معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 185

المقدمـــــــــــة
الحمد لله الذي جعل القرآن كتاباً سماوياً يهدي إلى الرفق والتسامح في الدنيا , ويبشر بالرحمة والعفو في الآخرة , وهو أمر لا ينال باختيار العنف والإرهاب والإضرار بالغير , ولا يستحق معاملته بالإرهاب .
الحمد لله الذي بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس , فأكد على حرمة الإرهاب بالقول والفعل .
وهل أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة خمس مرات في اليوم جماعة دعوة لنبذ الإرهاب , الجواب نعم , وهو منع له بالذات والمقابلة .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) لبيان توارث المسلمين نبذ الإرهاب وإيذاء الأفراد والجماعات .
الحمد لله الذي إختار لدين المسلمين اسم الإسلام , ليهدي هذا الاسم والمسمى الى نشر معاني الرفق والمودة بين الناس .
ومن الأسماء الحسنى لله سبحانه ( السلام ) , قال تعالى عن نفسه [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّار الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( ) .
وقال تعالى[أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] ( ).
الحمد لله الذي جعل الحياة ملكاً طلقاً له سبحانه ، وقال تعالى [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ] ( ), لبيان أن الإرهاب لا يجلب النفع لصاحبه ولا للجهة التي ينتمي إليها .
فقد أراد الله عز وجل للناس الطمأنينة في الدنيا , لتكون هذه الطمأنينة مناسبة للتدبر في عظيم قدرته في مخلوقاته , وبديع صنعه , ولطفاً متجدداً من الله على الناس جميعاً , قال تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ).
وتداخلت الحضارات في زمان العولمة هذا , وصار الناس يطلعون على تفاصيل مما يعتقدون به , ومجمل ما يعتقد به غيرهم ليكون الدين السماوي هو سور الموجبة الكلية العالمي الداعي إلى الرشاد , والألفة , والزاجر عن الإرهاب .
لقد فرض هذا التداخل على الناس سياسة الانفتاح في الأفكار والسلوك واللسان , ولابد من تنمية ملكة الجدال وأدب الإختلاف عند الشعوب .
الحمد لله الذي أنزل البسملة لتكرر في أول كل سورة من القرآن عدا سورة براءة , وتكون دعوة لإجتناب العنف والإرهاب من جهات :
الأولى : إبتداء القرآن بقول [بسم الله الرحمن الرحيم ] ( ), فهي أول آية من سورة الفاتحة التي يبدأ بها نظم السور في القرآن .
الثانية : قراءة المسلمين للبسملة في الصلاة سواء جهراً أو إخفاتاً .
الثالثة : مجموع عدد آيات البسملة في القرآن بعدد سور القرآن , مع نكتة عقائدية وهي عدم إبتداء سورة براءة بالبسملة لأن هذه السورة إنذار ووعيد لكفار قريش ، ليسود السلام بين الناس .
بينما وردت البسملة جزء من آية في سورة النمل وفيه حرز ودلالة وهي المنع من القول بأن البسملة ليست من القرآن , وفي رسم بعض المصاحف وردت في سورة النمل ( وانه باسم الله ).
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أن الله عز وجل يغفر في ليلة القدر للمؤمنين ولا يغفر لأربعة وهم :
الأول : مدمن خمر .
الثاني : عاق الوالدين .
الثالث : قاطع رحم .
الرابع : المشاحن ، وهو الذي يقوم بالسب والتعيير ، والتعدي باللسان
وفيه شواهد عديدة ، ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الزجر عن مقدمات الإرهاب .
ولابد من التعاون الدولي والمرجعيات الدينية في العالم لبيان قبح الإرهاب واستئصاله ، والحيلولة دون أخذه صيغ أكثر تطوراً , ووسائل أشد تدميراً , ومنعه من الإنتفاع من التقنية والعلوم والإكتشافات الحديثة التي وضعت لخدمة الإنسانية وليس للإضرار بالأفراد والجماعات ، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
وهل الإرهاب ظاهرة وقتية طارئة أم أنها واقع مفروض مع كراهته ، الجواب هو الأول لعدم وجود مقدمات الثبات والإستدامة للإرهاب ، ولأن كل أمة وشعب وأهل ملة يتبرأون منه ، ولابد من العناية بالأبناء والناشئة وتربيتهم بما يحصنهم من مفاهيم الإرهاب ، ويجعل نفوسهم تنفر من سفك الدماء أو المساعدة عليه .
ومنهم من يقوم بذكر وذم الإرهاب الذي تعرضت له طائفته ويتجاهر بما لاقوه من أشد ضروب الإرهاب وهذا من حقه، ولابد من ذم الإرهاب مطلقاً وجرائم الكراهية والحقد ، وما يسفر عنها من وقوع ضحايا وتدمير ، وليس من طائفة للإرهاب ، ولا من جامع عقائدي له , فقد يجمع المتضادين اللذين يتصفان بالكراهة .
إن الذين يسقطون ضحية الإرهاب يخلفون يتامى من بعدهم ، ويفارقون آباء وأمهات وأخوة .
فيعصر الحزن قلوبهم ، ويبعثهم على العمل من أجل نجاة الناس وعدم نزول ذات المصيبة بغيرهم من أبناء ملتهم أو وطنهم وعموم الجنس البشري ، ليعلم الإرهابي والذي يخطط للإرهاب أن أضراره على الناس كثيرة وبالغة .
كما أن الدمار الذي يلحق الأملاك العامة والخاصة يبعث الحنق في النفوس ، ويجعل الأصوات تتعالى باستئصال الإرهاب ، لذا فهو يبقى ظاهرة عرضية ولا يرقى إلى واقع الإفتقار لمقدمات الثبات والمنهاج السليم ، فهو مخالف للفطرة الإنسانية ، ويقع خلاف النواميس وسنن الشرائع والقوانين والأنظمة .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار رحمته بالناس ورأفته بهم جميعاً لذا بدأت كل آية من القرآن بقوله تعالى [بسم الله الرحمن الرحيم] ( ) لنشر شآبيب الرحمة والعفو بين الناس .
وبلطف وفضل من الله نتولى تنضيد وطباعة أجزاء هذا التفسير المتتالية على نفقتنا الخاصة بمشقة ، ويلزم مؤسسة تتولى طبعه ونشره وترجمته .
وعندما أخبر الله عز وجل الملائكة عن جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) احتجوا وتقربوا إلى الله بالثناء على أنفسهم رجاء أن يكون الإنسان مثلهم ، وفي التنزيل [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ) لبيان أن الله عز وجل أذن للملائكة بالقول والرجاء والإحتجاج ، وهم عباد صاغرون منقادون له سبحانه [وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ) لتأديب الملوك والرؤساء والحكام بلزوم الإنصات للجدال والإستماع للإحتجاج ، وعدم قهر الناس أو التجبر والتكبر وخنق الأصوات .
وفي هذا الإنصات حرب على الإرهاب ، ومنع من مقدماته ، وعندما احتج الملائكة لم يزجرهم الله عز وجل ، ولم يترك الأمر ويقطع خبره ، إنما تفضل وذكر هذا الإحتجاج وموضوعه في القرآن ليبقى مدرسة وتعليماً إلى يوم القيامة ، وفيه دعوة للناس لبيان إكرام الله عز وجل لهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ).
لقد أجاب الله عز وجل الملائكة بالقول [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ويظن الذي يقوم بالإرهاب الإخلاص لملته ومبدئه ، ولكن صاحب المبدأ يتطلع له الناس من مختلف الملل والأوطان إلى قضاء حوائجهم ، وأن يهب للمبادرة في مساعدتهم ، ويرجون إحسانه , وعدم بعث الفزع في صفوفهم ، والإضرار بهم ، وكأن العقيدة والمبدأ أمانة عامة عند صاحبها ، يتنجز معها ويترشح عنها حسن ظن الناس به ، قال تعالى [فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ] ( ).
فالأصل أن يتفانى المؤمن في طاعة الله ، ويسارع في الخيرات ، ويبتعد عن المحرمات ، ليفوز بالمنزلة الرفيعة عند الله ، وليتآلف الناس شخصه وملته ومناسكه .
ان التنشئة الدينية منهاج متوارث عند الأمم ، ويحرص عليه الآباء والأمهات ، ويتقوم بتأكيد الوحدانية ، ونفي الشريك عن الباري عز وجل وبتهذيب النفوس وتنمية الخصال الحميدة ، وتحبيب مكارم الأخلاق ولزوم حسن المعاملة مع الناس جميعاً وبعث النفرة من الرذائل والصفات المذمومة وما فيه الإضرار بالنفس والطمأنينة والناس ، قال تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا] ( ).
ومن مفاهيم الآية أعلاه وجوب عدم إضرار المسلم بالناس وبأموالهم وبحقوقهم ، قال تعالى [لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ( ).
إن الأرض مثلا إذا بقيت بوراً تنبت الشوك والحنظل ، فيجب إيلاء عناية فائقة في هذا الزمان لإصلاح الناشئة ، وترغيبهم بالصفات الحسنة ، والأخلاق السامية ، والإبتعاد عن أسباب الكدورة ومفاهيم الكراهية ، وقد جعل الله عز وجل التنزيل ميراثاً للأجيال ينير لهم سبل الصلاح .
وكان الاسكندر المقدوني 356-323ق.م من أشهر القواد والغزاة في العهد القديم واستولى على مصر وإيران والعراق وأفغانستان وقاتل في غرب الهند .
وكان الإسكندر يريد غزو الجزيرة العربية ولكنه لم يغزها مع أنه احتل ما حولها , والظاهر أنه ادرك خطورة الصحراء على جيشه وقلة المنافع في إحتلالها فصرفه الله عنها , وهذا الصرف من مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وزاجر لملوك الروم وفارس بعدم الإستجابة لطلب النجدة من أبي عامر الراهب وبعض رؤساء قريش في بعث جيش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
الحمد لله في العلانية والسر , جهراً وإخفاتاً , وفي السراء والضراء , مع التسليم بأن المواظبة على الحمد لله تدفع الضراء وتمحو أسباب الحزن والكآبة , وهل تدفع الإرهاب أم أنه أمر منفصل .
الجواب هو الأول , إذ أن قول الحمد لله عنوان الصلاح الذي يطرد الكدورة ويمنع من إستيلاء الحقد والبغض على النفس , إن قول الحمد لله دعوة للأخوة الإيمانية والتقارب الإنساني .
(عن ابن عباس قال : كتب صاحب الروم إلى معاوية يسأله عن أفضل الكلام ما هو؟ والثاني . والثالث . والرابع . وعن أكرم الخلق على الله ، وأكرم الأنبياء على الله ، وعن أربعة من الخلق لم يركضوا في رحم ، وعن قبر سار بصاحبه ، وعن المجرة ، وعن القوس ، وعن مكان طلعت فيه الشمس لم تطلع قبله ولا بعده ، فلما قرأ معاوية الكتاب قال : أخزاه الله وما علمي ما ههنا! .
فقيل له : اكتب إلى ابن عباس فسله .
فكتب إليه يسأله . فكتب إليه ابن عباس: إن أفضل الكلام لا إله إلا الله كلمة الاخلاص لا يقبل عمل إلا بها ، والتي تليها سبحان الله وبحمده أحب الكلام إلى الله ، والتي تليها الحمد لله كلمة الشكر ، والتي تليها الله أكبر فاتحة الصلوات والركوع والسجود ، وأكرم الخلق على الله آدم عليه السلام ، وأكرم إماء الله مريم . وأما الأربعة التي لم يركضوا في رحم فآدم ، وحوّاء ، والكبش الذي فدى به إسماعيل ، وعصا موسى حيث ألقاها فصار ثعباناً مبيناً .
وأما القبر الذي سار بصاحبه فالحوت حين التقم يونس ، وأما المجرة فباب السماء ، وأما القوس فإنها أمان لأهل الأرض من الغرق بعد قوم نوح ، وأما المكان الذي طلعت فيه الشمس لم تطلع قبله ولا بعده ، فالمكان الذي انفرج من البحر لبني إسرائيل .
فلما قرأ عليه الكتاب أرسل به إلى صاحب الروم فقال : لقد علمت أن معاوية لم يكن له بهذا علم ، وما أصاب هذا إلا رجل من أهل بيت النبوة .) ( ).
ومن قوانين الإرادة التكوينية أن فضائل الله عز وجل تتغشى الناس جميعاً في أشخاصهم وأرزاقهم واستدامة حياتهم , وإنهم جميعاً يسلمون بنعمة عليهم فلتكن هذه النعم والتسليم بها سور الموجبة الكلية الذي يصرف الناس جميعاً عن الإرهاب , وينجيهم منه ومن آثاره وأضراره .
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار الحكمة والعقل والدلائل والشواهد فقد يزين الشيطان والنفس الأمارة بالسوء الإرهاب ومقدماته والتحريض عليه لفرد أو نفر ولكن مع تقادم الأيام يدركون أنه عمل باطل ليس له ثمرة ولا يجلب إلا الضرر على أصحابه , والذين يسعون في هذا الفعل , فيضطرون للرجوع إلى الجدال , والإحتجاج الذي هو من مصاديق الحكمة.
وأيهما أقرب إلى الناس الحكمة أم ما يخالفها من العنت والتكبر والعناد والزهو .
الجواب هو الأول , ولا يختص هذا القرب بطائفة أو أهل ملة دون أخرى , فمن حب الله عز وجل للناس أنه بعث الأنبياء , وجعلهم يعلمون أصحابهم الحكمة والإرتقاء في مراتب وسلم المعرفة الإلهية.
والقرآن والسنة النبوية بريئان من الإرهاب , ولا يدعو أي منهما إلى التطرف والعنف سواء في النص أو المعنى، قال تعالى [لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
ومن إعجاز القرآن تأكيد آياته بتنزهه عن الإرهاب , وسلامته ونجاته من الإفتراء عليه في كل زمان , هذا الإفتراء الذي صاحب أيام تنزيله وهو يظهر بألوان مختلفة في كل زمان , وقد نعتته قريش بأنه سحر , في التنزيل [وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ), وفي التنزيل ,[وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ).
قال الثعلبي (يعنون القرآن،ومن قرأ : ساحر ردّه إلى محمد ( {صلى الله عليه وسلم) ( ).
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه جاء بالمعجزة العقلية وهي آيات القرآن , والمعجزة الحسية وهي متعددة وكثيرة والتي نسبتها قريش إلى السحر أيضاً .
وورد في موضوع نزول قوله تعالى [وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ] ( ), (وروي أنها نزلت في ركانة وهو رجل من المشركين من أهل مكة لقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جبل خال وهو يرعى غنماً له وهو أقوى أهل زمانه .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا ركانة أرأيت إن صرعتك أتؤمن بي؟ قال : نعم ، فصرعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً ثم عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها ونحو ذلك مما اختلف فيه العلماء وألفاظ الحديث .
فلما فرغ من ذلك كله لم يؤمن وجاء إلى مكة فقال : يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فنزلت هذه الآية فيه وفي نظرائه) ( ).
وتدعو الآية أعلاه الناس جميعاً إلى عدم السخرية من التنزيل , والإستخفاف به , نعم لا مانع من سؤال البيان والتأويل , والتدبر في معاني الآيات .
ومن خصائص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها ضد جرائم الكراهية , وتمنع من البطش والظلم وقد نزلت آيات القرآن بالوعيد للظالمين , والزجر عن التعدي , قال تعالى [وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ), وقال تعالى [إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ( ).
وقال تعالى [فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] ( ), لتدل الآية أعلاه في مضمونها على الامر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدم البطش والإنتقام من الذين كانوا يؤذونه وأهل بيته والمسلمين.
ومن الظلم نسبة شطر من الإرهاب إلى الإسلام , أو آيات القرآن , فجاء هذا الجزء وهو الخامس والثمانون بعد المائة من كتابنا الموسوم (معالم الإيمان في تفسير القرآن).
في بيان حقائق علمية تدل على تنزه القرآن وعشاق القرآن عن الإرهاب وحرصهم على إجتناب ظلم القرآن وآياته المباركة , فهي تدعو إلى الرحمة والتسامح والعفو , وتحث على لغة البيان وكشف الحقائق للناس بما يتضمن الترغيب بالإيمان , وسنن عبادة الله عز وجل , ونفي الشرك , وإلى تفويض الأمور إلى الله عز وجل , قال تعالى [فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ *فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ ٌ] ( ).
وفي سورة المائدة التي هي آخر سور القرآن نزولاً قال تعالى [فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ), لبيان قانون وهو أن القرآن يهدي إلى التعايش السلمي .
والمطلوب الإنتفاع من القرآن وعلم التفسير في أمور :
الأول : منع مقدمات الإرهاب .
الثاني : استئصال الإرهاب .
الثالث : صيرورة المجتمعات خالية من الإرهاب .
الرابع : أداء المسلمين والنصارى واليهود وجميع أهل الملل في الأرض العبادات والطقوس بأمن من الإرهاب والتفجيرات .
الخامس : بيان وجوه الرحمة والرأفة التي يدعو لها القرآن ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( ) .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على إشاعة السلم المجتمعي ، والزجر عن العنف والإرهاب
وتشيع عبارة في هذه السنوات وهي أن الإرهاب لا دين له , ولا وطن له ، إذ ينطلق الإرهاب من مفاهيم خاطئة ، بعيدة عن سنن الأنبياء ، والذي يجمع بينهم قانون الرحمة العامة ، فصحيح أن قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) خطاب موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولكنه شاهد على التحدي وتأكيد لقانون متجدد ، وهو أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تنشر المحبة والمودة في مرضاة الله.
وليس من صلة بين التنزيل والنبوة من جهة وبين الإرهاب إنما يتعرض أتباع الإنبياء إلى الإرهاب وضرره ،وقد تجد الإرهابي يقتل ابناء ذات الدين الذي ينتمي له ، والطائفة التي ينتسب لها .
وقد تزرع الكراهية في نفوس بعضهم من الدين ، ولكن هذه الكراهية شبهة بدوية تزول مع أدنى تدبر ومع تقادم الأيام يكشف الناس عامة انتفاء الملازمة أو الصلة بين الدين والإرهاب ، ومع أن عدد آيات القرآن هو (6236) آية فانها خالية من خطاب الكراهية ، مما يدل على صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل .
ومن خصائص القرآن محاربته لخطاب الكراهية في الأسرة والمجتمع والصلات العامة ، قال تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا]( )، وتوجه الخطاب في الآية الى المسلمين والمسلمات ، والمراد من الناس هنا عموم أهل الأرض على اختلاف مللهم ومشاربهم .
وجاء القرآن بمحاسن الأخلاق ، ومكارم السنن ، وإشاعة الإحسان, قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ]( ) .
كما يدعو القرآن والسنة الى الرفق بالحيوان ، والعناية بالخيرات الطبيعية والزراعية ، والتدبير في المعيشة ، والإقتصاد في الإستهلاك.
ويمكن إجراء دراسة وتحقيق بخصوص وجوه الصلة والإلتقاء بين أحكام الشريعة الإسلامية وبين الأنظمة الدولية ، والقوانين التي تحكم في البلدان , وكيف أن أحكام القرآن وأحاديث السنة النبوية تدعو إلى الرحمة والعفو .
ومن فضل الله عز وجل أني أقوم بكتابة أجزاء التفسير وكتبي الأخرى ومراجعتها على الورق ثم على الحاسبة بمفردي , ويصدر الكتاب من غير مراجعة أو إعانة من أحد إلا بفضل ولطف من عند الله عز وجل إلا بخصوص التنضيد.
ومن التداخل الحضاري والتقارب بين البلدان وإتحاد تغطية وسائل الإعلام للأخبار عن مختلف بقاع الأرض تبرز الحاجة إلى التكافؤ والإحترام المتبادل في العقائد والأشخاص وسنخية المعاملة بما يكفل التعايش السلمي بين الناس وفيه صلاح وإزدهار وإجتناب لآفة الحرب والقتال ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
إن الأسر والعوائل تستحضر ذكرى ضحايا الإرهاب آباء كانوا أو أبناء مما يؤدي إلى السخط على الذين يقومون بهذا الفعل المذموم ، ولبيان أنه خال من النفع لأصحابه أو لغيرهم .
ويأتي في هذا الجزء قانون (القرآن وثيقة السلام ) لبيان موافقة التنزيل للفطرة الإنسانية ، وأنه يدعو للأمن والسلم المجتمعي ونبذ الحروب والقتل ، وقد كان العرب يغزو بعضهم بعضا ، وقد تستمر الحرب بينهم لعشرين أو اربعين سنة كما في حرب البسوس التي سببها قيام الملك كليب بن ربيعة برمي ناقة البسوس وقتله لها .
ولم تمر بضع سنوات على هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله إلى المدينة حتى ساد السلام في الجزيرة ، وصارت أحكامه هي النافذة بما يبعث الطمأنينة في قلوب الناس .
ومنهاج تفسيرنا هذا نواة جهود عالمية ضد العنصرية والعنف العقائدي والتمييز العرقي , وتأسيس لقواعد فكرية تطرد مفاهيم الإرهاب عن العقول والمجتمعات .
ويتضمن هذا الجزء قوانين متعددة منها :
الأول : قانون حرمة التفاخر من الإرهاب للزوم التدارس بكيفية نشر خبر الإرهاب بما يمنع من العنصرية وإزدراء الأديان لعدم صلتها به.
الثاني : قانون منافاة الإرهاب للخلافة في الأرض .
الثالث : قانون هداية القرآن للإمتناع عن الإرهاب .
الرابع : قانون غزو المشركين لأطراف المدينة عدة مرات إرهاب .
وغيرها من القوانين , مع تفسير الآيات بما يدل على التضاد بين القرآن والإرهاب وهو موضوع هذا الجزء من التفسير والجزء السابق وهو الرابع والثمانون بعد المائة .
الخامس : قانون (هداية القرآن للإمتناع عن الإرهاب) .
وتتجلى مضامين هذا القانون بقوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، ومن الجلي والواضح أن الإرهاب يتنافى مع الأقوم والأحسن ، فلا يزاول المؤمن الإرهاب ، كما أن أهل القرآن يجب أن لا يتوجه لهم الإرهاب لأنهم على النهج القويم بما ينفع المجتمعات وعموم الإنسانية..
وليس من حصر للآيات التي تدل على هذا المعنى في منطوقها ، أما المفهوم فهو جلي وظاهر , ونزل القرآن بالرحمة والإحسان والعفو .
وعن الإمام الباقر عليه السلام ، وما أنزل الله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] حتى أسلم أبناء قبيلة الأوس والخزرج .
إن الصلاة أهم من الصوم فلم تقل الآية (كتبت عليكم الصلاة) بصيغة الجملة الخبرية بل جاء الأمر بها بصيغة الأمر [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ) إذ جاءت الفرائض العبادية بصيغ متعددة وفيه ترغيب بأدائها .
ونحن في غرة شهر شعبان من السنة الأربعمائة والأربعين بعد الألف للهجرة النبوية ويليه شهر رمضان وهو التاسع من الأشهر القمرية العربية ، ولم يرد اسم شهر مخصوص في القرآن إلا شهر رمضان بقوله تعالى[ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ] ( )ليكون من معاني الهدى والبيان في الآية أعلاه لزوم إجتناب الإرهاب ومقدماته.
ومن خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) التطلع لإطلالة شهر رمضان واستقباله بالغبطة وتعاهد فريضة الصيام مع ما فيها من الجوع والعطش لإدراك المسلمين والمسلمات ما في الصيام من الرزق الكريم في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة ، والصيام آية في الصدّ والصدود عن الإرهاب من جهات :
الأولى : عناية المسلمين بالفريضة .
الثانية : حرص المسلمين على الإستجابة لأمر الله .
الثالث : من خصائص الجوع والعطش الإنقطاع إلى الله وعدم الإفتتان بالدنيا .
الرابعة : التبصر بالأمور والنظر إلى الأحداث بالمنظار الواقعي بعيداً عن الغلو .
والرخصة في الصيام يسر وتخفيف
وأختلف العلماء أيهما أفضل للمسافر في شهر رمضان :
الأول : الصوم .
الثاني : الإفطار .
الثالث : التخيير والمساواة بين الصوم والإفطار .
الرابع : لزوم الصوم .
وذهب الحنفية والمالكية والشافعية إلى أن الصوم هو الأفضل ، إذ لم يجهده أو يضعفه الصوم وهو وجد عند الحنابلة .
واستدلوا بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] ( ) .
وتدل هذه الآية على العزيمة في الصوم من جهات :
الأولى : توجه الخطاب التشريفي إلى المسلمين والمسلمات [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وعن الإمام الصادق عليه السلام عن هذه الآية وشبهها في النداء فقال : هذه كلها يجمع الضلالة والمنافقين وكل من أقر بالدعوة الظاهرة .
الثانية : وجوب الصوم بقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ] أي فرض ولزم ، وعن الإمام الصادق عليه السلام في قوله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] (لذة النداء أزال تعب العبادة) ( ).
وعن حفص بن غياث النخعي قال ( سمعت جعفر الصادق عليه السلام يقول : ان شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الأمم قبلنا فقلت له : فقول الله عز وجل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( ) .
قال : إنما فرض الله صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم ، ففضل به هذه الأمة وجعل صيامه فرضاً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أمته .
واستدل على أفضلية الصوم بحديث أبي الدرداء : قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان في حر شديد ما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعبد الله بن رواحة .
وذهب الحنابلة إلى ان الفطر في السفر أفضل .
قال الحُرقىّ : والمسافر يستحب له الفطر ، وقال المرداوي، وهذا هو المذهب .
وفي الإقناع : والمسافر سفر قٌصد يُسَنّ له الفطر ، ويكره صومه ، ولو لم يجد مشقة ، وعليه الأصحاب ونّص عليه ، سواء وجد مشقة أو لا ، وهذا مذهب ابن عمر وابن عباس وسعيد والشعبي والأوزاعي .
واستدلوا على الإفطار في السفر بحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس من البر الصوم في السفر .
وحديث (جابر ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في سفر فرأى رجلا يظلل عليه فسأل عنه فقالوا هو صائم فقال ليس من البر الصوم في السفر) ( ).
وفي كتاب الجمع بين الصحيحين : ليس البر أن تصوموا في السفر( )
.
وزاد في سنن النسائي في حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليكم رخصة الله التي رخص ّ لكم فاقبلوها ) ( ).
وحمل النووي الأحاديث التي تدل على أفضلية الفطر على من يتضرر بالصوم مع الإقرار بعدم ثبوت النسخ في الأحاديث ، ولا تصل النوبة إلى النسخ للتصريح في الآية بقوله تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] ( ).
و(عن جابر ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه فقيل له يا رسول الله ان الناس قد شق عليهم الصيام فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون فأفطر بعض الناس وصام بعض فبلغه ان ناسا صاموا فقال اولئك العصاة) ( ).
فالأقوال في الصيام في السفر :
الأول :أفضلية الإفطار وعليه الحنابلة .
الثاني : الإفطار عزيمة وعليه الإمامية .
الثالث : الصوم أفضل وعليه الحنفية والمالكية والشافعية إذ لم يجهده الصوم ، ولم يسبب له الضعف .
الرابع : الصيام مندوب .
ومن فضل الله عز وجل على الناس ، ومعاني الخلافة في الأرض اتجاه الدول والمجتمعات نحو التراحم والإقرار بالحقوق العامة والإنصات للآخر وتفهم حال الآخر والصيام مناسبة للتراحم بين المسلمين وأهل الكتاب وعموم الناس .
وسيأتي في الأجزاء التالية وفي ذات منهجية هذا الجزء كل من قانون:
الأول : قانون أداء الصلاة واقية من الإرهاب .
الثاني : قانون موضوعية العبادات في الحصانة من الإرهاب .
الثالث : قانون التفكر بالآيات الكونية وبدائع السموات والأرض حرز من الإرهاب .
وقد تكرر في القرآن قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ] ( ) وفيه دعوة للناس للتدبر في أمور الدنيا والآخرة ، ومنه أن الإرهاب لا يحقق أي غاية إلا الفساد والضرر والخسارة لصاحبه ولغيره .
الرابع : قانون السنة النبوية شاهد على تنزه الإسلام عن الإرهاب .
الخامس : قانون النصوص النبوية التي تنهى عن الإرهاب .
السادس : محاربة الإرهاب بالسنة النبوية .
السابع : عدم رضا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ترويع الآمنين
وسيأتي الجزء التالي وهو السادس والثمانون بعد المائة خاصاً بتفسير قوله تعالى [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ) .
وقد جاء الجزء التاسع والسبعون بعد المائة في تفسير الآية (178) من سورة آل عمران في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً وكله تفسير واستنباط وتأويل من مضامين الآية القرآنية لبيان قانون من جهات :
الأولى : كل آية قرآنية خزينة من العلوم .
الثانية : بيان مصداق لقوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثالثة : عرض شاهد من قانون إحاطة كلمات القرآن المحدودة بالامحدود من الوقائع والأحداث .
ويتضمن القرآن الإنذار من العمل الإرهابي ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ] ( ).
وورد في التنزيل[رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا]( ).
ومن خصائص المؤمن إنشغاله بعباداته وإصلاحه لنفسه ، وإجتهاده في طاعة الله (عن أبي سعيد قال : جاء شاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، علمني دعاء أصيب به خيرا ؟ قال له : ادنه ، فدنا حتى كادت ركبته تمس ركبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : قل : اللهم اعف عني فإنك عفو تحب العفو ، وأنت عفو كريم)( ).
ويحرص المسلم على أداء العبادات لأنها طريق موصل إلى الثواب العظيم في الآخرة ، وهي من مصاديق الصراط في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ولا يتمنى الإنسان القتل والعذاب ودخول النار ويحب الستر ويميل إليه ويشكر الله عز وجل على تفضله بستر خطاياه وذنوبه وإمكان التدارك بالتوبة والإنابة والإستغفار .
لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر وليس معه سيف للدلالة على انه لم يقصد القتال إنما تنفل سيف ذي الفقار في المعركة .
بينما لبس لأمة الحرب عندما خرج إلى معركة أحد لأن جيش المشركين صاروا على مشارف المدينة وهم يريدون إقتحامها ، وكان بعض المسلمين يريد استدراجهم بهذا الإقتحام ، ولكن رجالاً من المسلمين فاتهم حضور معركة بدر ، وصفة البدريين ، وظهور تعدي واصرار الذين كفروا على القتال فيها ، وما أنعم الله عز وجل من النصر للمؤمنين يومئذ ، فأرادوا الخروج للقاء العدو ، وقيل نزل قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ] ( ) عندما صاروا بناحية المدينة في طريقهم إلى معركة أحد .
وتبين الآية أعلاه كراهة القتال وشدته وما يقاسيه الطرفان والخسارة التي تلحق بهم ، وهل الآية أعلاه توبيخ للذين تمنوا القتال .
قال في الكشاف (وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت ، وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإلحاحهم عليه ، ثم انهزامهم عنه وقلة ثباتهم عنده) ( ).
ولا دليل على أن الآية توبيخ للمؤمنين خاصة وأنهم يدافعون عن النبي والتنزيل ، إنما تبين الآية حال المسلمين وإرادة طائفة منهم الدفاع .
ومن إعجاز الآية أعلاه أنها لم تخبر عن وقوع الموت فيهم ، ولا لقاءهم له ، فلم تقل الآية : ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه وقد لقيتموه ) إنما أخبرت عن رؤيتهم له فقط لبيان التخفيف عن المسلمين ، وفيه شاهد بأن المسلمين لم يخسروا معركة أحد ، فقد رآى المسلمون الموت وصرفه الله عز وجل عنهم ونجاهم منه ،وقد فاز سبعون منهم بالشهادة , دفاعاً عن الملة والأنفس ، قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).

حرر في الأول من شعبان 1440هـ
7/4/2019

  قانون القرآن وثيقة السلام

من علامات إكرام الله لجنس البشر وتفضله بالنفخ من روحه ميل الإنسان بالفطرة إلى السلام والأمن , ليشهد الله سبحانه الناس على أنفسهم بلزوم عمارة الأرض بالعبادة والنسك , والإمتناع عن الظلم وسفك الدماء .
وعن أبي محمد رجل من أهل المدينة قال : سألت عمر بن الخطاب عن قوله { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم }( ) .
قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما سألتني فقال : خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه ، ثم أجلسه فمسح ظهره بيده اليمنى فأخرج ذراً.
فقال : ذرء ذرأتهم للجنة ، ثم مسح ظهره بيده الأخرى ، وكلتا يديه يمين.
فقال : ذرء ذرأتهم للنار يعملون فيما شئت من عمل ، ثم اختم لهم بأسوأ أعمالهم فأدخلهم النار( ).
ومن معاني السلم الإنقياد إلى أمر ومشيئة ، الله قال تعالى [وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا]( ) .
ومن خصائص خليفة الله في الأرض وهو الإنسان الغبطة بهذا الإنقياد والشكر له سبحانه على نعمة التسليم لأمره وبه جاء الأنبياء ، ونزلت به الكتب السماوية.
لقد أراد الله عز وجل بنزول القرآن والكتب السماوية السابقة إقامة الحجة على الناس بلزوم الإمتناع عن سلّ السيوف والقتال ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ]( ) .
وذكر أن المراد من [لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ] في الآية أعلاه (يوم أخذ الميثاق) ( )، ولكن الآية أعم في دلالتها ، ففي كل آية ميثاق , ولا حصر لوجوه الحسن والنفع في ميثاق الآية , وما تتضمنه من العهد والوعد والوعيد والتي تجذب الإنسان إلى سبل الهداية , وتدفعه بلطف عن طريق الغواية .
ومن الغواية التطرف والإرهاب والفتك بالناس بغير حق , قال تعالى [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ), وكل يوم الله سبحانه في شأن و[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وهل يمكن القول بقانون وهو (كل آية من القرآن ميثاق) الجواب نعم .
إن أخذ الله الميثاق على الناس في عالم الذر لا يتعارض مع أخذ الميثاق منهم مع بعثة كل نبي ونزول كل آية كتاب سماوي ، لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يمد يده ليبايعه الناس بأخذ الكف ، وتبايعه النساء أيضاً ولكن بالكلام ومن غير أخذ اليد.
ويدعو القرآن إلى السلام من وجوه :
الأول : إبتداء نزول القرآن بآية [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، لبيان أن القرآن كتاب العلم.
الثاني : مجئ السور المكية بالإنذار والوعيد والتخويف من اليوم الآخر.
الثالث : دعوة القرآن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالصبر والتحمل والحلم والإنقطاع إلى الذكر والتسبيح ، قال تعالى [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ]( ).
الرابع : دعوة القرآن الناس للإيمان بالله والملائكة والنبيين واليوم الآخر.
الخامس : توالي النعم والأجر والثواب على الهدى والإيمان ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا]( ).
وعن عثمان بن حنيف : أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : يا رسول الله ، علمني دعاء أدعو به يرد الله علي بصري .
فقال له : قل اللهم إني أسألك ، وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة ، يا محمد إني قد توجهت بك إلى ربي ، اللهم شفعه في ، وشفعني في نفسي ، فدعا بهذا الدعاء فقام وقد أبصر( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : فقد أبي بغلة له فقال لئن ردها الله تعالى علي لأحمدنه محامد يرضاها فما لبث أن أتى بها بسرجها ولجامها فركبها فلما استوى عليها وضم إليه ثيابه رفع رأسه الى السماء فقال الحمد لله لم يزد عليها فقيل له في ذلك فقال وهل تركت أو بقيت شيئا جعلت الحمد كله لله عز و جل( ).
السادس : مجئ آيات القرآن بالدعوة إلى السلام ، والندب إليه .
السابع : آيات الموادعة والصلح ، وفيها ترغيب بالسلم ، وقد إختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلح مع المشركين في صلح الحديبية ، ورضا بشروطهم لمنع سفك الدماء .
وكانت الوفود يومئذ تمشي بينه وبين المشركين الذي حضروا الحديبية وقد حجز المشركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ومنعوهم عن مواصلة السير إلى مكة لأداء العمرة وصدوهم عن المسجد الحرام ومع هذا تسمى عمرة الحديبية .
ومن فضل الله عز وجل أنهم كانوا في شهر حرام وهو شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، قال ابن اسحاق وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي، وابن هشام يقول بسر .
فقال يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذى طوى يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدا وهذا خالد بن الوليد في خيلهم وقد قدموها إلى كراع الغميم.
وقال ابن سعد قدموا مائتي فارس عليها خالد بن الوليد ويقال عكرمة ابن أبى جهل قال ودنا خالد في خيله حتى نظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر فتقدم في خيله فقام بازائه وصف أصحابه وحانت صلاة الظهر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باصحابه صلاة الخوف.
رجع إلى ابن إسحق: قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ويح قريش أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بينى وبين سائر العرب فان هم أصابوني كان ذلك الذى أرادوا واين أظهرني الله عليهم دخلوا في الاسلام وافرين وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة فما تظن قريش فوالله لا أزال أجاهد على الذى بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة( ).
ويدل صلح الحديبية ، وقبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشروط قريش فيها على أنه رجل السلام ، وأن الدعوة الى الله بالمعجزة كافية للهداية والرشاد وإقامة الحجة على الذين كفروا ، قال تعالى [وَمَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
الثامن : بيان القرآن لجهاد الأنبياء في سبل السلام .
التاسع : إخبار القرآن عن كون الجنة دار السلام ، قال تعالى [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( )، وكل آية من القرآن هي دعوة من الله للسلام ، والإستقامة والنجاة في النشأتين .
وهل آيات معركة أحد دعوة للسلام ، الجواب نعم لأنها تبين ملاقاة المسلمين لإصرار الذين كفروا على القتال بسلاح الصبر وآيات القرآن ، وفي ميدان المعركة أنزل الله على المسلمين أمنة إذ يتغشاهم النعاس لبيان أن الله يحيطهم بلطفه ويصرف عنهم الشرور.
وبخصوص يوم معركة أحد ورد عن الزبير قال : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين اشتد الخوف علينا ، أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره ، فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا }( ) فحفظتها منه ، وفي ذلك أنزل الله { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً }( ) إلى قوله { ما قتلنا ههنا } لقول معتب بن قشير( ) .
وقد ورد لفظ (السلام ) في القرآن اثنتين واربعين مرة منها مرة واحدة اسما لله عز وجل بقوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ]( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسبن في أقواله أن السلام اسم من أسماء الله ويتقرب إليه سبحانه بهذا الاسم (عن ثوبان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثاً ثم قال : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإِكرام) ( ).
وابتدأت سبع آيات بذكر السلام وهي [سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ] ( ) [سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ) [سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ] ( ) [سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ] ( ) [سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ] ( ) [سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ] ( ) [سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ] ( ).
وترغب آيات القرآن بالسلام ، ولا يختص هذا الترغيب بالمسلمين بل يشمل الناس جميعاً لأنه ينمي ملكة التسامح بين الناس وينشر أسباب الألفة بينهم .
وجاء القرآن بحرمة الخمر والميسر ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (اجتنبوا الخمر، فإنها أم الخبائث) ( ) وقد يرتكب شارب الخمر والمخدرات الإرهاب والإضرار بالآخرين ليكون من إعجاز القرآن والشريعة الإسلامية حرمة المسكرات ، ومقدمات الإرهاب.

النسبة بين غزو المشركين للمدينة وبين الإرهاب
قال تعالى[وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا]( ).
صحيح أن مصطلح الإرهاب ليس قديماً وينصرف إلى القيام بالجرح والقتل والتفجير ونحوه إلا أنه ظهر في السابق بتعدي وظلم الذين كفروا من قريش للمسلمين وسعيهم للإبادة الجماعية والقتل العشوائي فلم يكن آنذاك سلاح غير السيف والرمح , مع انتفاء أسلحة الدمار والقتل فصرف الله عز وجل الذين كفروا من قريش واتباعهم عن الإبادة وبقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حياً حتى أتم تبليغ رسالته وقام أحسن قيام بأداء وظائف الرسالة، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
وهو من أسرار اختتام النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلا لقام بعض السلاطين والكفار بقتل النبي حالما يعلن نبوته ، ويقوم بدعوة الناس إلى نفسه وساقوا الذين يؤمنون برسالته إلى ضروب من العذاب ، كما في قصة أصحاب الأخدود.
(وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { قتل أصحاب الأخدود } قال : هم ناس من بني إسرائيل خددوا أخدوداً في الأرض ثم أوقدوا فيه ناراً ، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء فعرضوا عليها) ( ).
وكما في الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حتى اضطروا للجوء إلى الهجرة ، فشكروا الله على نعمة الهجرة .
ويمكن تقسيم غزو المشركين إلى المدينة تقسيماً استقرائياً إلى وجوه :
الأول : غزو المشركين الذي يقطعه المسلمون في الطريق ، كما في معركة بدر .
إذ خرج ألف من المشركين من مكة بحجة إنقاذ قافلة أبي سفيان ، ولكن حينما وصلتهم رسالة أبي سفيان بسلامة القافلة ، ويطلب منهم الرجوع إلى مكة لم يستجيبوا لطلبه بل استمروا بزحفهم ، لولا أن تفضل الله وجعل النبي وأصحابه والملائكة لهم بالمرصاد.
وقال البخاري في كتاب المغازي باب قول الله عز وجل: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ }( ) إلى قوله: { فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }( ) حدثنا أبو نُعَيم، حدثنا إسرائيل، عن مُخَارق، عن طارق بن شهاب قال: سمعت ابن مسعود يقول: شهدت من المقداد بن الأسود مَشْهدًا لأن أكون صاحبه أحبَّ إلي مما عدل به: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى لموسى: { اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا}( )، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك، وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشرق وجهه وسره -يعني قوله.
وحدثنا محمد بن عبد الله بن حَوْشَب، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا خالد الحَذَّاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر : اللهم أنشدك عَهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تُعْبَد” ، فأخذ أبو بكر بيده، فقال : حسبك فخرج وهو يقول[سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ] ( ) ( ).
وهل كان نفير المشركين في مكة للخروج إلى معركة بدر من الإرهاب للمسلمين والمسلمات فيها ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : إرادة تخويف المسلمين والمسلمات في مكة .
الثانية : بعث رسالة للمسلمين والقبائل المحيطة بمكة بأن قريشاً سيقتلون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويقومون بقتل طائفة من أصحابه وأسر طائفة أخرى.
لقد كانوا يتباهون بأنهم سيعيدون المهاجرين موثقين بالأصفاد والحبال إلى مكة ، وكان هذا التباهي قبل معركة بدر وبعدها ، ولكنه إزداد وأشتد بعدها ، وأضيف له رغبة قريش باسترداد البدل والعوض الذي دفعوه عن أسراهم في بدر عند جلب المهاجرين والأنصار أسرى في معركة أحد ، فأخزاهم الله ولم يعودوا بأسرى في تلك المعركة ، إنما نزل قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وفي الآية أعلاه دلالة على أن المشركين لم ينتصروا في هجومهم في معركة أحد ، وهو من أظهر مصاديق قيامهم بالإرهاب والغزو الإبتدائي الذي ليس له سبب عقلائي.
ليكون من معاني كبت المشركين في الآية أعلاه خيبتهم وحسرتهم على عدم أسر جماعة من المسلمين .
ولو كان المشركون يعلمون أنه يقتل منهم في معركة بدر سبعون ويؤسر سبعون فهل خرجوا إليها أم لا.
المختار أنهم يخرجون ولكن مع تهيئ أكثر وزيادة في الرجال والسلاح والعدة كما فعلوا في معركة أحد، وهل تختلف نتيجة المعركة , الجواب لا ، لموضوعية وأثر الملائكة ونزولهم لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
قَالَ أَبُو دَاوُدَ الْمَازِنِيّ : إنّي لَأَتْبَعُ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَضْرِبَهُ إذْ وَقَعَ رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ سَيْفِي ، فَعَرَفْتُ أَنّهُ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِي . وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِالْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَسِيرًا .
فَقَالَ الْعَبّاسُ إنّ هَذَا وَاَللّهِ مَا أَسَرَنِي ، لَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ مِنْ أَحْسَنِ النّاسِ وَجْهًا ، عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ مَا أَرَاهُ فِي الْقَوْمِ فَقَالَ الْأَنْصَارِيّ أَنَا أَسِرْتُهُ يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ اُسْكُتْ فَقَدْ أَيّدَكَ اللّهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ( ).
وأسر من جيش المشركين ثلاثة من بني عبد المطلب وهم :
الأول : العباس بن عبد المطلب ، وهو عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : عقيل بن أبي طالب ، وهو أخو الإمام علي عليه السلام.
الثالث : نوفل بن الحارث بن عبد المطلب .
ودفع العباس الفدية عنهم جميعاً ، (وقيل أن نوفلاً فدى نفسه برماح)( )، إذ قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفد نفسك برماحك التي في جدة ولم يعلم بها أحد غيره واسلم نوفل وهاجر أيام الخندق ، وآخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين العباس بن عبد المطلب مما يدل أن المؤاخاة لم تغلق أو تنقطع , ولم تكن لمرة واحدة .
لقد اختار المشركون الإرهاب والتخويف للمسلمين وإرادة البطش بهم والسعي الخبيث لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهزموا في معركة بدر ، ولم يتعظوا فرجعوا خائبين في معركة أحد ، فازدادوا إصراراً على الإرهاب ، مع أن نتائج كل من المعركتين مجتمعتين ومتفرقتين تدل على أن الإرهاب والتعدي والبطش أمور لا تجلب إلا الخسارة والخزي ، لقد أدرك الناس أن الحروب لا تجلب إلا الدمار ، وكذا بالنسبة للإرهاب في هذا الزمان فانه خسارة فادحة إلى جانب الذم العام من الناس للقائمين بالإرهاب والمعضدين له بالمال واللسان مع العقوبات وفق القوانين الدولية والمحلية .
الثالثة : سعي قريش لمنع أفراد القبائل من دخول الإسلام ، وشيوعه, تولي قريش عناية لسطوتها ورفعة منزلتها عند القبائل ، خاصة وأنهم يأتون إلى مكة لأداء الحج والعمرة ، ويقترضون المال من رجالات قريش بالربا والزيادة .
ولا يعلم إلا الله بما أصاب أهل المدينة عند هجوم المشركين في معركة أحد , وإطلالة ثلاثة آلاف منهم على المدينة يومئذ وهم يريدون القتال، ولم يقف الأمر عند هذه الإطلالة إنما أصروا على القتال ، ولم يطلبوا غيره ، أي أنهم لم يعرضوا الصلح ولم يرضوا به ، ولم يضعوا شروطاً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لمنع القتال .
الثاني : غزوات المشركين لتخوم المدينة وسروح أهلها , وإرادة بعث الإرهاب في أرجائها وإثارة الفتنة فيها وقيام المنافقين باظهار اللوم للمؤمنين بسبب القتال مع المشركين ، ووقوع قتلى من الأنصار من الأوس والخزرج ، وفي التنزيل [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
ومن غزو المشركين لأطراف المدينة ما يسمى غزوة السويق ، ويلاحظ خطأ القراءة في هذه المسألة فتسمى غزوة السويق , وكأن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي غزا وهجم.
وتدل كل الأخبار عن الواقعة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يهجموا ولم يخرجوا يومئذ للغزو ونحوه ، إنما اضطروا لإخافة العدو بغية دفعه عن المدينة .
فلما رجع المشركون إلى المدينة من معركة بدر بالحسرة والخيبة والخوف الشديد ووطأة خسارة سبعين قتيلاً من رجالاتهم وترك سبعين أسيراً وراءهم ، كان أبو سفيان قد وصل بقافلته إلى مكة قبلهم ، ولم يوجه لهم اللوم على إصرارهم على القتال ،وعدم الإنصات له واستجابتهم لرسالته لهم بالعودة من الطريق بعد نجاة قافلته التي كانت السبب في خروجهم .
إنما (نَذَرَ أي أبو سفيان أَنْ لَا يَمَسّ رَأْسَهُ مَاءٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتّى يَغْزُوَ مُحَمّدًا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَخَرَجَ فِي مِئَتَيْ رَاكِبٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، لِيَبَرّ يَمِينَهُ فَسَلَكَ النّجْدِيّة ، حَتّى نَزَلَ بِصَدْرِ قَنَاةٍ إلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ ثَيْب ، مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى بَرِيدٍ أَوْ نَحْوِهِ ثُمّ خَرَجَ مِنْ اللّيْلِ حَتّى أَتَى بَنِي النّضِيرِ تَحْتَ اللّيْلِ .
فَأَتَى حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَأَبَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ بَابَهُ وَخَافَهُ فَانْصَرَفَ عَنْهُ إلَى سَلّامِ بْنِ مِشْكَمٍ ، وَكَانَ سَيّدَ بَنِي النّضِير ِ فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ وَصَاحِبَ كَنْزِهِمْ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ فَقَرّاهُ وَسَقَاهُ وَبَطَنَ لَهُ مِنْ خَبَرِ النّاسِ ثُمّ خَرَجَ فِي عَقِبِ لَيْلَتِهِ حَتّى أَتَى أَصْحَابَهُ فَبَعَثَ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ إلَى الْمَدِينَةِ .
فَأَتَوْا نَاحِيَةً يُقَالُ لَهَا : الْعَرِيضُ ، فَحَرَقُوا فِي أَصْوَارٍ( ) مِنْ نَخْلٍ بِهَا ، وَوَجَدُوا بِهَا رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ وَحَلِيفًا لَهُ فِي حَرْثٍ لَهُمَا ، فَقَتَلُوهُمَا ، ثُمّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ) ( ) .
وقوله : لا يمس رأسه من جنابة لإرادة إعتزال النساء حتى يقوم بالغزو ، فلماذا لا تسمى غزوة أبي سفيان ,أو غزوة الكفار التي تسمى غزوة السويق , ونسبتها في التسمية للكفار أولى من أبي نسبتها لأبي سفيان لأنه أسلم فيما بعد .
مع أن أبا سفيان صرح بالغزو وقام به ، إذ خرج معه مائتان من كفار قريش بعض النخيل وقتلوا رجلين من الأنصار مسالمين كانا في زرع لهما لبيان حقيقة وهي أن مشركي قريش هم الذين زاولوا الإرهاب العام والخاص ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج من المدينة لوقف هذا الإرهاب ولو شاء لطاردهم إلى مشارف مكة ، ولكنه واصحابه رجعوا حالما أطمئنوا من زوال خطرهم ووقف فتكهم وبطشهم .
قد كان غزو أبي سفيان فيما يسمى غزوة السويق في شهر ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة (نيسان 624 ) م وسلك النجدية ، وسار هو ومائتان من المشركين حتى نزلوا بصدر قناة إلى جبل يسمى نيب( ) يبعد عن المدينة نحو بريد .
والبريد أربعة فراسخ ، والفرسخ ستة كيلو متر ويقدر باثني عشر ألف ذراع .
فتكون مسافة البريد أربعة وعشرين كيلو متر ، والمسافة كالآتي:
البريد أربعة فراسخ .
الفرسخ الواحد : ستة كيلو متر .
6×4 =24 كم مجموع طول البريد .
وقال بعض الفقهاء أن طول البريد هو 44 كم.
والذراع وحدة قياس يدوية متيسرة , وقياسها بالطول الساعد من المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى في متوسط الخلقة واختلف في طوله الفقهاء , وهو نحو خمسين سنتمتراً .
ولم يكن أبو سفيان فارساً شجاعاً , وقول أنه كان رئيس جيش قريش في معركة أحد يحتاج إلى تحقيق .
وقد بارز أبو سفيان يوم أحد غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر فصرعه حنظلة وعلاه , ولكن جاء ابن شعوب من الكفار فأعانه على قتل حنظلة , وكان أبوه أبو عامر الفاسق مع جيش المشركين ينظر .
