلاة ، وأن القراءة فيها على قسمين :
الأول : القراءة الواجبة وهي سورة الفاتحة في كل ركعة ، ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) إجماع المسلمين على وجوب قراءتها في الصلاة ، وقيام كل واحد منهم بقراءتها ، وكل جيل وطبقة تورثها تركة للتي من بعدها .
ويسر المسلم إذا تعلم ابنه سورة الفاتحة ، وهي من أوليات التعلم في المدارس ، وعلّم عبد الرحمن السلمي ولداً للحسين عليه السلام سورة الفاتحة ، فلما قرأها على أبيه بالغ في إكرام عبد الرحمن السلمي .
(فقيل له في ذلك فقال: وأين يقع هذا من عطائه يعني تعليمه وأنشد الحسين عليه السلام: إذا جادت الدنيا عليك فجد بها على الناس طرا قبل أن تتفلت فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ولا البخل يبقيها إذا ما تولت( ).
ولموضوعية سورة الفاتحة في الحياة اليومية للمسلمين سيأتي في الجزء الخامس والثمانون بعد المائة قانون (الفاتحة تزيح الإرهاب ) .
الثاني : القراءة الإختيارية ، إذ يتخير المسلم في الركعتين الأولين من الصلاة في القراءة بين سور القرآن، وفيه تنمية لملكة الحفظ عند المسلم والمسلمة ، وزيادة في حب القرآن والتدبر في معانيه ودلالاته ، وتجديد العهد في حفظه وسلامته في المشرق والمغرب من التحريف , ورشحات الإرهاب فعلا ومقابلة .
لقد أراد الله عز وجل بتلاوة المسلمين اليومية للقرآن حفظه من التبديل والتغيير ، وحفظ المسلمين والمسلمات من الإرهاب والميل إليه ، إذ يتلون كل يوم آيات الرحمة والمغفرة والآيات التي تأمر بالصبر ، وتؤكد عظيم ثوابه , والآيات التي تدعو إلى إجتناب البطش والعصبية والجاهلية.
والآيات التي تبين سوء عاقبة المكذبين الذين اختاروا القتال واتخذوه بلغة لغايات خبيثة ومآرب قبيحة كيف انتقم الله عز وجل منهم ، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ] ( ) .
ولم يفارق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا إلا وعمل بالقرآن ، وقام بالإمتثال لما فيه من الأوامر ، واجتنب ما نهى عنه ، وكانت سنته القولية والفعلية المرآة المباركة لآيات القرآن ، وهو من مصاديق قوله صلى الله عليه وآله وسلم (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) ( ).
وعملُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن ودعوته اليومية المتجددة للمسلمين للعمل به حرز من الإرهاب ، وحجة في المقام بلزوم نبذ القتل العشوائي وسفك الدماء والإغتيالات .
و(عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرفات المنازل وأنه لضعيف العبادة وأنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل درجة في جهنم) ( ).
وفي تعاهد المسلمين والمسلمات لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عداوة مع الإرهاب وطرد له من المجتمعات لعدم إجتماع الضدين إذ أن السنة النبوية منبع للأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة، وفيه دعوة لعموم الناس لإجتناب الإضرار بهم.
عتبة بن ربيعة بين الفجار وبدر
من كبار قريش الذين كانوا حاضرين بدراً عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، وهو سيد بني شمس ، وكان أهل مكة يكرمون عتبة فجاءه حكيم بن حزام يوم بدر وقال له بصيغة المناشدة ، يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها المطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر .
قال: وما ذلك يا حكيم.
قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو ابن الحضرمي( ).
وعتبة هو الذي صار سبباً بايقاف حرب الفجار والتي استمرت نحو عشر سنين (43-33) ق.هــ في معارك متقطعة بين قبيلة كنانة ومنها قريش ، وقبائل قيس عيلان ومنهم هوازن وثقيف ، ومن أيامها :
الأول : يوم نخلة .
الثاني : يوم شمطة .
الثالث : يوم البلاء .
الرابع : يوم الشرب .
الخامس : يوم الخريرة .
وسميت حرب الفجار لما استحله الطرفان من المحارم بالقتال في الأشهر الحرم ، وقطع الأرحام ، وبعد يوم الحريرة تواعد الفريقان في العام التالي في عكاظ للقتال ، وحضروا جميعاً بالموعد.
ترى أين المصلحين وأهل الرشاد يوم بدر , لماذا لم يمشوا بين الطرفين ، وذات الأمر وضرب الموعد حصل عند انقضاء معركة أحد ، إذ عيّن أبو سفيان اللقاء في العام التالي في بدر ، ولكنهم لم يأتوا لعمومات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
أما في المواعدة في حرب الفجار فالأمر مختلف فقد حضرت قبائل قيس عيلان الى عكاظ في الموعد وأقاموا يومين ولم يروا أثراً لقريش وفرحوا وظنوا أن قريشاً جبنوا وخافوا وتخلفوا عن الموعد ، ولو تخلفوا لكان خيراً للفريقين لأن قتال كل من الطرفين على الجاهلية وهو من الفساد في الأرض وسفك الدماء الذي ورد في احتجاج الملائكة كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
وفي اليوم الثاني وعندما لم تأت قريش قال سبيع بن ربيعة النصري: يا معشر قريش، ما كان مسيركم إلى قريش بشيء، قالوا: ولم، قال: لا ترون لهم جمعاً العام.
قال أبو براء فما تكره من ذلك ، تقوم سوقنا وننصرف والغلبة لنا.
قال رجل من بني أسد بن خزيمة يسمع كلامه: بلى والله لتوافين كنانة ولا تتخلف ولا ترى غير ذلك، فتقاولا حتى تراهنا مائة بعير لمائة بعير فتواثقا على ذلك، فلم يتفرقوا من مجلسهم حتى أوفى موف فقال: قد طلع من مكة الدهم وجاءت الكتائب يتلو بعضها بعضاً، فقام الأسدي مسروراً وهو يرتجز:
( يا قوم قد وافى عكاظ الموسم … تسعون ألفاً كلهم ملأم( ).
ثم اشتد القتال بين الفريقين يومئذ ، وكانت الحرب بينهم سجالاً وكثر عدد القتلى من الفريقين حتى أن شيخاً من بني نصر صاح يا معشر بني كنانة : أسرفتم في القتل.
فأجابه عبد الله بن جدعان : انا معشر سرف, أي يتباهى بكثرة القتل وهو نوع إرهاب من المشركين .
وفي منتصف النهار ، وقف عتبة بن ربيعة وهو شاب صغير وخاطب قومه : علام تقتلون أنفسكم ، أي أن الفريقين أبناء عم وأخوة ، فتعجبوا من كلامه وجرأته وكان رؤساء قريش حاضرين ، خاصة وأن كلامه لا يجانب الصواب ، ثم أرسل عتبة إلى قيس وهم الخصم وسألهم : آتيكم فاكلمكم ، قالوا : نعم .
وقيل أنه وقف بين الفريقين , ونادى بالصلح فلم تكره قيس طلب عتبة خاصة وأن الدبرة كانت عليهم آخر النهار ، أي أن عتبة سعى في الصلح والتفاوض من منزلة الأقوى , ليكون الخصم أكثر استعداداً وقبولاً للصلح .
فاستمع رؤساء قيس من عتبة , ووعظهم ، وسألهم إيقاف القتال والإنصراف , وذكر لهم مسائل :
الأولى : يؤول الإنصراف الى الأحسن ، فليس هناك أقبح من القتال ، فاذا تفرق الفريقان فذات التفرق حسن ذاتاً وأثراً .
الثانية : قد يؤدي وقف القتال الى الصلح والسلم .
الثالثة : ذكّرهم عتبة بأنهم في شهر حرام ، ولا يجوز فيه القتال ، وقد سالت الدماء , وقال : فكفوا عن القتال وتفرقوا .
الرابعة : أخبرهم عتبة بأنهم أضروا بأسواق مكة ، وعطلوا التجارات فيها ، وأضرت قيس بنفسها ، فلم تقم سوق عكاظ .
الخامسة : ذكر عتبة بما معناه تعطيل الأسواق سبب لقطع الموارد ، وأسباب المعاشرة ، فكيف يستمر بالقتال من ليس عنده مدد ، إذ قال لهم لهم عتبة (عورتم متجركم وانقطعت موادكم) ( ) ,
لينزل القرآن بالضد مع الإرهاب الذي من خصائصه تعطيل الأسواق وبوار التجارات .
وهل كان عتبة يقصد خصوص أسواق وتجارة قبائل قيس أم يريد أيضاً تجارة خصومهم في الميدان قريشاً أيضاً ، الجواب هو الثاني لذا جمعهم بكلمة واحدة .
(عورتم متجركم) للتذكير بأن مصالحهم واحدة ، وأن الحرب تضرهما معاً ، وأنهم أبناء عمومة .
السادسة : وقال عتبة : وخاف من قاربكم ، أي أصبح الناس ينفرون منكم ، ويتجنبون مبايعتكم والإختلاط بكم ، لأن الدخول في حرب مستديمة سبب لإبتعاد الناس عن المتحاربين خشية تلقي الأضرار من ذات الحرب ، قال تعالى [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً]( ).
فلما سمعت قبائل قيس كلمة عتبة ، قالوا : (لا ننصرف أبداً ونحن موتورون ولو متنا عن آخرنا) ( ) .
أي أن الإنصراف يحمل صبغة الهزيمة والإنكسار بعد كثرة القتلى فاجابهم عتبة : فالقوم قد وتروا )، أي أنه لم يقل قد وترنا لأنه كان في مقام الوساطة والصلح .
ثم قال لهم : وقد قتل منهم مثلما قتل منكم ، وإن أصابتكم جراحات فقد أصابت قريش وكنانة الجراحات ، ليبعثهم على الإنصراف ويبين لهم أنه ليس هزيمة ، للتكافؤ في الخسائر .
فاجابت قيس عيلان : قتلانا أكثر من قتلى قريش وكنانة ، عندئذ تجلت مسألة وهي أن قيس يرضون بالصلح مع التسوية فبادر عتبة الى القول ، فاني أدعوكم إلى خطة هي لكم صلاح ونصفة.
قالوا : وما هي ، وإشرأبت الأعناق , وفتحت الأذان لسماع خطة السلم هذه التي قد تبدل الحال الى الأحسن .
قال عتبة : عدوا القتلى فان كان لكم الفضل وَدّينا فضلكم ، وإن كان لهم وديتهم فضلهم.
ويبين كلام عتبة أعلاه أنه تكلم مرة بصيغة جماعة المتكلم في(ودينا فضلكم) وبصيغة الجمع الغائب (وديتهم فضلهم) لبيان تعهده بدفع الديات إن كانت على قريش ، وكأنه يعد القوم نيابة عن قريش وعموم كنانة .
أما إذا كانت الديات لقريش وكنانة فهو لا يريد منها شيئاً.
عندئد قال أبو براء وهو من رؤساء قبائل قيس : ( لا يرد هذه الخطة أحد إلا أخذ شراً منها) ( ).
أي أن عدم الموافقة عليها يجلب الأذى والشر والمزيد من سفك الدماء ، فاظهر رؤساء قيس الرضا والموافقة على الخطة , ومنهم أبو البراء وسبيع بن ربيعة .
فاستوثق منهم عتبة بن ربيعة خشية أن ترضى قريش وكنانة وتعود قيس للرفض أو الغدر.
ثم استدار عتبة وتوجه إلى قومه وذكر لهم خطته في الصلح وعرضها على حرب بن أمية وعبد الله بن جدعان وغيرهما من رؤساء قريش ووافقوا عليها , فتحاجز الفريقان وامتنعوا عن المناوشة ورمي السهام , وقاموا بعّد القتلى من الطرفين .
فوجدوا أن قتلى قيس أكثر بعشرين رجلاً فلزم قريش وعموم كنانة دفع ديتهم , فأرادت قبائل قيس التوثيق والرهن حتى تدفع ديات القتلى , ومجموعها ألفا بعير بلحاظ أن دية كل واحد منهم مائة من الإبل فدفع بعض كبار قريش أبناءهم رهائن وهم :
الأول : دفع حرب بن أمية ابنه أبا سفيان رهينة .
الثاني : دفع الحارث بن علقمة ابنه النضر بن الحارث .
الثالث : دفع سفيان بن عويف ابنه الحارث.
وانتهت الحرب وتفرق الناس , وهم يقولون حجز الناس عتبة بن ربيعة , وتعاهدوا على أن لا يؤذي بعضهم بعضاً وترافدت قريش في جمع الديات , وبعثوا بها إلى قيس واستردوا أولادهم الرهائن.
(وعن حكيم بن حزام قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه بالفجار وقد حضرته مع عمومتي ورميت فيه بأسهم وما احب أني لم أكن فعلت، وكان يوم حضر صلى الله عليه ابن عشرين سنة ، وكان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة)( ).
لقد كانت قريش في كل وقت بحاجة إلى الصلح , والتخلص من حال الحرب بينها وبين غيرها لتجوب قوافل قريش الصحراء , فمع العداوة والثأر ونحوه تتعرض قوافل قريش للسلب والنهب , كما كانت قريش تحتاج وفود الناس إلى مكة لأداء الحج والعمرة وعمارة البيت الحرام , وابرزها أسواق مكة , وإنعاش تجارة قريش , فتراهم حتى إذا دخلوا حرباً فانهم يجعلونها سريعة ويميلون إلى الصلح , ولو بدفع الديات التي سرعان ما تستوفي قريش بمقدارها من قوافل التجارة والكسب، قال تعالى [ِلإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ).
وتسعى قريش بعد الصلح في إزالة أسباب الكدورة والأحقاد فقدم أبو براء بعدها إلى مكة معتمراً والتقى عبد الله بن جدعان , وجلسا وتبادلا الحديث واستحضروا ذكريات ووقائع المعركة.
ولكن حرب المشركين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم تنته بالصلح فلم يتقدم عتبة بن ربيعة ويسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ماذا يريدون , مثلما تقدم في حرب الفجار إنما تقدم هو وابنه وأخوه وهم يريدون المبارزة وعندما تقدم لهم ثلاثة من شباب الأنصار لم يرضوا بمبارزتهم إنما أصروا على أن يخرج إليهم أكفاؤهم من قريش , وفي رواية من بني هاشم على نحو الخصوص .
قانون شيوع أخبار النبوة نبذ للإرهاب
من الإعجاز في نبوة محمد أمور :
الأول : صيرورة أخبار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حديث الناس في منتدياتهم وأسواقهم .
الثاني : دخول أنباء نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم البيوت ، فليس من أهل بيت إلا ويستعرضون أخبارها ، وهو من أسرار نزول القرآن على نحو التدريج والنجوم .
ففي كل يوم تنزل آية أو آيات من القرآن ليتدبر الناس في ألفاظها ونظمها ومعانيها ودلالاتها ، وما فيها من البشارة والإنذار ، إذ يدرك الناس قانوناً وهو أن كل آية من القرآن تستحق التحقيق وتبعث على استقراء المسائل منها .
الثالث : تبعث آيات القرآن الشوق في النفوس لتلاوتها والإنصات لها , قال تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا]( ).
الرابع : وجود أفراد مسلمين داخل أسر مكة إذ يقومون بالتبليغ ونقل مسائل وأخبار السنة القولية والفعلية .
ومن إعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الناس كانوا يدخلون الإسلام تباعاً ليكون من منافع التباحث في شؤون وأخبار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم توالي دخول الناس الإسلام ، واستهجان ما تقوم به قريش من محاربته وإيذاء أصحابه، قال تعالى [اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ]( ).
لقد صار أهل مكة وغيرهم يعتنون بأخبار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأظهروا الحرص على متابعتها من جهات :
الأولى : ذكر معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية .
الثانية : نزول آيات القرآن والتدبر في معانيها , إذ إنشغل الناس بهذه الآيات وانصرفوا عن الإهتمام الفائق بالشعر .
وهل هذا الإنشغال معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الجواب نعم , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا] ( ).
لبيان قانون وهو أن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم توليدية , فكل معجزة تتولد وتتفرع عنها معجزات متعددة , الأمر الذي يستلزم دراسة كل معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهة ما يتفرع عنها من دلالات النبوة , وفيوضات الرسالة .
الثالثة : أحكام الشريعة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والانبياء السابقون من الدلائل الخاصة بعلامات وشرائط النبوة .
الرابعة : متابعة الناس لأخبار شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أسرار صيرورتها فرع الوحي , قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
لقد أحب الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم واختاره للرسالة وجعل الناس يتناقلون ما يقوله وما يفعله , وهو من مصاديق [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا] ( ).
وهل كان هذا التناقل يغيظ الكفار ، الجواب نعم , ويورث في نفوسهم الحسد والحزن ليتجهوا للمكر والإرهاب ، بينما الأصل هو التفكر والتدبر بهذه المعجزات.
لقد جعل الله عز وجل انتشار أخبار النبوة ودخولها لكل بيت باعثاً للنفرة من الإرهاب من وجوه :
الأول : التنافي والتضاد بين النبوة والإرهاب .
الثاني : إفادة أخبار النبوة معاني الرحمة ، والصلاح .
الثالث : تحقق الغايات الحميدة في هداية الناس من غير حاجة إلى الإرهاب والغزو .
الرابع : مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآيات الإنذار والوعيد للذين كفروا إذ يجعلهم الله في الدنيا ليكون لهم في الآخرة عذاب أليم ، قال تعالى [وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً * إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا]( ).
الخامس : يتناقل الناس أيام البعثة النبوية آيات القرآن ، وهي خالية من الإرهاب والترهيب إلا من الله عز وجل.
كتائب النبي (ص) منع متجدد من الإرهاب
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أصحابه يخرجون بكتائب وسرايا من المدينة وهي على قسمين :
القسم الأول : الكتائب التي يخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي إبتدأت بكتيبة الأبواء في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة ، وتسمى غزوة الأبواء ، وكان معه ستون من الصحابة ، ولم يلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها قتالاً ، وعقد ميثاق أمان مع مخشي بن عمرو الضمري ،وهو سيد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة في أيامه( )، وكانت بنود المصالحة هي :
أولاً : لا يقوم بني ضمرة بغزو المدينة .
ثانياً : لا يكثر بنو ضمرة على النبي جمعاً .
ثالثاً : إمتناع بني ضمرة عن إعانة عدو للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين( ).
ولم يتضمن هذا الصلح والموادعة شرطاً بعدم غزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لبني ضمرة للوثوق والإطمئنان بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لا يغزون أحداً.
وشهر صفر هو الشهر الثاني من السنة القمرية بعد شهر محرم أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج مع أصحابه من المدينة قبل معركة بدر بسبعة شهور ، وخرجوا مرات أخرى متعاقبة , ولم يقم بالإستيلاء على أي قافلة لقريش أو غيرهم ، مع أن قوافل قريش كانت تجوب الصحراء وفي طرق متعددة :
أولاً : الطريق بين مكة والشام .
ثانياً : طريق العودة من الشام إلى مكة ، فقد لا ترجع القوافل بذات الطريق التي سارت عليه في رحلتها إلى الشام .
ثالثاً : الطريق بين مكة والمدينة .
رابعاً : الطريق بين مكة والطائف .
خامساً : سير القوافل بين مكة واليمن .
سادساً : طريق عودة القوافل ، ومجئ المعتمرين والحجاج من اليمن إلى مكة .
ولم يتعرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقوافل والركبان .
ولتستبين لهم أحكام الإسلام ، فقد كانت حملة التشويه والإفتراء التي يقوم بها المشركون شديدة إذ نعتوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنه ساحر وأنه مجنون ، وتطاولوا على القرآن ، [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] ( ).
(عن السدي قال : كان النضر بن الحارث يختلف إلى الحيرة فيسمع سجع أهلها وكلامهم ، فلما قدم إلى مكة سمع كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن فقال قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ، إن هذا إلا أساطير الأولين .
ولم يرد لفظ (لقلنا) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
القسم الثاني : سرايا الصحابة التي يبعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حول المدينة ومن مهامها :
الأولى : الطواف حول المدينة المنورة .
الثانية : إعطاء رسالة لكفار قريش بلزوم الإنزجار عن غزو المدينة ، وفي هذه الرسالة حرب على الإرهاب واستئصال له .
وهل تدعو هذه السرايا قريشاً للصلح والموادعة ، الجواب نعم ، وهناك تناف وتباين بين الصلح وبين الإرهاب .
الثالثة : بيان طاعة الصحابة لله والرسول ، إذ أنهم لا يخرجون إلا بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أنهم يتقيدون بأوامره مدة غياب السرية عن المدينة .
ومن تلك الأوامر إجتناب الغزو ، وعدم الإبتداء بالقتال ، فمثلاً عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة لواء لحمزة بن عبد المطلب، وخرج معه ثلاثون كلهم من المهاجرين ، ولقى أبا جهل في ثلاثمائة رجل من قريش ، واصطحب الفريقان ، ومشى بينهم مجدي بن عمرو ، فلم يقع بينهم قتال( ).
وقيل أن الغاية من السرية اعتراض عير وقافلة لقريش ، ولم يثبت هذا القصد ، وقد لاقوا القافلة ولم يأخذوا منها شيئاً ولم يقاتلوهم ، ثم أن عدد رجال القافلة كان عشرة أضعاف عدد المسلمين ، وليس من صالح المسلمين أن يقع قتال في بدايات الهجرة ويسقط الشهداء من المهاجرين ، وسواء قبل الهجرة أو في بداياتها أو بعد مرور سنوات عليها فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتجنب القتال ، ولا يرضى به ، لبيان تنزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن مقدمات القتال وعن الإرهاب .
الرابعة : قيام الصحابة بالتبليغ بآيات القرآن وأحكام الشريعة .
الخامسة : أداء أفراد السرية الصلاة في الفلوات ، وبالقرب من القبائل ومن بيوت الأعراب .
ترى هل هناك مقاصد سامية لخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الكتائب , الجواب نعم ، ومنها :
الأولى : الدعوة السلمية إلى الإسلام بأن يرى الناس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكثرة أصحابه ، وهي أمارة على صدق نبوته .
الثانية : سماع الناس القرآن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أصحابه ، لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة يتصل بالأفراد يدعوهم إلى الله ، ويأتي إلى منازل القبائل في موسم الحج في منى يدعوهم إلى الإسلام وإلى إيوائه ويعرض عليهم شريعته ويتلو عليهم آيات من القرآن ثم يسألهم أن يكتموا أمره ، كما كان رجال قريش يتبعونه ويحذرون الناس منه .
(محمد بن المنكدر انه سمع ربيعة بن عباد أو عباد الدؤلى يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوف على الناس في منازلهم قبل ان يهاجر إلى المدينة يقول يأيها الناس ان الله يأمركم ان تعبدوه ولا تشركوا به شيئا قال ووراءه رجل يقول يأيها الناس
إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم فسألت من هذا الرجل فقيل أبو لهب) ( ).
ولما هاجر الى المدينة صار يتلو على الناس القرآن بعيداً عن إيذاء وإفتراء قريش ، لبيان مسألة وهي أن الهجرة وتلاوة القرآن برزخ دون مواصلة قريش إرهابهم.
الثالثة : لقد عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبوته في موسم الحج ولنحو عشر سنوات على قبيلة كندة وكلب بن عامر بن صعصعة وفزارة وغسان ، وعبس ، وبنو النضر وكندة وكلب وعذرة وسليم والحضارمة .
وكان النبي يطوف في أسواق موسو الحج مثل سوق عكاظ ومجنة وذي المجاز ليس للبيع والشراء , إنما للدعوة إلى الله لبيان التباين بينه وبين تجار قريش .
وكانت الردود التي يجيبون بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم متباينة ، وتتضمن أكثرها الأذى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه يتلقاها بصبر ، وقال له رجل من بني عامر بن صعصعة : أرايت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظفرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟
فقال : الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء ، لينزل فيما بعد قوله تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ] ( ).
ومن الإعجاز نزول هذه الآية بخصوص معركة أحد ليكون خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب مناسبة لعرض نفسه على القبائل ، وهذا العرض أعم مما كان في مكة فذات النداء الذي كان ينادي فيه في موسم الحج (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)( )، ينادي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وفي الكتائب ويتلو القرآن على الناس ويبين لهم أحكام الشريعة ، ويريهم بعض المعجزات التي تدل على صدق نبوته .
وكذا بالنسبة لسرايا أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهم رسل دعوته الى الناس .
وفي قوله تعالى [إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ]( )، ورد عن قتادة قال : بلغني أن عيسى بن مريم بعث إلى أهل القرية وهي انطاكية رجلين من الحواريين ، واتبعهم بثالث .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية رضي الله عنه في قوله[إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ]( )، قال : لكي تكون عليهم الحجة أشد ، فأتوا أهل القرية ، فدعوهم إلى الله وحده وعبادته لا شريك له ، فكذبوهم( ).
لبيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إذ يخرج أصحابه في السرايا وعددهم بالعشرات وأحياناً بالمئات وهم يجوبون الصحراء يدعون الناس الى الإسلام من غير إرهاب أو ترهيب إلا من الله عز وجل.
الرابعة : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يسمع بقدوم قادم أو وافد ذي شأن وشرف إلى مكة إلا وذهب إليه أو تصدى له وعرض عليه الإسلام ، ودعاه إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام ، وتلى عليه عدداً من آيات القرآن , لبيان قانون وهو أن الإسلام لم يبن على الإرهاب .
دعوة النبي لسويد بن الصامت
قدم سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجاً أو متعمراً فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعاه إلى الإسلام .
(وَكَانَ سُوَيْدُ إنّمَا يُسَمّيهِ قَوْمُهُ فِيهِمْ الْكَامِلَ ، لِجَلَدِهِ وَشِعْرِهِ وَشَرَفِهِ وَنَسَبِهِ وَهُوَ الّذِي يَقُولُ
أَلَا رُبّ مَنْ تَدْعُو صَدِيقًا وَلَوْ تَرَى … مَقَالَتَهُ بِالْغَيْبِ سَاءَك مَا يَفْرِي
مَقَالَتُهُ كَالشّهْدِ مَا كَانَ شَاهِدًا … وَبِالْغَيْبِ مَأْثُورٌ عَلَى ثُغْرَةِ النّحْر
يَسُرّك بَادِيهِ وَتَحْتَ أَدِيَمِهِ … نَمِيمَةُ غِشّ تَبْتَرِي عَقَبَ الظّهْرِ
تُبِينُ لَك الْعَيْنَانِ مَا هُوَ كَاتِمٌ … مِنْ الْغِلّ وَالْبَغْضَاءِ بِالنّظَرِ الشّزْرِ
فَرِشْنِي بِخَيْرٍ طَالَمَا قَدْ بَرَيْتنِي … فَخَيْرُ الْمَوَالِي مَنْ يَرِيشُ وَلَا يَبْرِي
وَهُوَ الّذِي يَقُولُ وَنَافَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ ثُمّ أَحَدَ بَنِي زِعْبِ بْنِ مَالِكٍ مِئَةَ نَاقَةٍ إلَى كَاهِنَةٍ مِنْ كُهّانِ الْعَرَبِ ، فَقَضَتْ لَهُ . فَانْصَرَفَ عَنْهَا هُوَ وَالسّلَمِيّ ، لَيْسَ مَعَهُمَا غَيْرُهَا.
فَلَمّا فَرّقَتْ بَيْنَهُمَا الطّرِيقُ قَالَ مَالِي ، يَا أَخَا بَنِي سُلَيْمٍ قَالَ أَبْعَثُ إلَيْك بِهِ .
قَالَ فَمَنْ لِي بِذَلِكَ إذَا فُتّنِي بِهِ.
قَالَ أَنَا ؛ قَالَ كَلّا ، وَاَلّذِي نَفْسُ سُوَيْدٍ بِيَدِهِ لَا تُفَارِقَنّي حَتّى أُوتَى بِمَالِي.
فَاِتّخَذَا فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ ثُمّ أَوْثَقَهُ رِبَاطًا ، ثُمّ انْطَلَقَ بِهِ إلَى دَارِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتّى بَعَثَتْ إلَيْهِ سُلَيْمٌ بِاَلّذِي لَهُ فَقَالَ فِي ذَلِكَ.
لَا تَحْسَبَنّي يَا بْنَ زِعْبِ بْنِ مَالِكٍ … كَمَنْ كُنْتَ تُرْدِي بِالْغُيُوبِ وَتَخْتِلُ
تَحَوّلْت قِرْنًا إذْ صُرِعْتَ بِعِزّةٍ … كَذَلِكَ إِنّ الْحَازِمَ الْمُتَحَوّلُ
ضَرَبْتُ بِهِ إِبْطَ الشّمَالِ فَلَمْ يَزَلْ … عَلَى كُلّ حَال خَدّه هُوَ أَسْفَلُ
فِي أَشْعَارٍ كَثِيرَةٍ كَانَ يَقُولُهَا) ( ).
وعندما سمع سويد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما دعاه إليه ، قال له : لعل الذي معك مثل الذي معي ، ولم يغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقل له أني خاتم الأنبياء ، وليس بين عيسى عليه السلام وبيني نبي أو رسول إنما قال له :
وما الذي معك.
قال : مجلة لقمان أي حكمة لقمان .
ولم يسخر من قوله ، أو يبين التباين بين الوحي وما عند سويد من إرث الأنبياء والأولياء.
إنما قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اعرضها علي فعرضها عليه .
فاستحسن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما سمعه لأنه من سنن التوحيد وقال (إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا)( ).
ولم يقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند هذا الكلام بل أردف : قرآن أنزله الله عليّ ، هو هدى ونور ، لبيان التباين النوعي بين ما عند سويد من كتب الأنبياء والأولياء السابقين ، وبين نزول آيات وسور قرآنية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تنزل على من سبقه من الأنبياء ، ولم يكن عند الأولياء .
ثم تلا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات من القرآن على سويد ، ودعاه الى الإسلام لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجتهد في دعوة الشخص الواحد الى الإسلام ، لينعم الله عليه بعد بضع سنوات فيدخل الناس الإسلام أفواجاَ ، وحينما سمع سويد القرآن أدرك أنه لم يسمع مثله ، وأنه غير الذي عنده ويفوقه بمراتب .
وأنصت سويد لتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن وقال : هذا كلام حسن ، ولم يبعد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يظهر الجفاء معه ، ثم انصرف عنه ، فقدم الى المدينة ، فلم يلبث أن قتله الخزرج ، وقيل (فَإِنّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ لَيَقُولُونَ إنّا لَنَرَاهُ قَدْ قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ . وَكَانَ قَتْلُهُ قَبْلَ يَوْمِ بُعَاثٍ)( ).
وصحيح أن سويد بن صامت من بني النجار من الخزرج من أهل المدينة إلا أن أمه ( أيلي بنت عمرو بن زيد بن أشد بن خداش من بني عدي النجاري وهي خالة عبد المطلب بن هاشم وكان محمد بن المنذر يعدل، بكثير من أعمامه ، أعيان بني الزبير مروءة وشجاعة ولسانا وجلدا)( ).
وعن ابن شهاب قال : بعث عبد المطلب ابنه عبد الله يمتار تمراً من يثرب فمات بها وكانت وفاته وهو شاب عند أخواله بنى النجار بالمدينة ولم يكن له ولد غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتوفيت أمه آمنة بالأبواء بين مكة والمدينة وهو ابن ست سنين , وقيل ابن سبع سنين.
وقال محمد بن حبيب في كتاب المحبر توفيت أمه صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان سنين قال توفي جده عبد المطلب بعد ذلك بسنة وأحد عشر شهراً سنة تسع من أول عام الفيل وقيل إنه توفي جده عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين وقيل بل توفي جده وهو ابن ثلاث سنين فأوصى به إلى أبي طالب فصار في حجر عنه أبي طالب حتى بلغ خمس عشرة سنة .
وكان أبو طالب يحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم انفرد بنفسه وكان مائلاً إلى عمه أبي طالب لوجاهته في بني هاشم وسنه وكان مع ذلك شقيق أبيه وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع عمه في تجارة إلى الشام سنة ثلاث عشرة من عام الفيل فرآه بحيرا الراهب فقال احتفظوا به فإنه نبي ، وشهد بعد ذلك بثمان سنين يوم الفجار وذلك سنة إحدى وعشرين وخرج إلى الشام في تجارة لخديجة بنت خويلد فرآه نسطور الراهب وقد أظلته غمامة فقال هذا نبي وذلك سنة خمس وعشرين( ).
وذكر أن سويد بن الصامت قتل يوم بُعاث ، وذكر ابن سعد (أن قتله هو الذي هيج وقعة بعاث)( )، والذي قتل سويد بن صامت هو المجذر بن زياد ، وهو بدري ، التقى يوم بدر مع أبي البختري واسمه العاص بن هشام من جيش كفار قريش ، فقال له المجذر إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهانا عن قتلك ، لأنه كان لا يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة وكان مع أبي البختري زميل له قد خرج معه في مكة وهو جنادة بن مليحة .
فتلقى أبو البختري نبأ منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قتله بالقبول ، وعلم بقانون وهو أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطيعونه ، ويتقيدون بأوامره حتى في ساحة الوغى ، ولكنه قال : وزميلي ، أي أريد الأمان لزميلي مثلما هو لي .
(فَقَالَ لَهُ الْمُجَذّرُ لَا وَاَللّهِ مَا نَحْنُ بِتَارِكِي زَمِيلِك ، مَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلّا بِك وَحْدَك ، فَقَالَ لَا وَاَللّهِ إذَنْ لَأَمُوتَن أَنَا وَهُوَ جَمِيعًا ، لَا تَتَحَدّثُ عَنّي نِسَاءُ مَكّةَ أَنّي تَرَكْت زَمِيلِي حِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ .
فَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيّ حِينَ نَازَلَهُ الْمُجَذّرُ وَأَبَى إلّا الْقِتَالَ يَرْتَجِزُ
لَنْ يُسْلِمَ ابْنُ حُرّةَ زَمِيلَهُ … حَتّى يَمُوتَ أَوْ يَرَى سَبِيلَهُ
فَاقْتَتَلَا ، فَقَتَلَهُ الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ . وَقَالَ الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ فِي قَتْلِهِ أَبَا الْبَخْتَرِيّ
إمّا جَهِلْتَ أَوْ نَسِيتَ نَسَبِي … فَأَثْبِتْ النّسْبَةَ أَنّي مَنْ بَلِيَ
الطّاعِنِينَ بِرِمَاحِ الْيَزْنِيّ … وَالضّارِبِينَ الْكَبْشَ حَتّى يَنْحَنِيَ
بَشّرْ بِيُتْمِ مَنْ أَبُوهُ الْبَخْتَرِيّ … أَوْ بَشّرْنَ بِمِثْلِهَا مِنّي بَنِي
أَنَا الّذِي يُقَالُ أَصْلِي مَنْ بَلِيَ … أَطْعَنُ بِالصّعْدَةِ حَتّى تَنْثَنِيَ
وَأَعْبِطْ الْقِرْنَ بِعَضْبِ مَشْرَفِيّ … أُرْزِمُ لِلْمَوْتِ كَإِرْزَامِ الْمَرِيّ
فَلَا تَرَى مُجَذّرًا يَفْرِي فَرِيّ) ( ) .
فقتله المجذر ،وأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( فقال له المجذر : والذي بعثك بالحق، لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به، فأبى إلا أن يقاتلني، فقاتلته فقتلته)( ).
واسم المجذر عبد الله بن عمرو بن زمرمة ، وقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين عاقل بن أبي البكير .
وبقي الحارث بن سويد بن صامت يتحين الفرص للثأر من المجذر بن زياد ، ويطلب غفلة أو غرة للإنقضاض عليه ، فلما زحف المشركون وأطلوا على المدينة في معركة أحد ، خرج كل من المجذر والحارث بن سويد ، ولم يرجع أي واحد منهما مع المنافقين من وسط الطريق وعندما اشتد القتال ، وترك الرماة مواضعهم التي جعلهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت خيل المشركين من خلف المسلمين ، كان المجذر ممن يقاتل العدو ببسالة ، فأتاه الحارث بن سويد من خلفه فضربه بالسيف وقطع عنقه ليظن الناس أن المشركين هم الذي قتلوه فيمن قتلوا من الشهداء .
وكان جبرئيل مع خمسة آلاف من الملائكة حاضرين في ميدان المعركة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ( فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره أن الحارث بن سويد قتل المجذر بن زياد غيلة وأمره أن يقتله به. فقتل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الحارث بن سويد بالمجذر بن ذياد. وكان الذي ضرب عنقه بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عويم بن ساعدة على باب مسجد قباء. وللمجذر بن ذياد عقب بالمدينة وبغداد.
أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني اليمان بن معن عن أبي وجزة قال: دفن ثلاثة نفر ممن قتل يوم أحد في قبر واحد: المجذر بن ذياد والنعمان بن مالك وعبدة بن الحسحاس( ).
لبيان مسألة وهي أن وظائف الملائكة يوم أحد العناية بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأًصحابه وكشف الخيانة وفضح الغدر.
وهل يحتسب المجذر من شهداء معركة أحد , الجواب نعم ، وقتل وهو يدافع عن النبوة والتنزيل .
وللحارث بن سويد أخ اسمه الجلاس وهو من المنافقين ، وذكر أنه السبب في نزول قوله تعالى [يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ]( )، بخصوص الخروج في كتائب تبوك .
وقال الكلي : نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب ذات يوم بتبوك وذكر المنافقين فسمّاهم رجساً وعابهم ، فقال الجلاس : والله إن كان محمد صادقاً فيما يقول فنحن شر من الحمير فسمعه عامر بن قيس ،
فقال : أجل والله إن محمداً لصادق مصدق وأنتم شر من الحمير.
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس،
فقال الجلاّس : كَذِب يا رسول الله عليّ ، ما قلتُ شيئاً من ذلك،
فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحلفا عند المنبر بعد العصر،
فحلف بالله الذي لا إله إلاّ هو ما قاله ، وإنه كذب عليّ عامر ، ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلاّ هو لقد قاله وما كذبت عليه ، ثم رفع عامر بيديه إلى السماء فقال : اللهم أنزل على نبيك الصادق منا المصدّق،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون : آمين ، فنزل جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ [فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ]( ).
فقام الجلاس ، فقال : يا رسول الله أسمع الله قد عرض عليّ التوبة، صدق عامر بن قيس في ذلك، لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك منه ثم تاب فحسن توبته( ).
ومع حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنصرة والإيواء ومنع قريش من الوصول إليه فانه أجاب بالحق ومن غير تورية ، فقال له الرجل أنقاتل العرب دونك فاذا أظفرك الله كان الأمر لغيرنا.
لا حاجة لنا بأمرك .
وتبين مثل هذه الردود الشأن الرفيع للأنصار إذ أنهم لم يشترطوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً ولم يطلبوا الرئاسة من بعده ، ولم تؤل إليهم ، إنما وعدهم على إيوائه ونصرته الجنة ، فسعدوا بها لينالوا العز والرفعة في الدنيا ، واللبث الدائم في النعيم في الآخرة .
وعن (أبى الزبير عن جابر قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، عكاظ ومجنة، في المواسم، يقول : من يؤوينى.
من ينصرني.
حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة ” فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر، كذا قال فيه، فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك.
ويمضى بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالاصابع.
حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الاسلام.
ثم أئتمروا جميعا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف ؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك .
قال : تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة، فقمنا إليه [فبايعناه] وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو من أصغرهم) ( ).
وليس في بيعة الأنصار الأمر الصريح بالقتال ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج في الكتائب من المدينة ومعه المهاجرون والأنصار ، ومع هذا لا يقاتل ولا يقتل أحداً .
وهل كان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب ذاته دعوة إلى الله عز وجل , وطرد للإرهاب , الجواب نعم .
الخامسة : بيان منهاج الأنبياء وسنن الإيمان ، فحينما تزول الشمس عن كبد السماء يقف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بخشوع بين يدي الله عز وجل ليؤدوا الصلاة جماعة ، ويقرأوا القرآن ، فيراهم أفراد القبائل ذكوراً وأناثاً , والركبان في الطريق .
ليعلموا أن الدعوة إلى الله عز وجل سلم وسلام وأمن وكذا بالنسبة لأوقات الصلوات الأخرى , وفيه فقاهة للمسلمين .
ويدرك الناس أمراً مستحدثاً في السلوك العام والخاص ، وهو شوق المسلمين لحلول أوان الصلاة ، وتوجههم إليها برضا ، وهي كنز فازوا به ، ورزق كريم يتسابقون إليه من غير تزاحم ، فكل إنسان مدعو إلى مائدة الصلاة لينهل منها , وليس بينه وبينها حاجب أو برزخ .
الصلاة قانون يومي زاجر عن الإرهاب
من خصائص الواجبات العبادية والتكاليف أنها حبل ممدود بين الله عز وجل وبين العبد ، لا تقدر الخلائق أن تحول بين نزول الأمر بها ، ولا تمنع من الإمتثال لها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ).
ومن القوانين الخاصة بالصلاة والتي يمكن أن تقتبس من الآية أعلاه هي :
الأول : قانون الصلاة عصمة بحبل الله .
الثاني : ذات الصلاة حبل لله , ووسيلة للتقرب إليه سبحانه .
الثالث : الصلاة عصمة وحرز لجميع المسلمين والمسلمات .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه مجيؤها بصيغة الخطاب وبالعطف على الآية السابقة لها التي تبدأ بنداء الإيمان وتأمر بالتقوى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
الرابع : قانون الصلاة عصمة وواقية من الفرقة والإختلاف.
الخامس : قانون الصلاة صلح وموادعة .
السادس : قانون الصلاة ذكر لله سبحانه.
السابع : يدفع الإرهاب بالصلاة .
الثامن : بعث الصلاة النفرة في النفوس من الإرهاب .
التاسع : يجذب أداء الصلاة قلوب الناس , ويصرفهم عن إيذاء المسلمين , قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( )
العاشر :الصلاة قانون الصلاة نعمة من الله .
الحادي عشر : قانون الصلاة ذكر لنعمة الله .
الثاني عشر : قانون الصلاة شكر لله على النعم .
ليكون تقدير قوله تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ] واذكروا نعمة الله بالصلاة .
الثالث عشر : قانون الصلاة وحدة للمسلمين .
الرابع عشر : قانون الصلاة ألفة وتآلف بين المسلمين .
الخامس عشر : قانون صفاء القلوب بالصلاة وتعاهدها .
السادس عشر : قانون الصلاة أخوة إيمانية .
السابع عشر : قانون استحباب صلاة الجماعة ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( ) .
الثامن عشر : قانون منافع الصلاة في الدنيا والآخرة .
التاسع عشر : قانون حب الله للمصلين .
العشرون : قانون الصلاة إمتثال لقول الله [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
الحادي والعشرون : قانون الملازمة بين الوجود الإنساني والصلاة .
الثاني والعشرون : قانون الصلاة هدىّ وزيادة فيه .
الثالث والعشرون : قانون الصلاة عون على أداء الفرائض الأخرى .
الرابع والعشرون : الصلاة واقية من الإرهاب .
الخامس والعشرون : قانون منع الصلاة للإرهاب .
السادس والعشرون : قانون حماية الصلاة المسلمين والناس من الإرهاب ، ولا عبرة بالقليل النادر .
السابع والعشرون : قانون نماء الأخوة بين المسلمين بالصلاة ، ليكون من معاني قوله تعالى [فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( )، أي فاصبحتم بالصلاة إخواناً ، وهناك قوانين فرعية في المقام وهي :
الأول : قانون نماء الأخوة بالوضوء .
الثاني : قانون الوضوء عصمة بالله .
الثالث : قانون الوضوء طهارة من الإرهاب .
الرابع : قانون الطهارة نقاء للقلوب والأبدان , وطاعة لله , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الخامس : قانون الطهارة مقدمة للصلاة .
الحمد لله الذي خلق آدم وحواء في الجنة ولبثا فيها برهة ، وصحبا الملائكة قبل هبوطهما إلى الأرض , ليكون هذه اللبث مقدمة وترغيباً بالعمل الصالح , ومشهور علماء المسلمين القول بأن الكفار غير مكلفين بالفروع , والإختلاف في الكبرى ، وهو هل يصح تقسيم الدين إلى :
الأول : الاصول .
الثاني : الفروع .
فمن العلماء من نفى هذا التقسيم , وقال بأن الإيمان لا يقبل التجزأة والتقسيم , فأما أن يتقيد على نحو العموم المجموعي , أو يذهب كله .
ولكن المشهور والمختار هو التقسيم , وهو تقسيم استقرائي .
والإصول هو التوحيد وأمور العقيدة , وقيل ما استقل به العقل وليس بتام .
أما الفروع فهي أمور الفقه والأحكام العملية من الصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوه .
وقيل أن تكليف الكفار بالفروع لزيادة عذابهم في الآخرة , ولكنه ليس علة تامة , وقد يكون العكس هو الصحيح لأن تكليفهم بالفروع رحمة بهم , وحجة عليهم , ومناسبة لتقريبهم إليه وتسهيل توبتهم .
قال تعالى [ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ*قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ] ( ).