وقال أبو سفيان حينئذ شعراً :
ولو شئت نجتني كميتٌ طمرةٌ … ولم أحمل النعماء لابن شعوب
فما زال مهرى مزجر الكلب منهم … لدى غدوةٍ حتى دنت لغروب
أقاتلهم وأدعى يال غالبٍ … وأدفعهم عني بركن صليب
فبكى ولا ترعى مقالة عاذلٍ … ولا تسأمى من عبرةٍ ونجيب
أباك وإخواناً له قد تتابعوا … وحق لهم من عبرةٍ بنصيب
وسلى الذي قد كان في النفس أنني … قتلت من النجار كل نجيب
ومن هاشم قرماً نجيباً ومصعباً … وكان لدى الهيجاء غير هيوب
ولو أنني لم أشف منهم قرونتي …لكانت شجي في القلب ذات ندوب
فآبوا وقد أودى الحلائب منهم … لهم خدبٌ من مغبطٍ وكئيب
أصابهم من لم يكن لدمائهم … كفياً ولا في خطةٍ بضريب
فأجابه حسان بن ثابت فقال:
ذكرت القروم الصيد من آل هاشمٍ … ولست لزورٍ قلته بمصيب
أتعجب أن أقصدت حمزة منهم … نجيباً وقد سميته بنجيب
ألم يقتلوا عمراً وعتبة وابنه … وشيبة والحجاج وابن حبيب !
غداة دعا العاصي عليا فراعه … بضربة عضبٍ بله بخضيب
وقال شداد بن الأسود، يذكر يده عند أبي سفيان بن حرب فيما دفع عنه:
ولولا دفاعي يا بن حربٍ ومشهدي … لألفيت يوم النعف غير مجيبٍ
ولولا مكري المهر بالنعف قرقرت … ضباعٌ عليه أو ضراء كليب( ).
وعندما بلغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خبر غزو أبي سفيان لأطراف المدينة وإحتمال الإقتراب منها أكثر , وعاثوا في الأرض فسادا , خرج ومعه مائتان من أصحابه أي بنفس عدد جيش المشركين ، وفيه نعمة عظمى على المسلمين ومحاربة للإرهاب من جهات :
الأولى : التساوي في العدد بين جيش الغزاة المشركين وبين أفراد كتيبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدد أفراد كل منهما مائتان ، بينما كان عدد جيش المشركين في معركة بدر أكثر من ثلاثة أضعاف عدد جيش المسلمين ، فان قلت قد وقعت معركة أحد بعد كتيبة السويق ، وكان عدد جيش المشركين يومئذ أكثر من أربعة أضعاف عدد المسلمين ، الجواب نعم ، إذ حصل التساوي في العدد القليل من الجنود دون الكثير بالإضافة الى الإستعداد والنفير التام من قريش لمعركة أحد وبذلهم الأموال الطائلة في ندب وتسخير القبائل معهم .
ليكون من معاني الخيبة في قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، إدراك كفار قريش حقيقة وهي أنهم لم ينالوا من المعركة معشار ما أنفقوه في الإعداد لها ، خاصة وأنهم رجال تجارة تكون موضوعية للحساب المادي عندهم ، بالإضافة لفقدهم اثنين وعشرين من رجالهم ، وكذا شأن الإرهاب فانه لا يجلب لأهله إلا الضرر الفادح .
وفي قصة يوسف وفتنة امرأة العزيز ورد قوله تعالى [ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ]( )، وكان مكر وكيد قريش أشد من كيد امرأة العزيز فابتلاهم الله عز وجل بالخيبة عند الرجوع من معركة أحد لزجرهم عن مواصلة الإرهاب ولتذكيرهم بالعقاب عليه يوم القيامة.
إلى أن منّ الله عز وجل على المسلمين بعد معركة الخندق .
الثانية : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه في كتيبة السويق واستعمل على المدينة بشير بن عبد المنذر وهو أبو لبابة.
الثالثة : رجوع أبي سفيان وأصحابه خائبين من غير أن يحققوا غايتهم ، ولم يف أبو سفيان بنذره إذ أنه وعد بغزو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقع هذا الغزو ، بل خرج له النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن أبا سفيان وأصحابه انهزموا مرعوبين خائفين .
وهل يحتمل فيهم رجال ممن حضروا معركة بدر ، الجواب نعم ، فليس عند قريش من الرجال ما يكفي للتخصيص في كل معركة والقعود في أخرى خاصة وأن قريشاً استنفرت كل رجالهم في معركة بدر وقاموا بتعيير من مال إلى القعود عنها حتى حملوه على الخروج كما في أمية بن خلف الذي أبى في بادئ الأمر الخروج إلى بدر .
(فأتاه عقبة بن أبي معيط. وأبو جهل، ومعه عقبة مجمرة فيها بخور، ومع أبي جهل مكحلة ومرود، فأدخلها عقبة تحته وقال: تبخر، فإنما أنت امرأة! وقال أبو جهل: اكتحل، فإنما أنت امرأة! قال أمية: ابتاعوا لي أفضل بعيرٍ في الوادي. فابتاعوا له جملاً بثلاثمائة درهم من نعم بني قشير، فغنمه المسلمون يوم بدر، فصار في سهم خبيب بن يساف) ( ).
ترى لماذا امتنع أمية بن خلف عن الخروج ، الجواب من وجوه :
أولاً : الإتعاظ وعلى نحو الموجبة الجزئية من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : إدراك قانون وهو عجز قريش عن منع شيوع مفاهيم الإسلام .
ثالثاً : لا تستلزم نصرة القافلة خروج جميع رجالات قريش ، وكأنه من الأمر الكفائي .
رابعاً : حال السمنة عند أمية ، وقلة حركته خاصة وأنه رجل يعمل في التجارة ويحيط به أولاده .
خامساً : خشية وقوف أمية بن خلف من القتل إذ كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة .
وأراد قتله وتوعده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورد عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوعيد وقبل معركة بدر باشهر دخل سعد بن معاذ وهو من كبار الأنصار قلة معتمراً فنزل على أمية بن خلف .
فأتاه أبو جهل وكان يجاهر بسخطه على الأنصار لأنهم آووا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين ، فقال : أَتَنْزِل هَذَا، وَقَدْ آوَى مُحَمّدًا وَآذَنّا بِالْحَرْبِ( ).
لبيان أن قريشاً صاروا يقصرون بالضيافة وواجب إكرام ووفادة حجاج البيت الحرام ، وصاروا يذمون من يستقبلهم على العادة المتعارفة عندهم ، وهو من الشواهد تخلف قريش عن تولي شؤون البيت الحرام , ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
إلى جانب موضوعية التجارة والكسب في هذه الصلات وتقويتها.
ولم يسكت سعد بن معاذ وهو سيد الأوس ومن قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي تولى كسر أصنام بني عبد الأشهل ، وكان في سن الشباب فبيّن سعد منزلة الأنصار وحاجة قريش لهم ولزوم إجتناب إيذائهم .
وقال معاذ لأبي جهل وقريش تسمع : قل ما شئت ، أما إن طريق عيركم علينا .
وفيه إنذار لقريش باجتناب معركة بدر ، وضروب الهجوم على المدينة ، أو التعرض لأحد الأنصار في مكة أو خارجها ، وكان هذا الحديث في شهر حرام إذ ورد هذا الخبر مردداً بين الحج والعمرة.
ولم يرض أمية بن خلف على كلام سعد بن معاذ فقال : مه ، لا تقل هذا لأبي الحكم ، فانه سيد الوادي( )، لبيان شأن ومنزلة أبي جهل ولزوم إجتناب التعريض به.
فالتفت سعد إلى أمية وأنذره ، وقال له : وَأَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أُمَيّةُ أَمَا وَاَللّهِ لَسَمِعْت مُحَمّدًا يَقُولُ” لَأَقْتُلَن أُمَيّةَ بْنَ خَلَف.
قَالَ أُمَيّةُ أَنْتَ سَمِعْته ، قَالَ قُلْت: نَعَمْ، قَالَ فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ فَلَمّا جَاءَ النّفِيرُ أَبَى أُمَيّةُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمْ إلَى بَدْرٍ( ).
ليكون مقتل أمية بن خلف في معركة بدر حجة عليه لأنه تلقى الإنذار وهو في مكة ، وتعمد الخروج والهجوم ولو تحمل كلام عقبة بن أبي معيط وأبي جهل لكان أحسن له من الموت على الكفر ، والخلود في الجحيم.
ولم يقتله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يأمر بقتله , ولكن قتله بلال الحبشي .
قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( )، أما سعد بن معاذ فانه اصيب فيما بعد بسهم في حصار المشركين للمدينة في معركة الخندق ، في السنة الخامسة للهجرة ، وكان الذي رماه هو رجل من قريش اسمه حبان بن عرفة فتوفى بعدها بشهر متأثراً بجراحه .
لبيان أن المشركين هم الذين يهجمون , ويحاصرون , ويرمون بالسهام ويطلبون المبارزة .
لقد أراد أبو سفيان أن يبرّ بيمينه وينجز نذره بالإرهاب والغزو على المسلمين الآمنين الذين ليس عندهم إلا تلاوة القرآن وأداء الصلاة ، ولم يكتف أبو سفيان وأصحابه بمنع المسلمين من الحج والعمرة ، وأتصل برؤساء اليهود في المدينة لتحريضهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ولإخبارهم بأنهم قادمون في معركة أحد بجيوش عظيمة لقتل النبي وأصحابه .
واسم الأنصاري الذي قتله المشركون في غزوهم هذا هو معبد بن عمرو، وكان هو وحليفه الذي قتلوه معه يعملان في الفلاحة ، وحينما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلفهم سمي هذا الخروج غزوة السويق ،وسبب هذه التسمية أن أبا سفيان وأصحابه حينما علموا بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلفهم قاموا بالقاء أكثر ما معهم من السويق تخفيفاً عنهم في الفرار كيلا يدركهم المسلمون .
والسويق هو دقيق الحنطة أو الشعير معجوناً بالسمن أو العسل ليكتفى باكله مع الماء ، ( وكنية السويق : أبو عاصم ) ( ).
ووجد المسلمون السويق وعادوا به إلى المدينة شاهداً على فرار الذين كفروا وما أصابهم من الخوف والرعب .
فان قيل لا تدل تسمية غزوة السويق على نسبتها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن أبا سفيان هو الذي غزا وأنه وأصحابه هم الذين ألقوا السويق.
والجواب إنما تذكر غزوة السويق من بين غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكواحدة منها وليس بتام.
الثالث : قيام المشركين بغزو المدينة ووصولهم إلى أطرافها ، وإرادتهم اقتحامها لولا فضل الله بخروج المسلمين لهم ، ووقوع القتال خارج المدينة ، كما في معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وقد تعمدت قريش أن يكون التوالي في قرب المعارك من المدينة عن قصد وعمد وهو كالآتي :
الأولى : يبعد موضع معركة بدر عن المدينة المنورة والتي كانت تسمى يثرب مائة وخمسين كيلو متر .
الثانية : يبعد موضع معركة أحد عن المسجد النبوي ثمان كيلو مترات لتمر السنين فيكون جزءً من المدينة وتتغشاه وتتخطاه أحياؤها وتقام الصلاة كل يوم فيه وفي أرجائه من قبل سكنة المدينة المجاورين له ، ومن قبل وفود المعتمرين والزوار الذين يأتون كل يوم لزيارته والإتعاظ منه ، وهو من الحب المتبادل بين المسلمين وهذا الجبل .
وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي طلحة التمس لي غلامًا من غلمانكم يخدمني” فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل. وقال في الحديث: ثم أقْبَلَ حتى إذا بدا له أُحد قال : هذا جبل يُحبُّنا ونحبه ، فلما أشرف على المدينة.
قال : اللهم إني أحرم ما بين جبليها، مثلما حرم به إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مُدِّهم وصاعهم ، وفي لفظ لهما : اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم ، زاد البخاري: يعني: أهل المدينة( ).
إن عمارة موضع معركة أحد التي سقط فيها سبعون شهيداً من المسلمين بالصلاة كل يوم وإلى يوم القيامة من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ) .
وبعد أن قاتلت قريش على أطراف المدينة في معركة أحد ندمت على عدم إقتحام المدينة ، وأبدى كبار رجالها هذا الندم وهم في طريق العودة من المعركة إلى مكة ، وأظهروا التلاوم بينهم لولا أن بعث الله عز وجل الخوف في قلوبهم وتعجلوا الرجوع الى مكة، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
الرابع : بعث المشركين رجالا لإغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لولا فضل الله في نجاته , قال تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ] ( ).
الخامس : قيام المشركين بغزو المدينة ومحاصرتها كما في معركة الخندق في السنة الخامسة للهجرة ، في حجة وشاهد تأريخي على أن المشركين هم الغزاة والذين يصرون على القتال والإرهاب.
قانون التلاوة حرز من الإرهاب
لقد تفضل الله عز وجل وخلق الإنسان ونفخ فيه من روحه , وفي التنزيل [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ), وهذا النفخ إكرام وتشريف للإنسان , ومصاحب للأجيال في الحياة الدنيا , وهل تكون موضوعية لهذا النفخ في مواطن الآخرة أم أن المدار يومئذ على سنخية العمل إذ أن الآخرة دار حساب .
الجواب هو الأول , وهذا النفخ المبارك من أسباب رحمة الله في الآخرة .
و(عن سلمان موقوفاً وابن مردويه عن سلمان قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السموات والأرض ، كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض ، فأهبط منها رحمة إلى الأرض ، فيها تراحم الخلائق ، وبها تعطف الوالدة على ولدها ، وبها يشرب الطير والوحوش من الماء ، وبها تعيش الخلائق ، فإذا كان يوم القيامة انتزعها من خلقه ثم أفاضها على المتقين ، وزاد تسعاً وتسعين رحمة ، ثم قرأ { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون) ( ) ( ).
ومن إعجاز القرآن أن ذات تلاوته مدرسة ، وتترشح عنها العلوم، وتجعل الإنسان يتدبر مع نفسه معنى الحياة ، ويرجو الرحمة والنجاة له ولغيره من الناس ، وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة اليومية وما فيها من نشر لمعاني المودة بين الناس ، والدعوة للصلاح.
وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : مثل الذي يقرأ القرآن كمثل الأتْرُجة، طعمها طيب وريحها طيب. والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة، طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها( ).
لبيان سمو مرتبة الذي يقرأ القرآن بين الناس ، ولزوم تقيده بآداب القرآن والعمل بمضامينه القدسية.
وفي التلاوة اليومية المتصلة للقرآن سلامة من درن الإرهاب فعلاً ورد فعل ، وهو من الإعجاز في بعث القرآن المسلمين والناس جميعاً على الصبر .
وتحتمل تلاوة القرآن في أثرها بخصوص الكتب السماوية الأقرب وجوهاً :
الأول : تلاوة القرآن باعث على تلاوة أهل الملل الأخرى لكتبهم المنزلة.
الثاني : ليس من صلة بين تلاوة العبد للقرآن ومسألة تلاوة أهل الملل الأخرى لكتبهم .
الثالث : في تلاوة القرآن غنى وكفاية هدى.
والصحيح هو الأول والثالث ، إذ يبعث تعاهد المسلمين لقراءة القرآن النصارى على قراءة الإنجيل واليهود على قراءة التوراة ، وهو من إعجاز القرآن الغيري ، وإفاضات وجوب قراءة المسلمين والمسلمات القرآن في الصلاة ولزوم القراءة الجهرية في صلاة الصبح والمغرب والعشاء للتذكير بقدسية التلاوة ، والحاجة إليها في تهذيب النفوس ، وبعث النفرة من الإرهاب .
وهل يمكن تسمية الحياة الدنيا (دار التلاوة ) الجواب نعم ، وهو من فضل الله عز وجل على الناس ببركة النبوة وأشخاص الأنبياء والرسل وصبرهم وجهادهم في سبيل الله ، وفي التلاوة إرتقاء وسمو في المنزلة وثواب عظيم .
وعن عُقْبة بن عامر قال “خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن فى الضُّفَّة، فقال: أَيّكم يحبُّ أَن يغدو كلَّ يوم إِلى بُطْحان أَو العَقيقِ، فيأتىَ بناقتين كَوْماوَين زهراوين فى غير إِثم ولا قطيعة رَحم؟ قلنا كلّنا يا رسول الله يحبُّ ذلك. قال: لأَن يغدو أَحدكم كلَّ يوم إِلى المسجد فيتعلَّم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاثٌ خير له من ثلاث ومِن أَعدادهنَّ من الإِبل” وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الماهر بالقرآن مع السَّفَرة الكرام البررة. والذى يَتَتَعْتع فيه له أَجران ( ) .
وتلاوة القرآن من نعم الله على الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : فوز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمرتبة النبوة والرسالة وتلقيه الوحي من الله.
ومن خصائص الرسول أنه صاحب شريعة مبتدأة .
الثاني : نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو النجوم والتوالي والتعاقب .
الثالث : موضوعية وأسباب النزول في تثبيت وسلامة آيات القرآن من التحريف .
الرابع : توجيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أوامره إلى كتّاب الوحي بكتابة آيات القرآن حال نزولها عليه .
الخامس : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات وسور القرآن في الصلاة .
السادس : إتخاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر وسيلة مباركة لتلاوة آيات القرآن وبيان مضامينها القدسية .
السابع : ترغيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بتلاوة القرآن ، وعن خولة بنت قيس ، امرأة حمزة ، قالت : كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسقا من تمر لرجل في بني ساعدة ، فأتاه يقتضيه ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار أن يقضيه ، فقضاه تمرا دون تمره ، فأبى أن يقبله ، فقال : أترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : نعم ، ومن أحق بالعدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ .
فاكتحلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدموعه ، ثم قال : صدق ، من أحق بالعدل مني ، لا قدس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها ، وهو لا يتعتعه ، ثم قال : يا خولة ، عديه ، وادهنيه ، واقضيه ، فإنه ليس من غريم يخرج من عند غريمه راضيا إلا صلت عليه دواب الأرض ، ونون البحار، وليس من عبد يلوي غريمه ، وهو يجد إلا كتب الله عليه في كل يوم وليلة إثما ( ).
الثامن : وجوب تلاوة المسلمين والمسلمات آيات القرآن في الصلاة واستحباب التلاوة خارج الصلاة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بأن يحمل المسلمون والمسلمات لواء تلاوة التنزيل في الأرض ليكون سوراً يحيط المجتمعات للأمن من الإرهاب ، ودفع أسبابه ومقدماته.
التاسع : مجئ السنة النبوية القولية بالتأكيد على التلاوة ، وبيان فضلها ، وهذا البيان نعمة من عند الله عز وجل بلحاظ كبرى كلية وهي أن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحي من عند الله .
وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استذكروا القرآن فلهو أشد تفصياً من صدور الرجال من النعم بعقلها) ( ).
وهناك نوع ملازمة وتداخل بين كل من :
الأول : تعلم القرآن .
الثاني : تلاوة آيات القرآن .
الثالث : حفظ القرآن .
الرابع : العمل بمضامين القرآن .
الخامس : تنمية ملكة التقوى .
السادس : التفقه في الدين.
لذا فان السعي في علوم القرآن صبر وجهاد للنفس ، وترغيب بالعمل الصالح وإمتناع عن فعل السيئات.
والنسبة بين السيئات وبين الإرهاب العموم والخصوص المطلق ، ومن إعجاز القرآن أنه يأتي على القبيح العام والخاص مجتمعين ومتفرقين فيدفعهما عن المجتمعات ويحصن النفوس منهما ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحث أصحابه على تلاوة القرآن وأداء الصلاة المستحبة (عَن أَبي ذَرٍّ قال : ” دَخَلْتُ المَسْجِدَ ، فَإذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم جَالِسٌ ، فَجَلَسْتُ إلَيْهِ فَقَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ ، لِلْمَسْجِدِ تَحِيَّةٌ ، وَتَحِيَّتُهُ رَكْعَتَانِ؛ قُمْ فَارْكَعْهُمَا ، قَالَ : فَلَمَّا رَكَعْتُهُما ، جَلَسْتُ إلَيْهِ.
فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّكَ أَمَرْتَنِي بِالصَّلاَةِ ، فَمَا الصَّلاَةُ؟ قالَ : خَيْرٌ مَوْضُوعٌ ، فاستكثر أَوِ استقلل ” الحديثَ.
وفيهِ : قلتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَمْ كِتَاباً أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ : مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ؛ أَنْزَلَ اللَّهُ : عَلَى شِيثَ خَمْسِينَ صَحِيفَةً ، وَعَلَى خَانُوخَ ثَلاَثينَ صَحِيفَةً ، وعلى إبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ ، وأَنْزَلَ عَلَى موسى قَبْلَ التَّوْرَاةِ عَشْرَ صَحَائِفَ ، وأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ ، وَالإنْجِيلَ ، والزَّبُورَ ، وَالفُرْقَانَ.
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا كَانَتْ صُحُفُ إبْرَاهِيمَ؟ قَالَ : كَانَتْ أَمْثَالاً كُلُّها : أَيُّهَا المَلِكُ المُسَلَّطُ المُبْتَلَى المَغْرُورُ ، إنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا على بَعْضٍ ، ولكني بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ المَظْلُومِ ، فَإنِّي لاَ أَرُدُّهَا وَلَوْ مِنْ كَافِرٍ ، وَكَانَ فِيهَا أَمْثَالٌ : وَعَلَى العَاقِلِ أَنْ تَكُونَ لَهُ سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ ، وَسَاعَةٌ يُفَكِّرُ في صُنْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لَحَاجَتِهِ مِنَ المَطْعَمِ وَالمَشْرَبِ ، وَعَلَى العَاقِلِ أَلاَّ يَكُونَ ظَاعِناً إلاَّ لِثَلاَثٍ : تَزَوُّدٍ لِمَعادٍ ، أو مَؤُونَةٍ لِمَعَاشٍ ، أَوْ لَذَّةٍ في غَيْرِ مُحَرَّمٍ ، وَعَلَى العَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيراً بِزَمَانِهِ ، مُقْبِلاً على شَأنِهِ ، حَافِظاً للِسَانِهِ ، وَمَنْ حَسِبَ كَلاَمَهُ مِنْ عَمَلِهِ؛ قَلَّ كَلاَمُهُ إلاَّ فِيمَا يَعْنِيهِ ، قال : قُلْتُ : يَا رَسُولِ اللَّهِ ، فَمَا كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى.
قَالَ : كَانَتْ عِبَراً كُلُّهَا : عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالقَدَرِ ، ثُمَّ هُوَ يَنْصَبُ ، وَعَجِبْتُ لِمَن رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَها بِأَهْلِهَا؛ ثُمَّ اطمأن إلَيْهَا ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَداً ثُمَّ لاَ يَعْمَلُ ، وَقَالَ :
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَهَلْ في أَيْدِينَا شَيْءٌ مِمَّا كَانَ في أَيْدِي إبْرَاهِيمَ وموسى؛ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكَ ، قَالَ : نَعَمْ ، اقْرأْ يَا أَبَا ذَرٍّ [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا]( ).
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ فَأَوْصِنِي ، قَال : أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَإنَّهُ رَأْسُ أَمْرِكَ.
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ زِدْنِي؛ قَالَ : عَلَيْكَ بِتِلاَوَةِ القُرْآنَ وَذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ فَإنَّهُ ذِكْرٌ لَكَ في السَّمَاءِ وَنُورٌ لَكَ في الأَرْضِ.
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، زِدْنِي ، قَالَ : وَإيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ؛ فَإنَّهُ يُمِيْتُ القَلْبَ ، ويَذْهَبَ بِنُورِ الْوَجْهِ ، قال : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ زِدْنِي ، قَالَ : عَلَيْكَ بِالجَهَادِ؛ فِإنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ زِدْنِي ، قَالَ : عَلَيْكَ بِالصَّمْتِ إلاَّ مِنْ خَيْرٍ؛ فَإنَّهُ مَطْرَدَةٌ للشَّيْطَانِ وَعَوْنٌ لَكَ على أَمْرِ دِينِكَ) ( ).
ومن المقاصد السامية في التلاوة إنها لا تطلب بذاتها فحسب انما تكون لها منافع وآثار مباركة على التالي والمستمع والسامع في القول والفعل .
فمن إعجاز القرآن أن كلماته تنفذ إلى شغاف القلوب ، ويتدبر الإنسان في دلالاتها ، وتنطبع في الوجود الذهني فتكون أماناً في القول والعمل ، أو لا أقل أنها تكون حاضرة عند النية والعزم والفعل لتكون عضداً للمسلم في عمله , وواقية من السيئات وفعل المكروه ، وهو من أسرار وجوب تلاوة القرآن في الصلاة فهذه التلاوة عون للمسلم في أمور دنياه .
وتبعث هذه التلاوة حب التنزيل وآياته في النفوس ، وتنمي ملكة الدعاء عند المؤمنين إذ يؤكد القرآن على أن الأكوان كلها بيد الله ، وأن النعم من عنده سبحانه ، وفي التنزيل [قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
وهناك نوع ملازمة بين تلاوة القرآن والتفكر والتدبر ، والقرآن مدرسة الإحتجاج , وهو أنيس النفوس , والحرز السماوي الذي يمنع من التطرف ومن الغلو بلحاظ أن هذا التطرف من أسباب الإرهاب , والإرهاب الموازي .
والتلاوة كنز مدخر إلى الآخرة لما فيها من الثواب العظيم ، وإذا أحب الله عز وجل عبداً هداه إلى تلاوة التنزيل ، ويسر له مقدماتها .
وعن عوف بن مالك قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له به حسنة . لا أقول { بسم الله }( ) ولكن باء ، وسين ، وميم ، ولا أقول { الم }( ) ولكن الألف ، واللام ، والميم , وفي الحديث شاهد على أن البسملة آية من القرآن .
وأخرج محمد بن نصر السلفي في كتاب الوجيز في ذكر المجاز والمجيز عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له عشر حسنات : بالباء ، والتاء ، والثاء ) ( ).
وهل يمكن القول بالتضاد بين التلاوة والإرهاب ، الجواب نعم ليكون من منافع الأمر الإلهي للمسلمين والمسلمات بتلاوة القرآن سلامة من الإرهاب وتنزيه للأرض منه ومن وطأته ، فهو ثقيل بذاته وأثره .
ولا يختص ضرر الإرهاب بالفعل والعنف وسفك الدماء ، بل إنه يخلف الكدورة والأسى في المجتمعات ، ويجعل الناس في رهبة فلا يأمنون على أنفسهم في الأسواق وميدان العمل وفي ركوب السيارة وعندما يكون الإنسان مع عائلته يصير أكثر خوفاً من الإرهاب ويشعر أن الصغار يخافون منه مثلما يخافه ويخشاه الكبار ، ولا يقف الناس مكتوفي الأيدي بسبب الإرهاب والخوف منه ، بل هم يرّدون بما يفاقم الأضرار ، وما يرجع على المبتدِأ .
وهل الإستماع للقرآن واقية من الإرهاب ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق البركة في القرآن ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ] ( ).
لقد جاء القرآن والسنة النبوية بالحث على التلاوة ، ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية بخصوص التلاوة أمور :
أولاً : تلاوة كل مسلم ومسلمة لآيات القرآن.
ثانياً : وجوب تلاوة المسلم والمسلمة للقرآن خمس مرات في اليوم وبأوقات متفرقة بحسب آيات كونية كطلوع الفجر وزوال الشمس وغروبها لتكون صلاتهم شكراً لله عز وجل نيابة عن الناس جميعاً على نعمة الحياة وما سخر الله للناس , قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا]( )، لبيان قانون وهو أن شكر المسلمين لله عز وجل على الآيات الكونية بأداء الصلاة واقية من الإرهاب ، وزاجر عنه ، من جهتين :
الأولى : الذي يشكر الله نيابة عن الناس لا يؤذيهم ولا يقوم بالتفجير والقتل العشوائي .
الثانية : امتناع عامة الناس عن الإضرار بالذين يشكرون الله نيابة عنهم.
وهل شكر المسلمين لله نيابة عن الناس جميعاً من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الجواب نعم ، لبيان قانون وهو جريان مصاديق الرحمة في هذه الآية بالقرآن والسنة وبافعال المسلمين العبادية ، مما يدل على لزوم تنزههم عن الإرهاب ، وإمتناع الناس عن إرهابهم.
ثالثاً : إرادة المسلمين من التلاوة الأجر والثواب في الآخرة، قال تعالى [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا]( )، وهذا القصد السامي واقية يومية متجددة من الإرهاب ، ولا يعلم عدد الذين أريد إغواؤهم وجرهم إلى الإرهاب فلاذوا بالصلاة ، والتلاوة ، وكانتا واقية لهم إلا الله عز وجل ، لذا فان الحكومات والمؤسسات العالمية مدعوة للعناية بالصلاة والذكر وتيسير أسباب أدائها وعلتها بما يكفل موضوعيتها في دفع الإرهاب ، ومنع استيلاء الكدورة على النفوس.
رابعاً : تجدد وجوب تلاوة القرآن في كل فرض من الصلاة في حال الصحة والمرض ، فحتى لو كان المسلم مريضاً وعاجزاً عن أداء الصلاة عن قيام فانه يؤديها عن جلوس مع تعاهد القراءة في كل ركعة منها ، سواء صلى المسلم أو المسلمة عن قيام أو قعود أو استلقاء.
ويجوز حينئذ الإقتصار على قراءة الفاتحة ، وكذا في بعض موارد الخوف وضيق الوقت ، والملاك عدم سقوط القراءة من رأس .
وعن عبادة عن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا صلاة لمن لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب( ).
وإجماع علماء المسلمين على وجوب قراءة سورة الفاتحة في الصلاة إلا أبا حنيفة وأصحابه قالوا لا تتعين الفاتحة واستدلوا بقوله تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ]( )، وحديث أبي هريرة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الذي قصّر في صلاته : إذا قمت إلى الصلاة فكبر ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن.
والدليل على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة وجوه :
الأول : سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقراءته سورة الفاتحة فان قيل السيرة دليل لبي ، والجواب هي في المقام حجة لتعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قراءة الفاتحة في كل صلاة ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي( ).
الثاني : النصوص والأحاديث , منها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِدَاج( )، والخداج الناقص وغير التام .
وإذا استدل القائل بعدم وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة بحديث أبي هريرة أعلاه ، فقد ورد (في صحيح ابن خزيمة وابن حبان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن)( ).
الثاني : تعاهد الصحابة وأهل البيت قراءة الفاتحة في الصلاة .
ومن الآيات أن هذه القراءة باب للشفاء وبعث السكينة في النفس ، وهي نوع واقية من الإرهاب ، إذ تمنع المسلم في حال الصحة والمرض من الإرهاب .
خامساً : وجوب قراءة سورة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة , وتتألف سورة الفاتحة من سبع آيات ، وكل آية منها دعوة للسلم والتآلف بين الناس وقد تقدم بعض الكلام بهذا الخصوص في الجزء السابق( ).
فلم يكن الوجوب اليومي المتكرر في كل ركعة يتعلق بآيات قتال ودفاع ، وبخصوص قراءة المسلم والمسلمة سورة أخرى بعد سورة الفاتحة في كل سورة فتقرأ في الغالب إحدى قصار السور ، والتي تتضمن الدعوة الى الله ، والتذكير بيوم القيامة ، والتخويف من الشرك ، كسورة القدر ، وسورة الكافرون والنصر والكوثر , وهي سور مكية , ومن خصائص السور المكية خلوها من مسألة القتال وألفاظه .
سادساً : تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة في حال خشوع وخضوع لله عز وجل لإدراكهما بأنهما واقفان بين يديه سبحانه ، لبيان قانون وهو أن الصلاة لطف من الله عز وجل ، وهداية للمسلمين لجعل الصلة معه تعالى خمس مرات في اليوم ، وبصبغة العبادة والخشوع له , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ) .
وقد وردت النصوص العديدة بتأكيد قانون وهو صيرورة الصلاة حاجباً , ومانعاً من فعل السيئات ، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعداً.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في شعب الايمان عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له.
وأخرج الخطيب في رواة مالك عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صلى صلاة لم تأمره بالمعروف وتَنْهَهُ عن المنكر لم تزده صلاته من الله إلا بعداً.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لا صلاة لمن لم يطع الصلاة ، وطاعة الصلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر( ).
قانون حرمة التفاخر بالإرهاب
من صفات الإنسان الرغبة برضا الناس عنه ، والفرح بما عنده ، قال تعالى [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] ( )وهذا الفرح ليس سبباً لصدور الإرهاب عن الذات أو عن الغير , ولا عبرة بالقليل الذي يرضى بالمنكر والقبيح .
فمن إعجاز الآية أعلاه الإخبار عن قانون وهو أن الله عز وجل جعل عند كل طائفة وقوم نعمة يفرحون بها ، سواء وجدت عند غيرهم أو لا ، فهي مناسبة للتوجه بالشكر إلى الله عز وجل على النعمة وإن تم التفاخر بهذه النعمة فهل هو سبب للإرهاب من ذات الذين يتفاخرون بها أو من الذين يحسدونهم .
الجواب لا ، ولقد قتل قابيل ابن آدم أخاه هابيل لتفضل الله عز وجل بقبول قربانه ، وعندما أظهر قابيل حسده أجابه هابيل [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ] ( ) .
وعن الإمام الباقر عليه السلام (أن آدم كان مباشرا لتقربهما القربان والتقبل من هابيل دون قابيل فقال قابيل لآدم إنما تقبل منه لأنك دعوت له ولم تدع لي وتوعد أخاه فيما بينه وبينه.
فلما كان ذات ليلة أبطأ هابيل في الرعي فبعث آدم أخاه قابيل لينظر ما أبطأ به فلما ذهب إذا هو به فقال له تقبل منك ولم يتقبل مني فقال [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ] ( ), فغضب قابيل عندها وضربه بحديدة كانت معه فقتله وقيل إنه إنما قتله بصخرة رماها على رأسه وهو نائم فشدخته) ( ).
ولم يتفاخر هابيل إنما أخبر عن قانون من الإرادة التكوينية وأظهر الإيمان بوعد الله عز وجل للصالحين بالبشرى في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ] ( ) وأراد هابيل نصح قابيل بأن الله لم يقبل قربانه لإمتناعه عن التقوى واستكباره عن الرضا بأمر الله ، مما أسخط قابيل .
لقد تفاخر قابيل بالإرهاب إذ قال [لأَقْتُلَنَّكَ] ( ) ليكون من إعجاز القرآن ذم الإرهاب والإصرار عليه ، وكان بين قول قابيل [لأَقْتُلَنَّكَ] وبين قتله لهابيل مدة في عالم الزمان ، وهي مناسبة للشكر والتدبر ، فليس كل تهديد ووعيد من طرف يتحقق في الواقع الخارجي ، ومن مصاديق قوله تعالى [لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ] ( ) أن المشيئة لله في الأرض ، وقد يتوعد إنسان أو جماعة غيرهم فيشغلهم الله عنه ويصرفهم عن هذا الوعيد ، أو يكشف لهم أمراً مغايراً لأسباب هذا الوعيد .
ليأتي قوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) دليلاً على أن أحكام القرآن ناظرة إلى سنخية النفس الإنسانية ، وتتضمن الزجر عن الإرهاب والتدبر فيه .
وبين الإرهاب والقتل عموم وخصوص مطلق فالإرهاب هو أعم ولا ينحصر موضوعه بالقتل ، لذا جاء القرآن بالوعيد عن الجراحات أيضاً ، قال تعالى [وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ] ( ) .
وقد يصدر الوعيد من فرد أو أنها تميل إليه لذا يجب الحذر والإحتراز من موافقة الذي يتوعد الناس بالإرهاب وإن كان منتمياً إلى ذات الجماعة أو الطائفة أو الفرقة.
ومن القبح الغيري للإرهاب أن أذاه وضرره أعم من أن يختص بصاحبه ، فقد أثر قتل قابيل لهابيل بآدم عليه السلام إذ حزن عليه حزناً شديداً خاصة وأنه عاش برهة من الوقت في الجنة وهي دار الخلود فاجتمعت عند آدم حسرتان :
الأولى : على خروجه من الجنة .
الثانية : على فقده ابنه هابيل .
عن الإمام علي عليه السلام قال (أن قابيل لما قتل أخاه هابيل بكاه آدم عليه السلام فقال – فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي إسحاق الهمداني، قال: قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لما قتل ابن آدم آخاه بكاه آدم، فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها … فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون … وقل بشاشة الوجه المليح
قال: فأجيب آدم عليه السلام:
أبا هابيل قد قتلا جميعاً … وصار الحي كالميت الذبيح
وجاء بشرةٍ قد كان منها … على خوفٍ فجاء بها يصيح) ( ).
وقيل ان قابيل لما قتل أخاه هرب إلى اليمن (فأتاه ابليس، فقال: إنما قبل قربان أخيك لأنه كان يخدم النار ويعبدها فانصب أنت ناراً تكون لك ولعقبك. فبنى بيت نار فهو أول من نصب النار وعبدها.
وجاء من أولاده جبابرة وفراعنة، ثم انقرض ولده، وكذلك أولاد آدم انقطع نسلهم إلا ما كان من شيث. وقيل: إن بعض أولاد قابيل اتخذ آلات اللهو من المزامير والطبول والعيدان والطنابير والمعازف، فانهمك ولد قابيل في اللهو، فذهب إليهم قوم من أولاد شيث، ثم نزل آخرون، وفشت الفواحش وشرب الخمر) ( ).
وبعد ذلك عندما حضرت الوفاة شيث بن آدم (أتاه بنوه وبنو بنيه، وهم يومئذ أنوش، وقينان، ومهلائيل، ويرد، وأخنوخ، ونساؤهم وأبناؤهم، فصلى عليهم، ودعا لهم بالبركة، وتقدم إليهم، وحلفهم بدم هابيل ألا يهبط أحد منهم من هذا الجبل المقدس، ولا يتركوا أحداً من أولادهم يهبط منه، ولا يختلطوا بأولاد قابيل الملعون وأوصى إلى أنوش ابنه، وأمره أن يحتفظ بجسد آدم، وأن يتقي الله، و يأمر قومه بتقوى الله وحسن العبادة .
ثم توفي يوم الثلاثاء لسبع وعشرين ليلة خلت من آب على ثلاث ساعات من النهار، وكانت حياته تسعمائة واثنتي عشرة سنة) ( ).
لبيان أن الإرهاب باب للتمادي في الفجور ، وسبب للشحناء والعداوة والثأر والمقابلة بالمثل أو بما هو أشد ، ليضطر الذي ابتدأ الإرهاب إلى الرجوع للدليل والبرهان ، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة تنتظر الظالم ، وقد يصدر الإرهاب من الدولة كما في إرهاب فرعون وقومه لبني إسرائيل .
ويأتي التفاخر بالإرهاب على وجوه :
الأول : قبل وقوع الفعل الإرهابي .
الثاني : اثناء الفعل الإرهابي .
الثالث : بعد الفعل الإرهابي .
وكان الأنبياء أكثر الناس تضرراً من الإرهاب لأنهم يدعون إلى عبادة الله وإلى الأمن السلام والموادعة والتراحم والتوادد , أما الإرهاب فهو صيغ القوة والغلبة والبطش تعديا .
وسعى نمرود وقومه في إحراق إبراهيم بالنار لولا أن أنجاه الله بالمعجزة ، قال سبحانه [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ) ومن الأنبياء من نشروه بالمنشار وهو زكريا , وقطعوا رأس يحيى بناء على رغبة بغي .
ولاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشد الأذى من قومه حتى قال كما في المرسل (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)( ).
وتلقى هذا الأذى بصفته نبياً ، فقد كان يسمى (الصادق الأمين) ولكن عندما أعلن نبوته هاجت قريش وسعوا في قتله ، فأمره جبرئيل بالهجرة إلى المدينة مع ما في الهجرة من الأذى والمخاطر لبيان قانون في السنة النبوية وهو مقابلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإرهاب بالإعراض عنه , ليصير هذا الإعراض مقدمة لإستئصال الإرهاب , وهو من الشواهد على أن هذا الإعراض تم بالوحي.
(عن يحيى بن أبي كثير قال قال داود النبي صلى الله عليه وسلم لابنه سليمان يا بني أتدري ما جهد البلاء , قال لا , قال شراء الخبز من السوق والانتقال من منزل إلى منزل) ( ).
وقد قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالهجرة من بلد إلى بلد ، ولم تكن هجرتهم جماعات ليدفعوا عن أنفسهم في طريق الهجرة بل كانوا يخرجون أفراداً كل واحد أو اثنين أو ثلاث معا ، وقد هاجرت إحدى المؤمنات بمفردها . وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط .
فجاء أخوها عمارة والوليد يسألان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعادتها إلى مكة لمكان عقد صلح الحديبية ، فانزل الله عز وجل [فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ] ( ).
وكانت أم كلثوم هذه عند هجرتها بكراً ، فتزوجها الزبير بن العوام ، وكان فيه شدة على أزواجه فكرهته ، فأخذت تسأله الطلاق ، وهو يأبى عليها ، وأحست بأوجاع الطلق وهي حامل ، فالحت عليه وكررت عليه طلب الطلاق عدة مرات ، وكان يتوضأ ليخرج إلى الصلاة فطلقها تطليقة وخرج إلى الصلاة وهو ينوي الرجوع بها ، فأتبعه أحد أفراد الأسرة وقال له أنها وضعت , أي خرجت في العدة لقوله تعالى [وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ] ( ) .
ولم يرد لفظ (الأحمال) في القرآن إلا في الآية أعلاه , وورد كل من لفظ (أولات)و(حملهن) مرتين في القرآن , وفي آيتين متعاقبتين هما الآية أعلاه والآية التي بعدها .
(قال: خدعتني خدعها الله، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك له، فقال ” سبق فيها كتاب الله، اخطبها ” قال: لا , لا ترجع إلي.
قال ابن شبة حدثنا الحزامي قال، حدثنا ابن وهب قال، أنبأنا ابن لهيعة: أن أم كلثوم ابنة عقبة بن معيط كانت أخت عثمان بن عفان لامه .
وأنها أول بكر من قريش هاجرت إلى الله ورسوله، فتزوجها زيد بن حارثة، ثم تزوجها الزبير بن العوام، ثم تزوجها عبد الرحمن بن عوف فمات عنها، ثم تزوجها عمرو بن العاص) ( ).
ليبين اللجوء إلى الهجرة قانوناً وهو أن الإرهاب لا يؤدي إلا إلى الإضرار بذات الأفراد الذين يختارونه منهاجا وهو سبب لزيادة الإيمان بالله واللجوء إليه سبحانه .
لقد بعث الله عز وجل الانبياء بمكارم الأخلاق والأدب الرفيع , وصارت سننهم سبباً لإصلاح المجتمعات سواء بالنسبة للذين آمنوا بنبوتهم أو الذين لم يؤمنوا بها .
وجاءت بالبشارة بالثواب العظيم والجنة الواسعة لأولئك الذين أحسنوا المعاملة مع الناس .
(عن أبي أُمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً ، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً ، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه .
وأخرج الترمذي وحسنه والخرائطي في مكارم الأخلاق عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً) ( ).
ولابد أن القرآن بيّن أحسن الأخلاق ، وقد رغّب القرآن باتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) .
لبيان قانون وهو لزوم السعي والإجتهاد لبلوغ مرتبة الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومع هذا السعي يصل إلى مراتب سامية من الخلق الحميد ، ويدل عليه قوله تعالى[ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ),الذي يدل بالدلالة التضمنية على ندب وبعث المسلمين للعمل بالسنة النبوية , ومن مصاديقها أمور :
الأول : بعث النفرة من الإرهاب .
الثاني : إظهار المحبة والمودة للناس والرأفة بهم .
الثالث : المبادرة إلى العفو .
الرابع : الحث على ذكر الله عز وجل وأداء العبادات .
الخامس : النهي عن البطش والإنتقام .
ويمكن إنشاء وسنّ قوانين في المقام وهي :
الأول : قانون كل آية قرآنية تدعو إلى الخلق الحميد .
الثاني : قانون كل آية قرآنية زاجر عن الإرهاب .
الثالث : قانون منع الآية القرآنية من التفاخر بالإرهاب , وموضوع هذا القانون من جهات :
الأولى : منع الذي يهمّ بالعمل الإرهابي من التفاخر به ، وتتجلى موضوعية هذا المنع بالكف عن هذا الفعل قبل أو أثناء الشروع .
ومن أسرار تلاوة المسلمين القرآن في الصلاة واستماع الناس لها الإنصراف عن العمل الإرهابي أو المشاركة فيه أو الهمّ به .
(عن تميم الداري أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنَّما الدين النصيحة ثلاثاً،
قالوا : لمن يا رسول الله؟
قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) ( ).
ولو سكت الصحابة حينما قال (الدين نصيحة ) ثلاث مرات ولم يسألوه في الثالثة لمن يا رسول الله النصيحة فهل يصح القول بأن الحديث من (الدين النصيحة) الجواب نعم ، ويعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي أنهم سيسألونه عن الجهة التي يخلص لها الناس في عملهم .
لقد جعل الله عز وجل النصيحة سبيل صلاح ووسيلة للإنصراف عن السيئة وعن العمل الإرهابي ، فلذا يجب الإجتهاد في تعليم الناس التنزه عن الإرهاب وعدم تأييده ، ويدخل هذا التعليم في معاني الحديث أعلاه ففي نبذ الإرهاب الإبتدائي والموازي إخلاص في العبادة ، وتعاهد لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنع من التعدي على القرآن ، وفيه رحمة بعامة المسلمين في البلاد الإسلامية والبلدان الأخرى .
ومن النصيحة التقيد بأنظمة وقوانين البلاد وإعطاء صورة حسنة عن المواطنة الصادقة , وتنمية حب الوطن والبلد الذي يقيم فيه الإنسان .
ويمكن أنشاء عدة قوانين في المقام منها :
الأول : قانون النصيحة منهاج الأنبياء ) ففي حياة وجهاد كل نبي مصاديق متعددة من النصيحة للقريب والبعيد والولي والعدو .
وخاطب إبراهيم أباه برفق مع النصيحة والدعوة إلى الإسلام ، وفي التنزيل [قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي] ( ) وقول [سَلاَمٌ عَلَيْكَ] أمارة وإخبار عن نبذ إبراهيم استعمال القوة حتى مع التمكين ، ومن معاني النصيحة ايضاح الحق .
الثاني : قانون النصيحة العامة والخاصة ببيان قبح الإرهاب وحرمته وشدة ضرره وإنعدام النفع الخاص أو العام فيه .
الثالث : قانون النصيحة سور يومي متجدد للمنع من الإرهاب .
الرابع : قانون إنعدام الحدود في النصيحة والنهي عن الإرهاب ، إذ تصدر عن الأب لابنه ، والأخ لأخيه والزوجة لزوجها وبالعكس والكبير للصغير وبالعكس .
الثانية : كل آية قرآنية نصيحة سماوية تمنع من التفاخر بالإرهاب ، وهي خزينة تتضمن علوماً متعددة , وتستقرأ منها القوانين والأحكام والمسائل .
فان قلت هناك آيات جاءت خاصة بالحروف المقطعة سواء تلك التي تتألف من حرفين مثل [طس]في أول سورة النمل أو التي تتألف من ثلاث حرةف مثل [طسم] في أول سورة الشعراء ، وأول سورة القصص ، أو التي تتألف من أربعة حروف مثل [المر] كما في بداية سورة الرعد أو التي تتألف من خمسة حروف كما في سورة قال تعالى [كهيعص* ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا] ( ).
الثالثة : التنافي بين التنزيل والإرهاب إذ تدعو آيات القرآن إلى الرحمة والعفو والتسامح وتزجر عن التعدي والعدوان .
الرابعة : من خصائص القرآن الهداية إلى الصلاح والفلاح , قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ) .
لتدل الآية أعلاه على نهي القرآن عن الإرهاب والعنف والتفجيرات .
لقد جعل الله عز وجل الحياة دار الرحمة والتفاخر بالصالحات وأداء الفرائض والعبادات وليس العنف والإرهاب ومن مصاديق خلافة الإنسان في الأرض وعمومات قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ] ( )، ثناء الناس على الذي يعمل الصالحات وبقاء الذكر الحسن له ، بينما يلقى الذي يضر الناس ، ويقوم بالفساد ، وينشر لواء العنف والإرهاب اللوم والإستهجان والتوبيخ ، ويذكر بين الناس بالذم.
وليس من شريعة سماوية إلا وجاءت بذم وحرمة الإرهاب ، كما تضمنت القوانين الوضعية النهي عن الإرهاب ومهاجمة الأعزل والعقاب لمن يضر الناس في أرواحهم وممتلكاتهم ، ولا يصح إلصاق الإرهاب بأهل ملة وديانة بسبب أشخاص وأفراد متعددين بدفعهم التعصب والتطرف والغلو أو الجهالة والتحريف من الغير.
ولا بد من البيان والتفقه في الدين وإدراك الحقيقة والبرهان ، وفيه منع من التفاخر بالإرهاب ، بل استئصال له ، وفضح له ، وفي التنزيل [كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ]( ).
ولم يرد لفظ الزبد في القرآن إلا في الآية أعلاه ، إذ يرمي السيل بالزبد ، ويبعده خارجاً , وأيام الحياة الدنيا وتواليها من أسباب قذف الإرهاب خارج المجتمعات الإنسانية، وتنزيه الأرض منه من غير أن يجلب لصاحبه النفع ، إنما المدار والنفع بالبرهان وتجليات الحق , قال تعالى [بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ] ( ) , ولم يرد لفظ زاهق في القرآن إلا في الآية أعلاه , مع حضوره في الوجود الذهني للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة , وهو شاهد على محق الباطل , وازاحة الظلم .
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالنبوة , وهي واسطة مباركة للتبليغ وأسباب الهداية ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ) أن جعل الله عز وجل الأنبياء والرسل من البشر أنفسهم ، ولم ينزل لهم ملائكة يقومون بتبليغ عامة الناس الأحكام مباشرة ، نعم تفضل الله عز وجل وجعل عند الأنبياء سلاحاً سماوياً خالياً من العنف والقسوة وهو المعجزة التي هي حرب على الكراهية وذات الإرهاب .
ومن الإعجاز في معجزات الأنبياء توثيق القرآن لها ، ليتبين قانون بخصوص آيات القرآن من جهتين :
الأولى :قانون كل آية معجزة مستقلة بذاتها .
الثانية : قانون معجزة الجمع بين كل آيتين أو أكثر من آيات القرآن , ولا يتعارض هذا القانون مع القانون أعلاه .
وقد رزق الله عز وجل كل نبي دلالة قاطعة على صدق نبوته، وبرهاناً يجذب الناس إلى التصديق برسالته وإلى اتباعه ، وهناك معجزات مشتركة عند الأنبياء منها.
الأولى : الوحي : قال تعالى [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا] ( ).
الثانية : العصمة والتنزه عن المعصية .
الثالثة : المعجزة الحسية .
لقد ذكر العلماء عدد معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه :
الأول : ألف معجزة , وبه قال البيهقي .
الثاني : أكثر من ألف ومائتي معجزة .
الثالث : ثلاثة آلاف معجزة .
الرابع : أربعة آلاف معجزة .
وورد في تفسيرنا هذا معجزات كثيرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تذكر في كتب التفسير والسيرة كمعجزات بالذات أو الترشح عن المعجزة ، وفي هذا الزمان .
فلما خرج موسى ليلاً بستمائة وعشرين ألف رجل من بني إسرائيل لا يعدون الصغار منهم ولا ابن الستين لكبره لحقهم فرعون ومعه مليون وسبعمائة ألف مقاتل على الحصن والخيل ليس فيها أنثى في الصباح وبعد طلوع الشمس إذ انشغل فرعون بدفن موتى لهم ، لذا قال تعالى [فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ] ( ).
فقطع موسى وبنو إسرائيل هذه المدة بين أول الليل وساعة الضحى مسافة طويلة ، حتى أشرفوا على البحر فأدركهم فرعون وجنوده .