ويبين أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الصلاة خارج المدينة وبين القبائل وفي الفيافي حب الله عز وجل للناس بهدايتهم إلى العبادة ، وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إصلاح النفوس والرجوع إلى الفطرة بالتقيد بسنن التقوى ، وفي التنزيل [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
لقد اشترط النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأوس والخزرج في بيعة العقبة منعه وحياطته وحمايته من بطش قريش ، ليكون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب من مصاديق التوفيق الإلهي في منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجهاد الأنصار في الدفاع عنه ، فبينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الناس في مكة على نحو شبه خفي ، وفي خشية من قريش على نفسه وأصحابه وأهل بيته , صار يخرج في الكتائب وتجوب سراياه المناطق القريبة من المدينة ، وتراهم القوافل ويتناقل أخبارهم الناس ، وهو من مصاديق (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى* وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى) ( ) .
لقد أدرك رؤساء الكفار التبدل النوعي السريع في الدعوة النبوية ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يدعو إلى الله في مكة وبين أهله فيصدونه ويؤذونه مع تصديق طائفة من المؤمنين بنبوته ، لينتقل إلى المدينة , ولم تمر سنة على هجرته حتى يخرج في الكتائب مع أنصاره من المهاجرين والأنصار ، وهو أعظم نصر .
لقد جعل الله عز وجل صلح الحديبية فتحاً ونصراً ومقدمة لفتح مكة قال سبحانه [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
وكان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب وبعثه السرايا أعظم نصر من غير أن تسفك قطرة دم أو يقع قتال , لقد أحسن المؤمنون في المدينة بحلاوة الإيمان , ومصاحبة الأمان له وهو مناسبة للإحتراز من الإرهاب .
فان قلت يتضمن قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) بيان حقيقو وهي أن المسلمين كانوا في حال ضعف قبل معركة بدر ، والجواب في الآية ثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فمع أنهم كانوا في حال ضعف وقلة عدد فأنهم كانوا يخرجون في الكتائب والسرايا غير خائفين من قريش والقوم الكافرين ، وفيه دلالة على وهن كفار قريش وإنعدام سلطانهم خارج مكة ، وعجزهم عن تسخير القبائل للكيد والمكر والإيقاع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وفي التنزيل [ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ]( ).
لقد لاحق الذين كفروا المهاجرين إلى الحبشة حتى البحر ، ووصلوا إلى ميناء الشعيبة وجدة لمنعهم من السفر ، ولكن المهاجرين وجدوا سفينتين تريدان الإبحار إلى الحبشة ، وحالما ركبوا وتحركت السفينتان وصل رجال قريش وهم عازمون على شد وثاق المهاجرين وإعادتهم إلى مكة ، ليكون إبحارهم السريع من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) فهذا الإبحار نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأمارة على عجز قريش عن تسخير الناس للكيد والمكر والإيقاع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
لقد لاحق الذين كفروا المهاجرين إلى الحبشة حتى البحر , ليعيدوهم موثقين إلى مكة , وهذه الملاحقة من الإرهاب .
قال تعالى [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ] ( ).
وكلمة التوحيد أصل وفرع والواجب هو التصديق بالأصول والفروع ولا يعني هذا التقسيم التقليل من شأن الفروع أو التراخي في إتيانها .
ولم يكن هذا التقسيم موجوداً أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس في السنة نص صريح فيه وكذا أيام الصحابة .
وفروع الدين الأحكام العملية في الإسلام , كالصلاة وهي العمدة والصوم والزكاة والحج والخمس . والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
والفروع عبادات , ومعاملات وأحكام
ولا يجوز التقليد في أصول الدين لدلالتها عقلاً وعلى كل مكلف معرفتها ومن أصول الدين التوحيد والنبوة والمعاد ، هذا العلم باسماء :
الأول : علم أصول الدين.
الثاني : علم الأسماء والصفات .
الثالث : علم الكلام .
الرابع : علم التوحيد .
الخامس : علم الفقه الأكبر .
السادس : علم الإيمان .
ومنهم من أرجعها إلى التوحيد وحده , قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا] ( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : الأنبياء : إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ) ( ).
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الإيمان بضع وستون أعلاها لا اله إلا الله وأدناها إطاحة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان( ) .
والدين الملة والطريقة والطاعة , ويوم الدين هو يوم القيامة ، ويوم الجزاء ومن دان أي اعتقد وإعتنق
وعلم الأصول هو العلم بالقواعد الممهدة لإستنباط الحكم الشرعي , وعلم الأدلة الكتاب والسنة والإجماع ونحوها .
وورد لفظ الناس في القرآن نحو مائتي مرة ويمكن استقراء مسائل من علم الأصول والفروع .
وادعو الأصوليين إلى الرجوع إلى القرآن في الإستدلال والأمثلة والبرهان وعلم الأصول هو العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي، ولا يقبل أداء الفروع إلا مع قصد القربة .
النفاق والإرهاب
لقد ابتلى الله عز وجل الأنبياء وأنصارهم بانواع الأذى والبلاء وكانوا يتلقونه بصبر وحكمة لتكون سيرتهم دعوة للمؤمنين في كل زمان للإقتداء بهم والتحلي بسننهم .
وبعد أن نجّى الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من كفار قريش بالهجرة ، قاموا بالهجوم وأًروا على القتال في معركة بدر ، وكما نصر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في هجرته التي هي شعبة من الوحي ، فقد نصره في بدر هو وأصحابه بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، لتبرز طائفة من المنافقين في المدينة ، والمنافق هو الذي يظهر الإيمان ويخفي الكفر والتشكيك بالنبوة والتنزيل ، والسعي خفية في الصد عن سبيل الله ، ومنهم ما ورد حكاية عنهم في التنزيل [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ) .
والنفاق فتنة ومقدمة للوقوع في الفتنة ، ومحاولة لجذب الناس إليها ، لذا قال الله تعالى في ذمهم [وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ]( )، ومن وجوه الإلتقاء بين النفاق والإرهاب أن النفاق فساد ، وظلم للذات والغير ، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]( ).
وعن قتادة في قوله تعالى [هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا]( )، يقول : لا تطعموا محمداً وأصحابه حتى تصيبهم مجاعة فيتركوا نبيهم وفي قوله : { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل }( ) قال : قال ذلك عبدالله بن أبيّ رأس المنافقين وأناس معه من المنافقين( ).
لقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل المنافق كيلا يشيع القتل بين المسلمين بحجة النفاق ، ويدل الحديث أعلاه على أن المنافق من ضمن صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن نفاقه لا يخرجه عن الصحبة لكنه سبب لذمه وترتب الإثم على النفاق .
وفي الحديث بيان لمعنى الجهاد والغلظة في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
والسنة النبوية بيان وتفسير للقرآن ، إذ يدل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) ( ) على أمور :
الأول : الإحتراز من سفك الدماء الا بالحق كالقصاص ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
الثاني : الحرص على عدم إشاعة القتل .
الثالث : تأديب المسلمين باجتناب البطش .
الرابع : الإحتراز من سفك الدماء .
الخامس : بعث السكينة والطمأنينة في نفوس الناس.
السادس : تأديب المسلمين بلزوم إجتناب الإرهاب.
السابع : بيان قانون وهو أن موضوع الجهاد أعم من ميدان المعركة ، ومن المجالدة ولمعان السيوف ، إذ يصح أن يكون الجهاد باللسان والموعظة ، وهو من الشواهد على حرمة الإرهاب .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحذر من الفتنة ويمنع من مقدماتها , ويهدي المسلمين الى الحلم والصبر لإجتنابها ، وينهى عن دعوة الجاهلية ، وبذرة الإرهاب مع أخذ الحائطة والحذر ، قال تعالى [هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ]( ) .
ونزلت سورة المنافقين في كتيبة بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة للهجرة ) .
وعند موسى بن عقبة في شهر شعبان من السنة الرابعة ( )، إذ بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن بني المصطلق يجمعون له ، ويريدون الهجوم على المدينة بقيادة رئيسهم الحرث بن أبي ضرار ، فلما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهم وما يقومون به ، خرج اليهم ، وأسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجالاً ونساءاً .
ليكون هذا الخروج على وجوه :
الأول : إنه دفاع وحاجة .
الثاني : إرادة صرف القتال ، والمنع من المعارك الطاحنة ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( )، إتخاذ المسلمين الحيطة والتدبر بمنع التقاء الجمعين مرة أخرى بالخروج الى الكفار الذين يجمعون لهذا اللقاء ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فيتفرقون , قال تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
الثالث : التصدي للإرهاب في نشأته وبداياته فحينما يجمع بنو المصطلق الجموع لقتال النبوة والتنزيل فانهم يحرضون غيرهم للإنضمام إليهم ، ويدعون الناس لمحاكاتهم فكان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم دعوة للسلام ، واستئصال للإرهاب ، قال تعالى [فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ]( ).
وجمع المسلمون الغنائم وهي الف بعير وخمسة آلاف شاة ، وتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم جويرية وهي بنت رئيسهم وكان اسمها برّه فسماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جويرية ، فأرسل الصحابة ما في أيديهم من السبايا لأنهم صاروا أصهار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وأسلم بنو المصطلق في معجزة في السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليبعث لهم النبي بعدها بسنتين الوليد بن عقبة لجمع الصدقات ، وخرجوا للقائه فظن أنهم يريدون قتله فرجع خائفاً منهم وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بظنه وهمّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتالهم ، فنزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ]( ).
وبينما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يهمون بالرجوع من كتيبة بني المصطلق والتي تسمى أيضاً المريسيع ، وردت طائفة من المهاجرين والأنصار الماء فازدحم اثنان على الماء ، وهما :
الأول : جهجاه بن مسعود ، وهو أجير لعمر بن الخطاب من بني غفار ، وكان جهجاه يقود فرسه .
الثاني : سنان بن وبر الجهني حليف بني عوف ابن الخزرج ، واختصما وتنازعا .
فنادى الأنصاري : يا معشر الأنصار .
وصرخ الجهجاه : يا معشر المهاجرين .
وكان عبد الله بن أبي بن أبي سلول رأس النفاق حاضراً وعنده جماعة من قومه منهم زيد بن أرقم وكان غلاماً حدثاً ، فغضب عبد الله بن أبي وقال : أفعلوا قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما مثلنا ومثلهم إلاّ كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك، أما واللّه { لأَن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ اعَزُّ مِنْهَا اذَلَّ}( ) .
يعني بالأعزّ نفسه وبالأذلّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ أقبل على من حضر من قومه فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم.
أما واللّه لو أمسكتم عن جعال( ) وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولأوشكوا أن يتحولوا عن بلادكم فيلحقوا بعشائرهم وموإليهم فلا تنفقوا عليهم حتّى ينفضّوا من حول محمّد.
فقال زيد بن أرقم : أنت واللّه الذليل المبغض في قومك، ومحمّد في عزّ من الرحمن ومودّة من المسلمين، واللّه لا أحبّك بعد كلامك هذا .
فقال عبد اللّه : اسكت فإنّما كنت ألعب ( ).
وندم عبد الله بن أبي كلامه عندما رد عليه زيد بن أرقم وادّعى المزاح ، مع أن زيداً شاب حدث لبيان صدق إيمان الأنصار ، وقوله هذا من مصاديق قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
فمشى زيد بن أرقم الى النبي محمد وأخبره الخبر ، وكان عنده عدد من الصحابة ، فقال عمر بن الخطاب : دعني أضرب عنقه يا رسول الله ، فلم يرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا القول .
وقال : فكيف إذا الناس تُحدث أن محمداً يقتل أصحابه .
ثم أمر النبي بالنداء بالرحيل عن الموضع الذي حصلت فيه الفتنة لصرفها والإنشغال عنها , ولبعث الأمل بقرب دخول المدينة بالأمن والسلامة .
وجاء عبد الله بن أبي الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معتذراً ، وحلف بأنه لم يقل ما نقله عنه زيد بن أرقم وكان عبد الله بن أبي شريفاً في قومه ، فقال بعض الأنصار (يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل، حدبًا على عبد الله بن أُبيّ، ودفعًا عنه)( ).
واستغرب الصحابة رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ساعة لا يروح فيها عادة ، فجاء أسيد بن حضير وهو من رؤساء الأنصار فسأله : يا رسول الله ، لقد رحت في ساعة ما كنت تروح فيها .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أو ما بلغك ما قال صاحبكم ، قال : فأي صاحب يا رسول الله ، قال : عبد الله بن أبيّ.
قال أسيد مستغرباً ومندهشاً وعلى نحو الإستفهام الانكاري : وما قال ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : زعم أنه إن رجع الى المدينة أخرج الأعز منها الأذل ، لبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم منع من إشتداد الفتنة ومن قتل عبد الله بن أبي ولكنه أخبر رؤساء الأنصار , فذكره بالإسم فقال : عبد الله بن أبي .
ليقطع الفتنة ويمنع من استدامتها حتى دخول الصحابة المدينة ، وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد من رؤساء الأنصار تجديد البيعة ولو على نحو الموجبة الجزئية وليوطئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنزول آية بهذا الخصوص , وتكون أسباب نزولها إرثاً للمسلمين .
فقال أسيد : (فانت والله يا رسول الله تخرجه ان شئت ، هو والله الذليل وأنت العزيز ، ثم قال : يا رسول الله أرفق به) ( ).
وبيّن أسيد الحالة الخاصة لعبد الله بن أبي إذ كان أصحابه ينظمون له الخرز ليتوجوه على المدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مهاجراً ، وقال أسيد ( فانه ليرى أنك استلبته مُلكاً)( ).
وفيه تذكير بنعمة عظمى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والمهاجرين منهم خاصة ، فلو دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المدينة ورأس النفاق هو الملك لقسى وظلم وحاصر وزاول الإرهاب ، وربما تآزر مع كفار قريش لبيان قانون وهو أن هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة جاءت في وقت مناسب ، وهو من مصاديق الرحمة والتخفيف .
وهل كان قوله عبد الله بن أبي من الإرهاب , الجواب نعم ، ومن التحريض عليه ، قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ] ( ) .
وقيل أن ظاهر الآية أعلاه في التخفيف عن المسلمين في نكاح الإماء وإباحته , وبه قال (مجاهد وابن زيد وطاوس) ( ) .
ولكنها مطلقة من جهات :
الأولى: التخفيف عن الناس في مسائل الحياة .
الثانية : التخفيف عن الناس بتوالي وكثرة الحجج التي تجذبهم إلى طاعة الله .
الثالثة : إرادة التخفيف عن المسلمين في العبادات وتيسيرها ، وفي آيات الصوم ، قال تعالى [بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( ).
الرابعة : بيان قانون وهو أن الدنيا دار الفضل على الناس عامة والمؤمنين خاصة .
وهل من وجوه التخفيف قلة وإنحسار الإرهاب في الأرض ، الجواب نعم ، ومن الشواهد عليه أن الإهتمام به أكثر من واقعه , مما يدل على أنه مصدر حزن عام .
لقد أراد إشعال الفتنة بين الأنصار والمهاجرين ، وموضوع وحطب الفتنة الذي توقد به هو أن الأوس والخزرج أهل المدينة وأن المهاجرين غرباء عنها لينشغل الصحابة بالإقتتال فيما بينهم ، ويسهل على عدوهم إختراق المدينة ، خاصة وأنه لم يتم عقد صلح الحديبية بعد .
ويبين الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعالج الإرهاب والدعوة إليه للإنتقام والإستئصال له من جذوره ، وقتل صاحبه كي يتأدب غيره ، خاصة وأن كبار وصغار الأنصار استهجنوا هذا الفعل من رأس النفاق ، فهي قضية شخصية بين اثنين من عامة المسلمين بين جهجاه من المهاجرين ، وسنان الجهني من الأنصار وموضوعها التزاحم على الماء ، وقد تحدث مثل أيضاً سواء عند الورود على الماء أو في الطريق أو في المدينة عند العودة اليها .
ليؤسس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كيفية القضاء على الإرهاب بمنعه من أول ما ينبت ويمنع من أن تصير له سيقان .
وفيه دروس بكيفية دفع الإرهاب وفضح مقدماته , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]( ) .
فسار النبي محمد صلى الله عليه آله وسلم بالناس ما بقي من يومهم إلى أن أمسى ثم وصل الليل بالنهار في السير حتى أصبح ، وسار الى الضحى من اليوم التالي إلى أن آذتهم الشمس ، فأمر بالنزول وما أن وجدوا أمس الأرض حتى استسلموا للنوم .
وفيه شاهد على طاعة الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في طول المسير من غير احتجاج ، ولا بد أنهم كانوا ينزلون لأداء الصلوات في أوقاتها قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
ولم يرد في الأخبار أنهم صلوا ركباناً أو تركوا الصلاة أبداً ، لقد واصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع المسافات الطويلة هو وأصحابه بعد حديث عبد الله بن أبي وأداء الصلاة أعظم وسيلة مباركة لمثل هذا الإنشغال فلابد أنهم كانوا ينزلون للصلاة في وقتها .
ومن خصائص حديث الفتنة أن مضي مدة من الزمان عليه كفيل بكشف قبح مقدماتها ، وصرفها بالذات والأثر .
أما زيد بن أرقم فانه ظنّ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذّبه وصدّق عبد الله بن أبي في اعتذاره ، مع أن الوقائع لا تدل على مثل هذا التصديق ، فجلس زيد بن أرقم في بيته مغموماً .
وتوجه له عمه باللوم وقال له : ما أردت إلى أن كذَّبك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومقتك، فانزل الله [إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ]( ) ( ).
فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : إن الله صدقك يا زيد.
لقد كان الوحي عوناً ومدداً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في محاربة الإرهاب من أصوله ، ومنع أصحابه من أن يرفعوا رؤوسهم وأصواتهم به .
لتؤسس آيات القرآن لنظام ذي نقاوة من الإرهاب ومجتمعات يسودها الأمن ، وتكون خالية من الخوف والفزع إلا من الله عز وجل.
لذا جاءت آيات الرهبة والترهيب في القرآن خاصة بالخوف من الله عز وجل سواء بالنسبة للمسلمين أو غيرهم ، قال تعالى [وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ).
فمع الوفاء بعهد الله ، وتفضل الله بالنعم لابد من الرهبة منه تعالى .
إكرام الناس واقية من الإرهاب
لقد ورد النداء العام للناس [يَا أَيُّهَا النَّاسُ] عشرين مرة في القرآن ، وورد نداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تسعاً وثمانين مرة ، وكل واحد منهما يدعو إلى السلم والأمن وإلى الأخوة الإيمانية ، ويذّكر باتحاد النسب للناس بأيوة آدم عليه السلام لهم جميعاً .
ليكون من المصاديق المتجددة لقوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ) أمور:
الأول : إكرام الناس باقامة آدم وحواء في الجنة قبل هبوطهما إلى الأرض ، ومع نيل آدم مرتبة النبوة دون حواء فانها عاشت معه في الجنة ،ولو شاء الله عز وجل لخلقها في الأرض قبل أو بعد هبوط آدم إليها ، ولكنه سبحانه أراد للنساء الإفتخار باقامتها المؤقتة في الجنة ، وهو شاهد على حسن منزلة المرأة عند الله عز وجل .
وفي الحديث (النساء شقائق الرجال ) ( ) (وعن الْأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ سُلَيْمٍ قَالَتْ
كَانَتْ مُجَاوِرَةَ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَكَانَتْ تَدْخُلُ عَلَيْهَا فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ .
فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِذَا رَأَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا يُجَامِعُهَا فِي الْمَنَامِ أَتَغْتَسِلُ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ تَرِبَتْ يَدَاكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ فَضَحْتِ النِّسَاءَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ .
فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ وَإِنَّا إِنْ نَسْأَلْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْنَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ نَكُونَ مِنْهُ عَلَى عَمْيَاءَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ بَلْ أَنْتِ تَرِبَتْ يَدَاكِ نَعَمْ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ عَلَيْهَا الْغُسْلُ إِذَا وَجَدَتْ الْمَاءَ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ لِلْمَرْأَةِ مَاءٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَأَنَّى يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا هُنَّ شَقَائِقُ الرِّجَالِ) ( ).
الثاني : إكرام الله لبني آدم مطلقاً بأن جعل أباهم آدم نبياً رسولاً لتكون النبوة هي الأصل في وجود الإنسان في الأرض ، والصبغة الملازمة لوجود الناس وعمارتهم الأرض ، وفيه حجة وشاهد على لزوم تعاهد منهاج النبوة في الصلاح والإصلاح .
الثالث : من خصائص الرحم وصلته المودة والرأفة والتحلي بالصبر في الإعانة وقضاء الحوائج ونبذ الفرقة والخصومة ، قال تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ) وبين الفينة والأخرى نسمع بعض الأصوات التي تنادي بالأخوة العامة , وتذّكر الناس بأنهم جميعاً من نسل آدم .
وقد وردت آيات من القرآن بلفظ بني آدم ، ومنها بصيغة النداء كما في قوله تعالى [يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] ( )وقوله تعالى [يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ]( ) .
الرابع : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه رسول للناس جميعاً ، وهل تشهد آيات القرآن على هذا المعنى ، الجواب نعم ، وهذه الشهادة من الدلائل على صدق نزول القرآن من عند الله وإنتفاء التعارض في معانيه ودلالاته وتتجلى في هذا العموم معاني الرأفة والرحمة ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
لبيان أن النبوة رحمة للناس وعالم الحيوان والنبات والمخلوقات ، لذا فهي حاجة عامة وتعاهد هذه الرحمة واقية من الإرهاب وإنزجار عنه ، وفضح مريديه .
الخامس : تفضل الله عز وجل بتهيئة أسباب الرزق الكريم للناس ، وليس من تزاحم فيه ، وترى الناس ينفقون ما يحتاجون وما لا يحتاجون ، ومن الناس من يموت ويترك ثروة وأموالاً وعقارات تكفي لمعيشة جمع كثير لذا تفضل الله عز وجل وكتب على الأغنياء الزكاة وأمر بدفعها إلى الفقراء ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
وهل الزهد أمن من الإرهاب ، الجواب نعم .
قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته يوم فتح مكة : يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم وآدم من تراب ، ثم تلا هذه الآية [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى]( )الآية .
ثم قال يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم ، قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم قال فاذهبوا فأنتم الطلقاء ، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وكان الله أمكنه منهم عنوة فبذلك سموا أهل مكة الطلقاء .
ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة بيده فقال : يا رسول الله اجمع لنا بين الحجابة ، والسقاية .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أين عثمان بن طلحة فدعي له فقال هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم وفاء وبر ، قال واجتمع الناس للبيعة فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا ، وعمر بن الخطاب أسفل منه يأخذ على الناس . فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا .
فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء , لحاجتهن للإيمان وللتعاون في إزاحة مفاهيم الكفر والشرك .
وقال عروة بن الزبير : خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن فقال عمير بن وهب الجمحي يا رسول الله إن صفوان بن أمية سيد قومي قد خرج هارباً منك ليقذف بنفسه في البحر ، فأمنه يا رسول الله ، فقال هو آمن .
قال : يا رسول الله أعطني شيئاً يعرف به أمانك ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمامته التي دخل بها مكة ، فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة ، وهو يريد أن يركب البحر .
فقال يا صفوان فداك أبي وأمي أذكرك الله في نفسك أن تهلكها ، فهذا أمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جئتك به؟ .
فقال ويلك أغرب عني لا تكلمني قال : فداك أبي وأمي أفضل الناس ، وأبر النّاس وأحلم الناس ، وخير الناس ابن عمتك عزه عزك وشرفه شرفك ، وملكه ملكك .
عندئذ قال صفوان : إني أخافه على نفسي , أي أنه يخاف من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ويتبع النبي محمد الوحي , وقد أثنى الله على نفسه بقوله[إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا]( ).
قال عمير : هو أحلم من ذلك ، وأكرم , لبيان التضاد بين الحلم والبطش .
فرجع به معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال صفوان : إن هذا يزعم أنك آمنتني قال صدق ، قال فاجعلني في ذلك بالخيار شهرين قال : أنت بالخيار أربعة أشهر( ).
وفي خطبة النبي يوم فتح مكة زجر عن الإرهاب من جهات :
الأولى : اتخاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخطاب والقاء المواعظ مدرسة متنقلة , فيصعد المنبر في المدينة المنورة ليلقي خطبه وينصت له المسلم واليهودي والمنافق والكافر.
الثانية : توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خطابه إلى معشر قريش ليشمل المسلم وغير المسلم منهم ، وفيه رحمة بهم ، وطرداً للإرهاب فحتى الذي يريد أن يحارب الإسلام ، أو يدبر المكائد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يدرك أنه مقصود بالخطاب النبوي وهذا القصد نوع عناية وإكرام.
الثالثة : مقابلة مدرسة العفو النبوي للإرهاب القرشي , قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
قانون نزول الملائكة قهر للإرهاب
لا يعلم عدد وأجناس ما خلق الله إلا هو سبحانه ، ولا يحيط الناس إلا بجزء يسير من الخلائق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، وقد خلق الله الملائكة ، وأمر الناس بالإيمان بهم والتصديق بوجودهم .
وفاز الموحدون من أهل الملل المتعاقبة بنعمة التسليم بوجود الملائكة وأنهم خلق منقطع إلى عبادة الله .
وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة.
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن حسان بن عطية قال : حملة العرش ثمانية . أقدامهم مثقفة في الأرض السابعة ، ورؤوسهم قد جاوزت السماء السابعة ، وقرونهم مثل طولهم عليها العرش .
وأخرج أبو الشيخ عن ذاذان ( ) قال : حملة العرش أرجلهم في التخوم لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور .
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإِيمان عن هرون بن رباب رضي الله عنه قال : حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت رخيم . يقول أربعة منهم : سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك . وأربعة منهم يقولون : سبحانك وبحمدك على حلمك بعد علمك( ) .
(عن كعب قال إن لله تعالى ملكا على صورة ديك رجلاه في التخوم الأسفل من الأرض ورأسه تحت العرش فما من ليلة إلا والجبار تعالى ينزل إلى السماء الدنيا فيقول ألا من سائل فيعطى ألا من تائب فيتاب عليه ألا من مستغفر فيغفر له فيسبح الله تعالى أو يحمده ثم يصوت حتى يفزع لذلك من حول العرش فيسبحون الله ويحمدونه ثم أهل السماء الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم هذه السماء الدنيا .
فأول من يعلم بذلك من أهل الأرض الدجاج فأول من يزقو الديك فيقول قوموا أيها العابدون فاذا زقا الثانية قال قوموا أيها المسبحون فاذا زقا الثالثة قال قوموا أيها القانتون فإذا زقا الرابعة قال قوموا أيها المصلون فإذا زقا الخامسة قال قوموا أيها الذاكرون فاذا أصبح ضرب بجناحيه وقال قوموا أيها الغافلون .
فمن قرأ بعشر آيات قبل أن يصبح لم يكتب من الغافلين ومن قرأ بعشرين آية قبل أن يصبح كتب من الذاكرين ومن قرأ بخمسين آية كتب من المصلين ومن قرأبمائة آية كتب من القانتين ومن قرأ بخمسين ومائة آية أعطى قنطارا من الأجر والقنطار مائة رطل والرطل اثنان وسبعون مثقالا والمثقال أربعة وعشرون قيراطا والقيراط مثل أحد ) ( ).
ولا يوصف الملائكة بالذكورة أو الأنوثة ، إنما هم خلق خاص مجبول على الطاعة ، منقطع للعبادة ، قال تعالى [وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ]( ).
ولا يمل أو يتعب الملائكة من العبادة ، ولا ينامون ولا يميلون للنوم ، ولا يسوّفون أعمالهم العبادية ، ومسكن الملائكة هي السماء وقد التقى بهم آدم وحواء في الجنة ، وتحدث معهم .
نعم ينزل الملائكة بطرق مخصوصة من السماء إلى الأرض للقيام بوظائف عبادية تقرب الناس الى طاعة الله ، وتمنع سفك الدماء والفوضى والإرهاب .
وعندما احتجت الملائكة على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، أخبرهم الله عز وجل بما جعلهم يشكرونه سبحانه إذ قال [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فعندما فسدت قريش ومن والاها في الأرض بعبادتهم الأوثان ، ونصب الأصنام في أول بيت وضعه للناس[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )، وهذا النصب مما يتضاد مع البركة التي تذكرها الآية أعلاه ، ولابد أن تتجلى هذه البركة للناس جميعاً فارسل الله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهذا التجلي ، وإزاحة مظاهر الشرك عن البيت الحرام , مع تثبيت سنن التوحيد .
وخلق الله الملائكة من نور ، وهم من عالم الغيب ويتفاوتون في الخلق والمنزلة والشأن ، قال تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) .
وللملائكة مقامات عظيمة عند الله لا يصل إليها غيرهم ، وجاءت السنة بالبيان والتفصيل الإعجازي في سنخية وأصل الخلائق ، وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خُلِقَت الملائكة من نور، وخُلقَ إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وُصِفَ لكم( ).
وعن أنس قال : جاءت يهود خيبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم خلق الله الملائكة من نور الحجاب وآدم من حمإ مسنون وإبليس من لهب النار ، والسماء من دخان ، والأرض من زبد الماء ، فأخبرنا عن ربك فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فأتاه جبريل بهذه السورة[قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( ) ليس له عروق تتشعب[اللَّهُ الصَّمَدُ]( )، ليس بالأجوف لا يأكل ولا يشرب[لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ]( )، ليس له والد ولا ولد ينسب إليه .
[وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ]( )، ليس من خلقه شيء يعدل مكانه يمسك السموات إن زالتا .
هذه السورة ليس فيها ذكر جنة ولا نار ، ولا دنيا ولا آخرة ولا حلال ولا حرام انتسب الله إليها فهي له خالصة ، من قرأها ثلاث مرات عدل بقراءة الوحي كله ، ومن قرأها ثلاثين مرة لم يفضله أحد من أهل الدنيا يومئذ إلا من زاد على ما قال .
ومن قرأها مائتي مرة أسكن من الفودوس سكناً يرضاه ، ومن قرأها حين يدخل منزله ثلاث مرات نفت عن الفقر ونفعت الجار ، وكان رجل يقرأها في كل صلاة فكأنهم هزئوا به وعابوا ذلك عليه فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال : وما حملك على ذلك؟ قال يا رسول الله : إني أحبها قال : حبها أدخلك الجنة . قال : وبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرؤها ويرددها حتى أصبح( ).
وتتشكل الملائكة بهيئات حسنة متعددة ، وتنزل إلى الأرض ولا يتم هذا النزول إلا بأمر وإذن من عند الله عز وجل ، نعم قد تدعو الملائكة أو بعضهم للنزول في حال مخصوصة في الأرض لنصرة الأنبياء وصرف الإرهاب فيتفضل الله عليهم بالإستجابة والإذن .
وليس ثمة مسافة حينئذ بينهم وبين الأرض وإن كانوا في السماء السابعة ، وهو من بديع صنع الله إذ يجتمع ذات النزول وعمل الملائكة بحال متحدة من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
وتجلت مع بدائع علوم الفضاء في هذا الزمان المسافات بين الأرض والكواكب فمثلاً المسافة بين الأرض والمريخ بين 54 مليون كيلو متر و401 مليون كيلو متر .
ويكون المعدل والوسط في المسافة بينهما هو 225 مليون كيلو متر .
ولا يتوقع الناس أن يحسبوا ويقرأوا عن مسافات بمئات آلاف الكيلو مترات ، بينما تجلت الأرقام بالملايين .
وكون المشتري أبعد عن الأرض من المريخ ، والمسافة بين الأرض وزحل وهو من المجموعة الشمسية أيضاً أضعاف المسافة بين الأرض والمريخ ، وكذا بينها وبين الكوكب أورانوس ، والكوكب فيبتون والذي يبعد عن الأرض 435،140،0000 كم .
وكل هذه المسافات مملوءة بالملائكة المنقطعين الى الله عز وجل بالعبادة والتسبيح فان قلت قد تكون السماوات مثل الأرض التي لم يعمر الإنسان إلا جزء منها ، وأغلبها براري وصحارى وبحار.
الجواب إنه قياس مع الفارق ، لكثرة أعداد الملائكة ولعظيم هيئتهم وأجسامهم النورانية .
وفي قوله تعالى [فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى]( )،قال ابن مسعود : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته عند السدرة له ستمائة جناح( ).
وينزل جبرئيل بهذه الهيئة في ليلة القدر ومعه كوكبة من الملائكة , وورد عن ابن عباس حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن شهر رمضان وقدسيته وعظيم منزلته في أيامه ولياليه ومنه : وإذا كان ليلة القدر يأمر الله جبريل فيهبط في كبكبة من الملائكة إلى الأرض ومعهم لواء أخضر ، فيركز اللواء على ظهر الكعبة وله ستمائة جناح ، منها جناحان لا ينشرهما إلا في تلك الليلة ، فينشرهما في تلك الليلة فتجاوز المشرق إلى المغرب ، فيحث جبريل الملائكة في هذه الليلة فيسلمون على كل قائم وقاعد ومصل وذاكر ، يصافحونهم ويؤمنون على دعائهم حتى يطلع الفجر ، فإذا طلع الفجر ينادي جبريل : معاشر الملائكة الرحيل الرحيل . . فيقولون : يا جبريل فما صنع الله في حوائج المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقول جبريل : نظر الله إليهم في هذه الليلة فعفا عنهم وغفر لهم إلا أربعة .
قلنا : يا رسول الله من هم؟
قال : رجل مدمن خمر ، وعاق لوالديه ، وقاطع رحم ، ومشاحن .
قلنا : يا رسول الله ما المشاحن؟ قال : هو المصارم( ) .
فإذا كانت ليلة الفطر سميت تلك الليلة ليلة الجائزة ، فإذا كانت غداة الفطر بعث الله الملائكة في كل بلاد ، فيهبطون إلى الأرض فيقومون على أفواه السكك ، فينادون بصوت يسمع من خلق الله إلا الجن والإِنس ، فيقولون : يا أمة محمد اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل ويعفو عن العظيم ، فإذا برزوا إلى مصلاهم يقول الله للملائكة : ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ .
فتقول الملائكة : إلهنا وسيدنا جزاؤه أن يوفيه أجره . فيقول : فإني أشهدكم يا ملائكتي أني قد جعلت ثوابهم من صيامهم شهر رمضان وقيامه رضاي ومغفرتي .
ويقول : يا عبادي سلوني ، فوعزتي وجلالي لا تسألوني اليوم شيئاً في جمعكم لآخرتكم إلا أعطيتكم ، ولا لدنياكم إلا نظرت لكم ، فوعزتي لأسترن عليكم عثراتكم ما راقبتموني ، وعزتي لا أخزيكم ولا أفضحكم بين يدي أصحاب الحدود انصرفوا مغفوراً لكم ، قد أرضيتموني ورضيت عنكم . فتفرح الملائكة ويستغفرون بما يعطي الله هذه الأمة إذا أفطروا من شهر رمضان( ).
وليس من حد في هيئة الملائكة من حيث الطول أو العرض لشطر منهم في آية من بديع صنع الله ، وعن ابن عباس قال : لا تتفكروا في عظمته ولكن تفكروا فيما خلق الله تعالى من الملائكة، فإن خلقاً من الملائكة يقال له : إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى، وقد مرق رأسه من سبع سماوات وأنه ليتضاءل من عظمة الله تعالى حتّى يصير كأنه الوضيع( ).
ومن خصائص الملائكة هبوطهم إلى الأرض رحمة بأهلها فهذا الهبوط خير محض ، ونعمة ومانع من الإرهاب أو الإشاعة لقتل بمسميات مختلفة تتصف بالتضاد .
ويحتمل نزول الملائكة الى الأرض وجوهاً :
الأول : إنه على نحو الوجوب ، فلا يجوز لهم ترك النزول .
الثاني : ينزل الملائكة على نحو الإستحباب ، فيجوز لهم ترك النزول وإنابة غيرهم من الملائكة .
الثالث : المعنى الجامع فينزل الملائكة مرة على نحو الوجوب ، وأخرى على نحو الإستحباب .
والصحيح هو الأول ، قال تعالى [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( )، وينزل الملائكة للأرض لوظائف وواجبات متعددة منها :
الأول : النزول بالوحي إلى الأنبياء.
الثاني : النزول بآيات الكتب السماوية ، كما في نزولهم بالتوراة والإنجيل والقرآن .
وبين الوحي والكتاب السماوي عموم وخصوص مطلق ، فالوحي أعم .
الثالث : تدوين ما يقوله ويفعله الناس ، قال تعالى [عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ) .
وعن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها ، وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال صاحب اليمين أمسك فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات ، فإن استغفر الله منها لم يكتب عليه شيئاً ، وإن لم يستغفر الله كتب عليه سيئة واحدة( ).
ويدل هذا التدوين على الصلة اليومية بين كل إنسان والملائكة ، وهل يقوم الملائكة بهذا التدوين وهم في السماء ببديع قدرة الله وجعلهم يطلعون من منازلهم في السماء على أعمال البشر ، كمثل مصاديق علمية في التقنية في هذا الزمان بالرؤية عبر الأقمار الصناعية .
الجواب لا ، إنما تدل الآية أعلاه على الملازمة وحضور الملائكة عند الإنسان ، قال تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] أي هناك ملك حاضر يرقب أفعاله ويدونها ، وإن كان يؤخر السيئة رجاء الإستغفار .
والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، فمن مصاديق هذا المعنى قوله تعالى [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ]( )، وأختلف في كتابة الملائكة لأقوال وأعمال بني آدم من جهة الحكم والموضوع على قولين :
الأول : كتابة وتدوين الملائكة لكل ما يقوله ويفعله الإنسان .
الثاني : كتابة ما فيه ثواب وعقاب ، خاصة وأن الآية أعلاه تخبر عن علم الملائكة بما يفعله الناس وهو أعم من الكتابة والتدوين .
والمختار هو الأول ، نعم من معاني الجمع بين الآيتين أعلاه عدم كتابة الملائكة للسيئة التي يتعقبها الإستغفار.
والإرهاب بالقتل العشوائي من الكبائر .
الرابع : الوحي والبشارة والإخبار للأولياء والأئمة ، كما في حضور الملائكة عند مريم [وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ]( ) .
وكما في خطاب الملائكة لسارة زوج إبراهيم عليه السلام مع بيان مسألة وهي أن الملائكة لم يخاطبوا سارة في موضوع مستقل إنما خاطبوها بلحاظ أنها زوج الرسول إبراهيم ، وكان نزولهم إلى لوط وإرادة هلاك قومه لإقامتهم على المعاصي وفعل الفاحشة .
وبشروها في مسألة تخص إبراهيم أيضاً وهي بشارة الولد ، قال تعالى[وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ]( )، وإذ أكرم الله عز وجل زوج إبراهيم بحديث الملائكة ، فقد أكرم الله عز وجل أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة باقية إلى يوم القيامة ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ) وهو من الشواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين , وإكرام أهل بيته وأزواجه .
الخامس : نزول الملائكة للذب والدفع عن الناس ، ونجاتهم من البلايا وأسباب الهلكة الخاصة والعامة ، وهذه النعمة شاملة لكل الناس ، ولا تختص بالمؤمنين والمؤمنات وحدهم ، بل هي رزق كريم ينهل وينتفع منه الناس جميعاً ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ]( ).
وهل يصرف الملائكة ضروب الإرهاب والجرح والقتل العشوائي عن الناس , الجواب نعم ، وليس من حصر لسبل هذا الصرف إذ يتفضل الله عز وجل بتسخير الملائكة لأمور حميدة منها :
أولاً : صرف الإنسان عن القيام بالإرهاب ، وإشغاله عنه .
ثانياً : المنع من تنجز الإرهاب ووأده في مهده.
ثالثاً : فضح الإرهاب وأهله .
رابعاً : منع أكثر الناس من الحضور في موضع الإرهاب .
خامسا : صرف الشباب عن الموافقة على الإرهاب , أو الإنخراط فيه .
وقد تأتي هذه النعم من عند الله من غير واسطة ملائكة .
السادس : نزول الملائكة استجابة لدعاء المؤمنين وحباً وإكراماً لهم وشفقة عليهم ، فان قلت قد ورد تقييد الإستجابة بالدعاء بقوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
والجواب رحمة الله وفضله على الناس أعم من مسائل الدعاء والإستجابة له ، إذ يتفضل الله إبتداءً من عنده ، قال تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
السابع : نصرة الملائكة للأنبياء والأولياء ، وقد نزل ألف ملك في معركة بدر لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(قال ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالصوت فوقه وصوت الفارس يقول : أقدم حيزوم( )، إذ نظر إلى المشرك أمامه ، فخر مستلقياً فنظر إليه فإذا هو قد خطم وشق وجهه كضربة السوط ، فاحضر ذلك أجمع ، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : صدقت ، ذاك من مدد السماء الثالثة فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين) ( ).
الثامن : نزول الملائكة لصرف البلاء والضرر عن الفرد والجماعة ، وهو من فضل الله عز وجل على الناس ، وهل يختص هذا الصرف بالمؤمنين ، الجواب لا ، فهو من رحمة الله بالناس جميعاً ، فقد يأتي هذا الصرف ومحو الضرر بواسطة الملائكة بسبب أب أو جد صالح للذي يصرف عنه البلاء أو لأنه سيولد له أو حفيد صالح .
ومن مصاديق نزول الملائكة لنجاة المؤمنين من الإرهاب ، ما ورد عن أنس قال (كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكنى أبا معلق وكان تاجراً يتجر بمال له ولغيره وكان له نسك وورع فخرج مرة فلقيه لص متقنع في السلاح .
فقال: ضع متاعك فإني قاتلك. قال شأنك بالمال. قال: لست أريد إلا دمك قال: فذرني أصل قال: صل ما بدا لك فتوضأ ثم صلى فكان من دعائه: يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعالاً لما يريد أسألك بعزتك التي لا ترام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك – أن تكفيني شر هذا اللص يا مغيث أغثني – قالها ثلاثاً؛
فإذا هو بفارس بيده حربة رافعها بين أذني فرسه فطعن اللص فقتله ثم أقبل على التاجر فقال: من أنت؟ فقد أغاثني الله بك. قال: إني ملك من أهل السماء الرابعة لما دعوت سمعت لأبواب السماء قعقعة ثم دعوت ثانياً فسمعت لأهل السماء ضجة ثم دعوت ثالثاً .
فقيل: دعاء مكروب فسألت الله أن يوليني قتله ثم قال: أبشر واعلم أنه من توضأ وصلى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء استجيب له مكروباً كان أو غير مكروب) ( ).
وقال الله تعالى [يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ] ( ).
ويحتمل المقصود من الذين تنزل عليهم الملائكة في الآية أعلاه وجوهاً:
أولاً : إرادة خصوص الأنبياء والرسل .
ثانياً : المقصود الأنبياء والأولياء .
ثالثاً : إرادة عموم المؤمنين .
رابعاً : المؤمنون والمؤمنات .
خامساً : عدم الحصر بصفة خاصة من الناس .
ولا تعارض بين هذه الوجوه لأنها من فضل الله , وينفرد الأنبياء بخصوصية من جهات :
الأولى : الملازمة بين النبوة ونزول الملك ، فكل نبي ينزل عليه الملك .
الثانية : النزول المتعدد للملك على النبي فقد ينزل الملك لنجاة شخص ودفع الأذى عنه ، ولكنه فرد نادر , أما نزولهم على الأنبياء فهو متعدد .
الثالثة : نزول الملائكة للأنبياء للوحي إليهم ، وتلاوة آيات الكتاب السماوي عليهم .
التاسع : نزول الملائكة للإنتقام من الذين كفروا وقهرهم ومنعهم من نشر الإرهاب في الأرض .
فان قلت قد ورد في معركة بدر دعاء واستغاثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بقوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) إذ اجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء عشية بدر وصباح يوم المعركة ، وهو يقول (اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض،
فلم يزل كذلك حتّى سقط رداؤه وأخذ أبو بكر رداءه وألقاه على منكبيه ثمّ التزمه من ورائه وقال : يانبي الله كفا مناشدتك ربّك فإن الله سينجز لك ما وعدك [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي]( )، أي بأنّي. وقرأ عيسى : إنّي بكسر الألف وقال إنّي [مُمِدُّكُم] وزائدكم ومرسل إليكم مدداً [بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ}( ).
ومعنى مردفين أي متتابعين يردف بعضهم بعضاً ونزل جبرئيل بخمسمائة ملك تعضيداً ومدداً ليمنة المسلمين ، ونزل ميكائيل بخمسمائة عوناً ومدداً لميسرة المسلمين وعامتهم .
فان قلت قد ذكر القرآن استغاثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالله عز وجل يوم بدر ، ولم يرد ذكر للدعاء والإستغاثة في نزول الملائكة يوم أحد .
والجواب من جهات :
الأولى : استصحاب وتجدد حال استغاثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في كل معركة من معارك الإسلام ، فكما أجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء في معركة بدر فانه إجتهد بالدعاء في معركة أحد والخندق وحنين خاصة وقد نزل القرآن بتوثيق استغاثته ببدر وبيان منافعها .
وتقدير الجمع بين الآية أعلاه من سورة الأنفال مع آية ببدر على وجوه :
أولاً : لقد نصركم الله ببدر إذ تستغيثون ربكم .
ثانياً : تستغيثون ربكم ببدر فنصركم الله .
ثالثا : فاستجاب لكم الله فنصركم ببدر .
رابعاً : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين فنصركم .
خامساً : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ببدر ويستجيب لكم في معارك النبوة اللاحقة في أحد والخندق وحنين ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
لقد استغاث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر بالله عز وجل ، وهذه الإستغاثة لها أسباب وغايات , أما أسبابها فهي :
أولاً : قيام المشركين بالنفير والهجوم .