قانون دعاء الأنبياء دعوة للإصلاح
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بدعاء إبراهيم وإسماعيل والأنبياء السابقين لهم بالهداية والحكمة , وفي التنزيل [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ), لبيان منهجية قانون هذا الجزء وهو (التضاد بين القرآن والإرهاب) نذكر دلالة مضامين الآية أعلاه بخصوص ما تبعثه من النفرة من الإرهاب ومفاهيمه , من جهات :
الأولى : إبتداء الآية بالدعاء (ربنا) ويقر ويسلم كل مسلم ومسلمة سبع عشرة في اليوم بأن الله عز وجل رب الإنس والجن والخلائق كلها إذ يتلوان في الصلاة وعلى نحو الوجوب العيني قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ), وفيه حجة على الناس جميعاً بأن العبودية لله وحده , ويبقى الشكر له سبحانه جامع مشترك وسور لهم , وهو نوع صلة لطيفة بينهم .
وكما تجمعهم الحياة الدنيا بالحمد لله والإقرار بربوبيته تعالى فإنهم سيلتقون بالوقوف بين يديه يوم القيامة , ولكن للحساب والجزاء , قال تعالى [وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ] ( ).
ويحتمل لفظ (ربنا) في الآية وجوهاً:
الأول : قول إبراهيم عليه السلام [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ] ( ).
الثاني : قول إسماعيل عليه السلام [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ] ( ).
الثالث : قول إبراهيم (ربنا) ويكرر خلفه إسماعيل .
الرابع : الدعاء مرة واحدة من إبراهيم وإسماعيل (ربنا).
الخامس : قول كل من ابراهيم واسماعيل ربّ وابعث فيهم رسولاً.
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق الآية الكريمة , لبيان تعدد دعاء إبراهيم وإسماعيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , خاصة وأن إبراهيم رجل دعاء أي يكثر من الدعاء ويلح فيه ، وهو من معاني أواه في قوله تعالى [ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ] ( ), فقد أكرم الله عز وجل إبراهيم وجاءت الآية أعلاه في ذكر ثلاث صفات حسنة متتالية له بجوامع الكلم .
( عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ” قَالَ :كَانَ مِنْ حِلْمِهِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَذَاهُ الرَّجُلُ مِنْ قَوْمِهِ، قَالَ لَهُ: هَدَاكَ اللَّهُ)( ).
ولم يغضب إبراهيم لنفسه , ونعت إبراهيم بالحلم من عند الله عز وجل دعوة للمسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى والناس جميعاً ، للحلم في الصلات والمعاملة ونبذ الخصومة , وترك العصبية والثأر خصوصاً وأن الأديان الثلاثة الإسلام والمسيحية واليهودية تنسب وتنتسب إلى إبراهيم خليل الله.
لقد كان إبراهيم يجادل في قوم لوط فنزل الثناء عليه من عند الله ليكون هذا الثناء مقدمة ومادة لتوجهه بالدعاء للمسلمين , و(عن سعيد بن جبير في قوله [يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ]( )، قال : لما جاء جبريل ومن معه إلى إبراهيم عليه السلام ، وأخبره أنه مهلك قوم لوط قال : أتهلك قرية فيها أربعمائة مؤمن.
قال : لا . قال : ثلثمائة مؤمن.
قال : لا . قال : فمائتا مؤمن.
قال : لا . قال : فمائة.
قال : لا . قال : فخمسون مؤمناً.
قال : لا . قال : فأربعون مؤمناً.
قال : لا . قال : فأربعة عشر مؤمناً ، قال : لا .
وظن إبراهيم أنهم أربعة عشر بامرأة لوط ، وكان فيها ثلاثة عشر مؤمناً وقد عرف ذلك جبريل) ( ).
وقد جاء الدعاء (ربنا) في الآيتين السابقتين لآية البحث , ومن خصائص أدعية الأنبياء أنها تاتي بلفظ ربي وربنا , وقد ورد ذات الدعاء من إجتماع اثنين من الأنبياء , موسى وهارون كما في قوله تعالى [ قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى] ( ).
وورد في دعاء آدم وحواء في التنزيل[قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( ).
كما ورد لفظ (ربنا) ثلاث مرات في آية واحدة , احداها بصيغة النداء والدعاء وهي الأخيرة منها لبيان قانون في سنن الأنبياء وهو تقديم المدحة والثناء على الله قبل المسألة ، في قوله تعالى [وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ] ( ).
وكذا في دعاء موسى [وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ] ( ).
لقد سأل إبراهيم وإسماعيل الله عز وجل أن يتلو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات الله على المسلمين فهل كانا يعلمان بأن دعاءهما للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أسباب هذه الآيات أم لا ؟ المختار نعم , فقد كانا يريدان بقاء ذكر نبوتهما وهو من الحسنة التي وردت في قوله تعالى [وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً] ( ), بلحاظ أن المراد من الحسنة في الآية أعلاه أعم من أن تختص بأيام حياة إبراهيم .
إن نداء الأنبياء (ربنا) دعوة للناس لأتباعهم بالتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء , والمسألة بخصوص أيام حياتهم , وما يتعلق بالناس وبالأجيال المتعاقبة , إذ ورد في الآية قبل السابقة سؤال إبراهيم وإسماعيل بأن يقبل الله عز وجل جهادهما في بناء البيت الحرام وضروب العبادة والمناسك منها مع الثناء على الله عز وجل والتوسل إليه , يقول [رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ).
ثم ابتدأت الآية السابقة بالنداء [رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ] ( ) لبيان قدسية التسليم بوجوب طاعة الله عز وجل , والمنزلة السامية للذي يقرّ بالربوبية المطلقة لله عز وجل , ومع ان إبراهيم عليه السلام من الرسل الخمسة أولي العزم وابنه إسماعيل نبي فإنهما يتوسلان إلى الله عز وجل بأن يجعلهما مسلمين له سبحانه .
وفيه تأديب للمسلمين لتعلم الدعاء وموضوعه وكيفيته , ثم ابتدأت آية البحث بنداء الدعاء العام (ربنا) لبيان إنقطاع إبراهيم وإسماعيل لله عز وجل في أمورهما وما يخص ذريتهما والناس جميعاً , لقد أدرك إبراهيم وإسماعيل قانوناً وهو أن الحياة الدنيا لا تتقوم ولا تستمر إلا بالنبوة , وأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للناس جميعاً .
الثانية : بعد النداء (ربنا) في آية البحث جاء حرف العطف وفعل الدعاء (وابعث فيهم ) لبيان أن مجئ المسألة بصيغة الإسترحام والإقرار بأن مقاليد الأمور كلها بيد الله سبحانه عز وجل ولتكون موضوعية للعطف على الآية السابقة وقول [وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ] ( ) وتقدير الآية (أو ابعث في الناس رسولا من الأمة المسلمة من ذريتنا) .
وفيها دعوة لقريش لتعاهد الإسلام والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته , ولكنهم استبقوا هذه البعثة بعبادة الاوثان , مع حضور البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينهم وفي مجالسهم , كما يخبرهم عنها أحد الكتاب ويتناقلون صفاته دلالات نبوته , فلما بعث الله عز وجل مع تعضيده بالمعجزات التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل كفروا بنبوته ثم حاربوه بالسيف .
ومن إعجاز آية البحث أنها لم تقل (وابعث لهم) فلأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكل الناس وردت الآية بصيغة فيهم أي من بينهم ولهم ثم للناس .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : وابعث فيهم لأنفسهم كي يكونوا أول الناس بابراهيم .
الثاني : وابعث من ذريتي رسولاً , ومن فضل الله رب العالمين بعث الأنبياء .
الثالث : وابعث فيهم والناس جميعاً ) .
وهل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس بواسطة قريش ، الجواب لا ، إذ يدل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس من غير واسطة قريش ، فلما كفرت قريش بالنبوة والتنزيل لم يضروا إلا أنفسهم ، ولم يحجبوا معجزات النبوة عن غيرهم من الناس .
ومن الآيات في المقام أن طائفة من أبناء الكفار دخلوا الإسلام ومنهم من هاجر إلى الحبشة ، ومنهم من هاجر إلى المدينة وفيه دعوة لآبائهم للتدبر بالآيات والبينات التي تدل على صدق التنزيل ، ولكنهم اختاروا تجهيز الجيوش ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وعندما بعث الله النبي محمداً نزل القرآن بذكر جهاد إبراهيم وإسماعيل في الأمور العبادية ببناء البيت الحرام ، وفي دعائهما للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وذكرت السنة موضوعية دعاء إبراهيم في بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ ورد عن أبي أمامة أنه قال (قلت: يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال : دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام) ( ).
لبيان موضوعية دعاء إبراهيم في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاء اسماعيل النبي له ، مع أن آية البحث ذكرت دعاء إبراهيم وإسماعيل معاً , وفيه وجوه :
الأول : صدور الدعاء من إبراهيم وتأمين إسماعيل وأمه هاجر خاصة وأن النبي محمداً من أبناء هاجر ، وكما كانت النبوة في أبناء سارة إذ كان اسحاق نبياً وكذا يعقوب فان الله عز وجل أقر عين هاجر بأن نال إسماعيل مرتبة النبوة ، وجاء دعاء إبراهيم وإسماعيل للبشارة ببقاء النبوة في ذريتهما .
(عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرِّب، عن علي بن أبي طالب، قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت، خرج معه إسماعيل وهاجر. قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة، فيه مثلُ الرأس. فكلمه، قال: يا إبراهيم، ابن على ظِلي -أو قال على قدري -ولا تَزْد ولا تنقص: فلما بنى خرج، وخلف إسماعيل وهاجر، فقالت هاجر: يا إبراهيم، إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله. قالت: انطلق، فإنه لا يضيعنا. قال: فعطش إسماعيل عطشًا شديدًا .
قال : فصعدت هاجر إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا، حتى أتت المروة فلم تر شيئًا، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا، حتى أتت المروة فلم تر شيئًا، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا، حتى فعلت ذلك سبع مرات .
فقالت : يا إسماعيل، مت حيث لا أراك. فأتته وهو يفحص برجله من العطش. فناداها جبريل فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا هاجر أم ولد إبراهيم. قال: فإلى من وَكَلَكُما؟ قالت: وكلنا إلى الله. قال: وكلكما إلى كافٍ .
قال: ففحص الغلام الأرض بأصبعه، فنبعت زمزم. فجعلت تحبس الماء فقال: دعيه فإنها رَوَاء) ( ).
الثاني : كفاية دعوة إبراهيم في تفضل الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره فذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لدعاء إبراهيم عليه السلام له لا يعني عدم موضوعية دعاء إسماعيل له وتأمين هاجر والمؤمنين .
الرابع : المقصود من ذكر دعاء إبراهيم دعاء الانبياء كلهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن خصائص الرسالة السماوية أنها حرب على الإرهاب في أدائها وفي كل زمان , وتنفذ الرسالة السماوية إلى شغاف القلوب وتكون سوراً جامعاً للناس في ظل التنزيل , ورحاب معجزات النبوة التي تبعث كل واحدة منها النفرة في النفوس من الإرهاب والعنف والتعدي .
لقد سأل موسى عليه السلام الله عز وجل أن يكون أخوه هارون وزيراً له , وفي التنزيل [وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي] ( ).
وتفضل الله عز وجل وجعل السؤال لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم متقدماً زماناً على نبوته , وصدرت هذه الدعوة من خليل الله , ومن إسماعيل النبي ، وفي التنزيل [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا] ( ).
وهل كان إبراهيم يعلم حاجة الناس إلى رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم , وهو الذي رآى كيف أن الكفر يستحوذ على الناس فيتبعون نمرود الذي جعل من نفسه إلهاً .
ترى لماذا لم يقل إبراهيم في زمانه (ربنا وابعث فيهم نبياً ) الجواب من وجوه :
الأول : بين النبي والرسول عموم وخصوص مطلق ، فكل رسول هو نبي وليس العكس .
الثاني : بيان قانون وهو أن الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث للناس جميعاً .
الثالث : الدلالة على قانون من الإرادة التكوينية بفضل الله عز وجل لهم وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يأتي بشريعة جديدة متكاملة , وتقدير قول إبراهيم وابعث فيهم رسولاً : وابعث فيه رسولاً هو خاتم الانبياء .
الرابع : لقد كان إبراهيم يدعو ويسأل الأتم والأوفى , ومرتبة الرسول أعلى من مرتبة النبوة , قال تعالى [وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] ( ).
الخامس : يتوسل إبراهيم عليه السلام إلى الله عز وجل ليكون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهلاً لنزول القرآن عليه .
السادس : من خصائص الرسول أنه يرى الملك ويسمع كلامه .
وذكرت الآية منهاج رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
أولاً : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات الله عز وجل على الناس .
ثانياً: تعليم الناس الكتاب وأحكام القرآن .
ثالثاً : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببيان مصاديق الحكمة
(عن قتادة في قوله { ويعلمهم الكتاب والحكمة } قال : الحكمة السنة)( )، والآية أعم , ومن الحكمة تفسير وتأويل آيات القرآن وذكر الأنبياء السابقين , والأمثلة , وأصول القضاء.
وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها( ).
ومن معاني تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآيات أنها تبين قبح الظلم , وتبعد الناس عنه , وبين الظلم والإرهاب عموم وخصوص مطلق , فالظلم أعم .
رابعاً : يتلو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآيات على المسلمين فيتعلمونها ويتعلمون مضامينها وأحكامها , وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين وألهمه رشده( ).
ومن معاني الحكمة في الآية وجوه :
الأول : إصلاح الوجود الذهني , فلا يذهب الإنسان إلى الإرهاب ومفاهيم الشرك والضلالة والإرهاب .
الثاني : الحكمة في العلوم النظرية .
الثالث : الحكمة في العلوم العملية .
الرابع : تحري المصالح وجلب المنفعة ودفع المفسدة , وعندما احتج الملائكة على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، أجابهم الله بأنه يعلم ما لا يعلمه الملائكة من بعثة الأنبياء ، ودعاء بعضهم لبعض ، وإمامتهم للناس في سبل الصلاح.
ترى لماذا يتلو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآيات على المسلمين والناس ، الجواب من وجوه :
الأول : بيان فضل الله عز وجل على الناس بأن يُتلى كلامه عليهم .
الثاني : إرتقاء المسلمين والناس إلى مراتب سامية في المعارف الإلهية .
الثالث : مخاطبة آيات القرآن للعقول حرب على النفس الشهوية .
الرابع : وجود جامع مشترك بين الناس وهو تلقيهم آيات التنزيل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ).
إذ يجمع نزول الآيات من عند الله بين إكرام الله للناس وبين تفضيلهم ، فمع ورود واو العطف في آية البحث أربع مرات والتي تفيد التغاير بين مضامينها فانه قد يكون هناك مصداق جامع لهذه المضامين أو شطر منها ، فتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن تعليم للكتاب وإرشاد للحكمة وتطهير للنفوس , وتنقية للأفعال وإصلاح المجتمعات .
(عن أبي أمامة أنه حدثه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شافعًا لأصحابه اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صوافَّ تُحاجَّان عن صاحبهما اقرءوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البَطَلَة “) ( ).
وتدل آية البحث على علم إبراهيم بنزول آيات التنزيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه أمين ويتلوها كما هي من غير تبديل أو زيادة أو نقصان ، وفيه شاهد على توالي نزول الآيات على الرسل ، وأن ابراهيم عليه السلام ممن نزلت عليه آيات الوحي , كما في قوله تعالى [إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى] ( ) .
ومن الإعجاز أن القرآن سمى ما نزل على إبراهيم وموسى بالصحف ، ولكن إبراهيم توسل إلى الله بنزول آياته على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون من الإرادة التكوينية بخصوص التنزيل ، وهو أن الآيات والسور التي تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي غير صحف إبراهيم وغير التوراة ، وقد بشّرت بها صحف إبراهيم وتوراة موسى .
الثالثة : مع عظيم مسألة تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن على المسلمين والناس فقد سأل إبراهيم الله عز وجل أن يقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم المسلمين الكتاب ، وفيه شاهد على أمور :
الأول : تفقه الأنبياء في فلسفة الدعاء بكثرة المسألة في الموضوع المتحد .
الثاني : بيان حاجة الناس للنبوة ، والشأن العظيم لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العالمين .
الثالث : رجاء الأنبياء بتغشي رحمة الله للناس بنزول آيات القرآن ، قال تعالى [وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ] ( ).
الرابع : بقاء أحكام السماء بين الناس في باب العبادات والمعاملات .
الخامس : تنمية مكارم الأخلاق والسلوك القويم عند الناس ، وهو من أعظم الحواجز التي تحول دون الإرهاب ، وفي قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( )، أطراف :
الأول : توثيق دعاء ابراهيم عليه السلام في القرآن .
الثاني : نزول القرآن بذكر دعاء إبراهيم لبيان مسألة وهي إكرام الله للأنبياء وسماع أدعيتهم وتوثيقها لدلالة هذا التوثيق على تفضل الله عز وجل بسماع دعاء إبراهيم في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثالث : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتعليم والتأديب والإرشاد .
الرابع : مادة التعليم وهي آيات الكتاب وأخبار السنة .
الخامس : كيفية التعليم إذ أن التعليم النبوي أحسن تعليم .
السادس : الذين يتلقون التعليم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهم على أقسام :
أولاً : أهل البيت والصحابة الذين يتلقون التعليم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : الصحابة الذين يأخذون الآيات بالواسطة ، فقد يغيب الصحابي عن النبي يوماً أو يومين وحينما يلتقي الصحابة الذين سمعوا من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيسألهم عما أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن , فيكون السؤال وجوابه تعلما وتعليما .
ثالثاً : تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتابعين وتابعي التابعين ، فصحيح أنهم لم يروه ولم يسمعوه منه ، ولكن تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعموم المسلمين متصل وإلى يوم القيامة ، وهذا التعليم مستمر إلى يوم القيامة ، وفيه دليل على حضور السنة النبوية مع المسلمين في أيام حياتهم .
رابعاً : مادة وموضوع التعليم وهو الكتاب ، ليكون أفضل تعليم , ويتم على يد النبي محمد صلى الله عيه وآله وسلم .
وهل يختص الكتاب في الآية بالقرآن ، الجواب لا ، إنما هو شامل للكتب السماوية ، وما في اللوح المحفوظ , وما ينزل بفضل من الله من الحديث القدسي ، والوحي , وهو من عموم النعمة على الناس , وأسباب تنزيه الأرض من التعدي والظلم , قال تعالى [وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ]( ) .
وورد لفظ (من يريد) ثلاث مرات في القرآن ، اثنتين منها في آية واحدة في قوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ]( ).
وهل تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين الكتاب شاهد على حب الله عز وجل لهم ، الجواب نعم ، وهذا التعليم طريق إلى الجنة ، وهو من مصاديق الصراط في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) .
والحكمة لغة الإتقان والمنع من الفساد والضرر (وحَكَمَةُ اللِّجَامِ: ما أحَاطَ بِحَنَكَيْه، سُمِّيَتْ لأنَّها تَمْنَعُه من الجَرْيِ الشَّدِيْدِ. وكُلُّ شَيْءٍ مَنَعْتَه من الفَسَادِ: فقد حَكَمْتَه وأحْكَمْتَه)( ).
لبيان قانون وهو حتى المعنى اللغوي للحكمة يمنع من الفساد والإرهاب والإضرار بالناس وممتلكاتهم (وقيل: الحكمة في اللغة: العلم مع العمل) ( ) .
ومن أسماء الله عز وجل (الحكيم) .
وقد ورد في القرآن سبعاً وتسعين مرة وبصيغة الرفع كما في قوله تعالى [وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ] ( ) وبصيغة النصب كما في قوله تعالى [وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا] ( ).
أو بصيغة الجر كما في قوله تعالى [تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] ( ) والحكيم على وزن فعيل بمعنى فاعل أي ذو الحكم ، ويأتي بمعنى مُفعل أي الذي يحكم ويتقن الأشياء .
ومن إعجاز القرآن أن لفظ الحكيم ورد فيه وصفاً لغير الله عز وجل ، قال تعالى [ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ] ( ).
وهل المراد من جوامع الكلم في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وأوتيت جوامع الكلم) ( ) من الحكمة ، الجواب نعم .
(عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً) ( ).
ومن معاني الحكمة وضع الشئ في موضعه ، وتتقوم الحياة الدنيا بالحكمة , ويمكن تسميتها بأنها (دار الحكمة ) وتتجلى حكمة الله في الخلائق كلها ، وهي سبيل إلى الهداية والتسليم بالربوبية له سبحانه .
ومن حكمة الله تعالى إنزال الكتب السماوية والتي تتضمن الدعوة إلى الخلق الحميد ، والإمتناع عن الفعل المذموم ومنه الظلم والإرهاب ، كما تضمنت الكتب السماوية الفرائض والعبادات لتكون واقية من الظلم ، وبرزخاً دون الإرهاب الخاص والعام .
وجاء القرآن باصلاح الأسرة وتنظيم أحكامها والبيان في الإرث ، والتفصيل في مراتب الورثة بما يمنع من الخصومة والخلاف فيه .
وهل هذه الأحكام من الحكمة التي تذكرها آية البحث بقوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ) .
الجواب نعم ، ومنها إمتناع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الظلم ليقتدي به المسلمون , ونهيه عن الإرهاب والإضرار بالناس ،وعن ابي سعيد الخدري (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ضرر ولا ضرار من ضار ضره الله ومن شاق شق الله عليه) ( ).
لقد أنعم الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بذات ما سأل إبراهيم ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
وتحتمل مضامين الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : استجابة الله عز وجل لدعاء إبراهيم عليه السلام .
الثاني : رحمة الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إبتداء ومن فضله تعالى.
الثالث : دعاء الأنبياء والصالحين للمسلمين .
الرابع : حاجة الأرض لأمة مؤمنة تتلو آيات الله ، وتتعلم الكتاب والحكمة ، وتتنزه عن الضلال المبين .
ولا تعارض بين هذه الوجوه .
وحينما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) وفي كل يوم هناك مصداق لعلم الله الذي تذكره الآية أعلاه فيما يخص البشر والخلافة في الأرض , واختلف العلماء في الغرض الأساس من خلق الناس وتكاثرهم على وجوه :
الأول : عمارة الأرض .
الثاني : استدامة الكون .
الثالث : الحفاظ على النوع .
الرابع : عبادة الناس لله عز وجل .
ويمكن أن تضاف وجوه أخرى محتملة مثل :
الأول : بيان عظيم قدرة الله وبديع صنعه .
ومن معاني قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) استدامة وتجدد الإبداع والخلق الجديد .
الثاني : تجلي فضل الله عز وجل على الناس .
الثالث : لقد خلق الله عز وجل الملائكة عقولاً بلا شهوة وخلق الحيوان شهوة من غير عقل ، فتفضل الله عز وجل وخلق الإنسان مركباً من العقل والشهوة مع رجحان كفة العقل بلطف ونعمة من الله عز وجل ، وليكون هذا الرجحان مانعاً من الظلم والإرهاب والتعدي ، وهو الأمر الذي يتجلى في الواقع بنفرة النفوس من الإرهاب وتعاون الدول والمؤسسات على إجتنابه .
ومن أهم صيغ هذا الإجتثاث الإصلاح .
الرابع : رؤية الملائكة لخلق آدم وحواء في الجنة , وشكرهم الله عز وجل على انقطاعهم لعبادة الله والذكر ، وتنزيهم عن الفساد والفعل القبيح .
الخامس : قيام الملائكة بتدوين أفعال بني آدم .
السادس : رؤية الملائكة وعالم الجن والخلائق خلق نوع آخر مستحدث وهو نوع الإنسان وعمارتهم الأرض بالعبادة والإمساك عن الطعام صياماً طاعة لله عز وجل .
وعن الإمام علي عليه السلام قال (أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم عند انتصاف النّهار وهو في الحجر،
فسلّمت عليه فرّد عليّ النبّي صلى الله عليه وآله وسلم ثمَّ قال : يا علي هذا جبرئيل يُقرئك السلام. فقلت : عليك وعليه السّلام يارسول الله لِمَ؟
قال : أُدّن منّي،
فدنوت منه فقال : ياعلي يقول لك جبرئيل : صم كل شهر ثلاثة أيام يُكتب لك بأول يوم عشرة الآف (سنة) وباليوم الثاني ثلاثين ألف (سنة) وباليوم الثالث مائة ألف (سنة). فقلت : يارسول الله هذا ثواب لي خاصة أم للنّاس عامة؟
قال : يا علي يُعطيك الله هذا الثواب ولمن يعمل مثل عملك بعدك. قلت : يا رسول الله وما هي؟
قال : أيام البيض : ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر.
قال عنترة : قلت لعلي عليه السلام : لأي شيء سُميت هذه الأيام البيض.
قال : لما أهبط آدم من الجنّة إلى الأرض أحرقته الشمس. فاسوّد جسده ثمَّ صام اليوم الثالث. فأتاه جبرئيل فقال : يا آدم أتحب أن يبيض جسدك ؟
قال : نعم،
قال : فصم من الشهر ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر فصام آدم أول يوم فابيض ثلث جسده،
ثمَّ صام اليوم الثاني فابيض ثلثا جسده،
ثمَّ صام اليوم الثالث فابيض جسده كلّه فسُميت أيام البيض.) ( ).
السابع : كشف الملائكة للذي معهم من الجن ويحسبونه منهم كما في إبليس ، إذ امتنع عن الإستجابة لأمر الله عز وجل بالسجود لآدم طاعة لله عز وجل ، قال تعالى [وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ] ( ) .
وتبين الآيات أعلاه أن الله خلق الناس في عالم الذر وأنه سبحانه صورهم ورأت الملائكة ومعهم إبليس هذه الصور ثم أمر الله عز وجل الملائكة أن يسجدوا لآدم .
فحينما سجدوا لآدم لم يكن آدم وحده إنما كانت صور ذريته حاضرة ، وهو من الدلائل على أن الملائكة أطلعوا على حال بني آدم وما يفعلونه في الأرض فقالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) وهذا القول من الملائكة قبل أن يأمرهم الله عز وجل بالسجود لآدم .
الثامن : قيام الملائكة بالدعاء للناس بالهداية وللمؤمنين بالنجاة .
التاسع : نزول الملائكة إلى الأرض لنصرة الأنبياء والمؤمنين ، كما في معركة بدر ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
العاشر : تولي الملائكة تدوين أعمال بني آدم ، قال تعالى [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ] ( ).
الحادي عشر : رؤية الملائكة للتباين بينهم وبين الناس ، فيشكرون الله عز وجل على فضله عليهم بانقطاعهم إلى عبادته ويشكرونه تعالى على هداية المؤمنين لأداء الصلاة ، وإعانتهم بالصبر وتعاهدهم للعبادة ، فحينما قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
فانه تعالى جعل الملائكة يساعدون المؤمنين بالعمل بمضامين الآية أعلاه وفيه خير الدنيا والآخرة .
الثاني عشر : حشر أجيال الناس المتعاقبة في موقف واحد يوم الحساب بعد بعثهم من القبور ، وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله ، قال تعالى[وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ]( )، والإخبار عن حضور الملائكة يوم القيامة وشهادتهم على الناس ، تذكير بيوم القيامة ولزوم الإستعداد له ، ويتولى الملائكة العناية بأهل الجنة فهم خزنة الجنة ويكون الأشراف على عذاب أهل النار من قبل خزنتها من الملائكة ليكون تدوينهم حسنات وسيئات الناس علة لقيامهم بهذه العناية والإشراف ، فلا يأتي يوم على أهل النار بالإحتجاج على القائمين عليها من الملائكة .
ومن وظائف الملائكة حمل عرش الله عز وجل وهو سبحانه القادر على جعل العرش قائماً من غير أن تحمله الملائكة ومن غير أعمدة أو ركائز.
وقد جادلهم الكفار وجاءهم الرد من الملائكة ، وفي التنزيل [ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ]( ).
وذكر أن اسم رئيس خزنة الجنة (رضوان).
والأولى تأليف مجلدات بخصوص وظائف الملائكة على نحو التفصيل البياني والتقسيم بلحاظ :
الأول :الوظائف الكونية مثل الملك المختص بالجبال (عن عائشة؛ أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد.
فقال : لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل ابن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظَلَّتْني.
فنظرت فإذا فيها جبريل، عليه السلام، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم.
قال : فناداني مَلَك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك إليك، لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين( ).
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا يشرك به شيئا”)( ).
والملائكة الذين يقومون بتسيير السحاب وتوزيع واسقاط الغيث (وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المطر ، وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه ، والخرائطي في مكارم الأخلاق ، عن علي بن أبي طالب قال : الرعد ، ملك . والبرق ، ضربه السحاب بمخراق من حديد .
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ والخرائطي ، عن ابن عباس قال : الرعد ، ملك يسوق السحاب بالتسبيح ، كما يسوق الحادي الإِبل بحدائه .
وأخرج البخاري في الأدب المفرد ، وابن أبي الدنيا في المطر ، وابن جرير ، عن ابن عباس أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال : سبحان الذي سبحت له ، وقال : إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه)( ).
الثاني : الوظائف التي تتعلق ببني آدم وهي على شعب :
الأولى : ما يخص أرزاق الناس.
الثانية : قيام الملائكة بنصرة الأنبياء والمؤمنين ، كما في معركة بدر وأحد والخندق وحنين ، وفي معركة أحد قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
الثالثة : قيام الملائكة بالدفع عن الناس وصرف البلاء عنهم إلا أن يشاء الله ، قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ] ( ).
الرابعة : قيام الملائكة بالإستغفار للناس ، ورفع أدعيتهم إلى الله وهو سبحانه يسمع الدعاء قبل أن يسمعوه ، قال تعالى [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ) .
الخامسة : قيام الملائكة بقبض أرواح بني آدم ، إذ يتولى ملك الموت قبض أرواحهم في آجالهم وباذن من الله , وفي التنزيل [قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ]( )، وقال تعالى [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا]( )، وعن يحيى بن مسلم عمن ذكره قال : كان يعقوب أكرم أهل الأرض على ملك الموت، وإنّ ملك الموت استأذن ربّه في أن يأتي يعقوب فأذن له فجاءه فقال يعقوب : يا ملك الموت أسألك بالذي خلقك ، هل أخذت نفس يوسف فيمن قبضت من النفوس، قال : لا .
قال مَلك الموت : يا يعقوب ألا أُعَلِّمك دُعاءً، قال : بلى ، قال : قُل : يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ولا يُحصيه غيرك ، قال : فدعا به يعقوب في تلك الليلة فلم يطلع الفجر حتى طرح القميص على وجهه فارتدّ بصيراً( ).
ومن خصائص الملائكة الرحمة بالناس ، وتقريبهم إلى سبل الطاعة والإمتثال لأوامر الله ، فان قلت قد نزلت الملائكة للبطش بقوم لوط .
الجواب وقع هذا البطش بعد تماديهم في الفواحش واصرارهم على السيئات ، ومن أجل تعاهد حياة الأمن والتقوى في الأرض إذ أن قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، وعد كريم من الله عز وجل.
وتنزل الملائكة لبشارة الصالحين بالجنة والتي سماها الله عز وجل (دار السلام) قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ).
عن (العباس بن عبد المطلب في قوله سبحانه [وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ] ( )، قال : ثمانية أملاك على صورة الأوعال. وفي الحديث : إن لكلّ ملك منهم أربعة أوجه : وجه رجل،
ووجه أسد،
ووجه ثور،
ووجه نسر .
وقيل : انشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول أمية بن أبي الصلت :
رجل وثور تحت رجل يمينه
والنسر للأُخرى وليث مرصد
والشمس تصبح كل آخر ليلة
حمراء تصبح لونها يتورّد
تأبى فما تطلع لنا في رسلها
إلاّ معذّبة وإلاّ تجلّد
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدق) ( ).
ولا يختص نزول الملائكة بنصرة المؤمنين في ميدان القتال , أو بنزول بالعذاب على القوم الفاسقين , كما في قوم صالح وقوم لوط , إذ ينزلون بشآبيب , وأسباب الطمأنينة والعفو , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ] ( ).
ومن الملائكة من ينزل لتشييع الصالحين والمشي في جنائزهم , وقد ينزل الملائكة لتشييع سورة من القرآن عند نزول جبرئيل بها الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وكأنهم يتعاهدون بقاءها في الأرض ساعة من التحريف والتبديل والتغيير , قال رسول الله (أنزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعام صلّى الله عليه وآله وسلم واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوماً وليلة) ( ).
والأولى تأليف مجلدات مستقلة عن وظائف الملائكة في عالم الآخرة من جهات :
الأولى : النفخ في الصور ، وعن أبي سعيد قال : إن صاحبي الصور بايديهما قرنان يلاحظان النظر حتى يؤمران.
وأخرج البزار والحاكم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من صباح إلا وملكان موكلان بالصور ينتظران متى يؤمران فينفخان.
وأخرج أحمد والحاكم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : النافخان في السماء الثانية . رأس أحدهما بالمشرق . ورجلاه بالمغرب . ينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا( ).
الثانية : حضور قيام الناس من القبور ، وإعانة المؤمنين ، وبعث السكينة في نفوسهم ، وفي قوله تعالى [تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ]( )، ورد عن الكلبي(تجيبهم الملائكة عليهم السلام على أبواب الجنة بالسلام . فإذا دخلوها ، حيَّا بعضهم بالسلام .
وتحية الرب إياهم حين يرسل إليهم بالسلام . ويقال : يعني : يسلم بعضهم على بعض)( ).
الثالثة : شهادة الملائكة على الناس يوم الحساب وهو يشهد الملائكة الذين حضروا معركة بدر وأحد والخندق كما في قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
أم تنحصر الشهادة بالملائكة الذين يقومون بتدوين أعمال بني آدم الجواب هو الأول , لتعدد شهادة الملائكة على الفعل المتحد للإنسان كما يشهد الملائكة الذين ظللوا الشهداء بأجنحتهم .
الرابعة :شفاعة الملائكة للمؤمنين .
الخامسة : سقاية وإعانة المؤمنين في مواطن القيامة ، والتخفيف عنهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
السادسة : الإشراف على النار (عن ابن عباس في قوله { إذا رأتهم من مكان بعيد } قال : من مسيرة مائة عام وذلك إذا أتي بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام يشد بكل زمام سبعون ألف ملك ، لو تركت لأتت على كل بر وفاجر { سمعوا لها تغيظاً وزفيراً }( )، تزفر زفرة لا يبقى قطرة من دمع إلا بدرت ، ثم تزفر الثانية فتنقطع القلوب من أماكنها ، وتبلغ القلوب الحناجر) ( ).
ويفيد التدبر في وظائف الملائكة لزوم تعاهد التقوى لأنه باب للأجر والثواب ، وإجتناب الإضرار بالآخرين لأنه وزر ثقيل ، وسبب للحساب والعقاب وأيهما أكثر عمل الملائكة بخصوص الناس في الدنيا أم عملهم في الآخرة ، الجواب هو الثاني .
قانون التنافي بين الإيمان والإرهاب
لقد ابتدأ وجود الإنسان في الأرض بالإيمان إذ هبط آدم وحواء من الجنة , وهما بمرتبة اليقين والإقرار بالعبودية لله عز وجل ، وكان آدم رسولاً نبياً لنفسه وزوجه وذريته .
وفي قوله تعالى [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً] ( ) قيل متفقين على الإيمان أو الكفران .
ولكن هذا الترديد لا يصح ، فالإتفاق على الإيمان صحيح وتام ، أما على الكفران فان المشيئة الإلهية منزهة عنه ، إنما جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) .
ومن مصاديق هذه الخلافة وجود أمة مؤمنة في كل زمان تجذب إليها غيرها ، ويمنع الله من ضعفها ووهنها ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ويكون الإيمان بالله عز وجل عقيدة تتجلى بتنزيه عالم الأقوال والأفعال من أسباب المكر والخبث والإضرار الظاهر أو الخفي بالناس ، وقد بيّن القرآن صفات المؤمنين بما يبعث على الإنصراف عن الفساد ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ* أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] ( ).
لقد وعد الله عز وجل المؤمنين بالرزق الكريم في الحياة الدنيا والآخرة ، ويملي هذا الوعد على الإنسان الصبر والتنعم بفضل الله ، وعدم التعجيل على نفسه بالإنتحار والتضحية بها بالتفجير ونحوه .
ولقد كانت سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنهاج الأمثل للإيمان ومرآة القرآن ، وقد ألحّ عليه بعض الصحابة بقتل رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول عندما أثار فتنة بين المسلمين في كتيبة بني المصطلق ، فامتنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتله وإختار الصبر .
نعم نزل القرآن بفضح عبد الله بن أبي في موضوع ذات الواقعة بقوله تعالى [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
وشكى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبعض رؤساء الأنصار تحريض عبد الله بن أبي على الفتنة والإرهاب ، وعجّل بالرحيل وواصله .
لتموت الفتنة في مهدها ، وفيه دعوة للحكماء وأصحاب القرار معالجة الأمور بحكمة وتعليم وإرشاد مع أخذ الحائطة والحذر لمنع وقوع الإرهاب الذي هو من أشد الفتن العامة في هذا الزمان ، كما يلزم البيان العام للتباين والتعارض بين الإيمان والإرهاب ، وأن الذي يظن أنه يسعى لغايات حسنة بالإرهاب واهم ، إنما تتحقق تلك الغايات بالخلق الحسن وسنن التقوى .
والإيمان هو التصديق والإقرار والتسليم بالشئ ، وهو في الإصطلاح الإعتقاد الجازم بالربوبية المطلقة لله تعالى والتصديق بالرسالات السماوية والملائكة والأنبياء ، وما أنزل الله من الكتب ، والإيمان تصديق بالجنان , ونطق باللسان , وعمل بالجوارح والأركان.
وبين الإسلام والإيمان عموم وخصوص مطلق ، فالإسلام أعم ، وكل مؤمن هم مسلم وليس العكس ، قال تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( ).
ومن معاني الإيمان الأمن لصاحبه ولغيره ويجلب الإيمان الأمن ويترشح عن خصائصه ومعانيه الأمن والسلامة للذات والغير ، فهو أمن لصاحبه في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى] ( ) .
والإيمان أمن لأنه خوف من الله ، وتسليم بمشيئته المطلقة ، ورجوع الناس إليه للوقوف بين يديه للحساب والجزاء ، ومن يؤمن بالله يمتنع عن الإرهاب لحرمته والحساب عليه يوم القيامة.
ويقترن بالإيمان نزول الخير ، وزيادة البركة والنماء في الأنفس والأموال ، وفيه دعوة للعزوف عن الإرهاب ومفاهيمه ، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] ( ) والإيمان عصمة من الذنوب والمعاصي والتي قد تكون بسنخيتها تهديداً لإستدامة الأمن .
ولما احتجت الملائكة على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) لأن طائفة من ذريته يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، جاء الرد من عند الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
لتفضل الله عز وجل بهداية الناس للإيمان وإزاحته للفساد ، فالإيمان أصل ثابت في الأرض ، وتدخل أغصان أشجاره كل بيت لترغيب الناس بالهداية والرشاد وتذكيرهم بالإنابة والصلاح ، وإجتناب الفسوق والإرهاب وظلم الآخرين فما من أحد إلا والإيمان يتقرب إليه كل يوم يدعوه إلى التوبة ، ويجذبه إلى منازل الهدى، ويذكره بحسن عاقبة المؤمنين الذين لا يرضون بالإرهاب والتعدي ، قال تعالى [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) .
والإيمان تنزه عن ظلم النفس الذي يأتي من الشرك ، وما يتفرع عنه من اتباع الشيطان والإنقياد للشهوات والعصبية ، والإبتعاد عن الأمن وأخبرت السنة النبوية بلزوم المحبة بين المؤمنين ، ونبذ الفرقة والخلاف وحرمة التكفير .
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم) ( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار الإيمان ) وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل ليتدبر بآيات الله , ويتخذ منها وسيلة للإيمان وسبباً لتعاهده ، وقد يقع تحريف في المفاهيم ، فلابد من البيان والتوضيح بأن الإرهاب ينافي مع الإيمان ، وأن الله عز وجل لا يرضى للمؤمنين الإرهاب فعلاً وأثراً .
فكما يصوم المؤمنون والمؤمنات عن الأكل والشرب والجماع في شهر رمضان طاعة لله عز وجل ، فانهم يمتنعون عن الإضرار بالغير طيلة أيام السنة .
وهذا الإمتناع من خصال الإيمان ، وهو باعث لمودتهم في النفوس ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
قانون هداية القرآن للإمتناع عن الإرهاب
قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا]( ).
إبتدأت الآية أعلاه بالتأكيد على أن الذي بين الدفتين هو قرآن نازل من عند الله ويتضمن الإعجاز اسماً ومسمى ، ومن إعجازه في المقام أنه يهدي للتي هي الأحسن والأفضل والأتم ، وليس من حصر للموضوع والحكم الأحسن الأتم ، وتقدير الآية على وجوه كثيرة ومتعددة منها :
الأول : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في العبادات ويدل عليه قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( ).
الثاني : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في أداء الصلاة بأن يؤديها المسلمون خمس مرات في اليوم ، قال تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
الثالث : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في إخراج الزكاة ونظام النصاب فيها.
الرابع : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في الأحكام .
الخامس : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في إجتناب المؤمنين الحرج ، وأسباب الضرر ، قال تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( ).
وهل قانون (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)( )، الذي ورد على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق الآية أم أن القدر المتيقن منها ما ورد في نص آيات القرآن , الجواب هو الأول ، إذ تتصف السنة النبوية بأمور مباركة :
أولاً : السنة النبوية بيان للقرآن.
ثانياً : السنة النبوية مرآة للقرآن .
ثالثاً : السنة النبوية شعبة من الوحي .
رابعاً : السنة النبوية مانع من التحريف في علم التفسير والتأويل.
السادس : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في عمل الصالحات .
السابع : إن هذا القرآن يهدي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثامن : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في إجتناب الخصومة والإرهاب .
التاسع : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في درء الفتنة.
العاشر : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في حسن المعاملة مع الناس .
الحادي عشر : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في ذاتها وموضوعها.
الثاني عشر : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في سنن الإيمان ، وعقيدة التوحيد.
الثالث عشر : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم فيمنع من الإرهاب .
الرابع عشر : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم فيفضح الإرهاب ويبين قبحه .
الخامس عشر : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في الميراث وقسمة التركة.
السادس عشر : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في أحكام النكاح والطلاق .
وقد نسبت الآية الهداية للقرآن وهو كلام الله لبيان وجوب العمل بأحكامه.
السابع عشر : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في العفو والتسامح .
الثامن عشر : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في الحمد لله والشكر له سبحانه.
التاسع عشر : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في طلب الرزق الحلال.
العشرون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في الدعاء.
الحادي والعشرون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في الإنفاق.
الثاني والعشرون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في السعي للآخرة .
الثالث والعشرون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في علم التفسير.
الرابع والعشرون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم فلا يترشح عنه أو عن تفسيره الإرهاب ومقدماته , ويدعو القرآن إلى كتابة مجلد مستقل في صفات القرآن في القرآن ، إذ جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) ومنه مضامينه القدسية.
الخامس والعشرون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم والأصوب والأحسن والأكمل.
السادس والعشرون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في دواء الخطايا والذنوب.
السابع والعشرون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في الإستغفار.
الثامن والعشرون : إن هذا القرآن يدعو للتي هي أقوم في الإيمان .
التاسع والعشرون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في نماء المال.
الثلاثون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في الرغائب والأماني.
الحادي والثلاثون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في الصلة والمعاملة بين الزوجين.
الثاني والثلاثون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في البر بالوالدين ، قال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا]( ).
الثالث والثلاثون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في تربية الأولاد.
الرابع والثلاثون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في طاعة الله ورسوله.
الخامس والثلاثون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في الإيمان وسننه.
السادس والثلاثون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم الى الصراط المستقيم ، ليكون من معاني قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، أي اهدنا إلى التي هي أقوم في أمور الدين والدنيا.
السابع والثلاثون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم عند مداهمة العدو.
الثامن والثلاثون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في التفكر في الخلائق للتسليم بالعبودية لله عز وجل.
التاسع والثلاثون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم للفوز بالبشارة بالأجر الكبير الذي تذكره ذات الآية نفسها.
الأربعون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وهو كلمة التوحيد والتي تثقل الميزان , وأخلاص العبودية لله عز وجل.
الحادي والأربعون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم بما يقوم ويصلح الإنسان في بدنه وعافيته ومنطقه.
الثاني والأربعون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في تلاوة الكتاب والتدبر في معانيه ودلالاته.
الثالث والأربعون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم بما يصرف الإرهاب عن المجتمعات.
الرابع والأربعون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم لبيان أن القرآن يهدي إلى السلم المجتمعي والأمن .
الخامس والأربعون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم فيرشد إلى المسارعة في الخيرات واكتناز الحسنات ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
السادس والأربعون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في التفقه في الدين , وهل الفقاهة في الدين سبيل نجاة .
الجواب نعم , فهي حرز من الولوج في مستنقع الضلالة , ومانع للغير عن التعدي والظلم , لأن الفقاهة دعوة للسلم وباعث على الأمن وإحقاق الحق .
السابع والأربعون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم باللجوء إلى الصلح والموادعة في حال الإختلاف والإضطراب .
الثامن والأربعون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في البلغة والبغية الحميدة .
الخمسون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم أي السبيل والمنهاج الأعدل والأصلح والأصوب , إذ يمكن للإنسان أن يحقق الغاية الحميدة من غير الإضرار بأحد , وهو حجة على الذي يختار الإرهاب والعنف الذي يؤدي إلى الظلام والعتمة والخصومة .
الحادي والخمسون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في الدعاء موضوعاً وإلحاحاً ، واجتناباً للأذى ، قال تعالى [وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً] ( ).
وهل الدعاء للإرهاب من الخير أم الشر , الجواب إنه من الشر , فلا يستجيب الله عز وجل له , لأن الله عز وجل جعل الدنيا دار الرحمة والعفو والإمهال , وهي محل لطفه وإحسانه بالناس , قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( ).
الثاني والخمسون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم فيخرج الناس [مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
الثالث والخمسون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في البشارة والإنذار .
الرابع والخمسون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في علوم القرآن كالناسخ والمنسوخ , والمحكم والمتشابه ، والمطلق والمقيّد .
الخامس والخمسون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في الليل والنهار , والحضر السفر ، وحال الغنى والفقر .
السادس والخمسون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم للرجال والنساء .
السابع والخمسون : ان هذا القرآن نازل من السماء ، ومن خصائص التنزيل الهداية للأحسن والأتم والأكمل .
الثامن والخمسون : إن هذا القرآن يهدي للتي أقوم في كل زمان والى يوم القيامة .
التاسع والخمسون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في الصلات بين الناس ، قال تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا]( ).
الستون : إن هذا القرآن يهدي المسلمين مجتمعين ومتفرقين إلى التي هي أقوم ، والعصمة مما يتنافى مع الأقوم الذي يدعو إليه القرآن.
الحادي والستون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، وهو من إعجازه وشاهد على نزوله من عند الله .
الثاني والستون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في كل زمان ومكان .
الثالث والستون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في بيانه لقبح الظلم , قال تعالى [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ( ).
الرابع والستون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم لأنه جامع للعلوم.
الخامس والستون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في الأحكام ومكارم الأخلاق ومحاسن السنن ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (بُعثت لأتُمّم مكارم الأخلاق) ( ) .
(عن أبي الدرداء قال : سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه .
وأخرج ابن مردويه عن عبدالله بن شقيق العقيلي قال : أتيت عائشة فسألتها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالت : كان أحسن الناس خلقاً ، كان خلقه القرآن) ( ).
السادس والستون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في الذكر والعبادة .
السابع والستون : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم بقول لا إله إلا الله ،والتسليم باليوم الآخر , وفيه حجة على الناس في لزوم الإمتناع عن الإضرار بالمؤمنين ، وهي سور الموجبة الكلية التي يلتقي عندها أهل الأرض ، وتملي عليه لغة تفاهم حميدة ، وتدعوهم كل يوم لإجتناب العنف ، وازدراء الملل المخالفة .
الثامن والستون : إن هذا القرآن يهدي إلى التي هي أقوم .
ومن معاني الهداية في المقام :
الأولى : الدعوة .
الثانية : الدلالة .
الثالثة : الإرشاد .
الرابعة : الجذب والتوفيق .
الخامسة : التقريب بلطف .
السادسة : بيان القرآن لما يخالف الأقوم والفعل الحسن لإجتنابه .
السابع : الترغيب بالعمل الصالح وذكر الثواب العظيم على فعله والدعوة إليه والإعانة عليه ، وتمام الآية هو [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا] ( ).
إسلام الوليد بن الوليد مع شدة الإرهاب
لقد نزل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) حجة إلى يوم القيامة في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإرهاب , فان قيل قد ( اخرج البيهقي عن خالد بن أبي عمران قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على مضر إذ جاءه جبريل فأومأ إليه أن اسكت فسكت ، فقال يا محمد : إن الله لم يبعثك سباباً ولا لعاناً ، وإنما بعثك رحمة للعالمين ، ولم يبعثك عذاباً ، ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ، ثم علمه هذا القنوت : اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخضع لك ونخلع ونترك من يفجرك ، اللهم إياك نعبد ، ولك نصلي ونسجد ، إليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ونخشى عذابك ، إن عذابك الجد بالكفار ملحق( ).
وفيه شاهد على موضوعية الوحي في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولتنتفع منه أجيال المسلمين.
وهذا الدعاء جزء وفرد من أدعية يسأل فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله عز وجل بالنجاة من شرور قريش لسلامة الرسالة واستدامة تبليغ الآيات والأحكام .
وقد تكررت محاولات قريش لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتكون نجاتها منها معجزة له .
وعن (عبدالله بن مسعود قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام ورفقة من المشركين من قريش ونبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلى وقد نحر قبل ذلك جزور وقد بقى فرثه وقذره .
فقال أبو جهل ألا رجل يقوم إلى هذا القذر يلقيه على محمد ونبى الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجد إذ انبعث أشقاها فقام فألقاها عليه قال عبد الله فهبنا أن نلقيه عنه حتى جاءت فاطمة عليها السلام فألقته عنه فقام فسمعته يقول وهو قائم يصلي :
اللهم اشدد وطأتك على مضر سنين كسنى يوسف عليك بأبى الحكم بن هشام – وهو أبو جهل – وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وعقبة بن أبى معيط وأمية بن خلف ورجل آخر ثم .
قال: رأيتهم من العام
المقبل صرعى بالطوى طوى بدر صرعى بالقليب) ( ).
كما ورد هذا الدعاء لإرادة نجاة المؤمنين المستضعفين الذين في مكة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرف شدة أذاهم له ولأصحابه قبل الهجرة ، ولما يرده من الأخبار عن إيذاء قريش للمسلمين الذين بين ظهرانيهم .
و(عن أبي هريرة قال : بينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي العشاء إذ قال : سمع الله لمن حمده . ثم قال قبل أن يسجد : اللهم نج عياش بن أبي ربيعة ، اللهم نج سلمة بن هشام ، اللهم نج الوليد بن الوليد ، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة في قوله { إلا المستضعفين }( ) يعني الشيخ الكبير ، والعجوز ، والجواري الصغار ، والغلمان) ( ).
وأحد الثلاثة الذين ذكرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه أعلاه الوليد بن الوليد وهو أخو خالد بن الوليد من بني مخزوم من قريش وقصة إسلامه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ حضر معركة بدر مع جيش الكفار ، فوقع بالأسر , والذي أسره هو عبد الله بن جحش( ) ، وهو من المهاجرين إلى المدينة من مكة .
فقدم أخواه خالد بن الوليد وهشام بن الوليد إلى المدينة لفكاكه من الأسر ، وهذا القدوم بعد معركة بدر وأثناء تهديد ووعيد قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وقبل صلح الحديبية ومع هذا لم يتعرض لهما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولم يطلب منهما عدم دخول المدينة خشية إطلاعهما على أحوال المسلمين فيها ، والثغرات التي عندهم .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن قدوم الأعداء إلى المدينة مناسبة لسماعهم آيات القرآن ، وتبصرهم بالشواهد التي تدل على نبوته ، ومعرفتهم للتغيير الحاصل في حياة الناس بتجلي زينة لباس التقوى ، ورؤيتهم للمسلمين كيف يقفون صفوفاً بين يدي الله خمس مرات في اليوم ، وكل وقوف منها تبرأ من الإرهاب ، ونهي عنه ودعوة للناس للإيمان وهجران الغزو والسلب والنهب .