ثانياً : إصرار المشركين على القتال يوم بدر .
ثالثاً : مزاولة المشركين الإرهاب الجسدي والتعذيب للمسلمين .
فلم يكتف المشركون بايذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ، ومحاولتهم المتكررة لخنقه وإغتياله بل قاموا بايذاء المسلمين والمسلمات.
وعن سعد بن أبي وقاص أنه (سأل النبي صلى الله عليه وسلم أيّ الناس أشدّ بلاء فقال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل من الناس ، فيبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان صلب الدين اشتدّ بلاؤه ، وإن كان في دينه رقّة فهي على حسب ذلك ، ولا يبرح البلاء عن العبد حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيّة)( ).
وهل تدل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة على قيام قريش بالإرهاب .
الجواب نعم ، ثم جاءت معركة أحد امتداداً لإرهاب قريش وزيادة فيه ، وإسرافاً ، وإمعاناً في الظلم فتفضل الله بالنصر للمسلمين لبيان قانون وهو عاقبة الإرهاب وإن تكرر الخسران .
ليكون من معاني قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، أي ليهلك الله طائفة من الذين كفروا في واقعة بدر وأحد لتماديهم في العدوان ، وتجاهرهم بالإرهاب وتفاخرهم به , ووعيدهم باستحداث فصول منه .
رابعاً : سعي المشركين لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وهل يحتسب قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ رسالته من مصاديق أسباب معركة بدر ، الجواب لا ، لأن الأصل هو استجابة الناس لهذه الدعوة إلى الله ، وتلقي تبليغ أحكام الشريعة بالقبول من عامة الناس .
وعن أبي بن كعب قال : كنت أُصلي فناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أجبه ، فلما صلّيت أتيته ، فقال : ما منعك أن تجيبني ، قلت : كنت أُصلي، قال : أولم يقل الله : {يا أيها الذين آمنوا أستجيبوا لله وللرسول} الآية.
ثمّ قال : لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن نخرج من المسجد فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت : يارسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن.
قال : نعم، الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت( ).
الثانية : مصاحبة الدعاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقانون (كل نبي دعّاء) فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يفارق الدعاء في الليل والنهار ، والسراء والضراء ، وتشتد الحاجة للدعاء عند مداهمة العدو ، وقيامه بالغزو ، وتجلي أفراد من إرهابه وبطشه .
ثالثاً : هناك حذف , وتقدير الآية : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( )بلحاظ كبرى كلية في نظم هذه الآيات وهي ذكر المدد من الملائكة للمسلمين في معركة بدر ومعركة أحد .
السابع : تنزل الملائكة لتقريب الناس إلى مقامات الإيمان ، وإبعادهم عن مسالك الضلالة .
لذا تفضل الله عز وجل وجعل كل مسلم ومسلمة يتلوان قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) سبع عشرة مرة في اليوم على نحو الوجوب العيني في الصلاة ، ولتكون هذه التلاوة واقية من نزغ الشيطان .
ومن أضرار الإرهاب والميل إليه التنافي بين الصراط المستقيم والإرهاب ، والرغبة بالبطش والإنتقام .
الثامن : نزول الملائكة لهلاك قوم ظالمين يقيمون على المعاصي ،ويتناجون بالمنكر ، ويكون تعاونهم في فعل السيئات والنهي عن المعروف ، ومن الآيات قيام الملائكة بنجاة الصالحين في ذات الوقت الذي يهلكون فيه الظالمين الفاسقين ، كما في نجاة نوح وأهله في إبحار السفينة أيام الطوفان ، وقيل لنوح امرأتان ، إحدهما مؤمنة وأخرى كافرة كانت تؤذيه وتشيع نبأ الذين يؤمنون بنبوته وتكشف أسماءهم ، وتقول أن زوجي مجنون .
ولما ركب نوح في السفينة ركبت معه المؤمنة ، ولم تركب الكافرة ، وكذا ولده امتنع عن الركوب ، قال تعالى [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ] ( ) وأشفق نوح على ولده ودعاه لركوب السفينة ، ولكنه [قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ] ( ) .
وقد نزل الملائكة لهلاك قوم ونجى الله لوطاً وأهله إلا امرأته ، وفي قوله تعالى [فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ] ( ).
لقد سأل إبراهيم الله عز وجل النجاة للمؤمنين من قوم لوط ، ولما قال الملائكة ( إنا مهلكوا أهل هذه القرية،
قال لهم : أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟
قالوا لا،
فقال إبراهيم : وأربعون؟
قالوا : لا،
قال : أو ثلاثون؟
قالوا : لا،
قال : حتى بلغ عشرة،
قالوا : لا،
فقال : خمسة قالوا : لا،
قال : أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونه؟
قالوا : لا،
فقال إبراهيم عند ذلك : إن فيها لوطاً،
فقالوا : نحن أعلم بمن فيها لننجّينه وأهله إلاّ امرأته كانت من الغابرين.) ( ).
التاسع : قد يعرض مؤمنون لموضع فيه هلاك ، فيقوم الملائكة بحجبهم عن هذا الموضع ساعة الهلكة والبطش بهم ، ولا يستطيع الشيطان أن يغويهم ليدخلوا في هذا البلاء ، وكان لقمان الحكيم يوصي ابنه بوصايا عديدة وعند قراءة هذه الوصايا تجدها تبعث على الخلق الحميد والتنزه عن الإرهاب والشعوذة والإضرار بأي من الناس .
ومنها ما ورد (عن سعيد بن المسيب قال : قال لقمان عليه السلام لابنه : يا بني لا ينزلن بك أمر رضيته أو كرهته إلا جعلت في الضمير منك أن ذلك خير لك . قال : أهذه فلا أقدر أعطيكها دون أن أعلم ما قلت كما قلت) ( ).
لقد أخبر ابن لقمان أباه عن حاجته للإيمان بما يقوله من أن المكروه الذي يطرأ عليه هو خير له ، وأن يرضى بقدر الله ، فقال حينئذ لقمان : يا بني فان الله قد بعث نبياً هلّم حتى نأتيه فنصدقه ، وفيه شاهد على أن هجرة المسلمين إلى الأنبياء ليست جديدة في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل هي قديمة في الأرض ، وهي من أسباب العون والنصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وبخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
وقد جاء بعض المؤمنين من خارج الجزيرة مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لدخول الإسلام مثل أبي ذر وسلمان الفارسي .
فخرج لقمان هو وابنه قاصدين المدينة التي بعث فيها نبي زمانهما وركب كل واحد منهما حماراً ، وتزودا من الطعام والشراب ، فسارا أياماً وليالي حتى تلقتهما مفازة وصحراء فاصلة يلزمهما إجتيازها فاستعدا لها بالنزول بالطعام والماء .
فقطعا مسافة طويلة وتعالى النهار واشتدت حرارة الشمس ، ونفد الماء الذي عندهما وظهر الإعياء على الحمارين وصارا لا يسرعان في المشي بحيث أدرك لقمان وابنه أنهما إذا بقيا يركبان الحمارين يموتان من الجوع والعطش في المفازة فتركا الحمارين وصارا يشتدان بالمشي رجاء إجتياز المفازة فسارا ما شاء الله فنظر لقمان أمامه فلاح له سواد ودخان .
فقال في نفسه : السواد : الشجر : والدخان : العمران والناس فاسرعا في الجري فوطأ ابن لقمان عظماّ في الطريق فخر مغشياً عليه فاسرع إليه لقمان وضمه إلى صدره واستخرج العظم من رجله باسنانه ، ثم نظر إلى ولده وذرفت عيناه .
عندئذ قال الابن : يا أبت ها أنت تبكي ) أي أن البكاء يدل على أني في مصيبة وبلاء ، فكيف يكون هذا خيراً لي ، وقد نفد الطعام والماء ، وأنا غير قادر على المشي والسير بعد الذي أصابني ، ثم قال : يا أبت إن بقينا معاً في هذا المكان متنا جميعاً وإن ذهبتَ وتركتني لأني لا أقوى على المشي ، سيصاحبك الهم والغم طيلة أيام حياتك ؟
فكيف تكون هذه الحال وما اصابني خيراً لي ، فأجابه لقمان : أما بكائي فرقة الوالدين اي أن هذا البكاء لا يتعارض مع كون ما أصابك هو خير ، ولعل الذي صرفه الله عنك هو أعظم مما ابتليت به .
وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ثم أردف لقمان : ولعل ما ابتليت به أيسر مما صرف عنك ، ثم نظر لقمان أمامه ليتفاءل بقربهما من المدينة ، فتفاجأ بزوال صورة السواد والدخان .
إذن أين ذهبت الهيئة والصورة التي كان يظنها مدينة وهي ليست سرابا أبداً ، وكان لقمان يتصف بالصبر والحكمة ، فلم ييأس فاذا بفارس على فرس أبلق ( )، وعليه ثياب بيض وعمامة بيضاء يمسح الهواء مسحاً ، فأخذ لقمان يحدق به وشخصت عيناه إليه ، فهو سبيل نجاة بفضل الله ، حتى إذا صار قريباً من لقمان توارى عنه ، ولم يعد يراه .
ثم جاء الصوت من جهة الفارس : أنت لقمان ؟
قال :نعم .
قال : أنت الحكيم ؟
قال : كذلك .
فقال : ما قال لك ابنك ؟أي في تردده بالتصديق بأن كل ما يأتي للإنسان من خير وأذى هو خير للعبد في عاقبة الأمور .
ولم يجبه لقمان على ذات السؤال ، فقد تجلى المعنى وقصد التذكير بالقول الذي لا يعلمه غيرهما إلا الله , إنما بادره إلى السؤال عن شخصه ، فقال : يا عبد الله من أنت ؟
اسمع كلامك ولا أرى وجهك : قال أنا جبرئيل ، أمرني ربي بخسف هذه المدينة ومن فيها ، فأخبرت أنكما تريدانها .
ومن عادة الملائكة عند نزول العذاب بأهل قرية ظالمة اخراج أو دفع الذين آمنوا ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ليكونوا شهوداً على الناس ، ولبيان عظيم قدرة الله وأن البلاء نزل بمشيئة وأمر منه سبحانه ، وليس هو كارثة من الطبيعة وتبدلاتها .
ولم يكن لقمان وابنه من أهل تلك البلدة ، وهل هي ذات البلدة التي كان فيها نبي وقصده لقمان وابنه ، الجواب لا ، إنما كانت في الطريق إليه ، ولعل أهلها كانوا ينوون محاربة نبي زمانهم الذي جاء لقمان للتصديق به .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صرف بلاء الخسف عن أهل مكة وكفار قريش حتى أدرك أكثرهم الإسلام ونطقوا بالشهادتين .
ثم قال جبرئيل (فدعوت ربي أن يحبسكما عنها بما شاء) ( ) فاستجاب الله عز وجل لسؤال جبرئيل وابتلى ابن لقمان بقدمه فاضطرا إلى القعود برهة .
ثم قال جبرئيل : ولولا ذلك لخسف بكما مع من خسفت ثم مسح جبرئيل عليه السلام يده على قدم الغلام فاستوى قائماً ، ومسح يده على المزود الذي كان فيها الماء فأمتلأت ماء عذباً ، ثم حملهما وحماريهما فرجل كما يرجل الطير .
فاذا هما في الدار الذي خرجا منه قبل عدة أيام ، أي أن تلك المسافة قطعها جبرئيل عليه السلام بدقائق معدودة ، وفيه شاهد على إنقاذ الملائكة للمؤمنين من البلاء والعذاب الذي ينزل بأهل الفسوق والعصيان .
لقد كان لقمان يدعو ابنه إلى التحلي بالأخلاق الحميدة والصبر على الأذى ، وعدم قهر الناس ، وحملهم على ما يريد بالعنف والإرهاب ، وفي أحدى وصاياه (قال لقمان لابنه : من كذب ذهب ماء وجهه ، ومن ساء خلقه كثر غمه ، ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم) ( ).
وهل هذا الحجب ونجاة المؤمنين من البلاء الذي ينزل بالظالمين مطلق ، الجواب لا ، فقد يلحق ذات البلاء المؤمن مع أنه ممن يأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ليفوز بالثواب العظيم ، قال تعالى [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً] ( ) .
إن إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن كثرة أجنحة جبرئيل وأنها ستمائة جناح شاهد على رحمة الله بنزول الملائكة ، وأن هذه الأجنحة لدفع البلاء عن الناس باذن من الله عز وجل .
العاشر : الملائكة واسطة حب الله للعبد ، إذ يألفون الذي يحبه الله ، ويمدونه بالعون ، ويدعون إلى حبه ، وهذا الحب سبب لنزول شآبيب الرحمة والنجاة من الإرهاب .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (“إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: يا جبريل، إني أحب فلانًا فأحبه. قال: فيحبه جبريل”.
قال: “ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا”. قال: “فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن الله إذا أبغض عبدًا دعا جبريل فقال: يا جبريل، إني أبغضُ فلانًا
فأبغضه”. قال: “فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه”. قال: “فيُبْغضُه أهل السماء، ثم يوضع له البغضاء في الأرض”.)( ).
ومن معاني هذا الحديث عدم وصول النوبة للإرهاب والظلم والتعدي ، فاذا أحب الله عبداً رضي عنه وعن عباداته ، ولم يطلب منه القتل والإضرار بالناس وإذا أبغض الله عبداً كافراً فان الله يبتليه بأنواع البلاء والنار تنتظره في الآخرة .
الحادي عشر : حراسة الملائكة للسماء وقيامهم بمنع الشياطين من أن يسترقوا السمع لغواية وفتنة الناس والإيحاء إلى أوليائهم زخرف القول ، وقد أقّرت الشياطين بعجزهم عن السياحة في السماء ، وعن استراق السمع ، وفي التنزيل حكاية عنهم [وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا] ( ).
وورد في سورة أخرى بخصوص السماء[وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلاَّ مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ]( ).
وهل يرضى الجن بالإرهاب ، الجواب انهم على قسمين :
أما الجن الصالح فانهم لا يرضون به ، ويسعون في منعه ودفعه ، أما الجن الكافر الفاسق فانه قد يدعو إلى الإرهاب ويحض عليه ، قال تعالى [شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ]( )، لذا فان الإمتناع عن الإرهاب نصر على الشيطان ، وقهر له ، وشاهد على أن أتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يهجرون الغلو والتفخيم.
سورة الفاتحة جامعة تنهى عن الإرهاب
الحمد لله الذي جعل القرآن سبيلاً للإرتقاء ، وآلة للعمل والبناء بما فيه الصلاح والإصلاح ليكون فيه غنى ومنعة للمسلمين ، وواقية من الفساد والفوضى في الأرض .
وعدد كلمات القرآن هو (77430) كلمة تحيط باللامحدود من الوقائع والأحداث( )، ومنها كلمات سورة الفاتحة وعددها مع البسملة (29) كلمة على خلاف فيه .
وعدد حروف سورة الفاتحة على وجوه :
الأول : عدد حروفها مائة وثلاثة عشر حرفاً( ), ونسبه إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) الى القيل إذ ذكر : (وقالوا: وكلماتها خمس وعشرون كلمة، وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفًا. قال البخاري في أول كتاب التفسير: وسميت أم الكتب، أنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة وقيل : إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله إلى ما تضمنته.
قال ابن جرير: والعرب تسمي كل جامع أمر أو مقدم لأمر -إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع -أُمًّا، فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ، أمّ الرأس، ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أُمًّا، واستشهد بقول ذي الرمة:
على رأسه أم لنا نقتدي بها … جماع أمور ليس نعصي لها أمرا
يعني: الرمح.
قال: وسميت مكة: أم القرى لتقدمها أمام جميعها وجمعها ما سواها، وقيل: لأن الأرض دحيت منها)( ).
ومع أن ابن كثير نسب الكلام الى قول الجماعة إلا أنه لم يذكر غيره مما يدل على ميله إليه.
الثاني : عدد حروفها مائة وعشرون حرفاً, قَالَ عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (ت: 444هـ)
الثالث : عدد حروفها مائة وثلاثة وعشرون.
الرابع : عدد حروفها مائة وأربعون حرفا.
الخامس : عدد حروفها مائة واثنان وأربعون حرفاً.
السادس : عدد حروفها مائة وثلاثة وأربعون حرفاً.
وفي عدد كلمات سورة الفاتحة أقوال :
الأول : عدد كلماتها خمس وعشرون كلمة ( ).
الثاني : عدد كلماتها سبع وعشرون كلمة.
الثالث : عدد كلماتها تسع وعشرون كلمة.
وفاتحة الشيء أوله ، وقد إبتدأ نظم السور في المصحف الشريف بسورة الفاتحة مع أنها ليست أول سور القرآن نزولاً ، فأول سورة هي سورة العلق وقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ).
وعن عكرمة والحسن البصري (قالا أول ما نزل من القرآن (بِسمِ اللهِ الرَحمَنِ الرَحيمِ) فهو أول ما نزل من القرآن بمكة، وأول سورة (اِقرَأ بِاِسمِ رَبِّكَ)( ).
ولا بد من قراءة سورة الفاتحة في الصلاة ، لورود أحاديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الخصوص منها عن عبادة بن الصّامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن( ).
وذهب أبو حنيفة الى عدم تعيين قراءة الفاتحة في الصلاة لعمومات قوله تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ]( )، ولما ورد في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد فدخل رجل وصلّى ثم جاء فسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ارجع فصلِّ ، فإنك لم تصلِّ حتى فعل ذلك ثلاث مرات .
قال الرجل : والذي بعثك بالحق نبياً ما أحسن غير هذا ، فعلِّمني. قال : إذا قمت إلى الصلاة فكبّر ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن ثم اركع ( ).
ولكن هذا الحديث قضية عين وحكم ضرورة وفيه تخفيف ، وهو لا يرق الى معارضة الأحاديث الكثيرة بخصوص قراءة سورة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة ، لتكون هذه الأحاديث بياناً وتقييداً من السنة النبوية للآية أعلاه ، وفيه مسائل :
الأولى : التخفيف عن المسلمين والمسلمات .
الثانية :منع الخلاف بين المسلمين .
الثالثة : إرادة الأجر والثواب العظيم للمسلم في كل صلاة .
الرابعة : قراءة سورة الفاتحة واقية من الإرهاب ، ودعوة للناس جميعاً لنشر شآبيب المودة والرحمة بينهم ، إذ أنها تتضمن الحمد والثناء على الله عز وجل ، وفيها سؤال الرحمة والعفو والمغفرة عن الناس.
وترتيب سور القرآن توقيفي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذت سورة الفاتحة منزلتها وعظيم شأنها إذ يقرأها كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية ويستقبل اليوم التالي بتلاوتها في صلاة الفجر لتشهد له ملائكة الليل والنهار بالتقوى، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
ومن أسماء الله تعالى الفتاح ، وقد ورد في القرآن مرة واحدة بقوله تعالى [قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ]( )، كما ورد في الثناء عليه تعالى بقوله [رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ]( ).
والله هو الذي يفتح أبواب الرزق وخزائن السموات والأرض من غير أن يصيبها نقص ، وهو الهادي إلى سبل الرشاد ، ويأتي بالفرج العاجل ، ويشّرع أبواب الرحمة للناس من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون .
وفي التنزيل [مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( )، ومن رحمة الله عز وجل بالناس سعة العيش في هذا الزمان والضبط والأمن وتبادل المعارف ، وإطلاع الناس على الكتب السماوية وحجج المذاهب والملل .
ليكون الإرهاب أمراً ضاراً بأهله ، لا يجلب النفع لأحد.
والفتح ضد الإغلاق ، لتفتح سورة الفاتحة ما استغلق من العلوم على الأفهام ، وتفتح أبواب الرزق للعباد ولا يكون هذا الفتح لخصوص التالي لهذه السورة .
إنما تفتح سورة الفاتحة ذخائر من فضل الله ومعارف عرفانية كاملة ، ودقائق علمية وصحائف من علم الله سبحانه ، ويبدأ بها نظم القرآن فهي أول سورة ما بين الدفتين ، وقد تعددت أسماء هذه السورة ، وأوصلتُها الى أربعة وأربعين اسماً منها أسماء توقيفية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد يرد حديث يتضمن أكثر من اسم لسورة واحدة ، فقد وردت أربعة اسماء لسور الفاتحة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم (الحمد لله ربّ العالمين، سبع آيات أوّلهنّ (بسم الله الرَّحْمن الرحيم)،
وهي السبع المثاني،
وهي أمّ القرآن،
وهي فاتحة الكتاب) ( ) ، وكأنه ترغيب بتعدد وكثرة أسماء هذه السورة المباركة , وكل اسم له دلالته الخاصة ، ومعانيه ، وهذه الأسماء هي :
الأول : فاتحة الكتاب
الثاني : سورة الفاتحة .
الثالث : سورة الحمد.
الرابع : الحمد لله رب العالمين .
الخامس : أم القرآن.
السادس : أم الكتاب .
السابع : السبع المثاني .
الثامن : المثاني.
التاسع : الصلاة .
العاشر : سورة الدعاء .
الحادي عشر : سورة الشكر .
الثاني عشر : الشفاء.
الثالث عشر : الشافية.
الرابع عشر : الوافية .
الخامس عشر : الأساس.
السادس عشر : الكافية .
السابع عشر : سورة الكنز .
الثامن عشر : الرقية .
التاسع عشر : القرآن العظيم.
العشرون : السبع.
الحادي والعشرون : سورة الحمد الأولى.
الثاني والعشرون : سورة الحمد القصرى .
الثالث والعشرون : فاتحة القرآن .
الرابع والعشرون : سورة السؤال .
الخامس والعشرون : سورة تعليم المسألة .
السادس والعشرون : سورة النور .
السابع والعشرون : سورة المناجاة .
الثامن والعشرون : سورة التفويض.
التاسع والعشرون : سورة الثناء .
الثلاثون : سورة الإقتران.
الحادي والثلاثون : سورة الإبتداء.
الثاني والثلاثون : سورة المناسبات.
الثالث والثلاثون : سورة العقود .
الرابع والثلاثون : سورة العلوم.
الخامس والثلاثون : المنجية .
السادس والثلاثون : سورة الأصول والفروع.
السابع والثلاثون : السورة البكر.
الثامن والثلاثون : السورة الميسَّرة .
التاسع والثلاثون : سورة الكمال .
الأربعون : السورة الواقية.
الحادي والأربعون : سورة الإتحاد .
الثاني والأربعون : السورة الحاضرة .
الثالث والأربعون : سورة الذكر .
الرابع والأربعون : سورة العوض .
وهل في تعدد أسماء الفاتحة موعظة ومحاربة للإرهاب ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : دلالة أسماء سورة الفاتحة على الرحمة ودعوتها إلى الكمالات الأخلاقية ومنافاة الإرهاب لها .
الثانية : تجذب أسماء سورة الفاتحة الناس إلى الهدى .