(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصاً ، ولا يزدادون من الله إلا بعداً) ( ).
فعرض خالد وهشام فداء لأخيهما الوليد على عبد الله بن جحش مثلما يطلب في فداء الأسرى بعد خلاف بين الأخوين على المقدار الكثير الذي طلبه عبد الله بن جحش ، فلم يرض خالد أن يصل الفداء إلى هذا المقدار ، ولكن أخاه هشام قال له : إنه ليس بابن أمك .
ثم زاد هشام وقال ، لو زاد عبد الله بن جحش في مقدار البدل لدفعته ، ولكنه تمنع عليهما رغبة في المزيد ، فبذلا له أربعة آلاف درهم أي بمقدار أربعمائة دينار كل دينار مثقال ذهب عيار ثمان عشرة حبة ، فلم يرض بهذا المبلغ مع كثرته ، ويبدو أنهما كانا يحملانه في الطريق بين مكة والمدينة ، وعند الوصول والإقامة في المدينة من غير خشية على سرقة المال او نهبه ، مما يدل على سيادة النظام والأمن في المدينة المنورة أيام النبوة ، وهو من الشواهد على أن الإسلام لا يبغي الإرهاب وأنه يمنع منه ويحاربه .
وقال ابن سعد (ويقال إن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أبى أن يفديه إلا بشكة( ) أبيه الوليد بن المغيرة، فأبى ذلك وطاع به هشام بن الوليد لأنه أخوه لأبيه وأمه .
وكانت الشكة درعا فضفاضة وسيفا وبيضة، فأقيم ذلك مائة دينار وطاعا به وسلماه) ( ).
ونسبة الخبر إلى القيل تضعيف له ، والظاهر أن قيمة الشكة زيادة على البدل الذي عرضاه وهو أربعة آلاف درهم .
وأخذ خالد وهشام أخاهما الوليد بن الوليد معهما ، وفي الطريق إلى مكة ولما بلغوا ذا الحليفة ، افلت الوليد منهما ، فعاد إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأعلن إسلامه في مشهد وآية بحضرة النبي وأمام الصحابة , وليعلم أهل مكة والناس بخبره ، وهو شاهد على تدبر لأسرى في مفاهيم وسنن الإسلام مدة الأسر .
فعاتبه أخوه خالد بن الوليد وقال (هلا كان هذا قبل أن تفتدي وتخرج مأثرة أبينا من أيدينا فاتبعت محمدا إذ كان هذا رأيك فقال ما كنت لأسلم حتى أفتدي بمثل ما افتدى به قومي ولا يقول قريش إنما اتبع محمدا فرارا من الفدى) ( ).
ثم خرجوا بالوليد إلى مكة وهو على اسلامه ، وهما على شركهما إذ أمن منهما للأخوة والرحمة .
فلما وصلوا إلى مكة قاما بحبسه في مكة مع نفر من مسلمي بني مخزوم أقدم منه إسلاما منهما عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام اللذان ورد ذكرهما في دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، وكانا من مهاجرة الحبشة وعادا إلى مكة لما بلغهما من إسلام قريش ولكنهم حبسوهما .
وكان يدعو لهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل حبس الوليد ، فلما حبس معهما صار النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو للثلاثة واستمر على دعائه لهم ثلاث سنوات وفيه آية من جهات :
الأولى : لجوء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدعاء لنجاة المسلمين .
الثانية : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين للصبر وعدم اللجوء إلى القوة والعنف سواء بالنسبة للمسلمين السجناء من قريش أو في سعي المسلمين لفكاكهم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ).
الثالثة : التطلع لبركة ومنافع دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتنمية ملكة الدعاء عند المسلمين .
الرابعة : إقامة الحجة على الذين كفروا ، وزجرهم عن إيذاء وحبس المسلمين من إخوانهم ، إذ يدل هذا الحبس على حقيقة وهي أن المشركين هم الذين اختاروا الإرهاب وأشاعوه ، ولم يلاقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلا بالصبر والدعاء .
واستطاع الوليد فك وثاقه والخروج من السجن ، وقدم إلى المدينة ، وقيل وصل اليها ماشياً ليكون من بركات دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم نجاة الوليد من السجن فساله النبي عن كل من :
الأول : عياش بن أبي ربيعة .
الثاني : سلمة بن هشام .
قال : (تركتهما في ضيق وشدة وهما في وثاق , رجل أحدهما مع رجل صاحبه) ( ).
عندئذ قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : أنطلق حتى تنزل على القين ، والقين الحداد ويطلق على الصائغ وكل صانع ، والجمع قيون مثل عين وعيون .
وبنو القين من قضاعة .
وهل علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسلام القين بالوحي أم بالأخبار الواردة من مكة والتي يأتي بها الركبان .
الجواب هو الأول ، إذ أن الوليد قدم تواً من مكة وعنده أخبارها وأحوال أهلها والمسلمين منهم خاصة ولكنه لا يعلم باسلام القين .
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انه لم يكتف بالإخبار عن إسلام القين بل أمر الوليد أن ينزل عنده ضيفاً متخفياً بين أهل مكة الذين كان الوليد مسجوناً عند إخوته وأبناء عمه منهم ، فلو ظهر أن القين ليس بمسلم وأفشى أمره لصار خلاف المعجزة وربما دبّ الشك إلى قلب الوليد .
ثم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوليد بأن لا يبقى عند القين إنما يسعى في الوصول إلى عياش وسلمة لينقل لهما رسالة إذ قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فأخبرهما أنك رسول رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بأن تأمرهما أن ينطلقا حتى يخرجا) ( ).
وتلقى الوليد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإستجابة والإمتثال ، ولم يعتذر مع تعدد وجوه الإعتذار منها :
الأول : إذا امسكته قريش فانهم يزيدون من عذابه .
الثاني : في القبض عليه شماتة الأعداء .
الثالث : العناء والتعب الذي لاقاه الوليد في الطريق إلى المدينة .
الرابع : خروجه من السجن قبل وقت قليل .
الخامس : حاجته للبقاء في المدينة ، والصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة اليومية الخمسة .
فبادر الوليد إلى الخروج وتزود بالمتاع والهدايا إلى مكة ، وكان زاده هذا على شعب :
الأولى : آيات القرآن المدنية التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي لم تصل بعد إلى أسماع مسلمي مكة .
الثانية : سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية .
الثالثة : تشرف الوليد بتجديد العهد بلقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : حال العز والأمن التي صار عليها المسلمون في المدينة ، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) .
الخامسة : رسائل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مسلمي مكة ومنها :
الأول : الحث على الصبر ، وهل صبر مسلمي مكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحمل طائفة منهم الحبس فيها من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه أوان نزولها وما بعده خاصة وأن الآية مدنية ، الجواب هو الأول .
الثاني : البشارة بقرب الفرج .
الثالث : الدعوة للثبات على الإيمان .
الرابع : الترغيب بالهجرة .
ووصل الوليد إلى مكة ودخلها ليلاً ، ولم يكن لمكة أسوار أو ابواب لبيان رشحات الأمن من البيت الحرام وجواره ، ثم سعى في الوصول إلى عياش وسلمة .
وعن يحيى بن المغيرة قال (لما خرج الوليد بن الوليد من المدينة الى عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام خرجا جميعا معه وجاء الخبر قريشا فخرج خالد بن الوليد معه نفر من قومه حتى بلغوا عسفان فلم يصيبوا أثرا ولا خبرا عنهم .
وكان القوم قد أخذوا على يد بحر حتى خرجوا على أصح طريق النبي صلى الله عليه وآله و سلم التي سلك حين هاجر الى المدينة) ( ) .
وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يصبح الطريق الذي سلكه في الهجرة إلى المدينة أمنا لمن يتخذه في هجرته , لأن اختياره بالوحي , وترشح البركة عنه .
وفي طريقه إلى البيت الحرام لأداء الحج أو العمرة وفي السفر مطلقا ، وهو من عمومات البركة في السيرة النبوية ونسب إلى القيل أن الوليد أصيب في طريق الهجرة باصبع قدمه فدميت وأنه مات بعد أن وصل إلى المدينة .
(وقد قيل إن الوليد أفلت من قريش بمكة فخرج على رجليه فطلبوه فلم يدركوه شدا ونكبت إصبع من أصابعه فجعل يقول :
هل أنت إلا إصبع دميت … وفي سبيل الله ما لقيت
فمات ببئر أبي عنبة على ميل من المدينة) ( ).
والأصح أن الوليد شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمرة القضية ، وكتب إلى أخيه خالد بن الوليد يدعوه إلى الإسلام ويحثه على الهجرة ، وفي المرسل (عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان، عن الوليد بن الوليد أنه قال: يا رسول الله، إني أجد وحشة في منامي ؟ .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا اضطجعت للنوم فقل: بسم الله، أعوذ بكلمات الله من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون؛ فإنه لا يضرك، وبالحرى أن لا يقربك. فقالها، فذهب ذلك عنه “( ) .
وذكر ابن إسحاق في الحديث بالإسناد عن عبد الله بن عمرو والذي كان يقوم بتعليم هذه الكلمات من بلغ من بنيه ، أما من لم يعقل فيكتبها ويعلقها عليه ، وفي التنزيل [وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ] ( )وفي قوله تعالى [أَنْ يَحْضُرُونِ]أي أن يصيبوني بسوء .
وبينما كان خالد بن الوليد مع عكرمة بن أبي جهل على رأس خيالة المشركين في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة ، وكان خالد على الخيالة في صلح الحديبية التي تفاوض فيها عن قريش سهيل بن عمرو .
تدور الأيام سريعا فيكون خالد بن الوليد مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فتح مكة وجعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الميمنة وأمره بالدخول من أسفل مكة ومعه قبائل قضاعة وسليم وغيرهم ، وأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يغرز رايته عند أدنى البيوت لمنع الخسائر والأضرار ووقوع القتلى .
ولكن عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو قاتلا في نفر خالد بن الوليد بالخندمة مكان في اسفل مكة وكان معهما بنو بكر وبنو الحارث وناس من هذيل وبعض الأحابيش وقتل منهم ثلاثة عشر ، وقيل أربعة وعشرون رجلاً (وجاء خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال النبي : لم قاتلت وقد نهيت عن القتال؟ .
فقال: هم يا رسول الله بدأونا بالقتال، ورشقونا بالنبل، ووضعوا فينا السلاح، وقد كففت ما استطعت، ودعوتهم إلى الإسلام، وأن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فأبوا، حتى إذا لم أجد بداً قاتلتهم، فظفرنا الله عليهم وهربوا في كل وجهٍ يا رسول الله. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قضى الله خيراً) ( ).
لقد أصر بعض رؤساء قريش على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم فتح مكة مع كثرة جيوش المسلمين ومن بين هؤلاء النفر :
الأول : صفوان بن أمية .
الثاني : عكرمة بن أبي جهل .
الثالث : سهيل بن عمرو .
وندبوا قوما معهم فصاروا جماعات وتصدوا لجيوش المسلمين ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أوصى أصحابه بعدم القتال لحرمة مكة .
ومن بين الكفار الذين خرجوا لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم فتح مكة (حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر يعد سلاحاً قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة ويصلح منها، فقالت له أمرأته: لماذا تعد ما رأى؟ .
قال: لمحمد وأصحابه، فقالت: والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء، قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، فقال:
إن تقبلوا اليوم فمالي عله … هذا سلاح كامل وأله
وذو غرارين سريع السلة .
ثم شهد الخندمة مع صفوان وسهيل بن عمرو وعكرمة، فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد ناوشوهم شيئاً من قتال، فقتل كرز ابن جابر بن حسل بن الأجب بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر، وحبيس بن خالد، وهو الأشر بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس أبن حرام بن حبشية بن كعب بن عمرو؛ حليف بني منقذ – وكانا في خيل خالد بن الوليد، فشذا عنه، وسلكا طريقاً غير طريقه، فقتلا جميعاً – قتل خنيس قبل كرز بن جابر؛ فجعله كرز بين رجليه؛ ثم قاتل حتى قتل وهو يرتجز، ويقول:
قد علمت صفراء من بني فهر … نقية الوجه نقية الصدر
لأضربن اليوم عن أبي صخر .
وكان خنيس يكني بأبي صخر؛ وأصيب من جهينة سلمة بن الميلاء من خيل خالد بن الوليد، وأصيب من المشركين أناس قريب من أثنى عشر أو ثلاثة عشر. ثم أنهزموا، فخرج حماس منهزماً؛ حتى دخل بيته، ثم قال لأمرأته: أغلقي علي بابي، قالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندمه … إذ فر صفوان وفر عكرمه
وأبو يزيد قائم كالمؤتمه … وأستقبلتهم بالسيوف المسامه
يقطعن كل ساعد وجمجمه … ضرباً فلا تسمع إلا غمغمه
لهم نهيت خلفنا وهمهمه … لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه) ( ).
وقالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبكي الوليد بن الوليد بن المغيرة :
يا عين فابكي للوليد … بن الوليد بن المغيرة
قد كان غيثا في السني … ين ورحمة فينا وميرة
ضخم الدسيعة ماجدا … يسمو إلى طلب الوتيرة
مثل الوليد بن الولي … د أبي الوليد كفى العشيرة) ( ).
وام سلمة ابنة عم الوليد .
وحينما دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة في عمرة القضية خرج خالد بن الوليد من مكة لئلا يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم يدخلون مكة ويطوفون بالمسجد الحرام بناء ما أتفق عليه في صلح الحديبية يوم كان خالد يحوم بجنوده حول معسكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للإغارة عليهم مع أنهم عزل من السلاح .
وفي شهر حرام وهو شهر ذي القعدة ، وفي عمرة القضية سأل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوليد بن الوليد عن أخيه خالد (لو أتانا لأكرمناه ومثله سقط عليه الإسلام في عقله فكتب بذلك الوليد إلى أخيه خالد فوقع الإسلام في قلب خالد وكان سبب هجرته) ( ).
ويبين التحقيق في إسلام الصحابة مصاديق من المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتجلى في تلقي الناس لآيات التنزيل والدعوة إلى الإسلام .
وقد لاقى الصحابة أشد الأذى ولم يلجأوا إلى العنف بل أظهروا الصبر , فكان سبباً ونوع طريق لإسلام الذين كانوا يؤذونهم ، كما في إنصات خالد بن الوليد لأخيه الوليد , ودخوله الإسلام , ثم صيرورته قائدا .
غزو المشركين لأطراف المدينة عدة مرات إرهاب
لقد قام المشركون بالهجوم على مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نحو متكرر ، ومتعدد في معركة بدر وأحد والخندق إلى جانب غزوهم لأطراف المدينة عدة مرات ، منها غزو كرز بن جابر أطراف وسرح المدينة لإرهاب أهلها ، ونهب الإبل والمواشي التي تعود للأنصار واليهود في شهر ربيع أول من السنة الثانية ، ولم يدركه ، فسميت غزوة بدر الأولى ، وغزوة سفوان وفيها مسائل :
الأولى : المشركون هم الذين قاموا بالغزو .
الثانية : وقعت غزوة المشركين هذه قبل معركة بدر ومن غير أن يتعرض المسلمون لقافلة من قوافل قريش ، ليكون فيه حجة على الذين كفروا ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الثالثة : دلالة هذه الغزوة على أن أصل الإرهاب هم المشركون .
الرابعة : لم يخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ابتداءً إنما دفاعاً واضطراراً ، قال تعالى [فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ] ( ).
وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم تمض عشرة أيام على عودته من كتيبة العشيرة .
الخامسة : لم يطارد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كرز الفهري وأصحابه إلى أطراف مكة إنما اكتفى بالإطمئنان بابتعادهم عن المدينة ، قال تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
السادسة : قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج خلف كرز بن جابر الفهري وحمل اللواء معه الإمام علي بن أبي طالب وكان لون اللواء أبيض .
ومن دلالات خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه منع القتال أو الذهاب بعيداً في مطاردة كرز الفهري ، لبيان معجزة في سيرة الأنبياء ، وهي الدفع بالأقل والوقوف على مقدار الحاجة ، وفيه نبذ للعنف ، وصرف للقتال ، وذم لتعدي المشركين .
وجاءت كتيبة بدر الأولى هذه بعد كتيبة العشيرة والتي لم يقع فيها قتال أيضاً ثم ما لبث كرز الفهري هذا أن دخل الإسلام ، وأغار العرنّيون على لقاح وإبل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أطراف المدينة وقتلوا يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كرزا الفهري بالخروج خلفهم وبعث معه عشرين من الصحابة ، فجاءوا بهم في شهر شوال من السنة السادسة للهجرة ليشيع الأمن في ربوع الجزيرة ويستأصل الإرهاب مثلما نهى الله عز وجل الناس عن وأد البنات عند الولادة وحرمة هذا الوأد ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ).
واستشهد كرز يوم فتح مكة ، إذ كان في خيل خالد بن الوليد فشذ عن الخيل هو وحُبيش بن خالد الكعبي ، فسلكا طريقاً آخر ، وهجم عليهما المشركون فقتل أولاً حبيش .
(فجعله كرز بين رجليه ثم قاتل حتى قتل ) ( ).
لقد بدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد وصوله إلى المدينة المنورة ببناء الدولة وقيامها على التوحيد وأحكام الشريعة ، وأدركت قريش التغيير الحاصل في النفوس ، وتلقي أهل المدينة من الأوس والخزرج واليهود ، هذا البناء بالقبول فاشتد غيظ قريش بسبب هذا العز الذي صار عليه المسلمون ، والمساواة بينهم , وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
الثالث : دخول الرجال والنساء في الإسلام ، وقد تدخل الإسلام البنت قبل أبيها ، والزوجة قبل زوجها ، والأخت قبل أخيها ، لبيان إنشاء نواة الإيمان في كل بيت , ومن غير حاجة إلى اللجوء إلى العنف والشدة والقتال .
حديث (جئتكم بالذبح) مرسل تأريخي لم يثبت
قيل أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قال (جئتكم بالذبح) ولكن القرآن والسنة يدلان على مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرحمة والعفو ، والصبر على أذى الكفار والدعاء لهدايتهم وصلاحهم ، وقد استجاب الله عز وجل له ، وكان أهل البيت يتفاخرون بصفة الرحمة العامة التي بعث الله عز وجل بها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
(وروى انه لما جرى الصلح بين معاوية والحسن قال له معاوية قم فاخطب الناس واذكر ما كنت فيه فقام الحسن فخطب فقال الحمد لله الذى هدى بنا اولكم وحقن بنا دماءكم ألا إن أكيس الكيس التقى وأعجز العجز الفجور وان هذا الامر الذى اختلفت فيه أنا ومعاوية إما أن يكون كان أحق به مني أو يكون حقى وتركته لله ولصلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحقن دمائهم قال ثم التفت فقال [وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( ).
ثم نزل فقال عمرو بن العاص لمعاوية ما أردت إلا هذا.
وروى أبو سعد أنه قال في خطبته أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن على بن أبى طالب أنا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ابن البشير أنا ابن النذير أنا ابن السراج المنير أنا ابن مزنة السماء أنا ابن من بعث رحمة للعالمين أنا ابن من بعث إلى الجن والانس أنا ابن من قاتلت معه الملائكة أنا ابن من جعلت له الارض مسجدا وطهورا أنا ابن من أذهب اللهم عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا .
أنا ابن من كان مستجاب الدعوة .
أنا ابن الشفيع المطاع أنا ابن أول من تنشق عنه الارض ومن يقرع باب الجنة .
أنا ابن أول من ينفض التراب عن رأسه أنا ابن من رضاه رضا الرحمن وسخطه سخط الرحمن أنا ابن من لا يسامى كرما فقال معاوية حسبك يا أبا محمد ما أعرفنا بفضل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا معاوية إن الخليفة من سار بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمل بطاعته وليس الخليفة من دان بالجور وعطل السنن واتخذ الدنيا أما وأبا.) ( ).
لقد كان الكفار في مكة يقومون بتعذيب المؤمنين ، ويؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجاء عقبة بن أبي معيط إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي في البيت الحرام فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقاً( ) شديداً وهو يريد قتله ، مما يدل على أن قريشاً هم الذين كانوا يزاولون الإرهاب ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وأن إرادتهم قتله ليلة الهجرة لم تكن الأولى .
(عن عروة قال قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما كانت تظهره من عداوته فقال لقد رأيتهم وقد اجتمع اشرافهم في الحجر يوما فذكروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا ما رأينا مثل صبرنا عليه سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا وصبرنا منه على أمر عظيم .
فبينما هم في ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فغمزوه ببعض القول فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمضى.
فلما مر بهم الثاني غمزوه بمثلها فعرفتها في وجهه فمضى ثم مر الثالثة فغمزوه بمثلها فوقف ثم قال اتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح .
فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر واقع حتى ان اشدهم فيه وضاءة قبل ذلك ليرفأه بأحسن ما يجد من القول حتى أنه ليقول انصرف يا أبا القاسم راشدا فما أنت بجهول) ( ).
وفي رواية عمرو بن العاص : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي جهل : أنت منهم .
وكانت قريش شديدة الأذى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى فرض صحة الحديث أعلاه فان النبي رد على أشخاص معينين بلغة الإنذار لتحذيرهم من محاربته ولإخباره عن قانون وهو أن محاربته وقتاله لا يجلب لهم إلا القتل ، وهو الذي حصل في معركة بدر والتي كان المشركون هم الذين بدأوا القتال فيها .
لقد كشف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة من علم الغيب وذكرّهم بقانون من الإرادة التكوينية وهو أن محاربة النبي تؤد إلى الإبتلاء والضرر ، ليكون هذا الإنذار من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) لما فيه من الزجر عن الهجوم والقتال ، ولكن الذين كفروا من قريش لم يتعظوا منه .
ولم يثبت هذا الحديث ، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المدينة مع كثرة إيذاء قريش وهجومهم عليها ، وتحول أذى قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى تجهيز الجيوش ، وضعّف الطبراني الحديث ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أيام المعارك والقتال وفي حال عز المؤمنين في المدينة لم يقل مثل هذا التهديد فمن باب الأولوية عدم قوله والمسلمون مستضعفون وهم في مكة ، وقد أكد القرآن هذ الإستضعاف بنعتهم بالأذلة في معركة بدر وما قبلها بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
لقد أخبر القرآن عن الدعاء إبراهيم عليه السلام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقريش والمسلمين عامة بقوله تعالى [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ]( ).
فبينت الآية أن وظيفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي تلاوة آيات القرآن وتعليم آيات القرآن والحكمة والتطهير والتزكية ليفوزوا بشفاعة يوم القيامة .
لقد بيّن القرآن حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على هداية قومه وسعيه من أجل عدم مغادرتهم الدنيا على الكفر ، قال تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ] ( )
ويمكن القول أن مسألة التهديد هذه قضية شخصية بلحاظ الأفراد المخاطبين بها لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أنهم يصرون على التعدي والظلم وقتاله وأنهم سيقتلون في معركة بدر ، فجاء كلامه زاجراً لهم عن القتال ز
وتقدير الحديث : جئتكم بالذبح إن قاتلتموني وأصحابي ) ولكن الحديث لم يثبت .
وجاءت آيات القرآن بحث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الصبر على المشركين ، قال تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ]( ) .
وعندما تم فتح مكة عفا الله عز وجل عن رجالات قريش ، وقد قال (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل الكعبة فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه على نفسه فهو آمن) ( ).
وراوي الحديث هو عمرو بن العاص وكان يومئذ من المشركين وبعثوه للنجاشي للتحريض على مهاجري الحبشة ، ومع هذا لم يذبح ولم يقتل ، إنما صار من أمراء المسلمين .
كما أن الذين خاطبهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كأبي جهل لم يذبحوا إنما قتلوا في معركة بدر ، والنسبة بين القتل والذبح هي العموم والخصوص من وجه .
والمراد من الذبح (قَطْع الحُلْقُوم من باطن عند النَّصيل، ومَوْضِعُه المَذْبَح.
والذَّبيحة: الشّاة المذبُوحة. والذِّبْحُ: ما أُعِدَّ للذَّبْح وهو بمنزلة الذَّبيح والمذبوح.
والمِذْبَحُ: السِّكِّين الذي يُذْبَحُ به.) ( ).
(في تفصيل أحوال القتيل
إذا قتل الإنسان القاتل ذبحاً قيل: ذعطه وسحطه، عن الأصمعي فإذا خنقه حتى يموت، قيل: درعه، عن الأموي فإن أحرقه بالنار قيل: شيعه، عن أبي عمرو فإن قتله صبراً قيل: أصبره فإن قتله بعد التعذيب وقطع الأطراف قيل: أمثله فإن قتله بقود قيل: أقاده وأقصه) ( ).
قانون سابقو المدن والقبائل والعوائل
من مباحث السيرة وتأريخ أيام النبوة نيل سلمان الفارسي لقب سابق الفرس ، وصهيب الراوي سابق الروم ، وقيل بأن أصله عربي ، ولكنه مات وفي لسانه لكنة ولم يعقب .
وعن جابر الأنصاري (قال عمر لصهيب يا صهيب إن فيك خصالا ثلاثا أكرهها لك قال : وما هي .
قال إطعامك الطعام ولا مال لك.
واكتناؤك( ) ولا ولد لك .
وادعاؤك إلى العرب وفي لسانك لكنة .
قال أما ما ذكرت من إطعامي الطعام فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
قال أفضلكم من أطعم الطعام وأيم الله لا أترك إطعام الطعام أبدا .
وأما اكتنائي ولا ولد لي فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :قال لي يا صهيب قلت لبيك قال ألك ولد :قلت لا .
قال اكتني .
وأما ما ذكرت من ادعائي إلى العرب وفي لساني لكنة فأنا صهيب بن سنان حتى انتسب إلى النمر بن قاسط كنت أرى على أهلي وأن الروم أغارت فسرقتني فعلمتني لغتها فهو الذي ترى من لكنتي) ( ).
ومع بدايات دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله صار الناس في مكة يتابعون الأمر وتبدل الحال ، ويستعرضون آيات القرآن ويتدارسونها ويتدبرون في المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد هجرته إلى المدينة إزدادت عناية الناس بالرسالة المحمدية , وتجلى الميل العام لها .
وصار أهل مكة بالنسبة لصلتهم وحالهم من الإسلام على وجوه :
الأول : الذين دخلوا الإسلام وأكثرهم في سن الشباب ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : دخول السيد والعبد في الإسلام مع رضا السيد بالتكافؤ مع العبد في أحكام الإسلام وغبطته وأخيه العبد .
الثالث : ميل طائفة من أهل مكة الإسلام ، وإظهار رغبتهم فيه .
الرابع : عزم طائفة على دخول الإسلام لولا الخشية والخوف من الذين كفروا .
الخامس : إصرار أكثر رؤساء قريش على البقاء على الكفر ، قال تعالى [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( )، وقال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ]( ).
السادس : حسد رجالات قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبني هاشم على مرتبة النبوة السامية التي نالها ، وفي التنزيل [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا]( ).
لقد بدأت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة التي هي عاصمة للعرب آنذاك بفضل البيت الذي قال الله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ] ( ) فيأتيها الناس على مدار أيام السنة من وجوه:
الأول : مجئ وفد الحاج في شهر شوال والأشهر الحرم ذي القعدة وذي الحجة ومحرم , ويغادرون في ذي الحجة وفي شهر محرم ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ).
ومن لم يكن مطلوباً بدم قد يخرج من بيته في شهر شوال قاصداً الحج . أما عند الحروب والفتن فينتظر الناس الأشهر الحرم أو أنهم لا يمرون على أرض غيرهم أو ديار عدوهم إلا في الشهر الحرام ، فجاء الإسلام لينعم أهل مكة وعامة القبائل بالأمن ويسيرون في أرجاء الجزيرة في الأشهر الحل والحرم من غير خشية الثأر والسلب والنهب .
الثاني : مجئ الناس لأداء مناسك العمرة طيلة أيام السنة ، وكان لرؤساء ووجهاء القبائل صلات شخصية مع رجالات قريش ، وينزلون ضيوفاً عليهم عند المجئ إلى مكة , ولما بعث الله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برسالته ، قام رجالات قريش بالإفتراء عليه وصدّ المعتمرين ووفد الحاج عنه ، ونعته بأنه ساحر وأنه كذاب ، وهل هذا النعت من إرهاب كفار قريش الجواب نعم .
وفي قوله تعالى [قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا] ( ) أي موسى وهارون ، ولكن قال مسلم بن يسار عن ابن عباس ({ قَالُوا ساحِرَانِ تَظَاهَرَا }( ) يعني: موسى ومحمدًا، صلوات الله وسلامه عليهما وهذا رواية عن الحسن البصري.) ( ).
(وقال عكرمة: يعنون: التوراة والإنجيل. وهو رواية عن أبي زرعة، واختاره ابن جرير) ( ).
الثالث : مجئ أفراد القبائل التي حول مكة إليها للتسوق والإقتراض من قريش ، ولصلات النسب والمصاهرة ونحوها ، ففي كل زمان يفد رجال القبائل القريبة من المدينة إليها ، وقد انفردت مكة باسم أم القرى ، قال تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ]( ).
ومن معاني أم القرى وكون البيت الحرام [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ] ( ).
أن الناس يأتون إلى مكة , ولابد وأن يدخلوا البيت الحرام ، خاصة وأن قريشاً كانت تجتمع فيه ، وفي دار الندوة الملاصقة له ، فيرى الناس النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وهو قائم يصلي وخلفه خديجة والإمام علي عليه السلام في آية يتناقلها الركبان ، ويتصل الصحابة خفية بالوافدين , ويخبرونهم عن إسلامهم , ولا يضر تشويه وافتراء قريش في الدعوة شيئاً ، إنما هو سبب لعناية الناس بها .
وكما كان هناك أفراد من المؤمنين سبقوا عوائلهم من بيوتات مكة في دخول الإسلام ، فكذا هناك أفراد سبقوا قبائلهم وآخرون سبقوا أهل مدنهم بدخولهم الإسلام .
مثل أبي ذي الغفاري , لبيان أن الإسلام بدء بدخول الأفراد فيه ثم ما لبث الناس أن دخلوا جماعات وأفواجاً ، وهو من الدلائل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم يكن بين الهجرة وسنة الوفود إلا أقل من تسع سنوات ، ونزل قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ) ويدعو هؤلاء السابقون عوائلهم وقومهم لنبذ الإرهاب ، والكشف عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين له ، والإمتناع عن نصرة كفار قريش في غزوهم للمدينة .
قانون الهجرة إلى الحبشة حرب على الإرهاب
لقد جعل الله الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء ، ولاقى الأنبياء وأنصارهم أشد ضروب البلاء فيها وفيه دعوة لأتباعهم بالشكر لله عز وجل على نعمة الأمن والسلامة من الإبتلاء الخاص في بدايات الدعوة والذي يتصف بأمور :
الأول : تكذيب الكفار للنبي ، ونعته بأنه ساحر وأنه كذاب ، قال تعالى [كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى: مواساة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما يلقاه من قريش ورؤسائهم من الأذى في القول والفعل (عن ابن عباس قال : اجتمعت قريش بباب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ينتظرون خروجه ليؤذوه ، فشق ذلك عليه ، فأتاه جبريل بسورة { يس } وأمره بالخروج عليهم ، فأخذ كفاً من تراب ، وخرج وهو يقرأها ويذر التراب على رؤوسهم ، فما رأوه حتى جاز ، فجعل أحدهم يلمس رأسه ، فيجد التراب وجاء بعضهم فقال : ما يجلسكم؟ قالوا : ننتظر محمداً فقال : لقد رأيته داخلاً المسجد قالوا : قوموا فقد سحركم) ( ).
ونعت قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه ساحر لم ينحصر بواقعة وحادثة واحدة بل هو متكرر ومتعدد .
الثانية : دعوة صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والحيلولة دونهم ودون الإرتداد ، فحينما يرمي الذين كفروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسحر فانهم يرومون صدّ الناس عن التصديق بنبوته وإيذاءه وأصحابه .
الثالث : توثيق حقيقة لأجيال المسلمين والناس جميعاً بخصوص إفتراء الكفار على النبوة والمعجزة التي هي رحمة لهم ، وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان القول بأنه ساحر دعوة للناس للتدبر في معجزاته والتأكد منها ، فمع التدبر تنكشف حيلة الساحر وأن كان حاذقاً في فنه ، وقد شاع السحر في أيام فرعون ، وكان الناس يأتون إلى السحرة ويسألونهم حاجاتهم واستعان بهم فرعون بمشورة أعوانه و(اسم فرعون قابوس في قول أهل الكتاب ) ( ) وفي التنزيل [قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ] ( ) .
وجاءت مشورتهم دقيقة بتقييد سنخية الساحر بأنه عليم في إقرار ضمني بما بالمعجزة التي جاء بها موسى عليه السلام فاستمع فرعون لقول وزرائه والملأ من قومه لإدراكه التحدي الذي تتصف به معجزة عصا موسى عليه السلام .
ترى لماذا لم تلجأ قريش إلى السحرة ، الجواب لقد كانت معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية تتجلى في آيات القرآن وتسليم بلغاء العرب بأنها فوق كلام البشر ، وتخلفهم عن معارضتها ,
الرابعة : تفقه المسلمين بأمور الدين وتأريخ النبوة .
الخامسة : ترغيب المسلمين بالصبر ، وعدم اللجوء إلى العنف ومواجهة قريش بالتوبيخ والتبكيت .
لقد أظهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصبر على إيذاء قريش ، وهل كان هذا الصبر عن إجتهاد من النبي ، الجواب لا، إنما هو شعبة من الوحي ، فانعم الله عز وجل عليه وعلى أصحابه بالهداية إلى الهجرة إلى الحبشة ، ولم تكن هذه الهجرة لكل الصحابة ، إنما لطائفة منهم إذ هاجروا على دفعتين .
ووقعت الهجرة الأولى في شهر رجب من العام الخامس للبعثة النبوية ، وكان عدد الذين هاجروا إلى الحبشة أحد عشر رجلاً وأربع نسوة ، وكان أميرهم عثمان بن مضعون ، وقد عاد بعضهم إذ بلغهم أن أهل مكة اسلموا ، ولما تبين عدم صدق الخبر رجع أكثرهم إلى الحبشة .
ولا تختص الحرب على الإرهاب بالفعل فقد تكون بالإعراض عنه , واجتنابه , فلما إزداد إيذاء الذين كفروا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه , أشار على عدد من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مع بعد المسافة , فلا أحد يتوقع أن يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بقطع هذه المسافات والبحار بين مكة والحبشة ليس للسفر القصير بل للإقامة فيها من غير خشية من إجهاز أهلها عليهم سواء لأنهم غرباء أو لأنهم يحملون ديناً جديداً في الأرض تلقاه أكثر رجال عشيرته بالرفض والإمتناع عن تصديقه .
لقد كانت هذه الهجرة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أي أخطار يتعرض لها المهاجرون تكون بمثابة الإحباط , وتضر بالإسلام , وتكون مناسبة لكفار قريش للنيل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتحريض عليه , وفيه حجة على الذين كفروا إذ أنهم حملوا النبي محمداً على دعوة أصحابه للهجرة إلى البلاد البعيدة على نحو الإضطرار لتكون نواة للجغرافية الحضارية للإسلام , والتلاقح الفكري بين الأمم البعيدة ، وحجة بلزوم اجتناب الإرهاب الذي يلقي بضلالة القاتمة على المجتمعات .
ومن معانِ الجغرافية الحضارية في المقام اللغة , والتباين في اللغة بين المهاجرين وأهل الحبشة , وإن كانت في الأخبار الواردة بخصوص هذه الهجرة لم تذكر وجود ترجمان بين النجاشي وجماعة المسلمين , ولا بينه وبين عمرو بن العاص موفد قريش للنجاشي وأساقفتهم عندما سمعوا القرآن وتلاوته .
وحمل على أن العلماء ورجال الدولة في الحبشة يعلمون اللغة العربية خاصة وان الحبشة احتلت لسنوات اليمن .
وكانت التجارة بين قريش والحبشة مستمرة وذكر أن منشأ اللغة العربية والحبشية متقارب وقد ورد في حديث أم سلمة (قال النّجاشيّ : فأنتم سيوم بأرضي ، والسّيوم : الآمنون) ( ).
وذكر أن النجاشي مكث طويلاً في بلاد العرب ، لذا أدرك معاني سورة مريم وسالت دموعه على خديه قال تعالى [وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ]( ) .
لقد كانت اليمن محتلة من قبل الحبشة وأبرهة الأشرم الذي سعى لهدم الكعبة أميراً على اليمن من قبل ملك الحبشة ، ثم صارت اليمن تحت حكم كسرى ملك فارس ، ثم أنعم الله عز وجل على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذهبت طائفة من الصحابة مهاجرين الى الحبشة ليكونوا أول سفراء للإسلام ، ولم يحملوا معهم العنف ، ولم يضمروه للناس ، ولم يتلقاهم أهل الحبشة بالعنف أو الإرهاب أو حتى الطرد .
ومن الحجة في المقام أن قريشاً أرسلت وفداً من دهاتهم وممن خبر الحبشة وسافر لها مرات لأغراض التجارة ليشوهوا سمعة المسلمين عند ملك الحبشة وبطارقته ، ويحثوهم على طردهم ، وردهم معهم إلى قريش فأبى النجاشي طردهم أو إخراجهم من بلاده ، وكان النجاشي يدين بدين النصرانية.
إذ بعثت قريش للنجاشي وبطارقته بهدايا وتحف جزيلة مع كل من :
الأول : عمرو بن العاص .
الثاني : عبد الله بن أبي ربيعة .
ولم يغضب النجاشي ويسخط على المهاجرين لما أخبر به عمرو بن العاص إنما استدعاهم ليسمع منهم ومما زاد من شدة الأمر أنهم دخلوا عليه بحضور وفد قريش فجاءوا فتقدمهم جعفر بن أبي طالب وقال وهم على الباب (يستأذن عليك حزب الله) ( ).
ولما أخبر الحاجب النجاشي بصيغة الإستئذان هذا أمره النجاشي أن يعيد جعفر الإستئذان للتثبت أنه متأكد من الصفة التي حضروا بها ، فاعاده جعفر فلم يغضب النجاشي ، ولم يرض للبطارقة الرضوخ لتحريض عمرو بن العاص وهداياه.
ولم تكن الهجرة الى الحبشة خاصة بطائفة من المسلمين الرجال على نحو الخصوص ، بل كانت معهم مهاجرات إذ هاجروا على دفعتين وكان المجموع:
الرجال : ثلاث وثمانون مهاجراً .
النساء : تسع عشرة مهاجرة( ).
(قال ابن إسحاق فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا بدينهم إلى الله
فكانت أول هجرة كانت في الإسلام
وكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة معه امرأته سهلة بنت سهيل والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ومصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي معه امرأته أم سلمة.
وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح.
وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب بن نفيل معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة.
وسهل بن بيضاء من بني الحارث بن فهر وأبو سبرة بن أبي رهم ويقال بل أبو حاطب بن عمرو ويقال هو كان أول من قدمها وكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة منهم من خرج بأهله ومنهم من خرج بنفسه فكان جميع من لحق بأرض الحبشة من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا أو ولدوا بها ثلاثة وثمانين رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم وهو يشك فيه) ( ).
لقد ترك المهاجرون جوار البيت الحرام وأعرضوا عن ذويهم وأموالهم فهاجروا بدينهم لأولوية سلامته ولتكون هذه الهجرة موعظة للمسلمين في ترك العنف والبطش إذا ثنيت لهم الوسادة ، وهل هو من مصاديق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) ( ), الجواب نعم .
لقد صار المهاجرون يعبدون الله في الحبشة من غير خوف أو وجل ، ولم يأتهم إرهاب من أحد ، وهو آية وفضل من عند الله عز وجل ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) .
ومن الحجة والتوثيق التاريخي لهذه النعمة قيام بعض المهاجرين بنظم الشعر في الثناء على النجاشي وتلطفه عليهم ، وحسن جواره وقومه للمهاجرين وسمي هذا الشعر (شعر الهجرة الحبشية ) .
وقال عبد الله بن الحارث بن قيس وهو من المهاجرين إلى الحبشة
(يَا رَاكِبًا بَلّغَن عَنّي مُغَلْغَلَةً … مَنْ كَانَ يَرْجُو بَلَاغَ اللّهِ وَالدّينِ
كُلّ امْرِئِ مِنْ عِبَادِ اللّهِ مُضْطَهَدٍ … بِبَطْنِ مَكّةَ مَقْهُورٍ وَمَفْتُونِ
أَنّا وَجَدْنَا بِلَادَ اللّهِ وَاسِعَةً … تُنْجِي مِنْ الذّلّ وَالْمَخْزَاةِ وَالْهُونِ
فَلَا تُقِيمُوا عَلَى ذُلّ الْحَيَاةِ وَخَزَ … ي فِي الْمَمَاتِ وَعَيْبٍ غَيْرِ مَأْمُونِ
إنّا تَبِعْنَا رَسُولَ اللّهِ وَاطّرَحُوا … قَوْلَ النّبِيّ وَعَالُوا فِي الْمَوَازِينِ
فَاجْعَلْ عَذَابَك بِالْقَوْمِ الّذِينَ بَغَوْا … وَعَائِذًا بِك أَنْ يَعْلُوا فَيُطْغُونِي
وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ أَيْضًا ، يَذْكُرُ نَفْيَ قُرَيْشٍ إيّاهُمْ مِنْ بِلَادِهِمْ وَيُعَاتِبُ بَعْضَ قَوْمِهِ فِي ذَلِك :
أَبَتْ كَبِدِي لَا أَكْذِبَنك قِتَالُهُمْ … عَلَيّ وَتَأْبَاهُ عَلَيّ أَنَامِلِي
وَكَيْفَ قِتَالِي مَعْشَرًا أَدّبُوكُمْ … عَلَى الْحَقّ أَنْ لَا تَأْشِبُوهُ بِبَاطِلِ
نَفَتْهُمْ عِبَادُ الْجِنّ مِنْ حُرّ أَرْضِهِمْ … فَأَضْحَوْا عَلَى أَمْرٍ شَدِيدِ الْبَلَابِلِ
فَإِنّ تَكُ كَانَتْ فِي عَدِيّ أَمَانَةٌ … عَدِيّ بْنِ سَعْدٍ عَنْ تُقًى ، أَوْ تَوَاصُلِ
فَقَدْ كُنْت أَرْجُو أَنّ ذَلِكَ فِيكُمْ … بِحَمْدِ الّذِي لَا يُطّبَى بِالْجَعَائِلِ
وَبَدّلْت شِبْلًا شِبْلَ كُلّ خَبِيثَةٍ … بِذِي فَجْرٍ مَأْوَى الضّعَافِ الْأَرَامِلِ) ( ).
ثم جاءت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة لبيان مدرسة الإيواء في الإسلام وإنتفاء العنف والإرهاب في المدينة ، ولم يكن أهلها كلهم أو أكثرهم مسلمين عند هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليها فقد كان شطر من الأوس والخزرج على الكفر ودين الجاهلية ، وكان فيها اليهود وهم أصحاب كتاب ، فبنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسجداً وسط المدينة وصار هو وأصحابه يؤدون الصلاة فيه خمس مرات في اليوم ، لتكون هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نصراً على الإرهاب.
ولقد سمّى الله عز وجل الهجرة نصراً ، قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
فهل هذه الهجرة نصر على إرهاب قريش .
الجواب نعم , لقد نسبت الآية أعلاه إخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للكافرين ، فمثلاً أسند الله عز وجل خروج آدم من الجنة إلى ابليس بسوء غوايته ، قال تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( ) فكذا بالنسبة لهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أراد المشركون قتله في ليلة الهجرة ، لبيان قانون وهو أن الإرهاب لا يؤدي إلى النفع العام أو الخاص ، وفيه ضرر من وجوه :
الأول : نفرة النفوس من الإرهاب .
الثاني : استهجان الناس للإرهاب .
الثالث : نصرة الله عز وجل للذين يتعرضون للإرهاب ظلماً .
الرابع : فتح أبواب الرزق الكريم للناس .
فلا تقدر يد الإرهاب أن تغلق بابا من أبواب فضل الله ، نعم تقع ضحايا للإرهاب ، وتزهق نفوس وقد تدمر ممتلكات ، ولكن الضرر الذي يجلبه الإرهاب على أصحابه أكثر.
لقد كانت هجرة طائفة من الصحابة إلى الحبشة ثم هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وطائفة أخرى من أصحابه إلى المدينة مدرسة في إتخاذ الصبر سلاحاً للحرب على الإرهاب ، وحجة بأن الإعراض عن الإرهاب سبيل لمحقه ، ولا يعني هذا السكوت عن الإرهاب.
(عن البراء بن عازب قال : اشترى أبو بكر من عازب رحلاً بثلاثة عشر درهماً فقال لعازب : مر البراء فليحمله إلى منزلي . فقال : لا ، حتى تحدثنا كيف صنعت حيث خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنت معه؟ .
فقال أبو بكر: خرجنا فأدلجنا فأحثثنا يوماً وليلة حتى أظهرنا ، وقام قائم الظهيرة فضربت ببصري هل أرى ظلاً فآوي إليه ، فإذا أنا بصخرة فأهويت إليها فإذا بقية ظلها فسوّيته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفرشت له فروة وقلت اضطجع يا رسول الله فاضطجع ، ثم خرجت أنظر هل أرى أحداً من الطلب , فإذا أنا براعي غنم ، فقلت : لمن أنت يا غلام.
فقال : لرجل من قريش ، فسماه فعرفته فقلت : هل في غنمك من لبن؟ قال : نعم .
فقلت : وهل أنت حالب لي ؟ قال : نعم .
قال : فأمرته فاعتقل لي شاة منها ، ثم أمرته فنفض ضرعها من الغبار ، ثم أمرته فنفض كفيه ومعي اداوة على فمها خرقة فحلب لي كثبة من اللبن ، فصببت على القدح من الماء حتى برد أسفله .
ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوافقته قد استيقظ ، فقلت : اشرب يا رسول الله ، فشرب حتى رضيت ، ثم قلت : هل آن الرحيل.
قال : فارتحلنا والقوم يطلبونا فلم يدركنا منهم إلا سراقة( ) على فرس له ، فقلت : يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا فقال : لا تحزن إن الله معنا حتى إذا دنا فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين أو ثلاثة ، فقلت : يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت ، قال : لم تبك فقلت : أما والله لا أبكي على نفسي ولكني أبكي عليك.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : اللهمَّ اكفناه بما شئت : فساخت فرسه إلى بطنها في أرض صلد ووثب عنها .
وقال : يا محمد إن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه ، فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب وهذه كنانتي فخذ منها سهماً فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا حاجة لي فيها ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأطلق ، ورجع إلى أصحابه ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة .
فتلقاه الناس فخرجوا على الطرق وعلى الأجاجير واشتد الخدم والصبيان في الطرق ، الله أكبر جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محمد ، وتنازع القوم أيهم ينزل عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنزل الليلة على بني النجار أخوال عبد المطلب لأكرمهم بذلك . فلما أصبح غدا حيث أُمر) ( ).
ومن معاني الهجرة أنها إعراض عن كل من :
الأول : لغة التهديد والوعيد سواء من كفار قريش أو التهديد المقابل .
الثاني : الحصار على النبي محمد صلى الله وآله وسلم وأصحابه .
الثالث : الملاحاة بين الرجال ، قال تعالى [اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
الرابع : السخرية من التنزيل .
الخامس : التضييق على الدعوة إلى الله عز وجل .
السادس : لقد بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة بجوار البيت الحرام , الذي جعله الله عز وجل [مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا] ( ), أي يثوب ويرجع إليه الناس من كل مكان وهو أمان لهم جميعاً , ليكون من باب الأولوية أمناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللتنزيل .
السابع : تعذيب المسلمين , فمن منافع الهجرة السلامة للمسلمين والمسلمات بانفسهم ودينهم , أما الاموال فقد تركوها خلفهم يبغون مرضاة الله عز وجل , وليكون هذا الترك حجة على كفار قريش , وإنذاراً لهم بأن الأموال التي يقاتلون من أجلها ويسخرونها في القتال لا قيمة لها في مقابل عقيدة التوحيد , وفيه نبذ للإرهاب ومنع العنف والقتال .
الثامن : إرهاب قريش , فبعد أن أعلن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبوته صارت قريش تنشر الخوف والفزع في مكة , وهذا التخويف موجه لكل من .
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كانت قريش تصر على كفه عن الدعوة إلى الله عز وجل , وقضى الله عز وجل بلزوم توالي دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل .
الثاني : محاصرة قريش لبني هاشم ، والتضييق الإقتصادي والإجتماعي عليهم ليتخلوا عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد أصاب أهل البيت بسبي حصار قريش لهم الجوع والعطش , وصار الصبيّان منهم يتقاسمان التمرة الواحدة , ويفوز التي تكون نواتها من حصته لتمر الأيام وينعم الله عز وجل عليهم بالخمس , قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) .
الثالث : قيام قريش بتخويف الصحابة من الرجال والنساء , والأصل أن العرب يتجنبون إيذاء المرأة والتعرض لها , وكانوا لا يؤاخذونها على لسانها , ومع هذا فقد مارست قريش أشد أنواع الأذى وجرائم الكراهية ضد النساء , والعنف القائم على نوع الجنس , وأصروا على أمر جامع من جهات .
الأولى : العنف والكراهية .
الثانية : الشدة والغلظة والبطش .
الثالثة : التعذيب للنساء المسلمات .
الرابعة : حبس الآباء للأبناء المسلمين ذكوراً أو أناثاً .
الخامسة : التعذيب الجسدي للمسلمين.
تعلم وتعليم القرآن يطرد الإرهاب
لقد جعل الله سبحانه الإنسان يتصف بنعمة العقل وسهولة غلبته على الشهوة في القول والعمل ، ويحضر العقل عند الهّم بالفعل ، ويمنّ الله عز وجل على الإنسان بالذاكرة والبرهان لإختيار الفعل الأفضل والأقوم في ميدان العمل.
ومن خصائص اتباع العقل تغشي الطمأنينة لمن يتبعه ، فيبعده عن الفحشاء والمنكر ، ويشار لصاحب العقل بالحكمة ويثني الناس عليه ، وليس من ثناء على الإرهابي سواء أثناء الفعل أو بعده ، ولا عبرة بتزيين نفسه ، وقد جاء القرآن بالإنذار من الإضرار بالناس .
قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] ( ) ليكون من مصاديق الإنذار في الآية أعلاه ، الإنذار من الإرهاب من جهات :
الأول : الإنذار من مقدمات الإرهاب .
الثاني : المنع من التحريض على الإرهاب .
الثالث : التخويف من الفعل الإرهابي يوم القيامة .
الرابع : أخذ الحائطة من الإرهاب .
الخامس : لزوم التعاون بين المؤسسات والأشخاص للوقاية من الإرهاب.
ويبدأ هذا التعاون من التعليم ، وهل تعليم القرآن حرز من الإرهاب الجواب نعم لما فيه من الدعوة إلى التقوى والصلاح ، والنهي عن الفساد وسفك الدماء .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا معاذ إن أردت عيش السعداء وميتة الشهداء والنجاة يوم المحشر والأمن يوم الخوف والنور يوم الظلمات , والظل يوم الحرور , والري يوم العطش , والوزن يوم الخفة والهدى يوم الضلالة فادرس القرآن فإنه ذكر الرحمن وحرز من الشيطان , ورجحان في الميزان( ).
ومن إعجاز القرآن الغيري أن تعلمهً يأتي من وجوه :
الأول : النية وقصد تعلم القرآن ومعاني تفسيره .
الثاني : إنطباق التعليم على الواقع من غير طلب لهذا التعليم كما في تلاوة القرآن في الصلاة والإنصات اليه ليكون من المعاني السامية والمقاصد الحميدة.
الثالث : التعليم القهري بسماع آيات القرآن أيضاً ، وعند الإبتلاء في أمور الدين والتدبر في آيات القرآن وما تتصف به من الحكمة وكيف أنها علاج وشفاء وحرز لبيان قانون وهو أن الملازمة بين الحياة الدنيا والتعلم والإنتفاع من القرآن والكتب السماوية المنزلة ، وهو من عمومات قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : خيركم من تعلم القرآن وعلّمه( ).
لبيان قانون وهو أن كلاً من تعلم القرآن وتعلمه حرز من الإرهاب ودعوة للناس للتعاون لإجتثاثه من الأرض سواء كان باسم ملة أو قومية أو طائفة ، ومن مصاديق ملكية الله عز وجل للأرض ، وخلافة الإنسان فيها أن كل أهل ملة يتبرأون من الفعل الإرهابي ليكون كالسفينة التي تغرق بصاحبها ، والجماعة التي ينتمي إليها ، وهو من الشواهد على قانون خلافة الإنسان في الأرض .
فما دامت هذه الخلافة من عند الله فلابد أنها تتقوم بالصلاح والإصلاح ، ورفض درن الإرهاب ، ونبذ أفعال السوء .
لقد قال الله تعالى للملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ] ( )، فكان نصب خليفة الأرض وتعيين الإنسان لأعظم مقام تشريفي فضلاً من عند الله وإبتداء منه سبحانه وهو من مصاديق قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، بلحاظ أن خلق الإنسان وخلافته آية في الخلق والنظام الكوني والإجتماعي ، وهو أعم من البديع المعنوي في اصطلاح علم البلاغة أي مراعاة النظير , والجمع بين أمرين بينهما نوع تناسب كما في قوله تعالى [الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ]( )، فليس من تضاد بين الشمس والقمر ، فكلاهما آية من عند الله تبعث الضياء والنور .
ويمكن تسمية الحياة الدنيا بأنها دار التعلم إذ يكتسب الإنسان في كل يوم المعارف ، ويزداد خبرة ، وتأتيه الموعظة طوعاً وقهراً ، مما يلاقيه ، والعبرة والإتعاظ من غيره من وظيفة حاسة السمع والبصر ، والأولى أكثر نفعاً في المقام ، إذ يتعظ الإنسان مما يسمعه من القصص والوقائع أكثر بكثير مما يراه ، وتشارك حاسة السمع البصر في الوقائع الحادثة ، بينما لا يشارك البصر السمع في أخبار الماضيين ، وان كان المختار أن البصر أكثر أهمية ونفعا مطلقا .
وجاء العلم الحديث بتقريب قصص الماضين بالتشبيه المرئي والشواهد والصور , وهو من عمومات قوله تعالى [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ).
وتفضل الله عز وجل وجمع بين الآيتين بقوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( )، وبأسباب النزول ، وتوثيق الوقائع التي صاحبت نزول آيات القرآن .
والنسبة بين تعلم القرآن وتعليمه هي أقرب إلى نسبة الأصل والفرع ، فالتعليم فرع التعلم , ومن يقوم بالتعليم عليه السعي في تعلم القرآن واكتساب معارفه ، وصيغ الإعجاز فيه.
ومن الإعجاز في أحكام الشريعة الإسلامية تلاوة كل مسلم ومسلمة لآيات القرآن على نحو الوجوب العيني ، لتكون هذه التلاوة تعلماً وتأديباً وإصلاحاً .
و(عن عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة فقال : من استعملت على هذا الوادي ؟ قال : ابن أبزى , قال : ومن ابن أبزى ؟ .
قال : مولى من موالينا قال : فاستخلفت عليهم مولى قال : إنه لقارىء لكتاب الله , وإنه لعالم بالفرائض .
قال أما إن نبيكم قد قال : إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما , ويضع به آخرين) ( ).
فذات التلاوة مدرسة في الأخلاق الحميدة ، وتثبيت سنن العبادة في النفس والمجتمع ، وفيها تعلم لصيغ قهر الإرهاب ، والمنع منه بالنص القرآني وحجة الظهور ، والإرادة الإستعمالية للفظ.
ومن إعجاز القرآن خلوه من التزاحم أو التعارض في المعاني والدلالة لبيان قانون وهو أن مضامين القرآن تنهى عن الإرهاب والعنف وإيذاء عامة المجتمع بلحاظ كبرى كلية وهي أن الإرهاب وان وقع بمكان محدود وبخصوص فرد أو أفراد معينين من جهة الفاعل والذي يقع عليه الفعل الإرهابي ، لكن الأذى والكدورة تتغشى الناس جميعاً.
وهو من الشواهد على القبح الغيري للإرهاب ، ولزوم التعاون في التعلم والتعليم لإحتراز الناس من الإرهاب.
ولا يختص هذا الإحتراز بالذين يتعلمون القرآن أو الذين يعلمونه إنما تشمل منافع تعليم القرآن في المقام الناس جميعاً وهو من مصاديق كون القرآن مائدة السماء .
وتعم منافعه الناس جميعاً ، فهو كالغيث والماء النازل من السماء ، فان قلت من الناس من يقوم بالعمل الإرهابي وهو من أتباع القرآن والجواب هناك خطأ في المدرك والمبنى عنده وهنا تأتي موضوعية التعلم والتعليم السليم والخالي من أسباب الغلو والتطرف وهذا التعلم جلي وبسيط .
فمن إعجاز القرآن إجتماع جزالة الألفاظ مع وضوح المعنى ، والخلو من اللبس .
لذا فان تلاوة المسلمين اليومية للقرآن منهاج قويم لتعلم القرآن والسنن الحميدة ، وهو قانون سماوي يعصم المسلمين والمسلمات من الإرهاب ، ويدفع عنهم شروره ، ويبدأ المسلم القراءة في الصلاة بقول بسم الله الرحمن الرحيم ليدرك قانوناً من الإرادة الكونية وهو أن اسم الله وإتصافه تعالى بالرحمة شفاء للقلوب المريضة ، وهو الذي يبسط الرزق ويدعو الناس كل يوم للتوبة ويقربهم بلطفه إلى الهدى والإيمان .
وما دام الإنسان في الحياة الدنيا فان التوبة والصلاح قريبان منه، لذا فانه لا يستحق الإرهاب ، إنما يُدعى إلى الصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عسى أن تدركه التوبة .
وليس من فرد أو جماعة يستطيعون أن يبدلوا منهاج الحياة إذ أنها دار عبادة الله وهذه الصفة من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) فهو ملك مشيئة وإقتدار ورحمة .
ويمنع الله عز وجل أفكار الناس العامة من الضلالة ويحول دون إستحواذ الغواية والإرهاب عليهم , وهو من عمومات ما ورد (عن جابر قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك . قلنا : يا رسول الله تخاف علينا وقد آمنا بك؟ .
فقال : إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يقول به هكذا .
ولفظ الطبراني : إن قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الله عز وجل ، فإذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه.) ( ).
وهل الإرهاب نوع بلاء بما يستحدثه الناس من الذنوب والمعاصي , الجواب لا , إذ تبين قصص القرآن كيف أن شيوع المعاصي عند قوم سبب لنزول البلاء بهم ، وهناك فرق بين وقوع البلاء ونزول العذاب .
فقد ينزل البلاء والمصيبة بالمؤمن وغير المؤمن ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ] ( ) لبيان أن البلاء قد ينزل بالمؤمنين وهو مناسبة للتسليم بأمر الله عز وجل ، والثناء على الله والشكر له سبحانه .
أما العذاب فانه ينزل على الذين كفروا كما في قوم هود إذ إبتلاهم الله بالريح العقيم , وثمود قوم صالح إذ هلكوا بالصيحة .
وقوم نوح إذ أغرقوا بالطوفان .
وفي قارون قال تعالى [فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ] ( ).
وقد أوحى الله عز وجل إلى موسى أني قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه وفي أتباعه ، أي أن الأذى مقيد ومحصور بخصوص قارون وأصحابه .
عندئذ قال موسى (يا أرض خذيهم حتى تم بهم الخسف) ( ).
وقد عذّب الله عز وجل قوم لوط بأشد العذاب لإرتكابهم الفاحشة ، وإكتفاء الرجال بالرجال وقلة الناهين عن هذا الفعل المنكر .
وحينما رآى لوط الملائكة وعلم بأنهم جاءوا لهلاك أرباب الفاحشة سألهم أهلاكهم فوراً ، ولكن جبرئيل قال له [إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ] ( ) لبيان مسألة وهي خروج لوط وأهل بيته من القرية ، وهذه المدة في جوف الليل فرصة للتوبة والإنابة .
(عن مجاهد في قوله { فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها }( )قال : لما أصبحوا عدا جبريل على قريتهم فنقلها من أركانها ، ثم أدخل جناحه ، ثم حملها على خوافي( ), جناحيه بما فيها ، ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ، ثم قلبها فكان أول ما سقط منها سرادقها ، فلم يصب قوماً ما أصابهم إن الله طمس على أعينهم ، ثم قلب قريتهم وأمطر عليهم حجارة من سجيل .
وأخرج ابن جرير عن السدي قال(لما أصبح قوم لوط، نزل جبريل فاقتلع الأرض من سبع أرضين، فحملها حتى بلغ بها السماء، حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم، وأصوات ديوكهم، ثم قلبها قوله { وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى }( ).
ومن لم يمت حين سقط للأرض، أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة، ومن كان منهم شاذا في الأرض يتبعهم في القرى، فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله، فذلك قوله عز وجل: { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ }( ) أي: في القرى ( حجارة من سجيل) ( ).
وأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح . أن جبريل عليه السلام أتى قرية لوط فأدخل يده تحت القرية ، ثم رفعها حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح الكلاب وأصوات الدياك ، وأمطر الله عليهم الكبريت والنار( ) .
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن. أن جبريل عليه السلام اجتث مدينة قوم لوط من الأرض ، ثم رفعها بجناحه حتى بلغ بها حيث شاء الله ، ثم جعل عاليها سافلها .
و( اجتث الشيء اقتلعه ، وجث الشيء قلعه ، والجثة شخص الإنسان قاعداً وقائماً . وقال لقيط الأياري : هو الجلاء الذي يجتث أصلكم … فمن رأى مثل ذا آت ومن سمعا) ( ).
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : حدثت أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام إلى المؤتفكة ، مؤتفكة قوم لوط فاحتملها بجناحه ، ثم صعد بها حتى أن أهل السماء ليسمعون نباح كلابهم وأصوات دجاجهم ، ثم اتبعها الله بالحجارة يقول الله تعالى [فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ] ( ), فأهلكها الله ومن حولها من المؤتفكات ، فكن خمساً صنعة , وصغرة , وعصرة , ودوماً وسدوم ، وهي القرية العظمى .) ( ).
ويمكن انشاء قانون وهو كل قصة قرآنية زاجر عن الإرهاب مطلقا , والموجه باسم الدين أو الموجه ضد الدين ، إذ تبين هذه القصص سوء عاقبة الإرهاب سواء كان صدوره من شخص.
أو جماعة , قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ) .
وتبين قصص القرآن حاجة الناس إلى البر والعدل والإنصاف ، وجعل الناس يعيشون بأمان وسلم مجتمعي ، ويجب ألا يؤدي إلى الشحناء والسخط الذي يستولي على الجوارح ، وإلى الخصومة والهجران ، فالإنسان في الجدال على وجوه :
الأول : صاحب حق .
الثاني : الذي يعتمد المغالطة .
الثالث : الذي يستند إلى مبنى خاطئ من غير عمد .
وليكون الفيصل هو الدليل والبرهان ثم أن بقاء طرف على رأيه وإن كان مخالفاً للبرهان يجب ألا يفسد للود قضية ، إذ أمنه طريق لإقامة الحجة عليهم ، فقد وقع بين ولدي آدم اختلاف ويمكن تداركه ومعالجته ، ولكن قابيل توعد أخاه هابيل بالقتل وصار يلاحقه ويتحين الفرص لقتله ، ويحرضه ابليس على قتله ، إذ هبط ابليس مع آدم وحواء من الجنة وهو ناقم عليهما بعد أن نفخ الله من روحه في آدم ، وأمر الملائكة بالسجود لآدم ، وصيرورة إمتناع إبليس عن السجود له علة لإخراجه مطروداً منبوذاَ من الجنة , وفي التنزيل [قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ]( ).
لقد شاء الله أن يكون شأن خبيث لابليس في أول عمل إرهابي في الأرض لتحذير الناس من الإرهاب ، وللمنع من تفاقم الإختلاف وصيرورته عداوة, قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ), ليكون ذكر قصة ولدي آدم في القرآن زاجراً عن سفك الدماء .
قانون الإختلاف رحمة
من سنن الحياة الدنيا ، الاختلاف بين الناس وهو باب للحوار والتفاهم وغلبة العقل على الهوى ، وإنتفاع الناس بعضهم من بعض بما فيه الأجر والثواب قال تعالى [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ]( )، وتصاحب الإختلاف معاني الرحمة والسماحة ، ولكن أهل الباطل يختارون القهر والإنتقام.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها لم تقيد أو تحصر موضوع الإختلاف فيحتمل وجوهاً :
الأول : حصر الإختلاف بين الملل والأديان , وهو المتبادر الى الأذهان.
الثاني : وقوع الإختلاف بين الناس في أكثر المسائل .
الثالث : نجاة الذين تتغشاهم رحمة الله من الإختلاف , وهم كثير.
والمختار هو الأخير فتجد الإختلاف بين الناس في أمور الدين والدنيا ، وقد يقع الإختلاف في التفسير والتأويل.
وصحيح أن الآية وردت بصيغة الجمع إلا أنها تتضمن معنى واحتمال وقوع الإختلاف بين اثنين أو أكثر .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه ورد البيان والتفصيل في الآية التالية لها قال تعالى [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ).
وأختلف في المراد في موضوع الخلق في الآية على وجوه :
الأول : المراد الإختلاف ، عن الحسن البصري( ).
الثاني : انحصار الإختلاف بأهل الباطل ، ونزول الرحمة للمؤمنين ، وتقدير الآية : ولا يزال الذين كفروا مختلفين إلا من رحم ربك وهم أهل الحق.
الثالث : علة الخلق هي الرحمة والعبادة ، للزجر عن الإختلاف وما يترشح عنه.
الرابع : عن ابن عباس في الآية أعلاه (لا يزالون مختلفين) في الهوى( ).
ومن خصائص الإختلاف بقاء الهدى ، وتوارث الإيمان ، وصيغ الدعوة الى الله بحسب الحال والمناسبة , قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وهناك تباين بين الإختلاف والفتنة ، فالإرهاب فرع الفتنة ، والأصل أن لا يؤدي الإختلاف إلى الفتنة ، وهو ليس من مقدماتها بدليل الآية أعلاه ، إنما يكون من الإبتلاء في الحياة الدنيا ، وأسباب الهداية والرشاد ولابد من التعاون بين الدول والمؤسسات التربوية والإعلامية ومنظمات المجتمع المدني لتنمية آداب الإختلاف ، ومنع تفاقم الأمور الى ما هو عدوان وشر.
وتدل الآية أعلاه على هذا المعنى وتبين سنخية المجتمعات وماهية الصلة بين الشعوب والأمم ولزوم عدم النفرة من الإختلاف وتنهى عن وضع القيود الشديدة عليه.
وجاء قوله تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ]( )، بصيغة المضارع لإفادة التجدد في الإختلاف بين الناس ، وأرباب المذاهب والملل.
وفي حديث (جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة) .
ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني والديلمي في مسنده بلفظه سواء، وجويبر ضعيف جداً، والضحاك عن ابن عباس منقطع)( ).
وقيل أن حديث : اختلاف امتي رحمة ) موضوع ومكذوب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من أقره ، ومنهم من حمله على اختلافهم على العلماء في طلب الفتي والسؤال عن أحكام الشريعة .
ومنهم من أشكل على الحديث بلحاظ مفهومه ، أي إذا كان المنطوق أن الإختلاف رحمة فان الإجتماع عذاب وضرر , ولا تصل النوبة إلى هذا المعنى ومفهوم المخالفة .
إنما المراد من الرحمة في الإختلاف هي تبادل الآراء المختلفة وتلاقح الأفكار ، وبلوغ مراتب الهدى والحق.
مع الإرتكاز إلى اتحاد جهة الصدور عن الكتاب والسنة.
وعن عبد المؤمن الانصاري، قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام : إن قوما يروون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: اختلاف أمتي رحمة فقال : صدقوا. فقلت: إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ، قال: ليس حيث تذهب وذهبوا، إنما أراد قول الله عزوجل [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( )، فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ويختلفوا إليه، فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم، إنما أراد اختلافهم من البلدان ليس اختلافاً في دين الله، إنما الدين واحد( ).
لقد جعل الله عز وجل الإختلاف فيها من مصاديق كل من :
الأول : الإبتلاء .
الثاني : الإختبار .
الثالث : الإمتحان.
ليكون الإختلاف سبيلاً للثبات في مقامات الإيمان ، وهداية الناس لسبل الرشاد ، وهو طريق لكشف الحقائق وبيان مصاديق العدل واثبات الربوبية لله عز وجل ، وفضح الباطل ، وصيغ الشرك بالله عز وجل ، إذ يميل الإنسان بالفطرة إلى الصواب والحق ، ليكون الإختلاف على وجوه :
الأول : إنه مناسبة للجدال وتنمية ملكة الإحتجاج عند المؤمنين .
الثاني : تثبيت الحقائق.
الثالث : نزع فتيل الفتنة ، والمنع من تأجج الخصومة والنزاعات .
ومن معاني الرحمة في الإختلاف أمور :
الأول : موضوع الإختلاف وان يكون ضمن العقل وملائمته للحكمة واستحضار الدليل .
الثاني : صيغة وكيفية الإختلاف ، وأنه لا يتعدى الضوابط الشرعية والعقلية والأخلاقية .
الثالثة : حرمة إتخاذ العنف والإرهاب وسيلة في الإختلاف وآلة للخصومة .
قانون التخفيف محاصرة للإرهاب
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة ، وهي دار ابتلاء وإمتحان يتوجه الحق والباطل فيها إلى الإنسان , وكل فرد منهما يريد أن يجذبه إلا أن الجهة التي يقصدها الحق هي العقل ، والجهة التي يريد الباطل إغواءها هو النفس الشهوية ، ونتيجة الصراع جلية بغلبة الحق إلا من أصر على اتباع الهوى ، قال تعالى [أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً]( ).
وهذا التمايز بين الحق والباطل ، ورجحان كفة الحق وميل الإنسان إليه من فضل الله عز وجل على الناس بالتخفيف عنهم ، فلا يختص هذا التخفيف بأمور العبادات وأداء المناسك .
بل يشمل اليقينيات التي تفيد الإعتقاد الجازم المطابق للواقع والذي لا يحتاج إلى التقليد ولا يدّب إليها الترديد لأسباب الشك ، ولا يحتمل النقيض ، وأصولها هي :
الأولى : الأوليات : وهي التي يصدق بها العقل لذاتها من غير سبب خارج عن ذاتها مثل : الناس ذكور وأناث , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
الثانية : المحسوسات : وتسمى أيضاً المشاهدات وهي التي يدركها العقل بواسطة آلة الحس مثل البصر والسمع والذوق والشم واللمس فتدرك آلة البصر بأن الشمس مضيئة.
وقد يشترك السمع والبصر في الفرد المتحد من العبادات وهو من الإعجاز في التشريع مثل أوان صلاة المغرب إذ يرى الإنسان سقوط قرص الشمس ، ويسمع الأذان نعم هناك فارق رتبي فسقوط القرص آية كونية ثابتة والأذان فعل من الإنسان قد يكون في أوان الصلاة ، وربما يكون الإنسان في موضع ومحل ليس فيه أذان.
الثالثة : التجريبيات : وهي التي يدركها العقل بواسطة التكرار والوجدان ، مثل إطلالة الهلال كل شهر ، وصيرورة القمر بدراً وسط الشهر .
الرابعة : المتواترات : وهي التي تسكن إليها النفس ويحصل معها القطع والجزم مثل وجود البحار وإن كانت بعيدة عنا ، ونزول الكتب السماوية من عند الله سبحانه .
الخامسة : الحدسيات : والتي تتجلى بحدس قوي في النفس ، وتكون حاضرة بالوجود الذهني، مثل إجتماع الغيوم من الأغبرة المتصاعدة من البحار .
السادسة : الفطريات : وهي تكون قياساتها معها ، ولا تستلزم الطلب والنظر والكسب ، فحالما يتم تصور المطلوب أو أطرافه يتبادر إلى الذهن التصديق به كما لو قلنا أن الاثنين نصف الأربعة ، فهو وان احتاج إلى الطرح والقياس إلا أنه حاضر في الذهن لا يتطلب التفكير والتأمل.
ويتجلى التخفيف في أصول اليقينيات أعلاه ، إذ جعله الله عز وجل رحمة للناس.
وهل يمكن القول أن الحياة الدنيا (دار التخفيف) الجواب نعم ، فما من شيء إلا وترى التخفيف فيه ظاهراً إما بالبديهية أو المحسوسات والمشاهدات أو بالتجريبيات والحسيات والفطريات ، لذا جاءت آية التخفيف أعلاه مطلقة في موضوعها ودلالتها ، وفي عمومها إذ تشمل الناس جميعاً البر والفاجر ، لقوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
والتخفيف نعمة عظيمة من عند الله على الفرد والجماعة والأمة ، فلا يصح أن يقوم بعض الأفراد باتخاذ هذه النعمة مادة للإرهاب والإضرار بعامة الناس بسبب الغلو والنظر بعين الحقد .
وفي الآية أعلاه دعوة إلى الحكومات ، والمنظمات العامة بالرأفة والسعي إلى إصلاح الأفراد باللطف.
وأن لا يتخذ الإنسان أداة للإرهاب ومقدماته ، والأداة في إصطلاح المنطق هو كل ما يصلح لأن يخبر به لا أن يخبر عنه .
وموضوع الآية أعلاه أعم من سبب النزول ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رائد التخفيف عن الناس في العبادات والتكاليف ومطلق أعمال الخير والصلاح ، وكان يخفف من صلاته في صلاة الجماعة.
(عن أبي مسعود الأنصاري قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله ، إني لأتخلف عن الصلاة مما يطول بنا فلان ، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب من شيء أشد مما غضب من هذا .
فقال : أيها الناس إن منكم منفرين ، فأيكم صلى بالناس فليخفف ، فإن فيهم الصغير والكبير وذا الحاجة) ( ).
والتخفيف مانع من الإرهاق والضغط على النفوس , وهو سبب لطرد الكدورة والإحتقان ، لقد أراد الله عز وجل للحياة الدنيا أن تكون دار السعادة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فمن مصاديق الخلافة رأفة الله بالناس ، والتخفيف عنهم وبهم ، إذ يدفع بعضهم عن بعض الأذى وصيغ المشقة وأنواع القهر.
(عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : المؤمن يألف ويؤلف ، ولا خير فيمن لا يألف ، ولا يؤلف ، وخير الناس أنفعهم للناس) ( ).
أي لا خير في المسلم والكتابي وغيرهما الذي لا يأنس الناس به ، ويطمئنون إليه ، فمع الإيمان تأتي البركة والأمن .
وفي حديث ضعيف (عن ابن عباس قال: “سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من خير الناس؟ قال: أنفعهم للناس) ( ).
ويحتمل المراد من الناس في هذه الأحاديث وجوهاً :
الأول : خصوص المسلمين .
الثاني : ارادة القريبين وذوي الأرحام .
الثالث : المقصود عموم الناس .
والصحيح هو الأخير لأن الأصل في الألف واللام في (الناس) الجنس ، وبه وردت لغة الخطاب في القرآن ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
ويتنافى الإرهاب مع الحق الذي تذكره الآية أعلاه ، والتي تبين أن الدعوة إلى الله لا تكون بالإرهاب ، كما أن الإرهاب لا يقدر على المنع منها ، وفيه شاهد على بطلان الإرهاب وتخلفه عن تحقيق أي غاية له .
ويتجلى التخفيف في الحياة الدنيا في العبادات وكيف أنها لا تستوعب إلا دقائق من يوم الإنسان ، لتكون تذكيراً بلزوم التقوى ، قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
والإرهاب عسر ومشقة بالغة لصاحبه قبل أن تكون للذي يقع عليه والعزم على الإرهاب صراع مع النفس وإصرار على مخالفة العقل من أجل البطش والإنتقام والفساد .
وهل التخفيف عن الناس من مصاديق إكرامهم في قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ) الجواب نعم .
الدعاء سلاح ضد الإرهاب
لما أهبط الله عز وجل آدم إلى الأرض وجعلها مسكناً له ولذريته تفضل وجعل الدعاء حبلاً ممدوداً بينه وبينهم ، ولا يلزم منهم الدعاء السعي بالجوارح والأركان أو الإستئذان من جبرئيل وحملة العرش من الملائكة ، ولا التوسل للملائكة الموكلين ببني آدم بالإذن بالدعاء ورفعه ، وليس ثمة مسافة يقطعها الدعاء أو وقت يستغرقه ، ولا تزاحم بين أدعية الناس فكلها تصل من فورها إلى الله ، ويتفضل الله سبحانه بالإجابة عليها ، وقد أنعم على الناس بالترغيب بالدعاء ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
وقد تأتي دعوتان من شخصين في موضوع متحد وإحداهما تناقض الأخرى ، فكيف تكون الإستجابة ، الجواب إنها من عمومات [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
إن الله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة ، ولا تختص الإجابة بموضوع الدعاء على نحو الحصر والتعيين والله واسع كريم .
وكان الدعاء مفزع الأنبياء ، وهو سلاحهم في هداية الناس ، وإجتناب الأذى ودفع الضرر عنهم وعن المؤمنين برسالتهم .
والدعاء وسيلة مباركة لتحقيق الأماني ، وبلوغ الغايات الحميدة .
وهو ذخيرة خلافة الإنسان في الأرض ، فلم ينل الإنسان مرتبة الخلافة في الأرض بسعيه وكسبه إنما هي بفضل ولطف من عند الله لقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ولو لم يكن الإنسان في مقام الخليفة لكان أيضاً شاكراًَ لله عز وجل على نعمه ، ولكن الله عز وجل تفضل على الناس مجتمعين ومتفرقين بنعمة الخلافة ، ليكون الدعاء هو الواسطة بين العباد وبين الله عز وجل .
ويساهم الدعاء في بناء الشخصية السليمة ، ويبعث الإنسان على القناعة والرضا بما قسم الله والصبر على البلاء .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لما أهبط الله آدم إلى الأرض قام وجاء الكعبة فصلى ركعتين ، فألهمه الله هذا الدعاء :
اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي . اللهم أسألك إيماناً يباشر قلبي ، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتبت لي ، وأرضني بما قسمت لي .
فأوحى الله إليه : يا آدم قد قبلت توبتك ، وغفرت ذنبك ، ولن يدعوني أحد بهذا الدعاء إلا غفرت له ذنبه ، وكفيته المهم من أمره ، وزجرت عنه الشيطان ، واتجرت له من وراء كل تاجر ، وأقبلت إليه الدنيا راغمة وإن لم يردها( ).
ومن خصائص الدعاء تخفيف وطأة البلاء واقتران الصبر بالأمل والرجاء ، فقد ييأس الإنسان من الأسباب ، ويظن انعدام الفرصة ، فيلجأ إلى الدعاء فيفتح الله عز وجل له أبواباً من فضله ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا] ( ).
وهل الدعاء واقية من الإرهاب ، الجواب نعم ، فالمؤمن يجتنب الإرهاب لتسليمه بكفاية سلاح الدعاء ، والذي يخشى وقوع الإرهاب يتوجه إلى الدعاء لصرف الإرهاب عنه وعن غيره من الناس .
ويمكن تأسيس كل من :
الأول : قانون (الدعاء ملاذ ) إذ يلجأ الإنسان للدعاء للنجاة من الإرهاب ، فان قيل الذي يفعل الإرهاب يقوم بالدعاء أيضاً ، والجواب إنما يستجيب الله عز وجل لما فيه الصلاح والإصلاح.
الثاني : قانون (الدعاء ذخيرة ) لبيان المنافع العظيمة للدعاء والتي لا يختص بموضوعها ولا باوان الدعاء ، فقد يسأل العبد الله عز وجل في مسألة رزق مخصوص ، فيصرف عنه كيد الإرهاب ، أو يبعده عن موضعه أو يجعل الذي ينوي الإرهاب يعزف عنه .
الثالث : قانون الدعاء فضح للإرهاب ) لبيان ارادة الصلاح من المسألة والدعاء .
ويدعو الإنسان لنفسه ، فيتفضل الله عز وجل باصلاح الغير بما يجلب المنفعة على صاحب الدعاء ، وبتغيير وإنقلاب في نفس الذي يريد الإضرار به وبالجماعة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] ( ) .
لقد فتح الله عز وجل باب الدعاء للناس لتبقى طرق الخير متصلة ، وتدخل كل بيت , وأغصان شجرة الأمن والسلامة تظلل الناس بفيئها .
والدعاء سفر روحي وسياحة في عالم الملكوت يرتقي فيه الإنسان في سلم المعارف ويتذوق طعم القرب بالمناجاة ، ويدرك معه قبح الإرهاب ، والإضرار بالناس الذين تجمعهم معه روابط متعددة .
( وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (كلكم لآدم ، وآدم من تراب) ( ).
وهل في هذا الحديث دعوة للمسلمين للرأفة بالناس جميعاً ، الجواب نعم .
والدعاء مناسبة لإقبال القلب والجوارح ، وفيه طرد للغفلة ، ومنع من السهو ، وحرب على الجهالة لدلالة التوجه إلى الله بالدعاء على التسليم بأن مقاليد الأمور بيد الله عز وجل .
(وفي الحديث القدسي أنا عند ظن عبدي بي فلا يظن بي إلا خيرا) ( ).
لقد جاء القرآن بالتحذير من الإرهاب ، إذ أخبر الله عز وجل على أنه يعلم النوايا والمقاصد والأفعال ، قال تعالى [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ).
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بخزائن الدعاء وهي من اللامتناهي في موضوعها ومضامين الإستجابة لها ، وإذ يخشى الإنسان من الإرهاب فالخشية من الله عز وجل أولى وهي التي تدفع شرور الإرهاب ، ولا تتعارض هذه الخشية مع دفع الإرهاب، والإحتراز منه، قال تعالى [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً] ( ) .
إن الله عز وجل الذي أمر العباد بأن يدعوه بخوف ووجل منه سبحانه لا يرضى أن يقوم أرباب الغلو والتطرف والعصبية والجهالة بإرهاب الناس في المساجد ودور العبادة والأسواق والأماكن العامة .
وجعل الله عز وجل الدعاء ركناً تتقوم به الحياة الدنيا ومادة لإستدامة الحياة بأمن وسلامة ، قال تعالى [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ] ( ).
ويصرف الدعاء البلاء وإن كان قريباً وحالاً ، وعن الإمام الباقر عليه السلام قال (ان مريم كانت اجمل النساء وكانت تصلي فيضيء المحراب لنورها فدخل عليها زكريا وكان يرى عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء فقال: أنى لك هذا؟
قالت: هو من عند الله، هنالك دعا زكريا ربه، وقال زكريا في نفسه ان الذي يقدر ان يأتي مريم بفاكهة الشـتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشـتاء لقادر ان يهب لي ولداً وان كنت شـيخاً وكانت امرأتي عاقـراً فهنالك دعا زكريا ربه [ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ]( ).
وهناك مستحبات عديدة للدعاء مستقرأة من الكتاب والسنة منها :
الأول : رجاء الإستجابة للدعاء .
الثاني : الصدق والإخلاص في الدعاء .
الثالث : حسن الظن بالله , والثناء على الله عز وجل والتقرب إليه سبحانه بالمدحة (قال عبد الله بن عمر رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائماً على هذا المنبر يعني منبر رسول الله (عليه السلام) وهو يحكي عن ربّه تبارك وتعالى فقال : إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة جمع السماوات والأرضين السبع في قبضته ثم قال هكذا وشد قبضته ثم بسطها ثم يقول : أنا الله، أنا الرحمن، أنا الملك، أنا القدوس، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا العزيز، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الذي بدأت الدُّنيا ولم يك شيئاً، أنا الذي اعدتها، أين الملوك أين الجبابرة.
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا عمر بن الخطاب حدثنا عبد الله بن الفضل حدثنا هدية ابن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ على المنبر (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) ( ) فبسط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه , ثم قال : فيمجّد الله نفسه .
أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا العزيز، أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون، قال : فرجف المنبر حتّى قلنا ليتحركنَّ به)( ).
وتقديم الثناء عليه سبحانه ، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من فتح له باب في الدّعاء فتحت له أبواب الاجابة( ).
وعن ابن مسعود قال : ما دعا عبد قط بهذه الدعوات ، إلا وسع الله له في معيشته؛ يا ذا المن ولا يمن عليه ، يا ذا الجلال والإِكرام ، يا ذا الطول ، لا إله إلا أنت ظهر اللاجين وجار المستجيرين ومأمن الخائفين ، إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقياً فامح عني اسم الشقاء ، وأثبتني عندك سعيداً ، وإن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب محروماً مقتراً عليّ رزقي ، فامح حرماني ويسر رزقي , وأثبتني عندك سعيداً موفقاً للخير ، فإنك تقول في كتابك الذي أنزلت يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.
الرابع : انتظار الإستجابة.
الخامس : عقد القلب على الإقبال على الدعاء .
السادس : اقتران الدعاء بالعمل .
السابع : العزم على عمل الصالحات وأفعال البر ، قال تعالى[وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ]( ).
الثامن : تعاهد صلة الرحم وإجتناب القطيعة ، وعن ابي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها اثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال ، إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها . قالوا : إذاً نكثر قال الله أكثر .
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول : دعوت فلم يستجب لي( ).
التاسع : الإبتعاد عن مقدمات الخصومة ومعاداة الناس مما يدل على لزوم ترك الإرهاب من باب الأولوية القطعية .
العاشر : طرد النعاس عند الدعاء .
الحادي عشر : الإمتناع عن العجلة في الدعاء .
الثاني عشر : إلتزام الصبر ، والإقامة عليه .
الثالث عشر : المواظبة على الدعاء والإجتهاد فيه، وعدم الملل أو الضجر من الدعاء.
الرابع عشر : مراعاة الإعراب في الدعاء ، وإجتناب اللحن قدر الإستطاعة.
الخامس عشر : رفع اليد بالدعاء والتضرع ، وهو عنوان اشتراك الجوارح بالدعاء والمسألة ، ورفع اليدين عنوان الإشتغال بالدعاء.
السادس عشر : الإلحاح في الدعاء والمواظبة في المسألة في الليل والنهار.
السابع عشر : إظهار المسكنة وحال الذل والخضوع لله عز وجل.
الثامن عشر : سؤال الحوائج من الله عز وجل ، وعدم التردد في السؤال وتعيين وكثرة المسائل ، وفيه شاهد على صدق الإيمان، وحسن التوكل على الله ، قال تعالى [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ] ( ).
ومن أقسام الحياء (حياء الإستحقار كموسى قال : لتعرض لي الحاجة من الدنيا فأستحيي أن أسألك يا ربّ ، فقال له : سلني حتى ملح عجينك وعلف شاتك)( ).
وفيه بيان مسألة وهي كثرة حاجات الإنسان في الليل والنهار ، وفي المأكل والملبس والمسكن والأمور العامة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
وتتصف الخلائق بأنها من عالم الإمكان وتلازمها الحاجة ، وتكون بالنسبة للإنسان وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل ممكن محتاج.
الصغرى : الإنسان ممكن.
النتيجة : الإنسان محتاج .
التاسع عشر : البكاء قرين مبارك للدعاء ، ونوع مقدمة لرجاء الإستجابة وهو من مصاديق الإستجارة الصادقة بالله عز وجل.
العشرون : الإجتماع في الدعاء والمسألة فانه أقرب الى الإستجابة ، ويصح إجتماع أفراد من مذاهب ومشارب متعددة لسؤال الله عز وجل المن والنجاة من الإرهاب .
ليكون معنى الإجتماع في المقام أعم من تعدد الأشخاص ، وفي هذا العموم زيادة في الإستغاثة بالله عز وجل.
الحادي والعشرون : التأمين في الدعاء ، يقال : أمنت على الدعاء تأميناً: أي قلت عنده آمين ، ومنه فلان يؤمن على دعاء فلان، وآمين: اسم فعل مبني على الفتح وفيه اربع لغات اكثرها استعمالاً بالمد بعد الهمزة من غير امالة، ومما ذكر له من المعاني انه يعني: اللهم استجب.
وعن أنس بن مالك قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوسا ، فقال : إن الله أعطاني خصالا ثلاثة ، فقال رجل من جلسائه : وما هذه الخصال يا رسول الله .
قال : أعطاني صلاة في الصفوف.
وأعطاني التحية ، إنها لتحية أهل الجنة .
وأعطاني التأمين ولم يعطه أحدا من النبيين قبل إلا أن يكون الله أعطى هارون ، يدعو موسى ويؤمن هارون( ).
وهل تنتفع الأمم من قول أمين في تأكيد الدعاء ورجاء الإستجابة ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثانية : من فضل الله عز وجل أنه إذا أنعم بنعمة على أهل الأرض فانه أكرم من أن يرفعها ، فتبقى نعمة التأمين بين الناس إلى يوم القيامة.
الثالثة : الحسن الذاتي للدعاء والإلحاح فيه .
الرابعة : ترغيب الناس بالإقتباس من سنن الأنبياء.
الثاني والعشرون : التوسع في الدعاء وكثرة السؤال بما لا يكون فيه معصية ، فيكون الدعاء في حاجة خاصة ليتضمن معها السؤال العام بالنجاة من الظلم والإرهاب وبهداية الناس جميعاً للتنزه عنه .
الثالث والعشرون : التوسل إلى الله باسمائه الحسنى ، وهو من باب تقديم الثناء قبل المسألة ، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله: إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدة من أحصاها دخل الجنة، وهي: الله، الاله، الواحد، الاحد، الصمد، الاول، الآخر، السميع البصير، القدير، القاهر، العلي، الاعلى، الباقي، البديع، البارئ، الاكرم، الظاهر، الباطن، الحي، الحكيم، العليم، الحليم، الحفيظ، الحق، الحسيب، الحميد، الحفي، الرب، الرحمن، الرحيم، الذارئ، الرازق،الرقيب، الرؤوف، الرائي، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، السيد، السبوح الشهيد، الصادق، الصانع، الطاهر، العدل، العفو، الغفور، الغني، الغياث،الفاطر، الفرد، الفتاح، الفالق، القديم، الملك، القدوس، القوي، القريب، القيوم،القابض، الباسط، قاضي الحاجات، المجيد، المولى، المنان، المحيط، المبين، المقيت،المصور، الكريم، الكبير، الكافي، كاشف الضر، الوتر، النور، الوهاب، الناصر، الواسع، الودود، الهادي، الوفي، الوكيل، الوارث، البر، الباعث، التواب، الجليل، الجواد، الخبير، الخالق، خير الناصرين، الديان، الشكور، العظيم، اللطيف، الشافي( ).
الرابع والعشرون : الإمتناع عن الظلم والجور ، وقيل (وأوحى الله تعالى إلى داود صلى الله عليه وآله وسلم قل للظّلمة لا تدعوني فإنّي أوجبت على نفسي أن أُجيب من دعاني وإنّي إذا أجبت الظالمين لعنتهم)( ).
وهل العمل الإرهابي من الظلم ، الجواب نعم , فهو ظلم للنفس والغير .
(وحكي إنّ إبراهيم بن أدهم قيل له : ما بالنا ندعوا الله فلا يستجيب لنا ، قال : لأنّكم عرفتم الله فلم تطيعوه وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنّته ، وعرفتم القرآن فلم تعملوا بما فيه .
وأكلتم نعمة الله فلم تؤدّوا شكرها ، وعرفتم الجنّة فلم تطلبوها وعرفتم النّار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه وعرفتم الموت فلم تستعدّوا له ، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس)( ) .
ولا أصل لهذا القول ، وهو خلاف الوعد من عند الله بالإستجابة والذي ورد مطلقاً ، إنما يؤخر الله عز وجل الإستجابة في ذات المسألة لحكمة منه تعالى ، وحبه لمواظبة العبد على الدعاء مع تفضله بالإستجابة في مسائل أخرى أولى وأعظم وأكبر .
ثم لابد من الترغيب بالمسألة ، ولا يصح التبكيت للسائلين عن الدعاء ، إنما هو الرجاء والحث على الإلحاح والإجتهاد بالدعاء , وفي التنزيل[ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الخامس والعشرون : التضرع والمسكنة في الدعاء , وفي آية المباهلة [فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( )، ورد عن ابن عباس {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} نتضرّع في الدّعاء( )، وقيل نجتهد ونبالغ في الدعاء.
السادس والعشرون : الدعاء في العلانية والسر ، وورد في زكريا في التنزيل [إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا]( )، وعن ابي موسى قال : كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في غزاء فأشرفوا على واد فجعل (ناس) يكبّرون ويهلّلون ويرفعون أصواتهم .
فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: أيُّها الناس أربعوا على أنفسكم إنّكم لا تدعون أصم ولا (غائباً) إنّكم تدعون سميعاً قريباً إنّه معكم( ).
السابع والعشرون : الشكر لله عز وجل على نعمة الدعاء ، وفتح بابه للناس ، والترغيب فيه ، وتأكيد القرآن على عدم غلقه إلى يوم القيامة ، وعلى عدم وجود حاجب بين الدعاء وبين الله عز وجل ، ومن مصاديق الشكر لله عز وجل في المقام الدعاء النافع ، وترك الإضرار بالمؤمنين والناس ، والظلم والقهر .
وفي قوله تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ]( )، ورد عن ابن عباس قال : هو بلعم بن باعوراء( ).
وقال : هو رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعم ، تعلم اسم الله الأكبر ، فلما نزل بهم موسى أتاه بنو عمه وقومه فقالوا : إن موسى رجل جديد ومعه جنود كثيرة ، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا ، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه .
قال : إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه مضت دنياي وآخرتي ، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم ، فسلخ مما كان فيه . وفي قوله { إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث }( ).
قال : إن حمل الحكمة لم يحملها وإن ترك لم يهتد لخير ، كالكلب إن كان رابضاً لهث وإن طرد لهث ( ).
وذكر أنه لما نزل موسى عليه السلام أرض بني كنعان من الشام أتى قوم بلعم إليه وقيل اسمه بلعام وهم يعلمون أن عنده اسم الله الأعظم كما في سيّار فسألوه أن يدعو الله موسى وقومه بني اسرائيل ، وتوسلوا إليه وبينوا له مسائل :
الأولى : جاءت مع موسى جيوش كثيرة .
الثانية : يريد موسى إخراجنا من أرضنا .
الثالثة : يسعى موسى لقتلنا ، إذ قالوا (ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل) ( ).
الرابعة : قال القوم لبلعم نحن قومك وبنو عمك .
الخامسة : يا بلعم أنت رجل مجاب الدعوة .
السادسة: أخرج وأدع الله تعالى أن يرد عنا موسى وقومه واستمع بلعم إلى ما ذكروه ثم قال (ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي.
وقالوا ما لنا من (نزل) وراجعوه في ذلك قال : حتى أُءامر ربّي،
وكان بلعم لا يدعو حتّى ينظر ما يؤمر في المنام , فيأمرني الدعاء عليهم) ( ).
فرأى في المنام نهيه عن الدعاء عليهم فلم يخف على قومه ما رآى مع الحاحهم عليه في المسألة ، وقال لهم : أني قد أمرت ربي في الدعاء عليهم وإني قد نُهيت عن الدعاء عليهم .
فجاءوا له من باب الهدية وبذلوا له فقبل هديتهم وأعادوا عليه المسألة وقالوا أدع عليهم .
فقال : حتى أؤمر ، فسأل الله وانتظر أن يأتيه أمر في المنام ، فلم يأتيه جواب ، فقال لهم ، قد أمرت فلم يجئ إلي شئ ولم يستصحب النهي السابق ، والإستصحاب أصل عقلي قبل أن يكون من مسائل علم الأصول .
حينئذ قالوا له ( لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك الأولى ، فأخذ يدعو عليهم ، فإذا دعا جرى على لسانه الدعاء على قومه ، فإذا أرسل أن يفتح على قومه جرى على لسانه أن يفتح على موسى وجيشه ، فقالوا : ما نراك إلا تدعو علينا) ( ).
لقد أجرى الله لسان بلعم بخلاف ما يريد قومه وعلى غير رغبته وقصده ، وفيه موعظة لهم ، ودعوة لإجتناب قتال موسى ، ثم دلهم على أمر وهو بعث النساء لبني اسرائيل وعرض أنفسهن عليهم ليفشي بينهم الزنا فينزل عليهم البلاء .
لقد أنعم الله على المسلمين بالتضرع في الدعاء ، وهذا التضرع طوعي وقهري إذ يتجلى في أداء الصلاة والوقوف بين يدي الله عز وجل وتلاوة آيات القرآن .
الثامن والعشرون : من آداب الدعاء الوضوء واستقبال القبلة ورفع اليدين والمسكنة .
ومن خصائص الدعاء أنه يرد القضاء ، ويحول دون غضب الله لأنه مناجاة ولجوء إليه سبحانه ، والدعاء حرب على الإرهاب ومعالجة له من جذوره , ولا يكون بديلا عن وسائل الإحتراز العملية والمادية .
التاسع والعشرون : من خصائص الدعاء أنه يبعث السكينة في النفوس ،ويزيح الهّم ويصرف الغم .
ولابد من إقتران الدعاء بالعمل وإتقانه وطرد الغفلة والتسويف ، ويجب أن يقترن العمل بالدعاء إذ أنه ليس بديلاً عن العمل والكسب وإنجاز الأعمال على أحسن أتم وجه ، وبما يكفل توارث الناس الخلافة في الأرض .
ويتعارض الإرهاب مع مفاهيم الخلافة في الأرض ، مما يلزم الرجوع إلى سنن الخلافة التي تتقوم بالتقوى والصبر والخشية من الله عز وجل والرأفة بالناس جميعاً , قال تعالى [ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] ( ).
ويلزم حسن الأدب عند الوقوف بين يدي الله للدعاء ، قال تعالى [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
وفي الإعتداء المذكور في الآية أعلاه ورد ( عن ابن جريج : هو رفع الصوت بالدعاء . وعنه : الصياح في الدعاء مكروه وبدعة( ).
ولا دليل على حصر التعدي في المقام بهذا المعنى ، ولا يرقى رفع الصوت الى مرتبة الإعتداء ، وقد يكون الدعاء بصوت عال من الأمر بالمعروف ، والترغيب بالدعاء وفعل الصالحات , ودفع الظنة , نعم قد يكون من ترك الأولى .
وقيل من التعدي في الدعاء بلحاظ الآية أعلاه سؤال ما لا يجوز سؤاله ، أو الإستغناء عن الأكل والشرب وقد يسأل الإنسان الله الخلود في الدنيا ، والسلامة من الأمراض .
ولكن منطوق الآية [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، أعم من أن يختص بالإعتداء بالدعاء ، فقد يكون المراد ذم الذين يعتدون على الذي يتخذ الدعاء منهاجاً وجلباباً .
ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : ادعو ربكم تضرعاً وخفيةً انه لا يحب المعتدي على الذين يدعون الله.
الثاني : إن الله لا يحب المعتدين في الدعاء كما في الدعاء للظلم وفعله.
الثالث : إن الله لا يحب المعتدين الذين يصدون الناس عن الدعاء .
الرابع : إنه لا يحب المعتدين الذين يقتلون الناس في المساجد والحسينيات والكنائس والبيع وهم يدعون الله والذين يقتلون الناس في الأسواق والمرافق العامة .
الخامس : إنه لا يحب المعتدين الذين يريدون إشغال الناس عن الدعاء.
السادس : إنه لا يحب المعتدين الذين يستخفون بالدعاء ، ويستهزئون بالدعاة وطلاب الحاجة والمسألة من الله عز وجل.
والعمل الإرهابي من الكيد والحسد ، ويدفعه الدعاء والمسألة الى الله عز وجل والإحتراز الحال والمتقدم ، والدعاء مثل الماء والكلأ الناس فيه سواء ، وهو من الكلي الطبيعي أي نفس الماهية والمأخوذة لا بشرط شيء موجود في الخارج .
وإن كان الفرد أو الجماعة الذين يتخذون العنف والإرهاب منهاجاً ومسلكاً فان الله عز وجل فتح للناس أبواب رحمته ، ودعاهم للتوجه إليه بالمسألة ، ومع عدم تحقق المسألة هل تنزل الرحمة من الله لدفع الإرهاب الجواب نعم ، إذ أنه سبحانه يرأف بالناس إبتداءً من عنده ، لذا يتلو كل مسلم ومسلمة قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( )، سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية .
وهل يصدق عليه أنه دعاء عام , الجواب نعم ، ولا يتعارض هذا المعنى مع صبغة القرآنية في التلاوة إذ يرجو المسلمون والمسلمات الرحمة بالناس جميعاً ، ومن الرحمة صرف الإرهاب والقتل العشوائي عنهم.
ومن أسرار الحياة الدنيا عدم الوقوف عند الدعاء فلابد من اقتران الدعاء بالعمل الصالح والنافع للفرد والمجتمع ، ومن الآيات في خلق الإنسان أن الدعاء يبعث على العمل وكذا العكس فان العمل الصالح يهدي الإنسان إلى الدعاء من غير أن يلزم الدور بينهما .
بالإضافة إلى أن الدعاء مصداق من مصاديق العمل الصالح ، ومن معاني قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) أعملوا صالحاً أستجب لكم .
وأيهما أولى الدعاء أم العمل ، الجواب لا تعارض بينهما فهما ليسا من المتضادين أو المتناقضين ، وبالإمكان الجمع بينهما خاصة وأن الدعاء باللسان والعمل باللسان والجوارح والأركان .
ويرضى الله عز وجل من الإنسان الدعاء القليل ، وأنت ترى الوقت الذي تستغرقه الصلاة الواجبة من العبد قد يكون على نحو الاثنين من المائة من مجموع ساعات الليل والنهار بالإضافة إلى قانون وهو أن الدعاء مبارك بالعمل ، ويترشح العمل الصالح عن الدعاء .
ويكشف للإنسان أن الإرهاب فعل مذموم , يغتال السكينة العامة , وأنه لا يمثل طائفة أو أهل ملة إنما يبوء به صاحبه ، وفي ولَدي آدم ورد في التنزيل [إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ] ( ).
قانون إكرام الانسان منع من الإرهاب
من بديع صنع الله عز وجل بالإنسان إخباره الملائكة عن أول صفة للإنسان وهي الخلافة في الأرض ، ولو شاء الله لجعل هذا الأمر خاصاً به ولم يطلع الملائكة .
وهل أخبر الله آدم بأنه سيكون في [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) أم يختص هذا الإخبار بالملائكة ، الجواب هو الأول لوجوه :
الأول : تفضل الله عز وجل بتعليم آدم الأسماء على نحو العموم الإستغراقي ، قال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( ) .
الثاني : تفضل الله عز وجل باصلاح آدم للخلافة في الأرض .
الثالث : إقامة الحجة على آدم وذريته من بعده .
الرابع : بيان فضل الله على آدم ليشكر الله على نعمة الخلافة .
الخامس : إكرام الله عز وجل لآدم بأن كلمه الله عز وجل قبلاً من غير واسطة قبل أن يهبط إلى الأرض .
السادس : نيل آدم مرتبة النبوة ، وعن أبي ذر قال (قلت: يا رسول الله؛ أريت آدم، أنبيًّا كان؟ قال: “نعم، نبيا رسولا كلمه الله قِبَلا فقال: { اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ }( ))( ).
السابع : تهيئة آدم وحواء للهبوط إلى الأرض ، وعدم القنوط فيها فان وظيفتهما عمارة الأرض بالعبادة والتقوى ، وتعاهدهما لعبادة الله لتبقى ميراثاً لابنائهما والذراري المتعاقبة لذا تفضل الله عز وجل وأطال في عمر آدم ، حتى بلغ ألف سنة وكثرت ذريته وأبناؤه .