الثالثة : تنمي أسماء سورة الفاتحة ملكة التقوى عند المسلمين .
الرابعة : التحقيق والمتابعة والسؤال من اسماء سورة الفاتحة وحفظها أو حفظ بعضها واقية للنفس من الإرهاب .
الخامسة : تبعث أسماء سورة الفاتحة النفرة في النفس من الإرهاب .
السادسة : دلالة الاسم على المسمى من جهة المعنى مثل سورة الصلاة وتذكيرها بلزوم تعاهد الصلاة وما فيها من إجتناب الإرهاب ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) .
وفي تسميتها سورة الدعاء بعث لسؤال الله عز وجل لنجاة المسلمين والناس من الإرهاب ووقايتهم من تلقي إرهاب الغير والتوجه إلى الله عز وجل بتنزه أهل الأرض من الإرهاب وكذا دلالة ومعنى سورة الشكر وسورة الشفاء والشافية وسورة الكنز .
والإرهاب تعد على الحضارة ولغة التسامح التي هي حاضرة بوضوح في زمن العولمة .
وابتدأت سورة الفاتحة بالبسملة ، وإذ اختلف العلماء هل البسملة جزء من سور القرآن الأخرى أم أنها جاءت للإفتتاح ، فقد اتفقوا إلا النادر على أنها آية من سورة الفاتحة.
ومن الإعجاز في أسماء سورة الفاتحة أن كل اسم من اسمائها أمن وسلام ، ورادع عن الإرهاب والعنف.
وحتى افتتاح الصلاة بها بعد تكبيرة الإحرام دعوة للألفة ، وإنشغال وإشغال عن الأذى والإيذاء ، فتلاوة المسلمين والمسلمات للفاتحة واقية لهم من إرهاب غيرهم لهم ، ومانع من إرهابهم لغيرهم .
فمن خصائص القرآن أنه يبعث في النفوس الرهبة من الله عز وجل ، قال تعالى في الثناء على الأنبياء [إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ]( ) .
وتفتتح قراءة الفاتحة أفعال الصلاة من القيام والركوع والسجود وسيأتي بحث خاص بدلالة كل ركن من أركان الصلاة على النهي عن الإرهاب ، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : رنّ إبليس أربع رنات: أولهن يوم لعن، وحين اهبط إلى الأرض، وحين بعث محمد صلى الله عليه وآله على حين فترة من الرسل، وحين أنزلت أم الكتاب( ).
لبيان أن الغيظ والأسى أصاب إبليس وجنوده وأعوانه لنزول سورة الفاتحة لأنها تدعو الى السلم ، وتتعاهد إشراقة الإيمان في نفوس المسلمين ، وتمنع من الإرهاب ونشر الرعب وابتدأت السورة بالبسملة وهي وسيلة سماوية مباركة للإرتقاء والتعاضد لتهذيب النفوس ، وإصلاح النوايا ، وإفاضة البركة على بدايات الأعمال .
إن ذكر الله عز وجل بعنوان التسمية والإبتداء بالفعل حرز من مفاهيم الإرهاب وإتخاذ القوة وسيلة غير شرعية لتحقق الغايات ، والتهديد باستعمالها ، واستعمال العنف غير المستساغ في المقاصد شرعاً وعقلاً ضد الأفراد والجماعات.
البسملة برزخ دون الإرهاب
لقد تفضل الله عز وجل وجعل البسملة فاتحة القرآن ، وأول آية منه ، وفيه إكرام من وجوه :
الأول : إنه إكرام للقرآن بأن جعله الله يبدأ باسمه تعالى .
وهل فيه واقية من التحريف والتبديل ، الجواب نعم ، ومن معاني هذا الإبتداء عجز الذين كفروا من منع تنزيله ، أو تلاوة المسلمين له وإلى يوم القيامة .
الثاني : البسملة إكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وشاهد على صدق نبوته وهي كنز وهبة من الله عز وجل له لتكون شاهداً على تفضيله على الأنبياء .
الثالث : إكرام المسلمين والمسلمات بهدايتهم وعلى نحو الوجوب العيني بجعل البسملة فاتحة تلاوتهم للقرآن ، لتكون هذه الفاتحة قانوناً مستديماً في حياتهم اليومية .
ولم يكن إفتتاح القرآن بالبسملة من السنة النبوية أو أنه خيار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو أنه أمر مستحب بل هو فرض من عند الله ، ليكون من معانيه تنزيه المسلمين من الإرهاب والعنف ، وفي تكرار تلاوتها مانع دون بث روح الكراهية ، ولا يجتمع العنف والقتل مع البسملة للتضاد بينهما , ومن الإعجاز دخول التلفظ بها في شرائط حلية الذبيحة متحدة أو متعددة مصفوفة .
يأتي الذابح بالتسمية وليس بالبسملة ، وبينهما عموم وخصوص مطلق ، فكل بسملة هي تسمية وليس العكس .
والبسملة شعار إسلامي متجدد ، فليس من مسلم أو مسلمة إلا ويتلوان البسملة بصفة القرآنية عدة مرات كل يوم في الصلاة إلى جانب تلاوتها في إفتتاح الأفعال والشروع بالأعمال فمن منافع وجوب التسمية في الصلاة استحضارها في الواقع اليومي وتنمية ملكة ذكرها عند الإبتداء بالعمل وعند الشروع في الأكل ونحوه ، قال تعالى [فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ] ( ).
ولو قرأ المسلم السورة عدة مرات فعليه بتكرار البسملة معها كما لو قرأ سورة الإخلاص ثلاث مرات ، ولا يضر الإختلاف بين بعض الفقهاء في منزلة البسملة من السورة ، ففيه أقوال :
الأول : البسملة آية أنزلت للفصل بين السور ، نسب إلى الإمام أبي حنيفة ، وأنها ليست آية من سورة الفاتحة , وهي آية تامة أنزلت للفصل بين السور , وقالوا بقراءتها سراً ، وذكر أن فقهاء الكوفة لم ينقلوا عن أبي حنيفة في البسملة شيئاً .
ولا تبطل الصلاة بتركها ، وقال الحنفية بقراءتها في أول سورة الفاتحة دون غيرها من السور .
الثاني : البسملة آية من سورة الفاتحة ومن كل سورة ، وبه قال الحنابلة والشافعية والإمامية وقالوا ببطلان الصلاة بتركها عمداً سواء كانت قراءتها على نحو الوجوب أو الندب .
الثالث : البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من فواتح سور القرآن، وبه قال الإمام مالك .
وإجماع المسلمين على كتابة البسملة في بداية كل سورة باستثناء سورة براءة .
والمختار أنها آية من كل سورة باستثناء سورة براءة ، ومن خصائص البسملة أنها تزجر عن الإرهاب من جهات :
الأولى : تلاوة آية البسملة رحمة ، وباعث على الألفة بالنسبة للقارئ والسامع ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
الثانية : سماع آية البسملة ، وهل ينتفع غير السلم من سماعها في باب المنع من الإرهاب , الجواب نعم ، إذ أنها إصلاح للذات والغير ، وهي مناسبة للإحتجاج بأن تلاوتها مانع من الإرهاب .
الثالثة : كتابة البسملة ورسم حروفها لذا لابد من الإمتناع عن تلويث ما كتبت به البسملة .
الرابعة: إستحضار البسملة في عالم الأفعال والأقوال ، وإختيارها لإفتتاح القول وتبدأ العناية بالأولاد من مقدمات وطئ الزوج زوجته بالإتيان بالبسملة (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال : بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فقضى بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً) ( ).
الخامسة : تجلي معاني البركة من البسملة وتلاوتها وإتخاذها مفتاحاً للأعمال .
وتنفرد سورة براءة بعدم الإبتداء بالبسملة لبيان قانون خالد وخطاب سماوي للأجيال المتعاقبة وهو أن البسملة آية أمان ورحمة ، أما سورة براءة فهي إنذار لمن بقي من المشركين على كفره في السنة التاسعة للهجرة ، ودخول الناس الإسلام ، ومجئ الوفود من أنحاء وأطراف الجزيرة والمسلمين لدخول الإسلام , وبعد تجلي البراهين التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الناس هذا في الإسلام من معجزاته ومانع من البقاء على الشرك .
وهل هو زاجر عن الإرهاب .
الجواب نعم ، إذ توالت الوفود على المدينة ليدخلوا الإسلام ، ويخبروا عن دخول الذين من خلفهم من إخوانهم وأهليهم الإسلام ليكون بقاء كفار قريش على كفرهم على وجوه :
الأول : إنه دعوة للإرهاب
الثاني : إرادة الذين كفروا إرتداد طائفة من المسلمين , فوقاهم الله عز وجل الفتنة .
الثالث: إنه حرب على الإسلام .
ليكون تقدير قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ]( )، على جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا أعدوا للذين كفروا من قريش .
الثانية : يا أيها الذين آمنوا أعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ولا تأمنوا جانبهم .
الثالثة : واعدوا لهم ما استطعتم فانهم ينوون غزوكم .
الرابعة : واعدوا لهم ما استطعتم لزجرهم عن مواصلة الإرهاب .
الخامسة : الذين كفروا يتجاهرون بالإرهاب والإغارة على المدينة فاعدوا لهم ما استطعتم من قوة .
السادسة : واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل كيلا يقاتلكم الذين كفروا .
السابعة : وأعدوا لهم ولإرهابهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل .
الثامنة : دافعوا عن أنفسكم ضد إرهاب الذين كفروا واعدوا لهم ما استطعتم من قوة .
التاسعة : وأعدوا لهم ما استطعتم لإستئصال الإرهاب من الجزيرة .
العاشرة : واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل لعصمة المسلمين جميعاً من الإرتداد .
قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
الحادية عشرة : واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل , ففيه الأجر والثواب .
الثانية عشرة : وأعدوا للغزاة الذين كفروا وليس لغيرهم [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ).
وقد وردت البسملة في سورة النمل كجزء من آية وليس آية تامة ، قال تعالى [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) وفي قوله تعالى [وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى] ( ) (عن الزهري { وألزمهم كلمة التقوى } قال : بسم الله الرحمن الرحيم ) ( ).
ولكن معنى الآية أعلاه أعم ، فقد ورد عن عدد من الصحابة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن كلمة التقوى : لا إله إلا الله( ) .
وينطق كل مسلم ومسلمة بالبسملة عدة مرات في اليوم ليؤكد براءته من النفاق ومن الإرهاب ، ويمتنع عن التفريط بذكر الله عز وجل في حال اليسر والعسر ، وعند العمل وطلب الرزق ، وهذه القراءة شاهد على وحدة المسلمين في سنن التقوى ، لتكون البسملة من الهدى وإتيان ما فيه مرضاة الله ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
(عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة؟
قال : أقول : الحمد لله رب العالمين. قال : قل : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ})( ).
(عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يقول الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبادي نصفين؛ فإذا قال العبد : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله : مجّدني عبدي، وإذا قال العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله : حمدني عبدي.
وإذا قال : {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال : أثنى عليّ عبدي،
وإذا قال : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله : فوّض إليّ أمره عبدي.
وإذا قال : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله : هذا بيني وبين عبدي.
وإذا قال : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} قال الله : هذا لعبدي.
ولعبدي ما سأل ( ).
(عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم ” ويقال لها: الحمد، ويقال لها:الصلاة، لقوله عليه السلام عن ربه: ” قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي “)( )
وموضوعنا هو موضوعية البسملة في النهي عن الإرهاب ، وكونها جزءَ وآية من القرآن , وباعث على إجتناب المسلم والمسلمة الإرهاب والإعانة عليه ، لما فيها من الدلائل على أن الإسلام دين الرحمة والرأفة والشفقة ، وليس في الإرهاب رحمة لا بالذات ولا بالغير ، فحتى لو خرج الذي يقوم بالإرهاب من هذا الفعل سالماً كما لو فعله خفية فانه يتألم في قرارة نفسه ، وينتظره العذاب الأليم في الآخرة للتنافي بين الأديان السماوية وبين الإرهاب .
ولقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشد الأذى بسبب نطقه بالبسملة ، قال ابن عباس (قام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقال : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ]( )، فقالت قريش : دق الله فاك) ( ).
وهل يدل هذا الأذى على أن البسملة آية من القرآن ، الجواب لا ، إنما يستفاد هذا المعنى من نصوص أخرى ، وقد أصدرنا بياناً وألقينا محاضرة على اليوتيوب في عدم جواز القول (بسمه تعالى ) في افتتاح الكتب والرسائل ونحوها ، وإحتمال أن يمس الجنب كلمات البسملة ليس علة تامة أو سبباً لترك البسملة وابدالها بقول ( بسمه تعالى ) وفيه تفويت لمناسبة فيها تعظيم لشعائر الله وما يترشح من الفيض من البسملة ودعوتها الناس لإجتناب الإرهاب .
والبسملة حرب على الكفر وما يترشح عنه من الظلم والغزو والغواية والإرهاب ، قال تعالى [وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا] ( ).
قاعدة الملكية الخاصة
لقد جاء الأنبياء بتثبيت الملكية الخاصة والكسب الحلال ، وأنها منحة وهبة من الله ، وأجازت الشرائع السماوية للإنسان التصرف في أمواله بالصيغ الشرعية ، وقد أكدّ القرآن الملكية الفردية ، ودعا المسلمين إلى تعاهدها والحفاظ عليها ، فقال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ] ( ) .
لتتضمن الآية أعلاه النهي عن الغصب مطلقاً سواء بين ذوي الأرحام أو بين المسلم وغيره ، وعن إنكار الحقوق ، وعن القمار وجاء القرآن بحرمة السرقة والعقاب عليها ، وإن كانت من فقير في مال غني ، قال تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ) نعم أوجب الله عز وجل الزكاة وجعلها عنواناً للرحمة بين الناس والرأفة بالفقراء وصيانة لهم عن السرقة ، قال تعالى [ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ] ( ) وجاءت آيات القرآن بوجوب الزكاة والترغيب فيها ، وتضمنت السنة النبوية شرائطها ومقدارها والنصاب الذي تجب فيه .
ومن إعجاز القرآن أنه يبعث الشوق في النفس لأداء الزكاة والخمس وإخراج الحقوق الشرعية وصيرورة المسلم والمسلمة في حال طمأنينة عند التوفيق لهذا الإخراج .
(عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت، فتعجبت الملائكة من خلق الجبال، فقالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ .
قال: نعم، الحديد. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من النار؟ .
قال: نعم، الماء. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابنُ آدم يتصدق بيمينه فيخفيها من شماله) ( ).
والزكاة إصلاح للمجتمعات وتهذيب للنفوس وبينها وبين الإرهاب تباين .
وقد ندب الإسلام إلى إمتلاك المباحات وأحياء الأرض الموات والإصطياد وإدخار الكنوز بالحق مع إخراج الحقوق الشرعية فيها من الزكاة والخمس ، كما دعا إلى العمل بالتجارة ووضع قواعد الكسب والبيع والشراء والإستئجار والرهن ، وهو جعل المدين مالاً وعيناً عند الدائن يكون وثيقة ليستوفي دينه من ثمنه إن تعذر قضاؤه في أجله ، وعلى جوازه الكتاب والسنة والإجماع ، قال تعالى [وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ] ( ) .
وفي أسباب نزول قوله تعالى [وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى] ( ) (روى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استلف من يهودي طعاماً فأبى أن يسلفه إلا برهن ، فحزن وقال : إني لأمين في السماء وأمين في الأرض ، أحمل درعي إليه فنزلت هذه الآية .
وروى أنه لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مناديه فنادى : من لم يتأدب بأدب الله تعالى تقطعت نفسه على الدنيا حسرات) ( ).
فلم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم اليهودي علي اشتراطه الرهن ، وكان النبي يوزع المائتين والثلاثمائة ألف في النهار ليبقى وعياله من غير عشاء أو نار توقد تحت قدر في المساء وفيه دعوة للشباب للصبر والتعاون وعدم الجزع أو الميل للإنتقام وأعمال العنف ، قال تعالى [ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ] ( ).
وجاء القرآن والسنة بالنهي عن تسخير المال والملكية بما فيه الإضرار بالنفس والغير ، والإفساد في الأرض ، وهو من مصاديق احتجاج الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ومن علم الله عز وجل فضح وذم الذين يسخرون أموالهم بالباطل ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] ( ) وهل إنفاق المال في الإرهاب من الإفساد في الأرض ، الجواب نعم .
قانون إحتراز المنابر من الإرهاب والكراهية
من الملكية العامة الأوقاف الخيرية سواء كانت مالية أو عقارية أو زراعية ، ومنها المساجد والمدارس والمستشفيات فلا يجوز استعمالها في الإرهاب ومقدماته والدعاية له .
أو في العنف ونشر الكراهية ، فان قلت بعض آيات القرآن وتلاوتها يبعث على الكراهية ، الجواب لا أصل لهذا القول ، نعم قد يكون التفسير غير مناسب لهذا الزمان والقواعد الكلية لقوانين السلم والمودة في القرآن ، وهناك مسائل :
الأولى : بيان قانون وهو تلاوة القرآن رحمة عامة للناس .
الثانية : لا يجوز تعطيل أو محو أو تحريف آية من القرآن .
الثالثة : ذكر الآيات التي تتعلق بالمسائل الإجتماعية والإبتلائية العامة ، وبيان تفسيرها وكيف أنها إعلان سماوي متجدد ضد الإرهاب ، قال تعالى [وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
الرابعة : التأكيد على سخط الله في القرآن على الذين ظلموا .
جاءت آيات القتال للدفاع المحض وبعد تعدي الكفار ، ويجب التأكيد على بيان أحكام الشريعة وأستتباب الأمن ونشر ضروب المودة ، فمع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لاقوا الأذى الشديد في معركة أحد فانه لم يذكرها إلا بخير ، ومما لاقوه فيها :
الأول : زحف ثلاثة آلاف رجل من المشركين وإطلالتهم مدججين بالسلاح على المدينة يريدون اقتحامها في وقت ينشغل فيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بصلاة الجماعة ، ويرتقي المنبر لإخبار المسلمين عن رؤياه والتي ابتدأها بقول (إنى قد رأيت والله خيرا.
رأيت بقرا تذبح ورأيت في ذباب سيفى ثلما ورأيت أنى أدخلت يدى في درع حصينة فأولتها المدينة.) ( ).
ومن الخير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان بعدها بسنوات يتفاءل اذا رآى جبل أحد .
الثاني : إنسحاب ثلث جيش المسلمين من وسط الطريق بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي وعددهم ثلاثمائة ليبقى مع النبي سبعمائة باسلحة خفيفة مقابل ثلاثة آلاف رجل مجهزين بالأسلحة ويطلبون الثأر ، وأنفقوا الأموال الطائلة على مقدمات هذه المعركة .
الثالث : سقوط سبعين شهيداً من المسلمين في معركة أحد ، مع أن بداية المعركة كانت نصراً سريعاً وجلياً للمسلمين لولا ترك الرماة لمواضعهم التي جعلهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأوصاهم بعدم تركها بأي حال من الأحوال ، فأكرمهم الله عز وجل بالحياة عنده ، قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] ( ) فقيدت الآية القتل في سبيل الله .
ويتجلى معنى الدفاع فيه بلحاظ أسباب نزول الآية وهو معركة أحد ، لبيان أن الشهادة في الدفاع عن بيضة الإسلام إذ صار جيش المشركين على مشارف المدينة ، ويبعد جبل أحد حيث عسكر المشركون ثمانية كيلو متر عن المسجد النبوي وهو وسط المدينة مما يدل أن بعض أحياء وبيوت المدينة آنذاك أقرب إلى جبل أحد.
الرابع : كثرة جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة أحد .
وهل وقعت مثل هذه الجراحات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قبل أو بعد معركة أحد ، الجواب لا ، وفيه حجة وشاهد بأن الأذى الذي لحق النبي والمهاجرين والأنصار والمصيبة المتعددة التي حلت بهم بسبب هجوم وغزو الذين كفروا وإصرارهم على القتال , مع عدم وجود أي سبب عقلائي له .
لقد أخطأ المشركون باشعال معركة أحد وأصابتهم الخسارة الفادحة في الأرواح والأسرى والأموال ولحقهم الخزي في الدنيا والآخرة ، والأصل إتعاظ قريش من معركة بدر واللجوء إلى الصلح والموادعة لأمور تدركها قريش منها ظهور معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفة أهل مكة والمدينة بها ، فأهل مكة يعرضون عن نصرة الكفار في قتالهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لموضوعية هذه المعجزات .
ويستبسل أهل المدينة في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته التي يدركونها بالحواس ، وتخاطب عقولهم والأذهان ، ومنها ما ورد (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- رَجُلٌ مِنْ بَنِى عَامِرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرِنِى الْخَاتَمَ الَّذِى بَيْنَ كَتِفَيْكَ فَإِنِّى مِنْ أَطَبِّ النَّاسِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم أَلاَ أُرِيكَ آيَةً . قَالَ بَلَى.
قَالَ فَنَظَرَ إِلَى نَخْلَةٍ فَقَالَ : ادْعُ ذَلِكَ الْعَذْقَ . قَالَ فَدَعَاهُ فَجَاءَ يَنْقُزُ حَتَّى قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم ارْجِعْ . فَرَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ فَقَالَ الْعَامِرِىُّ يَا آلَ بَنِى عَامِرٍ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ رَجُلاً أَسْحَرَ) ( ).
(عن أَبي قلابة قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إِذا جاء من سفر فبدا له أُحُد قال: هذا جبل يحبنا ونحبه. ثم قال: آيبون تائبون، ساجدون لربنا حامدون) ( ).
وعن (كثير بن عبد الله قال، حدثني أَبي، عن أَبيه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أَربعة أَجبل من جبال الجنّة: “أُحد” جبل يحبنا ونحبه) ( ).
وفي كثير ( قال الشافعي: هو ركن من أركان الكذب، وكذا قال أبو داود.) ( ).
ولكن هناك نصوص يرويها موافقة لما يرويه الثقات من رجال الحديث فقد روى ( كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خط الخندق عام الأحزاب، فاحتج المهاجرون والأنصار أن سلمان الفارسي، كان رجلاً قوياً، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقالت الأنصار: سلمان منا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: سلمان منا أهل البيت) ( ).
ويحتمل ذكر معركة بدر وأحد ومعارك الإسلام الأولى على المنابر وجوهاً :
الأول : هذا الذكر حرب على الإرهاب ومانع من الكراهية .
الثاني : إنه من الإرهاب .
الثالث : لا صلة له بموضوع الإرهاب طرداً أو عكساً .
والصحيح هو الأول إذ أن المشركين هم المعتدون ، وقد انطوت صفحتهم إلى الأبد ، ويدل عليه بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحبه والمسلمين لجبل أحد وأن هذا الجبل له إحساس وشعور وأن النبي يعلم بأن الجبل يحب المسلمين .
ومن الإعجاز في حديث أبي قلابة أعلاه وتحقق مصاديق حب المسلمين لهذا الجبل وحبهم لهم باستدامة زيارتهم له .
ومن الآيات التي تؤكد الإحساس والإستجابة عند الكائنات مجتمعة ومتفرقة وملاك حب الجبل لغيره هو الإيمان وشرف النبوة وتشرفه بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووفود ملايين المسلمين كل سنة إلى جبل أحد ليستحضروا بهذا الوفود ذكرى عدوان وغزو المشركين وإصرارهم على القتال ، وإبتلاءهم بالمحق والقطع والهلاك ، ومحو مفاهيم الكفر ، قال تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] ( ).
فمن وجوه التباين بين شهداء الإسلام وقتلى المشركين يوم أحد بقاء مبادئ الإيمان وتوارث الأجيال لها وتعاهدهم لآيات التنزيل ، ومنه تلاوتهم للآيات التي تثني على شهداء أحد ، وتخبر عن عظيم شأنهم ، ومنزلتهم عند الله ، والآيات التي تتضمن خزي الذين كفروا من قريش على إرهابهم وتعديهم ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) فأخبر هذا الشطر من الآية عن أمور :
الأول : هلاك طائفة من الذين كفروا .
الثاني : نسبة هلاك وقتل الذين كفروا إلى الله عز وجل ، فان قلت أوليس يقبض ملك الموت أرواحهم ، الجواب لا يتعارض هذا القطع مع وظيفة ملك الموت العامة بالنسبة للبشر .
الثالث : تجلي مفاهيم الإنذار والوعيد من قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، أما الإنذار فللذين بقوا أحياء من المشركين الذين شاركوا في معركة أحد ، وأما الوعيد فللذين قتلوا منهم .
الرابع : تأكيد قانون وهو أن الذين قتلوا من المشركين في معركة أحد غادروا الدنيا على الكفر ، ولم تدركهم التوبة ، قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
الخامس : من معاني القطع في الآية هو عدم بقاء أثر للذين كفروا في ذريتهم ، لتكون الآية بشارة دخول أبناء الذين كفروا الإسلام ، وأمارة على التخفيف عن أصحابهم وجيرانهم بقطع سلطان الذين كفروا منهم .
السادس : إقامة الحجة على الذين كفروا بقتل طائفة منهم من عند الله عز وجل .
(عن ابن عباس في قوله { قال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً } قال : قال للسماء أخرجي شمسك اخرجي قمرك ونجومك ، وقال للأرض : شققي أنهارك وأخرجي ثمارك { فقالتا أتينا طائعين }( ))( ).
وكما في قوله تعالى [وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا] ( ) أي ما أراده لها وما أمرها به من الإقرار بالتوحيد والتقيد بالنظام الكوني العام .
لقد جعل الله عز وجل القرآن مدرسة الوعظ ومنبع جوامع الكلم ومنهاج الإستقامة ، وطريق الهداية ، وهو عون للمسلم وغير المسلم في إشاعة الأخلاق الحميدة ، والسنن القويمة .
قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ) ومن خصائص القرآن أنه يخاطب بمواعظه الناس جميعاً لينهل منه كل فريق وأفراد ما يضئ لهم مسالك الصلاح ، ويمتنعون به عن العنف والكراهية ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ) وهناك موضوعية في سنخية وماهية الموعظة من جهات :
الأولى : مناسبة الحال .
الثانية : المكان .
الثالثة : الزمان .
الرابعة : أعمار المستمعين .
الخامسة : المسائل الإبتلائية .
(روى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلم الناس على قدر عقولهم) ( ).
لقد أسس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر ليحمل لواء الهداية والرشاد ، ويدعو الناس إلى التوحيد وهو لسان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وهو نعمة ومعجزة متجددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولابد من الإحتراز فيه من التعدي أو تنمية العداوة بين الناس ولابد من إتخاذ المنبر للإصلاح ونبذ الظلم ولما أخبر الله عز وجل الملائكة عن جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، احتجوا فاجابهم بصيغة الإحتجاج المتجدد في مصداقه كل يوم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علم الله عز وجل منابر الأنبياء والأئمة وكيف أنها واقية من الفساد ومن الإرهاب ، ومن معاني الحديث أعلاه الأخذ بأيدي الناس الى شاطئ النجاة بلطف وتيسير أمور الدين ، وإتخاذ الجدال والبرهان وسيلة للبيان وليس العنف والإرهاب.
قانون فزع قريش من كتائب النبي السلمية
لقد هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بسلامة نفسه ورسالته ، والتنزيل , بعد أن أراد الكفار قتله في تلك الليلة ، ثم تعقبوه في الطريق لقتله وصاحبه فانجاه الله بمعجزات متتالية ، قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ) .
ولم يرد لفظ [أَخْرَجَهُ] في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان قبح فعل الذين كفروا إذ أكرهوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مغادرة مكة ، ومع المغادرة جاء الأمر من عند الله عز وجل بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان مسألة وهي أن إخراج طائفة من أهل البلد بسبب الإيمان وعقيدة التوحيد إرهاب ، فقد أكرم الله البيت الحرام ومجاوريه ، كما أن الأرض كلها ملك لله عز وجل وجعلها مسكناً لعباده ، وفي التنزيل ، قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) ، وهل هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أجل أن يقود الكتائب ويبعث السرايا ، الجواب لا دليل عليه ، والأصل عدمه إذ كان يعرض نفسه على القبائل بغية منعه والدفع عنه ليبلغ رسالته فتعهد له الأوس والخزرج بالمنع , وبايعوه بأن وعدهم الجنة , ومن تقواهم تلقيهم هذا الوعد بالتصديق والقبول .
وفي بيعة العقبة الثانية وقبل أن يبايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشاوروا وتحدثوا فيما بينهم وكشفوا عن أمر وهو أن ايواءهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيسبب لهم العداء والقتال مع قريش وحلفائها ، وستتلف مزروعاتهم ويقتل من رجالهم ، وقالوا إذا اعيتكم الحرب ثم سلمتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قريش فيلحقكم الخزي ، فمن الآن أنظروا أمركم ، فعزموا على الدفاع عنه وعدم تسليمه بأي حال .
ولكن سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ نَحْنُ وَفّيْنَا ( بِذَلِكَ ) قَالَ الْجَنّةُ . قَالُوا : اُبْسُطْ يَدَك . فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُوهُ) ( ) .
وما أن استقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ، وتجلت معجزاته للناس ، حتى صاروا يدخلون في الإسلام أفراداً وجماعات ، وتغشى الأمن والسلامة المسلمين المهاجرين والأنصار , فإشتد حنق وغيظ كفار قريش ، وتوالت عليهم الأخبار بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج حول المدينة ومعه عدد كبير من أصحابه , ففي شهر صفر من السنة الثانية للهجرة توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دوريات نشر مبادئ الإسلام إلى الأبواء ومعه ستون من الصحابة.
وحينما توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدها بنحو شهر إلى بواط كان معه مائتان من المهاجرين والأنصار ، وهو أمر أفزع الكفار وأدركوا أن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إزدياد مطرد ، وأنهم طائعون له ، وازدادت عناية القبائل بدين الإسلام , وصاروا ينظرون بهيبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وانجذاب الناس لدعوته مع أنها قامت على السلم المحض .
وحينما سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتيبة ذي العشيرة في شهر جمادى الأولى من ذات السنة كان معه مائتان من الصحابة ، وكانت قريش ترصد مسائل :
الأولى : تعدد الكتائب التي يخرج بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : عدم حدوث قتل وقتال في هذا الخروج ، مما يدل على عدم نفرة القبائل منه ، ولابد أن يقترن عدم النفرة هذا بالإنصات إلى دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام والميل لها .
الثالثة : تعدد الجهات التي يفد منها المهاجرون إلى المدينة ، وعدم إنحصارها بمكة وشباب قريش ، وصارت قريش تخشى مع تقدم وتوالي الأيام عدم موالاة القبائل لها في حربها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ]( ).
الرابعة : كثرة صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاذا كان عدد الذين يخرجون معه مائتين فان المجموع أكثر من ضعف هذا العدد ، خاصة وأنه لم يدع إلى نفير عام عند الخروج في الكتائب .
الخامسة : صيرورة سرايا وكتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة إلى الإسلام ، ووسيلة لنشر أحكامه ، وهداية للناس لأداء الصلاة والفرائض العبادية ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
السادسة : دلالة كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على رضا أهل المدينة بسيادة الإسلام وغبطتهم بوجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم مما أصاب قريش باليأس والقنوط من خروجهم عليه ، وتبين لهم قانون وهو عجزهم عن إثارة الفتن في المدينة المنورة ، وهذا العجز من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ,ودعوة للمسلمين في كل زمان بالصبر .
السابعة : من خصائص سرايا الإسلام الحرب على الطبقية والفوارق بين الناس ، ومن منافع هذه الحرب أنها قطع لأسباب ومقدمات الإرهاب ، فمن الصحابة ما كان عبداً يباع ويشترى ليصبح قائداً وإماماً في السرايا مثل زيد بن حارثة الذي قاد عدة سرايا , وهي :
أولاً : سرية زيد بن حارثة إلى القردة ومعه مائة من الصحابة في الأول من جمادى الآخرة من السنة الثالثة للهجرة( ) .
ثانياً : سرية زيد بن حارثة إلى الطرف في جمادى الأولى من السنة السادسة ومع خمسة عشر من الصحابة .
ثالثاً : سرية زيد بن حارثة إلى العيض ومعه مائة وسبعون من الصحابة في شهر جمادى الأول من السنة السادسة .
رابعاً : سرية زيد بن حارثة إلى حسمى , ومعه خمسمائة من الصحابة من جمادى الآخرة من السنة السادسة للهجرة .
خامساً : سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى , ومعه عشرة من الصحابة ، وكان القصد منها التجارة فهجم عليه أهل الوادي .
سادساً: سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى ومعه ثلاثمائة من الصحابة في شهر رجب من السنة السادسة للهجرة .
سابعاً: سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة في شهر رمضان من السنة السادسة للهجرة .
وورد اسم زيد بن حارثة في القرآن ، وهو الإسم الوحيد من بين الصحابة الذي ذكر في القرآن ، قال تعالى [فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً] ( ) .
لبيان إكرام القرآن للصحابة ، وذكر بعضهم مما جعل قريشاً يستشيطون غضباً ويظنون أن العبيد سيصبحون أمراء عليهم ، وهو أمر لا يقيلونه ، ولكن لما دخلت قريش الإسلام قبيل الفتح أو بعده صار أكثرهم أمراء في السرايا وصاروا حكاماً , ووصل معاوية بن أبي سفيان إلى حكم المسلمين مع أنه من الطلقاء .
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية أن الذي يخشى من الإسلام وأحكامه تتبدد خشيته هذه في الواقع العملي ، ويدرك حقيقة وهي لا أصل لهذه الخشية لأن الملاك فيه العدل والإنصاف ونبذ الظلم والإرهاب الذي هو أحد مصاديق وفروع الظلم .
وقد بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الأولى للهجرة سرايا من أصحابه ، ولكنه لم يخرج في كتائب ، وما يسمى بالغزوات إلا في السنة الثانية للهجرة وابتداء من شهر صفر ، وإلى شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة ، ومن الشواهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد الغزو ولم يسع إليه أن تلك الكتائب كانت في تناقص مستمر مع إزدياد عدد وقوة المسلمين على نحو مطرد .
وأعداد الكتائب بلحاظ الأشهر والسنين المتعاقبة كالآتي :
الأول : عدد كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الثانية للهجرة ثمان كتائب .
الثاني : عدد كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الثالثة للهجرة أربع كتائب .
الثالث : عدد كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الرابعة للهجرة ثلاث كتائب .
الرابع : عدد كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الخامسة للهجرة أربع كتائب .
الخامس : عدد كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة السادسة للهجرة ثلاث كتائب .
السادس : عدد كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة السابعة للهجرة كتيبتان .
السابع : عدد كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الثامنة للهجرة ثلاث كتائب .
الثامن : عدد كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة التاسعة للهجرة كتيبة واحدة ، وتسمى هذه الكتائب في كتب السيرة والتأريخ غزوات , ولا أصل له .
وقيل قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعمليات هجومية مثل غزوة فتح مكة وغزوة حنين ، وغزوة تبوك .
وليس من هذه العمليات والكتائب ما تصلح أن تسمى غزوة ، ومنها ما لا يرقى حتى إلى الدفاع .
فقد يبلغ النبي تحشيد الكفار للهجوم على المدينة ، فيخرج بأصحابه ويعود من غير قتال وأما فتح مكة فقد كان حاجة للمسلمين وأهل مكة والناس جميعاً إذ تمادى المشركون في غيهم ، ونقضوا العهود ، كما أنهم استحوذوا على شؤون المسجد الحرام بغير حق ، إذ أن الكفر مانع دون هذه الولاية .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( )دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لدخول المسجد الحرام وتنزيهه من ثلاثمائة وستين صنماً كانت فيه .
أما معركة حنين فان هوازن وثقيف هم الذي بادروا إلى الهجوم ومباغتة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم سائرون .
ويتجلى في خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المتعدد من المدينة في كتيبة قانون وهو عدم إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغزو أو الهجوم أو القتال ، إنما كان خروجهم لنشر مفاهيم الإسلام وللردع والدوريات التي تدفع عن أهل المدينة الشرور ، وهذه الدوريات من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ] ( ).
والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة والمألوف ، والممتنع عن المعارضة إذ سميت معجزة لعجز الناس عن الإتيان بها فان قلت إنما النبي أيضاً إنسان وتجري المعجزة على يديه .
والجواب المعجزة نعمة خاصة من الله للأنبياء على نحو الحصر والتعيين فلا تجري على أيدي غيرهم ، كما أن ذات معجزة النبي لا تجري على يد غيره وإن كان نبياً مثله إلا أن يِشاء الله ، فتثبت دعوى النبوة بالمعجزة الجلية الظاهرة .
الحروف المقطعة حرب على الإرهاب
من إعجاز القرآن التحدي بآياته ، وهذا التحدي متعدد ومتباين في الأثر ، إذ أنه سبيل لزيادة إيمان المؤمنين ، وهو حجة على الذين كفروا ،قال تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ]( ) .
والحروف جمع حرف وهو في اللغة الطرف والجانب , والمقطعة من القطع وهو فصل وابانة بعض أجزاء الجرم ، والحروف المقطعة في الإصطلاح هي حروف الهجاء المستقلة التي ذكرت في بدايات تسع وعشرين سورة .
والحروف المقطعة معجزة من جهات :
الأولى : التحدي بحروف القرآن بلحاظ أنها حروف مستقلة كما في (الم) الذي تبدأ به سورة البقرة .
الثانية : التحدي برسم القرآن من جهة رسم هذه الحروف من بين آيات القرآن .
الثالثة : الحروف المقطعة آيات قرآنية ، أو جزء آية , وهذا التفصيل معجزة , وكل آية معجزة قائمة بذاتها .
ومن إعجاز القرآن استنباط المسائل من بدايات آياته ، وإحصاؤها بما يفتح آفاقاً من العلم من ذخائر التنزيل ومنها الحروف المقطعة في أوائل السور والتي وردت في بدايات تسع وعشرين سورة من سور القرآن والتي عددها مائة وأربع عشرة سورة .
وعدد الحروف المقطعة بعدد الحروف الهجائية في اللغة العربية والتي عددها تسعة وعشرون حرفاً بلحاظ أن الهمزة حرف مستقل , وعند جمع المكرر من هذه الحروف يكون المحصل هو أربعة عشر حرفاً ، وهو بعدد نصف الحروف الهجائية.
ومن أسرار الحروف المقطعة قراءتها على نحو الإنفراد فكل حرف يقرأ مستقلاً ففي قوله تعالى [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، يقرأ ألف ، لام ، ميم ، وهو من أسباب تسميتها الحروف المقطعة.
وفي تلاوة كل حرف منها عشر حسنات ، وكذا باقي حروف القرآن ، ومن الإعجاز مجئ بعض الحروف المقطعة آيات مستقلة مثل (الم) أعلاه من سورة البقرة وكذا بداية سورة آل عمران [الم * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ]( ) .
وكل منهما سورة مدنية للدلالة على أن موضوع هذه الحروف أعم مما ذكر من سبب النزول وأنه اشغال مشركي مكة ، لكنه لم يمنع من استدامة واستصحاب ذات السبب في نزول السور المدنية بالإضافة إلى تعدد المقاصد السامية لنزول الحروف المقطعة , ولأن أكثر السور التي تفتتح بحروف مقطعة نزلت في مكة والمدار في الحكم على الغالب.
ولهذه الحروف تسميات متعددة منها :
الأول : الحروف المقطعة .
الثاني : فواتح السور .
الثالث : حروف التهجي .
الرابع : حروف المقطعات .
الخامس : الحروف النورانية.
بينما جاءت بعض الحروف المقطعة جزءً من آية مثل النون في قوله تعالى [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ]( )، وتعدد التفاسير للحروف المقطعة منها :
الأول : أنها جامعة لاسم الله الأعظم ، عن ابن عباس( ).
الثاني : عن جماعة أنها سر الله في القرآن , وهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه ( ).
الثالث : عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام في قوله تعالى [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، قال : فيه إشارة بأن القرآن ركّب من الحروف المقطعة الهجائية ولا يقدر أحد أن يأتي بمثله أبداً ( ).
الرابع : لا يعلم المراد من الحروف المقطعة إلا الله عز وجل.
الخامس : هي مفتاح بعض أسماء الله تعالى ، فقوله تعالى[ص] ( )، تدل على اسم الصمد ، وقيل معناه صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته وتبليغه عن الله عز وجل .
وهل في الحروف المقطعة دعوة لنبذ الإرهاب والعزوف عن مقدماته الجواب نعم ، فكل علم من علوم القرآن يدفع الناس عن الإرهاب والعنف وأسباب الكراهية , ليكون من الإعجاز العددي في القرآن الصرف والإنصراف عن الإرهاب .
لقد أبى الله عز وجل إلا أن يكون إعجاز القرآن شاملاً لحروفه ويغوص العلماء في خزائن القرآن ، وتتم الدراسات في تفسيره والتحقق في الحروف المعطوفة في كل زمان دون الوصول إلى كنه معرفته ، وأسرار مجيئها في أوائل السور ودلالته والمنافع العظيمة منه ، لتتجلى معجزة للقرآن بخصوص الحروف المقطعة من جهات:
الأولى : استمرار التحقيق في تفسير الحروف المقطعة .
الثانية : شوق كل جيل وطبقة من المسلمين لمعرفة أسرار الحروف المقطعة .
الثالثة : سؤال الأبناء لآبائهم عن الحروف المقطعة .
الرابعة : التسليم العام بأن الحروف المقطعة من القرآن ، وهو من الشواهد على سلامته من التحريف .
الخامسة : الحروف المقطعة والعناية بها شاهد على إمتناع المسلمين عن الإرهاب .
ووردت الحروف المقطعة في أول وفاتحة تسع وعشرين سورة من القرآن :
1-6 (الم) إذ إبتدأت به ست سور ، وهي سورة البقرة ، سورة آل عمران ، سورة العنكبوت ، سورة الروم ، سورة لقمان ، سورة السجدة .
7-13 (حم) وابتدأت به سورة غافر ، سورة فصلت ، سورة الزخرف ، سورة الدخان ، سورة الجاثية ، سورة الأحقاف .
14-18 (الر) وابتدأت به سورة يونس ، سورة هود ، سورة يوسف ، سورة إبراهيم ، سورة الحجر .
19-20 (طسم) وجاء أول سورة الشعراء ، سورة القصص .
21- (المص) ورد أول سورة الأعراف وعلى نحو الآية المستقلة ، قال تعالى [المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
22 – (المر) ورد في بداية سورة الرعد .
23- (كهيعص) في بداية سورة مريم (عن ابن عباس فى قوله عزّ وجلّ {كهيعص} قال : الكاف من كريم،
والهاء من هاد،
والياء من رحيم والعين من عليم وعظيم،
والصاد من صادق،
وقال الكلبي أيضاً : معناه : كاف لخلقه،
هاد لعباده،
يده فوق أيديهم،
عالم ببريته،
صادق في وعده) ( ) .
(عن جويرية، عن سفيان
الثوري قال: قلت للصادق عليه السلام: يا ابن رسول الله ما معنى قول الله عز وجل: (الم) و (المص) و (الر) و (المر) و (كهيعص) و (طه) و (طس) و (طسم) و (يس) و(حم) و (حم عسق) و (ق) و (ن) ؟
قال عليه السلام: أما (الم) في أول البقرة فمعناه أنا الله الملك، وأما (الم) في أول آل عمران فمعناه أنا الله المجيد .
و(المص) معناه أنا الله المقتدر الصادق , و(الر) معناه أنا الله الرؤف و (المر) معناه أنا الله المحيي المميت الرازق .
و (كهيعص) معناه أنا الكافي الهادي الولي العالم الصادق الوعد وأما (طه) فاسم من أسماء النبي صلى الله عليه وآله ومعناه يا طالب الحق الهادي إليه ما انزل عليك القرآن لتشقى بل لتسعد به، وأما (طس) فمعناه أنا الطالب السميع .
وأما (طسم) فمعناه أنا الطالب السميع المبدئ المعيد. وأما (يس) فاسم من أسماء النبي صلى الله عليه وآله ومعناه يا أيها السامع لوحيي ) ( ).
24- (طه) في بداية سورة طه (عن ابن عباس قال : قالوا لقد شقي هذا الرجل بربه ، فأنزل الله : { طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى })( ).
25 – (طس) في أول سورة النمل .
25 – (يس) في أول سورة يس (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ:” ” يس ” ، قَالَ: يَا إِنْسَانُ”
عَنْ أَشْهَبَ، قَالَ: سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ: أَيَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَسَمَّى بِيس، فَقَالَ : مَا أَرَاهُ يَنْبَغِي لِقَوْلِهِ : يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، هَذَا أسمي تسميت به “
عن الْحَسَن، فِي قول اللَّه : يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ، قَالَ: يُقْسِمُ اللَّهُ بِمَا يَشَاءُ، ثُمَّ نَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ : سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ” ، كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى رَسُولِهِ”
عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، فِي قَوْلِهِ:” ” يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ” ، قَالَ: يُقْسِمُ بِأَلْفِ عَالِمٍ، ” إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ .) ( ) (وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب قال : قال أمية بن أبي الصلت :
ألا رسول لنا منا يخبرنا … ما بعد غايتنا من رأس نجرانا
قال : ثم خرج أمية إلى البحرين ، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقام أمية بالبحرين ثماني سنين ، ثم قدم فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من أصحابه ، فدعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإِسلام ، وقرأ عليه بسم الله الرحمن الرحيم { يس والقرآن الحكيم }( ) حتى فرغ منها وثب أمية يجر رجليه ، فتبعته قريش تقول : ما تقول يا أمية؟ .
قال : أشهد أنه على الحق . قالوا : فهل تتبعه؟ قال : حتى أنظر في أمره . ثم خرج أمية إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم ، فلما أخبر بقتلى بدر ترك الإِسلام ورجع إلى الطائف . فمات بها ، قال : ففيه أنزل الله { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها })( )( ).
27- (ص) أول سورة ص ، قال تعالى [وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ] ( ) .
28- (ق) في أول سورة ق [ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ]( ).
29 – (ن) ورد في أول سورة ن [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ] ( ).
(عن ابن عباس في قوله { الم } و { المص } و { الر } و { المر } و { كهيعص } و { طها } و { طس } و { يس } و { ص } و { حم} و { ق } و { ن } قال : هو قسم أقسمه الله ، وهو من أسماء الله) ( ).
ويمكن تقسيم الحروف المقطعة تقسيماً آخر بلحاظ نظم القرآن وترتيب السور التي جاءت فيها , وتنظيم جدول باسماء السور التي وردت فيها الحروف المقطعة في القرآن حسب النظم القرآني في المصحف ، فتكون :
الأولى : سورة البقرة .
الثانية : سورة آل عمران .
الثالثة : الأعراف وهكذا .
ويمكن تقسيمها بلحاظ تعدد المباني من وجوه :
الأول : السور التي ابتدأت بحرف واحد ، سورة ص ابتدأت بـ (ص) وسورة ( ق) ابتدأت بـ(ق)وسورة (ن)ابتدأت بـ (ن والقلم .
الثانية : السور التي ابتدأت بحرفين وهي : طس ، طه ، يس ، حم.
الثالثة : السور التي أولها ثلاثة أحرف وهي الم ، الر ، طسم .
الرابعة : السور التي ابتدأت باربعة أحرف وهي المص ، المر .
الخامسة : السور التي أولها خمسة أحرف وهي كهيعص ، حم عسق .
وتسمى السور التي افتتحت بـ (طسم ) و(طس) بالطواسين ، والسور التي افتتحت بـ(حم) الحواميم .
ومن معاني الحروف المقطعة ما يستقرأ من الآيات التي بعدها إذ أنها تشير إلى الكتاب والقرآن ، وتدعو إليه ، وهذه الدعوة نبذ للإرهاب ، مثل [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ] ( ) و[المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ] ( )و[الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ] ( )و[ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ] ( ).
وجاء أول سور آل عمران [الم * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ] ( ) والسؤال من الله عز وجل ، وفيه الغنى وقضاء الحوائج , والعزوف عن الإرهاب بإتخاذ التوكل على الله منهاجاً.
لقد كان الكفار يصفقون بالأيدي ويصفرون بأفواههم , ويثيرون الضوضاء عند قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن للتخليط على الناس فنزلت الحروف المقطعة لتبعثهم على السكوت والإنصات والإمتناع عن الشغب واللهو ، قال تعالى [اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا] ( ).
لقد أنزل الله القرآن ، وهيئ مقدمات انصات الناس له ، وهو من إعجاز القرآن ، فلا يقدر أحد على حمل الناس للإستماع إلى كتابه في كل يوم وإلى يوم القيامة إلا الله عز وجل ومنه قراءة القرآن بخشوع في الصلاة اليومية .
وهل الصخب والضوضاء التي يحدثها الذين كفروا عند تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للقرآن من الإرهاب ، الجواب إنه من مقدمات الإرهاب ، وكأن الذين كفروا يظهرون العزم على التصدي لنزول القرآن والإسلام ، لذا نزلت الحروف المقطعة لبيان أن تصفيق وتصفير الذين كفروا عند تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن عنوان للإستهزاء بالتنزيل والنبوة ، وتطبيق يحرض على الكراهية .
ويمكن تقسيم الحروف المقطعة تقسيماً آخر على أقسام :
الأول : الحروف التي تعد آية مستقلة مثل (الم ) في سورة البقرة ، و(المص) في سورة الأعراف ، و(طسم) في سورة القصص .
الثاني : الحروف التي تعد آيتين وهي خاصة في أول سورة الشورى [حم * عسق] ( ) .
الثالث : الحروف التي هي جزء آية كما في أول سورة يونس [الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ] ( ).
قانون الحمد لله درع واقية
لقد إبتدء القرآن بعد البسملة بآية (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ( ) وفيه مسائل :
الأولى : إنه من لطف الله عز وجل بالناس .
الثانية : الدلالة على صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل .
الثالثة : الإخبار عن قانون وهو آيات القرآن برزخ دون الغلو بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنه يلتقي مع المسلمين بتلاوة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ( ) مرات متعددة في اليوم الواحد ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من قول (الحمد لله ) ويحث عليه .
(عن جابر بن عبد الله : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أفضل الذكر لا إلا إله إلا الله ، وأفضل الشكر الحمد لله .
وأخرج الخرائطي والبيهقي في الدعوات عن منصور بن صفية قال : مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل وهو يقول : الحمد لله الذي هداني للإِسلام وجعلني من أمة محمد . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقد شكرت عظيماً) ( ).
الرابعة : قول الحمد لله حجة على العبد ودعوة له لإستحضار نعم الله عليه .
الخامسة : قول الحمد لله زاجر عن الإرهاب ، ومانع من البطش بالغير.
السادسة : من خصائص الحياة الدنيا توالي وتزاحم النعم على الإنسان إذ تأتيه وتحل عنده آلاف النعم في الدقيقة الواحدة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) وفيه وجوه :
الأول : الصحة في البدن .
الثاني : استدامة الحياة .
الثالث : نعم الله في كل عضو من أعضاء الإنسان .
الرابع: توالي أفراد الرزق وتعدد طرقه .
الخامس : صرف البلاء عن الإنسان بما يراه ويحسه وما لا يراه وما لا يعلم به ، وفي التنزيل [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ] ( ).
السادس : هداية الإنسان للعبادة والنسك .
السابع : إمتناع الإنسان عن الإضرار بالغير ، فهذا الإمتناع أمر وجودي بنية وقصد لذا يلزم الشكر لله على هذه النعمة .
الثامن : نعمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ يقوم الإنسان بالأمر والنهي ، ويتلقاها بالقبول والرضا ، ويدخل في المنكر والقبيح كل :
أولاً : الإرهاب .
ثانياً : مقدمات الإرهاب .
ثالثاً : الإنفاق في الإرهاب .
رابعاً : التحريض على الإرهاب .
خامساً : الرضا بالإرهاب .
وفي قوله تعالى [وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ] ( ) ذكر أن من معانيها إقتران الإنسان العمل مع نظيره في ذات العمل .
فيجمع المؤمنون كما يجمع بين الكفار , ويزوج المؤمنون بالحور العين ، قال تعالى [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ]( ).
التاسع : إجتناب الإنسان لمصاديق الظلم ونفرته من التعدي .
العاشر :توالي أفراد الرزق والفضل من عند الله من حيث يحتسب الإنسان ومن حيث لا يحتسب ، وكل فرد منها مناسبة للشكر لله عز وجل ، وإجتناب الإرهاب .
الحادي عشر : نعمة الأبوين وعنايتهم بالإنسان في صباه ، وما يبعثه إدراك هذه النعمة من لزوم إكرام الكبير وعناية الوالدين بالإبن في صغره وشبابه دعوة له لإجتناب الإرهاب , وما فيه من الأذى للآباء وكبار السن في أشخاصهم فقد يلحقهم الإرهاب ، أو في أبنائهم ، فهذا الذي يتعدى عليه الإرهابي له أبوان ويحزنهما ما يلقى ابنهما ، وينقمان على الإرهابي ودوافعه وغاياته .
الثاني عشر : نعمة الأولاد ذكوراً وأناثاً ، وما فيها من الأجر والثواب ، قال تعالى [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ) .
الثالث عشر : حاجة الإنسان للدعاء في إصلاح أولاده وهدايتهم إلى سبل الرشاد والتوفيق للبر بالوالدين لأن ملكة البر هذه واقية من الإرهاب والإضرار بالآخرين ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا] ( ).
وهل من مصاديق قرة العين في الآية أعلاه إجتناب الأولاد الإرهاب ، الجواب نعم ، ومن وظائف الآباء إصلاح الأبناء ومنعهم من الإرهاب.
وليعلم الابن أن أبويه وأقاربه لا يرضون له الإرهاب وهو شر محض ، وإضرار بهم وينزل الفعل الإرهابي كالتفجير والجرح والقتل مصيبة عليهم ، وشرا يلاحقهم , والشواهد في هذا الباب كثيرة وجلية .
السابعة : قول الحمد لله على كل نعمة حرز من الإرهاب ، ليكون من معاني قراءة كل مسلم ومسلمة آية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) تفقهاً في الدين وإحاطة بقانون القبح الذاتي للإرهاب ، فالذي يشكر الله عز وجل على النعم لا يجمع معه الإرهاب بلحاظ التضاد بينهما ، وقد ثبت في الفلسفة إمتناع إجتماع الضدين .
الثامنة : من الهداية التي يشكر الإنسان الله عز وجل عليها الإحتراز من الإرهاب ، قال تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ] ( ).
وقد تقدم تسمية الحياة الدنيا (دار الحمد لله ) إذ أنها ميدان الشكر لله ومزرعة الحمد لله ، وكل فرد من الحمد لله شجرة تغرس لتورق وتثمر في الدنيا والآخرة .
ويتجلى للخلائق في الآخرة نفعها وثمرها , وبينه وبين نفعه في الدنيا عموم وخصوص مطلق ، وكذا العكس بالنسبة للإرهاب فان ضرره في الدنيا عظيم ، وهو في الآخرة أشد وأعظم ، إذ ينال الإنسان على الإرهاب العذاب الأليم.
والفعل الإرهابي من الجحود بنعم الله والإضرار بعباده الذين جعل الله لهم الدنيا دار الرحمة , وأمهلهم إلى عالم الآخرة في الحساب والثواب قال تعالى[إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
وفي الإرهاب حجب لنعم الله عن النفس وعن الغير القريب والبعيد ، والصديق والعدو ، ولا يختص المسلمون بقول (الحمد لله ) فكل أهل الملل والنحل يقولون (الحمد لله ) وهو من الشواهد على أن الحياة الدنيا ملك لله عز وجل ، ودليل على ربوبيته المطلقة .
إن التقاء الناس جميعاً بنطقهم بقول (الحمد لله ) حجة على الإنسان بلزوم إجتناب الإرهاب ، وشاهد على ان الإرهاب لا دين له ، فمن الدين القول (الحمد لله).
ومن معاني قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) الإخلاص في العمل واستدامته وتغشيه لأفراد الزمان الطولية المقدرة وغير المقدرة ، وبقاء ودوام الحمد لله في الأرض والسماء ، فيغادر الإنسان الحياة الدنيا ، ولكن قول الحمد لله باق فيها يتجدد في كل فرض من الصلاة.
ومن الإعجاز في أوقات الصلاة تعيين أوان أدائها بالآيات الكونية ، وابتداء أول الفرائض بطلوع الفجر لتكون صلاة الصبح واقية للمسلمين والناس من الآفات في ذات اليوم.
وهل الإرهاب من الآفات الكونية ، الجواب لا ، وهو من فعل فاعل وليس من الآفات الكونية ، لذا يجب أن يكون أداء الصلاة عهداً مع الله بالتنزه عن الظلم ، ومنه الإرهاب والقتل العشوائي .
ومن معاني قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) غنى واستغناء الله عز وجل عن الخلائق فكلها منقادة لأمره تعالى بما فيه نفعها ومصلحتها ، قال تعالى [لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
فالرزق وبسطه لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، ولن يغير الإرهاب فيه شيئاً ، فالذي يريد القتل والتفجير بسبب ملة أو دين ، يرزق الله أهل تلك الملة ان شاء بما فيه الخلف ، ويضر الإرهابي نفسه وملته ، فلا يجلب لهم خيراً لأن الخير بيد الله عز وجل لا يرضى بالإرهاب ، إنما يدعو إلى حمده وشكره ، وجعل الله سبحانه هذا الحمد وسيلة ومقدمة للرزق الكريم ، والخير العميم .
ومن خصائص قول (الحمد لله ) طرد الغفلة عن الإنسان ، وفيه دعوة للقلب لإستحضار معاني الحمد وموضوعه المتعدد ، ولزوم إلتفات العبد إلى ما يقوله وما يفعله وعدم تعرضه أو تضاده مع الحمد لله ومع المواظبة على النطق بالحمد لله .
ومع وجود هذا التعارض والتزاحم فانه لا يستديم فان النصر في عواقب الأمور للحمد لله .
ولو قال العبد ( الحمد لله ) وقلبه منشغل بالدنيا , وهمومها وما عنده من الرغائب والآمال.
فهل يقبل الله عز وجل هذا القول أم يرد عليه ، الجواب هو الأول , لذا تفضل الله عز وجل , وجعل البسملة قبل [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ), ثم تعقبها بقول [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ), وهو من الإعجاز في نظم القرآن بأن صار كل منهما رحمة متعددة , ووعد من الله بالرحمة من عند الله جناحان مباركان لقول الحمد لله يطير بهما عمل المؤمن في السماوات , وتكتب الملائكة عمل العبد من غير أن تطلع على ما يشتغل به قلبه من أمور الدنيا وأن الله عز وجل يقبله حتى مع سياحة القلب أثناء النطق به في أمور الدنيا ومباهجها وأحزانها , رأفة وفضلاً منه سبحانه .
نعم الأجر والثواب مع الحضور أعظم , وهل يختص الخشوع بحضور القلب بمعنى الذي يفكر بالدنيا , وهو يقول (الحمد لله ) يصدق عليه أنه خاشع مع تفادي الرتبة والدرجة والثواب , وكأن الخشوع من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
ومن خصائص (الحمد لله) أنه مجلبة للخشوع , لما له من سلطان على الجوارح , وتذكير للقلب بلزوم الإنقطاع إليه , لما فيه من التسليم بأن النعم كلها من عند الله عز وجل , ليكون من الإعجاز في آية الحمد أنها لم تقف عند ( الحمد لله ), إنما قالت [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، لبيان أن الخير كله من الله عز وجل , وهو سبحانه الذي يصرف الشر.
ففي تلاوة الآية أعلاه أو استحضارها ومعناها أو التدبر في دلالاتها واقية من الإرهاب , وإدراك لقانون وهو المنافاة بين الإسلام والإرهاب وفيه مصداق لإعجاز القرآن .
قانون تعاقب الأنبياء برزخ دون الإرهاب
لقد خلق الله عز وجل الإنسان بأحسن صورة ، قال تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( ) لبيان تمام هيئة الإنسان وتكامل بدنه في قضاء حاجاته بوصول يديه إلى باقي أعضاء بدنه ، واتخاذ الرجلين للمشي والسعي في ذات الوقت بخلاف البهائم والحيوانات إذ تمشي على أربع .
وهل في الآية أعلاه تحد بعجز العلم عن خلق مثل الإنسان إلى يوم القيامة ، الجواب نعم ، لورود لفظ [أَحْسَنِ] الذي يدل على التفضيل ، وكذا بالنسبة لقوله تعالى [الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ] ( ) .
وجعل الله عز وجل الناس مختلفين في اللون والهيئة مع شبه بعضهم لبعض ، وتجلى أثر صلة القربى عليهم في هذا الشبه ، وهو من عمومات ودلائل قوله تعالى[وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ]( ).
ومن الآيات في خلق الناس التباين في المزاج والرأي , والإلتقاء أو الإختلاف في المصالح والمنافع ، وهو من مصاديق الإمتحان والإبتلاء في الحياة الدنيا مع حضور المدد والعون من الله عز وجل للناس بمصاديق اللطف بتقريبهم إلى مقامات الصلاح والعدل في تلك المصالح ، وإبعادهم عن النزاع والقتال في الإختلاف .
فحتى الإلتقاء قد يتحول في بعض مراتبه وعواقبه إلى الإختلاف والنزاع إذا اختلفت النوايا وتعارضت المصالح ، لذا احتاج الناس إلى التنزيل والنبوة ، فتفضل الله عز وجل وجعل النبوة مصاحبة لوجود الإنسان في الأرض ، وهذه المصاحبة على وجوه :
الأول : إقتران النبوة بأول وجود للإنسان في الأرض ، فمن مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ) أن آدم لم يهبط إلى الأرض إلا وهو نبي صاحب الملائكة في الجنة ، واقتبس من سننهم العبادية التي هي أسمى سنن في التقوى ، وكان آدم نبياً رسولاً .
الثاني : وراثة النبوة من آدم ، إذ نال ابنه هبة الله مرتبة النبوة .
الثالث : وجود فترات ليس فيها نبي ، فيعمل الناس بشريعة الرسول السابق والوحي الذي جاء به النبي الذي تلاه في زمانه ، وكل نبي معه معجزة تدل على صدق نبوته ، وتدعو الناس لإتباعه .
الرابع : بعثة الرسل متعاقبين ببراهين ودلالات تجذب الناس إلى مسالك الهداية والإيمان .
الخامس : يتعدد الأنبياء أحياناً ، وهذا التعدد من جهات :
الأولى : وجود أكثر من نبي في زمان واحد .
الثانية : بعثة أكثر من نبي في بلد واحد .
الثالثة : وجود رسول ونبي في زمان وموضع واحد ، كما في الرسول موسى والنبي هارون عليهما السلام .
السادس : الفترة بين الرسول عيسى والرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي نحو ستمائة سنة (عن ابن عباس قال : كان عمر آدم ألف سنة . قال ابن عباس : وبين آدم وبين نوح ألف سنة ، وبين نوح وإبراهيم ألف سنة ، وبين إبراهيم وبين موسى سبعمائة سنة ، وبين موسى وعيسى ألف وخمسمائة سنة .
وبين عيسى ونبينا ستمائة سنة .) ( ).
وقيل أن عمر نوح عندما أمره الله ببناء السفينة (هو ابن ستمائة سنة وكان عمره ألفاً وخمسين عاماً ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة،
قال الله تعالى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا})( ) ويدل طول الفترة بين بعثة عيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم , وكون مجموع عدد الأنبياء هو مائة وأربعة وعشرون ألف نبي على تعدد الأحقاب وطول عمارة الإنسان للأرض ، وأنها بعشرات آلاف السنين حتى على فرض أن هذه الفترة هي أطول فترة بين نبيين ، وعلى وجود أكثر من نبي في آن واحد ، لبيان قانون وهو عدم التعارض بين آيات القرآن وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين الإكتشافات العلمية والجيولوجية الحديثة سواء في عمر الأرض , أو الحياة الإنسانية عليها.
ولا بد من موضوعية مسـألتين وهما :
الأولى : عدم الملازمة بين خلق الله للأرض وبين وجود الإنسان فيها الذي هو متأخر عنها ، ويدل قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) على أن الملائكة تعلم بوجود الأرض ، ولكن خلق الله الإنسان يومئذ وآية مستحدثة حتى على فرض القول بأن خلقها الله قبل أربعة مليارات سنة .
الثانية : وجود أجناس من الجن والنسناس عمّروا الأرض قبل آدم ، وهل كانت لهم مرتبة الخلافة في الأرض ، الجواب لا ، واختصاص الإنسان بالخلافة من إكرام الله للإنسان .
وسيأتي في الجزء التالي إن شاء الله قانون إكرام الإنسان منع من الإرهاب( ).
وعن الإمام (الصادق عليه السلام: من وراء شمسكم أربعين شمس
) ( ) في إشارة إلى الإكتشافات في عالم الفضاء .
السابع : مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة المتكاملة ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
الثامن : انقطاع النبوة بعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، فليس من نبي بعده ، والأمر سهل في استبيانه والتثبت منه بغياب المعجزة الحسية من بعده .
ومن خصائص النبوة تعضيد كل نبي لمن سبقه ومن تأخر عنه من الأنبياء ، وهل في هذا التعضيد نهي عن الإرهاب ، الجواب نعم ، لبيان قانون وهو أن الإرهاب لا دين أو ملة له ، وأن الملل السماوية تتبرأ منه ومن الذي يقوم به فعلاً أو رداً لفعل .
فلا يصح أن ينسب إنسان العمل الإرهابي إلى أهل ملة أو دين سماوي ، فان قلت سلمنا بتبرأ الإسلام والمسيحية واليهودية والملل الأخرى من الإرهاب ابتداء .
ولكن رد الفعل وما يسمى بالإرهاب الموازي أمر آخر ، قال تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] ( ) والجواب جاءت هذه الآية بخصوص الكفار وهجومهم على المدينة وإصرارهم على القتال ، ثم أن المعتدي في العمل الإرهابي فرد واحد أو جماعة قليلة لا صلة لأهل الملة والدين بهم ، قال تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( ).
لقد أكرم الله عز وجل الناس بالنبوة ، قال تعالى [وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ] ( ) وتفضل الله عز وجل وجعل القرآن رسولاً دائماً إلى الناس يبين الأحكام ، ويدل على صحة نزوله من الله ، وهو وثيقة سماوية تدل على صدق نزول التوراة والإنجيل من عند الله ، وفي هذا التصديق نهي عن الإرهاب , وتمنع عنه الكتب السماوية ، ويزجر العقل والوجدان والعاطفة عنه .
وتتقوم بعثة الأنبياء بالجدل مع قومهم لتأكيد الوحدانية ، ولزوم عبادة الله عز وجل ، وقد خفّف الله عز وجل عن الأنبياء والأولياء في دعوتهم بأن جعل الفطرة الإنسانية ملائمة لهذه الدعوة ، والفطرة هي إحساس النفس الإنسانية بوجود الإله والحاجة إليه من غير إدراك لصفاته وهذه الفطرة من رشحات خلق الله للخلائق إذ جعلها من عالم الإمكان ، وكل ممكن محتاج ويدرك الإنسان حاجته إلى الله عز وجل في استدامة حياته والنعم التي عنده ، وتدارك ما فاته ، قال تعالى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ] ( ) ويكون الإنسان أكثر حاجة عند طرو محنة أو بلاء فيبادر إلى اللجوء إلى الله وهو ولي المؤمنين .
وهل الإرهاب بلاء , الجواب نعم فهو بلاء من جهات :
الأولى : الإرهاب بلاء على صاحبه أي ذات الإرهابي .
الثانية : إنه بلاء على الذين يقع عليهم معنى الإرهاب ويسبب لهم الأذى والضرر .
الثالثة : الإرهاب بلاء وشر ضد المجتمع بما فيهم الطائفة التي تحمل ذات فكر الإرهابي ، لأنها لا ترضى له ذات الفعل ، وتمنع منه ، ولا عبرة بالقليل النادر الذي يهيئ مقدمات الفعل الإرهابي أو يظهر الرضا به ، ولا تستلزم المعارف الفطرية الإستدلال والبحث عن البرهان إنما هي من البديهيات والأمور الجلية الظاهرة .