وعن ابن عباس (ولم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاَ، ورأى فيهم الزنا وشرب الخمر والفساد) ( ).
ولما نزلت آية الدَين من سورة البقرة وهي أطول آية في القرآن وأولها [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ] ( ) .
وعدد كلماتها مائة وتسع وعشرون كلمة ، وعدد حروفها ثلاثة أضعاف حروف أقصر سورة في القرآن وهي سورة الكوثر والتي يبلغ عدد حروفها ثلاثة وأربعين حرفاً ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جانباً من قصة خلق آدم فيما يتعلق بالدَين بما يوثق مضامين الآية ، ويدل على أن النبي محمداً ينطق بالوحي فيستحضر إحتجاج الله عز وجل على آدم وبما ينفع في إنتفاع المسلمين والناس جميعاً من آية الدَين كما ورد في حديث ابن عباس .
فقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسألة وهي أول من جحد الدَين هو آدم ولم يكن ديناً بالمال بل هو أعظم كثيراً فان يذهب مال الإنسان وتجحد أمواله وديونه على الناس خير له من قطع سنوات من عمره .
فلما تفضل الله عز وجل وخلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ذريته بهيئة عالم الذر وإن قيل كيف يستوعب ظهر آدم المليارات من البشر حتى وأن كانوا بهيئة الذر ، جاء العلم الحديث ليكتشف جزيئات أقل كثيراً من الذرة .
وكان العلماء ولزمان قريب يقولون أن الذرة أصغر شئ في الكون ، بينما نزل القرآن قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة ، وهو يتحدث عما هو أصغر منها ، قال تعالى [وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] ( ).
ويبين العلم الحديث وجود أجزاء للذرة وجسيمات أصغر منها وينتفع منها في الصناعات والتقنية مثل الإلكترون والبروتون والنيوترون ، وأنها تتكون من كواركات أصغر وأدق منها .
والتي تتألف من أوتار دقيقة جداً , أطلقوا عليها اسم الأوتار الفائقة.
وإكرام الله عز وجل لآدم إكرام لذريته خاصة وأنهم في ظهره في عالم الذر ، وقد ينساه الإنسان في السابق كيف يكون هذه الملايين المتعاقبة من البشر في عالم الذر في بدن آدم وكيف يستوعبها .
لتأتي الإكتشافات العلمية وتبين أجزاء ومكونات الخلية الواحدة التي هي وحدة الحياة الاساسية ، وهناك في جسم الإنسان الواحد من ثلاثين إلى سبعة وثلاثين ترليون خلية ، ويساوي الترليون ألف مليار ، أو مليون مليون ، ويكتب واحد وامامه اثنا عشر صفراً (1,000,000,000) ، وعدد الخلايا هذا من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ) وهل تكرر ذات عالم الذر في ذرية أبناء آدم كل واحد يكون في ظهره ذريته بهيئة الذر ، الجواب لا .
مما يدل على إمكان حمل ظهر آدم عند خلقه ذريته في هيئة عالم الذر ، وهل يعلم الملائكة عددهم ، الجواب لا ، فلا يحصي عددهم إلا الله سبحانه وجعل الله عز وجل يعرض ذرية آدم إلى يوم القيامة عليه ، وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم :
(فرأى آدم فيهم رجلاً يزهر قال : أي رب من هذا؟
قال : هذا ابنك داود . قال : أي رب كم عمره؟
قال : ستون عاماً .
قال : رب زد في عمره .
فقال : لا إلا أن أزيده من عمرك .
وكان عمر آدم ألف سنة ، فزاده أربعين عاماً ، فكتب عليه بذلك كتاباً وأشهد عليه الملائكة .
فلما احتضر آدم وأتته الملائكة لتقبضه قال : إنه قد بقي من عمري أربعون عاماً . فقيل له : إنك قد وهبتها لابنك داود . قال : ما فعلت .
فأبرز الله عليه الكتاب وأشهد عليه الملائكة ، فكمل الله لآدم ألف سنة ، وأكمل لداود مائة عام) ( ).
وفي الحديث ترغيب للناس بكتابة الدَين وتوثيقه , ومنع أسباب الخصومة والغضاضة مما يدل بالأولوية القطعية على وجوب إجتناب العنف والبطش في الديون .
ولبيان رحمة الله بآدم وذريته في زيادة الأعمار ، ودعوة المسلمين والناس لإطالة أعمارهم ، وصرف البلاء عنهم ، وهو من عمومات قوله تعالى [ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ] ( ) وقوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) .
وفيه حث على الإمتناع العام عن الإرهاب ، وعدم إتخاذه منهاجاً إذ يحرم إشاعة الإرهاب ، فمن رحمة الله بالناس إطالة أعمارهم , وصيرورة الموت على الفراش هو الطريقة الأعم لتغادر أرواحهم إلى البرزخ , وهم بين الأهل والأحبة .
وهو مناسبة للموعظة والتدارك والإستغفار ، وإرجاع الحقوق إلى أهلها ، والتهيئ لعالم البرزخ ووحشة القبر وأهوال الآخرة .
ومن الأسماء الحسنى [الرحمن] و[ الرحيم] ، وقد جعل الله الرحمة بآدم تسبقه وتلازمه وتصاحب ذريته في الدنيا والآخرة ، ولابد أن أول مصاديق الرحمة من أسناها إذ أنعم الله عز وجل على آدم من وجوه:
الأول : نفخ الله عز وجل من روحه في آدم ، وجعل أول كلمة ينطق بها هي الحمد لله .
الثاني : أسكن الله عز وجل آدم الجنة .
الثالث : خلق الله حواء لتكون زوجة لآدم .
الرابع : إختار الله عز وجل آدم خليفة في الأرض .
لتكون هذه النعم مجتمعة ومتفرقة دعوة لكل إنسان لشكر الله عز وجل والإحسان إلى الناس ، ونشر معاني المودة والرحمة وأسباب السلم والإنزجار عن الفساد والإرهاب ، للتنافي بين العنف والإرهاب من جهة وبين الرحمة .
وخلافة الإنسان في الأرض أمانة عظمى ، ووثيقة وعهد أمام الله والملائكة ، وهي من عمومات قوله تعالى [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً] ( ) .
ومن خصائص هذه الأمانة تعاهد الأرض كنعمة ومحل لإقامة أجيال الناس السابقة واللاحقة ، وعدم اشاعة الخراب فيها ، وهو من أسرار ومعاني خلق الإنسان من ذات الأرض ، قال تعالى [وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ]( ).
وسواء كانت الخلافة في الأرض خاصة بالأنبياء أو هم والأولياء أو شاملة للناس جميعاً ، فان تعاهدها مسؤولية كل إنسان ، وهي عهد وأمانة عند الناس مجتمعين ومتفرقين وسبب لتوالي الرزق الكريم والإنتفاع الأمثل من خيرات الأرض ، وسبيل لإتخاذ الدنيا مزرعة للآخرة مما يلزم التعاون لإستئصال الإرهاب .
قانون الأسماء الحسنى حرز من الإرهاب
لقد اختص الله لنفسه بالأسماء الحسنى لبيان قانون ربوبيته المطلقة للخلائق ، ونفي الشريك عنه ، ولتأديب الناس جميعاً على طاعته والإمتثال لأوامره وترغيبهم بالدعاء , والتوجه إليه بالمسألة من حال الذل والخشوع ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا] ( ) .
فمن لطف الله عز وجل أنه أخبر عن الأسماء الحسنى مع الأمر بالدعاء والتقرب إليه بها أي أنه سبحانه لم يذكرها مع التخويف ، لبيان أن الدنيا دار اللطف الإلهي ، ومزرعة الدعاء ومنبت الصالحات ، فلا يحق لأحد أن يرهب ويخيف الناس بغير حق .
وجاءت السنة النبوية بالترغيب بمعرفة الأسماء الحسنى وبعث الشوق لذكرها على اللسان ، والتدبر في معانيها , وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) ( ).
لبيان قانون وهو أن الطريق إلى الجنة بالعلم المتيسر والممكن وليس بالعنف والإرهاب وإخافة الجماعات وبعث الرعب في التجمعات العامة ، وإرباك رجال الأمن , وجعلهم في نفير متصل من غير مسوغ شرعي أو عقلي .
فالذي يريد الجنة مثوى دائماً فان الطريق إليها بطاعة الله عز وجل بالعمل الصالح والإمتناع عن إيذاء الغير ، قال تعالى [تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا]( ) .
ومن الآيات أن كل اسم من أسماء الله عز وجل يهدي إلى العمل الصالح ويدفع الإنسان عن العنف وشدة الإرهاب ، ويجوز التوسل إلى الله باسمائه الحسنى على نحو الإجمال المقرون بالتسليم بها ، ورجاء اتخاذها جسراً ووسيلة للنجاة من الأذى ، ودفع الكرب وأسباب الحزن .
و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أصابه هم أو حزن فليقل : اللهم إني عبدك ، وابن عبدك ، وابن أمتك ، ناصيتي في يدك ، ماض فيّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور بصري ، وذهاب همي ، وجلاء حزني .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما قالهن مهموم قط إلا أذهب الله همه وأبدله بهمه فرجاً .
قالوا : يا رسول الله أفلا نتعلم هذه الكلمات؟ قال : بلى ، فتعلموهن وعلموهن) ( ).
وتبين خاتمة الحديث أعلاه الترغيب بتعلم الأسماء الحسنى والقيام بتعليمها وتوارثها والتدبر في معانيها ودلالتها .
ليتجلى للناس قانون وهو النفرة من الإرهاب ولزوم الإمتناع عنه .
وهناك تضاد بين تعليم الأسماء الحسنى وبين التحريض على الإرهاب ، فكل اسم منها يدعو إلى الرحمة والرأفة بالناس , ورجاء العفو والمغفرة من الله سبحانه .
ويدل الحديث أعلاه على كثرة اسماء الله عز وجل ، وعجز الناس عن الإحاطة بها ، إذ ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً :
الأول : الأسماء التي سمّى الله عز وجل بها نفسه .
الثاني : الأسماء التي ذكرها الله عز وجل في القرآن سواء بالاسم الصريح مثل : الغفور , الرزاق ، الحليم ، أو بالمعنى والدلالة .
الثالث : ما تفضل الله عز وجل وعلّمه لبعض الأنبياء والرسل والأولياء بالوحي والإرشاد والتوفيق .
الرابع : الأسماء التي اختص الله بها لنفسه ولم يطلع عليها الملائكة ولا باقي الخلائق ، وهل هي من مصاديق التبيان في قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وأن هذه الأسماء مذكورة في القرآن ، الجواب أنها من هذا التباين ، إذ أخبر القرآن عن علوم الغيب التي استأثر بها الله لنفسه ، قال تعالى [قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ] ( ) وحتى الأسماء التسعة والتسعين التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ترد كلها في القرآن باللفظ ، فمن باب الأولوية أن الأسماء التي استأثر الله بها وردت بمعنى الدلالة إليها ، كل اسم منها رحمة بالناس والخلائق لذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه،
فبها يتعاطفون،
وبها يتراحمون،
وأخّر تسعة وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة.
وفي رواية أخرى : إن الله تعالى قابض هذه إلى تلك فمكملها مائة يوم القيامة،
يرحم بها عباده) ( ).
ويلزم الإنسان التصديق بالأسماء الحسنى لله عز وجل ، ودلالة الاسم على معناه والغبطة والتسليم بالمنافع العظيمة لكل اسم من أسماء الله في حياة الفرد والجماعة ، ومن دلالة الأسماء الحسنى النهي عن الإرهاب والإحتراز منه ولزوم عدم التحريض عليه ، وعلى سبيل المثال وليس الحصر :
الأول : الرحيم ،إذ تتغشى رحمة الله الناس جميعاً ولا يحق لأحد إرهابهم والعبث بأمنهم وإحداث الدمار والهلاك بينهم ، والأصل هو تغشي رحمة الله عز وجل للناس جميعاً ، فليس من إنسان إلا وتأتيه رحمة الله دفعة ومن أبواب متعددة ، ويبعث التسليم بسعة رحمة الله ، وتغشيها الناس جميعاً الطمأنينة في النفوس ، فهو من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ) فلا يغلق الله أبواب رحمته على أي من الناس ، وفيه دعوة للصبر والسكينة والرجاء والأمن .
ومن رحمة الله تسخير البحار والأنهار والشمس والقمر والجبال والكواكب للناس ، وتضاعف عدد سكان الأرض في هذه الأزمنة أضعافاً كثيرة فأخرجت الأرض كنوزها من المعادن لبيان حضور رحمة الله للناس جميعاً وهي ضياء وسبيل يأخذ بأيديهم إلى سبل الهداية , ويبعثهم طوعاً وإنطباقاً على الشكر له سبحانه .
وأيهم أكثر الذين يشكرون الله عز وجل على نعمة الذهب والنفط والمعادن الأخرى أم الذين يجحدون بها .
الجواب هو الأول ، والمختار أن الشكر لله في الدنيا لا يختص بالمؤمنين فيأتي من عامة الناس ، وفيه دعوة لنبذ الإرهاب وترك الإضرار بعباد الله وعنده سبحانه حسابهم .
وفي قوله تعالى [فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] ( ) ورد عن عبد الله بن عمرو قال (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي يده كتابان ، فقال : أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا لا ، ألا أن تخبرنا يا رسول الله .
قال : للذي في يده اليمنى ، هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم .
ثم قال للذي في شماله ، هذا كتاب من رب العالمين ، بأسماء أهل النار ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم أبداً .
فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله إن كان قد فرغ منه؟ فقال : سددوا ، وقاربوا ، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة ، وإن عمل أي عمل .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بيديه فنبذهما ، ثم قال: فرغ ربكم من العباد { فريق في الجنة وفريق في السعير }( )( ).
الثاني : الباسط ، إذ يبسط الله عز وجل الرزق للناس جميعاً ولا تختص السعة في الرزق .
ويتضمن اسم الباسط النهي عن الإرهاب ، والمنع من التفجيرات ، وهو دعوة للتسامح والتآلف بين الناس ، كما يدل على أن الإرهاب لا يضر عامة الناس في أرزاقهم لأن الله عز وجل باسط يديه بالعطية ،يتفضل على البر والفاجر ، وعلى الكبير والصغير والذكر والأنثى ، وكل إنسان ينال نصيباً من الرزق الذي يحتسبه ومن الرزق الذي لا يحتسبه .
ويحتمل القيام بالإرهاب والتحريض عليه بلحاظ المقام جوهاً :
الأول : إنه سبب لقبض الرزق .
الثاني : مادة البسط وزيادة الرزق .
الثالث : لا موضوعية للإرهاب في مسألة الرزق كماً وكيفاً .
والصحيح هو الأول لأنه خلاف وأمر ضار ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] ( ) .
ومن الآيات في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم امتنع عن التسعير عندما ارتفعت الأسعار وتوجه الناس له.
(عن أنس قال : غلا السعر فقال الناس : يا رسول الله سعر لنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق ، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة من دم ولا مال) ( ).
الثالث : من الأسماء الحسنى (الملك) وهو من اسماء الذات والأفعال ، ويدل على التصرف المطلق في الخلائق والكائنات ، وكل الخلائق حاضرة عند الله مستجيبة له .
أما كونه من أسماء الذات فلان الله عز وجل وحده له القدرة على التصرف في كل الأشياء ، وأما كونه من أسماء الأفعال فلأنه الملك الحقيقي ، وتنفرد بالمشيئة المطلقة في الكائنات ، ومقاليد الأمور بيده سبحانه ، وفي التنزيل [فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ] ( ) .
ومن فضل الله عز وجل على الناس تسميته لبعض الرؤساء بالملك في آيات متعددة منها [وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ]( ) [قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ]( ) [وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ) .
ويتصف ملك الإنسان وصيرورته ملكاً بأمور :
الأول : كل ملك وأن طالت أيامه فهو ميت ومغادر الدنيا ، وقد يغادر الملك قبل موته لبيان قانون وهو أن ملك الإنسان متزلزل وغير مستقر ليكون موعظة للناس .
الثاني : مدة ملك الإنسان قصيرة .
الثالث : وجود منافسين للملك في عرشه وخارجين عن طاعته ، وقد يخشى من ابنه وأخيه ، وقد يقوم بقتل من يحس بالريبة منه وإن كان قريباً منه ، إما ملك الله فهو مطلق ، وليس له سبحانه شريك ، وفي التنزيل [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا] ( ) .
الرابع : يزهد كثير من الناس بملك الدنيا فلابد أن أحدهما مفارق للآخر الملك أو العرش والسلطان .
الخامس : عودة ما يملك الملوك إلى الله عز وجل .
السادس : الملك من الناس سلطان وليس له الحق بالتصرف التام .
السابع : يقف الملوك بين يدي الله للحساب يوم القيامة ، وقد يكونون اشد حساباً من غيرهم .
ومن خصائص ملك الله أنه دائم ويستغرق كل من :
الأول : ما قبل الحياة الدنيا ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ).
الثاني : مدة الحياة الدنيا .
الثالث : عالم البرزخ وأحوال الناس في القبور .
الرابع : عالم الآخرة والجزاء ، وفي التنزيل [يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ] ( ) ، وفيه تذكير للناس جميعاً بوقوفهم بين يدي الله عز وجل .
والله تعالى هو الملك والمليك والإله والرب سبحانه يدعو الناس لعباده ، ويزجرهم عن فعل القبائح ، ويمنع من الظلم ويعاقب عليه ، وينهى عن الإرهاب وإخافة الناس بغير حق في ملكه وسلطانه .
قانون كراهة تمني الموت
لقد جعل الله عز وجل الموت خاتمة لحياة كل إنسان ، ومن الآيات أن الصبي وقبل أن يبلغ يدرك هذه الحقيقة ، ويعلم أنه معرض للموت في كل ساعة بالبديهية والمحسوسات والمشاهدات إذ ينزل الموت بالقريب منه والجار ونحوه .
وقد جاءت الثورة التقنية والإعلامية لتجعل الإنسان يعيش أخبار الموت والحوادث في كل ساعة فالأخبار لا تولي عناية كافية للولادات وكيف انها أكثر بكثير في العدد من الذين يغادرون الدنيا بالموت ، فينشغل العالم بقتل أو موت شخص من الأعلام يوما أو يومين أو أكثر ، وستكون هناك احصائيات لعدد المواليد في كل ساعة وفي كل دقيقة ، وهو من فضل الله على الناس ويدل عليه مضاعفة أعداد سكان الأرض .
والموت هو زهوق الروح وسكون الجسم وانعدام الحركة ، لينقطع عمل الإنسان في مزرعة الدنيا ، ويترك خلفه ما كسبه وجمعه بالحلال والحرام ، ولن يترك وشأنه بل ينتقل إلى عالم الحساب والجزاء ، قال تعالى [أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى] ( ).
وقد يتبادر إلى الذهن وجود مدة مديدة وأحقاب بين الموت وعالم الحساب لأن الآخرة لا تقوم حتى ينفخ في الصور فما دامت الحياة الإنسانية على الأرض فليس من حشر عام للناس ، ولكن النصوص تبين إنعدام الفترة بين الموت والحساب الإبتدائي .
(عن انس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يتمنين احدكم الموت من ضر اصابه فان كان لابد فاعلا .
فليقل : اللهم احيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي) ( ).
وورد بخصوص يوسف في التنزيل [تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ] ( ) وقيل ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف عليه السلام .
ولا تدل الآية أعلاه على هذا المعنى , إنما سأل يوسف السلامة من الإفتتان ما دام حياً ، وتوسل إلى الله عز وجل بأن تكون عاقبته إلى خير وأن يجمعه الله مع الأنبياء والأولياء والصالحين في الآخرة لبيان اقراره باليوم الآخر وعالم الجزاء وأن يعلم حسن ثواب المؤمنين الذين يعملون الصالحات .
ويدل على سعيه في الدنيا , وحرصه على جني الصالحات قوله وسؤاله الملك [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ] ( ) وتوليه شؤون الوزارة على رغبته في الحياة بما ينفع الناس ، ويدفع عنه البلاء العام .
فمن خصائص المؤمن أن وجوده رحمة , وينتفع الناس منه من ذوي الإرحام والأقارب وغيرهم بحسب شأنه وعمله , أما الفعل الإرهابي فانه يضر بصاحبه وذويه لبيان قانون وهو ترك الإرهاب صلة للرحم ، وإجتناب لقطعها .
كما استدل على تمني الموت بقول مريم [يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا] ( ) إنما أرادت بيان شدة حزنها وفزعها من علم قومها بولادتها لعيسى من غير أب ، ورجاء الشكوى إلى الله عز وجل فتفضل بالمعجزة بأن كلّم عيسى الناس وهو في المهد .
(عن عمار بن ياسر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو بهؤلاء الدعوات : اللهم بعلمك الغيب ، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي ، اللهم أسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وأسألك كلمة الحكم في الغضب والرضا .
وأسألك القصد في الفقر والغنى ، وأسألك نعيماً لا يبيد وقرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضا بعد القضاء ، وأسألك برد العيش بعد الموت ، وأسألك لذة النظر إلى وجهك ، والشوق إلى لقائك ، في غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة .
اللهم زينا بزينة الإِيمان ، واجعلنا هداة مهتدين) ( ).
وبعد معركة بدر والنصر العظيم الذي أنعم به الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلافاً لحساب العدد والعدة ، صار الصحابة الذين فاتهم حضور تلك المعركة يتشوقون للقاء العدو ، وهذا التشوق ليس أمراً ابتدائياً ، إنما كان بسبب الوعيد والتهديد الذي كان كفار قريش يطلقونه ضد كل من :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإعلانهم إرادة قتله ، وهل هذا الإعلان من الإرهاب ، الجواب نعم ، فالذين كفروا هم الذين أسسوا الإرهاب ، وتجاهروا به ، وليس أشد من الإرهاب الموجه ضد الأنبياء والتنزيل .
الثاني : يمتاز النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء أن القرآن الذي أراد الله له الخلود في الأرض نزل عليه على نحو النجوم والتدريج والتوالي ، إذ تنزل عليه آية أو بضع آيات في اليوم على مدى ثلاث وعشرين سنة وقبل معركة بدر ومعركة أحد ، وبعدهما وفيه نوع أمن له من إرهاب قريش .
وفي توالي نزول القرآن شاهد على أن قريشاً كانوا يسعون لوقف نزول آيات القرآن لأنها كانت تجذب الناس للإيمان كما في توالي نزولها من بعد الهجرة , وتراكم وتجلي إعجاز القرآن ، قال تعالى [وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً] ( ).
الثالث : توجه إرهاب المشركين إلى المهاجرين الذين غادروا مكة بسلامة دينهم ، والأصل أن تكف قريش أذاها عنهم , وأن يلوم الكفار أنفسهم لأنهم صاروا سبباً بمغادرة المهاجرين مكة مكرهين ، فانعم الله عليهم بالأمن وأداء العبادات بسلامة ، والتفقه في الدين ، قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ).
لتدل الآية أعلاه على إمكان النجاة من الإرهاب بالسعة في الأرض لكنها لا تعني ترك الديار فقد غادر المسلمون مكة مضطرين من شدة وطأة الإرهاب ليعودوا إليها يوم الفتح ، ولتصبح يومئذ نقية من الإرهاب ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ) .
وتدعو الآية أعلاه المسلمين إلى شكر الله عز وجل على فضله من جهات :
الأولى : نجاة بني اسرائيل من آل فرعون .
الثانية : استدامة قيام النبي موسى عليه السلام بأداء رسالته ، وبيان أحكام الشريعة التي جاء بها من عند الله عز وجل .
الثالثة : توارث أنبياء بني اسرائيل النبوة .
الرابعة : فضل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنجاته من كفار قريش .
الخامسة : العمل بمضامين الشريعة الإسلامية .
وفي الآية أعلاه ورد عن الضحاك ان بني اسرائيل (بعد غرق فرعون سبَوا القبط فاستعبدوهم بعد أن كانوا عبيدهم فصاروا وارثين لهم) ( ) ولا أصل له .
فالمراد الوراثة في العبادة وأداء المناسك وعمارة الأرض بالتقوى والسيادة والأمن في الأرض .
والميراث تلقي الوارث للملك بعد زواله عمن كان له بالموت ونحوه ، وقال عمرو بن كلثوم في معلقته ، وكان رئيساً في الجاهلية .
(وَرِثنا مَجدَ عَلْقَمَةَ بنِ سَيفٍ، … أَبَاحَ لَنا حُصُونَ المَجدِ دِينَا
وَرِثْتُ مُهَلهَلاً، والخَيرَ منهُ، … زُهَيراً، نِعمَ ذُخرُ الذَّاخِرينَا
وَعَتَّاباً وكُلْثُوماً جَميعاً … بِهِمْ نِلْنَا تُراثَ الأكْرَمِينَا) ( ).
والموت أمر وجودي ، وقد دلّت عليه آيات متعددة منها [وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ] ( ) .
فيأتي الموت للإنسان ويقصده في أوانه وأجله دون غيره ، وتدل هذه الآية على أن المسلم مأمور بالإنفاق والبذل وفيه إعانة للآخرين ، ولم يؤمر بالإرهاب وبث الخوف والفزع بين الناس ، وهو يرجو من الله عز وجل أن يؤخره لعمل الصالحات وتدارك ما فاته .
وقال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ] ( ) وقيل المعنى حضور أسباب الموت( ) ، ولكن الكلام العربي يحمل على ظاهره إلا مع القرينة الصارفة .
كما يمكن تقدير الآية إذا حضر أحدكم ملك الموت ،وهو لا يتعارض مع المعنى الظاهر من الآية ،وهو مجئ ذات الموت ليأخذ الإنسان في أجله إلى الدار الآخرة .
وورد لفظ مصيبة الموت مرة واحدة في القرآن بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنْ الآثِمِينَ]( )لبيان أثر الموت وأنه مصيبة بفقد الميت وأثر هذا الموت على ذويه وأهله ومحبيه وغيرهم .
ومن خصائص المؤمن حزن الناس عليه فيحزن حتى عدوه ، ويندم على إيذائه له لأن المؤمن سمح ذو خلق حميد، يتجنب إيذاء الناس .
لذا جاءت الآية بصيغة الخطاب للجماعة مع أن الموت نزل بواحد منهم ، وقد غادرهم فلا يشمل هذا الخطاب الميت إذ ذكرته في أول الآية بأن جاءه الأجل .
وفيه تنبيه للمسلمين والناس بأن يترك الموت وحده يأتي للإنسان ، ولا يسعون في قتله ظلماً وإن تباينت الأسماء والأعذار ، فقد نزلت الشرائع السماوية بحرمة القتل والنهي عن سفك الدماء .
ولا يصح القتل إلا بالحق كما في القصاص الذي هو في حقيقته زجر عن القتل ومنع من الإرهاب ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) .ولا يجوز القصاص من غير القاتل ، وليس لأي إنسان تنفيذ حكم القصاص إنما هو للحاكم , لبيان عدم الوصول إلى الإرهاب من باب الأولوية القطعية .
قانون الإستخفاف بالغير حماقة
كانت قريش تظن أن الأوس والخزرج أهل زراعة , وليسوا أشداء في الحروب ، وهم من بطون قبيلة تغلب .
وكانت الكثير من قبائل تغلب على أطراف الجزيرة العربية وقريبة من الشام والعراق ودخلت طائفة كبيرة منهم النصرانية ، وكان أكثرهم سكان الخيام .
وقال الشاعر جابر بن حني التغلبي مخاطباً بهراء :
(وقدْ زعمتْ بهراءُ أنَّ رماحَنا … رماحُ نصارى لا تخوضُ إلى الدَّمِ
فيومَ الكلابِ قد أزالَتْ رماحُنا … شُرحبيلَ إذ آلى أليَّةَ مقسمِ
ليستلبنَّ أدراعَنا فأزالَهُ … أبو حنشٍ عن ظهرِ شقّاءَ صلْدمِ) ( ).
ودخل الأوس والخزرج معارك الإسلام الأولى دفاعاً واضطراراً ، إذ أرادت قريش إبادتهم وجعلهم بين قتيل وأسير لأنهم آووا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من أصحابه ، لبيان أن الذي يهجم ويقصد الإبادة لا يجد إلا الإستبسال والدفاع عن العقيدة ، وفي مدرسة معارك الإسلام الأولى دعوة للناس جميعاً للحوار والإحتجاج وترك الهجوم أو القتال وحكم وراثة الأرض بيد الله عز وجل وحده ، قال تعالى [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ] ( ) .
والزبور هو الكتاب الذي أنزله الله على داود وهو من أنبياء بني إسرائيل ، قال تعالى [وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا] ( ) والزبور مشتق من الزبر بمعنى الكتابة ، وذكر أنه يتألف من مائة وخمسين سورة ليس فيها حِكم حلال ولا حرام ، إنما هو حكم ومواعظ .
لقد كانت قريش تتصف بالزهو والتكبر , والكبر بكسر الكاف كيفية نفسانية تنعكس بأفعال على الجوارح ، وجاء القرآن بذمهم [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا] ( ) ووردت أخبار عديدة من السنة النبوية في ذم التكبر والوعيد عليه .
وعن ( ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ :سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ أَوْ اخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ)( ).
ومن صفات المتكبر الإمتناع عن الحوار والترفع عن سماع رأي الآخر والإنصات إلى حجته ، وعادة ما يكون طلبه من المتكبر في البداية بسيطاً وسهلاً .
لقد كانت قريش تستخف بالأنصار وتنعتهم بأنهم ليسوا أهل حرب وقتال ، وتذم المهاجرين وتصفهم بالضعف وقلة الخبرة في القتال مما جعلها تتجرأ على القتال في معركة بدر ، وعدم الإتعاظ من هزيمتها النكراء في تلك المعركة إذ ترك مشركوا قريش خلفهم يومئذ سبعين قتيلاً ومثلهم من الأسرى , قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
وكان الأصل استفاقة قريش والتسليم بالمعجزة النبوية والتي تجلت من وجوه :
الأول : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة قبل الهجرة .
الثاني : أوان الهجرة وتعيين الليلة التي خرج فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة ودفع للإرهاب لأن مشركي قريش أرادوا قتله في تلك الليلة .
الثالث : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة دفع للإرهاب ، قال تعالى [إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
الرابع : النصر المبين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر زاجر للمشركين عن مواصلة الإرهاب والتمادي في الغي ، والإستخفاف بالمسلمين الذين كانوا في ازدياد مطرد من جهات :
الأولى : كثرة عدد المسلمين .
الثانية : دخول الناس أفراداً و جماعات في الإسلام .
الثالثة : زيادة إيمان المسلمين ، وهو من أسرار فرض الصلاة خمس مرات في اليوم ، وحرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أدائها جماعة .
ومع الإرهاب في موضع مخصوص هل يبقى ذات الإستحباب المؤكد للجماعة أم لا ، الجواب لابد من تأمين أداء صلاة الجماعة بعناية وحراسة واحتراز ، ولا ينتقل إلى تعليق صلاة الجماعة في مسجد مخصوص لمدة معلومة إلا لتهيئة هذه المقدمات ولزوال الخطر الإرهابي .
وهو من الإعجاز في حكم الإستحباب لصلاة الجماعة ، وليس الوجوب ، وعدم تقييد هذا الإستحباب بالمساجد وحدها ، فيصح في أي موضع .
ولو تعارض أداء صلاة الجماعة مع الأمن أيهما يقدم ، المختار هو الثاني ، قال تعالى [خُذُوا حِذْرَكُمْ] ( ) إذ يختص الوجوب العيني بخصوص الصلاة بأداء المكلف لها ، ولو منفرداً .
وصلاة المؤمن وحده جماعة ، ولو اضطر المؤمنون للصلاة على نحو الانفراد في موضع مخصوص فهو حجة ومحاربة للإرهاب وصرف له .
لقد نهى الله عز وجل عن الإستخفاف بالعدو ، وقال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] ( ) وهذا الإعداد ليس للهجوم أو القتال إنما هو على وجوه :
الأول : الحيطة والحذر .
الثاني : إرادة الأمن للمسلمين والمسلمات .
الثالث : المنع من الإرهاب والإرهاب الموازي .
وقد تزّين النفس الشهوية للإنسان البطش والإنتقام ، قال تعالى [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ] ( ) فتأتي الحيطة والتهيئ للدفاع واقية من التعدي والإضرار بالمسلم ، وهو مانع للمسلم من الإضرار بالغير ، ولا يفكر أحد الطرفين بمباغتة الآخر.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها برزخ دون الإستخفاف بكل من :
الأول : الصديق والمؤالف .
الثاني : الذي يقف على الحياد .
الثالث : العدو .
الرابع : الذي يناصر العدو .
أحاديث الذبح لا أصل لها
السنة النبوية شعبة من الوحي , وهي فرع من التنزيل , وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالقرآن [ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ] ( ), وفيه تأكيد إتصاف رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآ له وسلم بالرحمة والعفو ومصاديق الصفح , قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ومن أحاديث القتال والذبح ما نسب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لقد أتيتكم بالذبح ، وبعثت بالحصاد ولم أبعث بالزراعة قاله عكرمة ومجاهد) ( ).
وكل من عكرمة ومجاهد من التابعين ,( قدم عكرمة الشام، واشتراه خالد بن يزيد بن معاوية بدمشق من علي بن عبد الله بن عباس، ثم استقاله عليه، فأقاله البيع وأعتقه)( ), وروي عن عكرمة ما يدل على كدورته وحقده لعامة المسلمين والمسلمات .
(عن خالد بن ابي عمران قال كنا بالمغرب نفحص الصاحب وكان عندنا عكرمة مولى ابن عباس في وقت الموسم فقال عكرمة وددت أن بيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم .
قال خالد فرفض الناس به أخبرنا أبو القاسم بن السمرقندي أنا أبو بكر بن الطبري أنا أبو الحسين بن الفضل أنا عبد الله بن عبد الله بن جعفر نا يعقوب قال وقال محمد بن عبد الرحيم سمعت عليا وحكى عن يعقوب الحضرمي عن جده قال وقف عكرمة على باب المسجد فقال ما فيه إلا كافر) ( ).
وقال أبو خلف عبد الله بن عيسى الخراز عن يحيى البكاء سمعت بن عمر يقول لنافع اتق الله ويحك يا نافع ولا تكذب علي كما كذب عكرمة على بن عباس كما أحل الصرف وأسلم ابنه صيرفيا.
وقال إبراهيم بن سعد عن أبيه عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول لغلام له يقال له برد يا برد لا تكذب علي كما يكذب عكرمة على بن عباس , وقال إسحاق بن عيسى بن الطباع سألت مالك بن أنس قلت أبلغك أن ابن عمر قال لنافع : لا تكذب علي كما كذب عكرمة على عبد الله بن عباس قال لا ولكن بلغني أن سعيد بن المسيب قال ذلك لبرد مولاه.
وقال جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد دخلت على علي بن عبد الله بن عباس وعكرمة مقيد على باب الحش قال قلت ما لهذا كذا قال إنه يكذب على أبي.
وقال هشام بن سعد عن عطاء الخرساني قلت لسعيد بن المسيب إن عكرمة مولى ابن عباس يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة وهو محرم .
فقال : كذب مخبثان اذهب إليه فسبه سأحدثك قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو محرم فلما حل تزوجها) ( ), وهذا لا يعني عدم الأخذ بأحاديث عكرمة كلها , إنما تعرض الاحاديث التي رواها على القرآن والسنة النبوية القولية والفعلية , وحتى على أقوال ابن عباس , وحديث جئتكم بالذبح معارض بآيات الرحمة والأحاديث والسنة الفعلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تتصف بالرحمة والعفو .
ثم أن عكرمة لم يرفع هذا الحديث إلى ابن عباس أو غيره من الصحابة.
وذهب عكرمة إلى خراسان ومصر يطوف على الأمراء ويأخذ منهم , وذهب إلى المغرب , ولعله أول من أحدث فيهم الصفرية .
وهم فرقة من الخوارج ظهرت في المغرب وقامت لهم دولة في سجلماسة ضمن المغرب الآن وسميت بني مدرار , ونسبت إلى زياد بن الأصفر واستمرت نحو قرنين من الزمن حتى دخلها عبد الله المهدي فقتل آخر ملوك بني مدرار اليسع بن ميمون سنة 296 هجرية، ولكن حكم المدينة بقي بيد بني مدرار مع التبعية للدولة الفاطمية حتى سنة 347 هجرية .
لقد أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالصفح والعفو , قال تعالى [فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ] ( ), وقال تعالى [وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً]( ).
ولا دليل على نسخ هذه الآيات ولو دار الأمر بين النسخ وعدمه , فالأصل هو عدم النسخ ويمكن الرجوع إلى قانون في المقام هو دلالة السنة النبوية على النسخ أو عدمه , وهو الذي نبيّينه في الجزء السابع والثمانين بعد المائة إن شاء الله.
ولا يصح ليّ الحديث , وصرفه عن معناه , ولكن يمكن لحاظ مناسبته والذين يتوجه إليهم الخطاب فمثلاً كانت قريش تؤذي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويتوعدونه علانية وقبلاً , وقد يرد عليهم بما يثبط عزائمهم وينذرهم , ويدعوهم للكف عنه.
وهذا لا يعني إحتساب الحديث قانوناً في كل أيام الدنيا لأن الحكومة لآيات القرآن والأحاديث التي وردت بصيغة الإطلاق مما لا يتعارض مع أحكام القرآن .
ولو تنزلنا وقلنا بصحة الحديث فقد أراد أبو جهل وأصحابه قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتوعدهم فهذا الوعيد خاص بمضمونه ومناسبته قبل الهجرة .
وهو تحذير وإنذار من هجوم المشركين في معركة بدر ، ولا يعني الإستدامة ولا اتخاذ الناس له وسيلة للتهديد والوعيد , لقد صارت آيات الرحمة والأحكام الشرعية والحدود هي الضابطة والملاك .
قانون التحية دعوة للألفة والسلام
التحية مصدر يقال حياه تحية ، وهي في اللغة دعاء ورجاء استدامة الحياة ، فيقال : حياك الله أي أبقاك ، وتأخذ في الإصطلاح معنى آخر وهو سؤال الهداية والإيمان أيضاً ، قال تعالى [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ) أي أن الحياة في الآية توبة الإنسان وصلاحه وإيمانه وبين التحية والسلام عموم وخصوص مطلق , فالسلام من التحية وهو النطق بقول السلام عليكم .
ومن إعجاز القرآن أنه لم يأت بخصوص قول السلام عليكم إنما جاء أيضاً بذكر التحية , وفرض ووجوب الرد عليها ، قال تعالى [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا] ( ) .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يفشي السلام ويندب إليه ، ويمنع من البخل به .
(عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الاسلام خير .قال : تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) ( ).
إن السلام رحمة وأمن ودعوة لترك العصبية , ومن يكثر السلام على الناس سواء يعرفهم بأشخاصهم أو ملتهم ومذهبهم أو لم يعرفهم به يكون صدره رحبا وينظر للناس بعين السماحة .
فجاء الحديث أعلاه بالترغيب بنشر شآبيب المودة بين الناس عموماً ، وأنه منهج الإسلام ، وفيه منع لقيام الغير بإرهاب وتخويف المسلمين .
(قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ أُقْرِئْ خَدِيجَةَ السّلَامَ مِنْ رَبّهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَا خَدِيجَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُك السّلَامَ مِنْ رَبّك .
فَقَالَتْ خَدِيجَةُ اللّهُ السّلَامُ وَمِنْهُ السّلَامُ وَعَلَى جِبْرِيلِ السّلَامُ)( ).
لبيان فضل عظيم من عند الله بأن يقوم بتبليغ سلامه على أم المؤمنين وأن الله تعالى هو الذي يأمر بالسلام ، ولا يختص هذا الأمر بلفظ تحية السلام ، إنما المراد المعنى الأعم من الأمن والسلامة ، كما تفضل الله عز وجل وبلغ سلامه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن عكرمة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (جاء جبريل فقال لي : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ، وهذا ملك الجبال قد أرسله الله إليك وأمره أن لا يفعل شيئاً إلا بأمرك . فقال له ملك الجبال : إن الله أمرني أن لا أفعل شيئاً إلا بأمرك ، إن شئت دمدمت عليهم الجبال ، وإن شئت رميتهم بالحصباء ، وإن شئت خسفت بهم الأرض .
قال : يا ملك الجبال فإني آتي بهم لعله أن يخرج منهم ذرية يقولون : لا إله إلا الله . فقال ملك الجبال عليه السلام : أنت كما سمَّاك ربك رؤوف رحيم)( ).
ويأتي السلام من عند الله مقروناً بالأمر والبشارة والإخبار عن الثواب العظيم لبيان أن السلام أمن وسلامة في النشأتين ، وفي تفسير قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( ).
(روى عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم عند انتصاف النّهار وهو في الحجر،
فسلّمت عليه فرّد عليّ النبّي صلى الله عليه وآله وسلم ثمَّ قال : يا علي هذا جبرئيل يُقرئك السلام. فقلت : عليك وعليه السّلام يارسول الله لِمَ؟
قال : أُدّن منّي،
فدنوت منه فقال : يا علي يقول لك جبرئيل : صم كل شهر ثلاثة أيام يُكتب لك بأول يوم عشرة الآف (سنة) وباليوم الثاني ثلاثين ألف (سنة) وباليوم الثالث مائة ألف (سنة). فقلت : يا رسول الله هذا ثواب لي خاصة أم للنّاس عامة؟
قال : يا علي يُعطيك الله هذا الثواب ولمن يعمل مثل عملك بعدك. قلت : يا رسول الله وما هي.
قال : أيام البيض : ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر( ).
قال عنترة : قلت لعلي عليه السلام : لأي شيء سُميت هذه الأيام البيض.
قال : لما أهبط آدم من الجنّة إلى الأرض أحرقته الشمس. فاسوّد جسده ثمَّ صام اليوم الثالث. فأتاه جبرئيل فقال : يا آدم أتحب أن يبيض جسدك ،
قال : نعم،
قال : فصم من الشهر ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر فصام آدم أول يوم فابيض ثلث جسده،
ثمَّ صام اليوم الثاني فابيض ثلثا جسده،
ثمَّ صام اليوم الثالث فابيض جسده كلّه فسُميت أيام البيض.) ( ).
لقد جاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإشاعة السلام وجعله حقيقة واقعة في الواقع اليومي للمسلمين والناس جميعاً .
وتحتمل التحية والسلام وجوهاً :
الأول : إنه واجب عيني على المكلف .
الثاني : إنه واجب كفائي .
الثالث : إنه مستحب ولكن الرد عليه واجب كفائي .
الصحيح هو الثالث فالسلام على الغير مستحب ، وفيه ثواب عظيم (عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ عَنْ عِمْرَانَ
أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ عَشْرٌ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ عِشْرُونَ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ ثَلَاثُونَ) ( ).
وكان للسلام موضوعية في جذب الناس للهدى والإيمان ، وهو وسيلة مباركة لتنزيه المجتمعات من الإرهاب ، ودفع الكراهية والبغضاء عن كيفية المعاملة بين الناس .
ولقد بعث بعض كفار قريش رجلاً منهم لإغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لموضوعية السلام واستحبابه شأناً في إمتناعه عن العزم على الإغتيال ، وهدايته إلى الإسلام .
لبيان قانون وهو أن السلام طريق إلى الإسلام ، كما يؤدي الإسلام إلى السلام من غير أن يلزم الدور بينهما .
فبعد معركة بدر والمصيبة التي نزلت بقريش فيها أخذوا يمكرون ويخططون للإنتقال بصيغ الغدر فارادوا اغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه شاهد على الضعف والوهن الذي لحق كفار قريش ، وصاروا يعقدون المجالس الخاصة والعامة ، ويجتمعون في دار الندوة في جوار البيت الحرام للبطش والثأر والإرهاب والإنتقام ، وجلس عمير بن وهب الجُمحي مع صفوان بن أمية وهو من رؤساء قريش ، وقد قتل أبوه وأخوه في معركة بدر .
فتذاكرا مصيبة قريش في معركة بدر ، وكيف أن قتلاهم سحبوا إلى القليب (فَقَالَ صَفْوَانُ وَاَللّهِ إنْ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ خَيْرٌ قَالَ لَهُ عُمَيْرٌ صَدَقْت وَاَللّهِ أَمَا وَاَللّهِ لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيّ لَيْسَ لَهُ عِنْدِي قَضَاءٌ وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمْ الضّيْعَةَ بَعْدِي ، لَرَكِبْت إلَى مُحَمّدٍ حَتّى أَقْتُلَهُ فَإِنّ لِي قِبَلَهُمْ عِلّةً ابْنِي أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ) ( ).
وكان عمير من الأشرار وبين كان يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة قبل الهجرة .
ووقع ابنه أسيراً عند المسلمين في المدينة ، فأدرك صفوان أهليته للبطش والإنتقام ، وأنه يصلح لتولي وظيفة إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعلموا أن قوله تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ]( ) والذي نزل في مكة حضر في ليلة المبيت وهو مصاحب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم مغادرته إلى الرفيق الأعلى .
(عن ابن عباس في قوله { وجعلنا من بين أيديهم سداً }( ) قال : كفار قريش غطاء { فأغشيناهم } يقول : ألبسنا أبصارهم { فهم لا يبصرون } النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيؤذونه ، وذلك أن ناساً من بني مخزوم تواطئوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه . منهم أبو جهل ، والوليد بن المغيرة .
فبينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي يسمعون قراءته ، فأرسلوا إليه الوليد ليقتله ، فانطلق حتى أتى المكان الذي يصلي فيه ، فجعل يسمع قراءته ولا يراه ، فانصرف إليهم ، فأعلمهم ذلك ، فأتوه فلما انتهوا إلى المكان الذي يصلي فيه ، سمعوا قراءته فيذهبون إليه فيسمعون أيضاً من خلفهم ، فانصرفوا ولم يجدوا إليه سبيلاً . فذلك قوله { وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً..}( ))( ).
فبادر صفوان إلى القول : عليّ دينك ما بلغ وأنا أقضيه عنك ، ولا تخشى على عيالك فأني اضمهم إلى عيالي أواسيهم وأعتني بهم ما بقوا ، ولا تكون عندي نعمة وأحجبها عنهم ، أي إذا كانوا فقراء وقليلي الزاد وأنت معهم فهم سيصبحون بخير وسعة ورغد عيش ، ان قٌتلت لأن صفوان من كبار تجار قريش ، كما جاءته تركة من أبيه الذي قتل في معركة بدر .
فرضي عمير بهذا العرض مع أن النبي محمداً لم يوذه وأن ابنه في الأسر لا يشكو من شئ ، قال تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا] ( ).
(فقال عمير : فاكتم شأني وشأنك ) ( )، أي عزمي على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإعانتك وتحريضك عليه ، ولم يخش صفوان ، ولكنه حذره من التباهي والتفاخر باحباط خطة اغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعرض السخي الذي عرضه على عمير ، فهو لم يتعهد له بمال معين إنما جعل العرض مفتوحاً ، وذا صبغة مالية وإجتماعية وأخلاقية ، وليس فيه إلا الإثم ، وهل هو من الإرهاب .
الجواب نعم إذ أنه تحريض وسعي لاغتيال خاتم النبيين ، وإزالة الموانع عنه مع بطلانه ،( قال صفوان سافعل ، وفي رواية أفعل )( ) ، وفيه تسليم بوجود عيون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومؤمنين ومؤمنات في مكة يقومون بنقل الأخبار له ، كما أن أهلها يستهجنون القيام بالإغتيال ، والتعدي على النبي والمؤمنين فعل مذموم على نحو الإجمال وتنفر منه النفوس.
فكيف وأن الإغتيال موجه لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخاف عمير أن يقتل هو وصفوان قبل أن يصل الى المدينة ، ودفع صفوان بعض المال لعمير ليتجهز ويشحذ سيفه ويجعل فيه سمُاً لتكون ضربته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قاتلة .
وغادر الى المدينة وعندما وصل إليها توجه إلى المسجد النبوي وأناخ ببابه ، وكان نفر من الصحابة يذكرون وقائع معركة بدر ، وما أكرمهم الله عز وجل فيها ، وعرفوه وإرتابوا من أمره وقالوا أنه حرض بين الفريقين يوم بدر ، وطاف على معسكر المسلمين ليحصي عددهم .
(ثُمّ دَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ هَذَا عَدُوّ اللّهِ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ قَدْ جَاءَ مُتَوَشّحًا سَيْفَهُ قَالَ فَأَدْخِلْهُ عَلَيّ قَالَ فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتّى أَخَذَ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ فَلَبّبَهُ بِهَا ، وَقَالَ لِرِجَالِ مِمّنْ كَانُوا مَعَهُ مِنْ الْأَنْصَارِ : اُدْخُلُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَاجْلِسُوا عِنْدَهُ وَاحْذَرُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْخَبِيثِ فَإِنّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ)( ).
وأدخله عمر الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أخذ بحمالة سيفه في عنقه ، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يرسله ، ثم قال : أدنُ يا عُمير ، فدنا من النبي وحياه قائلاً ، انعموا صباحاً وهي التحية المتعارفة أيام الجاهلية.
فوقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند التحية وقبل أن يخوض في موضوع آخر ، أو يسأله عن سبب مجيئه وغايته منه ، وقال : قَدْ أَكْرَمَنَا اللّهُ بِتَحِيّةِ خَيْرٍ مِنْ تَحِيّتِك يَا عُمَيْرُ بِالسّلامِ تَحِيّةُ أَهْلِ الْجَنّةِ( ).
فخاطبه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باسمه ، ونسب التحية له ، وذكر له فرداً جامعاً بين المسلمين والملائكة وهو السلام ، بفضل من الله عز وجل لبيان قانون وهو اللطف الإلهي بالمسلمين في أمور الدين والدنيا والمعاملات ، وأن سنخية النظام الإجتماعي في الإسلام بأمر من الله عز وجل ، ترى لماذا ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السلام وأنه تحية السلام .
الجواب لبيان قانون وهو أن السلام يصد عن الإغتيال ، ويشّل يد الذي يريد الإرهاب ، وكأنه من البرهان ، قال تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( )، بتقريب وهو أن الله عز وجل يتفضل ويجعل الإنسان يرى برهاناً يصرفه عن السوء ، وأكثر الناس ينتفعون من هذا البرهان .
ومن الآيات بقاء البرهان موعظة وعبرة بين الناس ، وتفضل الله عز وجل وأنزل القرآن لتوثيق الحجة والبرهان وبعث الناس على الإنتفاع من البراهين المتعددة والتي هي حاضرة في الواقع اليومي سواء كانت من المحسوسات أو المتواترات أو التجريبيات أو الفطريات .
ولا يعلم عدد الملايين الذين انتفعوا من الآية أعلاه في العصمة من الفاحشة إلا الله عز وجل ، إذ أنها حجة وبرهان يوثق برهاناً ، وهل انتفع عمير من البرهان الذي ذكره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص السلام .
الجواب نعم ، لبيان قانون من الوحي وهو إنتفاع الناس من كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الإنتفاع حال ومتجدد في كل زمان ومكان والى يوم القيامة ، وهو من الشواهد على لزوم توثيق السنة النبوية، والإبتداء بالتحية خلق حميد ، وإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد تلزم الإستعانة بالصبر خاصة في حال السلام على صاحب الخصومة والغريب والمتكبر ليكون الأجر فيه مضاعفاً ، قال تعالى [وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ) .
وكما جاء القرآن برد التحية بمثلها أو أحسن منها فانه جاء بافشاء السلام ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] ( ) وقال تعالى [فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ) ومن موارد العقل والتعقل النفرة من الإرهاب ومقدماته .
الصبر حرز من الإرهاب
من أبهى معاني الصبر أداء العبادات وإجتناب الإرهاب والإمتناع عن نصرته.
ويفوز العبد بمرضاة الله بالصبر على المكاره , والإمتناع عن المعاصي قال تعالى [اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( )، وتقدير الآية أعلاه بلحاظ آفة الإرهاب على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسله وملائكته امتنعوا عن الإرهاب.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بوجوب التنزه عن الإرهاب .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بحرمة الإرهاب.
الرابع : يا أيها الذين آمنوا بالتعاون لدفع الإرهاب.
ومن الإعجاز مجئ الأمر من الله بالتعاون على البر والصلاح ، والإمتناع عن المعصية والإضرار بالغير في ذات الآية التي تبدأ بنداء الإيمان وتلزم المسلمين بعدم عداوة وإيذاء قوم لهم ، إذ قال الله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
وهل الإمتناع عن الإرهاب من التقوى ، الجواب نعم.
الخامس : يا أيها الذين آمنوا بالتضاد بين القرآن والإرهاب .
السادس : يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا الإرهاب .
السابع : يا أيها الذين آمنوا اصبروا على الإرهاب الذي يأتي من غيركم .
الثامن : يا أيها الذين آمنوا بأن العنف والإضرار بالناس مكروه بالذات والأثر .
التاسع : يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم الحساب على الإرهاب يوم القيامة.
العاشر : يا أيها الذين آمنوا تعاضدوا على دفع الإرهاب .
الحادي عشر : يا أيها الذين آمنوا بأن الله لا يريد في الأرض الإرهاب.
الثاني عشر : يا أيها الذين آمنوا بأن الله لا يحب الإرهاب .
الثالث عشر : يا أيها الذين آمنوا بأن نبوة محمد رحمة للناس جميعاً.
الرابع عشر : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر للإمتناع عن الإرهاب , ودفعه عنكم وعن الناس جميعا , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الخامس عشر : يا أيها الذين آمنوا اقهروا النفس الغضبية.
السادس عشر : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر على أمور الدين والدنيا , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ).
السابع عشر : يا أيها الذين آمنوا افزعوا إلى الله بأنواع الطاعات.
الثامن عشر : يا أيها الذين آمنوا تغلبوا على الصعاب بالصبر .
التاسع عشر : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر رجاء الثواب .
العشرون : يا أيها الذين آمنوا اصبروا على ما يثقل على النفوس والأيدان فان عاقبة الصبر خير ، وعاقبة العنف والإرهاب ضرر وشر .
الحادي والعشرون : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والإحتراز من الإرهاب .
وعن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أفضل الإِيمان الصبر والسماحة ( ).
وحينما يعلم المسلم أن الصبر أفضل الإيمان، فانه يعتصم به ويدعو الناس لإجتناب العنف والإرهاب .
الثاني والعشرون : يا أيها الذين آمنوا من صفات المؤمنين الإستعانة بالصبر والصلاة .
الثالث والعشرون : يا أيها الذين آمنوا الإمتناع عن الإرهاب صبر واستعانة بالصبر ، ففيه الأجر والثواب.
الرابع والعشرون : يا أيها الذين آمنوا ترك الإرهاب مجلبة للرزق وسعي في مرضاة الله ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
الخامس والعشرون : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة وفيه عصمة ، وعن حذيفة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ( ).
السادس والعشرون : ياأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر ليقتبس الناس منكم التأسي والحلم والصبر , وفيه استئصال للإرهاب .
السابع والعشرون :يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر فهو واقية من إرهاب الغير .
الثامن والعشرون : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
الثلاثون : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر للملازمة بين الإيمان والصبر ، وعن الإمام علي عليه السلام عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد) ( ).
الحادي والثلاثون : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر للثبات على الإيمان .
الثاني والثلاثون : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصيام والصلاة وفيها دفع للإرهاب .
الثالث والثلاثون : يا أيها الذين آمنوا رجالاً ونساءً .
الرابع والثلاثون : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة وكل منهما حاجة للتنزه عن الإرهاب .
الخامس والثلاثون : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصلاة فانها [تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) والإرهاب من المنكر .
السادس والثلاثون : يا أيها الذين آمنوا إن الله مع الصابرين .
السابع والثلاثون : يا أيها الذين آمنوا إن الله مع الصابرين عن وعلى الإرهاب .
الثامن والثلاثون : يا أيها الذين آمنوا ينّجي الله الصابرين عن الإرهاب.
التاسع والثلاثون : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر للتحلي بالصبر .
الأربعون : يا أيها الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم اطيعوا الله فاستعينوا بالصبر والصلاة .
لقد أمر الله عز وجل آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض بعد ان أغواهما إبليس بالأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها ، قال تعالى [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ] ( ).
ولم يخل الله عز وجل بين الإنسان ونفسه في الدنيا خاصة وأنه خليفة فيها ، فتفضل الله عز وجل بالوحي إلى الأنبياء ليكون الوحي منهاجاً وضياءً ينير دروب الهداية للناس جميعاً ، وحجة من الله عز وجل على الناس ورحمة بهم جميعاً من جهات :
الأولى : الوحي رحمة .
الثانية : إختيار الأنبياء من بين الناس رحمة .
الثالثة : إنتفاع الناس من الوحي رحمة .
الرابعة : إرادة الله ببقاء الوحي في الأرض إلى يوم ينفخ في الصور ، وهذا البقاء واقية للناس جميعاً من البطش والإرهاب ، فان قلت قد يقع هذا البطش والإرهاب هنا وهناك من بقاع الأرض.
والجواب هذا صحيح ، ولكنه قليل ونادر , وللوحي والتنزيل وتلاوته موضوعية في نقص وإنحصار الإرهاب في الأرض ، فليس من حدّ لبركات التنزيل .
وتفضل الله وعصم القرآن من النقص والزيادة والتحريف لتكون تلاوته حرزاً من الحروب والإقتتال وإلإبادة الجماعية , قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
ويأتي الصبر مع الإيمان ويترشح عنه ، ومن مصاديق [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) التحلي العام بالصبر ، وإتخاذه منهاجاً في أمور الدين والدنيا ، وتتجلى في أداء العبادات تنمية ملكة الصبر سواء بأداء الصلاة فرادى أو جماعة ، وبصيام شهر رمضان وما فيه من الصبر عن الطعام والشراب ,وبأداء فريضة الحج التي هي عبادة مالية بدنية .
(وأخرج البيهقي عن أبي الدرداء قال : سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الله قال : يا عيسى ابن مريم إني باعث بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا ، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا ، ولا حلم ولا علم . قال : يا رب كيف يكون هذا لهم ، ولا حلم ولا علم؟ قال : أعطيهم من حلمي وعلمي) ( ).
ومن خصائص الحليم التنزه عن الإرهاب , والصبر عنه , وعدم الرد بالمثل , مع وجوب التعاون الدولي العام لمنع الإضرار بالمؤمنين الصابرين ، فيتحلى المؤمنون بالشكر لله على النعم ، ويصبرون على المكاره والمصائب .
ليبين الحديث أعلاه نعمة الله عز وجل على المسلمين باجتماع خصال حميدة في أصل العقيدة ، وهي :
الأولى : مواظبة المسلمين على الحمد لله ، وهو الذي يتجلى بتلاوة كل مسلم ومسلمة قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية .
الثانية : مبادرة المسلمين بالشكر لله عز وجل على كل نعمة صغيرة أو كبيرة ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ) .
الثالثة : الإحتساب واللجوء إلى الله عز وجل عند المصيبة والبلاء ، ومعنى الإحتساب لغة العدّ والكفاية ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] ( ) وقال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ] ( ) .
وهو في الإصطلاح رجاء الأجر والثواب من اله عز وجل على الأذى والبلاء .
ويأتي الإحتساب على الخير والشر ، وورد في الحديث بخصوص الأذى والبلاء وما تكره النفس للحاجة إليه ، وهو شاهد على التسليم بفضل الله والثقة بنعمه وإحسانه .
الرابعة : تحلي المسلمين بالصبر عند المصيبة والشدة ليأتيهم الحلم والعلم من عند الله عز وجل فتتجلى هذه الخصال على نحو جلي وتكون سجية ومنهاجاً ، فمثلاً مع الصبر عند المصيبة جاء القرآن بالإسترجاع وبيان الثواب العظيم على الصبر ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ] ( ) والإرهاب مصيبة سواء صدر من الذات أم الغير , والإرسترجاع وسيلة لدرئه وإعلان للتبرء منه .
والإرهاب وسفك الدماء بغير حق فرع الإسراف وشاهد عليه ، قال تعالى [كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ) ، بينما يلازم الصبر المؤمن ، ويرجو فيه الفضل وكشف الكرب .
(عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إن أمر المؤمن كُلَّه عَجَب، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شَكر فكان خيرا له)( ).
قانون الإحتجاج مانع من الإرهاب
إن الله الذي تفضل وخلق الإنسان ونفخ فيه من روحه وجعله [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) هو الذي تفضل وأنزل القرآن ليكون ملائماً لفطرة الإنسان ومداركه العقلية والإجتماع والإفتراق بين العقل والشهوة عنده ، قال تعالى [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ] ( ) .
وجاء القرآن باصلاح المجتمعات وإمامة الناس في سبل الخير ليكون ضياءَ وجسراً للعبور على الصراط المستقيم في الآخرة .
لقد نزل القرآن بالعناية بكل من :
الأول : الفرد ذكراً أو أنثى .
الثاني : الجماعة والطائفة والأمة .
الثالث : صلة الفرد بالمجتمع .
وكل فرد من هذه الثلاثة يهدي إلى الخير والفلاح ، وجاء القرآن بكل من :
الأولى : الوقاية من الإرهاب.
الثانية : الواقية من مقدمات الإرهاب .
الثالثة : التوقي من الإرهاب .
إذ أن ضوابط الشرعية ، وبيان التنزيل لعواقب الأمور والوقوف بين يدي الله للحساب أمور تدفع الإنسان للنفرة من الإرهاب .
ومن إعجاز القرآن بيانه لقوانين في الإحتجاج وهي :
الأولى : تقّوم دعوة الأنبياء بالإحتجاج ،وقد رزق الله عز وجل كل نبي سلاح الإحتجاج بالتنزيل والوحي ، لذا يأتي البرهان النبوي حجة ودليلاً قاطعاً ، كما في إحتجاج إبراهيم على نمرود ، إذ ورد في التنزيل [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] ( ) .
وفيه دعوة سماوية لنبذ الإرهاب لدلالة هذا لقانون على كفاية الإحتجاج في إقناع الناس ،ودفع شرور الطواغيت ، ولو حمل إبراهيم السيف لتناجى وتعاون أهل البلد على قتاله وقتله في الحال وجددوا ولاءهم لنمرود مع إدعائه الربوبية .
مما يدل على أن الإحتجاج سلاح أقوى وأمضى من السيف ويدل بالدلالة التضمنية على أنه أولى وأفضل من الإرهاب ، مع أن الإرهاب ليس بسلاح ، نعم استعمل نمرود الجبار الإرهاب بأن أمر بان يجمع الحطب لحرق إبراهيم عليه السلام فانجاه الله لبيان قانون وهو أن الإرهاب لا يجلب لصاحبه النفع ، ولا يضر بالطرف الآخر ، إذ يميل الناس للذي يقع عليه أثر الإرهاب بلحاظ أنه مظلوم.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما ألقي إبراهيم، عليه السلام، في النار قال: اللهم، إنك في السماء واحد، وأنا في الأرض واحد أعبدك.
ويروى أنه لما جعلوا يوثقونه قال: لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد، ولك الملك، لا شريك لك.
وقال شعيب الجبائي: كان عمره ست عشرة سنة. فالله أعلم.
وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء، فقال: ألك حاجة ، فقال: أما إليك فلا (وأما من الله فبلى) وقال سعيد بن جبير ، ويروى عن ابن عباس أيضًا ، قال: لما أُلقيَ إبراهيم جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر فأرسله ، قال: فكان أمر الله أسرع من أمره، قال الله عز وجل { يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ }( )قال : لم يبق نار في الأرض إلا طفئت.
وقال كعب الأحبار : لم ينتفع (أحد) يومئذ بنار، ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه.
وقال الثوري، عن الأعمش، عن شيخ، عن علي بن أبي طالب [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( )، قال : بَرَدَتْ عليه حتى كادت تقتله، حتى قيل {وَسَلامًا} ، قال : لا تضرِّيه( ).
ومن خصائص القرآن والكتب السماوية الأخرى بخصوص القانون محل البحث عدة قوانين :
الأول : قانون تنمية ملكة الإحتجاج .
الثاني : قانون الإستعانة بالبرهان .
الثالث : قانون عدم السخط أو الغضب عند الجدال .
الرابع : قانون كفاية الإحتجاج وعدم اللجوء إلى العنف والسيف .
الخامس : قانون النفرة من الإرهاب .
السادس : قانون ذم أرباب الإرهاب .
السابع : قانون حب الناس وعدم الإضرار بهم وبممتلكاتهم .
قانون صبر النبي (ص) على الأذى
من خصائص بعث الأنبياء نصب الذين كفروا لهم العداء ، ولا تصدر هذه العداوة من السفهاء وحدهم إنما تصدر في الغالب من علية القوم ، ومن الملآ والرؤساء ، ويكون السفهاء نوع أداة في المقام لزيادة الإستهزاء والإيذاء للنبي ، وصدّ الناس عن الإيمان برسالته ، ويجمع هذا الإستهزاء بين أمور :
الأول : الإستخفاف .
الثاني : التخويف وهو على شعب :
الأولى : التخويف لشخص النبي ، ومنعه من الإستمرار بدعوته .
الثانية : بعث الرعب في قلوب أصحاب وأنصار النبي .
الثالثة : إخافة الناس من إتباع النبي .
(عن مصعب بن سعد عن أبيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيّ الناس أشدّ بلاء فقال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل من الناس،
فيبتلى الرجل على حسب دينه،
فإن كان صلب الدين اشتدّ بلاؤه،
وإن كان في دينه رقّة فهي على حسب ذلك،
ولا يبرح البلاء عن العبد حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيّة.
وعن عبد الرحمن بن ذهل قال : كان وزير عيسى عليه الصلاة والسلام ركب يوماً فأخذه السبع فأكله فقال عيسى : يا ربّ وزيري في دينك،
وعوني على بني إسرائيل،
وخليفتي من سلّطت عليه كلبك فأكله،
قال : نعم كانت له عندي منزلة رفيعة،
لم أجد عمله بلغها فأبتليته بذلك لأبلغه تلك المنزلة.) ( ).
الثالث : الإيذاء للنبي وأهل بيته .
ونزل القرآن بالمؤاساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه على الأذى الذي يلاقونه بذكره للضرر الذي لحق الأنبياء السابقين , وشدة العناء الذي تحملوه من مشركي قومهم .
لتفيد المقارنة بين حياة الأنبياء معجزة متعددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسلامته ونجاته من أذى كفار قريش مع أن الموت كان يقترب منه عدة مرات سواء قبل الهجرة أو بعدها .
وقد يظن الناس أن هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة نجاة له من القوم المشركين ، إذ بعثت هذه الهجرة الغبطة والسعادة في قلوب المسلمين والمسلمات ، واطمئن لها العقلاء والذين مالوا إلى الإسلام ، والذين كانوا لا يرضون بايذاء قريش له في دعوته ، ولكن هذه الغبطة والطمأنينة لم تستمر ، إذا أراد كفار قريش إيذاء الجميع وادخال الحزن إلى نفوسهم .
وسيرت الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل مرة ومنها معركة بدر وأحد والخندق .
أم كانت هذه النية على نحو السالبة الجزئية في بعض المعارك ، الجواب هو الأول ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى سعي قريش هذا بالصبر ، ولم يقابله بالرد بالمثل ، ولا يقدر على هذا الصبر إلا الأنبياء والأولياء لأنه يفضل ولطف من عند الله ، ومنه قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ) .
وفي معركة أحد وبعد الإضطراب والإرباك في جيش المسلمين لما ترك الرماة المسلمون مواضعهم نؤدي في معسكر المشركين : إن محمداً قد قتل .
ومن أسباب هذا النداء أن قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان هو الغاية عند المشركين في زحفهم ، فحالما صدر هذا القول شاع بين صفوفهم وتلقاه رؤساؤهم بالرضا .
(قال أبو سفيان بن حرب: يا معشر قريش، إيكم قتل محمداً؟ قال ابن قميئة: أنا قتلته. قال: نسورك كما تفعل الأعاجم بأبطالها. وجعل أبو سفيان يطوف بأبي عامر الفاسق في المعرك هل يرى محمداً بين القتلى، فمر بخارجة بن زيد بن أبي زهير .
فقال: يا أبا سفيان، هل تدري من هذا القتيل؟ قال: لا. قال: هذا خارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي، هذا سيد بلحارث بن الخزرج. ومر بعباس بن عبادة بن نضلة إلى جنبه فقال: هذا ابن قوقل، هذا الشريف في بيت الشرف.
ثم مر بذكوان ابن عبد قيس، فقال: هذا من ساداتهم. ومر بابنه حنظلة فقال: من هذا يا ابن عامر؟ قال: هذا أعز من ها هنا علي، هذا حنظلة بن أبي عامر. قال أبو سفيان: ما نرى مصرع محمد، ولو كان قتله لرأيناه، كذب ابن قميئة! .
ولقي أبو سفيان خالد بن الوليد فقال: هل تبين عندكم قتل محمد؟ قال خالد: رأيته أقبل في نفرٍ من أصحابه مصعدين في الجبل. قال أبو سفيان: هذا حقٌّ! كذب ابن قميئة، زعم أنه قتله) ( ).
لقد مارس المشركون الإرهاب في الحياة اليومية في الحضر .
وهل هناك سبب عقلائي لتجهيزهم الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى بلحاظ الأحوال العامة في تلك الأيام ، الجواب لا ، وصارت قريش تولي عناية بالرؤساء والوجهاء الذين يفدون إلى مكة بأن تبادر إلى تحذيرهم من الإستماع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن لعلم قريش بان هؤلاء الوجهاء ينصتون للحق من غير خشية من قريش , وأنهم إذا أسلموا يجلبون معهم قومهم .
وقدم إلى مكة الطفيل بن عمرو الدوسي وهو رئيس قبيلة دوس وكان كثير الضيافة وشاعراً نبيلاً ، فمشى إليه رجال من قريش ورحبوا به وتوددوا إليه ، وقالوا له يا طفيل قد قدمت بلادنا وجئت إلى مكة ، إنما نحذرك من هذا الرجل أي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي خرج فينا فانه (أعضل بنا وفرق جماعتنا وشتت أمرنا وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وأبيه وبين الرجل وأخيه) ( ) .
ويقصدون بالتفريق دخول الابن الإسلام فيسخط الأب ، أو دخول الأب ويبقى الابن على الكفر ، وكذا بالنسبة للإخوان .
وكانت قريش مهابة عند العرب خصوصاً وهم في مكة ، عندما يأتيهم الناس إلى مجالسهم ومحال رياستهم وولايتهم للمسجد الحرام .
وقالوا للطفيل أن محمداً يفرق (بين الرجل وزوجته ) مما يبعث النفرة في النفس من الدعوة التي تفرق بين أفراد الأسرة الواحدة إلا مع التدبر في سنخية الرسالة ، وأن الذي يسمى تفريقاً بينهم إنما هو الدعوة للهداية والصلاح ، ويكون الذي يدخل الإسلام سابقاً في بيته وأسرته .
ثم قالوا للطفيل (وَإِنّا نَخْشَى عَلَيْك وَعَلَى قَوْمِك مَا قَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا ، فَلَا تُكَلّمَنّهُ وَلَا تَسْمَعَنّ مِنْهُ شَيْئًا) ( ).
وكان الطفيل يحدث حينما يذكر الواقعة ويقول (قَالَ فَوَاَللّهِ مَا زَالُوا بِي حَتّى أَجْمَعْتُ أَنْ لَا أَسْمَعَ مِنْهُ شَيْئًا وَلَا أُكَلّمَهُ حَتّى حَشَوْتُ فِي أُذُنَيّ حِينَ غَدَوْتُ إلَى الْمَسْجِدِ كُرْسُفًا فَرَقًا مِنْ أَنْ يَبْلُغَنِي شَيْءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَأَنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَهُ .
قَالَ فَغَدَوْت إلَى الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَائِمٌ يُصَلّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ . قَالَ فَقُمْت مِنْهُ قَرِيبًا فَأَبَى اللّهُ إلّا أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلِهِ) ( ).
وغدا الطفيل إلى المسجد الحرام وإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي عند الكعبة فقام الطفيل قريباً منه فاستمع إلى ما يقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان يتلو آيات من القرآن ليسمع الطفيل كلاماً لم يسمعه من قبل , ويفوق كلام البشر وأصيب بالدهشة كيف تحذر قريش من الإستماع للنبي ، وهو لا يقول إلا ما يتضمن الإعجاز .
قال الطفيل (فَقُلْت فِي نَفْسِي : وَاثُكْلَ أُمّي وَاَللّهِ إنّي لَرَجُلٌ لَبِيبٌ شَاعِرٌ مَا يَخْفَى عَلَيّ الْحَسَنُ مِنْ الْقَبِيحِ فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَسْمَعَ مِنْ هَذَا الرّجُلِ مَا يَقُولُ فَإِنْ كَانَ الّذِي يَأْتِي بِهِ حَسَنًا قِبْلَتَهُ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا تَرَكْته . قَالَ فَمَكَثْت حَتّى انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – إلَى بَيْتِهِ فَاتّبَعْته ، حَتّى إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ دَخَلْت عَلَيْهِ فَقُلْت : يَا مُحَمّدُ إنّ قَوْمَك قَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا – لِلّذِي قَالُوا – فَوَاَللّهِ مَا بَرِحُوا يُخَوّفُونَنِي أَمْرَك حَتّى سَدّدْت أُذُنِي بِكُرْسُفِ لِئَلّا أَسْمَعَ قَوْلَك ، ثُمّ أَبَى اللّهُ إلّا أَنْ يُسْمِعَنِي قَوْلَك ، فَسَمِعْته قَوْلًا حَسَنًا ، فَاعْرُضْ عَلَيّ أَمْرَك . قَالَ فَعَرَضَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – الْإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيّ الْقُرْآنَ فَلَا وَاَللّهِ مَا سَمِعْت قَوْلًا قَطّ أَحْسَنَ مِنْهُ وَلَا أَمْرًا أَعَدْلَ مِنْهُ .
قَالَ فَأَسْلَمْت ، وَشَهِدْت شَهَادَةَ الْحَقّ وَقُلْت : يَا نَبِيّ اللّهِ إنّي امْرِئِ مُطَاعٌ فِي قَوْمِي ، وَأَنَا رَاجِعٌ إلَيْهِمْ وَدَاعِيهمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَادْعُ اللّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي آيَةً تَكُونُ لِي عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِيمَا أَدْعُوهُمْ إلَيْهِ فَقَالَ اللّهُمّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً . قَالَ فَخَرَجْت إلَى قَوْمِي ، حَتّى إذَا كُنْت بِثَنِيّةِ تَطْلُعُنِي عَلَى الْحَاضِرِ وَقَعَ نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيْ مِثْلَ الْمِصْبَاحِ فَقُلْت : اللّهُمّ فِي غَيْرِ وَجْهِي ، إنّي أَخْشَى ، أَنْ يَظُنّوا أَنّهَا مُثْلَةٌ وَقَعَتْ فِي وَجْهِي لِفِرَاقِ دِينِهِمْ . قَالَ فَتَحَوّلَ فَوَقَعَ فِي رَأْسِ سَوْطِي .
قَالَ فَجَعَلَ الْحَاضِرُ يَتَرَاءَوْنَ ذَلِكَ النّورَ فِي سَوْطِي كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلّقِ وَأَنَا أَهْبِطُ إلَيْهِمْ مِنْ الثّنِيّةِ ، قَالَ حَتّى جِئْتهمْ فَأَصْبَحْت فِيهِمْ) ( ).
لتبدأ رحلة جهاد الطفيل مع عائلته وقومه من غير عنف .
وحينما وصل الطفيل إلى قريته رحب به أهله وقومه إذ كان رئيسهم ، وجاءه أبوه وهو شيخ كبير ، فقال له الطفيل إليك عني يا أبت فسلت معك ، ولست مني ، استغرب أبوه كلامه وسأله (وَلِمَ يَا بُنَيّ ؟
قَالَ قُلْت : أَسْلَمْت ، وَتَابَعْت دِينَ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالَ أَيْ بُنَيّ فَدِينِي دِينُك) ( ).
أي أني أدين بالإسلام مثلما تدين به أنت ، قال الطفيل لأبيه ، فأذهب وأغتسل وطهّر ثيابك ، ثم تعال حتى أعلمك ما علمت .
وهل يجب الغسل وتطهير الثياب عند دخول الإسلام ، الجواب لا ، إنما تطهر بالتبعية ، ولكن بعضهم كان يبادر إلى الغسل والتطهر تقديساً للإسلام وعشقاً للإنتماء إليه ، فأذهب أبوه وأغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فعرض عليه الطفيل الإسلام وأبوه ينصت ويستمع فاسلم ونطق بالشهادتين .
قال الطفيل(ثُمّ أَتَتْنِي صَاحِبَتِي)( ) لبيان نكتة وهي أن الطفيل بدأ بأبيه عند وصوله إلى البيت إكراماً له ، ولكنه لا يتعارض مع تقديم المبدأ والعقيدة بالدعوة إلى الإيمان بالحكمة والكلمة الطيبة والبيان والحجة .
لقد أستجاب أبوه لدعوته للإسلام فهل تستجيب زوجته كما استجابت خديجة عليه السلام لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكانت أول من آمن به .
الجواب نعم ، فقد عرض الطفيل عليها الاسلام فاستجابت له , ثم عرض الاسلام على قومه فابطئوا عليه ولما التقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم شكا له امتناعهم عليه وقال ادع عليهم يا رسول الله.
قال الطفيل : ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فقلت يا رسول الله قد غلبتني دوس فادع الله عليهم وقال اللهم اهد دوسا فخرجت إليهم ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن اسلم من قومي وهو بحيبر بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس فأسهم لنا مع المسلمين وقلنا يا رسول الله اجعلنا ميمنتك واجعل شعارنا مبرور ففعل ثم قلت بعد فتح مكة يا رسول الله ابعثنى إلى ذى الكفين صنم عمرو بن حممة حتى احرقه فبعثه.
وجعل الطفيل يقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا * ميلادنا اكبر من ميلادكا
أنا حشوت النار في فؤادكا .
قال فلما احرقته اسلموا جميعا ثم قتل الطفيل باليمامة شهيدا( ).
قانون قل الحمد لله
لقد جاء الأمر من عند الله سبحانه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول الحمد لله كما في قوله تعالى [قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ]( ) .
كما ورد في آيات أخرى ، قال تعالى [قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ]( )، [قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وهل يختص الأمر بالقول الحمد لله بالنبي محمد , الجواب لا ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا رسول الله قل الحمد لله ، ويصح تقديرها : يا محمد قل الحمد لله.
الثاني : يا أيها المهاجرون والأنصار قولوا الحمد لله .
الثالث : يا أهل البيت قولوا الحمد لله.
الرابع : يا أيها التابعون قولوا الحمد لله.
الخامس : يا أيها المؤمنون قولوا الحمد لله.
السادس : يا أيها اللائي آمن قلن الحمد لله.
السابع : يا أهل الكتاب قولوا الحمد لله.
الثامن : يا أيها الناس قولوا الحمد لله.
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ومن مصاديق هذه الرحمة ندب الناس إلى قول الحمد لله ، وهذا القول من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، فان قيل هل التلفظ بالحمد لله عبادة لله عز وجل الجواب نعم فلا تختص هذه العبادة بالصلاة والصيام والزكاة والحج والخمس ، إنما يدخل ذكر الله عز وجل بأفراد العبادة .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الحمد لله ، وقول (الحمد لله) مقصود من جهات :
الأولى : ذات النطق بالحمد لله.
الثانية : أسباب القول الحمد لله.
الثالثة : اتخاذ الحمد لله بلغة ووسيلة.
الرابعة : الغايات الحميدة لقول الحمد لله.
الخامسة : الأجر والثواب العظيم على قول الحمد لله .
السادسة : البلاء الذي يصرف بقول الحمد لله.
السابعة : وجوه الرزق الذي يأتي بقول الحمد لله.
الثامنة : ما يترشح عن قول الحمد لله من الذكر والدعاء.
وقد يكون قول الحمد لله مقدمة لفعل الصالحات ، ليكون هناك تقدير متعدد في كل جهة من هذه الجهات الثمانية بما يبين بديع صنع الله ، ويجعل الناس يدركون مصداقاً لقانون [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، منها :
الأول : قل الحمد لله على نعمة الخلق.
الثاني : قل الحمد لله على نعمة النبوة.
الثالث : قل الحمد لله على نعمة السلامة من الإغتيال .
الرابع : قل الحمد لله على النجاة من إرهاب الذين كفروا .
الخامس : قل الحمد لله على النجاة في طريق الهجرة.
السادس : قل الحمد لله على كل معجزة حسية وهي من فضل الله عز وجل على الناس .
السابع : قل الحمد لله على كل آية نزلت من السماء.
الثامن : قل الحمد لله فان الله يحب أن يسمع من العبد قول الحمد لله.
التاسع : قل الحمد لله على ملكة العصمة.
العاشر : قل الحمد لله على سلامة القرآن من التحريف.
الحادي عشر : قل الحمد لله على نعمة الهداية .
الثاني عشر : قل الحمد لله أمر أمتك بقول الحمد لله.
الثالث عشر : قل الحمد لله ليقتدي بك المسلمون والمسلمات بذات القول ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
الرابع عشر : قل الحمد لله كما قالها الأنبياء من قبلك ، وقد وردت آيات تدل على هذا المعنى , وفي إبراهيم ورد قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ]( ).
الخامس عشر : قل الحمد لله فانه منهاج الأنبياء.
السادس عشر : قل الحمد لله على نعمة الإيمان .
السابع عشر : قل الحمد لله على نعمة النصر في معركة بدر ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ترى ما هي النسبة بين قول الحمد لله والتقوى ، الجواب هي العموم والخصوص المطلق ، فالتقوى أعم موضوعاً ودلالة وأثراً ، ليكون الحمد لله على وجوه :
الأول : قول الحمد لله واقية من التعدي .
الثاني : صدور قول الحمد لله شاهد على التقوى .
الثالث : قول الحمد لله تنمية لملكة التقوى .
الرابع : قول الحمد لله مانع من مغادرة مقامات التقوى , وبالتقوى تعمر القلوب وتحافظ على نضارتها ، وهي واقية من الحسد والبغضاء ، وهي سبيل النجاة في النشأتين ، قال تعالى [يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ* إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ]( ).
(عن الفضل بن الربيع، عن أبيه، قال: دعاني المنصور فقال: إن جعفر ابن محمد يلحد في سلطاني قتلني الله إن لم أقتله.
فأتيته، فقلت: أجب أمير المؤمنين.
فتطهر ولبس ثيابا.
أحسبه قال جددا فأقبلت به فاستأذنت له، فقال: أدخله، قتلني الله إن لم أقتله.
فلما نظر إليه مقبلا قام من مجلسه فتلقاه وقال: مرحبا بالنقى الساحة، البرئ من الدغل والخيانة، أخي وابن عمي.
فأقعده معه على سريره وأقبل عليه بوجهه، وسأله عن حاله، ثم قال: سلني عن حاجتك
فقال: أهل مكة والمدينة قد تأخر عطاؤهم فتأمر لهم به.
قال: أفعل.
ثم قال: يا جارية ائتني بالتحفة.
فأتته بمدهن زجاج فيه غالية فغلفه بيده وانصرف.
فاتبعته، فقلت: يا ابن رسول الله ; أتيت بك ولا أشك أنه قاتلك، فكان منه ما رأيت، وقد رأيتك تحرك شفتيك بشئ عند الدخول فما هو ؟ قال: قلت: اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام، واحفظني بقدرتك علي، ولا تهلكني.
وانت رجائي.
رب كم من نعمة أنعمت بها علي قل لك عندها شكري، وكم من بلية ابتليتني بها قل لها عندك صبري ؟ ! فيا من قل عند نعمته شكري فلم يحرمني، ويا من قل عند بليته صبري فلم يخذلني.
ويامن رآني على المعاصي فلم يفضحني، وياذا النعم التي لا تحصى أبدا، وياذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا، أعني على ديني بدنيا، وعلى آخرتي بتقوى، واحفظني فيما غبت عنه ولا تكلني إلى نفسي فيما خطرت.
يا من لا تضره الذنوب، ولا تنقصه المغفرة، اغفر لي ما لا يضرك، وأعطني ما لا ينقصك، يا وهاب أسألك فرجا قريبا.
وصبرا جميلا، والعافية من جميع البلايا، وشكر العافية.) ( ).
الثامن عشر :قل الحمد لله كما قال آدم عليه السلام بلحاظ كبرى كلية وهي ملازمة نور الحمد لله للأنبياء .
التاسع عشر : الحمد على الذي جعل الحمد له سبحانه ميراث النبوة وسلاحا بيد الأنبياء ، ودعوة للناس للجوء إلى الله ، واتخاذ الحمد لله وقاءّ وحرزاً .
وعن عبد الله بن مسعود(وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش، فجعل إبليس على مُلْك السماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع مُلْكه خازنا، فوقع في صدره كبر .
وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة. فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه. فقال الله للملائكة: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً }( ) .
قالوا : ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. قالوا: ربنا، { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ }( ) يعني: من شأن إبليس .
فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تَقْبض مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ، وقال: رب مني عاذت بك فأعذتُها، فبعث ميكائيل، فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل ، فبعث مَلَك الموت فعاذت منه.
فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض، وخَلَطَ ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، فَصعِد به فَبَلَّ التراب حتى عاد طينا لازبا -واللازب: هو الذي يلتزق بعضه ببعض -ثم قال للملائكة: { إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ }( ) فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه، ليقول له: تتكبر عما عملت بيدي، ولم أتكبر أنا عنه. فخلقه بشرا، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدهم فزعا منه إبليس، فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار وتكون له صلصلة. فذلك حين يقول: { مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ }( ) ويقول: لأمر ما خُلقت. ودخل من فيه فخرج من دبره .
وقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإن ربكم صَمَدٌ وهذا أجوف. لئن سلطت عليه لأهلكنه، فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح، قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه، عَطِسَ، فقالت الملائكة: قل: الحمد لله. فقال: الحمد لله، فقال له الله: رحمك ربك، فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة. فلما دخل الروح فيجوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول تعالى: { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ }( ) { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ }( ) أبى واستكبر وكان من الكافرين. قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي؟ قال: أنا خير منه، لم أكن لأسجد لمن خلقته من طين) ( ).
وينشر قول الحمد لله شآبيب الرحمة بين الناس ، لذا فان قراءة سورة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حرب على الإرهاب وواقية للمسلمين منه ، وحجة على الناس بلزوم الإلتقاء في قول الحمد لله ، فليس من أمة تمتنع عن قول الحمد لله أو لا ترضى به ، فهو سور الموجبة الكلية بين أهل الملل والنحل المختلفة .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) تلاوة كل مسلم ومسلمة قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) في كل ركعة من الصلاة الواجبة وتأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجوب قراءة أجيال المسلمين لها .
وعن عبادة بن الصامت قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :لا صلاة لمن لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب) ( ).
(عن أبي سعيد مرفوعًا: ” لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها) ( ).
(عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من صلّى صلاة فلم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ثلاث مرات غير تمام) ( ).
لتنمي قراءة الفاتحة عند المسلمين روح التسامح والعفو والرجاء ، وتدعو قراءتهم الجهرية لهذه السورة في الصلاة وغيرها الناس جميعاً إلى إكرام المسلمين والإمتناع عن إرهابهم في مساجدهم .
وإذا أحب الله عبداً هداه لقول الحمد لله في السراء والضراء ، وعند مجئ النعمة ونزول البلاء ، إذ أن قول الحمد لله عنوان للشكر والثناء على الله ودليل على الرضا بما قسم وكتب سبحانه .
وفي قراءة سورة الفاتحة ثواب عظيم (وعن الإمام علي عليه اسلام قال : من قرأ فاتحة الكتاب فقال : الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، صرف الله عنه سبعون نوعاً من البلاء أهونها الهمّ).
قانون الشكوى من الإرهاب يوم القيامة
من أسماء يوم القيامة يوم الحشر ويوم العرض ، والحشر أحد مواطن يوم القيامة (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفاً مشاة ، وصنفاً ركباناً ، وصنفاً على وجوههم . قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم قال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك) ( ).
وهل مشي الكفار على وجوههم يوم القيامة من مصاديق قوله تعالى [إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً]( )، لأن الأنعام تمشي على الأربع ، ومن الحيونات الزواحف .
الجواب جاء وصف الكفار في الآخرة لبيان وجه من وجوه عوقبتهم لأنهم اختاروا إرتكاب الأثام في الدنيا ، واتبعوا الشهوات وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « خلق الله الجن ثلاثة أصناف . صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض ، وصنف كالريح في الهواء ، وصنف عليهم الحساب والعقاب . وخلق الله الإِنس ثلاثة أصناف . صنف كالبهائم ، قال الله { لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل } وجنس أجسادهم أجساد بني آدم ، وأرواحهم أرواح الشياطين ، وصنف في ضل الله يوم لا ظل إلا ظله ( ).
والحدب ما ارتفع عن الأرض ، وبعد الوقوف الطويل في أرض المحشر يتوجه الناس إلى الحوض ليرفع لكل نبي حوضه فيشرب منه اتباعه .
وأن يلقى العبد ربه يوم القيامة والناس ينطقون بالثناء عليه خير له من أن يشكوه الناس إلى الله ، وهذه الشكوى لا تختص بالإخبار ، فالمظلوم يشكو ربه ، وقد يقول أن فلاناً صار سبباً بانخزال أجلي وحال بيني وبين أمور :
الأول : التوبة والإنابة مع تقادم الأيام .
الثاني : التنعم بالدنيا ومباهجها ، وعظيم فضل الله فيها الذي يأتي للبر والفاجر ، قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( ).
الثالث : الإنتفاع من الأموال والأولاد ، قال تعالى [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ).
الرابع : إنقطاع النسل بالنسبة للذي يموت في فعل إرهابي .
الخامس : زهوق الروح على نحو الفجأة ، وهو من علامات الساعة (عن أبي أمامة ، قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعوذ من موت الفجأة ، وكان يعجبه أن يمرض قبل أن يموت) ( ).
لما في المرض من الإرتقاء في المنزلة ، والرحمة والنفع للأمة والطب النبوي مدرسة متكاملة ونصوص ثابتة يدل العلم الحديث على الإعجاز فيها ، لينتقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى في أجله .
و(عن أبي الدرداء قال : تذاكرنا زيادة العمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : من وصل رحمه أنسىء في أجله . فقال : إنه ليس بزائدة في عمره ، قال الله { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)( ).
ولكن الدعاء لا يتعارض مع الآية أعلاه لعمومات قوله تعالى [َمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، وجاءت الآية أعلاه بصيغة الجمع ويرد الدعاء على نحو القضية الشخصية ، وليس من حمق بالدعاء والرجاء من الله عز وجل ، وعلى فرض أن الله عز وجل لا يمد في عمر الذي يدّعي له فانه سبحانه يثيبه لدعاء المؤمنين له ، ويأجرهم على دعائهم وتسليمهم بأن الآجال بيده سبحانه وحده ، وفي التنزيل [قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ]( )، ويصح الدعاء للنجاة والسلامة من العقل الإرهابي وأضراره.
والإستعاذة لجوء إلى الله واستعاثة واعتصام به سبحانه لدفع الأذى والشر ، وهل تصح الإستعاذة من الإرهاب فعلاً وأثراً ، الجواب نعم كان يقول الإنسان : اللهم أصرف عني وعن أهلي والمؤمنين والناس جميعاً الإرهاب وشروره .
وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من موت الفجاة (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اسْتَعَاذَ مِنْ سَبْعِ مَوْتَاتٍ مَوْتِ الْفَجْأَةِ وَمِنْ لَدْغِ الْحَيَّةِ وَمِنْ السَّبُعِ وَمِنْ الْحَرَقِ وَمِنْ الْغَرَقِ وَمِنْ أَنْ يَخِرَّ عَلَى شَيْءٍ أَوْ يَخِرَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَمِنْ الْقَتْلِ عِنْدَ فِرَارِ الزَّحْفِ) ( ).
وعن عامر الشعبي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قبلا فيقال : لليلتين و أن تتخذ المساجد طرقا و أن يظهر موت الفجأة ]) ( ).
يرى الناس الهلال في الليلة الأولى مرتفعاً وكبيراً حتى يقال أنه ذو ليلتين بينما هو لليلة واحدة ، وفي حديث آخر سمي إنتفاخ الأهلة ، ولابد أن له تفسيراً كونياً لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإخبار عن الآيات الكونية وعدم تعارض هذا الإخبار مع الإكتشافات العلمية .
وفيه حث لبيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإحتجاج بها وعدم اللجوء إلى الإرهاب عند ذكرها ، وهي تغني عن الإرهاب ، وتمنع من الإرهاب الموازي.
السادس : الشكوى إلى الله يوم القيامة من قبل ذوي وأرحام الذي يقتل في الحادث الإرهابي ، إذ أفجعهم وأحزنهم ومنهم من يشكو الله لأن الإرهابي قتل من يعيلهم وسبب بقطع وسيلة رزقهم ، وفيه شواهد كثيرة .
ترى من الذين يشكون من الإرهابي يوم القيامة الجواب على وجوه :
الأول : الذي يقتل وتزهق روحه بالعمل الإرهابي ، فهو يخرج من بيته إلى عمله ويتطلع إلى الرزق من عند الله ، فلا يعود إلى أسرته وعياله ، بل ينقل إلى اللحد والمقبرة جثة هامدة من غير ذنب يستحق القتل وبهذه الكيفية .
الثاني : صاحب المال والممتلكات التي تضررت من العمل الإرهابي ، وما يخلفه من الدمار في ذات موضعه أمر يحزن الجميع ويبعث على الأسى ولا يجد له الناس سبباً وجيهاً .
الثالث : آباء وأمهات الذين يفقدون بالعمل الإرهابي وأشد المصائب فقد الابن ، وقد سقط ولدي الأكبر الشيخ علي شهيداً بحادث إرهابي بتاريخ 18/12/2005 في بغداد وهو يقوم باكمال أوراق سفر لأداء مناسك الحج له ولعدد من المؤمنين , وقد حذرته من الذهاب إلى بغداد حينئذ .
الرابع : أب وأم الذي بقوا بالعمل الإرهابي .
إذ تصيبهم الحسرة والأسى والحرج الشديد أمام الناس ولا عبرة بالقليل النادر الذي يظهر الرضا أو الإفتخار بهذا العمل .
الخامس : أبناء المغدور الذي يقتل في العمل الإرهابي فيصبحون خلال لحظات يتامى في حال ضعف ومسكنة يحتاجون الإعانة والصدقة .
(عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه” ثم قال بأصبعه: “أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا) ( ).
السادس : عامة الناس الذين يخشون من الإرهاب وان لم يتعرضوا له ، قال تعالى في الثناء على نفسه [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ) فيبين الله عز وجل يوم القيامة ما في صدور الناس من الحنق والغيظ على الإرهابي ، وهم جميعاً بين يدي الله عز وجل في عرصات الحساب .
السابع : تأذي الملائكة من الإرهابي وعمله في النشأتين ، وهل هذا التأذي سبب لزيادة عذابهم له ، الجواب لا ، فلا يفعل الملائكة إلا ما يأمرهم الله عز وجل به .
الثامن : شكاية المساجد ودور العبادة والمواضع التي وقع فيها العمل الإرهابي .
وقد خاطب الله عز وجل الأرض والسماء ، وجاء الجواب منهما بالطاعة والإمتثال ، كما ورد في التنزيل [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] ( ).
ومع أن السماء والأرض مؤنثان ، فقد جاء الجواب بصيغة التذكير [طَائِعِينَ] وفيه وجوه :
الأول : إرادة السماء وما فيها من الكواكب والنجوم والأرض وما فيها من الأنهار والأشجار والثمار .
الثاني : جاءت صيغة التذكير لمقام الطاعة والإستجابة وأنها عن إرادة وفعل .
الثالث : تعدد السموات السبع والأرضين السبع ، وتسمية بعضها باسماء مخصوصة.
قانون كراهة التشاحن والتباغض
الشحناء لغة : العداوة والبغضاء ، والشحناء بغض وكراهية تملأ القلب وقد تستولي على النفس والجوارح , وتظهر في القول والفعل بمراتب متعددة .
وفي قوله تعالى [فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ] ( ), أي المملوء .
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمكارم الأخلاق , والخصال الحميدة .
ومن الإعجاز في نبوته وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ويدرك كل إنسان أن الأدب والخلق الحسن أمر محمود , فيندب نفسه له ويحث الناس عليه , وأن التباغض والتنافر كدورة تعكر صفو الحياة , وتسبب الأذى لصاحبها وغيره قريباً أو بعيداً , فلابد من التعاون لمنعه .
ويتجلى هذا القانون بقوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ).
والتشاحن نوع مفاعلة , ويتألف من أطراف .
الأول : المشاحِن – بالكسر .
الثاني : المشاحَن – بالفتح , لذا يقال ( وهو مشاحن لك ) ( ).
الثالث : المشاحنة , وهي الحقد وشدة النفرة.
الرابع : سبب وموضوع الشحناء .
قال ( ابن منظور والشحناء الحقد أي العداوة ) ( ).
ويقال تشاحنوا أي تباغضوا.
وليس في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على المشاحنة , وقد تلقى أذى الذين كفروا بالصبر , وخاصة وأن آيات القرآن تتوالى في نزولها لتدفع المشاحنة من جهات :
الأولى : أسباب المشاحنة .
الثانية : ذات المشاحنة .
الثالثة : أثر المشاحنة .
ومن خصائص الديانات السماوية خلوّها من الشحناء والمشاحنة , لأن النبي يأتي بالحجة والبرهان .
ويظهر الكفار له العداوة , فلا تصل النوبة به إلى مقابلتهم بمثل تلك العداوة لأن الله عز وجل بعثه رحمة بهم , قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن دلائل الوحي في السنة النبوية القولية والفعلية أن النبي صلى اله عليه وآله وسلم ينهى عن التباغض , وإن حدث التباغض فيندب الناس لتداركه واجراء الصلح .
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا، وكونوا عباد الله إخواناً) ( ).
ثم بيّن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسن الذاتي للإصلاح بين الناس إذا تباغضوا , إذ ورد (عن أبي أيوب قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا أيوب ألا أخبرك بما يعظم الله به الأجر ويمحو به الذنوب؟ تمشي في إصلاح الناس إذا تباغضوا وتفاسدوا ، فإنها صدقة يحب الله موضعها) ( ).
وهل من صلة بين التشاحن والإرهاب , الجواب نعم , فقد يكون التشاحن مقدمة للإرهاب وسبب له .
لذا قال تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] ( ), لدفع المشاحنة وعلتها , وللمنع من مقدماتها.
وبين الحسنة والعداوة نوع تفاوت فقد تترشح عن العداوة السيئة فتقابل بالحسنة , ومنها الصلة لمن قطعك .
وعن ابن عباس في قوله [ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن } قال : أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإِساءة ، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم عدوهم { كأنه ولي حميم } ( ).
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن } ( )قال : ألقه بالسلام { فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم( ).
والمدح للذي يذمك , والعفو عن الإساءة لينقلب العدو من الشقاق إلى الشفقة , ومن البغضاء إلى النصرة ومنه مقابلة الإعراض بالسلام والتودد , والاذى بالصبر والحلم .
والولي القريب والصديق .
ومن الإعجاز الغيري للقرآن أن تلاوة آياته نهي عن التشاحن والتباغض بين المسلمين أنفسهم , وبينهم وبين عامة الناس .
وفي قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
قال ابن عباس : هو عامّ فمن آمن بالله واليوم الآخر كتب له رحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن عوفي ممّا أصاب الأُمم من المسخ والخسف والقَذف( ).
وفيه شاهد على لزوم إجتناب الإرهاب والتفجيرات .
لقد ورد ذكر (العالمين) في آيات متعددة من القرآن , والمراد العموم ومنه قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ].
ولمنع التشاحن والتباغض يلزم التعاون العام ، وقراءة سليمة للتأريخ والواقع الحالي بما ينفع في مدّ جسور الأخوة الإنسانية بين الناس جميعاً.
وعن الإمام علي عليه السلام في عهده للاشتر النخعي (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ اَلرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَ اَلْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اَللُّطْفَ بِهِمْ وَ لاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي اَلدِّينِ وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي اَلْخَلْقِ يَفْرُطُ مِنْهُمُ اَلزَّلَلُ وَ تَعْرِضُ لَهُمُ اَلْعِلَلُ وَ يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي اَلْعَمْدِ وَ اَلْخَطَإِ فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَ صَفْحِكَ مِثْلِ اَلَّذِي تُحِبُّ وَ تَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اَللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَ صَفْحِهِ فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَالِي اَلْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَ اَللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ وَ قَدِ اِسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَ اِبْتَلاَكَ بِهِمْ وَ لاَ تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اَللَّهِ فَإِنَّهُ لاَ يَدَيْ يَدَ لَكَ بِنِقْمَتِهِ وَ لاَ غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَ رَحْمَتِهِ وَ لاَ تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ وَ لاَ تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ وَ لاَ تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ عَنْهَا مِنْهَا مَنْدُوحَةً)( ).
قانون التفكر في المخلوق الصغير
يدعو القرآن إلى التفكر في بدائع مخلوقات الله عز وجل لأنها شواهد على بديع صنعه وزاجر عن الإرهاب , قال تعالى [يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ]( ), وليس من حصر لهذه الآيات وتشمل الكبيرة والصغيرة , ومنها الأمثال( ).
ومن خصائص مدرسة الأمثال في القرآن أنها تأتي بخصوص أمور مخلوقات معروفة عند الناس جميعاً على إختلاف أزمنتهم وبلدانهم وقراهم , ومنها البعوضة هذا الكائن الصغير , والذي يسبب للإنسان الأذى والإزعاج , وقد يحرمه من النوم ليدعوه إلى الإستغفار ويؤكد له ضعفه وعجزه عن دفعها , وقد يحتال عليها فيقتلها فتأتي غيرها.
ومع الإرتقاء العلمي في البصريات تبين أن للبعوضة مائة عين في رأسها , وثمانية وأربعين سناً في فمها , ولها ثلاثة قلوب في جوفها , ويحتوي خرطومها ستة سكاكين , كل واحدة لها عمل خاص , ولها ثلاثة أجنحة في كل طرف .
ولها جهاز حراري يشبه في عمله نظام الأشعة تحت الحمراء ، لتعين الجلد البشري في الظلمة ويتحول عندها إلى لون بنفسجي .
وتمتلك البعوضة جهاز تخدير للموضع الذي تغرس فيه إبرتها كيلا يشعر الإنسان باللسعة عندما تمص الدم إلى حين مغادرتها , ولا يحس بالألم إلا بعد مغادرتها الموضع فيضربه بيده , وهي بعيدة عنه , أي أن هذا الجهاز لنجاتها من الإنسان .
وهل فيه رأفة من عند الله عز وجل به ، وتذكير له بضعفه ، الجواب نعم ، قال تعالى[وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( )، لبيان ضعف الإنسان وعجزه عن الدفع عن نفسه , قال تعالى [وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ] ( ).
ولا تستسيغ البعوضة كل الدماء , لذا قد تكثر من لسع طفل نائم وتترك أخاه بجواره , ولا تمسه في آية في إبتلاء الإنسان في الحياة الدنيا.
وقيل أنها تستطيع شم عرق ورائحة الإنسان لمسافة ستين كم .
وتعيش فوق ظهر البعوضة حشرة صغيرة جداً ، لا ترى بالعين المجردة وتعتاش عليها , وهو من الإعجاز في ذكر (فوقها) في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا]( ).
وهل يمكن القول أن الله عز وجل سلط البعوض والذباب على الإنسان لتذكيره بلزوم ذكر الله ، والتفكر في مخلوقات الله ولطرد الغفلة عنه .
الجواب لقد أراد الله عز وجل للإنسان الأجر والثواب فيما يبتلى به ، وهو طريق للتوبة والإنابة.
وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ إِذَا دَعَا عَلَى الْجَرَادِ قَالَ : اللَّهُمَّ أَهْلِكْ كِبَارَهُ وَاقْتُلْ صِغَارَهُ وَأَفْسِدْ بَيْضَهُ وَاقْطَعْ دَابِرَهُ وَخُذْ بِأَفْوَاهِهَا عَنْ مَعَايِشِنَا وَأَرْزَاقِنَا إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَدْعُو عَلَى جُنْدٍ مِنْ أَجْنَادِ اللَّهِ بِقَطْعِ دَابِرِهِ قَالَ : إِنَّ الْجَرَادَ نَثْرَةُ الْحُوتِ فِى الْبَحْرِ ، قَالَ هَاشِمٌ قَالَ زِيَادٌ فَحَدَّثَنِى مَنْ رَأَى الْحُوتَ يَنْثُرُهُ ( ).
وعن أنس بن مالك ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عمر الذباب أربعون ليلة ، والذباب كله في النار إلا النحل( ).
وليس المراد تعذيب الحشرات إنما تقوم تلك الحشرات بايذاء أهل النار، وزيادة عذابهم ، وقد تبين علمياً أن عمر النحلة نحو أربعين يوماً ، وهي لا تقف عند عمل مخصوص بل تتنقل في أدوار حياتها لتقوم بكل أعمال الخلية على مراتب , فتبدأ عاملة نظافة وأعمال منزلية ثم الحراسة من الزنابير والسراق والإنسان ، وبعد عشرين يوماً أو أكثر قليلاً من عمرها تبدأ مرحلة الحقل في جمع الغذاء والطيران نحو عشر كيلو مترات ، ويرهقها هذا العمل لتموت في اليوم الأربعين أو عند اكمال ستة أسابيع ونحوه ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم تفاصيل حياة النحل إلا بالوحي .
والتفكر في المخلوقات واقية من الإرهاب لما فيه من التدبر بنعم الله , وهو تذكير بما جاء به الأنبياء من الإخبار عن اليوم الآخر ومحاسبة الناس على أعمالهم وطوبى لمن اجتنب الظلم .
خطة قريش لإغتيال النبي محمد “ص”
في منتصف السنة السادسة للهجرة وبعد أن رجع المشركون من حصار الخندق إلى مكة خائبين , قال أبو سفيان لنفر من قريش : (ما أحد يغتال محمدا فإنه يمشى في الاسواق فندرك ثأرنا) ( ).
وأي ثأر الذي يتحدث عنه أبو سفيان , فهم الذين هجموا في معركة بدر وأحد والخندق , وهم الذين يصرون على القتال .
وشاع كلام أبي سفيان كأنه يعبر عن رغبة كبار رجال قريش , فأتاه رجل من الأعراب ودخل عليه منزله , أي أنه حرص على كتمان العرض , وإخفاء نيته وقال : إن أنت وفيتني خرجت إلى محمد حتى أغتاله , وأخذ هذا الأعرابي يثني على نفسه مخاطباً أبا سفيان وقال :
(قد وجدت أجمع الرجال قلبا وأشدهم بطشا وأسرعهم شدا فان أنت قويتنى خرجت إليه حتى أغتاله ومعى خنجر مثل خافية النسر فأسوره ثم آخذه في غبر وأسبق القوم عدوا فاني هاد بالطريق خريت)( )( ).
واطمأن أبو سفيان للأعرابي وعزمه , ثم أنه لم يطلب أموراً وهبات مقدمة وتوطئة إنما مدح نفسه وأخبر عن خنجره .
ولم يتردد أبو سفيان أو يتريث إنما قال : أنت صاحبنا .
فقام أبو سفيان بإعانته وتعضيده بمده بالمال والراحلة ، إذ أعطاه بعيراً ، ونفقة وقال : اطو امرك فإني لا آمن ان يسمع هذا احد فينميه إلى محمد , قال العربي لا يعلم به أحد( ).
لتأكيد كتمان أمره وفيه شاهد على تحمس رجالات قريش على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فخرج الأعرابي ليلاً كيلا يثير الريبة بين الناس ، ولا تصل الأخبار الى المدينة ، وسار الأعرابي على بعيره خمسة أيام وفي صبيحة اليوم السادس دخل المدينة إذ لم يكن لها أسوار وليس من حرس يرصدون الذين يدخلون إليها ، ثم أقبل الأعرابي يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدله الناس عليه وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد بني عبد الأشهل .
فجاء الأعرابي فعقل راحلته ثم دخل المسجد ، وعدد الصحابة الذين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المسجد أقل منهم في المسجد في النبوي .
وحينما نظر النبي صلى الله عليه وآله وسم الى الأعرابي قال : إن هذا الرجل يريد غدرا والله حائل بينه وبين ما يريد( )، ليكون من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المقام مسائل :
الأولى : معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقصد وسوء نية الأعرابي .
الثانية : تحذير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه من الغدر وأهله.
الثالثة : شجاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدم خوفه وفزعه من الغادر الذي يريد إغتياله وان صار قريباً منه.
الرابعة : شفقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الذي يريد الغدر به لتضليل رؤساء الشرك له.
الخامسة : بيان الحكمة في كيفية مواجهة الإرهاب ، إذ أن إرادة الإغتيال أشد ضروب الإرهاب ، فكيف وهو يتوجه الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ من مصاديق عصمة وحفظ الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
ولم يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبض على الأعرابي وأخذ خنجره منه ، خاصة وأنه مسموم وفيه أمارة على إرادته الغدر ، ولم يطلب شد وثاقه أو ضربه كيف وقد كان أسرى بدر في المدينة المنورة غير مقيدين ، وهل كانوا يحضرون المسجد النبوي ويسمعون خطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب نعم ، ومن دلائله ونتائجه دخول طائفة منهم الإسلام .
ودنا الأعرابي من النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم وانحني عليه فجذبه أسيد بن الحضير من أزاره ، فانكشف خنجرة ، وبان سوء قصده ، حينئذ قال الأعرابي : (دمي ، دمي يا محمد) ( )، أي أنه طلب الصفح ، وسأل السلامة.
حينئذ أخذ أسيد بلحيته وضغط على رقبته لمنعه من سلّ الخنجر .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أصدقني ما أنت ؟
قال : وأنا آمن ، أي جعل شرط الأمن ليكشف عن حقيقة أمره .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : نعم .
حينئذ قال الأعرابي بالإخبار عن أمره , وكيف أن ابا سفيان جعل له جعلاً مقابل اغتياله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل ذكر الأعرابي مسألة وهي أنه هو الذي عرض نفسه ابتداءً على أبي سفيان .
وأبقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند أسيد بن حضير ، ودعا به في اليوم التالي ليشهد الصحابة الواقعة ويعلموا التفاصيل ، وكيف يمكر به الذين كفروا ودفع الله لشرورهم ، لتكون هذه الحادثة من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، فقال له النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قد أمنتك فاذهب حيث شئت)( )، وليس من بين الناس من يقابل الذي يريد اغتياله وتثبت ادانته بالعفو في الحال ، وتركه وشأنه ثم عرض عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما هو أفضل وأحسن له .
عندئذ قال الأعرابي : وما هو ، ولم يضف لها بأدب الخطاب: يارسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما اكتفى بالسؤال ، وما هو .
فقال : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.
لقد رآى الأعرابي كيف أنه جاء بخطة وحكمة ولا يعلم بقصده قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الله ثم أبو سفيان ، وأن الناس يصلون الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقتربون منه من غير حرج ، وصار هو قريباً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانت يده تصل إليه ولكن الله فضحه ومنعه من تنفيذ خطته .
فبادر إلى إعلان اسلامه ، وبيّن سبب إسلامه وقال أنه لم يكن يخشى من الرجال أو يهاب أحداً ، إذ قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك أنت رسول الله، والله يا محمد ما كنت أفرق من الرجال، فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت ثم اطلعت على ما هممت به، فما سبقت به الركبان ولم يطلع عليه أحد، فعرفت أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبى سفيان حزب الشيطان ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم ( ).
ومن خصائص المجتمعات عامة النفرة من الإغتيال لأنه غدر ، وفتك مفاجئ ، والإغتيال هو عملية منظمة ومقصودة لقتل شخصية ذات شأن ، قد تصدر من شخص واحد أو من أشخاص وقد بادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى العفو عن الذي أراد إغتياله لإشاعة السلام ، وهذا العفو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
معنى الخلافة في الأرض
تتجدد مسألة خلافة الإنسان في الأرض تضفي على حياة الناس السعادة والفخر وتملي عليهم واجبات عبادية واجتماعية وأخلاقية وتدعوهم للتنزه عن الظلم والجور والإرهاب .
فكل جيل مؤتمن على الأرض ، ويجب أن يتعاهدها إلى حين المغادرة ، وأن قصّر واساء الإنسان في أيام حياته في الدنيا فانه لا يضر إلا نفسه وتحتمل خلافة الإنسان في الأرض وجوهاً :
الأول : خلافة الإنسان لله عز وجل في أرضه .
الثاني : خلافة آدم وجنس الإنسان للجن والنسناس الذين كانوا قبلهم.
الثالث : يخلف الإنسان غيره .
الرابع : من مات يخلفه غيره أي لفظ [خَلِيفَةً] ( ) فعليه بمعنى مفعول .
والصحيح هو الأول ، فنال آدم منزلة رفيعة لم ينلها الجن قبله ، وهو من أسباب حسد إبليس لآدم وإمتناعه عن السجود له ، وبيّن القرآن سعة وموضوع الخلافة وأنه شامل للناس في كل زمان ويختص بالأرض وعمارتها ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ] ( ) ويحتمل لفظ خليفة في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وجوهاً :
الأول : إرادة المفرد والقضية الشخصية ، وأن المقصود هو آدم عليه السلام .
الثاني : المقصود الأنبياء إذ يتصف كل واحد منهم بتلقي الوحي ، وهو عنوان الخلافة والصلة المتجددة بين الله عز وجل وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إرادة الأنبياء وخصوص المؤمنين وعلى فرض إرادة هذا المعنى فهل يشمل المؤمنات أم أنه يختص بالمؤمنين من الرجال لعمومات قوله تعالى [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ] ( ) .
الجواب هو الأول فالخلافة عامة وتقع مسؤليتها على الرجال والنساء ، وهل هجرة بعض المؤمنات من مكة إلى الحبشة وبعضهن من مكة إلى المدينة من الخلافة في الأرض ، الجواب نعم ، ومن خلافة المؤمنات في الدنيا إصلاح الناشئة للتبرء منه ، وبيان قبحه والمنع منه وإجتناب مقدماته .
الرابع : إرادة خلافة جنس الإنسان وأن كل إنسان مسؤول أيام حياته بتعاهد أمانة الخلافة ويلزمه شكر الله عز وجل على هذا الكريم العظيم على الخلائق .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الخلافة والخطاب التشريفي والتكليفي بالخلافة في الأرض متجدد في كل زمان ، قال تعالى [وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ]( ).
وهل يدل استعلام وسؤال الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )على هذا المعنى العام أم أنه يفيد التخصيص وأن الذين يفسدون في الأرض ليسوا بخلاف الله عز وجل الجواب إنه يدل عليها لبيان قانون وهو أن الذي يفسد في الأرض ويقوم بالقتل بغير حق ويسفك الدماء يخرج نفسه من عنوان الخلافة لذا فتح الله باب التوبة والإنابة ، وهذا الفتح من مصاديق احتجاج الله على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
قانون الصيام مانع من الإرهاب
لما كانت الدنيا دار امتحان واختبار فقد امتحن الله عز وجل عباده بالفرائض العبادية لتكون وسيلة الإستقامة والصلاح وسبباً لإستدامة الحياة ، فلا يختص الإنتفاع من العبادات والمناسك بالذين يؤدونها إنما يشمل الناس جميعاً .
وجاءت السنة النبوية لتحبب للناس أداء الفرائض والنوافل والحرص على حسن معاشرة الناس ، وعدم إيذائهم .
وبشّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حسن المعاملة والمعاشرة والكلام الطيب بالجنة (عن الإمام علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن في الجنة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها ، وبطونها من ظهورها .
قالوا : لمن هي؟ قال : لمن أطاب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، وصلى بالليل ، والناس نيام) ( ).
(وأخرج أحمد مثله عن أبي مالك الأشعري يرفعه) ( ).
ومن الإعجاز في فريضة الصيام مجيؤه مرة واحدة في السنة في ثلاثين يوماً ، وقد يكون تسعة وعشرين يوماً للمدة المحصورة بين هلالين ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) لينقطع المسلمون إلى الله عز وجل فيه ، ويمتنعون عن الأكل والشرب ، وفيه تخلص من قيود النفس الشهوية وزاجر عن استيلاء النفس الغضبية كل إنسان .
وهو مناسبة للتوبة والإنابة ولبيان قانون وهو أن الفوز برضوان الله عز وجل يأتي بالعبادات والذكر والصبر على الطاعة ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
في حديث (عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كان أول ليلة من رمضان فتحت أبواب السماء فلا يغلق منها باب حتى يكون آخر ليلة من رمضان ، وليس من عبد مؤمن يصلي في ليلة منها إلا كتب الله له ألفاً وخمسمائة حسنة بكل سجدة ، وبنى له بيتاً في الجنة من ياقوتة حمراء لها ستون ألف باب ، فيها قصر من ذهب موشح بياقوتة حمراء .
فإذا صام أول يوم من رمضان غفر له ما تقدم من ذنبه إلى مثل ذلك اليوم من شهر رمضان ، واستغفر له كل يوم سبعون ألف ملك من صلاة الغداة إلى أن توارى بالحجاب ، وكان له بكل سجدة يسجدها في شهر رمضان بليل أو نهار شجرة يسير الراكب في ظلها خمسمائة عام .
وأخرج البزار والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سيد الشهور شهر رمضان ، وأعظمها حرمة ذو الحجة .
وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن مسعود قال : سيد الشهور رمضان ، وسيد الأيام الجمعة .
وأخرج البيهقي عن كعب قال : إن الله اختار ساعات الليل والنهار فجعل منهن الصلوات المكتوبة ، واختار الأيام فجعل منهن الجمعة ، واختار الشهور فجعل منهن شهر رمضان ، واختار الليالي فجعل منهن ليلة القدر ، واختار البقاع فجعل منها المساجد .
وأخرج أبو الشيخ في الثّواب والبيهقي والأصبهاني عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الجنة لتعد وتزين من الحول إلى الحول لدخول شهر رمضان ، فإذا كانت أول ليلة من شهر رمضان هبت ريح من تحت العرش يقال لها المثيرة ، تصفق ورق الجنة وحلق المصاريع ، يسمع لذلك طنين لم يسمع السامعون أحسن منه ، فيثب الحور العين حتى يشرفن على شرف الجنة ، فينادين : هل من خاطب إلى الله فيزوّجه؟
ثم يقول الحور العين : يا رضوان الجنة ما هذه الليلة؟ فيجيبهن بالتلبية ، ثم يقول : هذه أول ليلة من شهر رمضان ، فتحت أبواب الجنة على الصائمين من أمة محمد ، ويا جبريل اهبط إلى الأرض فاصفد مردة الشياطين وغلهم بالأغلال ، ثم اقذفهم في البحار حتى لا يفسدوا على أمة محمد حبيبي صيامهم .
ويقول الله عز وجل في ليلة من شهر رمضان لمناد ينادي ثلاث مرات : هل من سائل فاعطيه سؤله؟
هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟
من يقرض المليء غير المعدم؟ والوفي غير الظلوم؟ قال : وله في كل يوم من شهر رمضان عند الإِفطار ألف ألف عتيق من النار كلهم قد استوجبوا النار ، فإذا كان آخر يوم من شهر رمضان أعتق الله في ذلك اليوم بقدر ما أعتق من أول الشهر إلى آخره .
وإذا كان ليلة القدر يأمر الله جبريل فيهبط في كبكبة من الملائكة إلى الأرض ومعهم لواء أخضر ، فيركز اللواء على ظهر الكعبة وله ستمائة جناح ، منها جناحان لا ينشرهما إلا في تلك الليلة ، فينشرهما في تلك الليلة فتجاوز المشرق إلى المغرب .
فيحث جبريل الملائكة في هذه الليلة فيسلمون على كل قائم وقاعد ومصل وذاكر ، يصافحونهم ويؤمنون على دعائهم حتى يطلع الفجر ، فإذا طلع الفجر ينادي جبريل : معاشر الملائكة الرحيل الرحيل . . . فيقولون : يا جبريل فما صنع الله في حوائج المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟ .
فيقول جبريل : نظر الله إليهم في هذه الليلة فعفا عنهم وغفر لهم إلا أربعة . قلنا : يا رسول الله من هم؟ قال : رجل مدمن خمر ، وعاق لوالديه ، وقاطع رحم ، ومشاحن .
قلنا : يا رسول الله ما المشاحن؟ قال : هو المصارم .) ( ).
والمشاحنة دون القتال ، وهل هو من الإرهاب ، الجواب قد يكون من مقدماته ، فقد يقوم فرد بالمشاحنة في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الإجتماعي فيتجرأ غيره بوسائل إرهاب باليد والسلاح , محاكاة له , أو ضده .
وقد ورد قوله تعالى في الثناء على القرآن[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( ) .
ولا يدل ذكر المتقين في الآية أعلاه على إنحصار الهدى في نزول القرآن بهم على نحو الخصوص ، لذا ورد قوله تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ] ( ) لإفادة إنتفاع الناس جميعاً من القرآن ، وإهتدائهم بضيائه والعلوم التي تترشح عن آياته ، ومن مصاديق الهدى إجتناب الإرهاب والتنزه عنه .
ومن معاني الهدى في الآية مسائل :
الأولى : الهدى إلى سنن التقوى ، والتي يتعارض ويتنافى معها الإرهاب .
الثانية : من البينات وضوح معاني قبح الإرهاب ولزوم الإنزجار عنه .
الثالثة : الهدى إلى العبادة وأداء المناسك , وفيه انصراف قهري عن الإرهاب .
الرابعة : دعوة المسلمين للتعاون والتعاضد في سبل الهدى والإيمان .
الخامسة : تجلي الهدى من وجوه :
الأول : نزول آيات القرآن.
الثاني : قدسية شهر رمضان .
الثالث : إختصاص شهر رمضان بنزول آيات القرآن من عند الله إلى السماء الدنيا (قال ابن عباس وغيره: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العِزّة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
السادسة : جاءت الآية بلغة العموم [هُدًى لِلنَّاسِ] ( ) إذ أن القرآن ينهى عن المسلم وغير المسلم عن الإرهاب ، وهو من الدلائل على ورود مضامين الكتب السماوية السابقة فيه .
السابعة : الملازمة بين شهر رمضان وفريضة الصيام هو دعوة لنبذ الإرهاب .
الثامنة : من معاني الهدى العام للناس البشارة بأن القرآن زاجر عن الإرهاب والإرهاب الموازي أو المعاكس ، إذ يأتي الهدى والصلاح على أسباب الأذى والإضرار فيزيحها .
التاسعة : من معاني الهدى البصيرة والتدبر في الأمور وعواقبها ، وهو ضد العمى .
العاشرة : بيان قانون وهو إمتناع حجب أسباب الهدى عن الناس ، فلابد أن تصل إليهم بالتنزيل والنبوة ، لتزيح مفاهيم الباطل والضلالة ، وتمنع من الغواية والتحريف في التأويل .
الحادية عشرة : في القرآن بيان للحلال والحرام والحدود ، ومنها عقوبة الظلم والتعدي والإضرار بالناس وسفك الدماء .
الثانية عشرة : من معاني قوله تعالى [هُدًى لِلنَّاسِ] ( ) الإخبار عن قانون وهو عدم إنحصار الهداية بالقرآن بالمؤمنين والذين يعملون بأحكام القرآن ، فكل جماعة وطائفة يأخذون من القرآن ما ينفعهم ، وهو من أسرار القراءة الجهرية اليومية للمسلمين في الصلاة ، وحث المسلمين والمسلمات على الإنصات والإستماع للتلاوة ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) ليتدبرون بالقرآن ويهتدوا بسننه ويتعظ ويتعلم الناس منهم الإنصات ومنافعه .
ليكون من معاني الآية أعلاه على وجوه :
الأول : فانصتوا لتهتدوا .
الثاني : فانصتوا لينصت الناس .
الثالث : فانصتوا لتتدبروا بالقرآن ، وتتخذوه واقية من الإرهاب .
الرابع : فأنصتوا فان فيه غنى عن الإرهاب .
الخامس : فانصتوا ليكرمهم الناس جميعاً ، وهذا الإكرام من مصاديق قوله تعالى [هُدًى لِلنَّاسِ] ( ) بأطرافه وهي :
الأول : الذين يكرمون المسلمون لتلاوتهم القرآن وعملهم بأحكامه ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) وقال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) .
الثاني : الذي يتلقون الإكرام وهم المسلمون لتتجلى التقوى في سيرتهم ، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث : الإكرام .
الرابع : مادة وموضوع الإكرام .
قانون عفو النبي “ص” عن الكفار مع إيذائهم له
من طبيعة النفس الإنسانية حب الرد بالمثل خاصة عند المقدرة والتمكين , وإرادة التشفي عند رجحان الكفة على جهة الإيذاء , وبدافع نفسي بالزجر عن إعادة الطرف الآخر التعدي .
والرد والمعاملة بالمثل فعل توارث في الأجيال على نحو القضية الشخصية والنوعية , وهي على قسمين :
الأول : الرد الحسن للمعروف وهو المسمى (رد الجميل ) قال تعالى [هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ] ( ).
الثاني : الرد السلبي على المعروف والإحسان .
الثالث : الرد بالمثل في الأذى والإحسان .
الرابع : ترك الرد من جهات :
الأولى : الترك عن قصد وعمد .
الثانية : الترك عن الغفلة .
الثالثة : حيلولة موانع دون الرد سواء كانت موانع متأصلة أو طارئة .
الخامس : إرجاء الرد عن حلم أو مكر ودهاء ، وكما يختلف الرد من جهة أوانه وزمانه فانه يختلف من جهة كيفيته ومقداره على وجوه :
الأول : الرد بالأقل من ذات الفعل .
الثاني : الرد بالمثل والمتشابه .
الثالث : الرد بالأكثر من ذات الفعل ، وهو محبوب في الصالحات والخيرات ، ومبغوض في التعدي ، لذا قال تعالى [وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( )وقال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا]( ).
السادس : الصبر على الرد رجاء الثواب والأجر ، وهو الذي ندب إليه القرآن ، بقوله تعالى [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ] ( ) .
ولقد تلقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشد الأذى من قريش ، ولم يرد عليهم إنما كان صبر عليهم رجاء إسلامهم وإيمانهم وسلامتهم من العذاب يوم القيامة ، قال تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ]( ).
ولقد آذى كفار قريش النبي محمداً وتحمل منهم العناء ، وأيهما أشد بخصوص أذى الكفار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم :
الأول : قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
الثاني : في طريق هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة.
الثالث : الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة .
والمختار هو الثالث إذ جهزت قريش الجيوش العظيمة لمحاربته وقتاله هو وأصحابه ، ومع هذا يأتي التاريخ ليسميها غزوة بدر ، وغزوة أحد، وغزوة الخندق ، وكأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي قام بالغزو .
التعاون لدفع الدرن
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار التكافل والتعاضد , بما فيه النفع العام وأسباب الصلاح , والوقاية من مفاهيم الضلالة والكدورة والإرهاب .
ومن خصائص خلافة الإنسان في الأرض التعاون في الخيرات وهو من الفطرة ورشحات نفخ الله من روحه في آدم ، قال تعالى [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ] ( ).
قال تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ] ( ) والآية في سياق احتجاج ابراهيم على الكفار من قومه وبيانه لبطلان عبادتهم الأصنام ، فلم يكتف ببيان عجزها عن النفع أو الضرر وضلالتهم وآبائهم بانقطاعهم إليها .
إنما أخبر عن وجوب الوحدانية وأن الله عز وجل هو الذي خلق الناس وهو الذي تفضل عليهم بالهداية ، والذي يمنّ عليه وعليهم بالرزق والأطعام ثم قال : أني إذا مرضت فان الله هو الذي يتفضل بشفائي ، وأن الله عز وجل هو الذي يميت الناس ويبعثهم من بعد الموت للحساب يوم الدين أي يوم القيامة .
وفي قوله تعالى [عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا] ( ) ورد عن كعب بن مالك (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تَلٍّ ، ويكسوني ربي حلة خضراء ثم يؤذن لي أن أقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود) ( ).
ومن إعجاز الآيات أعلاه من سورة الشعراء أنها جاءت مقيدة لأنها خطاب للمؤمنين بالثبات على الإيمان ، وللذين كفروا وعبدة الطاغوت نمرود بترك عبادته .
وبين الملحدين وعبدة الأصنام عموم وخصوص مطلق فالملحدون أعم.
وتبين هذه الآيات كفاية الإحتجاج في التنبيه والإنذار من القبائح من غير اللجوء إلى العنف والإرهاب , ثم نسب إبراهيم المرض إلى نفسه [وَإِذَا مَرِضْتُ] ( )مع أنه من قدر الله وقضائه ولبيان الأسباب الخاصة من كسب الإنسان في المرض .
ليكون من معاني الآية نسبة المرض إلى نفسه وهو النبي الرسول من الخمسة أولي العزم لبيان الحاجة إلى الوقاية والإحتراز من الأمراض وأسبابها ومقدماتها .
وقد أنعم الله عز وجل على المؤمنين بالصيام ليكون واقية من المرض وسبباً للشفاء بفضل الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : صوموا تصحوا( ) .
والشفاء منسوب إلى الله عز وجل لبيان قانون من الإرادة التكوينية وهو أن الشفاء بيده سبحانه ، ولا يقدر عليه غيره وأن طاعة الناس لله سبب بالشفاء .
وهو لا يتعارض مع الأسباب ولزوم المبادرة بالرجوع إلى الأطباء وأخذ الدواء المناسب خاصة مع إرتقاء العلوم نعمة التشخيص , وفي الأدوية الحديثة .
وفي المرسل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيما طبيب تطبب على قوم لا يعرف له تطبب قبل ذلك فأعنت فهو ضامن .
و(العَنَتُ: إدخالُ المشقّةِ على إنسانٍ. عَنِتَ فلان، أي: لَقِيَ مشقّة) ( ).
والدعاء من أسباب الشفاء والآية ترغب به ،قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) .
لبيان أن الدعاء سلاح للوقاية من المرض وللشفاء منه .
وتقدير الآية أعلاه على وجوه منها :
الأول : ادعوني للوقاية من المرض استجب لهم .
الثاني : ادعوني للشفاء من المرض استجب لكم .
الثالث : ادعوني لشفاء غيركم استجب لكم .
وتدعو الآية الناس للإلتفات إلى أنفسهم ، وتعاهد سلامتهم من الأمراض ، وتمني العافية لغيرهم ويملي الدعاء بالوقاية من المرض والشفاء منه الرأفة بالناس ، والحرص على عدم التسبيب في شقائهم , ومن أشد أسباب الشقاء الخويف بشبح الإرهاب .
لقد أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام ادعني بلسان لم تعصني به، فقال: أني لي بذلك، فقال: ادعني بلسان غيرك، ومنها عن الباقر عليه السلام: أوشك دعوة وأسرع إجابة دعوة المؤمن لاخيه بظهر الغيب. ومنها عن الصادق عليه السلام قال: دعاء الرجل لاخيه بظهر الغيب يدر الرزق ويدفع المكروه .
ولقد أنعم الله على صاحب الدعاء للغير بالثواب العاجل بالمثل المتعدد , وعن النبي صلى الله عليه واله: ما من مومن دعا للمؤمنين إلا ورد الله عليه مثل الذي دعا لهم به من كل مؤمن ومؤمنة مضى من أول الدهر أو هو آت إلى يوم القيامة .
وإن العبد ليؤمر به إلى النار يوم القيامة، فيقول المؤمنون والمؤمنات: يا رب هذا الذي كان يدعو لنا فيشفعهم الله عز وجل فيه فينجو) ( ) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (داووا مرضاكم بالصدقة ) ( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَد) ( ).
وهل في الآية شكر لله عز وجل على نعمة الصحة التي فيها إبراهيم آنذاك ، الجواب نعم ، وفيه دعوة للناس للشكر لله عز وجل على نعمة العافية .
ومن المأثور العام : إن الفقير الصحيح أهنأ وأشرح من الغني السقيم .
والطب علم مستقل قائم بذاته .
وهل يشمل المرض في الآية المرض النفسي , الجواب أما ابراهيم فمعصوم من المرض النفسي لمقام النبوة وبلوغه مرتبة اليقين ، وأما غير المعصومين إذ أبتلي بمرض نفسي فتشمله الآية فهي وإن نزلت بخصوص إبراهيم في حال الإحتجاج على الكفار وترغيبهم بالإيمان ، إلا أنها أمل بالشفاء , وهذا الأمل حاجة للمريض في كل زمان , وذكره في القرآن ونسبته إلى الله وحده من إعجاز القرآن .
وتقدير الآية على وجوه :
وإذا مرض أحدكم فالله يشفيه ، وفيه وعد من إبراهيم خليل الله لقومه ، وتحد جديد بأنكم عند الحاجة لا تنفعكم الأصنام , وترغيب لهم بالإيمان، وورد ذكر المرض لأن الصحة أعظم نعمة وحاجة ، وللدلالة على غيرها من الحاجات من باب الأولوية , والشفاء هو الإبراء من السقم والدرن .
ولم يسكت قوم إبراهيم على إحتجاجه وذمه لآلهتم وقيامه بكسر الأصنام إنما [قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ] ( ) مما يدل على أن أعداء الأنبياء هم الذين يزاولون الإرهاب ويشيعون الفتك .
وجاءت الفاء في قوله [فَهُوَ يَشْفِينِ] ( ) ومن معاني الفاء في آية البحث أنها تفيد أموراً :
الأول : العطف .
الثاني : الإشتراك في الإعراب والموضوع .
الثالث : الترتيب أي أن الاسم الذي يأتي قبل حرف العطف وهو (المعطوف عليه ) يقع أولاً والاسم الذي يأتي بعد حرف العطف يحدث بعده .
الرابع : التعقيب : أن يأتي المعطوف بعد المعطوف عليه ومن غير تراخ أو فاصلة بينهما ، كما لو قلت : غربت الشمس فصليت المغرب .
ورأيت هلال شهر رمضان فصمت اليوم التالي ، وتزوج زيد فولد له ، أي ليس بين الزواج والولادة إلا مدة الحمل .
الخامس : قد تفيد الفاء السببية بأن يكون المعطوف عليه علة وسبباً للمعطوف ، وفاء السببية لا تستلزم التعقيب وأشكل على إفادة الفاء للتعقيب بقوله تعالى [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ) لأن مجئ الأجل متراخ وليس فورياً ويرد على هذا الإشكال بقوله تعالى [إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا] ( ) .
ليكون هذا الإشكال من رؤية الكفار للأجل بأنه بعيد ،بينما هو قريب عند الله عز وجل وكذا عند المؤمنين .
ومن إعجاز ورود الفاء في آية البحث الإرتقاء العلمي والطبي في هذا الزمان والنفع الكثير من الأدوية وتوالي تطويرها وتحسين أثرها وسرعته ، وإكتشاف علاج لبعض الأمراض المستعصية وإستمرار البحوث لعموم الأمراض.
وأبتلي الناس في هذا الزمان بمرض السرطان حتى خصص يوم عالمي له وهو الرابع من شهر شباط من كل سنة لبيان شدة ضرره وفتكه ورجاء التعاون للقضاء عليه ، ويحصل الإبتلاء به بسبب نمو غير طبيعي في خلية ما وطفرة في الحامض النووي (DNA) فيها لتتحول إلى خلية سرطانية ، والموت بسبب السرطان أكثر منه بمرض الأيدز ونحوه .
وعدد المصابين بمرض السرطان نحو أربعة عشر مليون مصاب في العالم مما يجعله أمراً مخيفاً للناس جميعاً ، وتتوقع الدراسات أن يبلغ عدد المصابين بمرض السرطان واحد وعشرين مليوناً عند حلول عام (2030) ولكن سيكتشف علاج قريب ان شاء الله لمرض السرطان ، ويصبح من الماضي لقوله تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( )، والتي تتضمن بشارة اكتشاف علاج للأمراض المستعصية ، ودعوة الناس للدعاء والتوسل بتعجيله وجهود العلماء والجامعات في هذا المقام ، مع الحث على الإمتناع عن أسبابه العرضية مثل التدخين والخمر .
ليكون من الإعجاز في الشريعة الإسلامية بحرمة الخمر إجتناب آفة المرض , وتتجلى الحاجة إلى العلاج العاجل بلحاظ إحصائيات عدد المصابين بهذا المرض في عموم البلدان .
ونسأل الله عز وجل الشفاء العاجل لجميع المرضى من السرطان وغيره في أرجاء الأرض ، فالمرض أذى وشر وأيهما أكثر حاجة لأهل الأرض الحرب على السرطان التي أعلنت سنة 2015 ميلادية أم الحرب على الإرهاب .
الجواب كلاهما حاجة للناس ، ودعوة للرحمة والألفة بينهم وإزالة لأسباب الخوف والفزع .
ويدعو القرآن إلى اللجوء إلى الله عز وجل للوقاية من المرض وإجتنابه لمقام أداء الشرط (إذا) في قوله تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ] ( ) ونسبة ابراهيم المرض إلى نفسه , ولا يتعارض هذا اللجوء مع الرجوع إلى الأطباء والإنتفاع من العلم الحديث في الطب والصيدلة وأسباب العلاج .
ومن الآيات في خلق الإنسان والصلات الإنسانية بين أهل الأرض الإنتفاع العام من الإكتشاف الشخصي في علاج أي مرض ، فما أن يتم إكتشاف علاج ناجح لمرض مخصوص حتى يتيسر لأهل الأرض وإن اختلفت البلدان ، ويبقى إرثاً للأجيال ، وفيه دعوة للتآلف والتعاون بين الناس ، وأهل الملل المختلفة بما ينفع الناس جميعاً ، ويصرف عنهم أسباب الأذى والضرر .
ونسأل الله ظهور تقنية جديدة تكون كقاعدة بيانات في إكتشاف العلاج لأي مرض حالما يظهر ويشخص , وهل هو من مصاديق الآية [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
الجواب نعم , فمن الاعجاز في الآية القرآنية تجدد مصاديقها في كل زمان .
الطلاق أوان الحيض
قال تعالى [وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا]( ).
الطلاق لغةً : حلّ الوثاق , وهو مشتق من الطلاق بمعنى الإرساء والترك , وفي الإصطلاح هو إيقاع لحل عقد النكاح , ولم يرد في القرآن إلا بمعناه الإصطلاحي , قال تعالى [الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ] ( ), كما جاءت سورة من القرآن باسم (سورة الطلاق) وعدد آياتها اثنتا عشرة آية .
وفي وقوع الطلاق في الحيض أو عدمه قولان :
القول الأول : وقوع الطلاق لو تم في الحيض .ونسب هذا القول إلى أئمة المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة , وهذا الوقوع أثناء الحيض والنفاس لا يتعارض مع حرمته التكليفية أي أنه يقع مع الإثم , ونسب إلى البيهقي والنووي والبخاري , وعليه قول الجمهور .
والحكم الشرعي مقتضى خطاب الشارع المتعلق بافعال العباد وهو على وجوه :
الأول : أمر وطلب .
الثاني : تخيير .
الثالث : الترك والوضع والمنع .
وينقسم الحكم الشرعي إلى عدة تقسيمات بحسب اللحاظ والموضوع وأظهرها تقسيمه إلى قسمين :
الأول : الحكم التكليفي : ويتعلق بأفعال المكلفين البالغين الذين يتصفون بالعقل بلحاظ أنه شرط التكليف إذ يسقط التكليف عن المجنون , لذا لابد في الزوج الذي يجري صيغة الطلاق أن يكون عاقلاً ملتفتاً إلى ما يقول ولا يصح الطلاق مع الغضب , وقيده بعضهم بالغضب المطبق الذي يكون صاحبه غير واع أو ملتفت لما يصدر عنه , ولكن هذا المعنى أشد من حال الغضب , إنما تدرأ الحدود بالشبهات.
ويشترط في الحكم التكليفي القدرة على الحكم المكلف به , فما لا يقدر عليه المكلف لا يصح التكليف به شرعاً وعقلاً .
الثاني : الحكم الوضعي : وهو الحكم الذي ورد في خطاب الله عز وجل بالسبب أو الشرط للحكم ، أو المانع منه أو وصفه بالصحة أو الفساد ، ويلزم من وجود السبب وجود المُسبب كما في قوله تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
والسبب في الحكم الوضعي على قسمين :
الأول : السبب القهري ، الذي ليس للمكلف قدرة عليه وعلى اختيار فيه فمثلاً طلوع الفجر وقت لحلول صلاة الصبح , فطلوع الفجر حكم وضعي ، وصلاة الصبح حكم تكليفي ، ومثلاً الموت سبب لإنتقال المال إلى الورثة ، أما تقسيمه عليهم فهو حكم تكليفي بحسب السهام كما في قوله تعالى [لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ) .
وكان العرب لا يعطون الزوجة من الميراث ، بل تكون هي ذاتها جزءّ من الميراث فجاءت أحكام القرآن بتعيين حصة وسهم أعلى وأدنى للزوجة ، قال تعالى [وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ]( )، ومنه الإبتلاء بالمرض الذي هو سبب للإفطار , قال تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ).
الثاني : السبب كفعل اختياري للمكلف كعقد البيع والنكاح.
وطلاق المرأة وهي حائض محرم كتاباً وسنةً وإجماعاً , فمن السنة يجب أن يقع الطلاق في طهر لا يمسها زوجها فيه , أو أن يطلقها وهي حامل قد إستبان حملها .
أما لو طلقها في الحيض فهو طلاق بدعي مخالف للسنة ويؤثم صاحبه , ولكن هذا الطلاق يقع بقول أئمة المذاهب الأربعة وهم حسب الترتيب الزماني.
الأول : أبو حنيفة , النعمان بن ثابت وهو أول الأئمة الأربعة (80هـ/699م – 150هـ/767) وهو الوحيد بين أئمة المذاهب تابعي ولقي بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ولم يلتق بأي من أئمة المذاهب الأخرى مع أن الإمام مالك بن أنس كان معاصراً له ويسمى مذهب أبي حنيفة الحنفي .
الثاني : مالك بن أنس (93هـ/715م-179هـ/796) ومذهبه المالكي .
الثالث : محمد بن إدريس الشافعي (150هـ/766م-204هـ/820م) ومذهبه الشافعي .
الرابع : أحمد بن حنبل (164هـ/780م-241هـ/855م) ومذهبه الحنبلي.
وكان الشافعي تلميذ مالك بن أنس وشيخ أحمد بن حنبل .
والقول بوقوع الطلاق في الحيض بما رواه البخاري بسند متعدد عن ابن عمر .
و(عن يونس بن جبير قَالَ قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهْىَ حَائِضٌ . فَقَالَ تَعْرِفُ ابْنَ عُمَرَ إِنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهْىَ حَائِضٌ فَأَتَى عُمَرُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَإِذَا طَهُرَتْ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا ، قُلْتُ فَهَلْ عَدَّ ذَلِكَ طَلاَقًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ ) ( ).
أي أن عبد الله بن عمر يتكلم عن واقعة حدثت له ليكون مثالاً وعبرة للسائل .
تعرف ابن عمر : أي أن الذي سألته وتخاطبه هو نفسه وقعت له هذه المسألة للبيان والتأكيد , واسم امرأة عبد الله بن عمر التي طلقها آمنة بنت غفار , وفي مسند أحمد اسمها نوار بفتح النون , ويمكن أن يكون لقباً لها.
أما (أرأيت إن عجز واستمحق )فمعناها عجز عن فرض ما لم يقم به.
أو استحمق فلم يأت بما يلزم فلا يقدر , أي أنه عجز عن المراجعة بعد الطلاق الذي تم في الحيض أو استحمق وفقد عقله فلا يقدر على الرجعة فهل تكون حال المرأة معلقة لا ذات بعل أو مطلقة .
فلابد أن تحتسب تطليقة وأن أوقعها على غير وجهها , فإذا عجز فيما بعد وأثناء مدة الطهر فإن تلك التطليقة احتسبت .
اقول : ولكن على فرض أنها لا تحتسب تطليقة فإنها تبقى في الزوجية للإستصحاب , ولا تكون معلقة .
وورد في بعض النصوص بصيغة المبني للمجهول أُستحمق : أي أن الناس احتسبوه أحمق لما فعل بتطليق امرأته وهي حائض خلافاً للسنة النبوية , وذات البخاري يقول في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ]( )، (وَطَلاَقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ ، وَيُشْهِدُ شَاهِدَيْنِ) ( ).
إذ يجمع البخاري في الطلاق شروطاً وهي :
الأول : الطهر أي النقاء من الحيض .
الثاني : عدم وطىء الزوج للزوجة في ذات الطهر .
الثالث : حضور شاهدين عدلين ,وهو قول الإمام الصادق عليه السلام.
واختلف الرواة في الطلقة الأولى التي وقعت في الحيض هل تعتد بها،
أم لا ، على وجهين :
الأول : تعتد المرأة بهذا الطلاق .
الثاني : لا تعتد بهذا الطلاق .
وقيل الأول هو الأرجح لكثرة طرقه وظهوره , واجماع علماء الإسلام على حرمة الطلاق في الحيض كتاباً وسنةً .
أما الكتاب فقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ] أي يكون الطلاق بإستقبال المرأة التي يراد طلاقها العدة وهي في طهر لم يقع فيه جماع , ويصح طلاقها وهي حامل قد استبان حملها كيلا تختلط مياه الرجال .
وقوله تعالى [وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ] أي احفظوا مدة العدة ، وهي ثلاثة قروء لتعلموا مدة جواز رجوع المطلق بزوجته .
وروي حديث ابن عمر بصيغ متعددة منها .
وعن (ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا فَقَالَ أَتَعْرِفُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا فَذَهَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا قَالَ وَلَمْ أَسْمَعْهُ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ رَوْحٌ مُرْهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا) ( ) .
أي لم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها إذا طهرت,له أن يطلقها.
ولو تنزلنا جدلاً وقلنا أن هذه التي وقعت أيام الحيض هي التطليقة الثالثة.
فهل يحق له الرجوع بها إذا كانت تحتسب تطليقة , الجواب لا يجوز مما يدل في الظاهر على إرادة المعنى الأعم من المراجعة , وأنه لا يختص بالرجوع بالمطلقة .
وروى مسلم في صحيحه ذات المعنى , باسناده عن منصور عن أبي وائل.
وعن فراس عن عامر( ), قال (طلق ابن عمر امرأته وهى حائض واحدة فانطلق عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فأمره إذا طهرت ان يراجعها ثم يستقبل الطلاق في عدتها ثم تحتسب بالتطليقة التي طلق أول مرة) ( ) . فهذا الخبر كالمرسل , لم يذكر عامر أنه سمعه من عبد الله بن عمر .
والإضافة الأخيرة لم تثبت بالنصوص عن ابن عمر .
والمختار أنه لا يصح الوقوف عند حديث واحد ذي معنى متعدد , ومن أحد الصحابة الشباب طلق زوجته , عند التباين في ذات الخبر في هذه المسألة عامة البلوى , فلابد من الرجوع إلى الكتاب والسنة.
و(عن الشعبي ، أن ابن عمر ، طلق امرأته ، وهي حائض ، فأتى عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمره أن يراجعها ، فإن بدا له طلقها وهي طاهر في قبل عدتها) ( ).
وذات المعنى ورد في رواية ميمون بن مهران عن ابن عمر وفيه إضافة وزيادة بيان (أنه طلق امرأته في حيضتها ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأمره أن يراجعها ، ولا يجامعها حتى تطهر ، فإذا طهرت فإن شاء طلق ، وإن شاء أمسك) ( ).
وظاهر الكلام أن الطلاق في الحيض ليس طلاقاً , وللرجل أن يطلق أو يمتنع عن الطلاق عندما تكون في حال طهر , وقول ابن عمر باحتسابها على فرض صحته وصحة نسبته له اجتهاد منه , خاصة وأنه لم يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المسألة ولم يخبره والده وهو عمر بن الخطاب بلزوم احتسابها تطليقة .
ومن إعجاز القرآن الترغيب بإبقاء الزوجة في عقد الزواج والعزوف عن الطلاق لقوله تعالى [فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا].
ولو احتسبت التطليقة في الحيض تطليقة واحدة من أصل ثلاثة إذا اجتمعت تحرم عليه المطلقة حتى تنكح غيره , فالزوج لا يرغب أن تكون التطليقة الواحدة في ذات الموضوع والزمان المتحد تطليقتين , ولا يرضى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن تضيع فرصة تطليقة , وفيه ضرر على كل من:
الأول : الزوج وحقه الذي جعله الله له .
الثاني : الزوجة , وفرصة التدارك والإصلاح .
الثالث : الأسرة والأبناء والمجتمع , وهذا العموم من أسرار قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذي رواه ابن عمر نفسه عن النبي صلى الله وآله وسلم أنه قال (ابغض الحلال إلى الله الطلاق) ( ).
ولا يتعارض هذا المعنى مع قوله تعالى [وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا] ( ).
بلحاظ تغشي فضل الله عز وجل للناس جميعاً , وأنه سبحانه يفتح آفاقاً من الرزق والسعة على المؤمنين , فحينما يتأذى الزوج أو الزوجة من الطلاق فإن الله عز وجل يهيئ لكل منهما أسباباً من الرزق الكريم , ويمكن تأسيس قانون وهو الملازمة بين العقد المحرم والبطلان إلا ما خرج بالدليل .
القول الثاني : عدم احتساب الطلاق بمدة الحيض طلاقاً لأنه فعل محرم يقتضي البطلان وليس الصحة .
وتحمس ابن قيم الجوزية للقول ببطلان الطلاق في الحيض وعدم احتسابه تطليقة ، وقال (فَإِنَّ الْأُمَّة لَمْ تُجْمِع قَطّ , وَلِلَّهِ الْحَمْد , عَلَى صِحَّة شَيْء حَرَّمَهُ اللَّه وَرَسُوله , لَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَلَا فِي غَيْرهَا , فَالْحُكْم بِالصِّحَّةِ فِيهَا إِلَى أَيّ دَلِيل يَسْتَنِد.
قَالُوا : وَأَمَّا قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ : ” مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ” فَهَذَا حُجَّة لَنَا عَلَى عَدَم الْوُقُوع , لِأَنَّهُ لَمَّا طَلَّقَهَا . وَالرَّجُل مِنْ عَادَته إِذَا طَلَّقَ اِمْرَأَته أَنْ يُخْرِجهَا عَنْهُ , أَمَرَهُ بِأَنْ يُرَاجِعهَا وَيُمْسِكهَا , فَإِنَّ هَذَا الطَّلَاق الَّذِي أَوْقَعَهُ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ شَرْعًا , وَلَا تَخْرُج الْمَرْأَة عَنْ الزَّوْجِيَّة بِسَبَبِهِ , فَهُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لِبَشِيرِ بْن سَعْد فِي قِصَّة نَحْله اِبْنه النُّعْمَان غُلَامًا ” رُدَّهُ ” .
وَلَا يَدُلّ أَمْره إِيَّاهُ بِرَدِّهِ عَلَى أَنَّ الْوَلَد قَدْ مَلَكَ الْغُلَام , وَأَنَّ الرَّدّ إِنَّمَا يَكُون بَعْد الْمِلْك , فَكَذَلِكَ أَمْره بِرَدِّ الْمَرْأَة وَرَجْعَتهَا لَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُون إِلَّا بَعْد نُفُوذ الطَّلَاق , بَلْ لَمَّا ظَنَّ اِبْن عُمَر جَوَاز هَذَا الطَّلَاق فَأَقْدَمَ عَلَيْهِ قَاصِدًا لِوُقُوعِهِ , رَدَّ إِلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اِمْرَأَته , وَأَمَرَهُ أَنْ يَرُدّهَا.
وَرَدُّ الشَّيْء إِلَى مِلْك مَنْ أَخْرَجَهُ لَا يَسْتَلْزِم خُرُوجه عَنْ مِلْكه شَرْعًا , كَمَا تُرَدّ الْعَيْن الْمَغْصُوبَة إِلَى مَالِكهَا , وَيُقَال لِلْغَاصِبِ : رُدَّهَا إِلَيْهِ وَلَا يَدُلّ ذَلِكَ عَلَى زَوَال مِلْك صَاحِبهَا عَنْهَا وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ : رُدَّ عَلَى فُلَان ضَالَّته)( ).
وحرمة الطلاق في الحيض تعبدية وفيها نص , ولقواعد الطلاق في الإسلام , ولأن الرجل لا يطأ المرأة في الحيض , فيكون حال الطهر مناسبة للوئام والصلح والتدارك وهو من أسباب استدامة المودة بينهما واحتمال الإنصراف عن الطلاق .
وقال جماعة إنما حرم الطلاق في زمن الحيض دفعاً لضرر تطويل العدة عليها , ولا دليل عليه , وخبر عبد الله بن عمر في طلاق زوجته وهي حائض وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصه هو من خبر الواحد .
والمراد من خبر الواحد في الإصطلاح هو الذي يرويه واحد أو اثنان دون أن يبلغ حد التواتر أو الشهرة بل هو من المرسل لأن عبد الله بن عمر لم يسمع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحديث ،وفيه أقوال :
الأول : إفادة خبر الواحد العدل العلم , وبه قال مالك والشافعي وأحمد في احدى روايتين عنه , وبه قال أصحاب أبي حنيفة .
واستدلوا بآيات منها قوله تعالى [وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ), [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] ( ), للنهي عن إتباع الظن , وقوله تعالى[إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ] ( ).
وضد الجهالة العلم إذ تدل الآية أعلاه على تصديق خبر العدل , وورد عن طريق الآحاد أخبار رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة , وقيل أخبار عذاب البرزخ من خبر الواحد ، ولكنه ورد في القرآن , وجاء بيانه في بحث مستقل في هذا التفسير.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث الأمراء والسعاة إلى المدن وقرى الذين دخلوا الإسلام لتبليغ الأحكام وتعليم القرآن فيتلقاها منهم الناس بالقبول وكان الصحابة يقبلون قول الخبر الواحد .
الثاني : لا يفيد خبر الواحد إلا الظن وإليه ذهب جمع من متأخري الأصوليين لأننا نعلم ضرورة عدم تصديق كل خبر , ولو صح تصديق خبر الواحد لصدق الذي يدّعي النبوة من غير معجزة .
ولكن الموضوع مختلف لأن المراد من الخبر الإخبار في سلسلة رجال الحديث ونقل ما سمعه بعضهم عن بعض .
وقال القرطبي المفسر (وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن كالقياس وخبر الواحد وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات) ( ).
الثالث : بخصوص القول بعدم حجية خبر الواحد أنه لو أفاد العلم لوجب القبول بالشاهد الواحد , ولا نحتاج إلى شاهد ثان , وهو قياس مع الفارق.
كما قالوا بجواز الكذب أو الغلط على الراوي لأنه ليس بمعصوم , وقالوا بأن خبر الواحد العدل إنما يفيد الظن , ويحتج به في الأحكام دون العقائد التي لا تصح إلا مع اليقين .
وهذا الترديد والاحتمال بخصوص خبر الواحد يلزم الرجوع إلى القرآن والسنة في استنباط الحكم في طلاق الحائض خاصة مع لزوم الإحتراز في الفروج , وللإجمال في خبر عبد الله بن عمر مع صحته من جهة السند , قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
ولا تترك السنة في المقام لموضوعيتها ولأنها بيان ومرآة للقرآن وبالإسناد عن (المقدام بن معدي كرب ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته( ), يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ، وكل ذي ناب من السباع( )( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn