بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله الذي جعل النعم العظيمة مصاحبة لخلق الإنسان وهبوطه إلى الأرض، سكنه فيها بعناية من الله، ومن الشواهد على عظيم الفضل الإلهي أنه سبحانه يزكي وينمي النعمة التي ينعم بها على الناس، وفيه فضل منه سبحانه إبتداء وإستدامة ونماء.
أي أن أول النعمة ودوامها وزيادتها كله فضل من الله عز وجل وليس من حد للنعم الإلهية من طرف الموضوع والتعدد والكثرة في كل فرد منها، وتلك آية في الخلق، ومن النعم الإلهية التي أنعم الله تعالى بها على الناس نعمة النبوة والتنزيل والملازمة بينهما، وبين وجود الإنسان في الأرض وتوددهما له ، وقربهما منه في ليله ونهاره رجلاً أو أنثى ، وداخل البيت والسوق، وفي الحضر والسفر.
ومن الآيات أن كل نعمة منها توليدية تترشح عنها نعم كثيرة يصعب إحصاؤها، وتشمل الميادين المختلفة، ويتجلى هذا القانون الثابت ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ونزول القرآن.
ففي كل آية من القرآن آيات باهرات تستغرق الميادين المختلفة، وكنوز متجددة ينهل منها العلماء كل في إختصاصه من غير أن ينقص منها شئ، في حجة مستديمة على صدق نزول القرآن، والمائز الذي تتصف به معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها عقلية بالقياس إلى معجزات الأنبياء الحسية كسفينة نوح، وناقة صالح، وعصا موسى عليهم السلام.
وقد جاء الجزء الرابع والثمانون من هذا الكتاب بتفسير آية واحدة من سورة آل عمران وكذا الجزء السابق بتفسير آية واحدة وهي آية البطانة( )، وجاء هذا الجزء بتفسير آيتين يتصل موضوعهما بآية البطانة ، مع إستقلال كل واحدة منها بمواضيع متعددة، كما يتضح من معاني التفسير في هذا الجزء والأجزاء السابقة وكلها تفسير وتأويل وإستنباط من ذات الآيات، وما فيها من الخزائن العلمية والعقائدية، بفيض من عند الله عز وجل.
وفيه دعوة لعشاق القرآن والعلماء والباحثين للتدبر في آيات القرآن، وإقتباس الدروس والمواعظ منه، ومن اللطف الإلهي أني أقوم بتأليف ومراجعة وتصحيح أجزاء التفسير وكذا كتبي الفقهية والأصولية والعقائدية بمفردي من غير إعانة من أحد إلا من الله عز وجل [وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا].
قوله تعالى [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] الآية 119.
الإعراب واللغة
ها: للتنبيه، أنتم: مبتدأ، أولاء: اسم إشارة، خبر، وقيل منادى أي يا هؤلاء، فتكون جملة تحبونهم هي الخبر.
تحبونهم: جملة من فعل مضارع، وفاعل وهو الواو، ومفعول به وهو الضمير “هم”، والجملة حالية، وقيل مستأنفة، جاءت لبيان حال المسلمين، وحسن سرائرهم، وقال الفراء: أولاء خبر، و”تحبونهم” خبر بعد خبر.
ولا يحبونكم: جملة معطوفة على جملة تحبونهم.
وتؤمنون: الواو: حرف عطف، تؤمنون: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة، بالكتاب: جار ومجرور متعلقان بتؤمنون.
كله: تأكيد للكتاب وهو مضاف، والضمير الهاء مضاف اليه.
وقيل الواو في “وتؤمنون” حالية فتكون الجملة منصوبة على الحال، والعطف أصح.
وإذا لقوكم: الواو للإستئناف، إذا: ظرف لما يستقبل من الزمن فتضمن معنى الشرط، لقوكم: جملة من فعل وفاعل ومفعول به في محل جر بالإضافة.
قالوا: فعل ماضِ، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل، والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم.
آمنا: جملة من فعل وفاعل، في محل نصب مقول القول.
وإذا خلوا: الواو: حرف عطف، إذا ظرف لما يستقبل من الزمن.
خلوا: جملة من فعل ماضِ، وفاعل في محل جر بالإضافة للظرف.
عضوا عليكم: فعل وفاعل، والجملة لا محل لها، لأنها جواب شرط غير جازم.
عليكم: جار ومجرور متعلقان بعضوا.
الأنامل: مفعول به بالفتحة الظاهرة على آخره.
من الغيظ: جار ومجرور في محل نصب تمييز أي غيظاً.
قل: فعل أمر مبني على السكون، موتوا: جملة من فعل وفاعل في محل نصب مقول القول، بغيظكم: جار ومجرور متعلقان بمحذوف نصب على الحال أي حال غيظكم.
ان الله: حرف مشبه بالفعل، واسم الجلالة اسم ان منصوب بالفتحة.
عليم: خبر إن مرفوع بالضمة، وتحتمل الجملة وجهين:
الأول: انها من جملة المقول، فتكون في محل نصب بالقول.
الثاني: جملة مستأنفة تفيد التعليل للأمر بالموت، والثاني أرجح.
بذات: جار ومجرور متعلقان بعليم، وذات مضاف.
الصدور: مضاف اليه مجرور بالكسرة لأنه جمع تكسير.
ويقال خلا الرجل بصاحبه واليه ومعه أي إجتمع معه في خلوة، قال الله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ] ( ) ويقال “فلان يخلو بفلان إذا خادعه”( )، وفيه نكتة وهي أن خلوة الكفار فيما بينهم نوع خداع، بأن يحث بعضهم بعضاً على البقاء على الكفر ومحاربة المسلمين، وهو نوع مخادعة لما فيه من الضرر على الكفار.
وخلا يتعدى ولا يتعدى، وجاء في الآية لازماً من غير تعد، وللدلالة على ما يدور بين الكفار عند إنفرادهم فيما بينهم.
والعض: الشد بالأسنان على الشيء، وأنامل وأنملات: جمع أنملة وهي المفصل الأعلى الذي فيه الظفر من الإصبع، فيكون المراد من الأنامل رؤوس الأصابع ويأتي أحياناً بلفظ البنان، جمع بنانة وهي الإصبع كلها، وتقال للعقدة العليا من الإصبع، وأنشد أبو الهيثم:
يبلغنا منها البنان المطرّف،
والمطَّرف أي الذي طُرف بالحنا قال: وكل مفصل بنانة( ).
والغيظ: الغضب، وفيه أقوال أخرى مقاربة ومتفرعة عن هذا المعنى وهي:
الأول: يراد منه الغضب الكامن للعاجز وغظت فلاناً أغيظه غيظاً: أي أغضبته، وقد غاضه فإغتاظ وهو مغيّظ.
الثاني: هو أشد من الغضب.
الثالث: هو سورة وأول الغضب.
وقالت قتيلة بنت النضر بن الحرث في قصيدة عندما قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أباها صبراً:
ما كان ضرك، لو مننت، وربما منّ الفتى ، وهو المغيظ المُحنق( ).
وقال ابن هشام: (فيقال، والله أعلم: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما بلغه هذا السفر، قال: لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه) ( ).
أما غاض يغيظ غيظاً ومغيظاً فمعناه نقص وقلّ وذهب.
في سياق الآيات
في صلة هذه الآية بالآيات المجاورة طرفان:
الطرف الأول: صلة هذه الآية بالآيات السابقة، وفيه وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية وآية [خَيْرَ أُمَّةٍ] ( )، والتي جاءت في الثناء على المسلمين وفوزهم بالمدح والثناء من عندالله بما لم تنله أمة أو أهل ملة من الملل، وبما يبين الوظائف العظيمة التي يتولون القيام بها وإلى يوم القيامة( ).
وجاءت هذه الآية لتبين وجهاً حسناً من معاني خروج المسلمين للناس بقوله تعالى [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ] إذ يحب المسلمون الخير والصلاح للناس جميعاً ويرجون الهداية لأهل الكفر والضلالة، ومن حب المسلمين للناس جهادهم في مسالك الأمربالمعروف والنهي عن المنكر، وسعيهم في جذب الناس للإيمان بالله، وبجميع الكتب المنزلة، ويفيد الجمع بين الآيتين أموراً:
الأول: بيان مايلاقيه المسلمون من الحسد والأذى لثباتهم على الإيمان ودعوتهم الناس للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل، وتقيدهم التام بأداء الفرائض والواجبات العبادية.
الثاني: دعوة المسلمين للصبر في جنب الله، والإخبار بأن خير أمة تصبر على الأذى في الدعوة إلى الله عز وجل، إن إنبساط صفة (خير أمة) على أجيال المسلمين المتعاقبة شاهد على صدق قوله تعالى [مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] لأن غيط الكفار لن يضر المسلمين، ولايكون مانعاً من مواصلتهم السعي في ميادين الصلاح والهداية.
الثالث: إن خروج المسلمين للناس بقوله تعالى [أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] لاينحصر بسعي المسلمين في الخيرات، بل يشمل ما يتلقاه المسلمون من الأذى ومايلحقهم من الضر وأسباب الكيد والمكر من الكفار.
الرابع:علة غيظ الكفار المذكور في الآية محل البحث هو تخلفهم عن الإيمان، ولو أسلموا لإنتفى موضوع هذا الغيظ ولأ صبحت مفاهيم الأخوة الإيمانية هي الساندة بينهم وبين المسلمين.
الخامس: إن نعت المسلمين بوصف [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] بشارة نشر مفاهيم الصلاح بين الناس، وإسلام شطر من الكفار، فيفيد الجمع بين الآيتين دعوة المسلمين لمواصلة الجهاد والصبر على الأذى وعدم النفور في طاعة الله، ولزوم إجتناب اليأس من إسلام غيرهم بسبب ما عندهم من الغيظ مع الحرص على إجتناب التهاون والتفريط والضعف والهوان.
السادس: من خصائص خير أمة أخرجت للناس تلقيها الإخبار من عندالله تعالى عن أحوال أهل الملل الأخرى، وما يضمرون لها من الحسد والبغض.
السابع: لقد ذكرت آية خير أمة صفات المسلمين، ومنها أنهم يؤمنون بالله عز وجل.
وجاءت هذه الآية لتخبر عن إيمان المسلمين بالتنزيل على نحو العموم الإستغراقي لتكون هذه الصفة شاهد على تفضيل المسلمين ونيلهم مرتبة خير أمة، وجاء ذكرها في الآية محل البحث لبيان أنها جزء من بغض وحقد شطر من أهل الكتاب والكفار على المسلمين.
فاليهود يؤمنون بالتوراة دون الإنجيل والقرآن.
والنصارى يؤمنون بنزول التوراة والإنجيل دون القرآن.
والمسلمون يؤمنون بالقرآن وجميع الكتب السماوية السابقة، وهو أمر مترشح من آيات القرآن من وجوه:
الأول:مجئ القرآن مصدقاً للتوراة والإنجيل.
الثاني: تضمن القرآن لما في التوراة والإنجيل من الأحكام.
الثالث:القرآن هو الكتاب الجامع للإحكام.
الثامن: جاء في آية (خير أمة) قوله تعالى [وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] وتدل عليه هذه الآية، فمع الإيمان يزول الحسد والغيظ على المسلمين، ويسلم صاحبه مما يسببه من الإثم والوزر، ومايترشح عنه في عالم القول والفعل، وذكر المسلمين بسوء غيبة أو إفتراءً، والتعدي عليهم، فالإيمان واقية وآمن وسلامة في النشأتين.
التاسع: من فضل الله عز وجل على خير أمة إخبارها عن الكيفية النفسانية التي يحملها أزاءها أهل الملل الأخرى، وجاء الإخبار هنا بالكشف عن علم من علوم الغيب وهو بغض الكفار للمسلمين، في ذات الوقت الذي يحب لهم فيه المسلمون الخير والصلاح.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية[لَنْ يَضُرُّوكُمْ] ( )، إن الإخبار الإلهي للمسلمين عن بغض وكره الكفار لهم له منافع كثيرة ، ويفيد الجمع بين الآيتين وجوهاً:
الأول: دعوة المسلمين للحذر والحيطة من الكفار.
الثاني: إن البغض والكره يترجل إلى الخارج بالتعدي والعدوان والظلم فالآية تحث المسلمين على البقاء في حال يقظة وفطنة وعدم ركون الكفار لذا جاءت الآية السابقة بإجتناب إتخاذهم بطانة وخاصة.
الثالث: من أشهر المصاديق الخارجية للبغض والغيظ إرادة القتال، وفي الجمع بين الآيتين بشارة للمسلمين، فان قام الكافر بمقاتلة المسلمين فان النصر حليف المسلمين فقد جاء في آية (لن يضروكم) قوله تعالى [وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ].
ومن الإعجاز في المقام أن القتال جاء بأداة الشرط (إن).
الرابع: بعث السكينة في نفوس المسلمين وعدم الفزع مما يضمره الكفار للمسلمين من الغيظ والعداوة وإمتلاء صدورهم بالبغض للمسلمين كما ظهر بعضهم الأنامل من الغيظ على المسلمين، فاشد ما يكون بين المسلمين وبين هؤلاء هو القتال بالسيف، ولاتكون النتيجة إلا هزيمة الكفار حصراً ، للمدد الإلهي للمسلمين ، قال تعالى [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ] ( ).
الخامس: دعوة الكفار إلى الكف عن المسلمين، وعدم التمادي في الغيظ والحسد للمسلمين لأن النتيجة خسارة وهزيمة الكفار والفاسقين، فقوله تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] خير للكفار من الهزيمة في سوح المعارك وتعرضهم للقتل والسبي وأخذ أموالهم غنائهم.
السادس: الجمع بين الآيتين تحذير وإنذار للكفار من التعدي على المسلمين وديارهم وأموالهم.
السابع: إخبار المسلمين بأن غيظ الكفار، وتظاهرهم فيما بينهم على الكره والحقد على المسلمين لن يضر الإسلام وأحكام الشريعة، ويكون المسلمون منه في مأمن، وان جاء منه ضرر فانه أذى سرعان ما يزول.
الثامن: قد يحدث قتال بين المسلمين والكفار، ويهزم الكفار، فلا يبقى عندهم إلا الغيظ والحقد، وهو بضاعة العاجز.
وفي الجمع بين الآيتين بلحاظ هذا المعنى إشارة إلى عدم إستطاعة الكفار الكره ثانية في القتال، وإن عادوا فانهم بحال أضعف مما كانوا فتكون هزيمتهم أمام المسلمين من باب الأولوية القطعية، وهو من مصاديق قوله تعالى [ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ] ( ).
التاسع:ان النصر في المعارك حليف المسلمين لأنهم يؤمنون بالكتاب والتنزيل كله.
الثالث: الصلة بين هذه الآية وآية [بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ] وفيه مسائل:
الأولى: ان الكفار لايحبون المسلمين لأن الذلة حلت بالكفار فهم حاسدون للمسلمين، وكارهون لأحكام الشريعة، مع أن الذلة لم تضرب عليهم إلا بسبب إختيارهم الكفر والجحود، ويعمل المسلمون على نجاتهم من براثن الكفر، وتخليصهم من الذلة والهوان بدعوتهم إلى الإسلام.
الثانية: إن صدور البغضاء من منازل الذلة لن تضر المسلمين، ولن تمنع زحف جيوش المسلمين، وإنتشار الإسلام ببيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتكامل الشريعة الإسلامية، وإقامة الحجة والبرهان.
الثالثة:الملازمة بين الذلة والبغض للمسلمين، فمن يبغض المسلمين لإسلامهم وحسن سمتهم، فان الذلة والمسكنة تصاحبه، وفيه تحذير من بغض المسلمين، وبعث للسكينة في قلوب المسلمين بما يلقاه عدوهم من الخزي والأذى.
الرابعة: في الجمع بين الآيتين تحذير للمسلمين من الذين قاموا بقتل الأنبياء بغير حق، صحيح أنه عند البعثة النبوية المباركة ليس لأشخاص الذين قتلوا الأنبياء من وجود، لتقدم زمانهم على زمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن التحذير يقع على أولئك الذين هم مثلهم في الكفر والجحود.
الخامسة: التنافي بين عز المسلمين، وذل الكفار، وحصول النفرة عند الكفار بسبب ما عليه المسلمون من العز، مع أنه في الأصل دعوة لهم لدخول الإسلام وبلوغ ذات المراتب في العز والشأن.
السادسة: لزوم حذر المسلمين من الكفار وإن إدعّوا الإيمان ظاهراً، لان المدار على في صدور الكفار من الغل والحسد والغيظ.
السابعة: ضرب الله عز وجل على الكفار الذلة لأنه سبحانه يعلم ما في صدورهم من الغيظ والحسد والبغض للمسلمين.
الرابع: الصلة بين هذه الآية وآية [لَيْسُوا سَوَاءً] وفيه مسائل:
الأولى: بيان التباين بين أهل الكتاب أنفسهم، ووجود أمة صالحة منهم، فهل هذه الأمة تحمل الغيظ والبغض للمسلمين أيضاً، الجواب على وجهين بلحاظ معنى الآية، فعلى القول بأن المراد الذين دخلوا الإسلام من أهل الكتاب، فهم مسلمون ، ويخرجون من معاني الذم للذين يبغضون المسلمين الواردة في الآية محل البحث ، واما على المعنى بأن المراد من الآية أمة وفرقة من أهل الكتاب ، فالجواب أن مثل هذه الأمة لا تعض الأنامل من الغيظ على المسلمين ، بدليل قوله تعالى [لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا] ( )، نعم هناك مائز في الإيمان بالكتاب كله لأن المسلمين إنفردوا بالإيمان بالتنزيل على نحو العموم الإستغراقي.
الثانية: في الجمع بين الآيتين دعوة إلى الناس جميعاً للإنصات لآيات القرآن، والتدبر في معانيها القدسية وما لها من الإعجاز الذاتي والغيري.
الثالثة: يمنع الإنقطاع إلى ذكر الله تعالى الإنسان من الغيظ والحسد للمسلمين، لذا فان الذم الوارد في الآية للكفار بسبب غيظهم إنما هو في مفهومه دعوة لهم للصلاح، والإيمان بالتنزيل.
الرابعة: بيان حقيقة وهي أن تلاوة الآيات والسجود طاعة لله أمر متوارث بين أهل الإيمان في الملل السماوية لذا فان المسلمين ليسوا أول من جاء بالسجود لله تعالى، بل هو مصاحب لحياة الإنسان في الأرض، وأول ماتلقى آدم من الملائكة هو السجود، إذ سجدوا له طاعة لله عز وجل، ليحرص الإنسان على تعاهد السجود أيام حياته، ويتركه ميراثاً لأولاده من بعده.
الخامسة: في الآية دعوة إلى أهل الكتاب للتصديق بنزول القرآن من عند الله، لأن الإيمان بالتنزيل كلي طبيعي يشمل الكتب السماوية المنزلة.
الخامس: الصلة بين هذه الآية وقوله تعالى[يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]( )، وفيه مسائل:
الأولى: حث مؤمني أهل الكتاب على نصرة المسلمين، والإمتناع عن إعانة الكفار والفاسقين عليهم.
الثانية: بعث السكينة في نفوس المسلمين بوجود أمة صالحة من أهل الكتاب تبادر إلى فعل الخيرات، وتعمل الصالحات للإشارة إلى لزوم الفصل بين الناس فليس كل غير مسلم يعظ أنامله على المسلمين غيظاً وكرهاً، وأن تلك الأمة التي تسارع في الخيرات وليست من المشركين.
الثالثة: لقد ذكرت هذه الآية التناقض الذي عليه الكفار، والتباين بين إدعائهم الإيمان، وإخفائهم العداوة والبغض للمسلمين وجاءت آية [يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] لتبين للناس قبح الكفر والجحود.
الرابعة: في الجمع بين الآيتين ترغيب بالإيمان، ودعوة للهداية وفي قوله تعالى[وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ] ترغيب للناس بالصلاح والإستقامة، ومن الصلاح إجتناب عداوة المسلمين.
السادس: الصلة بين هذه الآية وآية [لَنْ تُغْنِيَ] ( )، وفيه مسائل:
الأولى: الإنذار والوعيد للذين يعادون الإسلام، ويحاربون المسلمين.
الثانية: جاءت آية (لن تغني) بالوعيد بالنار للكفار، قال تعالى [أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ] وفيه بيان وتفسير للإنذار في قوله تعالى [مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ].
الثالثة: دعوة المسلمين لعدم الإفتتان بما عند الكفار من الأموال والأولاد، لما ينتظرالكفار من سوء العاقبة.
السابع: الصلة بين هذه الآية وآية [رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ]وفيه مسائل:
الأولى: توكيد خسارة أعداء الإسلام، وهذه اللخسارة لاتنحصر بالآخرة، بل تشمل الحياة الدنيا.
الثانية: ضعف ووهن الذين يبغضون المسلمين، وتلف أموالهم شاهد على عجزهم عن قتال المسلمين، وإن إختار الكفار القتال فان النتيجة هي هزيمتهم وخسارتهم.
الثالثة: إن حال الغيظ التي أخبرت عنها هذه الآية لن تضر المسلمين لإفتقار الكفار إلى المدد، فان قيل إن الأموال عندهم، فالجواب إنها إلى زوال وضياع وإن إنفاقهم لايؤدي إلا إلى ضررهم.
الرابعة: كره وحقد الكفار للمسلمين من ظلمهم لأنفسهم الذي أختتمت
به الآية بقوله تعالى [وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ومن يكن ظالماً لنفسه فعلى المسلمين الحذر منه، والإمتناع عن وده.
الثامن: الصلة بين هذه الآية والآية السابقة آية البطانة، وفيه مسائل:
الأولى: بينت هذه الآية أن الكفار لايحبون المسلمين، مما يقتضي إجتناب إتخاذهم بطانة.
الثانية: لقد جاءت هذه الآية كبيان وتفسير للنهي الوارد في الآية السابقة بخصوص لزوم عدم إتخاذ بطانة من الكفار.
الثالثة: من خصائص البطانة النصيحة والإخلاص، بينما يظهر الذين كفروا العداوة والبغض للمسلمين، عند الخلوة فيما بينهم.
الرابعة: من كان يظهر حسده وبغضه لك في خلوته يجب إجتناب الركون إليه.
الخامسة: المدار في تعيين البطانة وإظهار الود لغير المسلم ليس مايظهر على اللسان وحده بل مايبديه في خلوته مع أهل ملته وأصحابه، وجاءت هذه الآية بفضح عداوة الذين كفروا للمسلمين.
السادسة: عض الأنامل في هذه الآية شاهد على الرغبة بلحوق الضرر بالمسلمين، وإنتهاز الفرصة المؤاتية للإنقضاض عليهم، مما يستلزم الحيطة واليقظة والحذر، ومن مصاديق الحذر إجتناب إستيطان هؤلاء.
السابعة: يحتمل عض الكفار أناملهم غيظاً من المسلمين بلحاظ الجمع مع الآية السابقة وجوهاً:
الأول: انه من العداوة التي تظهر على ألسنة الكفار كما في قوله تعالى[قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ].
الثاني: أنه مما تخفيه صدور الكفار من العداوة للمسلمين.
الثالث: عض الأنامل فرد آخر من العداوة، وقسيم ثالث للبغضاء التي تجري على السنة الكفار وماتخفيه صدورهم.
والصحيح هو الثالث، وهؤلاء قد لايعرفهم المسلم لأنهم يحرصون على إخفاء العداوة فلا يظهر على ألسنتهم إلا إدعاء الإيمان بالله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فجاءت الآية لفضحهم في خلوتهم، وتحذير المسلمين من إتخاذهم بطانة.
الثامنة: هذه الآية دعوة للمسلمين لتوظيف العقل والتدبر في الصلات مع الناس، وحسن إختيار البطانة والخاصة لقوله تعالى في خاتمة الآية السابقة [قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ].
الطرف الثاني: الصلة بين هذه الآية والآيات التالية، وفيه وجوه:
الأول: الصلة بين هذه الآية والآية التالية، وفيه مسائل:
الأولى:البيان والتفصيل لبغض الكفار للمسلمين.
الثانية: قد يظن بعض المسلمين إنحصار بغض الكفار للمسلمين بعض الأنامل عند الخلوة، فجاءت هذه الآية لتبين أن الكفار يتابعون بأهتمام ما يصيب المسلمين، وأنهم يفرحون عندما يتعرض المسلمون للأذى والضرر، وفيه دعوة للمسلمين لمنع شماتة الأعداء، ويتحقق هذا المنع بوحدة المسلمين والحرص على إتيان الفرائض والعبادات والتمسك بالقرآن والسنة، والبقاء في حال يقظة وحذر وحيطة.
الثالثة: إعانة المسلمين وإرشادهم إلى سبل دفع وطرد آثار ما يضمر الكفار والفاسقون من الغيظ للمسلمين بأن يصبر المسلمون، ويتقيدوا بأحكام التقوى والخشية من الله عز وجل.
الرابعة: لما أخبرت هذه الآية عن حب المسلمين للكفار، وبغض الكفار للمسلمين جاءت الآية التالية في بيان إكتئاب وحزن الكفار عندما يأتي للمسلمين خير ونفع، وفرحهم عندما يأتي للمسلمين ضرر أو تصيبهم مصيبة، وفيه شاهد على بغضهم للمسلمين، وتفسير وبيان لهذا البغض، ودعوة للمسلمين لأخذ الحائطة والحيطة من الكفار.
الخامسة: يفيد الجمع بين الآيتين دعوة المسلمين لعدم الإنتقام من الكفار والفاسقين بسبب مافي صدورهم من الغل والغيظ والحسد للمسلمين، وإظهارهم الشماتة عندما يصيب المسلمين ضرر، إذ دعت الآية المسلمين إلى التحلي بالصبر والتقوى كسبيل لدفع أذى الكفار والتوقي منهم بإجتناب إتخاذهم بطانة وخاصة.
السادسة: أخبرت الآية التالية عن كيد الكفار بالمسلمين بقوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] مما يدل على أن الكفار لايكتفون بالغيظ والحقد بل يمكرون بالمسلمين.
السابعة: ان مكر الكفار لن يستمر طويلاً، لقوله تعالى في هذه الآية [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] كما ان الغيظ والحقد يفسد الكيد ويجعله ظاهراً مشلولاً، لذا فإن النهي عن إستبطان هؤلاء برزخ دون كيد الكفار، ومنع من إصرارهم بالمسلمين.
الثامنة: دعوة المسلمين للإلتفات إلى ما يحمله غيرهم أزاءهم من معاني الود أو البغض، وحث المسلمين على العمل على عدم شماتة الأعداء، ويتجلى هذا العمل بالصبر والتقيد بأحكام الشريعة.
التاسعة: بيان منافع الصبر في درء غيظ وحسد الأعداء، وبيان حقيقة وهي أن الصبر سلاح وواقية من العداوة والكيد.
العاشرة: بشارة المسلمين بان الله عز وجل يعلم ما يفعله الكفار والفاسقون، وهو الذي ينصر المسلمين بصبرهم وتقواهم وإخلاصهم العبادة لله تعالى، ويدفع أذى وضررالكفار، ويرد كيدهم إلى نحورهم.
الثاني: الصلة بين هذه الآية وآية و[وَإِذْ غَدَوْتَ] وفيه مسائل:
الأولى: دعوة للمسلمين للحذر من الكفار والفاسقين عند العزم على مواجهة الأعداء، ولزوم التقيد بأحكام الجهاد والتقوى لمنع الشماتة.
الثانية: إنتقال لغة الخطاب في آية [وَإِذْ غَدَوْتَ] لمخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان جهاده والصحابة من المهاجرين والأنصار في مواجهة الأعداء، وفضح بغض وكيد المنافقين وأهل البغضاء والحسد.
الثالثة: ساعة المواجهة وساحة الحرب مناسبة يرجو بها الكفار لحوق الأذى بالمسلمين، ويظهرون عندها غيظهم وحسدهم ومكرهم، فجاءت آية [وَإِذْ غَدَوْتَ] في سياق هذه الآيات لدعوة المسلمين لعدم التخلف عن الجهاد، وعدم ترك ثغرة ينفذ منها الأعداء، ويبثون منها سمومهم وكيدهم.
الرابعة: في آية [وَإِذْ غَدَوْتَ] إخبار عن منع غيظ الكفار للمسلمين من الجهاد.
وفي الجمع بين الآيتين بشارة نصر المسلمين، لأن الكفار ويفرحون إذا أصابت المسلمين مصيبة أو تعرضوا للخسارة والهزيمة، لأن قوله تعالى [مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] شاهد على إمتلاء نفوس الكفار بالحسرة والأسى وهو الذي يترشح عن نصر المسلمين، وخروجهم من المعارك بالظفر والغنيمة.
إعجاز الآية
بعد أن حذرت الآية السابقة من الكفار والفاسقين، ونهت المسلمين عن إتخاذ وليجة وبطانة من أهل الملل الأخرى، جاءت هذه الآية الكريمة ببيان كيفية نفسانية عامة عند المسلمين وهي حبهم لغيرهم، وفيه توكيد لحسن خلق المسلمين، وسلامة سرائرهم، وأنهم لايقابلون البغضاء بمثلها، وهذه الآية حجة وشاهد على لغة العفو والتسامح عند المسلمين، وأنهم يتحلون بأخلاق القرآن، ويحبون الخير للناس جميعاً.
لقد فاز المسلمون بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإختاروا سبل النجاة والنجاح، وقلوبهم خالية من الحسد والبغضاء للآخرين والذي يؤكد حبهم الهداية للناس ودخولهم الإسلام، كيف لا وقد جاهد المسلمون بالسيف لدخول الناس الإسلام، مع أن هؤلاء الداخلين في الإسلام ينافسونهم على المقامات، ويشاركونهم في الغنائم والعطاء، وقد يستقلون في شؤون الحكم في أمصارهم، فلم يمنع هذا المسلمين من دعوة الناس إلى الإسلام بل آثروا على أنفسهم، وهم مستعدون للتضحية من أجل جذب الناس للإيمان، ومشاركتهم ثمار إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والفوز في النشأتين.
لقد جاءت الآية الكريمة من أجل إرتقاء المسلمين في مراتب التفقه في الدين ومعرفة أحوال أهل الملل الأخرى، وزيادة ضرر المسلمين من الكفار والفاسقين.
وتظهر الآية الملازمة بين الإيمان والتفقه في الدين والحيطة والحذر من الكفار، فمع الإيمان تأتي الآيات القرآنية التي تدعو المسلمين إلى الثبات على الإيمان، ومن مصاديقه التسليم بصدق نزول التوراة والإنجيل والقرآن من عندالله عز وجل.
وذكرت الآية الكتب المنزلة بلفظ (الكتاب) وهو اسم جنس يقع على المفرد والمتعدد، ومن الإعجاز أنها جاءت بلفظ كله لتأكيد الكتاب وتدوين التنزيل وبيان عمومه وإرادة الكتب السماوية المنزلة كلها وما فيها من الآيات على نحو الإنحلال فيشمل الإيمان كل آية من آيات الكتاب السماوي، وهو غاية الإيمان، إذ أن المسلمين نالوا مرتبة لم تنلها أمة غيرهم.
ومن إعجاز الآية الجمع بين عالم الشهادة والغيب، والإخبار عن حال النفاق، والتناقض عند الكفار، والإخبار عن حالهم في خلوتهم وكيف أنها تدل على زيف إدعائهم الإيمان.
وذكرت الآية حب المسلمين لغيرهم ممن يحمل لهم البغضاء والكراهية، ويدل بالدلالة القطعية على حب المسلمين بعضهم لبعض في الله ولله، ومعافاة قلوبهم من الكدورات الظلمانية، إن إخبار الآية عن المغيبات من إعجاز الآية، وهو على وجوه :
الأول: حب المسلمين للذين تظهر البغضاء للمسلمين من أفواههم، وفي الإخبار عنه، وهو حجة وشاهد على نزول القرآن من عندالله، ولابد له من شواهد في المصداق الخارجي تؤكد صدق حب المسلمين للناس تتجلى في دعوتهم للإسلام وإعانتهم ودفع الآفات عنهم.
الثاني: بغض الكفار للمسلمين، وتبين الآية السابقة وهذه الآية هذا البغض فمع إجتماع الآيتين بذكر عداوة الكفار للمسلمين فان المسلمين لم يقابلوهم بالمثل، ولم يظهروا العداء لهم.
الثالث: من الآيات عدم التعارض بين الحب والإحتراز، حب المسلمين لخير غيرهم، مع الإحتراز منه ومن عداوته.
الرابع: ظهور علامات البغض والكره للمسلمين على الكفار والفاسقين.
الخامس: من وجوه حب المسلمين لأهل الكتاب إيمانهم بالتوراة والإنجيل ومن وجوه بغض أهل الكتاب للمسلمين جحودهم بنزول القرآن.
ومن مصاديق حب المسلمين للناس جميعاً إيمانهم بنزول القرآن من عندالله ففي هذا الإيمان إستدامة الحياة على الأرض، ونزول البركات من السماء قال تعالى [مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ومن إعجاز الآية أنها لم تكتف ببيان حال الحب والبغض، بل جاءت بالدعاء على الكفار [مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] مما يدل على أن بغض الكفار للإسلام يضر بهم وهو فعل مذموم يرجع آثره وأذاه عليهم.
ومن إعجاز الآية وجوه:
الوجه الأول: الإخبار عن المغيبات والأسرار التي لايعلمها إلا الله عز وجل وهذا الإخبار على شعب:
الأولى: حب المسلمين للذين كفروا بلحاظ أمور:
الأول: الحب كيفية نفسانية لايعلمها إلا الله مادامت لم تترجل إلى الخارج.
الثاني: إنبساط الإخبار على عموم المسلمين، فقد بحب الإنسان أمراً ولكن الأخر لايعلم بحبه هذا فجاءت الآية لتكشف للمسلمين سرائرهم في حب الخير للناس.
الثالث: تعيين جهة الحب وأنه لغير المسلمين.
الثانية: بغض الكفار للمسلمين لإسلامهم وتصديقهم بالنبوة والتنزيل، فقد لايعلم المسلممون أن الكفار يضمرون لهم البغض خصوصاً وأنهم يقولون عند اللقاء [آمَنَّا] فجاءت الآية لكشف وفضح مافي صدور الكفار.
الثالثة: إيمان المسلمين بكل الكتب السماوية،بتقريب أن الإيمان إعتقاد في القلب، وفيه شاهد بأن المسلمين يختلفون عن الكفار، فما يعلنه المسلمون موافق لما في صدورهم وهو شاهد على صدق إيمان المسلمين وحسن سمتهم.
وفيه درس وموعظة للكفار وبيان لرسوخ الإيمان في نفوسهم، وأن بغض الكفار لهم لن يضرهم، ولن يضعف إيمانهم.
الرابعة: حال الغضب والحنق عند الكفار ساعة خلوتهم، وكيف أنهم يعضون أطراف أصابعهم من الغيظ على المسلمين، وفي هذا الإخبار تحذير للمسلمين، ودعوة لهم للإحتراز وإجتناب الركون اليهم أو إتخاذهم بطانة وخاصة.
الخامسة: الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء عليهم والإخبار بأن الغيظ يأخذ بنفوسهم وفيه بيان للحوق الضرر بالكفار بسبب غيظهم، وليس من حد من جانب الكثرة لهذا الضرر إذ أنه يكون سبباً لموتهم وهلاكهم كمداً وحسداً، أو قتلاً بالسيف، أو بآفة من آفات السموات والأرض، إلا أن يراد من الآية الملازمة وإفادة الباء في [بِغَيْظِكُمْ] المصاحبة، وهي لاتمنع من إفادة المعنى الأول أعلاه لعدم التعارض بينهما، وحصول مصاديق لكل منهما، فمن لم يمت بسبب الغيظ والحنق منهم، يموت والغضب والحسد يملأ صدره.
السادسة: في قوله تعالى [مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] شاهد على أن الإسلام في قوة ومنعة وإرتقاء إلى يوم القيامة.
السابعة: الإخبار عن علم الله عز وجل بكل ما في الصدور من النوايا والعزائم والهواجس والأوهام والحب والبغض.
الوجه الثاني: البيان والتفصيل في مضامين الآية بما يمنع من اللبس والترديد والإجمال الذي يؤدي الى الخصومة والفتنة، إذ أخبرت الآية بلغة القطع والجزم عن حب المسلمين لغيرهم، وبغض غيرهم لهم، وهو مصداق لوجه من وجوه الإعجاز في القرآن، وعدم إنحصاره بالبلاغة والمغيبات مع أهمية وقدسية كل فرد منهما ليجتمع الكشف عن المغيبات مع البيان في الآية الكريمة كما في الإخبار عن عض الكفار أناملهم وهو من علم الغيب.
وجاءت الآية بالبيان في المقام بذكر موضوع العض، وعلته وسببه، وانه مظهر للغيظ والغضب على المسلمين.
الوجه الثالث: إن الثمرات التي تنتج عن الجمع بين الإخبار عن المغيبات في القرآن، ولغة البيان فيها إعجاز إضافي للقرآن، ومدرسة لإستنباط الدروس والعبر، وليس من كتاب سماوي يجمع بين المغيبات والبيان بما يفيد النفع العام مثل القرآن وهو من الشواهد على صدق نزوله من عندالله، وتفضيله على الكتب الأخرى وما إمتاز به المسلمون من تلقي أعظم نعمة سماوية وهي القرآن، وجاءت هذه الآية لتعاهد المسلمين للقرآن، والحرص على سلامته من التحريف، ومنع يد التبديل والتغيير الوصول اليه في ألفاظه وتفسيره وتأويله.
الوجه الرابع: إختتام الآية الكريمة بالإخبار عن إحاطة الله عز وجل بخفايا الصدور، وبما يفيد تثبيت مضامين وأحكام الآية ودعوة المسلمين والناس لإقتباس الدروس والمواعظ منها، وإتخاذها دليلاً وهادياً.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية “ها أنتم أولاء” لوجهين:
الأول: لم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية.
الثاني: مجئ هذا اللفظ في أول هذه الآية.
ويمكن أن تسمى هذه الآية آية”الأنامل” ولم يرد هذا اللفظ إلا في هذه الآية.
الآية سلاح
الأصل في الحب أن يكون متبادلاً بين طرفين، وجاءت هذه الآية لبيان حالة خاصة تتضمن التنافي بين ما يكنه المسلمون لغيرهم من الحب والرأفة ومعاني الود والرفق، ومقابلة الغير لهم بالكراهية والبغض والغضب، فهل جاءت الآية دعوة للمسلمين لبغض غير المسلمين، ومعاملتهم بالمثل، الجواب لا، فان الآية لا تتضمن لغة اللوم للمسلمين لحبهم للناس لأن معاني الحب في المقام متعددة منها حب الخير للناس، ودخولهم الإسلام والفوز بالسكينة، والرضا في الدنيا، والأمن والسلامة في الآخرة.
لقد إنتشر الإسلام بسلاح الحكمة والموعظة والحجة والبرهان، وجاءت هذه الآية بسلاح الشهادة من عندالله للمسلمين بالإيمان بالكتاب كله، لبيان حقيقة وهي أن التسليم بنزول التوراة والإنجيل والقرآن ضرورة وحاجة للمؤمن، وقد فاز بها المسلمون على نحو العموم المجموعي والإستغراقي.
إذ جاءت هذه الآية شهادة ومدحاً للمسلمين، وحجة على الذين يبغضون المسلمين، فان الإيمان بالكتاب كله مناسبة كريمة لحب الناس للمسلمين، لأن هذا الإيمان سبب لنزول البركة والفضل من عندالله عز وجل، وكما أن الإيمان بالكتب المنزلة سلاح في مواجهة الكفر، وحجة على الناس.
فانه سلاح ذاتي للمسلمين وواقية من الشك الريب، وهو سلاح للتمييز بين الناس إذ أن أهل الكتاب يؤمنون بشطر من التنزيل، بينما يجحد الكفار بالتنزيل جملة وتفصيلاً، فكان المسلمون هم الأمة التي تحمل لواء الإيمان وتدعو الناس جميعاً للتصديق بالقرآن ونزوله من عندالله.
ولابد أن تكون الدعوة في ذات الآية التي جاءت بالإخبار عن إيمان المسلمين بالتنزيل، وهي هذه الآية الكريمة لتكون شاهداً على أن الآية الكريمة سلاح،وفيه وجوه:
الأول: توثيق حب المسلمين لغيرهم من الناس.
الثاني:الإيمان بالكتاب كله من أجزاء علة هذا الحب لما يبعثه التنزيل من شآبيب الرحمة ومفاهيم الرأفة بين الناس.
الثالث: تأديب المسلمين وهدايتهم للإحتراز من الكفار، والذين يريدون لهم الأذى والضرر.
الرابع: لزوم ثبات المسلمين على الإيمان، والتصديق بالكتب السماوية جميعها، فإنكار اليهود والنصارى لنزول القرآن يجب أن لايدفع المسلمين للطعن بالتوراة والإنجيل، ليبقى إيمان المسلمين بالكتب السماوية كلها شاهداً على تفضيلهم على الأمم الأخرى، ومصداقاً لكونهم خير أمة أخرجت للناس.
مفهوم الآية
تبين الآية السمو الأخلاقي عند المسلمين، وما يتصفون به من السماحة وسلامة السريرة، وهو من رشحات الإيمان بالكتاب كله، وتلاوة آيات القرآن.
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بوجوب قراءة القرآن مرات متعددة في كل يوم، وهذه التلاوة واجب عيني إستغراقي يتغشى كل المسلمين المكلفين ذكوراً وأناثاً، لايستثنى فيه منهم أحد، لتكون التلاوة تهذيباً للنفوس، وطرداً للنفرة والغيظ، ولو قام الناس بتلاوة آيات القرآن لأحسوا بزحفها على الندب السوداء في القلوب التي تأتي بالبغض ومن البغض.
لقد أبتدات الآية بنفي العداوة والبغضاء عن المسلمين، وتنزيهم عن الغيظ والحسد والكراهية لغير المسلمين، ولم يكن المسلمون في غفلة من أمرهم، فهم يسمعون السب والشتم وأسباب العداوة من فريق من أهل الكتاب ومن الكفار بدليل ما ورد في الآية السابقة [قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ] ومع هذا يودون غيرهم من أهل الملل الأخرى، ويرجون لهم الخير ويدعونهم إلى الإسلام، والإقرار بالعبودية لله تعالى، والإيمان بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عندالله عز وجل، إنها مدرسة الإيمان التي تتنافى مع مفاهيم الغيظ والبغضاء ليكون مايحمله الكفار من الحقد والكره للمسلمين حجة عليهم في الدنيا، وفي الآخرة ينالون الجزاء وهو العذاب الأليم في جهنم.
وفي الآية ثناء ومدح للمسلمين لأنهم يؤمنون بكل الكتب السماوية ويدل في مفهومه على ذم الذين يؤمنون بشطر من الكتاب دون الشطر الآخر، وذم الذين لايؤمنون بالتنزيل جملة وتفصيلاً من باب الأولوية القطعية.
وفي الآية شاهد على أن إيمان المسلمين بالتوراة والإنجيل لم يمنع أهل الكتاب من بغضهم وحسدهم وإن إدعوا الإيمان عند ملاقاة المسلمين، وفيه حث للمسلمين على الحذر واليقظة والفطنة.
ومن مفاهيم الآية أن الكفار لايحبون المسلمين، وأن بغضهم لن يتحول إلى حب لأن علة البغض باقية على حالها وهي ثبات المسلمين على الإيمان، وتلبس الكفار بالجحود.
وتدعو الآية المسلمين إلى عدم الركون لغير المسلمين الذين يدعون الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن التصديق بها علة لدخول الإسلام، ومن خصائص المعلول أنه لايتخلف عن علته.
وجاءت الآية بصيغة الجمع في حب المسلمين لغيرهم، وبغض غيرهم لهم ويحتمل أموراً:
الأول: المراد الذين ورد النهي من إتخاذهم بطانة ممن يريدون من الفساد والضرر بالمسلمين.
الثاني:إرادة الإطلاق وعموم غير المسلمين، وأنهم لايحبون المسلمين.
الثالث: الإتحاد بين الوجه الأول والثاني أعلاه، وإن النهي في باب البطانة جاء مطلقاً عن غير المسلمين، وإن إسباب العداوة والبغض للمسلمين موجودة عند غيرهم من أهل الملل الأخرى.
فجاءت الآية تحذيراً وبياناً تكون وظيفته توكيد التحذير ليس بذاته، بل بإرتقاء المسلمين في مراتب العلم والدراية بحيث يتأكد عندهم التحذير وعلته وموضوعه، ويصبحون مؤهلين لصد أي سعي للنفاذ إلى داخل صفوفهم سواء في البطانة أو غيرها.
لقد جاءت الآية لوقاية المسلمين وفيها مسائل:
الأولى: بيان ود وحب المسلمين للناس، وفيه حجة على غير المسلمين لأن هذا الحب سبب لطرد النفرة من الإسلام والمسلمين، وهو مقدمة كريمة للتبليغ والدعوة إلى الإسلام وبيان أحكام الإسلام، لأن البغض والكره برزخ دون إستجابة الناس لما تدعوهم إليه، وإن كان موضوع الدعوة إلى الإسلام، أمر مختلف ولا يخضع لمثل هذه المقولة، لأنه حق، ووظيفة كل إنسان الإسلام والإيمان.
ويأتي اللطف في كيفية الدعوة والتبليغ لإعانة الناس على الهداية، وجذبهم إلى منازل الإيمان.
الثانية: بغض الكفار للمسلمين، ولم ينفع ود وحب المسلمين لهم برفع هذا البغض أو تعليقه أو تخفيفه، للتنافي بين الإيمان والكفر ومن الآيات في خلق الإنسان أن هذا التنافي لم يمنع من حب المسلمين لغيرهم لأن هذا الحب شاهد على صحة وسلامة إختيار الإسلام، وفيه ترغيب للكفار بالإسلام وحجة عليهم.
وهل حب المسلمين لغيرهم من الجهاد في سبيل الله الجواب نعم، لأنه دعوة إلى الإسلام وهو شاهد بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف، ولكنه إنتشر بالأخلاق الحميدة للمسلمين، وهذه الأخلاق سيف ينفذ إلى شفاف القلوب، ولسان يخاطب العقول وأنيس للنفوس يدعوها إلى التدبر في الخلق والتنزيل، ومافي القرآن من الإعجاز والدلالات العقائدية.
الثالثة: الإخبار عن إيمان المسلمين بالكتاب كله، والمراد جميع الكتب السماوية النازلة من عندالله تعالى، وتدل الآية في مفهومها على تصديق المسلمين بجميع الأنبياء والمرسلين فان قلت إن القرآن والسنة النبوية لم يذكرا جميع الأنبياء ولا كل الكتب السماوية المنزلة فالجواب من وجوه :
الأول: هذه الآية شاهد على إيمان المسلمين بكل الكتب السماوية النازلة من عند الله لدلالة قوله تعالى (كله) على إرادة العموم.
الثاني: يؤمن المسلمون والمسلمات كافة بالله والملائكة والرسل والأنبياء جميعاً قال تعالى [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ] ( ).
الثالث: القرآن هو الكتاب الجامع للأحكام الشرعية، وما نزل في الكتب السماوية السابقة هو في القرآن وهذا من خصائص القرآن، ويدل على حاجة الناس جميعاً له والعمل بمضامينه وسننه.
الرابع: لقد جاء ذكر الأنبياء في القرآن والسنة على نحو الإجمال من غير تفصيل بذكر أسماهم، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ان عدد الأنبياء هو مائة واربعة وعشرون الفاً) ( ).
الرابعة: توثيق حقيقة تأريخية في صلات المسلمين مع غيرهم من الأمم الأخرى، وهي إدعاء الآخرين الإيمان ظاهراً أمام المسلمين، وليس الكفار كلهم يدعون الإسلام والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن الآية جاءت بخصوص التحذير من إتخاذ البطانة من غير المسلمين، وفيه وجهان:
الأول: المراد من التحذير أولئك الذين يدعون التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمام المسلمين، وجاءت الآية للإخبار عن كذب وزيف هذه الدعوى.
الثاني: ذكرت الآية الذين يدعون الإيمان أمام المسلمين من باب المثال للدلالة على عدم أهليتهم وأهل ملتهم لمنازل البطانة، ولزوم حذر المسلمين جميعاً منهم، فلا ينتتظر المسلمون من كل فرد منهم أن يدعي الإيمان لهم يتضح كذب دعواه، بل تلبس بها فريق منهم ممن كانوا على صلة مع المسلمين في الجوار أو السوق أو القربى ونحوها، فكانت مصاديق لقاعدة كلية يترتب عليها جرياً وإنطباقاً الحكم الشرعي بلزوم الإحتراز منهم جميعاً.
والثاني هو الصحيح، وهو آية في تعليم القرآن للمسلمين مبادئ الرياسة، وصيغ تعاهد الإسلام وصيانة أنفسهم من الأذى والضرر العرضي الذي يأتي عن سوء الإختيار.
الخامسة: إدعاء الكفار الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن فيه وجوه:
الأول: صدق الدعوى والقول.
الثاني:بلوغ المسلمين مراتب العز وقوة الشوكة.
الثالث: خداع المسلمين، والإستهزاء بهم، كما ورد في قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] ( ).
الرابع:قيام الحجة على الكفار وعجزهم عن إظهار الكفر والجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس: إرادة الوصول إلى مراتب البطانة والخاصة عند المسلمين.
وبإستثناء الوجه الأول فان الوجوه الأخرى كلها صحيحة فجاءت هذه الآية لتزيد المسلمين قوة إلى قوتهم، وتقطع الطريق على الكفار وتبطل مكرهم وكيدهم، وتدفع حسدهم وخداعهم، وتذكر الآية حالتين للكفار:
الأولى: عند لقاء المسلمين.
الثانية: عندما يخلون بأنفسهم.
ولم تذكر قسيماً ثالثاً لهما، مما يدل على أن إدعائهم الإيمان لايكون إلا عند لقاء المسلمين، ومع عداه يبدون الغيظ والغضب من المسلمين كما جاءت الآيات بالإخبار عن حصول اللوم بينهم عند الخلوة {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ}.
لذا فمن إعجاز الآية أنها جاءت بقوله تعالى [إِذَا خَلَوْا] من غير تقييد للخلوة وتعدي الفعل ولايعني هذا عدم شموله للخلوة مع من مثلهم بل أن مضامين الخلوة شاملة له.
السادسة: بيان حال الكفار عندما يجتمعون فيما بينهم، وعندما يخلو كل واحد منهم بنفسه، لتبدو عليه آثار الغضب والسخط والحسد للمسلمين والتي تتضح بقوله تعالى [إِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ].
السابعة: يحتمل عض الأنامل وجوهاً:
الأول: يأتي حرصاً.
الثاني:أسفاً على تفويت المسلمين لفرصة سانحة.
الثالث: أمور خاصة بالذين يعضون أصابعهم.
الرابع: بغضاً وحقداً وحسداً للمسلمين.
الخامس:حرمان الكفار أنفسهم من نعمة الإيمان وندمهم في الخلوة على حال النفاق، وعدم اللحاق بالمسلمين.
والصحيح هو الرابع إذ ذكرت الآية موضوع عض الأنامل وهو السخط والغضب على المسلمين من وجوه:
الأول: قوله تعالى [عَضُّوا عَلَيْكُمْ] ويفيد حرف على الإستعلاء.
الثاني: بيان متعلق محض الأنامل بقوله تعالى [مِنْ الغَيْظِ].
الثالث:قوله تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ].
الثامنة: إنتقال الآية من الخطاب العام للمسلمين إلى الخطاب الخاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [قُلْ] ليتوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بلغة التوبيخ والتبكيث للكفار على بغضهم للمسلمين، وفيه شاهد على إستمرار موضوع الغضب والبغض، مما يدل على ثبات المسلمين على الإسلام، وبقاء التنافي والتضاد بين المسلمين والكفار.
التاسعة: إختتام الآية بإحاطة الله تعالى علماً بالنوايا والعزائم التي في النفوس ويعلم الخواطر التي تمر على قلب الإنسان، في توكيد لما تقدم من الكشف عما يجري في الخلوة بين الكفار، وخلوة أحدهم مع نفسه بعيداً عن المسلمين، وفيه دعوة للناس لإسلاح السرائر.
وجاءت في هذه الآية كلمات لم ترد في غيرها من آيات القرآن وهي:
الأولى: ها أنتم أولاء.
الثانية: تحبونهم.
الثالثة: ولا يحبونكم، ولم يرد لفظ (يحبونكم) إلا في هذه الآية.
الرابعة: الكتاب كله.
الخامسة: لقوكم.
السادسة: عضوا.
السابعة: الأنامل.
الثامنة: قل موتوا.
التاسعة: بغيظكم، ولم يرد لفظ غيظكم بصيغة الجمع المخاطب إلا في هذه الآية.
إفاضات الآية
بين الإيمان والكفر تضاد وتناف، وهما لايلتقيان، ولايجتمعان في قلب واحد، وجاءت هذه الآية لتأكيد هذا التضاد، وتقسيم الناس بلحاظ الإيمان والكفر، مع تشريف المسلمين حال القسمة بتوجه الخطاب الإلهي إلى المسلمين، وهو إعجاز تبدأ به الآية في أول كلماتها وإطلالتها على النفوس.
إذ تأتي بصيغة التنبيه وضمير الخطاب واسم الإشارة مجتمعات ومتعاقبات لتتوجه كلها للمسلمين في دلالة على العناية واللطف الإلهي بهم فلم تبدأ الآية بقوله تعالى [تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ] مع إستقامة المعنى بها.
بل جاءت بصيغ الإكرام للمسلمين لتكون لغة الخطاب فيضاً ورحمة ودعوة للمسلمين لمعرفة عظيم منزلتهم وشأنهم عند الله عز وجل، وموضوعية الإيمان في الخطاب القرآني، وبما يجعله ربيعاً لقلوب المسلمين، ورحيقاً يداعب حواسهم فيستنشقون منه الطيب والعطر ومعاني الحب لينعكس على القلوب فيكون ضياء يجذبها إلى منازل التقوى، ويمنع من الميل والركون إلى القوم الكافرين.
لقد جاءت لغة الخطاب لتؤكد للمسلمين حب الله عز وجل لهم، ولزوم الحذر من نمو وإزدياد حبهم للكفار لكي لايكون سبباً ومادة لنفاذهم إلى منازل البطانة والخاصة للمسلمين، وقوله تعالى[هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ] إكرام وتشريف للمسلمين، ويتجلى بلغة الخطاب وما فيه من التعيين ، وهو آية في التأديب والتعليم وبيان وتذكير لما عليه المسلمون في مواضيع الحب والود، وواقية لهم من آثار حبهم للكفار، وليبقى الحب والود ضمن حدود الأخوة الإنسانية، ورجاء دخولهم الإسلام وحب الخير والفلاح لهم، والنجاة من براثن الشرك والضلالة.
لقد جعل الله عز وجل الإنسان يأنس بغيره، ويميل بطبعه إلى من يلائمه في العقيدة والرأي والميل والغاية، فجاءت هذه الآية لتحديد حب المسلمين للكفار موضوعاً وحكماً وماهية، وتجعل له حداً يمنع من زيادته وإستحواذه على النفس، وتحول دون صيرورته سبباً للتفريط في أحكام الشريعة وسنن العبادات والفرائض.
وليكون حب المسلمين لغيرهم في الله ولله فحبهم لغيرهم ترغيب لهم بدخول الإسلام، فكما يجوز للمجاهد لبس الحرير في الحرب مع حرمة لبسه، ليظهر المسلمون في عز وخير وثروة، وفيه دعوة للكفار لدخول الإسلام، فكذا حب المسلمين لغيرهم فانه في الله ويعني حب الخير لهم والذي يتمثل بدخولهم الإسلام، ولقد تعلقت قلوب المؤمنين بالله عز وجل والشوق إلى لقائه، ويأتي حبهم للناس رشحة من رشحات حب الله لأنهم عبيده، ويرجون لهم الفوز برحمته وعفوه في الدنيا والآخرة بدخول الإسلام.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين تطهير قلوبهم عما يشغلها عن ذكره سبحانه، فجاءت الآية لذم الكفار وبيان قبح فعلهم وفضح نفاقهم، وفيه دعوة للتفاني المحض في مرضاة الله وأختتمت الآية بصيغة الإطلاق في الإخبار عن علم الله عز وجل بما تخفي الصدور فمع مجئ الخاتمة لذم وإنذار الكفار.
فانها تتضمن مدح المسلمين لإيمانهم بالتنزيل على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي بقوله تعالى [وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ] وتذكيرهم بلزوم تعاهد التصديق بالقرآن والتوراة والإنجيل، والعمل بمضامين الكتاب، لأن ذكر الإيمان بالكتاب شاهد على التقيد بأحكامه.
ومن الآيات أن القرآن يتضمن الناسخ والمنسوخ وليس بعده كتاب ينزل من عندالله، فهو آخر الكتب السماوية نزولاً، والجامع للأحكام الشرعية.
ومن إفاضات الآية إخبار المسلمين عن بغض وغضب الكفار عليهم، ومنع المسلمين بلطف من الإنتقام منهم على هذا البغض بقوله تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ].
ويدل في مفهومه على عدم الرد باليد والسلاح على هذا الغضب، نعم فيه مانع من الميل للكفار والركون إليهم وإتخاذهم وليجة، وهو باعث على الحذر والحيطة في نفوس المسلمين.
الآية لطف
في الآية الكريمة بيان للتباين بين ما في قلوب المسلمين من الحب والشفقة والرقة وحب الخير للناس، وبين قلوب الكفار التي تمتلأً بالحنق والغضب والبغض، وبطلان وقبح المبنى الذي يرتكز عليه هذا البغض إذ أنهم يبغضون المسلمين، لأن المسلمين إختاروا سبل الهداية والحق، وآمنوا بالمعجزات، وتقيدوا بأداء الواجبات، وإمتنعوا عن المحرمات.
وهذه الآية رحمة بالمسلمين والناس جميعاً، وكما تخبر الآية المسلمين بحال الكفار في خلوتهم ومايضمرونه من الغيظ والحسد للمسلمين، فانها تخبر أهل الكتاب والكفار بأن المسلمين يحبونهم ولايرجون لهم ألشر والضرر والأذى.
والأصل أن يكون هذا الإخبار وسيلة وسبباً لتخفيف حنق وغضب الكفار على المسلمين، كما لو ذكر شخص غيره بسوء أمامك فقلت له إنه يحبك ولا يذكرك إلا بخير، فيبادر هذا الشخص إلى الإعتذار أو تغيير لهجته، ويزول ما عنده من الحدة وسورة الغضب وإن كان كلامك بقصد إصلاح ذات البين.
ولكن الكفار يبقون على حال الغضب والغيظ مع أن الله عز وجل هو الذي يخبرهم بأن المسلمين يحبونهم، وهذا الإخبار حق وصدق، ويعكس حال المسلمين ودرجة التهذيب عندهم، وأثر الإيمان على قلوبهم وأفعالهم وهو شاهد على أن المسلمين يحبون الخير للناس جميعاً وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
فلم يغلق المسلمون باب الإنتساب للإسلام، وليس لهم هذا ابداً، ولا يقدرون على رفض من يريد دخول الإسلام، بل أن دخول الإسلام لايتوقف على رضاهم متحدين ومتفرقين، وقد جاهد المسلمون بأنفسهم وأموالهم من أجل جذب الناس للإسلام، وهو من مصاديق قوله تعالى [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ].
وليس من حب أكبر من التضحية بالنفس من أجل إصلاح وهداية الغير، فحينما دخل المسلمون الإسلام، وقاموا بأداء الصلاة وإتيان الزكاة وأصغوا مصدقين لآيات القرآن، وأدركوا نيلهم بالإسلام لمراتب الفوز في الدنيا والآخرة، أحبوا للناس أن يدخلوا الإسلام ويمتنعوا عما يقودهم إلى النار من الكفر والجحود، فقابلهم الكفار بالغضب والغيظ.
فجاءت هذه الآية لتعضيد المسلمين في دعوتهم للإسلام، وتوبيخ الكفار، وذمم على سوء سريرتهم، ومقابلتهم إحسان المسلمين بالإساءة لهم ولأنفسهم، إذ أن هذه الآية تفضح الكفار، وتخزيهم في الدنيا، وفي هذه الآية لطف بالمسلمين من وجوه:
الأول: لزوم أخذ الحيطة والحذر من الكفار.
الثاني: إدراكهم لحال حبهم للكفار، وكيفية جعله في مرضاة الله بحب الهداية لهم.
الثالث: كشف علوم الغيب للمسلمين، والإخبار عن غيظ وغضب الكفار عليهم.
الرابع: العلم بزيف إدعاء الكفار الإيمان.
الخامس: عدم الإصابة باليأس والقنوط عند كشف كذب ومكر الكفار، لأن هذه الآية أخبرت عنه، فلا يفاجئ المسلمون به.
السادس: العلم بإستدامة حال الغيظ عند الكفار.
السابع: بعث السكينة في قلوب المسلمين لأن الله عز وجل أحاط علماً بما تخفيه الصدور، وليس عند المسلمين إلا الحب لله عز وجل وفي الله.
والآية لطف بالكفار من وجوه:
الأول: بيان حب المسلمين لهم، ودعوتهم للتدبر في معاني هذا الحب.
الثاني:حث الكفار على التخفيف من غضبهم وحنقهم على المسلمين، فمن إعجاز الآية القرآنية أنها تتضمن أموراً:
الأول:حب المسلمين للكفار.
الثاني: بغض الكفار للمسلمين.
الثالث:كشف الله عز وجل لمعاني الحب والبغض.
الرابع:توثيق القرآن للتباين والتضاد بين الفعل ورد الفعل.
الخامس: زجر الكفار عن التعدي على المسلمين.
السادس: جذب الكفار للإنصات لآيات القرآن لأنها تخبر عن حالهم ليتدبروا في دلالاتها، وكيف أن الله عز وجل يكشف ما في قلوبهم بما فيه فضحهم وخزيهم من غير الأمر للمسلمين بمبادلة البغض بمثله.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بالخطاب للمسلمين مع التوكيد بالتنبيه واسم الإشارة بأن الحب أمر حسن بالذات، والبغض أمر قبيح بالذات إلا أن يكون بغضاً في الله، وإبتدأت الآية بالأمر الحسن من وجوه:
الأول: توجه الخطاب للمسلمين.
الثاني:إكرام المسلمين بتعدد المباني في الخطاب.
الثالث: ذكر الحب والمودة والرفق.
الرابع: ذكر بغض الكفار للمسلمين يزيد من بهاء حب المسلمين لهم.
ليكون الحب هو المرتكز والموضوع الأول في الآية الكريمة، ويبدو للناس جميعاً قبح بغض الكفار للمسلمين، وبالجمع بين الحب والبغض في الآية بيان لسوء إختيار الكفار وإظهار للأضرار النفسية لإختياره .
ولم تخاطب الآية الكفار وتوجه اللوم لهم على بغضهم للمسلمين وتذكرهم ببطلان وقبح هذا البغض لأنه ظاهر من سياق الآية ومخاطبة الله عز وجل للمسلمين.
فحصر الخطاب بالمسلمين نوع توبيخ إضافي للكفار لما فيه من الحرمان من الخطاب الإلهي، نعم جاءت خطابات من الله في القرآن إلى الكفار ولكنها تتضمن الذم والتوبيخ لهم.
وذكرت آيات القرآن حب الكفار للأوثان وأسباب الشرك والضلالة قال تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ] ( )، وفي تقابل الحب والبغض في الآية وجوه:
الأول: يحب المسلمون الناس إبتداء، ويقابل الكفار هذا الحب بالبغضاء.
الثاني: يبغض الكفار المسلمين إبتداء.
الثالث: كل من حب المسلمين للكفار، وبغض الكفار للمسلمين أمر مستقبل عن صاحبه.
الرابع: قابل المسلمون بغض الكفار لهم بالحب والمودة.
ولاتعارض بين هذه الوجوه عند التدبر في معانيها، إذ أن المنبت الكريم لحب المسلمين لغيرهم هو الإيمان، وأصل البغض الذي يستولي على قلوب الكفار هو الإقامة على الكفر والجحود.
فجاءت الآية لتبين حال المسلمين بين الناس، وما يلاقونه من الأذى والضرر، وهي شاهد على أن المسلمين لم يظلموا الناس ولم يعملوا السيف بهم، بل كانوا يقابلون الكفار بالحب ورجاء الخير.
وبعد ذكر الحب والبغض إنتقلت الآية إلى الإخبار عن إيمان المسلمين بالكتب السماوية المنزلة كلها من غير إستثناء، وفي الصلة بين قوله تعالى [وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ] وبين أول الآية مسائل:
الأولى: الصلة بين إيمان المسلمين بالكتب السماوية المنزلة وبين حبهم لأهل الكتاب.
الثانية: إيمان المسلمين بالكتب السماوية كلها وحبهم للناس جميعاً.
الثالثة: بغض الكفار للمسلمين مع إيمان المسلمين بالكتب السماوية كلها.
اما بالنسبة للمسألة الأولى فان المسلمين يلتقون مع أهل الكتاب في الإيمان بالتوراة والإنجيل، إذ يؤمن اليهود بالتوراة، والنصارى بالتوراة والإنجيل، أما بالنسبة للمسالة الثانية فان حسن الخلق وطيب السريرة أمران يترشحان عن الإيمان، اما بغض الكفار للمسلمين، فلأن الكفر أصل الحسد وقد حسد إبليس آدم عليه السلام عليه السلام حينما أمر الله عز وجل الملائكة أن يسجدوا له.
إن إيمان المسلمين بالكتب السماوية المنزلة كلها رحمة وفضل من الله عز وجل على الناس جميعاً، ومن مصاديق الرحمة أن هذا الإيمان سبب لنشر معاني الحب بين الناس، وهو عنوان بقاء باب الدعوة الى الإيمان مفتوحاً للجميع، وفيه حجة على الكفار في تخلفهم عن وظيفة الإيمان بالكتاب كله.
ثم ذكرت الآية حال الكفار إذا لاقوا المسلمين، وجمعهم معهم مكان فإنهم يدّعون الإيمان، وفيه شاهد على أن المسلمين لم يتخلوا عن إيمانهم عند حضور الآخرين حتى وان كان المكان يعود لغير المسلمين إذ يحتمل اللقاء وجوهاً:
الأول: عدم ذكر موضوع الإيمان.
الثاني:ثبات المسلمين على الإيمان، وإصرار الكفار على الكفر.
الثالث: تقية المسلمين من الكفار.
الرابع: إعلان المسلمين الإيمان، وإدعاء الكفار الإيمان مثلهم.
والصحيح هو الرابع، إذ تبين هذه الآية جهاد الصحابة والمسلمين في مواجهة الكفر والكافرين، والمشاق والعناء الذي لاقاه المسلمون الأوائل في بناء دولة الإسلام، وإتصال هذا العناء في الأجيال اللاحقة من المسلمين ليكون فيه ثواب عظيم للمسلمين، فمن الآيات أن يأتي العصف والتوثيق القرآني لأمر ليكون موعظة ومدرسة تقتبس منها الدروس والعبر.
والصلة بين أول الآية وقوله تعالى [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا] من وجوه:
الأول: ظهور حب المسلمين لغيرهم عند سماع دعوى الإيمان بالميل لهم، والظن بأنهم صادقون في قوله، فجاءت هذه الآية لفضح زيف الدعوى، وإبطال الظن بصدق الكفار.
الثاني: إرتقاء المسلمين في مراتب العلم والتحصيل، فمن فضل الله عز وجل على المسلمين منعهم من الإغترار بقول الكفار.
الثالث: بعث اليأس في نفوس الكفار من المسلمين، وإدراكهم لحقيقة وهي أن حب المسلمين لهم لن يجعلهم يصدقون بقولهم.
الرابع: إدعاء الكفار الإيمان لن يستر أو يخفي بغضهم وغيضهم على المسلمين.
الخامس: زجر الكفار عن النفاق.
السادس: بيان التنافي بين دعوى الإيمان وعدم حب المسلمين، فمن يدعي الإيمان يجب أن يحب المسلمين، ويطرد عن قلبه الحسد والبغضاء لهم.
أما الصلة بين قوله تعالى[وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ] وقوله تعالى [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا] ففيه وجوه:
الأول: عجز الكفار عن الإحتجاج على الإيمان بالتنزيل كله.
الثاني: حينما يلتقي الكفار بالمسلمين لم يجعلوا شرطاً لإدعائهم الإيمان بتبعيض الإيمان بالتنزيل، بل إنهم يقولون آمنا على نحو الإطلاق وفيه شاهد عن عجزهم عن تكذيب القرآن، وحتى حالهم في الخفاء الذي ذكرته هذه الآية ليس فيه مثل هذا التكذيب، بل يظهرون فيه غضبهم وحنقهم على المسلمين.
الثالث: في الآية دعوة للمسلمين للثبات على الإيمان والإجتهاد في الجهاد والسعي لدعوة الناس للإيمان، وهل في هذه الآية دعوة للإيمان، الجواب نعم، إذ أنها تحث الكفار بلغة بيان الإسرار وكشف الحقائق على نبذ النفاق وجعل مايظهرونه من الإيمان حقاً وصدقاً.
ومن إعجاز القرآن مجئ الإخبار عن حال الكفار في الخفاء بعد إدعائهم الإيمان بحضرة المسلمين مباشرة من غير فاصلة بينهما، لإتحاد الموضوع وليكون تحذيراً للمسلمين وإنذاراً للكافرين.
وتظهر الآية عدم إنحصار التباين في القول، بل يشمل الحالة النفسية، إذ تستلزم دعوى الإيمان الظهور أمام المسلمين بمظهر القبول والرضا، وعدم النفرة، أما إذا خلوا فإنهم يظهرون الغضب والحنق، فجاءت خاتمة الآية بتوبيخهم وإخبارهم عن الأضرار التي تلحق بهم في الدنيا والآخرة بسبب الغيظ على المسلمين.
والنسبة بين قوله تعالى [لاَ يُحِبُّونَكُمْ] وبين قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ] بلحاظ أفراد الزمان هي العموم والخصوص المطلق إذ أن عدم الحب شامل لكل حالاتهم، فحتى عندما يلاقون المسلمين لايحبونهم، فيصدر قولهم [آمَنَّا] من مقامات البغض والكره وعدم الحب للمسلمين ولم يمنع حب المسلمين لهم من غضبهم وسخطهم على المسلمين لأن إختيار الإقامة على الكفر يجعل غشاوة على البصر والبصيرة.
جاءت الآية بالإخبار عن إدعاء الكفار بحضرة المسلمين الإيمان والتصديق بما أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا]، ويفيد الجمع بينه وبين قوله تعالى [وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ] إقتران هذا القول بالكره والعداوة للمسلمين.
وقوله تعالى [وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ] من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متعددة، فقد يكون منحصراً بإنتفاء الحب، وجاءت الآية لبيان قبح وشدة عدم حب الكفار للمسلمين بقوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ].
والصلة بين خاتمة الآية ومضامينها القدسية الأخرى من وجوه:
الأول: ان الله عز وجل يعلم حب المسلمين لغيرهم من الناس، وفيه إخبار للمسلمين بأن الله عز وجل يعلم خفايا نفوسهم، لذا جاءت خاتمة الآية عامة من غير تعيين بالكفار، فلم تقل الآية (ان الله يعلم بذات صدورهم) بل بذات الصدور، إشارة إلى علمه تعالى بما تخفيه صدور الناس جميعاً، وما ينوون قوله وفعله.
وجاءت الآية لتبين موضوعاً آخر غير النوايا فالله عز وجل يعلم الحب والبغض، والود والكراهية، ومن يبغظ المسلمين فان الله عز وجل لايحبه، ويرجع غيظه إلى نفسه ويجعله وبالاً عليه.
الثاني: ان الله عز وجل محيط بالكافرين، وجاءت الآية لتوبيخهم، فمع الكفر فانهم يبغظون المسلمين ويمكرون بهم، وإذا كان عدم الحب لايؤاخذ عليه الإنسان مادام لم يترجل إلى الخارج بالفعل، فان الكفار يعضون أصابعهم من البغض والحسد للمسلمين، ليكون هذا العض شاهداً على كفرهم، وحجة عليهم، وسبباً للإثم والوزر.
الثالث: ان الله عز وجل مع المسلمين أينما كانوا، وحينما يلاقيهم الكفار ويدعون الإسلام فان الله عز وجل ينتقم للمسلمين بفضح الكفار، في هذه الآية، وتحذير المسلمين منهم وإخبارهم بأن قول [آمَنَّا] وحده لايجعل الكافر يرتقي إلى منازل البطانة، وليس هو سبب للوثوق منه بدليل مايظهره من السخط والغضب على المسلمين في خلوته، وكأن البطانة من مصاديق الخلوة والإنفراد في الرأي والفعل، وان البطانة والخاصة لابد أن تخلو بأصحابها وأهل ملتها فتبوح لهم بأسرار المسلم الذي إستبطنها.
وهذه الإباحة ليست عرضية أو تأتي إتفاقاً وسهواً من غير قصد، بل هي فرع غضب وحسد أو لئك الكفار على المسلمين، وتلك آية إعجازية في لغة الآية وصيغ التحذير فيها.
الرابع: في الآية شهادة سماوية للمسلمين وثناء عليهم لأن الله عز وجل يعلم إيمانهم بالتنزيل وآياته، فالله عز وجل يعلم ما تخفي صدور المسلمين من الإيمان وحسن النية والصلاح، ويعلم ماتخفي صدور الكفار من الجحود والضلالة والمكر.
الخامس: لقد إنتفع المسلمون بأن أطلعهم على ماعليه الكفار من الحنق والغضب وسوء السريرة، وهو من علم الغيب، ومع أن الله عز وجل هو ستار العيوب وهو الغفور الرحيم، إلا أن في إطلاع المسلمين على مايخفيه الكفار من الغيظ منفعة الإسلام، وبقاء كلمة التوحيد في الأرض، وكشف هذا الأمر رحمة بالكفار لما فيه من الدعوة إلى التوبة والإنابة، وإصلاح السرائر فالإيمان هو دين الفطرة.
لتدل الآية في مفهومها على دعوة الناس إلى الإيمان والصلاح، بالإضافة الى حقيقة وهي أن الله لم يفضح الكفار بشؤونهم الخاصة والعائلية، بل جاء الفضح لحال العداوة للمسلمين، وهو من الفسق.
السادس: يفيد الجمع بين قوله تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] وبين خاتمة الآية بقاء الكفار في حال غيظ وغضب وألم إلى حين وفاتهم مما يدل على إستدامة عز المسلمين، وبلوغ المسلمين مراتب الفوز والظفر وتماسكهم وإتحادهم وإعتصامهم بحبل الله المتين.
وجاءت الآية بمواضيع تخص المسلمين وهي:
الأول: توجه الخطاب إلى المسلمين خاصة.
الثاني: تنبيه المسلمين الى حقيقة وهي حبهم للناس.
الثالث: إيمان المسلمين بالتنزيل، وجميع الكتب السماوية النازلة من عندالله.
الرابع: لقاء المسلمين مع الكفار، وحدوث حالات الإختلاط معهم.
الخامس: الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ويشمل القول المسلمين والتقدير (قولوا موتوا بغيظكم).
وجاءت الآية بمواضيع تخص الكفار وهي:
الأول: بغض الكفار للمسلمين، وعدم حبهم لهم.
الثاني: دلالة الخطاب الإلهي للمسلمين [وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ] على تخلف أهل الكتاب والكفار عن الإيمان بالتنزيل كله، ولقد تعرضت الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل إلى التحريف، فما كان تحريفاً طرء على الكتاب السابق لا يشمله الإيمان لأن القرآن حرز وواقية ، والتحريف أعم من التبديل والتغيير وقد يحصل في التأويل وهو لايتعارض مع المراد من الآية الكريمة وهو إيمان المسلمين بالقرآن والتوراة والإنجيل من غير تحريف لهما.
الثالث: إظهار الكفار لغضبهم وحسدهم للمسلمين في ساعات الخلوة والإنفراد.
الرابع: تلقي الكفار للذم والتوبيخ في القرآن وعلى لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، إذ تطاردهم اللعنة بسبب جحودهم وبغضهم للمسلمين فهم لم يكتفوا بالكفر والجحود مع قبحها بل إمتلأت صدوراً غيظاً وغلاً وحسداً للمسلمين، فإستحقوا الفضح والخزي في النشأتين، وفيه دعوة للكفار للتوبة والإنابة، وإصلاح النفوس، وتهذيب الأخلاق.
ويفيد الجمع بين قوله تعالى [وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ] و [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا] و [وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ] أن قولهم آمنا ليس وداً وطلباً لرضا المسلمين وطرداً لأسباب النفرة مع المسلمين، بل القصد هو المخادعة والكيد والمكر، لتكون هذه الآية حرزاً دائماً للمسلمين أوان لقاء الكفار وعند غيبتهم.
ومن إعجاز الآية أنها لم تقل (لايحبونكم وتحبونهم) بل عطفت عدم حب الكفار للمسلمين على حب المسلمين لهم.
أي أن بغض الكفار للمسلمين إبتداء وإستدامة ويأتي رداً وجحوداً لحب المسلمين لهم، وتقدير الآية يعلمون انكم تحبونهم ومع هذا لايحبونكم، وفي حين جاء حرف العطف (الواو) في الآية السابقة، مرة واحدة، جاء في هذه الآية أربع مرات مع أن كلمات الآيتين متقاربة في عددها وظهور معاني العطف في كل آية منها.
ليس في هذه الآية اسم مخصوص بل هي ضمائر واسم إشارة ويتجلى المعنى من مضامين الآية السابقة وتعلقها بالبطانة وفي هذه الآية ثلاثة أطراف:
الأول: المسلمون إذ جاءت الآية خطاباً لهم.
الثاني: غير المسلمين الذين تحذر منهم الآية بصيغة الغائب، ومن الإعجاز عدم إشراكهم في الخطاب، وكأنهم غير موجودين، فهم إذا خلوا فيما بينهم يعضون أصابعهم غضباً وغيظاً على المسلمين، والله عز وجل يخاطب بالمسلمين فيحذرهم ويأدبهم ويخبرهم بما يجري في خلوة الكفار، وكأن المسلمين في خلوة مع الله، من غير أن يكون خوف أو وجل من الكفار، وهو من إعجاز القرآن ومحاربته للكفار وتحديه لهم، وهو لغة في المواجهة لوقاية المسلمين.
الثالث: مجيء الخطاب الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قل موتوا] وهذا الخطاب يشمل المسلمين أيضاً، وفيه بعث للخوف والفزع في قلوب الكفار، وإبتدأت الآية بالإخبار عن حب المسلمين لغيرهم، وبغض هؤلاء للمسلمين، ثم ذكرت إنفراد المسلمين بالإيمان بجميع الكتب السماوية.
ثم إنتقلت الى حال اللقاء بين المسلمين وغيرهم وإدعاء الكفار بحضرة المسلمين الإيمان، وإذا كانوا صادقين في إيمانهم إذاَ لماذا يكرهون المسلمين، ويعضون الأصابع عليهم من الغضب والبغض.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: إكرام المسملين بورود الخطاب الإلهي خاصاً بهم.
الثانية: لزوم جعل المسلمين لحبهم للناس في مرضاة الله، فأحكام الإسلام لاتنحصر بالعبادات والفرائض والأوامر والنواهي في عالم القول والفعل، بل تشمل الكيفية النفسانية التي يجب أن يكون عليها المسلمون، فقوله تعالى [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ] إخبار بأن الله عز وجل يعلم ما في نفوس المسلمين، وفيه تأديب للمسلمين في باب الحب والبغض، نعم إذا كان المسلمون يحبون غيرهم من الناس، فمن باب الأولوية القطعية أنهم يحبون بعضهم بعضاً.
الثالثة: حث المسلمين على تعاهد معاني الحب والمودة والأخوة بينهم إلى يوم القيامة ونبذ الفرقة والخلاف الذي يكون فيه شماتة للأعداء، فاذا كان هؤلاء الكفار يعضون أطراف أصابعهم من الغيظ على المسلمين لما عليه المسلمون من التقوى وصدق الإيمان فان الكفار سيشمتون بالمسلمين إذا حصلت بينهم فتنة وفرقة وقد لايعضون أصابعهم حينئذ بل يعملون على إذكاء نار الفتنة والخلاف بين المسلمين.
فجاءت الآية بشارة إستدامة الأخوة بين المسلمين بلحاظ قاعدة كلية وهي بقاء أحكام الآية القرآنية إلى يوم القيامة، من غير تعارض بينها وبين بيان الآية الكريمة لحال المسلمين آيام التنزيل وإنتفاء الخصومة والخلاف بينهم، فقد كانوا منقادين للأوامر الإلهية، حريصين على طاعة الله ورسوله، دائبين في الجهاد في سبيل الله عز وجل.
وإن حصل خلاف بين المسلمين فانه يبقى محدوداً ضيقاً يدرك المسلمون جميعاً ضرره، ولايحصل إلا بين القليل من المسلمين ليقوم الأكثر منهم بمساعي الصلح، وسرعان ما يزول مثل هذا الخلاف.
لذا فان حال عض الكفار أناملهم من الغيظ على المسلمين مستمر ومستديم حتى أوان الخلاف، ليكون من غايات الآية إستمرار الحنق والحقد والبغض عند الكفار على المسلمين، وكأنه عقوبة عاجلة لهم لإختيار الكفر، وهو سبب لإبتلائهم بالأمراض في البدن والنفس.
الرابعة: زجر الكفار عن النفاق، والإخبار عن كشفه وبطلانه.
الخامسة: توكيد إيمان المسلمين بجميع الكتب السماوية المنزلة، وهذا الإيمان ركن من أركان الإسلام، وجاءت هذه الآية لتعاهده وحفظه وجعله شرطاً من دخول الناس الإسلام، وموضوعاً للإحتجاج، وتوكيداً على تخلف الذين يكفرون بشطر من الكتب المنزلة عن منازل الإيمان، لأن مدح المسلمين على الإيمان بالكتب المساوية المنزلة من غير إستثناء لبعضها يدل بالدلالة الإلتزامية على ذم الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه.
السادسة:إخبار المسلمين عن كذب إدعاء الكفار الإيمان وربما علم المسلمون كذبهم لأنهم لم ينطقوا بالشهادتين ولم يؤدوا الفرائض، ولكن قد يتهاونون معهم ويميلون اليهم لمجرد هذا القول ويتخذون منهم بطانة وخاصة، فأخبرت الآية عما يفعله الكفار في الخفاء ومايظهرونه من الحقد والغضب على المسلمين.
السابعة: تبعث الآية المسلمين على العناية بأحوال غيرهم من أهل الملل والنحل، وأثر الإسلام والإيمان في نفوسهم ومجتمعاتهم وتحذر المسلمين من كيدهم ومكرهم، فصحيح أن المسلمين لم يختاروا إلا مايجب عليهم وهو الإيمان بالله عز وجل والتصديق بالنبوة واليوم الآخر، وأنهم لم يضروا أحداً بهذا الإختيار إلا أن الكفار لم يذكرهم وشأنهم إذ يرون إنتصارات الإسلام، ودخول الناس إليه أفواجاً، وثبات المسلمين في منازل الإسلام، فيزدادون غضباً، ويدبرون المكائد.
فجاءت هذه الآية ليصاحب الحذر والحيطة المسلمين إلى يوم القيامة، ويحترزوا من أستيطان الذين كفروا وجعلهم خاصة ووليجة.
الثامنة: مجئ البشارة في الآية بدفع مكر وكيد الكفار عن المسلمين وآن غضبهم وغيظهم لن يضر المسلمين بل يضر الكفار أنفسهم لقوله تعالى [مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] لأن المراد من فعل الأمر (قل) توجه الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن خلاله للمسلمين، وفيه إِارة الى جهاد وصبر المسلمين.
التاسعة: إختتمت الآية بقاعدة كلية وهي علم الله تعالى بما تخفي صدور الناس فهو سبحانه هو الذي خلق الإنسان ويعلم ما يمر عليه من الخواطر، وما يطرأ عليه من النوايا والعزائم والتي قد ينساها الإنسان ولكن الله عز وجل لاينساها، فاذا كان الله سبحانه يعلم ما تخفي الصدور فمن باب الأولوية أنه يعلم مايظهرونه من معاني الغضب والغيظ على المسلمين، وفيه تحد للكفار، وتوكيد لنزول القرآن من عندالله.
العاشرة: الآية عون وعضد للمسلمين وواقية لهم من الكيد والمكر، وهي حرب على الكفار، وصد لغيظهم ومكرهم، إذ أن فضح التنافي والتناقض بين إدعاء الكفار الإيمان عند لقائهم المسلمين.
وبين حال الحسرة والغضب التي تستحوذ عليهم في خلوتهم تثبيط لعزائم الكفار، وبعث للخوف في نفوسهم، ووسيلة لإستحضارهم علم الله تعالى بفعلهم عند خلوتهم، فاذا أرادوا المكر بالمسلمين فانهم يدركون حقيقة وهي علم الله تعالى بمكرهم هذا، وتفضله سبحانه بإخبار المسلمين به سواء بالتنزيل أو بالوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ليبقوا عند حال الغضب والحسرة بينما يتقدم المسلمون في الميادين المختلفة، ويدخل الناس الإسلام بعد رؤية الآيات.
فهذه الآية سيف دائم على الكفار وتتضمن معاني الحكمة والعلم، وهي سبيل سماوي مبارك لجذب الناس للإسلام خصوصاً وان المنع من المكربالمسلمين مقدمة للتدبر بالآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء بالذات أو بحجب السبب أي أن ذات الإنسان إذا كف عن المكر بالمسلمين فان هذا الكف عون له للتخلص من العناد والجحود والإصرار على الكفر والجحود، ومناسبة للإيمان والتصديق بالتنزيل.
وكذا بالنسبة لحجب السبب، فان هذه الآية تمنع أكابر الكفار عن التأثير بالعامة وتفصل بينهما ولاتجعل العامة تنقاد لهم.
وهو فرصة كريمة لعامة الناس بأن يتدبروا المعجزات التي جرت على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدخلوا الإسلام ليصبحوا من الذين يتوجه لهم التحذير في هذه الآية من الكفار، وبينما كانوا تابعين ومنقادين لرؤساء الكفر والضلالة، صاروا بالنطق بالشهادتين وإتيان الفرائض يأبون إتخاذ هؤلاء الرؤساء بطانة وخاصة، ويحذرون منهم، إن النفس الإنسان تنفر من الموت على الغيظ والبؤس والكفر.
فجاءت هذه الآية لتنمية هذه النفرة، وبيان سوء عاقبة الكفر، وسلامة إختيار الإيمان، وفوز المسلمين بالعناية الإلهية وإخبارهم بحا عددهم، ومتى ما علم الإنسان مايفعله عدوه في خلوته فانه يسهل عليه دفع مكره والتغلب عليه.
ففي هذه الآية إبطال للقول بأن الإسلام إنتشر بالسيف لأن الآية وسيلة لجذب الناس للإسلام، وإصفاف لعدد المسلمين، والسيف يعجز عن مطاردة وملاحقة الإنسان في خلوته وقد ينهزم الجيش من المعركة ليعيد تنظيم صفوفه في خلوته وبلدته.
فجاءت هذه الآية لتخبر أنها تلاحق العدو في خلوته، وتطارده في عرينة وبلدته وبيته ومسكنه، وتلقي في نفس الفزع والجزع، وتمنعه من الكيد والنفاق والمكر، وتخبره بأن المسلمين يعلمون حاله، وفي حيطة وإحتراز وحذر منه.
التفسير
قوله تعالى [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ]
لم تبدأ الآية بحرف عطف إلا أنها معطوفة على الآية السابقة في توجه الخطاب للمسلمين رجالاً ونساءاً بقرينة إتحاد لغة الخطاب في الآيتين، وإبتداء الآية السابقة بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وإختتامها بقوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ].
إبتدات الآية بالخطاب للمسلمين خاصة وفيه حسرة على الكافرين وإكرام للمسلمين، أما حسرة الكافرين فمن وجوه:
الوجه الأول: إختصاص المسلمين بالخطاب.
الوجه الثاني: نصرة الله عز وجل للمسلمين بالخطاب، وهي على أقسام:
الأول: تشريف المسلمين بالخطاب.
الثاني: تعاقب الآيات بالخطاب للمسلمين.
الثالث: تضمن الخطاب في هذه الآيات لغة التحذير والبيان.
الرابع: إنفراد المسلمين بالإنتفاع من الخطاب الوارد في الآية، وعدم إستطاعة الكفار معرفة الغايات الحميدة منه، وتلك آية من آيات القرآن بأن يسمع الكفار الآية وما فيها من الخطاب ولغة التحذير فيعجزون عن أمور:
الأول: الإنتفاع من الآية الكريمة.
الثاني: حجب الكفار عن أنفسهم الشمول بمضامين الخطاب في الآية الكريمة، والإمتناع بالإختيار لاينافي الإختيار.
الثالث: يستطيع الكفار إنكار مافي الآية من الإخبار عن غيظهم وحقدهم على المسلمين، وهذا العجز بوجوهه المتقدمة نصرة للمسلمين.
الخامس: لغة الخطاب تأديب للمسلمين، وإرشاد إلى صيغ المعاملة.
السادس: توكيد الخطاب لمضامين النهي الواردة في الآية السابقة والمنع من اتخاذ بطانة من غير المسلمين.
الوجه الثالث: مجئ الآية لإبلاغ المسلمين بحال الكفار في خلوتهم فيما يخص بغضهم للإسلام والمسلمين.
الوجه الرابع: تلقي المسلمين الآية القرآنية بالإنصات والتلاوة والحفظ والتدبر في معانيها وفيه طرد للغفلة والجهالة مما يزيد في حسرة وحسد الكفار.
وأما إكرام المسلمين فهو بلغة الخطاب وإتصال موضوع هذه الآية بالآية السابقة التي إبتدأت بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] والصلة بين الآيتين من وجوه:
الأول: إستمرار لغة الخطاب التشريفي للمسلمين بصفة الإيمان.
الثاني: بعث السكينة في نفوس المسلمين في مضامين وأحكام الآية، لأن قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] سلام ولطف من عندالله عز وجل.
لقد جعل الله عز وجل السلام بين الناس نوع أمن وسلام وجاء قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ليكون أمنا للمسلمين، وإرشاداً إلى سبل السلام، ومن مصاديقه لغة التحذير في هذه الآية من الكفار والمشركين، كي يبقى المسلمون في أمن وسلام، ويؤدون الفرائض والعبادات من غير خوف أو وجل.
وقد يقال إذا كان موضوع الآيتين متحداً فهل من تعارض بين ما ورد في الآية السابقة [قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ] وبين قوله تعالى في هذه الآية [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا] الجواب لا من جهات:
الأولى: إمكان الجمع بين الآيتين، فالكفار إذا لاقوا المسلمين يدعون الإيمان، ولكن كثرة المخالطة وإثارة الجدال يظهران قليلاً مما تخفيه صدور الكفار من البغض والعداوة للمسلمين، وفي الحديث “المرء مخبوء تحت لسانه”( ).
الثانية: إمكان قول الكفار (آمنا) حتى حينما تظهر البغضاء على ألسنتهم فمع قولهم آمنا يدسون أسباب الشك والريب، ويأتون بالمغالطات التي تدل على مايضمرون من البغضاء للمسلمين.
الثالثة: في الجمع بين الآيتين توكيد لإعجاز القرآن، وتحذير وتنبيه للمسلمين، وإرتقاء لهم في سلم المعارف وتنمية لمداركهم، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] بأن صارالمسلمون ببركة هذه الآيات قادرين على معرفة زيف إدعاء الكفار الإيمان، وتعيين أفراد البغضاء التي تجري على ألسنتهم.
الثالث: هذه الآية برزخ دون وصول الخبال والفساد إلى المسلمين، إذ جاءت الآية السابقة بصيغة الإخبار [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ويتضمن لغة التحذير.
فجاءت هذه الآية بالتحذير الإضافي والذي يبدأ بصيغة الخطاب [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ] ومافيها من التنبيه والبيان والتحذير من جعل الحب باباً ينفذ منه الأعداء.
الرابع: تقدير إبتداء هذه الآية (ياأيها الذين أمنوا هاأنتم هؤلاء تحبونهم) وهذا الجمع بين أول الآية السابقة وأول هذه الآية من إعجاز القرآن، وتوكيد لإكرام المسلمين بلغة الخطاب في الآيتين.
الخامس: هذه الآية تعضيد لما في الآية السابقة من النهي عن إتخاذ المسلمين لغيرهم بطانة من دون المسلمين.
السادس:قد جاء في الآية السابقة بيان وتفسير وكشف للآيات بقوله تعالى[قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ] ، وتحتمل هذه الآية وجوهاً:
الأول: هذه الآية من بيان الآيات الذي ذكر في الآية السابقة.
الثاني: هذه الآية ليست من بيان الآيات المذكور في الآية السابقة لوروده بصيغة الفعل الماضي [قَدْ بَيَّنَّا].
الثالث: مافي هذه الآيات من الكشف وعلوم الغيب بيان إضافي إلى جانب ماورد من البينات في الآية السابقة.
والصحيح هو الأول والثالث إذ أن هذه الآية بيان وكشف متمم لما في الآية السابقة وفرع منه وإضافة عليه، وهو من إسرار آيات القرآن، ومن مصاديق اللطف الإلهي في القرآن بتقريب المسلمين إلى سبل الطاعة وإعانتهم عليها، وتتصل هذه الآية مع الآية السابقة في موضوع البطانة من وجوه:
الأول: توكيد النهي عن إتخاذ بطانة من غير المسلمين.
الثاني:عدم صيرورة حب المسلمين للكفار سبباً في إتخاذهم بطانة، إذ أن الآية ذكرت حب المسلمين للناس في وحدة الخطاب الذي تضمن النهي عن إتخاذ الكفار بطانة، وفيه دلالة على عدم غلبة الهوى على أفعال المسلمين وهو الذي يؤكده الجمع بين خاتمة الآية السابقة [أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] وبداية هذه الآية لأن توظيف العقل في الحب والبغض مانع من غلبة النفس الشهوية والغضبية.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين أن يكون قولهم وفعلهم صادراً عن القرآن والسنة وأحكام الشريعة الإسلامية، والأصل في الحب عند المسلمين هو حب الله عز وجل وقد خاطبت الآية السابقة المسلمين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وقال تعالى في مدح المسلمين [وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ] ( ).
الثالث: تأسيس قاعدة وهي إجتناب إتخاذ بطانة من الذين يبغضون المسلمين وهي وفق القياس الإقتراني.
الكبرى: لايتخذ المسلمون الذي يبغضهم بطانة.
الصغرى: الكفار يبغضون المسلمين.
النتيجة: لايتخذ المسلمون الكفار بطانة.
الرابع: الفصل بين الحب وإتخاذ البطانة، لأن موضوع البطانة عقائدي وسياسي وإجتماعي وأخلاقي يستلزم شرائط فيمن يتم إختياره له، ولاتجتمع هذه الشرائط إلا عند المسلم.
الخامس: من يؤمن بالكتاب كله لايتخذ بطانة فمن لايؤمنون بالتنزيل، ولايصدقون بالنبوة فمن وظائف بطانة المسلمين المساعدة في تثبيت الإيمان بالتنزيل والكتب السماوية كلها، وفاقد الشئ لايعطيه فلايصح للبطانة إلا الذي يؤمن بالكتاب كله.
السادس: لزوم أخذ المسلمين الحيطة والحذر من الذين إذا خلوا عضوا على أناملهم من البغض والعداوة للمسلمين، ومن أهم مصاديق الحيطة والحذر منهم إجتناب إتخاذهم بطانة وخاصة.
السابع: يجعل الغيظ والحسد غشاوة على البصر ويمنع الإنسان من رؤية الحق والسعي إليه.
ويفيد قوله تعالى [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ] على إرادة الزمن والحال وهو يحتمل وجوهاً:
الأول: أيام نزول القرآن، وماكان عليه الصحابة من المهاجرين والأنصار من الصلات مع اليهود في المدينة بالرضاعة والجوار والتجارة، ومع مشركي قريش من ذوي القربى والأصل والنسب والقبيلة، إلى وجود المنافقين بين صفوف المسلمين.
الثاني: إرادة العموم وإفادة الأجيال المتعاقبة للمسلمين.
الثالث: إرادة جماعة من المسلمين، وتعلق الآية بأسباب نزول خاصة.
والصحيح هو الثاني، فالآية وإن وردت بالتنبيه واسم الإشارة ومايفيد وقوع الحب من المسلمين والعداوة من الكفار وإرادة أيام التنزيل والصحابة إلا أنها عامة وتتغشى في موضوعها وأحكامها جميع أجيال المسلمين.
وفيه آية إعجازية بأن تأتي الوقائع التأٍريخية في أيام الصحابة مناسبة وملائمة لأجيال المسلمين من غير تباين بينها فكل جيل من المسلمين يقرأ هذه الآية الكريمة ويراها خطاباً له، وتحكي حاله وصلاته وحبه الخير للناس جميعاً، وبغض الكفار للمسلمين.
فتتعدد أفراد الزمان الطولية وتتغير الأجيال والطبائع والعادات، ولكن آيات القرآن وإنطباق مواضيعها على الوقائع ثابت ومتجدد، وهو إعجاز إضافي للقرآن، ودعوة للناس للإيمان به والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم تقل الآية (ها أنتم تحبونهم) بل جاءت باسم الإشارة بعد أداة التنبيه وضمير الجمع أنتم وفي مجئ اسم الإشارة في المقام نكتة عقائدية من وجوه:
الأول: توكيد حال المسلمين في حبهم للناس ونعم أهل الكتاب والكفار والمنافقين.
الثاني: بيان إعجاز القرآن للمسلمين فكما يكون إعجاز القرآن حجة على الكفار، ودعوة للناس للتصديق به والإيمان بنبوة محمد رسولاً من عندالله عز وجل أنزل عليه القرآن، فان إعجاز القرآن يتجلى للمسلمين أيضاً، ومنه هذه الآية التي تخبر عن حال الود عند المسلمين لغيرهم، وهذا الود رشحة من رشحات الرسالة والإيمان بالتنزيل.
الثالث: مجئ أول هذه الآية مصداقاً وشاهداً على خاتمة الآية السابقة، فإذ أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى[إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ].
جاءت هذه الآية لتوكيد إتصاف المسلمين بالعقل والحكمة وعدم غلبة الهوى على أفعالهم، لأن هذه الآية تفصل بين الحب والإختيار، وتجعل حب المسلمين لغيرهم للغايات الحميدة في إصلاح الناس، وتنقيح صدورهم من البغض والحقد والحسد للمسلمين، فلا يكون سبباً لإختيار البطانة .
ويفيد الجمع بين الآيتين بيان فضل الله عز وجل على المسلمين والمسلمات بمنع صيرورة حبهم للغير جعله بطانة، لأن الآية السابقة جاءت بالنهي الصريح عن إتخاذ من هم دون المسلمين بطانة فيكون تقييداً للحب المذكور في هذه الآية.
وهل في الآية ذم للمسلمين بلحاظ إختتام الآية السابقة بقوله تعالى[إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] الجواب لا، إنما جاء إبتداء هذه الآية بالتنبيه والإشارة لبيان حال المسلمين وأن الله عز وجل عليم بهم، ورؤوف بهم فيعلم حالهم مع التنبيه والتحذير من أعدائهم وأعداء الإسلام.
وفي الجمع بين خاتمة الآية السابقة وبداية هذه الآية نكتة عقائدية وهي أن بداية هذه الآية من التعقل وتوظيف المسلمين للعقل في القول والعمل وحتى في الكيفية النفسانية إذ يخضع حبهم للآخرين إلى موازين العقل وأحكام القرآن ومافيه وفي النسة النبوية من المبادئ والمفاهيم.
قوله تعالى [تُحِبُّونَهُمْ]
تتكون هذه الكلمة من فعل وفاعل ومفعول به، وجاء الفعل بصيغة المضارع مما يدل على إستدامة الحب وعدم إنقطاعه، والمراد من الفاعل هم المسلمون أما المفعول به فجاء بصيغة ضمير الجمع والذي تدل عليه الهاء وميم جمع الذكور، وليس في هذه الآية اسم يعود إليه الضمير، مما يدل على إرادة اسم جمع ذكرته الآية السابقة ، ويحتمل وجهين:
الأول: البطانة التي نهى الله عز وجل المسلمين عن إتخاذهم بطانة.
الثاني: الذين هم من دون المسلمين عامة ممن نهت عنهم الآية الكريمة.
والصحيح هو الثاني، لأن الآية السابقة نهت عن إتخاذ البطانة منهم بمعنى أنهم لم يصلوا إلى مرتبة البطانة والخاصة، فلايتعلق النهي بالبطانة، فيكون الضمير عائداً إلى الذين وصفهم القرآن في الآية السابقة بصفات مخصوصة وهي:
الأولى: الذين هم دون المسلمين أي من غيرهم من أهل الملل الأخرى، ومن لايرقون إلى منزلة ومقامات المسلمين.
الثانية: الذين يسعون في إفساد أمور المسلمين، وإلحاق الضرر بهم.
الثالثة: ظهور العداوة والبغض للمسلمين على ألسنتهم.
الرابعة: دلالة البغضاء الظاهرة على ماتخفيه الصدور ومجئ الآية السابقة بالإخبار عما يضمرونه من الحسد والكره للمسلمين والتنزيل ومبادئ الإسلام.
وأكدت الآية حب المسلمين لغيرهم، والحب خصلة حميدة، ومقدمة لبعث الود والرأفة، وسبب لدرء الفتنة والخصومة، وواقية من العداوة والبغضاء، ومع هذا فان الكفار يبغضون المسلمين، مما يدل على التباين والتناقض بين الإيمان والكفر، وقبح الكفر الذاتي والعرضي، فمن آثار الكفر إذا إستولى على النفس مقابلة الحق بالباطل، والحب بالبغض والكره، ترى ماهي علة حب المسلمين لغيرهم، فيه وجوه:
الأول: صلات القربى والرضاع.
الثاني: التجارة والشركة والمعاملة المتصلة بين المسلمين وغيرهم في الأسواق ونحوها.
الثالث: وجود أحلاف ومواثيق فيما بين القبائل، وكذا بين الأنصار واليهود.
الرابع: إرادة معنى حب الخير والنفع للناس.
والصحيح هو الأخير، إذ أن الصلات والمواثيق مواضيع للعهود والآداب والأعراف ليست سبباً للحب والرحمة والشفقة على نحو دائم وشامل، فقد يحترم الإنسان أسباب المعاملة والميثاق من غير أن يكون عنده حب للطرف الآخر، لذا فمن إعجاز الآية أنها جاءت بأمرين:
الأول: صيغة الحب لبيان مايحمله المسلمون من الأخلاق الحميدة، وهذه الأخلاق رشحة من رشحات الإيمان، وفيض من آيات القرآن، وما تركته من الأثر المبارك في نفوس المسلمين، وهو من مصاديق قانون أن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]فهم يرفعون لواء الحب والمودة وللناس جميعاً، وينبذون الإرهاب والغزو وسفك الدماء فلا ينفر منهم قوم أو أهل ملة.
فان قلت إن هذه الآية جاءت صريحة ببغض وعدم حب غير المسلمين لهم، سواء أن المراد من قوله تعالى [لاَ يُحِبُّونَكُمْ] فئة خاصة أو عموم غير المسلمين.
فالجواب ان عدم حبهم للمسلمين ليس لقصور أو خطأ وفعل من المسلمين المسلمات يستحق البغض والعداوة، بل لأن عدم الحب هذا فرع الكفر والجحود.
الثاني: لغة الجمع وإرادة المسلمين كافة بصفتهم وإنتمائهم للإسلام فالآية تخاطب المسلمين بصفة الإسلام، وليس بإنتمائهم القبلي أو المواثيق والعهود الشخصية أو صلات الرحم، وفي المسلمين من لم يكن له إنتماء عشائري أو صلات قربى مع القبائل العربية أو رضاع وتجارة مع اليهود حتى في أيام التنزيل.
ومع هذا فالخطاب في الآية يشمله كما يشمل الأجيال اللاحقة من المسلمين عن يختلط أهل الملل الأخرى أو أنه لايختلط معهم، علماً بأن الإختلاط من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، ويأتي حب المسلمين لغيرهم سوراً جامعاً يتغشى صلات المسلمين مع غيرهم، في آية لم يشهدها تأريخ الإنسانية، ليكون هذا الحب واقية من طغيان البغض والحسد والكراهية، وبرزخاً دون شيوع الأخلاق المذمومة، ويحتمل الإخبار الإلهي في الآية عن حب المسلمين لغيرهم وجوهاً:
الأول: توجيه اللوم للمسلمين على هذا الحب، وهذا اللوم على شعب:
الأولى:اللوم لأن المسلمين يحبون الكفار.
الثانية: مقابلة المسلمين البغضاء وعدم الحب بالحب.
الثالثة: أن حب المسلم لغير المسلم خلاف الوظيفة الشرعية للمسلم.
الثاني: جاء الإخبار لبيان حال المسلمين في معاملتهم مع غيرهم.
الثالث: جاءت الآية للإعجاز وكشف ما في صدور المسلمين.
الرابع: في الآية مدح للمسلمين لأنهم يحبون الناس، وهم عباد الله.
الخامس: تدعو الآية المسلمين إلى ترك حب الآخرين، وإبدال الحب بالكراهية.
السادس: جاءت الآية لتوجيه اللوم للكفار ويكون مفهوم الآية بتقدير الخطاب لهم: كيف تبغضون المسلمين وهم يحبونكم.
السابع: تحذير المسلمين من حبهم للكفار، ولزوم عدم صيرورته سبباً في إتخاذهم بطانة.
والصحيح هو الثاني والثالث والرابع والسادس والسابع.
لقد أراد الله عز وجل للناس الهداية والصلاح، فبعث النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل الكتب السماوية، وأخرج المسلمين للناس يظهرون معاني العبودية والخضوع لله عز وجل، وينشرون معاني الحب والمودة، ويدرأون بالحسنة السيئة لبيان بهاء الإيمان، وإشراقات التقوى على النفوس المؤمنة.
وفي مضامين قوله تعالى (تحبونهم) وجوه:
الأول:المراد تحبون لهم أن يكونوا مسلمين مثلكم، يسارعون إلى الصلاة، ويتقيدون بالعبادات، ويتزودون بالنعم العقلية والعلمية والعملية من آيات القرآن وتلاوتها.
الثاني: تحبونهم أي تجاهدون في سبيل الله لجعلهم مؤمنين يسيرون بخطى ثابتة نحو الخلود في النعيم الأخروي، فحب المسلمين للناس من الأسباب التي تجعلهم يجاهدون في سبيل الله عز وجل لجذبهم إلى الإيمان، فلو أسلم قوم بسبب جهاد المسلمين فانه عمل في طاعة ومرضاة الله عز وجل.
الثالث: الحب في الآية بمعنى الود والميل النفسي، لما بين المسلمين وغيرهم من الرحم وصلات القربى والرضا والمصاهرة والجوار والأخلاق والمواثيق، والعقود التجارية، ورجاء الخير لهم ليؤدوا ديونهم وحقوق المسلمين عليهم.
الرابع: تحبونهم لأنهم إذا لاقوكم [قَالُوا آمَنَّا]كما جاء في الآية السابقة، فلا يلتفت المسلمون إلى البغضاء التي تجري على السنتهم، وتبدو غير ظاهرة في ثنايا كلامهم وفي لحن القول، ولايعلم المسلمون ما تخفي صدورهم من درجات البغض الشديد إلى أن نزلت الآية السابقة وكشفت عداوتهم للإسلام والمسلمين.
الخامس: المراد من الحب الميل الذي يكون مقدمة لإتخاذهم بطانة وكأن الآية تقول للمسلمين لولا أن منّ الله عز وجل عليكم بالنهي الصريح في الآية الآية السابقة عن إتخاذ الكفار بطانة لإتخذتموهم بطانة وخاصة، لأنكم تحبونهم.
والحب باب لنفاذ المحب إلى قلب من يحبه ويميل اليه، فجاء قوله تعالى [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ] لمنع المخادعين والمنافقين من إتخاذ حسن سجايا المسلمين، وطيب سرائرهم مناسبة.
السادس: الحب في الآية بمعنى المخالفة لدلالة الفعل والمخالفة عليه، فلولا أن يكون هناك حب من المسلمين للكفار لما خالطوهم، فان قلت إن المخالطة نوع مفاعلة والكفار يخالطون المسلمين من غير أن يحبوهم، والجواب جاءت هذه الآية بما يفيد مخادعة الكفار وإدعاءهم الإيمان كذباً وزوراً.
مما يدل على أن مخالطتهم للمسلمين من أجل الإضرار بهم وبالإسلام فمنعت الآية السابقة وهذه الآية الضرر بالنهي عن إتخاذهم بطانة وخاصة بلحاظ أن الأمر يقتضي الإيجاب.
السابع: الحب بمعنى الإطمئنان اليهم والوثوق بهم، وإنشاء بعض الأسرار، وبيان النوايا والعزائم لهم، ثقة بهم وميلاً وإستئناساً بهم.
الثامن: يحبهم المسلمون لأنهم يظهرون التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا] ويشكر المسلمون لمن يعلن إيمانه وتصديقه بالآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل.
التاسع: من سجايا المسلمين حب الناس جميعاً لأنهم عباد الله عز وجل، ذرأهم في الأرض بعد أن نفخ الله من روحه في آدم ليعبدوه، والتقدير تحبونهم كما تحبون غيرهم.
العاشر: من رشحات الإيمان والتقوى الحب وإنتفاء والبغضاء والكدورات الظلمانية من النفس المؤمنة، فلم يأت خاصة عند الكفار، بل لأسباب ذاتية من عند المسلمين فمن بلغ مراتب الإيمان فان ملكة الحب والود تنمو وتتجلى عنده نحو الناس جميعاً، إن بقاء مضامين الآية الكريمة،العموم وشمول أحكامها للأجيال المتعاقبة.
الحادي عشر: حب المسلمين للكفار من عمومات ومصاديق قوله تعالى [وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ] ( )، إذ أن قلوب المسلمين خالية من الحقد والبغضاء والعداوة، ويدل عليه حبهم ورجاءهم دخول الناس جميعاً في الإسلام.
ولاتعارض بين هذه الوجوه، وتعددها وسعة مضامينها، والتباين في مواضيعها شاهد على تعدد مضامين وكثرة مفاهيم الآية القرآنية وهو شاهد دليل على أن الآية القرآنية كنز تتدفق منه اللآلئ والدرر، فكما أنعم الله عز وجل على بني إسرائيل بموسى عليه السلام وعصاه إذ كان يضرب بها الحجر ليتفجر منها الماء جداول بعدد أسباط بني إسرائيل.
فان الله سبحانه تفضل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بآيات القرآن لتتفجر منها كنوز من المعرفة وجداول من العلوم والجواهر تروي ضمأ أجيال المسلمين، وتضئ لهم دروب الإيمان ليتخذوها بلغة وسبيلاً للهداية إلى الخلود في النعيم.
وهذا من أسرار ومعاني حقيقة هي أن معجزات الأنبياء السابقين حسية، ومعجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية تتدفق منها الدرر العملية، وتتضمن في ثناياها المباركة المغيبات والأسرار التي لايعلمها إلا الله عز وجل أخبر بها سبحانه المسلمين فضلاً ولطفاً ورحمة منه تعالى بهم، وليكونوا قادرين على وراثة الأرض وعمارتها بالعبادة والمناسك والتقوى.
وهل حب المسلمين لغيرهم محصور بالكيفية النفسانية والميل والود، أم أنه يترجل في الخارج في عالم الأقوال والأفعال، الجواب هو الثاني فان المسلمين يرجون الخير لغيرهم ويمدون له يد العون والمساعدة، ويبذلون الوسع لهدايته وتقريبه من منازل الإيمان.
فجاءت الآية بذكر الحب وفيه إعجاز من وجهين:
الأول: أنه أصل تتفرع عنه أفعال عديدة يكون الجامع المشترك بينها الود والحب.
الثاني: منع التمادي والزيادة في الحب بما يجعل المسلمين يتخذونهم بطانة وخاصة، وقد يرى بعض المسلمين أن إتخاذ الكافر بطانة وسيلة لجذبه للإيمان لأنه سيكون قريباً من المسلمين، حاضراً معهم أوان الصلاة والذكر، سامعاً لتلاوة الآيات.
فجاءت هذه الآية لتحذر من هذا المعنى، وتبين خطأ مثل هذا الظن وعدم إعتباره لأن الكافر يضمر العداوة للمسلمين، ويسعى لإتخاذ البطانة للإضرار بهم.
ويمكن أن يهتدي الإنسان بالآيات الكونية وما يبلغه من المعجزات على لسان المسلمين والذي يدل عليه قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا]، فجاءت الآية لوضع برزخ وحاجز دون وصول الكفار الى منازل البطانة وأن كانت تربطهم مع المسلم صلة قربى أو رضاع أو جوار أو حلف وميثاق أو شركة في تجارة.
وجاءت الآية بصيغة الجمع في الفاعل والمفعول به، مما يدل على إئتلاف المسلمين في ميادين الحب والود، وإنعدام البخل والشح والتبعيض في الحب والود من المسلمين لغيرهم.
قانون ” تحبونهم”
من حب الله عزوجل للناس أن تفضل بخلقهم كما يتجلى حب الله عز وجل للناس بأمور:
الأول: جعل علة خلق الناس عبادتهم لله عز وجل، وهو الغني عنهم وعن عبادتهم.
الثاني: تسخير ما في الأرض للناس وحاجاتهم ورغائبهم.
الثالث: خلق آدم أبي البشر في الجنة، ونفخ الله عز وجل فيه من روحه، لتبقى بركات وفيوضات هذا النفخ في ذريته إلى يوم القيامة.
الرابع: سجود الملائكة لآدم طاعة لله عز وجل ولبيان منزلة الإنسان بين الخلائق، وما له من الشأن الرفيع بفضل الله عز وجل.
الخامس: بعثة الأنبياء، ونزول الملائكة بالوحي.
السادس: فتح باب التوبة للناس جميعاً، وبقاء هذا الباب مفتوحاً على نحو القضية النوعية والشخصية:
أما الأولى أي النوعية فالتوبة مصاحبة لوجود الناس في الأرض، لن تغادرهم، بل هي تدعوهم إليها وترغبهم بسبلها.
وأما الثانية أي القضية الشخصية فان باب التوبة مفتوح للإنسان مادامت الروح لم تغادر بدنه.
السابع: تعدد النعم وإتصال أسباب الرزق على الإنسان متحداً ومتعدداً، براً أو فاجراً.
الثامن: لغة الوعد والوعيد، والبشارة والإنذار للإستعداد لعالم الآخرة، وطرد الغفلة عن الناس.
التاسع: وراثة المسلمين للأنبياء في حمل لواء التوحيد، ودعوة الناس للهداية والإيمان، وإتصاف المسلمين بالحب للناس جميعاً.
وحب المسلمين للناس فرع من حب الله عز وجل لهم، ورشحة من رشحات القرآن والآداب الإسلامية، لقد أٌدّب الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على السنن والأخلاق الحميدة، ومنها الحب في الله ولله.
وهذا الحب أعم من أن يكون متعلقه المؤمنين على نحو الخصوص والتقييد بهم.
لقد أبى الله عز وجل إلا أن تبقى معالم الإيمان وسنن التوحيد ثابتة في الأرض، وجعل المسلمين حاملي لواءها، فهم أئمة الناس في ميادين الخير والصلاح، ومن وظائف الإمامة حب الناس والرأفة بهم، وجذبهم إلى منازل الهداية والإيمان.
ومن صيغ جذبهم للإيمان نشر معاني ومفاهيم الحب والمودة بين الناس فكان المسلمون أئمة المودة والرأفة بالناس، والقادة إلى نبذ العداوة والخصومة، وما يؤدي إلى العنف، وطغيان مفاهيم البغضاء بين الأمم والأفراد.
لقد أٍراد الله عز وجل بهذه الآية أن يبقة الحب والمودة الملاك والأصل في صلات المسلمين فيما بينهم، ومع غيرهم، وبالحب يعطي المسلمون دروساً في المبادئ والأخلاق للناس جميعاً ويؤكدون صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتلك آية إعجازية أن يأتي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات التي تدل على نبوته، وفي حياته وبعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى تكون هناك آيات وشواهد غيرية على صدق نبوته منها:
الأول: المعجزة العقلية الخالدة وهي القرآن، إذ أن كل آية منه شاهد على صدق نزوله من عندالله، والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأن القرآن نزل على صدره.
الثاني: آثار سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية، ومايتجلى من بركاتها في سلوك وأفعال المسلمين وتسابق وحرص المسلمين على محاكاته والإقتداء به وإتباعه في سنته.
الثالث: سيرة المسلمين، وتمسكهم بالقرآن والسنة، ونشرهم معاني الحب والمودة، وإنتفاء الحسد والكدورات الظلمانية من أنفسهم، فما يظهره المسلمون من حسن الخلق، ونشر مفاهيم الحب آية من آيات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومعجزة غيرية مستديمة لرسالته، وحجة على الناس جميعاً في لزوم التصديق بنبوته.
إن الحب الذي يظهره المسلمون دعوة للناس جميعاً لإجتناب محاربة المسلمين، وزاجر عن التعدي على الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى القرآن، لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن تركا أمة عظيمة هي خير الأمم ولاتبغض الناس وإن أراد لها الناس الفساد والخسارة، وأبطنوا العداوة والبغضاء للمسلمين والإسلام، وهل من تعارض بين هذا الحب، وبين ما أمر الله عز وجل به المسلمين من وجوه:
الأول: الأمر بالمعروف.
الثاني:النهي عن المنكر.
الثالث: الجهاد في سبيل الله عزوجل.
الجواب لا، وتلك آية في إصلاح المسلمين لمنازل إمامة الناس، وسعيهم في جذب الناس الى منازل الهداية والإيمان ونبذ البغضاء والعداوة وسنن الضلالة.
وتؤكد الآيات القرآنية والشواهد التأريخية تقيد المسلمين بأحكام الجهاد وبذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، وعلى إجتهادهم الدائم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم، ومع الناس، بالإضافة إلى حقيقة وهي أن حب المسلمين للناس هو من مصاديق جهادهم في سبيل الله ومقدمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن النفس تميل إلى من تحب لولا غشاوة الضلالة بالنسبة للكفار.
فيأتي الحب ليكون في صراع مع تلك الغشاوة لإزاحتها، وكشف أبصار الناس وهدايتهم إلى الآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وآيات الآفاق التي تدعو إلى عبادة الله عز وجل.
علم المناسبة
لم يرد لفظ (تحبونهم) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، وفيه إشارة إلى أهمية موضوعها، وأن المسلمين لم يحبوا فئة أو أمة من الناس دون أخرى، بل أنهم ينظرون إلى الناس جميعا بمنظار المحبة والرأفة، ويرجون لهم السلامة في النشأتين، إن الذي يتلو آيات القرآن ويتدبر في آيات الإنذار والوعيد يرأف بالناس، ويتمنى لهم الأمن والإحتراز من العذاب الأليم والخلود في الجحيم.
ويتحصل هذا الإحتراز بدخول الإسلام، فيكون تقدير الآية تحبون لهم الأمن والسلامة، قال تعالى [وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ] ( )، ولم يرد لفظ تحبونها إلا في الآية أعلاه.
ان حب المسلمين لغيرهم من الناس حجة عليهم، سواء كانوا من أهل الكتاب أو غيرهم، لأن هذا الحب دعوة لدخول الإسلام، وبرزخ دون العداوة وشاهد على أن المسلمين لم يبدأوا الناس بالعداوة والخصومة.
وحب المسلمين لغيرهم من مصاديق الصبر والتحمل، والشكر لله عز وجل على عظيم فضله عليهم بالإيمان والأخلاق الحميدة، والسعي لجذب الناس إلى منازل الإيمان.
وتبين آيات القرآن أن الحب وحده لايكفي لإيمان الآخرين، قال تعالى [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] ( )، لبيان حقيقة وهي أن حب المسلمين للناس رجاء اللطف والفضل الإلهي، وهو باب للثواب لما فيه من المقاصد الحميدة والغايات الرشيدة، ولاينقطع حب المسلم لغيره حتى ينتقل الغير إلى الإسلام بل يزداد له حباً، لأن الحب يمتزج حينئذ بمعاني الأخوة والتمسك بالقرآن والسنة قال تعالى [يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا]( ).
بحث كلامي
جاءت آيات القرآن بالإخبار عن تعلق الهداية والإيمان بمشيئة الله عز وجل قال تعالى [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ]( ).
وفي الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث درس وموعظة للمسلمين بأن حبكم لغيركم لن يكون طريقاً وعلة تامة لإسلامهم خصوصاً وأنهم لايحبونكم، كما تكون الآية محل البحث تفسيراً للآية أعلاه فاذا قيل لماذا لايستطيع المسلم هداية من أحبه من الكفار والمشركين.
فتأتي هذه الآية بالجواب بأنهم لايحبون المسلمين، وينفرون من أسباب الهداية والإيمان إلا أن يشاء الله عز وجل هدايتهم فيجتهد معم المسلم لهدايتهم ويفارقهم على قولهم عند لقائه آمنا.
ويظن أنهم إقتربوا من سبل الإيمان وأنهم يتخذون الخلوة للتدبر في أمرهم ونجاتهم من الكفر والضلالة، ولكنهم يعضون الأنامل من الغيظ على المسلمين في خلوتهم وإجتماع بعضهم بعضاً، وقال تعالى [وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ]( ).
فهل حب المسلمين لغيرهم من الشر والأذى على المسلمين، والجواب أن الآية أعلاه وردت في القتال والجهاد في سبيل الله، والمراد من الشئ الذي يحبون القصود لما فيه من الضعف والذل وحصول التعدي من الكفار، وعدم نيل الغنيمة والأجر والثواب.
وصحيح أن موضوع الآية أعم من الجهاد والقتال لورود قوله تعالى أعلاه على نحو القاعدة الكلية ، إلا أنه ذكر تعلق الحب بشئ من الأشياء.
وليس الناس وان كان الإنسان أيضاً شئ ويشغل حيزاً ومكاناً وتدرء به المفسدة والمراد من حب المسلمين لغيرهم هدايتهم وإيمانهم وليس فيه شر نعم يفيد الجمع بين الآيتين الحذر والحيطة من الكفار لما عندهم من الشر والأذى للمسلمين بدليل قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ].
وليس من تعارض بين الآية محل البحث وقوله تعالى [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( )، فمن الإيمان حب هداية الناس وجذبهم إلى الإسلام، وسلامتهم من العذاب الإليم في الآخرة والذي يكون عاقبة للكفر والجحود.
قوله تعالى [وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ]
بيان التضاد والتنافي بين ما يحمله المسلمون من مشاعر الود والحب لغيرهم، وبين مايضمره هذا الغير لهم من المكر والبغض، ومن الآيات أن جاء التضاد ببيان حقيقة، وهي إتصاف ما يكنه المسلمون بالحسن الذاتي والعرضي لأن الحب أمر حسن وممدوح يترشح عنه ما هو جميل وحسن، اما البغض فانه قبيح وتنفر النفس منه، ويتفرع عنه ما هو مكروه وضار، إلا أن يكون بغضاً في الله ولله، كما في قوله تعالى [وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ] ( ).
فمن إعجاز القرآن تجلي إشراقات الإيمان حتى في حال بيان التضاد بين المسلمين وغيرهم، وهذا التجلي من إسباب المنع من إتخاذ الكفار وليجة، لأن الحب والبغض لايجتمعان في محل واحد، بتقريب أن الفعل الذي يقوم به المسلم ويكون للبطانة فيه شأن ورأي وأثر هو متحر وليس متعدداً، فلا يجتمع فيه المتضادان.
فأراد الله عز وجل أن يأتي فعل المسلم عن إيمان محض، لاتشوبه شائبة البغض والكره للإيمان، وأن لا تكون عداوة الكفار للمسلمين سبباً لقطع ونقص حب المسلمين لهم، لأن إتخاذ المسلمين الكفار بطانة يكشف للمسلمين عداوة وكيد الكفار ليصبحوا ناقمين عليهم، نادمين على ودهم.
وفي عدم الحب في المقام وجوه:
الأول: لايحب الكفار أن يكونوا مسلمين، فيتعلق الحب وعدمه بالعقيدة والدين، لذا جاءت الآية بقوله تعالى [لاَ يُحِبُّونَكُمْ] أي المسلمين.
الثاني: يكره الكفار الإنقياد لما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من إقامة الصلاة وإتيان الزكاة وصيام شهر رمضان.
الثالث: لايحب الكفار النبي محمداً لأنه جاء بالعبادات والأوامر والنواهي من عندالله، وجعل المسلم يتقيد بوظائف العبودية لله عز وجل، ومن لايحب النبي محمداً فهو لايحب المسلمين.
الرابع: لايحبون المسلمين لأن المسلمين يجاهدون في سبيل الله، ويحملون السيف دفاعاً عن الإسلام، ويضحون بأنفسهم وأموالهم رجاء الأجر والثواب مما ايجعل الكفار عاجزين عن التعدي على الإسلام ومنع إتساعه وظفر الغزاة المجاهدين.
الخامس: يخشى الكفار إكراه المسلمين لهم على دخول الإسلام وإلزامهم بالفرائض والواجبات.
السادس: لايحبون المسلمين لأنهم يأخذون الجزية والخراج، ولم يعلموا أن الجزية نفع لأهل الكتاب لأنها موضوع لأمنهم وسلامتهم وحفظهم.
السابع: لايحبون المسلمين لعدم وجود برزخ ووسط بين الإيمان والكفر، وأن المسلمين لايرضون من الكفار والمشركين إلا الإيمان والإقرار بالتوحيد.
الثامن: لايحب الكفار المسلمين، لأن الكفار يعلمون أن قولهم عند ملاقاة المسلمين (آمنا) إنما هو نفاق وكذب وزيف، وسبب هذا الكذب عجزهم عن مواجهة الحقائق، ولظهور الآيات والمعجزات وإصرارهم على الجحود بها، ومن يكذب في القول ويظهر أمام غيره خلاف مايخفي في صدره فانه لايحب الغير الذي يخادعه لأنه يريده مثله يبوح له بما في صدره من الكفر والضلالة.
التاسع: المراد في الآية عدم أهلية الكفار لمنازل البطانة، لأنهم، لايحبون المسلمين، ومن لايحبك كيف يكون بطانة لك، إذ أنه يغرر بك ويخونك ويخذلك عند الحاجة إليه.
لقد جاءت الآية السابقة خطاباً للمسلمين في باب البطانة، وذكرت هذه الآية بغض الكفار للمسلمين ليحذر المسلمون منهم ومن إستيطانهم، ومن الإعجاز في المقام أن الآية جاءت بصيغة الخطاب للمسلمين [لاَ يُحِبُّونَكُمْ] لتوكيد النهي عن إتخاذهم بطانة.
فتأتي آية بالنهي عن إتخاذ الكفار بطانة مع بيان أجزاء علة عدم إتخاذهم بطانة، ثم تأتي الآية التالية وهي هذه الآية لتبين لزوم الحذر من الكفار ليس في باب البطانة وحده بل في مختلف الأحوال، فصيرورة الكفار مطرودين وبعيدين عن منازل البطانة لايعني الأمن من أذاهم وضررهم.
ولم تأت الآية مخاطبة للكفار بصيغة اللوم مثلاً (ها أنتم لا تحبون المسلمين، وهم يحبونكم) لأن مثل هذا اللوم لايبعث المسلمين على الحذر والحيطة منهم كما في توجه الخطاب للمسلمين بلغة كشف السرائر والتحذير العام من الطرفين.
أي التحذير للمسلمين جميعاً، ومن الكفار كافة فان قلت قد يكون هناك إستثناء، وأن من أهل الكتاب والكفار من لايبغض المسلمين وأنه يعلم أن المسلمين على حق، وتحدثه نفسه بدخول الإسلام.
قلت: هذا صحيح، ولكن الحكم الشرعي لايؤخذ على الإستثناء والتعليل خصوصاً وأن المستثنى أقل من المستثنى منه.
العاشر: من معاني عدم حب الكفار للإسلام، إظهارهم المخادعة والنفاق أمام المسلمين وإدعاؤهم الإيمان بحضرتهم.
الحادي عشر: يدل قوله تعالى [لاَ يُحِبُّونَكُمْ] على إستعداد الكفار لفضح أسرار المسلمين، وتخلفهم عن نصرتهم، وتهاونهم في تقديم النصيحة للمسلمين، وخذلانهم لهم وقت الحاجة وساعة الشدة.
الثاني عشر: يطمئن المسلمون للكفار، ولكنهم لايطمئنون للمسلمين، ويحترزون منهم، ويخفون عنهم الأسرار والحقائق، ومنها البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت بها الكتب السماوية السابقة.
الثالث عشر: إذا كان الكفار يبغضون المسلمين، فهل يحبون أنفسهم، الجواب لا، لأن أسمى معاني حب النفس هو السعي لنجاتها من براثن الشرك، والإجتهاد في سلامتها من أهوال البرزخ ومواقف الحساب والجزاء يوم القيامة، والكفار يتناجون بالباطل والإصرار على مايؤدي بهم إلى الجحيم.
الرابع عشر: لايحبكم الكفار لأنهم يكذبون برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الكتاب من الله وكل من يكذب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو يبغض المسلمين، سواء ينعتهم بالحمق والجهل، أو لا.
الخامس عشر: لايحبونكم لأنهم إذا خلا بعضهم إلى بعض أظهروا حنقهم وغضبهم عليكم، إذ يتولد عن هذا الغضب النفرة والبغض وعدم الحب.
السادس عشر:يؤمن المسلمون بجميع الكتب السماوية ويتخلف أهل الملل والنحل عن هذا الإيمان، وكل ملة وفرقة تؤمن بشطر من التنزيل، مما جعلهم ينقمون على المسلمين مع أن إيمان المسلمين بكل الكتب السماوية نفع وخير محض للناس جميعاً.
السابع عشر: يرى الكفار زحف الغزاء المسلمين، وصبر المسلمين، وقدرتهم على صد هجوم الأعداء، وثباتهم على الإيمان، فلايحبونهم.
الثامن عشر: يحاربونكم في أسباب الرزق والمعاش إن إستطاعوا، ويسعون للتضييق عليكم.
ولاتعارض بين هذه الوجوه مع تعددها، وفيه دلالة على حنق الكفار على المسلمين، ولزوم إتخاذ المسلمين الحيطة والحذر في أمور الدين والدنيا.
وجاءت الآية بالإخبار عن عدم الحب وفيه وجوه:
الأول: إنه برزخ بين البغض والحب.
الثاني: عدم الحب يعني البغض والعداوة.
الثالث: عدم الحب حال من الكراهية مستقلاً عن البغض والعداوة وأخف من البغض والغيظ.
والصحيح هو الثاني إذ جاءت الآية ببيان التضاد بين الحب وعدمه،وإنتفاء الواسطة والبرزخ بينهما إلا أنها تفيد العموم، فبينهما وبين الغيظ عموم وخصوص مطلق، فالغيض من مصاديق عدم الحب، وليس كل من لايحب غيره يبغظه ويعاديه، لذا جاءت خاتمة الآية لبيان نوع عدم الحب وأنه غيظ شديد يظهر على جوارحهم وحواسهم، ويحتمل عدم حب الكفار للمسلمين وجوهاً:
الأول:البغض إبتداء ومن غير علة.
الثاني: جاء عدم الحب لأن المسلمين يدعون الكفار إلى الإسلام.
الثالث: أظهر المسلمون الحب للكفار فقابلوهم بالبغض وعدم الحب.
الرابع: عدم حب المسلمين بما هم مسلمين.
وعدا الوجه الأول فان الوجوه الأخرى صحيحة فان الكفار يبغضون المسلمين لإسلامهم وصدق إيمانهم، وترى فرداً محبوباً بينهم فاذا أعلن إسلامه تحول حبهم له إلى بغض وكراهية.
إبتدأت الآية السابقة بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وجاء قوله تعالى [لاَ يُحِبُّونَكُمْ] متعلقاً بذات الخطاب أي أن الكفار لايحبونكم لإيمانكم وتصديقكم بنزول القرآن من عندالله عز وجل، ويحتمل هذا الإخبار وجوهاً:
الأول: بعث الخوف والفزع في قلوب المسلمين، خصوصاً ضعيفي الإيمان وحديثي العهد بالإسلام ، فمتى ما علم المسلمون أن عدد الكفار مع كثير لايحبونهم فان المسلمين يخشون على أنفسهم من كيدهم ومكرهم.
الثاني: عدم ترقب الأثر على إخبار الآية ببغض الكفار لهم.
الثالث: إزدياد قوة المسلمين، لما في الآية من التحذير والتنبيه.
إما الأول فليس في إخبار الآية من عدم حب الكفار للمسلمين ما يبعث الخوف والفزع في نفوس المسلمين، لأن عدم الحب هذا عنوان عجز الكفار، وشاهد على ضعفهم ووهنهم.
وإما الثاني فالأثر للآية ظاهر وبين، وما جاءت الآية القرآنية إلا ليكون المسلمون في حال حيطة وحذر، ويعلموا حال الكفار وبغضهم لهم.
وأما الثالث فهو صحيح فان الآية تبعث القوة في نفوس المسلمين، وتزيدهم حذراً وإحترازاً، وتدعوهم إلى الإتحاد والتمسك بالقرآن والسنة وإجتناب الفرقة والتشتت الذي ينفذ منه العدو.
وتؤكد الآية أن المسلمين أمة تواجه الأعداء وبغضهم وعداوتهم متحدة صابرة بشد بعضها أزر بعضها الآخر، وجاءت الآية بعد الإنتصارات العظيمة التي حققها المسلمون، وثبات أحكام الشريعة.
قانون “الآية القرآنية مدد وعون”
ينزل ملك من أكبر وأعظم ملائكة السماء بالآية القرآنية من عندالله على صدر أشرف الخلائق محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون كنزاً سماوياً باقياً في الأرض، إذ يدل هذا التشريف العظيم للآية القرآنية وكيفية نزولها على علو شأنها وأهميتها.
فتنفرد الآية القرآنية بخصوصية لم تنلها أي أية أو كتاب نازل من السماء فهي آية لله ومن الله وهو الذي تلاها،وأمر بتلاوتها والعمل بأحكامها[تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ] ( ).
وتشرف جبرئيل عليه السلام بالهبوط بها إلى الأرض، ونزلت على سيد الأنبياء والمرسلين، ولابد لهذا الشأن العظيم والقدسية التي إختصت بها الآية القرآنية من آثار ومنافع تترشح عنها ومنها:
الأول: تفضيل المسلمين بنزول القرآن من عندالله.
ومن خصائص خير أمة أن القرآن نزل على نبي الأمة، وهو خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني: الأجر والثواب في تلاوة الآية القرآنية وهذا الثواب متعدد بلحاظ عدد حروف الكلمة والآية القرآنية، فليس لكل آية ثواب فقط، بل لكل حرف من كلماتها ثواب وأجر.
ولاينحصر هذا الثواب بالمرة والمرتين بل هو متجدد في كل تلاوة، وهل في الإستماع للآية القرآنية،، ثواب الجواب نعم لما فيه من الإكرام للقرآن والإقرار بنزوله من عندالله عز وجل والإمتثال لأمر الله قال سبحانه [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا] ( ).
الثالث: سلامة الآية القرآنية من التحريف والتغيير قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الرابع: بقاء أحكام الآية القرآنية إلى يوم القيامة.
الخامس: وجود أمة تعمل بمضامين الآية القرآنية وما فيها الأوامر والنواهي إلى يوم القيامة، وإستدامة العمل بالآية القرآنية، وسلامتها من التحريف وهو إعجاز تنفرد به الآية القرآنية من بين الكتب والآيات النازلة من السماء.
السادس: الآية القرآنية داعية إلى الله ودخول الإسلام، فلم ينتشر الإسلام بالسيف، بل كانت كل آية قرآنية سيفاً ورسولاً إلى الناس تدعوهم إلى الإيمان، رسولاً نازلاً من السماء نزل بها رسول من الملائكة على سيد المرسلين، وتلك آية إعجازية أن تتغشى صفة الرسالة الجميع ليكون كل من الملك جبرئيل عليه السلام، والرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والآية القرآنية رسلاً من عندالله عز وجل.
السابع: جاءت آيات القرآن بقصص الأمم السابقة لتكون عوناً وموعظة وسبيل لهداية للمسلمين.
الثامن: تتضمن آيات القرآن علوماً من الغيب تكون ضياءً للمسلمين في مسالك الإيمان.
التاسع: في الآية القرآنية إعجاز يدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومدد وتثبيت للمسلمين في مقامات الإيمان.
العاشر: جاءت آيات القرآن بالإخبار عن يوم القيامة، وبيان حقيقة أن الدنيا مزرعة للآخرة، ومن إعجاز آيات القرآن أنها جاءت بهذا الإخبار بصيغة البشارة والإنذار، والوعد والوعيد.
الحادي عشر: ذكرت آيات القرآن الآيات الكونية بلغة تدعو الناس إلى التدبر في بديع خلق الله عز وجل، لتكون الآية القرآنية شاهداً ووثيقة سماوية على بديع صنع الله.
الثاني عشر: مجئ القرآن بالمثال المحسوس لتقريب المعاني العقلية لينتفع الناس جميعا على إختلاف مداركهم، وتعدد مذاهبهم من المثل القرآني، ويتدبروا بالمقاصد السامية له، ويتخذوه بلغة لنيل مراتب الفوز في الدنيا والآخرة.
الثالث عشر: تمنع الآية القرآنية من الفرقة والخلاف بين المسلمين، ويأتي هذا المنع بالأوامر والنواهي القرآنية، فكل أمر وكل نهي في القرآن وسيلة ملكوتية لوحدة المسلمين في سبل مرضاة الله.
الرابع عشر: الآية القرآنية مدرسة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبعث الشوق في نفس المسلم للجهاد بالنفس والمال.
الخامس عشر: تبعث الآية القرآنية الخوف في قلوب الذين كفروا، فهي مدد وعون للمسلمين لأنها سلاح يملأ نفوس الكفار بالفزع والجزع، ومنه هذه الآية التي تؤكد لزوم عدم إتخاذ الكفار وليجة، وتكشف مكر وكيد الكفار.
السادس عشر: الآية القرآنية عون للمسلم لأداء الفرائض لما فيها من البيان ولغة الوجوب لأدائها وحرمة الترك، بالإضافة إلى الوعد الكريم بالثواب العظيم قال تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( )، لأداء الواجبات والفرائض.
السابع عشر: لقد جعل الله عز وجل القرآن شفاء وأمناً من الأدران قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( )،، وهذا الشفاء لا ينحصر بالقضية الشخصية وأمراض البدن، فالآية القرآنية شفاء من الكدورات وأسباب الفرقة ومقدمات الضعف والوهن، لذا فان هذه الآية جاءت لسلامة مجتمعات المسلمين من المكر والكيد الذي يأتي من أعدائهم.
إن كل آية قرآنية مدد وعون للمسلمين متحدين ومتفرقين، وهي إعجاز دائم ومتصل يتجلى كل يوم، ليكون وسيلة لتثبيت الإيمان في النفوس والمجتمعات، وضياء سماوي مبارك يدعو الناس إلى الإسلام، و زاجر كريم عن التعدي على المسلمين.
وجاءت هذه الآية الكريمة لتكون إعجازاً مستقلاً، وخيراً محضاً، ونفعاً متعدد الوجوه، فهي حرز وواقية للمسلمين، وباعث لليأس والقنوط في قلوب أعدائهم، لتبقى الآية القرآنية مدداً للمسلمين إلى يوم القيامة في ميدان البطانة والمودة وصيغ المعاملة مع الأخرين.
وقد يكون المسلم وحده ليس عنده بطانة، وخاصة وفي حال يستلزم منه العمل والفعل فتكون آيات القرآن هي البطانة والخاصة، وبها يبلغ غايته، ويدرك حاجته، من غير أن يلجأ إلى أهل العداوة والمكر والذين يخفون الغيظ عليه.
ومن إعجاز القرآن أنه ليس من حد أو قيد في الإنتفاع من آيات القرآن فهي صاحب في المواضيع المختلفة، بلحاظ أن القرآن تبيان لكل شئ وهدى ونور، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] ( ).
وهذه الصحبة الكريمة من أسرار حفظ آيات القرآن، ومنع تحريفها، لأن حاجة المسلم إليها مستمرة في الحضر والسفر، وفي الرخاء والشدة، وإذا كان الكفار يعظون الأنامل على المسلمين من الغيظ عند خلوتهم وتواريهم عن إنظار المسلمين فان المسلمين عند الخلوة يتلون آيات القرآن في الصلاة وغيرها فتبعث فيهم معاني الحب والود والرحمة بالناس ويرجون لهم الهداية.
وهو من مصاديق وعلة حب المسلمين للناس، وبركات صحبة القرآن لهم، ومن الإعجاز أن الآيات التي تدل على مكر وكيد الكفار بالمسلمين لم تزد المسلمين إلا إيماناً وثقة بالظفر والنصر، وفيها دعوة لهم للإتحاد والتمسك بالقرآن والسنة لمواجهة الأعداء.
علم المناسبة
لم يرد لفظ (يحبونكم) ولا لفظ (لايحبونكم) إلا في هذه الآية الكريمة، وجاءت للإخبار عن بغض الكفار للمسلمين، وهل في الآية بعث للخوف والفزع في نفوس المسلمين خصوصاً في بدايات الدعوة الإسلامية، وقلة عدد المسلمين أزاء كثرة أهل الكتاب والكفار وتعدد مشاربهم، الجواب لا،.
وتلك آية إعجازية تؤكد ثبات المسلمين على الإيمان، وتمنعهم بقوة إضافية ومدد من عند الله، ومنه هذه الآية التي تخبر عن حال وما هية ما يضمره الكفار للمسلمين من البغض والكره والعداوة، كي يأخذ المسلمون حذرهم منهم قال تعالى [وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا]( ).
وفيه إخبار بأن الأمر لاينتهي عند موضوع البطانة بل أن الله عز وجل يعذب الكفار في الآخرة، فكيف يتخذ المسلمون من كتب الله عليه العذاب في الآخرة.
وقال تعالى [عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً] ( )، فهل يعني المودة في المقام جواز إتخاذ بطانة منهم، الجواب لا، إذ لا ملازمة بين المودة والبطانة فجاءت أحكام البطانة بالنهي المطلق عن إتخاذ غير المسلم بطانة، بالإضافة إلى احتمال أن تلك البطانة ظاهرية، ومنهم من محل الآية أعلاه وحصول المودة على دخولهم الإسلام، إن حب الناس للمسلمين والإسلام يجعلهم يتدبرون بما أنزل الله عز وجل من الآيات والأحكام، ويكرمون المسلمين لإمتثالهم للأوامر الإلهية وكونهم أئمة للناس في سبيل الهداية، إذ أن المسلم بأدائه الصلاة والفرائض الأخرى يدعو غيره بكرة وعشياً إلى الإسلام وطاعة الله عز وجل وحينما يبغض الكفار الإسلام والمسلمين فانهم يحبون الأنداد من دون الله عز وجل قال تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ] ( )، وهو من وجوه الضلالة والخسارة وأسباب التخلف عن إتخاذهم بطانة وخاصة للمسلمين.
بحث بلاغي
من ضروب الإطناب (المطابقة) وهو الجمع بين متضادين في الجملة ويكون تارة حقيقياً وأخرى مجازياً، وينقسم كل واحد منهما إلى لفظي ومعنوي ومنه قوله تعالى [تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ] وهو حقيقي معنوي إذ تبين الآية التضاد والتنافي بين مايكنه ويظهره المسلمون من الحب لغيرهم من أهل الملل والنحل، وما يرجونه لهم من الخير، وأسباب الهداية، وحسن سمت المسلمين وحده حب الناس لم فيه من الدعوة الصامتة إلى الإسلام، ونبذ الشرك والضلالة، فتقيد المسلمين بالأوامر والنواهي الإلهية دعوة للناس للهداية والإيمان.
وجاء تقديم حب المسلمين للناس في الآية للدلالة على ثبوت هذا الحب وعدم تغيره أو تبدله بسبب بغض وغيظ الكفار على المسلمين لأن هذا الحب من رشحات الإيمان، وصدق العبودية لله عز وجل ، وشاهد على أن المسلمين لم يبدأوا الكفار بكره وعداوة أو قتال، لدلالة القتال على إزدياد حدة الخصومة والعداوة.
فاذا كان المسلمون يحبون أهل الكتاب والناس جميعاً فانه يدل على عدم إرادتهم قتالهم ومحاربتهم إلا أن يكون كره الأخرين لهم سبباً في القتال، وقد تلقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والمسلمون الأوائل من كفار قريش أشد أنواع التعذيب وصبروا ولم يردوا عليهم، وبعد الهجرة عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المواثيق مع اليهود، كما عقد صلح الحديبية مع مشكري مكة ورجع إلى المدينة إجتناباً للقتال، ولكن المشركين نقضوا العقد وأخلوا بشرائط الصلح.
قوله تعالى [وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ]
إنتقلت الآية إلى موضوع آخر، وهو إيمان المسلمين بالكتب السماوية المنزلة، وجاء العطف بالواو لتوكيد حقيقة، وهي صلة موضوع الإيمان بالتنزيل بالحب والبغض بين المسلمين وغيرهم.
وجاء هذا الشطر من الآية مدحاً للمسلمين وثناء عليهم، وشهادة سماوية على حسن إيمانهم، وفيه وجوه:
الأول: إيمان المسلمين بنزول القرآن من عندالله عز وجل.
الثاني:تصديق المسلمين بنزول التوراة والإنجيل، ويحتمل هذا التصديق وجوهاً:
الأول: تلقى المسلمون هذا التصديق وراثة من آبائهم.
الثاني: أثر اليهود والنصارى في المسلمين، وإقناعهم بصدق نزول التوراة والإنجيل.
الثالث: الإيمان بنزول التوراة والإنجيل أمر فطري.
الرابع: جاء القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتصديق نزول التوراة والإنجيل من عندالله عز وجل فآمن به المسلمون.
والصحيح هو الرابع، وفيه شاهد على حاجة الناس للإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان المعارف الإلهية بالقرآن ونزوله من عندالله عز وجل.
الثالث:تسليم المسلمين بنبوة الأنبياء السابقين جميعاً، والتصديق بما أنزل الله عز وجل عليهم من الآيات والوحي.
الرابع: تبين الآية حقيقة وهي عدم نزول كتاب بعد القرآن، إذ جاء قوله تعالى (كله) وهو سور الموجبة الكلية لإفادة أن جميع الكتب يؤمن بها المسلمون، وليس من كتاب بعد القرآن، وهذا الشطر من الآية شرف عظيم إختص الله عز وجل به المسلمين.
فليس من أمة أو أهل ملة يؤمنون بالكتاب كله إلا المسلمين، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] فلا ترقى أمة للإيمان بالكتاب كله غير المسلمين، وفيه دعوة للناس لدخول الإسلام للفوز بهذه النعمة العظيمة.
الخامس: يحتمل إيمان المسلمين بالكتاب بلحاظ أفراد الزمان الطولية وجوهاً:
الأول: إرادة أيام نزول القرآن والصحابة.
الثاني: عموم أجيال المسلمين المتعاقبة.
الثالث: إرادة مدة معلومة.
والصحيح هو الثاني، إذ تتضمن الآية الإطلاق الزماني لتصديق المسلمين بالكتب السماوية المنزلة.
وتلك آية في أهلية المسلمين لخلافة الأرض ووراثة النبوة، وتعاهد التنزيل، وفيه شاهد بأن الله عز وجل أنزل الكتب السماوية وجعل أمة من أهل الأرض تؤمن بها جميعاً من غير تفريط ببعضها ودليل على وحدة موضوع التنزيل وانه يتضمن الدعوة إلى الله عز وجل وبيان الأحكام الشرعية.
السادس: الإيمان بالكتب السماوية كلها واجب على الناس، وجعل الله عز وجل المسلمين قادة لهم في مسالك الإيمان والهداية.
السابع: بلوغ المسلمين منازل التفقه في الدين والإرتقاء في المعارف الإلهية.
الثامن: تخلف أهل الملل الأخرى عن مقامات التقوى والإيمان، لأن الآية تدل في مفهومها على أن غير المسلمين لايؤمنون بالكتاب كله، وهو أمر ظاهر للعيان وثابت عند الجميع.
ومع أن المراد هو إيمان المسلمين بالكتب السماوية المنزلة على الأنبياء ومنها القرآن الذي نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والإنجيل الذي نزل على عيسى عليه السلام، والتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، والصحف التي أنزلت على إبراهيم عليه السلام، فقد جاءت الآية بلفظ المفرد (الكتاب) وفيه مسائل:
الأولى: إرادةة الجنس والعموم.
الثانية: الإخبار عن إتحاد سنخية التنزيل.
الثالثة:الإشارة إلى نزول الكتب السماوية كلها من عند الله.
الرابعة: يفيد معنى الكتاب أنه المكتوب، وفيه دلالة على وراثة المسلمين للكتب السماوية المنزلة وأن الأنبياء وأصحابهم يكتبون التنزيل، وتلك آية في ضبط التنزيل وتعاهده، ووجود أمة مؤمنة في كل زمان تعنى بكتابته وتدوينه.
الخامسة: من أسرار إفراد لفظ الكتاب تضمنه لمعنى جواب السائل من هؤلاء كيف تؤمنون بالكتب السماوية كلها وهي غير موجودة بين أيديكم ولم تعلموا أسماء الأنبياء جمعاً وكثرة الكتب التي أنزلت إذ أن لفظ الكتاب يفيد أموراً:
الأول: وحدة سنخية الكتب السماوية وإشتراكها في الدعوة إلى الله وبيان الحكام الشرعية.
الثاني: الإيمان بالكتب السماوية بالإقرار بنزولها من عند الله عز وجل وأن الكتاب الذي أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس هو الكتاب السماوي الوحيد النازل من عند الله.
الثالث: تضمن القرآن لعلوم وأحكام الكتب السماوية السابقة.
الرابع: من خصائص خير أمة الإيمان بكل الكتب السماوية .
الخامس: إن الله عز وجل هو الذي سمى الكتب السماوية بلفظ (الكتاب) وعلى المسلمين والناس كافة أن يتلقوه بالقبول والتسليم والشكر له تعالى لإتحاد أحكام الشريعة في الأمم السابقة واللاحقة مع إتصاف الشريعة الإسلامية بانها ناسخة لما قبلها وليس لها ناسخ.
السادسة: التوكيد على لزوم التقيد بأحكام القرآن كلها، ومافيه من الأوامر والنواهي، فالآية إنحلالية وكما يقرأ لفظ الكتاب بمعنى الجنس وإرادة الكتب السماوية كلها فان المراد منه القرآن بجميع آياته وإنفرد المسلمون بالتصديق بكل كلمات وآيات القرآن، وفي الآية حث للمسلمين لتعاهد هذا الإيمان.
السابعة: الآية إنحلالية والمراد الإيمان بكل كتاب سماوي على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي فيكون على وجوه:
الأول: تؤمنون بالقرآن كله، وتصدقون بكل آية من آياته.
الثاني: تؤمنون بالإنجيل كله.
الثالث: تؤمنون بالتوراة كلها.
الرابع: تؤمنون لكل كتاب نازل عندالله بمجموعة وجملته من غير تجزئة لآياته.
فان قلت إن الكتب السماوية السابقة تعرضت للتحريف فكيف يكون الإيمان مانعاً من إستدامة التحريف، وجاء حرباً عليه،الجواب من جهات:
الأولى: أن الكتاب الذي ينزل على نبي من الأنبياء ليس خاصاً بأمته وأتباعه، فالتوراة ليس كتاب اليهود وحدهم، والإنجيل ليس كتاب النصارى وحدهم، بل هما كتابان للمسلمين جميعاً من آمن بالله ورسله فنصر الله الأنبياء والكتب السماوية السابقة بالمسلمين وجعلهم يؤمنون بالتنزيل كله من غير تفريط بجزء منه.
الثانية: الآية شاهد على أن المسلمين هم خير أمة أخرجت للناس تحفظ التنزيل بالإيمان به، وصار هذا الإيمان مانعاً من أضرار التحريف بالكتب السماوية السابقة، إذ جاء إيمان المسلمين بها فضحاً للتحريف وإبطالاً لأثره، ومانعاً من إستدامته.
الثالثة: لقد تولى المسلمون مسؤولية حفظ الكتب السماوية النازلة من عندالله، والإيمان بها برزخ دون الرجوع إلى من قام بتحريفها، أو إتبع ما تم تحريفه وتغييره منها.
الرابعة: الآية دعوة للناس جميعاً للرجوع إلى المسلمين، ومعرفة الكتب السماوية كما أنزلت من عندالله عز وجل بما في القرآن من البيان والأحكام والمضامين القدسية.
الخامسة: إن خلو القرآن من التحريف هو الفيصل والدليل على معرفة الكتب السماوية السابقة، وفضح ماطرأ عليها من التحريف.
السادسة: دعوة المسلمين إلى عدم الربط بين جحود أهل الكتاب بالقرآن وبين الإيمان بالكتب السماوية كلها، إذ لاملازمة في المقام، فالكتب السماوية السابقة حق وصدق سواء آمن الناس بالقرآن أو لم يؤمنوا.
وربما ود فريق من أهل الكتاب أن يكفر المسلمون بالتوراة والإنجيل قال تعالى[وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً] ( )، بتقريب أنهم يكفرون بالقرآن فيودون أن تكفروا بالتوراة والإنجيل ولو بالقول إن التوراة تم تحريفها، ولا نؤمن بما هو محرف.
فجاءت الآية الكريمة محل البحث لتؤكد إيمان المسلمين بالتوراة والإنجيل، ولزوم الإعراض عن مسألة التحريف لأنها مسألة عرضية وجزئية، ولاتكون برزخاً ومانعاً من الإيمان بنزول التوراة والإنجيل من عندالله، والآية شاهد على خيبة أمل الكفار، وعدم حصول الجحود والكفر بالتنزيل عند المسلمين.
ومن الآيات أن الإيمان بالكتب السماوية النازلة يشمل المسلمين جميعاً على نحو العموم الإستغراقي، فلا تتخلف عنه فرقة أو طائفة أو جماعة أو أفراد قليلون، وتلك آية في خير أمة أخرجت للناس بأن تجتمع على الإيمان بالتنزيل كله.
السابعة: لقد بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على فترة من الرسل، ولم يبق من الكتب السماوية إلا القليل الذي طالته يد التحريف فجاء للناس بخير الدنيا والآخرة وهو (الإيمان بالكتاب كله) من غير فصل أو تمييز بين الكتب المنزلة ليكون شاهداً على تفضيله على الأنبياء السابقين ودليلاً على نصر الله تعالى لهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته ، قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ).
فيكون نصر الله للأنبياء في حياتهم وبعد إنتقالهم إلى الرفيق الأعلى بوجود أمة مصدقة بما أنزل عليهم، ويدل هذا التصديق بالدلالة الإلتزامية على صدق نبوتهم، وأمانتهم في التبليغ.
الثامنة: من القوانين في الإرادة التكوينية أن الله عز وجل إذا أنزل نعمة على أهل الأرض فانه سبحانه أكرم من أن يرفعها، وقد يحجب سوء فعل الناس الإنتفاع منها مدة من الزمان، ولكنها تبقى قريبة منهم، وجاءت هذه الآية لتوكيد نعمة نزول الكتاب، وهذه النعمة متعددة من وجوه:
الأول: نعمة نزول القرآن.
الثاني: نعمة نزول التوراة على موسى عليه السلام.
الثالث: نعمة نزول الإنجيل على عيسى عليه السلام.
الرابع: كل كتاب نزل على نبي من الأنبياء السابقين نعمة عليه وعلى أتباعه وعلى المسلمين، وفي هذا التوكيد إقرار بنعمة التنزيل، ومقدمة للتقيد بأحكامها.
التاسعة: الإيمان بالكتب السماوية كلها مناسبة لمعرفة أحوال الأمم السالفة، لذا جاء القرآن بقصص الأنبياء وما لاقوه من الأذى من قومهم، وفيه دعوة للمسلمين للصبر على الإيمان بالتنزيل كله، وعدم الإلتفات إلى الأذى الذي يلاقونه من الكفار وعدم الإلتفات هذا لايعني تركه والغفلة عن آثاره.
لذا جاءت السابقة وهذه بالنهي عن إتخاذهم بطانة لإجتناب أذاهم، وعدم تمكين من لايؤمن بالكتاب كله من أمور وشؤون وأسرار المسلمين من منازل الخاصة والوليجة.
وقال الإمام الرازي: تقدير الكلام : أنكم تؤمنون بكتبهم كلها وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم مع ذلك تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم ، وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم، ونظيره قوله تعالى فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ.
وفيه مسائل:
الأولى: ليس في الآية توبيخ للمسلمين بل هي مدح وشهادة للمسلمين تتضمن الثناء عليهم.
الثانية: لاتدل الآية على أن الكفار أصلب في باطلهم بل تتضمن الآية الإخبار عن ضعفهم من وجوه:
الأول: ثبات المسلمين على الإيمان بالكتاب كله.
الثاني: فضح نفاق الكفار، والتباين بين إدعاء الكفار الإيمان أمام المسلمين، وحقيقة بغضهم للمسلمين.
الثالث: إدعاء الكفار الإسلام أمام المسلمين أمارة على ضعفهم وعجزهم.
الرابع: دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإخبار عن هلاكهم ومغادرتهم الدنيا والغيظ مصاحب لهم.
أما قوله (ونظيره قوله تعالى [فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ] )، فانه على مبناه قياس مع الفارق لوجود الرجاء عند المسلمين، وهو شاهد على أن الآية مدح للمسلمين لأن المسلمين يرجون رحمة الله، وهذا الرجاء ينفي معاني التوبيخ عن المسلمين، وبين عز المسلمين وأنهم يسعون في طلب حقهم، لأن الرجاء من الله نوع سعي، ومقدمة للسعي والتوفيق فيه.
وبعد أن جاءت الآية بخصوص حب المسلمين لغيرهم من أهل الكتاب والكفار، وعدم حب هؤلاء للمسلمين في الجملة بلحاظ وجود أمة من أهل الكتاب تود المسلمين، قال تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى] ( ).
جاء هذا الشطر من الآية بقوله تعالى [وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ] وفي الصلة بينه وبين ما سبق من الآية وجوه:
الأول: ولايحبونكم لأنكم تؤمنون بالكتاب كله، فهذا الإيمان سبب موضوع الإختلاف، وبعث الكره والبغض في نفوسهم للمسلمين.
الثاني: مع أن أهل الملل الأخرى لايحبون المسلمين فان المسلمين يؤمنون بالتنزيل كله لايحيدون عنه.
الثالث: إن جحود أهل الملل الأخرى بالتنزيل كلاً أو بعضاً لن يؤثر على المسلمين في إيمانهم بكل الكتب السماوية، ولن يدخل إلى نفوسهم الشك في التنزيل.
الرابع: في الآية مدح وثناء على المسلمين إذ أن عدم حب غيرهم لهم لم يدفعهم الى الغضب ولم يجعلهم يتركون إيمانهم بكل الكتب السماوية.
الخامس: في الآية تنزيه للمسلمين، وإخبار عن إنتفاء الغفلة والجهل عنهم.
السادس: عدم التعارض بين إيمان المسلمين بالكتاب كله وبين حبهم للناس، بل أن حبهم للناس رشحة من رشحات الإيمان بالتنزيل والكتب السماوية كلها والجمع بين إيمان بالكتاب كله وحب الناس أمارة على عدم تضمن الآية للذم والتوبيخ للمسلمين بسبب حبهم للناس.
السابع: إن حب المسلمين للناس جميعاً لم يضر في إيمانهم بالتنزيل وجميع الكتب السماوية، وتلك آية إعجازية في فضل الله عز وجل على المسلمين ببلوغ مراتب رسوخ الإيمان في نفوسهم,
الثامن: حب المسلمين للناس وسيلة لجذبهم إلى منازل الإيمان بالقرآن والكتب السماوية الأخرى، لأن المسلمين مقيمون على الإيمان بالكتب كلها، وفيه دعوة للناس للحوق بهم.
التاسع: تبعث الآية في نفوس المسلمين السكينة والرضا لحسن إختيارهم الإيمان بالكتب السماوية كلها.
العاشر: الإيمان بالكتب السماوية كلها أمانة سماوية، قام المسلمون بحملها، وجاءت الآية لحث المسلمين لتعاهد وحفظ هذه الأمانة، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] ( ).
الحادي عشر: الآية حرز لزمان العولمة وتداخل الأمم والشعوب، وتقارب البدان، والتأثير المتبادل لوسائل الإعلام، فجاءت هذه الآية برزخاً دون تأثير بغض طوائف من غير المسلمين للمسلمين على إيمانهم بالكتاب كله.
ليبقى هذا الإيمان قانوناً ثابتاً لايجوز التفريط به أبداً، ومن مصاديق هذا الإيمان التصديق بكل آية من آيات القرآن وهو من أسرار مجئ الآية بلفظ (الكتاب) بصيغة المفرد، وتقديره: وتؤمنون بالقرآن كله.
وقد يأتي زمان يقول بعض الذين كفروا بإسقاط بعض آيات القرآن كشرط للصلح أو الإتحاد ونحوه، فجاءت هذه الآية سلاحاً وحرزاً متقدماً وأمراً إنحلالياً موجهاً إلى أجيال المسلمين كلها بوجوب عدم إسقاط كلمة واحدة من القرآن، وفيه بعث لليأس والقنوط في نفوس الكفار.
وجاء لفظ (لايحبونكم) في المقام للإخبار بأن تصديقكم وتسليمكم بنزول القرآن كله لن يكون سبباً لكره وبغض الكفار لكم، بل إنهم يبغضونكم في الأصل لإسلامكم.
وجاءت الآية لكي لايخاف المسلمون مما يتوعد به الكفار من العقوبات، أو الحرمان من منافع دنيوية صناعية وتجارية ومالية، فان العز والرزق والجاه مع الإيمان بالكتاب كله.
الثاني عشر: الإيمان بالكتاب كله فرع الإسلام، فمن شرائط الإسلام التسليم بالتنزيل، وهو من وجوه تفضيل المسلمين وكونهم خير أمة أخرجت للناس لأن الإسلام شريعة متكاملة.
الثالث عشر: الإيمان بكل الكتب السماوية مصداق للحكمة والمنزلة الرفيعة من العلم التي بلغها المسلمون، مما يؤدي بالكافرين إلى حسد المسلمين، قال تعالى [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] ( ).
قانون ” الإيمان بالكتاب كله”
لقد أنزل الله عز وجل آدم وحواء إلى الأرض ليعبداه هما والأجيال المتعاقبة من ذريتهما، وهذه الكثرة من الذرية لايعلمها إلا الله عز وجل وهي من علم الغيب، فلا يتصور أحد أن ذرية آدم تكثر وتزداد لتملأ أقطار الأرض، ولكنه فضل الله عز وجل على الناس، وليؤدوا وظائف الخلافة في الأرض وهي عبادة الله عز وجل.
وكانت الكتب السماوية صلة سماوية وحبلاً نازلاً من عندالله على الأنبياء على نحو الخصوص لتتغشى منافعها الناس جميعاً، فيستنيروا بضيائها ويمتثلوا لما فيها من الأوامر والنواهي.
ومن اللطف الإلهي، وأسرار خلافة الإنسان في الأرض أن نزول الكتب السماوية بدأ مع آدم عليه السلام وأختتم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل على نوع ملازمة بين النبوة والتنزيل، ومن الآيات إختصاص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمور منها:
الأول: النبي محمد سيد الأنبياء والمرسلين.
الثاني: بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حفظت النبوات السابقة.
الثالث: مجئ القرآن جامعاً للأحكام الشرعية، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ] ( ).
وفيه آية إعجازية وإشارة سماوية تدل على أن ما في الكتب السابقة موجود في القرآن، فقد جاء قوله تعالى [أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ] ويفيد الألف واللام العهد والإطلاق والمراد القرآن، وجاء ذكر الكتب السابقة من التوراة والإنجيل وغيرها بلفظ (من الكتاب) مما يدل على إفادة التبعيض وأن تلك الكتب جزء وشطر من الكتاب بينما يكون القرآن الكتاب كله.
ثم جاء وصف القرآن بأنه مهيمناً على الكتب السابقة أي أميناً وشاهداً عليها بالحق ليكون المدار في صدقها بما يكون موافقاً للقرآن، وجاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية [وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ] وفيه وجوه:
الأول: المراد الأمر الإلهي إلى المسلمين بأن يؤمنوا بالكتب السماوية كلها.
الثاني: الأمر الإلهي الى المسلمين بإستدامة إيمانهم بالكتب السماوية كلها، والنهي عن جعل عدم إيمان أهل الكتاب بنزول القرآن سبباً لجحودهم بالتوراة والإنجيل.
الثالث: مدح المسلمين لأنهم يؤمنون بالكتاب كله.
الرابع: بلوغ المسلمين أعلى مراتب الإيمان ومنه التصديق بالكتب السماوية كلها.
ولاتعارض بين هذه الوجوه، وفيها شهادة على جهاد المسلمين من باب الإيمان بالتنزيل، وصبرهم، وتحملهم الأذى والتعدي من الذين يجحدون بنزول القرآن مع أنه مهيمن على الكتب السابقة وحافظ لها ومؤتمن عليها.
لقد أراد الله عز وجل للناس الإيمان فأنزل الكتب السماوية على الأنبياء ليقوموا بتدوينها وكتابتها وتكون دليلاً وإماماً للناس في العبادات والمعاملات والأحكام، وتتصف الكتب السماوية بأنها جميعاً نازلة من عندالله عز وجل، مما يجب على الناس، إذ ينقسم الناس فيه إلى أقسام:
الأول: الذين يؤمنون بجميع ما أنزل الله على الأنبياء.
الثاني: الذين يؤمنون بشطر من التنزيل وهم أهل الكتاب.
الثالث: الكفار الذين يؤمنون بالتنزيل وهم على شعبتين:
الأولى: الذين يقولون إن الله عز وجل حكيم لايجعل واسطة من الأنبياء بينه وبين خلقه.
الثانية: المشركون الذين يجحدون بالنبوة والتنزيل.
وتدل هذه الآية على أن الله عز وجل لن يرضى من الناس إلا الإيمان بالتنزيل على نحو العموم الإستغراقي، ولايشترط هذ الإيمان معرفة أسماء ومضامين وتفاصيل أحكام الكتب السماوية السابقة، فيكفي الإيمان بها، وما ورد بخصوصها في القرآن.
نعم لابد من الإيمان بآيات وسور القرآن، والتي تتضمن الشهادة والتصديق بالكتب السماوية وجاء القرآن بالخطاب الإلهي إلى أهل الكتاب للإيمان والتصديق به، قال تعالى [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ].
كما قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ والدعوة للتصديق بالقرآن، ومن الإعجاز في التنزيل أن يأتي النبي ليصدق ما أنزل قبله، ويبشر بما ينزل من بعده، كما في عيسى عليه السلام، وهو رسول نبي إذ أخبر عن تصديقه بالتوراة ، وبشارته بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم [إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ).
وفيه شاهد على تعاهد الأنبياء للتنزيل ووحدة سنخيته، ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الأنبياء السابقين بشروا بنبوته وليس من نبي من بعده، ليحمل هو وأمته لواء الإيمان بالكتب السماوية كلها إلى يوم القيامة، وتكون بشارة عيسى عليه السلام والأنبياء الآخرين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهداً من الملل السماوية السابقة على لزوم الإيمان بالكتاب كله.
ومن الإعجاز والدلالات في الآية أعلاه أن تصديق عيسى عليه السلام بالتوراة إشارة إلى النبوات والكتب السماوية السابقة، أما بالنسبة للبشارة فجاءت بذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإسمه الشريف وفيه دعوة لبني إسرائيل عامة والنصارى للتصديق بما يأتي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عندالله عز وجل من القرآن والسنة.
قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا]
تبين الآية حصول اللقاء والإختلاط بين المسلمين وأهل الملل الأخرى، وهو ظاهر في أخبار أيام التنزيل ووجود اليهود في المدينة وكذا المشركين من قريش وغيرهم، والمعاملة اليومية معهم في السوق وغيره.
وتدل الآية على أن موضوعية موضوع الإيمان في لقاءات المسلمين مع غيرهم، إذ أن موضوع اللقاء على وجوه:
الأول: الإيمان هو موضوع اللقاء.
الثاني: بذل المسلمين الوسع حين اللقاء لجذب الناس للإيمان.
الثالث: إثارة الكفار للشك وأسباب الريب عند لقائهم المسلمين.
الرابع: غلبة روح المغالطة والشك الذي يصدر عن الكفار.
الخامس: الإعراض عن موضوع الإيمان، وإعطاء الأولوية للنسب والرحم والجوار والحلف ونحوه.
السادس: الإهتمام بالتجارة والمكاسب، والإنقطاع الى أسباب المعاشرة.
السابع: الإنشغال بأمور الدنيا وزينتها.
الثامن: العناية بأخبار الأنبياء السابقين وقصص الأمم السالفة على نحو الخصوص.
التاسع: عدم وجود موضوع للحوار.
والصحيح هو الأول والثاني إذ تظهر الآية عز وغلبة المسلمين في المجالس والمنتديات، وأن الموضوعية في الحديث للإيمان، لقد أصبحت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الشغل الشاغل للناس يتناولون أخبار التنزيل والنبوة، وما فيها من المعجزات والشواهد التي تدل على صدق التنزيل.
وتلك آية لم يشهدها عالم النبوة إختص الله عزوجل بها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، فقد كان كثير من الأنبياء يلاقون وأصحابهم العذاب والأذى من قولهم، ويمنعونهم من البيان وإظهار الحجة، نعم قد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون الأذى من قريش وغيرهم إلا أن هذه الآية تبين غلبة المسلمين في الميادين الإجتماعية، وهذه الغلبة بالحجة والبرهان.
لقد جاءت الآية بصيغة الجمع في طرفيها المسلمين والطرف الآخر من أهل الملل الأخرى، وفيه وجوه:
الأول: اللقاء بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونفر من
أصحابه وبين جماعة من أهل الكتاب والمشركين.
الثاني: اللقاء بين جماعة من الصحابة وغيرهم من أهل الملل الأخرى.
الثالث: اللقاء بين عدد من المسلمين مع غيرهم من أهل الملل الأخرى.
الرابع: المقابلة بين أحد المسلمين مع جماعة من أهل الكتاب أو الكفار.
الخامس: مقابلة الجماعة من المسلمين مع فرد واحد من غيرهم.
السادس: اللقاء الشخصي الذي يكون بين فرد من المسلمين وآخر من أهل الكتاب او الكفار.
وهذه الوجوه كلها من مصاديق الآية الكريمة وفيه إعجاز يدل على تفقه المسلمين في الدين وثباتهم في منازل الإيمان، وعجز الكفار عن النيل من الإسلام في حضرتهم، ومع ان كلام هؤلاء رياء ومخادعة إلا أنه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإضطرار أعداء الإسلام للإقرار بنبوته ظاهراً.
فجاءت الآية لأمور:
الأول: بيان حقيقة واقعة، وتوثيق حال اللقاء بين المسلمين وغيرهم.
الثاني: دعوة المسلمين إلى عدم النفرة من هذا اللقاء.
الثالث: منع المسلمين من الإغترار بإدعاء غيرهم الإيمان، فالمدار في التصديق بالنبوة على النطق بالشهادتين لأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس كافة، وليس من برزخ ووسط بين الإيمان والكفر.
الرابع: إحتراز المسلمين من الإدعاء الكاذب في باب الإيمان وغيره.
الخامس: عدم ركون وميل المسلمين لمن يدعي الإيمان من غيرهم.
السادس: طرد الشك والتردد في النهي عن إتخاذ بطانة وخاصة من غير المسلمين، فقد يكون قول فريق منهم آمنا بقصد النفاذ إلى منازل الخاصة والبطانة عند المسلمين والإضرار بهم من بينهم قال تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ…..] ( ).
فجاءت هذه الآية لتهيئة مقدمات إمتثال المسلمين لما في الآية السابقة من النهي، ويدل على هذا المعنى مجيء هذا الشطر من الآية ضمن بيان علة النهي عن إتخاذ الكفار بطانة وبيان القبح في فعلهم والذي يجعلهم غير صالحين لمراتب البطانة.
ومن الآيات مجيء عدم حبهم للمسلمين في الآية الكريمة قبل الإخبار عن قولهم آمنا، لكي يتوقى المسلمون منهم، ولا ينخدعوا بإدعائهم الإيمان، وإذا كانوا يحبون المسلمين إذاً لماذا يعضون عليهم الأنامل من الغيظ، وإذا كانوا مؤمنين بما أنزل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلماذا يبغضون المسلمين ولا يحبونهم،خصوصاً وان صلات القربى والرضاع والحلف تربط بينهم وبين المسلمين، فلماذا صاروا يبغضون المسلمين ، مع أن المسلمين حرصوا على البقاء على حال الحب والمودة لهم، ورجاء الخير والإيمان لهم.
وتبين الآية الحرج الذي صار عليه الكفار بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتدل على شيوع المعجزات التي جاء بها وتصديق الناس بها، ودخول الناس في الإسلام جماعات وأفواجاً، وبدل أن يقوم الكفار بتوبيخ إخوانهم الذين دخلوا في الإسلام، فان هؤلاء المسلمين أخذوا يدعون الكفار إلى الإسلام سواء من إخوانهم وأقاربهم أو من غيرهم.
فيدخل المسلم في الإسلام ليخرج في اليوم الثاني في الغزو، وأحياناً لايعلم الجهة التي يخرج إليها، ولكنه مشتاق للجهاد في سبيل الله، ومستعد للتضحية وعاشق للشهادة.
فجاءت هذه الآية لتحذره من قومه وأصحابه في الكفر والضلالة، وتقول له لا تقس هؤلاء بنفسك، فانت آمنت عن إخلاص وحسن نية، وهؤلاء يدعون الإيمان بحضرتك كذباً ومكراً، وتلك آية إعجازية في صيغ الأمان والتوقي عند المسلمين إذ تلازم المسلم أسباب الإحتراز وهذه الأسباب ليست من الوجدان والتجربة.
بل جاءت من عندالله عز وجل في القرآن وهو كتاب السماوي الخالد، كي تطل الآية على كل مسلم وتحذره وتدعوه إلى اليقظة وعدم الوثوق بمن يدعي الإيمان من غير المسلمين ويكون الوجدان والتجربة شاهدين على صدق نزول القرآن من عند الله، وإحاطته باللامحدود من الوقائع والأحداث.
ومن الآيات أن الآية لاتتضمن إتخاذ أي فعل أو عقوبة زاجرة على هذا الإدعاء الكاذب وما ينطوي عليه من النفاق والمخادعة والغش، ومحاولة إستدراج المسلمين إلى منازل الفتنة والإفتتان، بل إكتفت بالإخبار عن ماهية قولهم وكيف أنه كذب وزيف.
ولأن الآية جاءت لتأديب وتعليم المسلمين خاصة، والإنشغال الدائم بتوبيخ وتبكيت الآخرين قد يكون برزخاً دون تأديب الذات والإلتفات إلى صيغ المخادعة الأخرى، فجاءت هذه الآية لتنمية ملكة الحذر والإحتراز عند المسلمين متحدين ومتفرقين.
وفي اللقاء بين المسلم وغيره وجوه:
الأول:إلتقاء المسلم مع غير المسلم وإدعاء هذا الغير الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني: يلتقي المسلم مع غير المسلم الذي لايدعي الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم الإدعاء هذا على شعب:
الأولى: جحود الكافر، وتجاهره بالكفر.
الثانية: الإنشغال بأمور الدنيا والتجارات والزراعات.
الثالثة: لايريد الكافر الإدعاء أمام المسلم الإيمان.
الثالث: يظهر الكافر عند اللقاء بالمسلم العداوة للمسلمين، والإنكار لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن.
وجاءت الآية بالمعنى الأعم لتشمل هؤلاء أيضاً، لوجود أصحاب لهم يدعون الإيمان زوراً بحضرة المسلمين، فيشملهم الحكم جرياً وإنطباقاً لإتحاد السنخية والملة، لأن مثل هذا الإدعاء قد يظهر منهم أيضاً في حالات، وقد يكتفي الكافر بالإنصات للمسلم، وهل هذا الإنصات من مصاديق الآية، ويلحق بإدعاء الإيمان، الجواب لا.
لأن الآية جاءت صريحة بالإخبار عن صدور القول من الكفار بالإيمان، فلا يشمل الإنصات وحده، وهذا الإنصات في حال حصوله قد يكون مقدمة للهداية والإيمان، فقولهم آمنا زوراً وكذباً لبس على أنفسهم وعلى المسلمين، وجاءت هذه الآية لدفع اللبس والوهم عن المسلمين.
ولما جاء قوله تعالى [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ] جاء هذا الشطر من الآية لرحمة المسلمين ومنعهم من الغواية والتصديق بالنفاق والكذب وإدعاء الإيمان زوراً، وهو من اللطف الإلهي بالمسلمين إذ أن الآية واقية من جعل الكفار هذا الحب وسيلة للإضرار بالإسلام والمسلمين.
فمع حب المسلمين لغيرهم من أهل الملل فانهم لايصدقون بإدعائهم الإيمان، مما يعني عدم الركون، والإحتراز من إطلاعهم على الأسرار والأمور الخاصة للمسلمين، وماعندهم من النوايا العامة والخاصة، فمن النوايا ما يتعلق بمصلحة الإسلام وتحقيق الغايات الحميدة التي جاء بها القرآن والسنة، ومنها ما يكون شأناً خاصاً، وأمراً يتعلق بذات المسلم في عمله ومكسبه وأسرته.
فجاءت الآية للإحتراز مطلقاً من جعل غير المسلم بطانة وإن إدعى الإيمان، وليس من أمة من الأمم رزقها الله عز وجل هذا الإحتراز، وجعلها تمتلك القدرة على الفعل والتمييز بين القول الصادق والقول الكاذب، وترتب الأثر على القول، وكأن هناك ملازمة بين عدم الإيمان واقعاً.
وبين زيف إدعائه ظاهراً، إلا أن يراد المعنى الأخص من الآية وأنها جاءت بخصوص قوم من أهل الكتاب والمشركين نهت الآية السابقة عن إستيطانهم، فجاء هذا الشطر من الآية لبيان صفة من صفاتهم، وهي إدعاء الإيمان كذباً للوصول إلى مراتب البطانة والإضرار بالمسلمين من منازلها.
ومن إعجاز الآية أنها تجمع بين:
الأول: الإحتراز.
الثاني: البشارة.
الثالث: البعث على السكينة.
الرابع: الدعوة إلى الإرتقاء في المعارف.
الخامس: الحث على الإجتهاد في السعي في مرضاة الله.
أما الأول وهو الإحتراز فان الآية تنبيه إلى لزوم عدم التصديق بما يقوله الكفار من الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وواقعهم يدل على زيف وكذب قولهم لأنهم أصروا على البقاء في منازل الجحود.
وأما الثاني فأن الآية تتضمن البشارة بإتساع رقعة الإسلام وضعف ووهن الكفار، وعجزهم عن إيجاد الحجة والسبب لبقائهم على الكفر والجحود حتى ولو كانت تلك الحجة من الجدل.
واما الثالث فان المسلمين أصبحوا في مأمن من إستدامة وإتصال تعدي الكفار عليهم إذ أصبح الكفار خائفين عاجزين عن إبطال الآيات ولو بالمغالطة والوهم.
وأما الرابع فان تلاوة الآية بذاتها إرتقاء في المعارف، وتحصيل علمي، كما أنها تحث على التدبر وتبعث على التمييز بين الصدق والكذب في مواضيع الإيمان.
قانون ” إذا لقوكم”
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وإختبار، ومن الآيات في خلق الإنسان إنعدام الإستثناء في مضامين الإمتحان والإختبار فكل إنسان يواجه الإمتحان والمسائل الإبتلائية كل يوم مرات متعددة، نعم هذا الإبتلاء من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب وكيفيات مختلفة ومتباينة، فمع الإيمان يأتي أمران:
الأول: التخفيف من الإبتلاء، وهو على وجوه:
الأول: ماهية وكيفية الإبتلاء.
الثاني: تغير موضوع الإبتلاء.
الثالث: مايبعثه الإيمان في النفس من حسن النظر والإختيار.
الرابع: السلامة في إتباع النبوة والتنزيل.
الخامس: سبل الهداية التي تيسر للمسلم إختيار الصواب.
السادس: الإستضاءة بهدى القرآن والسنة والتقيد بأحكام الشريعة.
السابع: إتخاذ سيرة المسلمين أسوة وسبل رشاد.
الثامن: سلامة القرآن من التحريف والتغيير.
التاسع: إنعدام اللبس والترديد في الأحكام، فالحلال بين، والحرام بين، وحينما جاءت الآية السابقة بموضوع البطانة فانها تضمنت النهي الصريح عن إتخاذ غير المسلم بطانة، وجاء ذكر موضوع البطانة، من عندالله، فضلاً منه تعالى على المسلمين، وللتخفيف عنهم، ومنع تسرب الجهالة والغفلة لهم بخصوص الإختيار.
العاشر: التوفيق إلى مسالك الصبر والتقوى والإستقامة.
الحادي عشر: إمتلاء قلوب المسلمين بالعلم والحكمة.
الثاني عشر: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث عشر: الإنصات للنصح والإستماع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع عشر: التحذير من الذين كفروا وإجتناب توليهم والركون إليهم وإتخاذهم بطانة.
الخامس عشر: إتباع مناهج الصواب والمنطق بالحكمة.
السادس عشر: شيوع الموعظة والإحسان والأخلاق الحميدة بين الناس.
الثاني: الأجر والثواب، إذ أن الإبتلاء في الحياة الدنيا شامل للناس جميعاً، ذكوراً أناثاً ، ولكن الإيمان يجعل إبتلاء المسلم مناسبة للأجر والثواب، لتكون الدنيا بالنسبة له مزرعة للآخرة، يحمل معه منها الزاد والمتاع إلى عالم البرزخ ويوم الحساب لأن الإسلام شرط قبول الأعمال وترتب الثواب عيها.
وجاءت هذه الآية ليحرز المسلمون الثواب بالحذر والحيطة من الذين كفروا، ولا يغتروا بقولهم (آمنا) بل يستمرون بأداء الفرائض وفعل الصالحات وإجتناب إتخاذ الذين كفروا بطانة وخاصة، وتقدير الآية (وإذا لقوكم لم يضروكم في إيمانكم) إذ تدل الآية على إستبانة طريق الحق، وظهور معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وثبات المسلمين على الحق والهدى.
ولم تقل الآية (وإذا لقيتموهم) مما يدل على أن المسلمين ماضون في طريق الإيمان، ويباشرون أعمالهم من غير حرج أو ضيق، وأن الكفار ليسوا معهم دائماً في أعمالهم، ولكن يلاقونهم أحياناً لما تدل عليه أداة الشرط (إذا).
وتدعو الآية المسلمين والمسلمات إلى اليقظة والحيطة عند ملاقاة الكفار وعدم الغفلة عن اللقاء ومواضيعه، إذ تطرد الآية عن المسلمين الغفلة والجهالة، وتمنع من مفاجئة الكفار ولقائهم بهم، وقد ذكر الله عز وجل في القرآن لقمان إذ آتاه الله الحكمة، قال تعالى[وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ] ( ).
وأنعم الله عز وجل على المسلمين فجعل كل آية من آيات القرآن حكمة وموعظة، وهو من مصاديق تسميتها آيات.
وجاءت هذه الآية بالحكمة في الصلات والمعاملات ولزوم الثبات على الإيمان عند اللقاء مع غير المسلمين، ويأتي هذا اللقاء على وجوه:
الأول:حال الحضر وفي السوق والمحلة وأماكن الإجتماع.
الثاني: في حال السفر ومايحصل فيه من الرفقة بين المسلم وغيره إتفاقاً أو عن قصد وعزم من أول السفر كما يدل عليه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ]( ).
الثالث: مناسبة الجدال والإحتجاج، وما فيه من سبب للإجتماع وإنصات الناس.
الرابع: يأتي اللقاء فرعاً للصلات الإجتماعية كصلة القربى والرضا والجوار والعهد.
الخامس: اللقاء حال القتال والحرب.
وتأتي هذه الآية شاملة لكل الميادين لتتضمن الإخبار عن أمور:
الأول:دعوى الذين كفروا الإيمان.
الثاني: زيف وكذب هذه الدعوى.
الثالث: شدة بغض الكفار للمسلمين.
وجاءت الآية بصيغة الجمع في طرفيها، لتؤكد أن المسلمين يلاقون غيرهم كأمة متحدة، تجتمع على الإيمان بدليل أن غيرهم يدعي بمضرتهم الإيمان، فلم تقل الآية، وإذا لاقوا بعضكم.
بل جاءت الآية بقانون يتغشى حالات لقاءات المسلمين بغيرهم، وفيه دلالة على عموم صيغة الإيمان والدعوى إلى الله عند المسلمين جميعاً، وأن الكفار يخشون المسلمين متحدين ومتفرقين، وحتى لو لاقى الجماعة منهم المسلم فانهم يدعون الإيمان بحضرته لإمتلاكه الحجة والبرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وثباته على الإيمان.
وبما أن أحكام الآية القرآنية باقية إلى يوم القيامة ولاتنحصر بأيام التنزيل فان الآية تحذير دائم، وباعث للسكينة في نفوس المسلمين وعدم الخشية من غلبة الكفار وظهور الكفر والجحود، فراية الإسلام هي العالية بحيث يتظاهر الذي يلاقي المسلمين بالإيمان مكراً أو لحاجة في نفسه أو من أجل النفاذ إلى مجتمعات المسلمين والإطلاع على أسرارهم والتأثير في نواياهم وعزائمهم.
فجاءت الآية بالتحذير المطلق والإخبار عن قانون كلي وهو إذا تعارض القول الذي يصدر كذباً ونفاقاً مع ما تخفيه القلوب، فالمدار على ما تخفيه القلوب وما يظهر الإنسان في خلوته من أٍسباب المودة أو الحسد.
وجاءت هذه الآية لبيان زيف قول الكفار آمنا عند لقائهم المسلمين بفضح مايضمرون من الغيظ والكره للمسلمين لأنهم سارعوا إلى التصديق بالحق والتنزيل والنبوة.
فجاء المدد والعون من الله عز وجل للمسلمين ليبقى سلاحاً بأيديهم إلى يوم القيامة، ويكون حرزاً وواقية عند اللقاء، وفي غير مناسبات اللقاء، لما تترشح عنه من قواعد كلية في الأحكام والمعاملات، وفي إدعاء الكفار الإيمان عند لقاء المسلمين حجة عليهم، وزجر عن مواجهتهم المسلمين في سوح ألمعارك، ودعوة لترك العداوة والبغضاء للإسلام والمسلمين.
علم المناسبة
لم يرد لفظ (لقوكم) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، ومن الآيات أن يأتي اللفظ بخصوص المسلمين ومن يلاقيهم من أهل الملل الأخرى ويكون موضوع اللقاء الإيمان والإقرار الظاهري منهم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عندالله.
والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وقد ورد قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ] ( )، مما يدل على وجود إقرار ضمني عند فريق بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد جاءت الآيات بحث المسلمين على الجهاد عند لقاء الكفار قال تعالى [إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ]( )، وفيه إشارة إلى أن الكفار لايقفون عند عض الأنامل على المسلمين، بل إنهم يواجهون المسلمين في ميادين القتال، ولو كانوا آمنوا حقاً لما حاربوا المسلمين، وإعتدوا عليهم وعلى ديارهم، وقد جاءت مادة اللقاء في القرآن بالبشرى للمسلمين، والوعيد للكافرين.
إذ يتأذى المسلمون من لقاء الكفار في حال المسلم وحال الحرب، أما حال المسلم فان الكفار يدّعون الإيمان كذباً وتبدو البغضاء على أفواههم، وأما في حال الحرب فان المسلمين يبذلون الوسع في الجهاد ومنهم من يقتل في سبيل الله، لتأتي الآيات القرآنية بالبشارة بلقاء الله عز وجل والفوز بالجنة والرضوان والأمن والسلامة من أهوال يوم القيامة، قال تعالى [فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ
ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا] ( ).
وجاء الوعيد للكفار عند لقائهم الله عز وجل في الآخرة قال تعالى [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ]( ).
قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا]
إبتدأ هذا الشطر من الآية باسم الشرط (إذا) وكذا الشطر السابق من الآية [وَإِذَا لَقُوكُمْ]، ومن أسرار اسم الشرط في المقام أمور:
الأول: بيان حالتين من حالات الكفار.
الثاني: التباين والتضاد في حال الكفار.
الثالث: يحتمل حال الكفار تعدداً وحصراً وجهين:
الأول: ليس للكفار إلا لقاء المسلمين وقولهم آمنا، أو الخلوة فيما بينهم وعض الأصابع غيظاً على المسلمين.
الثاني: تعدد أحوال الكفار.
والصحيح هو الثاني، فقد جاءت الآية لذكر التضاد والتباين في قول وفعل الكفار بخصوص صلتهم مع المسلمين وهناك حالات بينهما كما في قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ]، وحتى هذه الصلة فيها وجوه أخرى منها اللقاء عند المواجهة، وحصول القتال بين المسلمين والكفار كما في بدر وأحد والخندق.
لقد جاءت الآية الكريمة بعث الحذر في نفوس المسلمين بكشف الغيب فيما يخص ما يقوله ويفعله الكفار في خلوتهم ، وإنفراد بعضهم ببعض لوجوه:
الأول: الإخبار عن زيف قولهم (آمنا) فقد أصبح المسلمون ببركة هذه الآية لا يصدقون بإدعاء الكفار الإيمان.
الثاني: هل ينحصر عدم التصديق بهم بهذا القول أم هو أعم، الجواب هو الثاني إذ تجعل الآية موضوعية للحذر والحيطة منهم كما في باب الوديعة والأمانة والشهادة على الوصية في الحضر.
الثالث: إكرام المسلمين بإخبارهم عن حال عدوهم في غيبته وإبتعاده عنهم.
الرابع: منع الفرقة والخلاف بين المسلمين، فلولا هذه الآية الكريمة لصدق فريق من المسلمين بقول غيرهم (آمنا)، وقالوا نأخذهم على الظاهر، ونقبل اليسير، مع التفاؤل بالخير والمزيد، فجاءت هذه الآية لتجعل المسلمين متحدين يدركون سوء نوايا غيرهم.
الخامس: تمسك المسلمين بالقرآن وآياته، والرجوع اليه في معرفة أحوال الأمم وأهل الملل، وتلقي آياته بالقبول.
فمن خصائص خير أمة تلقي أخبار الكتاب بالتسليم والتصديق وقد فاز بهذه الخصلة المسلمون.
وتبين الآية سراً من أسرار علوم الغيب في القرآن التي تفضل الله عز وجل وأطلع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عليها، ليكون على وجوه:
الأول: إنه ضياء ينير دروب عمل المسلمين.
الثاني: فيه منع من الفرقة فيما بينهم، فمتى ما إطلع المسلمون على أحوال الأمم السابقة فانهم يكونون على حيطة وحذر من كيدهم.
الثالث: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من المسلمين، وخشيتهم من نزول قرآن يفضحهم مرة أخرى ويكشف عما ينوون من السوء والمكر للمسلمين.
الرابع: في هذا الإخبار نفع للإسلام، وتثبيت لمبادئه، وصيانة لأحكام الشريعة.
الخامس: في كشف حال الكفار في خلوتهم رحمة من وجوه:
الأول: إنه رحمة بالمسلمين لأن كشف حال العدو عون على التغلب عليه.
الثاني: فيه دعوة للكفار لدخول الإسلام، لأن كشف حالهم في خلوتهم إعجاز، وشاهد على نزول القرآن من عند الله، خصوصاً وأن الآية تدل بالدلالة الإلتزامية على أن الكفار ينظمون صفوفهم ، وفي حال إحتراز وإصرار على الكفر، وفي منعة وكأنهم واثقون من عدم علم المسلمين بحسدهم وحنقهم وعضهم الأنامل غضباً على الإسلام والمسلمين.
الثالث: يساهم هذا الإخبار بمنع الكفار من السعي لغزو المسلمين والغدر بهم، والعزم على مباغتتهم، لأنه إنذار ومقدمة لكشف مكر الكفار من باب الأولوية القطعية.
الرابع: في الآية دعوة للناس لدخول الإسلام، لأن فضح أعداء الإسلام مقدمة لخسارتهم وهزيمتهم، وسبب لبعث الضعف في صفوفهم.
الخامس: نفرة الناس من الذين كفروا لما في فعلهم من التضاد والتباين، وعدم الإنصات لهم حينما يبدون الشك والريب في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن، لأنهم لم يعلنوا مثل هذا الشك عند لقائهم المسلمين بل يدّعون خلافه.
السادس: إجتناب المسلمين إتخاذ الكفار بطانة وخاصة، لأن من يضمر العداوة لك لايصح إتخاذه خاصة وتقريب مجلسه وإستشارته وإطلاعه على الإسرار.
السابع: كشف حال الكفار في خلوتهم رحمة بهم أنفسهم، فهو مانع من تماديهم في المكر والكيد في الخفاء، فمتى ما أدركوا أن عضهم الأنامل من الغيظ على المسلمين، يعلم به الله وتفضل وأخبر به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فإنهم يترددون في السعي للإضرار بالمسلمين.
الثامن: الآية رحمة بعموم الناس من غير المسلمين، وممن لم يظهر الغضب والغيظ على المسلمين في خلوته، إذ انها تدعوهم بكشف علوم الغيب، وفضح أهل الحسد والضلالة ، وبيان قبح الكفر ، وما يترشح عنه من الحسد وغلبة النفس الغضبية والشهوية.
تدعوهم لدخول الإسلام ونبذ الكفر والشرك، والأمن من الفضح في آيات القرآن.
فمن إعجاز القرآن أن تأتي الآية توبيخاً لقوم وأهل ملة ولكنها تكون زاجراً لهم عن الفعل القبيح، ومانعاً من مواصلة إيذاء المسلمين وإصلاحاً لهم، وهو من عمومات ومصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
فتأتي الرحمة الإلهية للناس في هذه الآية متعددة في جهاتها وفي أفرادها، بمعنى أن كل فرد وأهل ملة ينالون المتعدد من وجوه الرحمة لما فيها من وجوه:
الأول: الدلالة على نزول القرآن من عندالله عز وجل لما في الآية من علم الغيب وتعليم المسلمين سبل الإحتراز والإختيار، وكشف الغيب.
الثاني: تأديب الناس لما فيه خيرهم ونفعهم ووقايتهم من التعدي على المسلمين وتحمل الأوزار والآثام بسببه.
الثالث: كشف علوم الغيب بما فيه نفع المسلمين وغيرهم.
الرابع: تجلي آثار هذه الآية في قول وفعل المسلمين، بالحيطة والحذر من الذين كفروا، وإجتناب جعلهم في منازل الخاصة والبطانة وعدم الإعتذار بقولهم آمنا بحضرة المسلمين.
لقد إتخذ المسلمون هذه الآية سلاحاً في الحالات التالية:
الأولى: لقاء المسلمين مع الذين كفروا.
الثاني: حال إلتقاء المسلمين في المسجد والسوق وغيره بان يعلموا بأن الكافرين يمكرون بهم في خلوتهم وغيبتهم، فاذا كان الكفار يظهرون غيظهم وحنقهم على المسلمين في حال خلوتهم، فان المسلمين يتآزرون ويتحدون في حال خلوتهم لمواجهة هذا الغيظ ببركة هذه الآية وهو من إعجاز هذه الآية ومنافعها المتصلة إلى يوم القيامة.
فجاءت الآية لإخبار المسلمين عن مكر الكفار في خلوتهم ليتأخذ المسلمون حذرهم في خلوتهم ومساجدهم، وما يرومون فعله، ويتدبرون في أمرهم بأن يجعلوا موضوعية للمكر والكيد الذي يأتيهم من غيرهم.
فإذا صدق المسلمون بما يدّعيه الكفار أمامهم من الإيمان فانهم يأنسون جانبهم، ولايخشون منهم، فجاءت هذه الآية ليستعين المسلمون على أعمالهم بالكتمان، ويحذروا من مباغتة وكيد الذين يدّعون بحضرتهم الإيمان، وفيه توفيق للمسلمين في أعمالهم، وبرزخ دون دبيب اليأس والقنوط إلى نفوسهم.
وتؤكد الآية حقيقة وهي أن الكفار يخلون فيما بينهم، ولايتعدى عليهم المسلمون في خلوتهم، ولاينتقمون منهم بسبب إتخاذ الخلوة مناسبة ومقدمة للمكر والإضرار بالمسلمين، فلم تأت هذه الآية لتحريض المسلمين على الكافرين خصوصاً وأن عض الأنامل من الغيظ لا تترتب عليه عقوبة وحد.
مما يدل على حسن خلق المسلمين وأنهم لايؤاخذون عدوهم على نفاقه، والتضاد والتباين بين القول الظاهري، والفعل الخفي، نعم تبعث الآية على الحيطة والحذر وتمنع من التكاسل والتفريط والغفلة.
قانون”خلوة الكفار”
لقد خلق الله عز وجل آدم ونفخ فيه من روحه وخلق حواء وأسكنهما الجنة يتنقلان فيها حيث يشاءان من غير حصر وتقييد بمكان مخصوص قال تعالى [وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا]( ).
ثم تفضل الله عز وجل وأهبطهما الى الأرض ليكون آدم خليفة الأرض، ويدل لفظ الخليفة على التصرف في الأرض، ولأن الخليفة من عند الله عز وجل وفي ملكه فلابد أن تكون الخلافة مقيدة بمرضاة الله عز وجل، وعدم التعدي أو الظلم.
ومن الآيات في الأرض سعتها وكبرها، ففي كل زمان يدرك الناس أنها أكبر من حاجاتهم ورغبائبهم وتمنياتهم وفيه حجة على كل منهم في لزوم عدم الطمع بما في أيدي الآخرين، وحث على إجتناب المعارك والحروب في مسائل قطع الأرض وقد تحصل معركة وتقع خسائر في الأرواح على شبر من الأرض ليعود وما جاوره فيما بعد إلى طرف ثالث غير الذين إقتتلوا عليه سواء تكون تلك العودة بالوراثة أو الإستحواذ أو الهبة أو مطلق العقود والإيقاعات.
وقد تصبح الأرض مواتاً لاينتفع منها أحد، في دلالة على عائدية ملك السماوات والأرض إلى الله عز وجل، وهل يحتمل أن يتكاثر بنو آدم بحيث تضيق بهم الأرض ويضطرون للبناء العمودي على نحو الحصر الجواب لا.
وتلك آية في بديع صنع الله، وعظيم كرمه وإحسانه على الأجيال المتعاقبة من الناس، ومن الحجج في المقام حدود عرفة ومزدلفة والمطاف في البيت الحرام إذ تجتمع الملايين من الحجاج من جميع أصقاع الأرض في بقعة صغيرة محصورة ، ومن غير أن يشكوا الضيق والحرج لإنقطاعهم إلى الله عز وجل بالتمسك والعبادة، فإلى جانب سعة الأرض هناك البركة التي ينعم الله عز وجل بها على الناس فيها، لذا فان الفرد والجماعة يعيشون في خلوة بعيداً عن الآخرين، وهو من فضل الله عز وجل على الناس، وجزء من مضامين الإمتحان والإبتلاء في الحياة الدنيا.
ومن الآيات أن الله عز وجل لم يترك الإنسان يفعل في خلوته ما يحلو له، بل بعث الله الأنبياء، وأنزل الكتب من السماء وفيها أحكام الحلال والحرام الشاملة لعالم الأقوال والأفعال في حال الإجتماع والإنفراد لتكون هذه الأحكام رحمة بالناس جميعاً، وهادياً الى سبل الصلاح.
وجاءت هذه الآية لتدل بالدلالة التضمنية على ذم الذين كفروا بسبب إتخاذهم الخلوة مناسبة لإظهار البغض الشديد للمسلمين لا لشئ إلا أن المسلمين إختاروا سبل النجاة، ويسعون جاهدين لإصلاح الناس وجذبهم إلى منازل العبادة التي هي علة خلقهم ووجودهم المؤقت في الأرض قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( ),
فجاءت الآية الكريمة لتهذيب الأخلاق والسلوك في عالم الخلوة، وعند إطمئنان الفرد أو الجماعة لعدم وجود من يطلع عليهم ويسمع كلامهم ويعلم بنواياهم وغاياتهم، لأن الله عز وجل هو (السميع العليم) الذي أحاط علماً بكل شئ، ولاتخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
فجاءت هذه الآية مصداقاً وشاهداً على علم الله عز وجل وبرهاناً للمسلمين وحجة على الكافرين، ودعوة للكفار للتوبة والإنابة والكف عن إتخاذ الخلوة مناسبة للعزم على الإضرار بالمسلمين، وتدبير المكائد لهم.
ولتكون هذه الآية مصاحبة للكفار في خلوتهم، فان قلت إن الآية خطاب للمسلمين، فكيف تكون مصاحبة للكفار، والجواب لقد أرسل الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً للناس جميعاً وهادياً إلى سبل الهدى والرشاد.
ومن الآيات أن تصل مضامين الآيات إلى الناس جميعاً مسلمين وأهل كتاب وكفار في حجة على الناس ودعوة لهم للهداية، وقد أنعم الله عز وجل على الناس في المقام من وجوه:
الأول: سلامة القرآن من التحريف.
الثاني: تلاوة المسلمين للقرآن في الصلاة وغيرها.
الثالث: إحتراز المسلمين من الكفار نتيجة هذه الآيات وما فيها من الكشف والإنذار.
فحينما يقول الكفار للمسلمين (آمنا) يرون أن المسلمين لايصدقون بقولهم، فيستغربون من الأمر، خصوصاً وأن عدم التصديق لقولهم عام ويتغشى المسلمين جميعاً ومنهم أقرباء وأصدقاء للمسلمين، ويدركون وجود أمر شامل لهم، وتوجيه وتعليم للمسلمين جميعاً مع إمتثالهم له، فتارة يأتي التعليم ولاينتفع منه أحد، أو ينتفع القليل أو الكثير ولكن يأخذ العدد بالنقصان.
أما التعليم والإرشاد الذي جاء به القرآن فقد أخذ به المسلمون جميعاً، وإحترزوا من الكفار في موضوع البطانة وغيرها، وعلموا أن قول الكفار (آمنا) ليس إلا نفاقاً ورياء مع وجود حجة ظاهرة في البين وهي لو كانوا آمنوا لنطقوا بالشهادتين وجاءوا بالفرائض والعبادات لينطبق عليهم اسم الذين آمنوا ويتوجه لهم الخطاب بالتحذير من الذين كفروا وما يضمرون من العداوة للمسلمين.
وجاء الكشف والفضح في هذه الآية وحسن إمتثال وتقيد المسلمين بمضامينها حجة على الكفار، وترغيباً لهم بدخول الإسلام، وكأن هذه
الآية تجعل المسلمين حاضرين معهم في خلوتهم، يرونهم كيف يعضون أصابعهم من الغضب على المسلمين ويتحينون الفرص للإنقضاض على المسلمين، ويرجون الخبال والفساد بين صفوفهم كما ورد قوله تعالى في ذم الأعراب [وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْء]( ).
وتبين الآية القبح الذاتي والعرضي لخلوة الكفار، وتحذرهم من هذه الخلوة، ومايترشح عنها من السوء، وتخبرهم بأن الله عز وجل معهم يعلم مايمكرون ويخبر به المسلمين رحمة بالناس كافة، وكأن الآية تقول: إذا خلو فان الله معهم ويطلعكم على مكرهم في خلوتهم.
علم المناسبة
ورد لفظ خلوا سبع مرات ولفظ (خلا) مرتين في القرآن، وجاءت ثلاثة منها بخصوص موضوع خلوة الكفار، ويدل الجمع بينها على آية إعجازية في نظم آيات القرآن، وتفسير بعضها بعضاً وهي:
الأولى: الآية الكريمة محل البحث [وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ].
الثانية: قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] ( ).
الثالثة: قوله تعالى [إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ]( ).
وبين الآيات الثلاثة عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: لقاء المسلمين بالكفار في حال السلم سواء في الحضر أو السفر، وتدل الآيات في ظاهرها على حال الحضر ويلحق به السفر أيضاً لوحدة الموضوع في تنقيح الناط.
الثاني: إقرار الكفار عند اللقاء بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عندالله عز وجل.
الثالث: مجئ القرآن بصيغة الجمع من طرف المؤمنين ومن طرف الكفار.
الرابع: ورود الآيات بصيغة اللقاء (لقوا) وصيغة الخلوة (خلوا) (خلا)، أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول: جاءت هذه الآية بذكر عض الكفار لأناملهم من الغيظ على المسلمين.
الثاني: ذكرت آية منها حصول الخلوة بين الكفار بعضهم مع بعض ( ).
الثالث: ذكرت آية خلوتهم إلى شياطينهم( ).
فحينما يخلو الكفار والمنافقون بعضهم ببعض فإنهم مرة يظهرون الغضب على المسلمين، وأخرى يلوم أحدهم الآخر على إخبار المسلمين بما في الكتب السابقة من البشارت بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأخرى يخلون بكبرائهم ورؤسائهم ليعلنوا لهم البقاء على ملتهم، والحرص على إتباعهم وطاعتهم.
ولايمنع من إجتماع هذه الحالات في خلوة واحدة إذ يلتقي الكفار مع كبرائهم فيعظون على الأصابع من الغضب على المسلمين، ويقولون لكبرائهم إنا معكم فيتوجه لهم الكبراء باللوم لكشفهم الأسرار والإخبار عما في الكتب السابقة.
وهل هذا الكشف وإعلام بعضهم البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عمومات قولهم [آمَنَّا]، الجواب إنه من الأمارات والشواهد على قول (آمنا) إذ يحمل الكلام العربي على ظاهره، ولاينصرف إلى خلاف الظاهر إلا مع القرينة الصارفة، فمعنى قولهم (آمنا) هو صدقنا بما أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويبين قوله تعالى [إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] أن قولهم (آمنا) كذب وزور وليس حقاً، فتفضل الله عز وجل وفضحهم في القرآن ليكون هذا الفضح إخباراً للناس في الدنيا، ومقدمة لفضحهم يوم القيامة في مواطن الحساب أمام الناس والملائكة.
قوله تعالى [عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ]
يتعلق هذا الشطر من الآية بخلوة الكفار وفيما بينهم، فحينما يلتقون مع المسلمين لم يظهروا الغضب والحنق عليهم، ولم يسكتوا بل يعلنون أمام المسلمين تصديقهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن إعجاز القرآن وصدق نزوله من عندالله أن إعلانهم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمام المسلمين لم يترك على حاله وما فيه من إستبشار المسلمين بهذا القول على ظاهره.
بل جاءت هذه لآية لتوكيد كذب وزور هذا القول وان كان في هذا التوكيد ألم عند المسلمين لأنهم يرغبون أن يعلن الناس تصديقهم بنزول القرآن من عندالله.
لكن الآية جاءت بإظهار الحقائق، وكشف خفايا الأمور، ومايجري بين الكفار في خلوتهم، لأن ما يصدر عنهم من الأفعال يترشح عما بحدث في خلوتهم وليس عما يجري على ألسنتهم بحضرة المسلمين.
إذ يفيد الجمع بين ما يقولون أمام المسلمين، وبين ما يجري في خلوتهم أموراً:
الأول: أن قولهم آمنا زور ونفاق ورياء.
الثاني: لايزال الكفار أمة وطائفة تستطيع الإلتقاء والخلوة، والحديث فيما بينهم من غير خوف أو وجل وأن المسلمين لايعتدون عليهم في خلوتهم، وفيه شاهد بأن المسلمين لايظلمون غيرهم.
الثالث: جاء عض الأنامل ناقضاً لقولهم (آمنا) وشاهداً على حال النفاق والحسد التي تستولي على نفوس الكفار.
الرابع: ما أن يقول الكفار (آمنا) حتى يستحضر المسلمون سوء فعلهم في خلوتهم وإصرارهم على الإقامة على الكفر والنفاق، وقد جاء في مؤمن آل فرعون أنه كان يخفي إيمانه فكان يدعوهم للإحتراز وإجتناب التعدى على موسى عليه السلام الذي يظهر العبودية لله عز وجل [وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً] ( ).
ولكن مشركي قريش ونحوهم إتفقوا على الكفر والجحود، وليس فيهم من يدعوهم في خلوتهم إلى الحكمة والتدبر في المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكل آية من القرآن معجزة.
كان إيمان أهل البيت والمهاجرين والأنصار معجزة أخرى وشاهداً على صدق النبوة، لأن الكثرة في الإيمان أمارة على عدم التواطئ على الكذب فان قلت ان الكفار أيضاً كثيرون، والجواب إنه قياس مع الفارق، لأن الكفار أصروا على البقاء على ملتهم وأصموا آذانهم عن دعوة الحق، وإمتنعوا عن أداء الفرائض، أما الذين آمنوا فانهم تلقوا الدعوة بالتصديق وبادروا إلى هجران منازل الكفر والدخول في الإسلام وإتيان مافيه من التكاليف طاعة لله عز وجل.
نعم كان كثير من الذين يدخلون الإسلام يسارعون إلى إعلان الإيمان ولايخافون من الكفار، فتأتي هذه الآية لتأمرهم بالحذر منهم وعدم التصديق بما يدّعون إن قالوا لهم آمنوا كما آمنتم وصدقتم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويحتمل عض الأنامل المذكور في الآية الكريمة وجوهاً:
الأول: حمل الكلام على الحقيقة وأن الكفار يعضون أطراف أصابعهم من الغيظ والحسد للمسلمين.
الثاني: الكلام من المجاز والكناية عن إمتلاء نفوس الكفار بالغضب على المسلمين.
الثالث: العنوان الجامع للأمرين الحقيقة والمجاز.
الرابع: إرادة معنى آخر جاء عض الأنامل للإشارة إليه والدلالة عليه كتجاهرهم بذم المسلمين والإساءةإلى الرسول محمدصلى الله عليه وآله وسلم.
والصحيح هو الثالث والرابع، وهو من إعجاز الآية، فجاء عض الأنامل حقيقة وكناية ومجازاً ولو دار كلام القرآن بين الحقيقة والمجاز فالأصل فيه هو الحقيقة وحمل كلام القرآن على ظاهره فلابد أن الكفار عضوا أطراف أصابعهم من الغيظ والحنق على المسلمين، وقيل: وهذا مثل وليس هناك عض كقول الشاعر:
إذا رأوني أطال الله غيظهم
عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم( ).
لقد أراد الله عز وجل إطلاع المسلمين على حال الكفار وبيان سوء حالهم عند الغضب، وعجزهم عن الإضرار بالمسلمين لأن عض الأنامل وسيلة العاجز والضعيف، وهو أيضاً مجاز وكناية عن إمتلاء نفوس الكفار من الغيظ بحيث يظهر على جوارحهم وأفعالهم.
فجاءت الآية بصيغة الأمر الحاصل واقعاً، ولغة المثل من غير تعارض بينهما، وهذه الآية من الشواهد على ما أسسناه في علم البلاغة من وجود قسيم ثالث للحقيقة والمجاز وهو الأمر الجامع لهما، ليدل على الحنق والإرباك والحسد الذي يملأ نفوس الكفار بأن يعضوا أطراف أصابعهم من الغيظ وما فيه من العجز والضعف.
ويأتي إخبار الله عز وجل للمسلمين بموضوع العض هذا ليكون فضحاً وخزياً للكفار في خلوتهم وفي لقائهم مع المسلمين أي أنهم حال اللقاء بالمسلمين يكونون مفضوحين مذمومين للتضاد بين قولهم وفعلهم.
فمن الآيات أن جاء وصف حال الغضب والحسد للمسلمين عندهم بفعل وهو عض الأصابع وفيه نكتة عقائدية وهو أن عض الإنسان لإصبعه لايضر به إلا نفسه، وهو من مصاديق قوله تعالى {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ}.
وتحمل الآية مضامين الإستدامة في الفعل في أيام التنزيل والنبوة، وغضب الكفار على الصحابة الذين صدقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبادروا إلى أداء الفرائض والعبادات بل هي عامة وشاملة لمختلف أفراد الزمان الطولية، وهو من الشواهد على إستدامة حكم الآية القرآنية، وبقائها غضة طرية تكشف عن واقع متجدد ويكون مصداقاً لإعجازها.
ودليلاً على صدق نزولها من عند الله عز وجل، وشاهداً على ما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون الأوائل من الأذى والكيد من الكفار.
وتدل الآية على حقيقة وهي أن الكفار لايظهرون غضبهم وحسدهم للمسلمين بحضرتهم وعند اللقاء معهم، وعدم الإظهار هذا يبعث الوهن والضعف في قلوب الكفار، ويحث المستضعفين والعامة منهم على دخول الإسلام لأنه أمارة على عجز الكفار عن مواجهة الإسلام، وبيان معاني الشك والريب بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وحينما يقولون أمام المسلمين (آمنا) تدرك عاقهم نفاق رؤسائهم.
ومن الآيات في الدعوة الإسلامية أنها لم تتوجه إلى الكبراء والرؤساء خاصة بل جاءت لعموم الناس رجالاً ونساءً، فتشعر العامة بالمسؤولية الشخصية أزاء الدعوة الإسلامية وأن كبراءهم عاجزون عن بيان الحجة والدفاع عنهم في الدنيا فمن باب الأولوية انهم في الآخرة من الخاسرين.
وجاءت الآية لتخبرهم بأنكم تعضون أناملكم في الدنيا بغضاً وغضباً على المسلمين، ولكنكم ستعضونها يوم القيامة ندماً وأسفاً على بقائكم في منازل الكفر والجحود، وسيكون هذا العض على نحو الحقيقة بحيث تراه الملائكة والأشهاد، قال تعالى [وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً] ( ).
وجاءت الآية بصيغة الجمع وهذا لا يعني حصر عض الأنامل بكبراء الكفار بل هو عام وشامل للكفار لأصالة العموم فالعامة تتبع الخاصة في الحنق والغضب على المسلمين، وقد يصدر من العامة من الأذى والتعدي أكثر مما يصدر من الخاصة، خصوصاً وان عض الأنامل يدل على الحمق وغلبة النفس الغضبية.
ترى لماذا يعض الكفار أناملهم الجواب جاءت الآية بالإخبار عن سبب هذا العض، وهو الغيظ والحنق والغضب على المسلمين، فلم تقل الآية “عضوا الأنامل من الغيظ” لأنه يحتمل حينئذ أن يكون لأسباب أخرى خاصة أو عامة.
بل قيدت موضوع العض بأنه على المسلمين الذين جاءت هذه الآية خطاباً لهم إذ ذكرتهم وأثنت عليهم الآية السابقة بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
ويأتي عض الأنامل لوجوه:
الأول: دخول المسلمين الإسلام.
الثاني: إتيان المسلمين الفرائض والعبادات لما فيه من إظهار الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتسليم بما جاء به من عند الله عز وجل.
ومن الآيات في الإسلام وجوب أداء الصلاة خمس مرات في اليوم، وإستحباب أدائها جماعة في المساجد مما يبعث النفرة في قلوب الكفار.
وينقطع المسلمون في الصلاة الى الله عز وجل، ويتلون آيات القرآن ويقومون بالركوع والسجود طاعة لله عز وجل، والكفار يمكرون بهم في الخفاء.
فجاءت هذه الآية عوناً للمسلمين وكأنها من الجزاء العاجل على أداء الصلاة، وطرداً للغفلة عن المسلمين، قال تعالى [وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا]( ).
الثالث: ثبات الإيمان في نفوس المسلمين.
الرابع: عدم إلتفات المسلمين إلى صيغ الجدل والشك والريب التي يثيرها الكفار، مما يزيد الكفار حنقاً وغيظاً.
الخامس: يعضون أصابعهم لمنع عامتهم من دخول الإسلام خصوصاً مع حدوث شواهد يومية كثيرة بدخول أفراد وجماعات منهم الإسلام.
السادس: حنق وغيظ الكفار لدخول أصابهم الإسلام، ومنهم من كبرائهم ورجالاتهم.
السابع: يعضون أصابعهم لعجزهم عن المكر والكيد بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما لو أظهروا الندامة والأسى لأنهم لم يتخلصوا من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صباه، ولم يقتلوه في بداية البعثة النبوية، ولم يستطيعوا منعه من الهجرة.
الثامن: لقد سفّه المسلمون عقيدة ومبدأ الكفار وفضحوا ماعليه الكفار من الجهل والغفلة بالبقاء على الشرك والضلالة وعبادة الأصنام والأخلاق المذمومة.
التاسع: إتباع ونصرة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
العاشر: صدق إيمان المسلمين، وطاعتهم لله ورسوله.
الحادي عشر: ظهور المسلمين بمظهر الأخوة الإيمانية فالذين كانت بين قبائلهم خصومات ومعارك ، أصبحوا في الإسلام أخوة يشد بعضهم أزر بعض قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )
الثاني عشر: تمسك المسلمين بالقرآن والسنة، وتعاهدهم للقرآن وجهدهم رجالاً ونساءً ، كباراً وصغاراً في حفظه وسلامته من التحريف.
الثالث عشر: ضبط المسلمين لأدائهم العبادات إقتداء وإتباعاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحرصهم على عدم التفريط ببعض أحكامها سواء من الواجبات أو المستحبات، مما يبعث الفزع واليأس في قلوب الكفار فيقومون بعض أصابعهم.
الرابع عشر: خسارة الكفار لإخوانهم وأصحابهم الذين دخلوا الإسلام وأعرضوا هم وذراريهم وإلى الأبد عن ملة الكفر ومفاهيم الضلالة والشرك.
الخامس عشر: قيام المسلمين بالقتال دفاعاً عن الإسلام، فلم تمر سنتان على هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى خرج المهاجرون والأنصار مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمعركة بدر وإستطاع المسلمون تحقيق النصر والظفر بها، وخسر المشركون أفضل رجالهم، مما يجعل الكفار والمشركين في حال من الحسرة والغضب لما لحق بهم من الخسارة.
السادس عشر: قوة ومنعة المسلمين، وعجز الكفار عن النفاذ إليهم والتأثير عليهم، بدلالة هذه الآية والآية السابقة وما فيهما من النهي عن بلوغ الكفار لمراتب البطانة والخاصة للمسلمين.
السابع عشر: يخشى المسلمون الله عز وجل في السر والعلانية قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ] ( )، وتغيض هذه التقوى الكفار لأنها تدل على عدم حصول إرتداد بين المسلمين، وعدم إمكان إنصاتهم لصيغ الشك والمغالطة التي يثيرها الكفار.
الثامن عشر: يتصف المسلمون بالصبر على الطاعة، والصبر عند المعصية والصبر عن المعاصي، ويتلقون الأذى من الكفار وهم يرجون الأجر والثواب من عند الله عز وجل.
التاسع عشر: إنعدام الفرقة والتشتت بين المسلمين، وإمتناعهم عن الفتنة والخصومة التي ينفذ منها العدو.
العشرون: المسلمون في حذر دائم، وفطنة متصلة، وهم على أهبة الإستعداد للدفاع عن مبادئ الإسلام وعن أنفسهم وأموالهم، فيملأ نفوس الكفار الغيظ لعدم إمكان مباغتة المسلمين في الليل أو النهار.
الحادي والعشرون: يتوجه الخطاب التكليفي بالدعوة الى الإسلام الى الناس جميعاً، لأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً، وعموم الدعوة سبب لإنتماء الناس من جميع الملل والنحل الى الإسلام وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله.
الثاني والعشرون: يمتنع المسلمون عن إتخاذ غيرهم أولياء وخاصة، وجاءت الآية السابقة بالنهي عن البطانة، فبادر المسلمون إلى الإمتثال لما فيها من النهي، فيكون هذا الإمتثال والمبادرة السريعة له سبباً في غضب وحنق الكفار، فيبادرون إلى عض أصابعهم، وإذ ان إمتثال المسلمين دائم ومستديم فان حال الحسرة وعض الأصابع مستمر عند الكفار.
الثالث والعشرون: يحرص المسلمون على عدم إفشاء الأخبار التي يجلب إفشاؤها الضرر ويفتح ثغرة للعدو.
وفي قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ] ( ). قال عطا سمعت جابر بن عبد الله يقول : إن أبا سفيان خرج من مكة ، فأتى جبرائيل عليه السلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا ، فاخرجوا إليه واكتموا . قال : فكتب إليه رجل من المنافقين : إن محمداً يريدكم فخذوا حذركم ، فأنزل الله هذه الآية . وقال السدي : كانوا يسمعون الشئ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فيفشونه حتى يبلغ المشركين( ).
وذكر سبب آخر للنزول وانها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري عند محاصرة المسلمين على سارية من سواري المسجد الى ان جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحلّه بيده الكريمة، ليكون شاهداً على إلتفات المسلمين إلى لزوم عدم الخيانة وإفشاء الأسرار.
الرابع والعشرون: من خصائص المسلمين إنقطاعهم إلى ذكر الله عز وجل وعدم إنشغالهم بمباهج الدنيا، ولا بالأولاد والأهل عن الذكر والصلاة في أوقاتها، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ]( )، ويبعث الإنقطاع الى الله تعالى الغضب والحسد في نفوس الكافرين لأنهم يريدون للناس الإهتمام بأمور الدنيا وزينتها.
الخامس والعشرون: ينفق المسلمون من أموالهم في سبيل الله فيكون فيها النماء والبركة، ويساعد بعضهم بعضاً، بما يثبت الإيمان في النفوس وينمي ملكة التوقي والحذر من الكفار وإغوائهم، أما الكفار فانهم ينفقون أموالهم في المعاصي ومحاربة الإسلام فتكون وبالاً وحسرة عليهم في النشأتين قال تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ] ( ).
السادس والعشرون: تقيد المسلمين بأحكام الشريعة في باب المعاملات والعقود، وتجلي بركات الإسلام بحسن تنظيم شؤون الأسرة والمسلمين، وعفة النساء وبر الأولاد بآبائهم وأمهاتهم.
السابع والعشرون: يتعاهد المسلمون أحكام الشريعة، ويحرصون على وراثتها لأبنائهم وذراريهم من بعدهم فالصلاة تجب على المكلف عند البلوغ، ولكن المسلمين يبادرون إلى تعليم أولادهم الصلاة في سن الصبا تأديباً، بل ان أولاد المسلمين يتسابقون في سن مبكرة لأداء الصلاة.
ومن الآيات أنه ليس من حد لأسباب غضب وغيظ الكفار على المسلمين، لأن محاسن المسلمين من المتعدد في سنخيته، اللامتناهي في كثرته وكيفيته.
والأصل أن تكون هذه المحاسن باعثاً لإيمان الكفار، وإقرارهم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحاجة الناس الى نبوته في الدنيا والآخرة، ولكن النفس الغضبية غلبت عليهم فأعمت أبصارهم عن التدبر في تلك المحاسن وما فيها من المنافع لهم ولأولادهم وفي أموالهم، وأصروا على الكفر والجحود، ولم يلتفتوا الى ان الإسلام يدعوهم للإنتفاع منها ونبذ الضلالة والشرك.
وهذه الآية شاهد على ان الله عز وجل لطيف بالمسلمين، ويحيطهم علماً بما ينفعهم ويدعوهم إليه، ويما يضرهم فيحذرهم منه، والآية من مصاديق قول الله تعالى للملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، عندما ردوا على الله عز وجل لجعله آدم عليه السلام خليفة في الأرض بقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
إذ تبين هذه الآية عجز الكفار عن الإفساد في الأرض لأن الله عز وجل يمد المسلمين بالعون وأسباب الظفر والغلبة، فما أن يظهر أعداؤهم بغضهم وغضبهم في خلوتهم يفضحهم الله عز وجل، ويدعو المسلمين لأخذ الحذر والحيطة منهم، ويبشر المسلمين بأن الكفار لن يستطيعوا الإضرار بهم.
وتبين الآية ان المفسدين في حال يعجزون معها عن الإفساد، بدليل إنشغالهم بعض أصابعهم، وورد عض الأنامل من غير تعيين لعدده ولكن الآية ذكرت مناسبته وهي خلوة الكفار فيما بينهم مما يدل على مسائل:
الأولى: يعطي الكفار الأولوية والأهمية عند خلوتهم لما عليه المسلمون من العز والغلبة والإتحاد والإئتلاف والصلاح والإخلاص في عبادة الله عز وجل.
الثانية: يتكرر عض الكفار لأناملهم في خلوتهم، مع كثرة عدد المرات التي يخلو فيها بعضهم مع بعض.
الثالثة: إصرار الكفار عند الخلوة على الضلالة والجحود بالآيات والمعجزات، ومنها هذه الآية التي تفضحهم وتكشف سوء سرائرهم، وما في هذا الكشف السماوي من الزجر والتوبيخ، والدعوة إلى التوبة والإنابة، وكما جاء قوله تعالى [َإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا] فكذا هذا الشطر فانه جاء بصيغة الجمع ويحتمل وجوهاً:
الأول: الذي يعض الأصابع نفر قليل من الكفار فيكون من إطلاق الكل وإرادة الجزء، أو أن فعل الجماعة منهم يكون صبغة للجميع.
الثاني: عض الأصابع خاص بالكبراء من بني إسرائيل.
الثالث: الذين يعضون أصابعهم هم أنفسهم الذين يقولون لأصحابهم [أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ]( ).
الرابع: الذي يعض الأصابع جميع الكفار لأصالة الإطلاق وظاهر الآية الكريمة.
الخامس: عض الأصابع خاص بالذين يلاقون المسلمين ويدّعون الإيمان بحضرتهم.
السادس: من الكفار والمنافقين من يعض أصابعه حقيقة ومنهم يعضها مجازاً بإظهار الغضب والبغض للمسلمين.
وبإستثناء الوجه الرابع فلا تعارض بين الوجوه الأخرى، لزوم أخذ الحائطة من الكفار.
ومجئ الآية بصيغة الإطلاق والعموم دعوة سماوية لإجتناب وإستبطان الكفار.
والتحذير منهم في الأعم من البطانة والخاصة، وجاء متعلق محض الأصابع بصيغة الجمع وإرادة المسلمين جميعاً (عضوا عليكم) في تنبيه للمسلمين بأن عض الأصابع ليس على أفراد منهم، بل على المسلمين جميعاً مما يدل على البغض للإسلام ومبادئه.
والعداوة لمن ينتمي له والحسد للمسلمين لأدائهم العبادات وحسن سمتهم وإتحادهم وتعاونهم وظهور أبهى معاني التكامل بينهم بالزكاة والصدقات، والحرص على مفاهيم الأخوة بينهم، لذا فان عض الكفار أصابعهم يتكرر بلحاظ تعدد محاسن المسلمين فاذا إتخذ المسلمون الكفار بطانة فانهم يطلعون على تلك المحاسن، عن قرب ويدفع بهم الحسد إلى السعي للإضرار بالمسلمين.
ولم تقل الآية عضوا الأنامل عليكم، بل قدمت متعلق العض من الجار والمجرور(عليكم) وفيه وجوه:
الأول: تقديم الأهم على المهم في المقام.
الثاني: جاء التقديم لزيادة تحذير المسلمين من الكفار.
الثالث: بيان شدة بغض الكفار للمسلمين.
الرابع: إمتلاء نفوس الكفار بالحسد والغضب على المسلمين بحيث يأتي عض الأنامل نتيجة وأثراً له.
ومن منافع بيان وفضح حال الكفار في الآية وقيامهم بعض أطراف أصابعهم بغضاً للمسلمين توكيد قانون ثابت في الإرادة التكوينية، وهو أن الله عز وجل مع المسلمين، وحافظ لهم بإخبارهم وإطلاعهم على المكر الخفي لعدوهم، ومايضمره لهم من العداوة والبغضاء التي تخرج في الخلوة الخاصة بالكفار، وفيه مدد ونصر وعون للمسلمين.
وإذا ما تاب الكافر فهل يعظ أطراف أصابعه على سوء ما إرتكبه في حال الكفر والضلالة، الجواب لا، لأن الإسلام يجّب ماقبله، وأن الله عز وجل أنعم على الناس ببقاء باب التوبة مفتوحاً إلى يوم القيامة.
لذا لم يرد موضوع عض الأصابع إلا بخصوص الكفار، لتكون هذه الآية دعوة لهم للنجاة والتخلص من عض الأصابع بالتبرأ من الكفر وما يترشح عنه من البغض للمسلمين الذين أنعم الله عز وجل عليهم بالهداية إلى الصراط المستقيم.
وحتى على القول بأن سبب النزول خاص، وأنها جاءت بخصوص عقبة بن أبي معيط وكان يكثر مجالسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقيل أنه إتخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحضر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الضيافة وأبى أن يأكل إلا أن ينطق عقبة بالشهادتين وفيه آية في الدعوة الإسلامية، ووجود موضوع وسلطان لها في النفوس والمجتمعات، فاستجاب له عقبة ونطق بالشهادتين وكان أبّي بن خلف صديقه فعاتيه وقال : صبأت يا عقبة ، قال : لا ولكن آلى أن لا يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له ، والشهادة ليست في نفسي ، فقال أبي : وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه وتبزق في وجهه وتلطم عينه ، فوجده ساجداً في دار الندوة ففعل ذلك .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف ، فقتل يوم بدر، أمر عليا رضي الله عنه بقتله . وقيل قتله عاصم بن ثابت بن أفلح الأنصاري وقال: يا محمد إلى من الصبية ؟ قال : إلى النار، وطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيا بأحد فرجع إلى مكة فمات( ).
وحمل الآية على إرادة جنس الظالمين هو الأولى كما أنه لايتعارض مع القضية الشخصية في سبب النزول.
قانون”عض الأنامل”
لقد جعل الله عز وجل القرآن تبياناً لكل شئ، وسبيل هدى للمسلمين والناس جميعاً، فليس من برزخ بين القرآن والناس، وهو من مصاديق توجه رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً، وفي الأجيال المتعاقبة.
ومن الآيات أنه مع تداخل الحضارات وتقارب البلدان تزداد عناية الناس بالقرآن وإصغاؤهم لآياته الأمر الذي يبعث الغضب في نفوس الذين يصرون على الكفر والجحود، ويزداد حسدهم على المسلمين إذ يرون إنتشار مبادئ الإسلام وزيادة رقعة الدول الإسلامية، وإرتقاء المسلمين في العلوم والمعارف الإلهية.
وتبين الآية قانوناً ثابتاً وهو قيام الكفار بعض أصابعهم وهذا الفعل مذموم لأنه لا يخلو من الإضرار بالنفس بدنياً ونفسياً، لدلالته على إستحواذ الغضب على النفس وما له من الآثار الضارة، وفي الآية مسائل:
الأولى: لم يعض الكفار أناملهم بسبب أمور تتعلق بالمال والأولاد.
الثانية: يظهر الإنسان الندم والحسرة على ما فاته من المنافع، وما أتاه من الأضرار والخسائر، ولكن الكفار لم يعضوا أيديهم إلا بغضاً للمسلمين، مما يدل على أن العداوة مع المسلمين تستولي على نفوسهم وأوهامهم، ومن تكون عداوته لك هي الأولى عنده يجب الحذر والوقاية منه.
الثالثة: لم يأت القرآن بما يخبر بأن المسلمين يعضون أصابعهم في أمور خاصة أو عامة، لأنهم منزهون من إستيلاء الغضب على نفوسهم، وهم راضون بفضل الله عز وجل عليهم، دائبون في طاعته، إذا همهم أمر توجهوا إلى الله تعالى بالدعاء والمسألة، ولأنهم يحبون الخير لكل الناس، نعم يألم المسلمون لحال الكفار وعضهم أناملهم من الغيض مع أن المسلمين يدعونهم إلى الهدى وما فيه نفعهم في الدنيا والآخرة.
فيرجو لهم المسلمون الخير فيعضوا أناملهم عليهم غضباً وحنقاً، والإسلام خير محض، وسلام وأمن في النشأتين.
وتبين الآية سعي المسلمين في دروب إصلاح الناس، وجهادهم في نشر الأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة وجذب الناس إلى منازل الإيمان والتقوى.
مما يدل على أن الإسلام لم ينتشر إلا رحمة للناس، ولنفعهم ودفع الأضرار عنهم ونجاتهم من لهيب وعذاب النار، فيأتي عضهم أصابعهم من الغيظ ليزيد في إثمهم، ويؤكد إصرارهم على إرتكاب المعاصي والذنوب.
وكأن عض الكفار أناملهم رد على إحسان المسلمين لهم، وهذا الإحسان على وجوه:
الأول: مبادرة المسلمين لدخول الإسلام، لإختيار الإسلام أمر مبارك يعود نفعه على صاحبه والناس جميعاً بما فيهم الكفار، لأنه تثبيت لدعائم الدين، وإمتثال لأمر الله عز وجل، ودعوة مستمرة للناس جميعاً لدخول الإسلام، فكل مسلم يدعو الناس إلى الإسلام بإنتمائه له، وغبطة بهذا الإنتماء، ونبذه للكفر والشرك والضلالة.
ويأتي التحذير من الكفار ولزوم إجتناب إتخاذهم بطانة وخاصة رداً كريماً على عضهم أناملهم، وفي هذا الرد رحمة إضافية بهم، ومناسبة لهدايتهم، وترغيب لهم بدخول الإسلام وآية إعجازية تدل على الفضل الإلهي العظيم على المسلمين في صلاحهم، وجهادهم لإصلاح غيرهم مع مواجهة هذا الغير لهم بالحنق والغضب عليهم.
ويبين قانون عض الأنامل خيبة الكفار، وعجزهم عن إقامة الحجة، وفيه توكيد لبطلان أفعالهم ورجوعهم على الذات، وإيذاء النفس ألماً وحسداً، ويدرس هذا القانون على وجوه:
الأول: الجمع بينه وبين قانون (إذا لقوكم) وفيه مسائل:
الأولى: بيان حال الإرباك عند الكفار.
الثانية: إصرارهم على الجحود مع أنهم لم يقولوا (آمنا) بحضرة المسلمين إلا بعد إقامة البرهان والدليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ونزول القرآن عليه من عند الله عز وجل.
الثالثة: ضعف ووهن الكفار، وبلوغهم أشد درجات العجز.
الثاني: أخذ هذا القانون بمفرده وعلى نحو مستقل، وبيان حال الكفار وكيف أنهم يتألمون ويحزنون فيقومون بعض الأنامل وهل يشعر الكفار بسوء فعلهم بعض أصابعهم أم أنهم يغفلون عن إستحواذ الغضب عليه وكأنهم مثل صاحبات يوسف عليه السلام اللائي غلب الهوى على نفوسهن فقطعن أيديهن وهن ينظرن اليه [مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ] ( ).
الجواب أن الموضوع يختلف، وأن الكفار يعضون أناملهم غضباً مع الرغبة بالإنتقام من البطش بالمسلمين، ومحاولة منع إنتشار مبادئ الإسلام ومواصلة المسلمين العبادة وتعاهدهم للصلاح والتقوى.
الثالث: آثار ونتائج عض الأنامل على الكفار أنفسهم وعلى المسلمين، إذ إنه أمارة على المكر والخبث والحسد، وجاءت الآية الكريمة لفضحه وإبطال المكر في مهده، والمنع من ترجله في الخارج وتجعل الآية الكفار يتدبرون في حالهم، وينظرون إلى ما هم عليه من الغضب والحنق وأسبابه ونتائجه وآثاره.
وفي الآية إخبار للمسلمين والناس جميعاً بأن مبادئ الإسلام تترسخ في الأرض، وأن غضب وغيظ الكفار لن يضر المسلمين، ولم يمنع من إعلاء كلمة الحق وتثبيت دعائم الدين في الأرض، أن علم المسلمين بحال الكفار وقانون عض الكفار لأصابعهم يطرد الخوف والفزع في نفوسهم من الكفار وكيدهم ومكرهم، وفيها رحمة إختص الله تعالى بها المسلمين من بين الأمم ليزدادوا قوة ومنعة.
وجاء ذكر عض الكفار لأناملهم مع تعيين موضوعه وأنه الغضب والحنق على المسلمين لمنع تفريط أو إعراض المسلمين عن هذا الأمر الخطير أو إستخفافهم به.
وهذا البيان والتفصيل رحمة بالمسلمين والناس جميعاً، ووجه من وجوه إعجاز القرآن، تترشح منه المنافع والفوائد لعموم الناس وإلى يوم القيامة.
وهو بالذات والعرض دعوة للإسلام، وشاهد على حسن إختيار المسلمين وفيه منع لإستحواذ الغفلة على قلوب الناس ومنع من إقامة وإصرار الكفار على بغض المسلمين، فلا ينحصر الإنتفاع من البيان والتفصيل في مضامين الآية القرآنية بالمسلمين بل يشمل الناس جميعاً، وفيه دعوة للعامة من الكفار بعدم الإنقياد لكبرائهم ورؤسائهم لأن خطابات القرآن عامة وشاملة للمكلفين، فيأتي البيان عوناً لكل إنسان لإدراك مضامين الأوامر والنواهي من غير حاجة إلى الإستعانة بأحد، لتكون الآية القرآنية إماماً للمسلم ولغير المسلم فتثبيت الإيمان في نفس المسلم، وتبعثه للعمل الصالح وتكون له حرزاً من المعاصي، وتجذب غير المسلم إلى الإسلام، وتدعوه لنبذ الكفر والضلالة.
وتبين له قبح بغض المسلمين وعض الأنامل حنقاً وغضباً عليهم، ليتنزه من هذا الفعل، ويتجنب الذين يفعلونه لأنه باطل وخلاف الوظيفة الشرعية، وإدراك العقل، ليكون قانون عض الأنامل حجة عليهم، وسبباً لنفرة الإنسان من رؤوس الكفر والضلالة، وربما أكثر شخص من عض أطراف أصابعه على المسلمين، فتتلى عليه هذه الآية أو يسمعها عرضاً فتمتلأ نفسه فزعاً ورهبة، ويبدأ الإيمان يزيح الكفر من سويداء قلبه ويخرجه من نفسه.
علم المناسبة
وردت مادة (عض) مرتين في القرآن وهما:
الأولى: جاءت في هذه الآية الكريمة بصيغة الجمع (عضوا) والمراد منهم الكفار والذين هم دون المسلمين ممن تحذر الآية من إتخاذهم خاصة وبطانة.
الثانية: ماورد في بيان حال الكافر الظالم يوم القيامة، وما يلقاه من العذاب الأليم على سوء فعله في الدنيا، قال تعالى [يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً] ( ).
فجاءت هذه الآية بصيغة المفرد إلا أنها تدل على الجمع لأن الألف واللام في (الظالم) تفيد الجنس والعموم، ومن الآيات أن موضوع العض لم يشمل المسلمين، فليس من آية تتعلق بالمسلمين فيها عض لأناملهم.
مما يدل على تنزيه المسلمين من هذا الفعل، وقد يقال إن عدم الإيجاد أعم من عدم الوجود، وأن عدم ورود عض المسلمين لأناملهم لايعني عدم حصوله عندهم كمسلمين، والجواب من وجوه:
الأول: في القرآن تبيان لكل شئ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثاني: بلوغ مراتب الإيمان واقية من الغيظ وغلبة النفس الغضبية.
الثالث: عض الأنامل وسيلة العاجز وعنوان الخيبة والخسارة.
لقد تكرر لفظ العض في القرآن مرتين وكليهما في الكفار الذين ظلموا أنفسهم وجاءت هذه الآية الكريمة بخصوص حال الكفار في الدنيا وحسدهم للمسلمين، أما الآية من سورة الفرقان فجاءت خاصة بيوم القيامة وعالم الجزاء ودخول الكفار النار عقوبة.
وهل من صلة بين الآيتين الجواب نعم، وهو من إسرار إنحصار عض الأصابع بالكافرين الذين ظلموا انفسهم فمن يغادر الدنيا وهو لايزال مستمراً بعض أنامله غيظاً على المسلمين من غير ندم وتوبة، فانه يعض يوم القيامة يديه أي ليس أنامله فقط حسرة وأسفاً على سوء فعله.
إذ جاء في عض الكفار أصابعهم في الحياة بتعلق العض بأطرافها، أما في الآخرة فان كل واحد منهم يعض يديه جميعاً، وهو من الإعجاز في نظم الآيات، وعلم المناسبة في المقام، فلم تأت الآية بذات صيغة الجمع التي جاءت فيها الآية محل البحث.
ولم تقل الآية ” يوم يعض الظالمون على أيديهم كي لا تفسر الآية بأن كل ظالم يعض يده، ويحصل الجمع بين هاتين الأيتين، ويقال المراد من اليه هو الأنامل وأطراف الأصابع لقاعدة القرآن يفسر بعضه بعضاً.
فجاءت الآية بصيغة الفرد لبيان أن الظالم يعض أصابعه كلها ويديه لشدة الحسرة والندامة وعظيم الخسارة لأنه لم يتبع النبوة، ولم يترك رفقاء السوء، وهذا المعنى لعمومات إرادة الجنس في الألف واللام وليس العهد في قوله تعالى [يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ].
ولم يرد لفظ (أنامل) بصيغة الجمع ولا المفرد (أنملة) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة، نعم ورد لفظ الأصابع في آيتين في القرآن وكلاهما في بيان سوء فعل الكفار في الإعراض عن النبوة وآيات التنزيل، فقد ورد قوله تعالى [يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ]( ).
وعند الرجوع إلى نظم وسياق هذه الآية تجدها في وصف نفس الذين ذكرتهم الآية محل البحث، إذ أنها جاءت بخصوص الكفار[وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ]( ).
والجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث إعجاز في مضامين ونظم آيات القرآن، فمرة يعض الكفار أناملهم، وأخرى يبتلون بما يجعلون أصابعهم في آذانهم بغية الصدور عن الآيات ليقوموا يوم القيامة بعض أيديهم وليس أصابعهم وحدها.
لقد خلق الله عز وجل الإنسان في أحسن تقويم، وجعل عنده نعمة الأيدي والأصابع ثم الأنامل ليقضي بها حوائجه ويسخرها لمنافعه في الدنيا والآخرة، ولكن الكفار جحدوا هذه النعمة ووظفوها بالمعصية والجحود فجاءت هذه الآية لبيان هذا الجحود، والإشارة إلى سوء العاقبة، والعذاب الأليم جزاء على الكفر والجحود.
قوله تعالى [مِنْ الغَيْظِ]
بيان سبب عض الكفار أطراف أصابعهم، وأنه جاء غضباً وبغضاً للمسلمين، والأصل أن يعضوا أصابعهم ندماً وحسرة على تركههم الواجب التكليفي بلزوم التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه ونصرته، وإصرارهم على الإقامة في منازل الكفر مما يزيد في ظلمهم لأنفسهم.
ومن الآيات أنهم لابد وأن يعضوا أصابعهم حسرة، وهذا العض يكون يوم القيامة وعندما يرون أهوال الحساب ويقفون بين يدي الله عز وجل، ويساقون إلى الجحيم.
لقد بينت الآية أن الإنتماء للإسلام بذاته جهاد، فعندما يدخل الإنسان الإسلام أو يرثه تركة مباركة عن أبيه وأمه فان هذا الإرث جهاد يستلزم تعاهده وحفظه، والصبر في مواجهة الكفار وأعداء الدين ولزوم إتيان الصلاة وأداء الزكاة وإجتناب إتخاذ بطانة وخاصة من الذين يعضون أناملهم على المسلمين، وإن إظهروا الود أمام فرد أو جماعة من المسلمين.
وقد لايحصل إدعاء الكفار الإيمان إلا إلى أمام فرد من المسلمين ذي شأن كبير في الملك.
فجاءت هذه الآية لتنبيه كل المسلمين ذي الشأن وغيره بحقيقة مايضمره الكفار لهم، لتطرد الغفلة عن المسلمين متحدين ومتفرقين، فمن اللطف الإلهي مجيء البيان والتفصيل في الآية الكريمة في بيان علة عض الكفار أصابعهم لتكون مدرسة في الإحتراز ينتفع منها المسلمون إلى يوم القيامة.
كما تبعث الآية العز والفخر في نفوس المسلمين لأنهم فازوا بالنجاة من براثن الكفر، وبلغوا في الإيمان مراتب تجعل الفزع والخوف والحزن يملأ صدور الكفار.
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وبلاء وإختبار، ومناسبة لإكتساب المسلمين الصالحات، وجاءت هذه الآية لبيان الصراع والخلاف المستديم بين الإيمان والكفر وتوكيد وجه من وجوه الإبتلاء وهو أن الكفار لايتركون المسلمين وشأنهم.
فالأصل إكرام الناس جميعاً لمن يختار سبيل الحق والهدى، ويوظف العقل للنجاة والسلامة في الدنيا والآخرة، والإقتداء به وإتباع أثره في التصديق بالنبوة والتنزيل اللذين جعلهما الله عز وجل حبلاً متصلاً بينه وبين عباده، ومظهراً من مظاهر الخلافة، وعلة لدوام الحياة في الأرض وعمارتها بالعبادة والذكر والصلاح، ولكن الكفار إستكبروا وأصروا على العناد وإتباع إغواء الشيطان.
فجاءت هذه الآية لفضحهم وخزيهم وإنذارهم فصحيح أن الآية جاءت خطاباً وتحذيراً للمسلمين إلا أنها تتضمن التوبيخ للكفار ودعوتهم لنبذ وترك عداوة المسلمين، وهذا الترك مقدمة ومناسبة للتدبر في معالم الإيمان وأسرار النبوة وإعجاز القرآن والآيات الكونية الدالة على وجود الصانع ووجوب عبادته والله واسع كريم.
فمن رحمته تعالى بالعباد أن جعل الآيات تصاحب الإنسان وتلازمه في حياته اليومية، وتهجم عليه وتجذب سمعه وبصره وتجعله يتفكر في معانيها ودلالاتها طوعاً وقهراً، وفي حال الرخاء والشدة، وتبين الآية سورة الغضب التي تعتري الكفار حسداً للمسلمين.
وهذا الغضب غشاوة على البصر والبصيرة، فجاءت هذه الآية لكشفه من أجل أن يتعظ الكافر، ويتخلص منه، ويرجع إلى أصل الخلق والسنخية بتلقي الآيات بالقبول والرضا فيستمع الكفار إلى هذه الآية، فيكون هذا الإستماع فرصة لإدراك صدق نزول القرآن من عندالله.
ومناسبة للإنصات لغيرها من الآيات فيصاب بالإنهيار، ويرى المدح والثناء للمسلمين، وتوالي البشارات بالعز والنصر والغلبة للإسلام، فيقل أو يزول غضبه على المسلمين، وتحدثه نفسه بدخول الإسلام، وهو من إعجاز آيات القرآن، إذ تأتي الآية لتحذير أو بشارة المسلمين فتكون سبباً لهداية قوم آخرين يحرصون على إجتناب الحرمان من هذه البشارات بعد حصول اليقين بالكبرى وهي نزولها من عندالله عز وجل.
لقد ذكرت الآية ما يملأ صدور الكافرين من الغيظ والذي يدل في معناه على حال من الغضب والحنق على المسلمين لأنهم إختاروا الإسلام، وأقاموا عليه بشوق ورغبة ورضا.
فمن خصائص الآية القرآنية أن أحكامها مستديمة وباقية إلى يوم القيامة، وحنق وألم الكفار لم ينحصر بالذين دخلوا الإسلام إبتداء من المهاجرين والأنصار والتابعين، بل يشمل كل مسلم ومسلمة لذا فان إجتناب إتخاذهم بطانة مستمر إلى يوم القيامة، لأن هذا الغيظ يظهر في حال خلوة الكفار بشد الأسنان على الأنامل، أما في موضوع البطانة فانه يتحول إلى مكر وخبث وبغضاء تبدو على ألسنتهم وفي عالم المشورة وكشف الأسرار، وهل تتضمن الآية اليأس من دعوة الكفار للإسلام، الجواب لا.
إذ جاءت الآية لتحذير المسلمين من إتخاذهم بطانة، وبيان تخلفهم عن نيل هذه المرتبة بسوء سريرتهم وبغضهم للمسلمين، وهذا التحذير وعلته سبب وموضوع لدعوة الكفار للإسلام، وتلك آية إعجازية في الدعوة إلى الله عز وجل، بأن يكون التوبيخ والذم وسيلة لترك الباطل، والإنتقال إلى منازل الحق والهداية، من وجوه:
الأول: أنه رشحة من رشحات القرآن وما فيه من الدروس والمواعظ والعبر التي تفوق عالم التصور عند الإنسان في ذاتها وأثرها.
الثاني: هذا الإنتقال من وظائف العقل وجعل موضوعية له في عالم القول والعمل، وجاءت الآية لمنع الحواجز التي تأتي من النفس الغضبية، وتحول دون الإنتفاع منه، فكشف وفضح عض الكفار أصابعهم وبيان أنه من الغيظ من أفضل مصاديق هذا المنع.
الثالث: إنتفاع الناس من نعمة النبوة، ومجئ الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين.
وتتضمن هذه الآية البشارة والإنذار، البشارة إلى المسلمين بالصلاح في الدنيا والآخرة باجتناب إستبطان الكافرين، والإنذار والتحذير منهم لما يحملونه من معاني البغض والحقد والكراهية للمسلمين.
الرابع: لغة الترغيب والترهيب التي تدل عليها الآية في منطوقها ومفهومها، ودعوة الناس جميعاً لنبذ الغضب على المسلمين، وحثهم على إصلاح أنفسهم لنيل مراتب البطانة للمسلمين، والأهلية لإتخاذ بطانة من المسلمين.
فقد يدخل شخص الإسلام لما في هذه الآية من النهي عن إستبطان غير السملم، ورجاء فوزه بمرتبة البطانة والخاصة عند أحد ملوك ورؤساء المسلمين أو أهل الحل والعقد منهم، فما أن تمر عليه الأيام والأشهر في الإسلام وأدائه الفرائض حتى يصبح هو الذي يتخذ البطانة والخاصة من المسلمين ويحرص على إجتناب نفاذ غير المسلم إلى منازل الخاصة والإطلاع على أسرار المسلمين خصوصاً وانه يعلم حال البغض والكره للإسلام التي تملأ صدور الكفار، وكيف أنهم يعضون أصابعهم في خلوتهم بغضاً للمسلمين.
ومن أفراد غيظ الكفار تمنيهم نزول مصيبة بالمسلمين، ولحوق الخسارة والضرر بهم، لذا فان الآية تدعو المسلمين إلى غلق باب الشماتة على الكفار، وتمنع من إستغلال الكفار لما يصيب المسلمين لإتخاذه مناسبة للتعدي على المسلمين ومناسبة للنيل منهم والطعن فيهم، مما يملي على المسلمين إظهار معاني الإتحاد والألفة فيما بينهم، والتحلي بمفاهيم الأخوة الإيمانية في السراء والضراء.
فحتى على فرض نزول المصيبة فان تمسك المسلمين بالقرآن وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتقيد بأداء الفرائض يبطل كيد الكفار ويجعلهم يعضون أصابعهم من جديد غيظاً لأن المسلمين يخرجون من المصيبة أقوى وأحسن مما كانوا، ولما تعرض المسلمون في معركة أحد الى الخسارة، وفقدوا سبعين من الصحابة وشمت اليهود والكفار، وما لبث المشركون ان جاءوا بجيش عرمرم( ) لغزو المسلمين في عقر دارهم، فتصدى لهم المسلمون ومنعوهم من دخول المدينة المنورة وحفروا الخندق حولها بأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومشورة سلمان ليكون درساً في حذر المسلمين وتوقيهم من الكفار، وقدرتهم على تغيير كيفية وصيغة المواجهة مع العدو إلى إن إنهزم الكفار خائبين بعد خسارتهم فمرة يبادر المسلمون إلى الخروج كما في بدر وأخرى يتصدون لجيش المشركين في أحد، وأخرى يحفرون خندقاً حول المدينة “وفي الحديث: ما غزي قوم في عقر دارهم إلى ذلوّا “( ).
ومن الآيات والمدد الإلهي للمسلمين انه بعد معركة الخندق لم يهدأوا ويكتفوا بالدفاع عن المدينة بل إنطلقوا في سرايا الغزو وجيوش الجهاد يدعون الى الله، ويبذلون النفس والمال في إعلاء كلمة التوحيد.
ومن مصاديق إخلاص المسلمين العبودية لله، وتلقيهم المدد من عنده تعالى أنهم يلجأون إليه عند المصيبة، لتنزل عليهم البركة وأسباب العون والرشاد، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
فيتجاوز المسلمون المصيبة ويأخذون منها الدروس، وتكون سبباً لإحرازهم الثواب والأجر مما يزيد في غيظ الكفار عليهم، ويجعل الكفار عاجزين عن الإضرار بالمسلمين، وان أرادوا إضرارهم فان إحتمال الفشل والإبطال قائم أمامهم مما يبعثهم على اليأس والقنوط خصوصاً وأنهم يدركون ان المصيبة لن تزيد المسلمين إلا إيماناَ.
إذ جعل الله عز وجل عندهم سلاح الصبر واقية من المصيبة وآثارها، وهذا السلاح مصاحب للمسلمين لا يفارقهم أبداَ، لذا فان الغيظ وعض الأنامل ملازم للكفار في خلوتهم، وهو عبأ عليهم ويؤدي الى الأخلاق المذمومة وسوء العشرة وظهور أمارات الشك والريب فيما بينهم، مما يؤدي الى حصول الخصومات والفتن بينهم جماعات وأفراداَ، وفيه دعوة للمسلمين للتوجه إلى الله عز وجل بالشكر والثناء على نعمة الهداية والسلامة من الغيظ وغلبة النفس الغضبية.
قانون الغيظ
يأتي الأمن من الفزع مصاحباً لإختيار الإسلام، فيدرك المسلم قرب أوان الآخرة، والوقوف بين يدي الله عز وجل لنيل الأجر والثواب فضلاً منه سبحانه، وهو الذي وعدهم الأمن والسلامة جزاء على الإيمان وإتيان الفرائض وعمل الصالحات ، قال تعالى [فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
ولكن هذا الأمن لا يتعارض مع صبغة الإختبار التي تتصف بها الحياة الدنيا، وما فيها من الإبتلاء، وجاءت الآية لذكر هذا الإبتلاء على نحو مركب من وجوه:
الأول: إبتلاء الكفار بالحسد والغضب على المسلمين، فجاءت هذه الآية لإخبار المسلمين عن حال الكفار، وما فيه من البلاء وظلمهم لأنفسهم بما يضمرونه من الغضب والحسد للمسلمين.
الثاني: إبتلاء المسلمين بالكفار الذين لم يتركوا المسلمين وحالهم من الصلاح والتقوى، فليس في الإسلام ودخول الناس اليه أذى وضرر على أهل الكتاب أو الكفار والمشركين، بل هو رحمة لهم وسبب لنشر معاني الفضيلة وتعاهد للكتب السماوية وبسط أحكامهافي الأرض، خصوصاً وان القرآن جاء بالإقرار بالتوراة والإنجيل ودعا إلى بقاء أهل الكتاب في ذمة الإسلام.
الثالث: إفتتان عامة الكفار بعناد وجحود كبرائهم والذين لهم مأكلة على العامة، ويخافون ضياعها، وخسارة المنزلة والمقامات التي إتخذوها وأسباب الرياسة التي تولوها بين أهل ملتهم.
فجاءت هذه الآية لمنع هذا الإفتتان، وفضح كبراء المشركين وكيف أن الغيظ والحسد يستولي على جوارحهم، ويحول دون تدبرهم بالآيات، وهذا من أسرار القرآن إذ انه يتوجه إلى العامة بعرض واحد مع الخاصة ويؤكد بان كل مكلف مسؤول عن نفسه، مع بيان الآيات والمعجزات له، وتجليها أمام بصره وبصيرته فلا يستطيع غيظ كبراء الكفار ان يكون برزخاً دون التصديق والتسليم بها.
وتدعو الآية كبراء الكفار إلى الكف عن الإجهار بمصاديق الغيظ والحسد للمسلمين، وتحثهم على التدبر في الآيات، وإجتناب تحمل أوزارهم وأوزار العامة الذي ينصتون لهم، ويقتفون آثارهم، وفيه وعيد لهم بأن هؤلاء العامة لن يستمروا على حال الإنصات والإتباع لهم، لأن الخطابات التكليفية تتوجه لهم مباشرة من غير واسطة أحد من البشر إلا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقوم بتبليغ الآيات للناس كافة، وفيه طرد لأسباب الغيظ وجعل الكافر يخفف من غيظه عن المسلمين بالتدبر بالآيات والمعجزات النبوية.
فترى مثلاً الحروف المقطعة في بدايات عدد من سور القرآن وسيلة ملكوتية لإنشغال الكفار وإمتناعهم عما كانوا يقومون به من الصفير والتصفيق واللغط عند تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لماينزل عليه من آيات القرآن، في محاولة لحجب الناس عن الإنصات للآيات والتدبر في معانيها ودلالاتها، وجاءت هذه الآية لمنع الكفار من إتخاذ خلوة بعضهم ببعض مناسبة للكيد والمكر بالمسلمين.
لقد بينت هذه الآية أن الغيظ خاص بالكفار وأنه بلاء لهم وإبتلاء للمسلمين بلحاظ السبب والغاية والأثر، أما السبب فان الغيظ لم يستحوذ على نفوس الكفار إلا للتوفيق الذي فاز به المسلمون، وأما الغاية فهي السعي للإضرار بالمسلمين، ورجاء إصابتهم بالبلاء والخسارة، وأما الأثر فان هذا الغيظ يخرج في عالم الأفعال، وجاء ذكر عض الأنامل في الآية مقترناً بأوان الخلوة ليدل على كونه مقدمة للمكر السيء، ووسيلة لتحريض بعضهم بعضاً ضد المسلمين فعض الأنامل كالمناجاة بالباطل، والندب إلى الفعل في محاربة الإسلام.
فجاءت الآية لفضح هذه المناجاة والمنع من إزديادها وتمادي الكفار في الغي والتعدي، ومع أن الغيظ كيفية نفسانية خاصة بالكفار فقد جاءت الآية خطاباً للمسلمين للوقاية منه، ومن آثاره وأضراره، ومنع الناس من التعدي على الإسلام والمسلمين.
وقد يشعر المسلمون بحال من السكون والهدنة مع الكفار خصوصاً وأنهم يدّعون الإيمان بحضرة المسلمين فجاءت هذه الآية لتبين حقيقة وهي أن الكفار في حال من الغيظ الدائم على المسلمين وأن الغيظ يبدو واضحاً في حال الخلوة بأفعال ذاتية تدل على الندب إلى المكر والبطش بالمسلمين وإنتهاز الفرصة المؤاتية للإنقضاض على المسلمين، وإنزال الخسارة بهم، وهذا البيان حرز للمسلمين لما فيه من البعث على الفطنة واليقظة وهو من مصاديق إنتفاء الغفلة عن المسلمين.
ومن الإعجاز مجئ الآية بخصوص موضوع البطانة، فلو جاءت الآية على نحو مستقل، لربما غفل بعض المسلمين عن مصاديقها الواقعية في ساعات العمل وتداخل الأفعال والصلات الإجتماعية وأٍسباب القرب والمودة، فورد موضوع غيظ الكفار للمسلمين في مسألة البطانة، والنهي الصريح عن إتخاذ الكفار خاصة ووليجة، وفيه وجوه:
الأول: فيه تأسيس للإمتثال لأحكام الآية الكريمة، فليس من آية في القرآن إلا ويبادر المسلمون للعمل بمضامينها، ومن فضل الله عز وجل على المسلمين إعانتهم وتقريبهم بلطف للعمل بأحكامها.
ومن وجوه اللطف والفضل الإلهي في المقام مجئ وصف حال الكفار وما يملأ صدورهم من الغيظ بعد آية البطانة والنهي عن إتخاذهم بطانة ليرسخ في الوجود الذهني ملازمة الغيظ للكفار في ليلهم ونهارهم، فاذا ما جاءت مناسبة للموضوع فانه يتبادر إلى ذهن المسلم أن هؤلاء الكفار غاضبون عليه وعلى إخوانه المؤمنين لإختيارهم سبل الحق والهدى.
الثاني: ذكر الغيظ في موضوع البطانة ينمي ملكة الحذر عند المسلمين بخصوص البطانة، إذ ينفر الإنسان ممن يضمر له العداوة والبغضاء ويحرص على عدم إطلاعه على أسراره وشؤونه الخاصة، وإن إطلع وأبدى المشورة فانه يكون في ريب من تلك المشورة.
الثالث: الآية شاهد على الإنتفاع الفعلي للمسلمين مما في آيات القرآن من بيان أحوال الكفار، وما هم عليه من البغض للمسلمين، وإتخاذهم لهذا البيان حرزاً ويجعلون له موضوعية في عالم الإختيار والفعل، ومعرفة معادن الناس وكيفية المعاملة معهم، إن كثيراً من الخلجات النفسية، والآراء الخفية والمستورة يظهر قصورها وتخلفها عن الواقع إذ رأت النور، وعلم بها الناس.
فجاءت هذه الآية لفضح الغيظ وموضوعه وموطنه وسبل حجب أثره والمنع من تناميه وإتساعه وإنقياد العامة من الكفار لسلطانه بجهل وغفلة، لتكون رحمة ولطفاً بالناس جميعاً.
علم المناسبة
وردت مادة الغيظ في القرآن إحدى عشرة مرة، وفيه مسألتان بخصوص سورة آل عمران:
الأولى: وردت مادة (غيظ) فيها ثلاث مرات وردت في سورة التوبة مرتين، وفي سور أخرى في كل سورة مرة واحدة.
الثانية: هذه الآية هي الوحيدة في القرآن التي ترد فيها مادة غيظ مرتين بقوله تعالى [عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ] و [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ولهذا التعدد دلالات خاصة في المقام، بلزوم الإلتفات والإحتراز من غيظ الكفار، والتوجه بالشكر لله عز وجل على إعانة المسلمين بدفعه ومنع أثره، كما يتجلى بقوله تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ].
وجاءت آيتان بخصوص نار جهنم وكأن التشابه بين عدد مرات ذكر الغيظ في هذه الآية، وذكر غيظ النار مرتين من الإنذار والوعيد للكفار على غيظهم من المسلمين، قال تعالى [إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا]( ).
فان جزاء هذا الغيظ مايظهر من الصوت الدال على التغيظ سواء كان صادراً من ذات النار أم من زبانيتها غضباً على الكفار ورغبة في الإنتقام منهم.
وبينما جاءت الآيات في بيان إستيلاء الغيظ على نفوس الكفار جاءت آية في مدح المسلمين وكيف أنهم يتحلون بالصبر ويقاومون الغيظ وأسبابه، قال تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ]( ).
وفيه حجة على الكفار، فمع وجود أسباب للغيظ والغضب فان المسلمين يكتمون غيظهم، ولايجعلون له أثراً على ألسنتهم وفي أفعالهم، أما الكفار فانهم يظهرون الغيظ على المسلمين من غير سبب أو علة إلا الجحود والإقامة على الكفر والمعصية، ورؤية المسلمين يرتقون في مراتب الإيمان والتقوى، قال تعالى [فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ]( ).
ومما يغيظ الكفار سماعهم الآيات التي تعد المسلمين بالنصر والظفر في الدنيا، والفوز في الآخرة بالنعيم والإقامة الدائمة في جنة عرضها كعرض السماوات والأرض.
وتدل الآيات على ملازمة الغيظ من المؤمنين للكفار في الأمم السالفة أيضاً، فورد حكاية عن فرعون بخصوص موسى عليه السلام بني إسرائيل حين خروجهم من مصر[إِنَّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ]( )، وعن ابن عباس: خرج فرعون في ألف الف حصان سوى الأناث”( ).
قوله تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ]
لم تذكر مادة (غيظ) في القرآن إلا إحدى عشرة مرة في ثمان سور من القرآن، ولكنها جاءت في هذه الآية مرتين، وبصورة متقاربة وكأنه من العلة والمعلول، فبعد أن أخبر الشطر السابق من الآية على أن الكفار يعضون أطراف أصابعهم ومع بيان سبب هذا العض وهو البغض والغضب على المسلمين، جاء هذا الشطر من الآية دعاء عليهم، وتوبيخاً لهم، وكأنه من العلة والمعلول، وعدم تخلف المعلول عن علته.
ومن الإعجاز في الآية الكريمة إنتقال الآية في المقام إلى صيغة المفرد (قل) بعد أن كان الخطاب فيها للمسلمين والمسلمات ويحتمل هذا الإنتقال في صيغة الخطاب أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لايشارك المسلمين في حبهم للكفار، وأن هذا الحب كان لأسباب خاصة وأمور إجتماعية وقبلية، وصلات رحم ورضاع وعهود.
وفيه دعوة للمسلمين بالإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يحب ويكره وأن إظهار الكفار الإيمان بحضرة المسلمين لايصح أن يكون سبباً لحب المسلمين لهم.
وصحيح أن قوله تعالى (قل) موجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه خطاب للمسلمين كافة، وتقدير الآية (قل موتوا بغيظكم) وفي الآية مسائل إعجازية:
الأولى: إبطال كيد وغيظ الكفار فما أن أخبرت الآية عنه جاء التوبيخ والتبكيت لهم.
الثانية: بيان فضل الله عز وجل على المسلمين في دفع وصد غيظ الكفار وآثاره عنهم.
الثالثة: توكيد حقيقة وهي أن مقاليد الأمور بيدالله عز وجل وهو ناصر المسلمين، إذ يجعل الله عز وجل غيظ الكفار وبالاً عليهم، وسبباً في آذاهم.
الرابعة: صيرورة هذا الغيظ سبباً في موت وهلاك الكفار.
الخامسة: البشارة للمسلمين بهلاك عدوهم، وعدم إضراره بهم.
السادسة: قد يتلقى المغتاظ عليه آثار الغيظ، بالإنتقام منه والكيد له، فجاءت هذه الآية لتبين حالة فريدة وهي أن غيظ الكفار يرجع عليهم، ويسبب هلاكهم، ومن خصائص خير أمة أخرجت للناس هلاك من يضمر لهم الغيظ والعداوة.
السابعة: تطهر الآية جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله، ومواجهته كأمة للكفار، فلما أظهر الكفار غيظهم من المسلمين أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد عليهم بالقول، وهذا القول سلاح يواجه به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الكفار ويذمهم به، وهو شاهد على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف بل إنتشر بالحكمة والموعظة والعناية الإلهية بالمسلمين وزجر الكفار، وجعل كيدهم يرتد إلى نحورهم.
فلو ترجل هذا الغيظ إلى الخارج، وبدت آثاره بالتعدي على المسلمين فانه لا يضر المسلمين إلا أذى قليلاً لقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] وأخبرت هذه الآية عن رجوعه إلى الكفار بما يؤدي إلى هلاكهم وخزيهم.
الثامنة: بقاء الغيظ مصاحباً للكفار إلى حين الموت شاهد على أن الإيمان مستقر في نفوس المسلمين، وأنهم دائبون في طاعة الله، وفي عز دائم بما يجعل الكفار في غيظ متصل وحسرة متجددة إلى حين الوفاة.
وتحمل الآية صيغة الدعاء على الكفار بأن يصاحبهم الغيظ إلى حين الموت ولكنه ليس دعاء عليهم بالبقاء بالكفر فهو لايجوز، ومادام لايجوز فلابد من تأويل الآية على المعنى الجائز وفيه وجوه:
الأول:تقدير الدعاء: موتوا بغيظكم إن أصررتم على البقاء على الكفر أي انكم ستموتون والغيظ مصاحب وملازم لكم، ولايكون هذا الدعاء حائلاً دون التوبة.
الثاني: الدعاء دعوة للكفار لنبذ الكفر، وترك الضلالة، فإن موت الإنسان وهو في حال غيض أمر مذموم، خصوصاً وأن هذا الغيظ لا أصل له.
الثالث: الإخبار بأن الإسلام يزداد قوة، لذا فان الغيظ لايغادر الكفار وإدراك الكافر لهذه الحقيقة دعوة له للإسلام، وحث على ترك الغيظ وأسبابه.
الرابع: في الآية ترغيب بدخول الإسلام بالإشارة إلى طول العمر مع دخول الإسلام لما فيه من السكينة والعز والرضا بفضل الله عز وجل بالهداية إلى سبيل الحق والرشاد.
الخامس: في الآية إخبار عن حقيقة وهي أن إستيلاء الغيظ على النفس يؤدي الى الموت والهلاك لما له من ضرر مستمر على النفس.
وتبين الآية ظهور الإسلام بالأمر الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يتحدى الكفار ويقول لهم، موتوا بغيظكم، من غير خوف منهم، أو إحتمال التعدي منهم، ويؤكد أنهم إتجهوا صوب عض الأنامل مما يدل على ضعفهم وعجزهم عن مقاومة الإسلام.
وفي الآية دلالة على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا وقد صار الإسلام قوياً منيعاً عزيزاً بالعناية من الله عز وجل بالإسلام والمسلمين.
وسواء حملنا هذا الشطر من الآية على معنى الدعاء أو على التوبيخ والذم فانه وسيلة سماوية للكفار لترك الكفر والضلالة، ودعوة قرآنية لهم للتوبة والإنابة لأن هذا الغيظ بغيض ومكروه ذاتاً وعرضاً ولاينحصر ضرره بحال الضيق والحسرة في النفس بل يشمل أٍسباب الرزق والمعاش لأنه غشاوة دائمة على البصر، وبرزخ دون رؤية سبل الرشاد والتوفيق، كما أن الدعاء لم يتوجه لأشخاص الكفار بالذات بل جاء بقيد التلبس بالكفر ليكون باعثاً على التخلي من الكفر وما يترتب عليه من الغيظ والغضب.
وتؤكد الآية المباركة عدم وجود سبب شرعي أو عقلي لهذا الغيظ وأن الكافر يتأذى منه لإبتنائه على العناد والضلالة، وفي الآية أمن وسلامة للمسلم من عض الكفار أصابعهم على المسلمين لأن الغيظ يأتي على الكفار.
ولكن هذا المعنى لا يعني إنتفاء التوقي والحذر من الكفار، وهو من إعجاز القرآن أن يقترن التحذير مع البشارة للمسلمين والإنذار للكفار والظالمين في موضوع واحد وهو غيظ وغضب الكفار على المسلمين، لما في الآية من الإخبار عن عدم ترتب الأثر على هذا الغيظ عند المسلمين إلا الشكر والثناء لله عز وجل على نعمة رد هذا الغيظ الى نحور الكفار ولو لم تنزل هذه الآية بالأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب إلى الكفار بالتوبيخ والزجر ففيه وجوه:
الأول: يخاطبهم المسلمون إبتداء[مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ثقة من المسلمين بالنصر والظفر.
الثاني: حصول الفزع والخوف عند المسلمين من عض الكفار أناملهم لما فيه من التخويف والوعيد.
الثالث: مهادنة المسلمين للكفار، دفعاً لشرهم.
الرابع: رجوع المسلمين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسؤال عن السبيل في التصدي للكفار، ودفع أذاهم.
وجاءت هذه الآية لتكون عوناً للمسلمين وتجعلهم أعزة واثقين من النصر والغلبة، لايخشون الكفار وعضهم أناملهم، ومن خصائص الآية القرآنية أن الخطاب فيها يتكرر على السنة المسلمين والمسلمات على نحو دائم ومتصل وفيه مسائل:
الأولى: طرد الغفلة عن المسلمين.
الثانية: حث المسلمين على الشكر لله عز وجل على النعمة الإلهية في نزول هذه الآية.
الثالثة: الآية سلاح للتصدي للكفار، وزجرهم عن التعدي على المسلمين، وجعلهم خائبين خاسرين عاجزين عن الإنتقام، وفيه شاهد بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف، وأن شطر آية يؤدي إلى حال الإنكسار والخذلان عند الكفار.
الرابعة: تلاوة المسلمين للآية إنذار متكرر للكفار يتجدد في كل زمان ومكان.
الخامسة: منع تسرب اليأس والقنوط إلى نفوس المسلمين، وحصول الخلاف بينهم في عاقبة ونتائج عض الكفار أناملهم على المسلمين، إذ أن الآية تحصر عاقبة هذا العض بالضرر الذاتي للكفار، وما ينتظرهم من سوء العاقبة.
أن قوله تعالى [قل مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] لإخبار عن العقوبة الإلهية العاجلة للكفار وتقدير الآية : يا محمد أخبر الكفار بأن الله يهلكهم بغيظهم، لتكون الآية إشعاراً للكفار بما يلقونه من الأذى ومقدمات الهلاك بسبب هذا الغيظ.
قانون”موتوا بغيظكم”
لقد خلق الله عز وجل الناس ليعبدوه، ويعمروا الأرض بذكره وتسبيحه وتقديسه لالحاجة منه إلى العبادة وهو الغني عن العالمين، ولكن لبيان عظيم قدرته.
فترى الملائكة والخلائق بديع صنع الله في خلق الإنسان بأحسن صورة وهيئة، وليفوز المسلمون بالنعيم الخالد جزاء لهم على صلاحهم وتقواهم.
وجاءت هذه الآية لتبين الإختلاف والتضاد بين الإيمان والكفر، وأن الأمر لايقف عند التضاد بل هناك نفرة، وعداوة وغيظ من جانب الكفار للمسلمين، مع أن المسلمين لم يقابلوا هذا الغيظ بمثله.
فالأصل أن يغتاظ المسلمون من الكفار وإصرارهم على الباطل، وسوء إختيارهم الكفر، ولكن الكفار هم الذين يبغضون المسلمين لدعوتهم للحق والهدى، وسعيهم في سبل الرشاد.
لقد وسوس إبليس لآدم وحواء حتى أكلا من الشجرة وهبطا إلى الأرض، ولكن الكفار عجزوا في الأرض عن الوسوسة للمسلمين، ولم يستطيعوا ثنيهم عن سبل الهداية فإغتاظوا وإمتلأوا غضباً وبغضاً للمسلمين، وفيه آية وشاهد على إنتصار الإسلام وخسارة إبليس وأن شياطين الإنس والجن لن يستطيعوا منع إعلاء كلمة التوحيد في أصقاع الأرض، ولايزيد عضهم الأنامل المسلمين إلا عزماً على مواصلة الجهاد والسعي في سبيل الله، وجاءت هذه الآية لإخبار المسلمين بضعف ووهن عدوهم، وأنه مبتلى بالإضرار بنفسه بعض أنامله.
ويدل قوله تعالى [مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] على أن عض الكفار لأناملهم سبب لهلاكهم حسرة، ويتعلق عض الأنامل هذا يظهور الإسلام وظفر المسلمين وإخلاصهم في طاعة الله ورسوله، وكلما أظهر المسلمون الإخلاص في العبادة والصلاح في الأعمال والثبات على الإيمان، فان الكفار يزدادون غيظاً وغضباً.
فجاءت هذه الآية بالتوبيخ لهم الذي يتضمن الإخبار عن إرتقاء المسلمين وعلو شأنهم وإتحادهم وتمسكهم بالقرآن والسنة النبوية.
ومن إعجاز الآية أنها جاءت بالإخبار عن موضوع غيظ الكفار من المسلمين وإنتفاء أثره على المسلمين، ورجوع ضرره على الكفار أنفسهم ضمن تحذير المسلمين من إتخاذ الكفار بطانة وخاصة.
ليكون بيان عاقبة الكفار مانعاً إضافياً للمسلمين من إتخاذهم بطانة، للزوم إجتناب من يؤدي به الغيظ إلى الهلاك، لما في مصاحبته من إحتمال الضرر والأذى، وتؤسس الآية مدرسة في علم النفس، من وجوه:
الأول: تبين الآية أن إستحواذ الكدورات الظلمانية على النفس الإنسانية يؤدي بها إلى الهلاك.
الثاني: حصول الهلاك على نحو متعدد وعام، فليس المسألة خاصة بأمراض للنفس تصيب الفرد أو الأفراد القلائل مما يمكن تداركه وعلاجه، بل إنه هلاك عام لاعلاج له.
الثالث: عجز الكفار عن دفع ما يترشح من الغيظ من أسباب الضرر والهلاك عن أنفسهم.
وتفيد الآية معنى التحدي لهم وكأنها تقول لهم: ليس بمقدوركم الوقاية من الهلاك من الغيظ مما يدل على صدق نزول القرآن من عندالله عز وجل، وذات الآية سبب من أسباب هلاك الكفار بغيظهم لأنها تجعلهم يلتفتون إلى أضرار الغيظ وهم عاجزون عن ردها، ولايستطيعون التخلص من الغيظ على المسلمين لإستدامة وتجدد أسبابه.
فلو كانت الأسباب متحدة لإعتادوا عليها، ولطرأ عليهم الغيظ ثم تخف وطأته على النفس مع تقادم الأيام تسليماً بالأمر الواقع، فقوله تعالى [مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] يدل على تجدد وكثرة أسباب هذا الغيظ ليكون كالمعلول الذي لايتخلف عن علته.
وكأن الآية تقول لهم إن الإسلام في نصر دائم ومتصل الأمر الذي يبعث الغيظ في نفوسكم بحيث لاتستطيعون الإحتراز منه، ليبقى قانون (موتوا بغيظكم) مصاحباً للكفار، فلا يغادر أحدهم الدنيا إلا والغيظ يملأ صدره.
فالآية إنحلالية وتقدير الخطاب المفرد فيها، قل مت بغيظك، وفيه زجر عن الكفر،ودعوة للكفار بترك منازل الكفر والتخلص من آثاره وأضراره التي تؤدي إلى الهلاك، وفي الآية إشارة وتذكير بالموت وأن الإنسان لابد وأن يموت ويلاقي الله.
ومن الظلم للنفس أن يموت الإنسان وهو مملوء غيظاً وغضباً على الذين أطاعوا الله عز وجل، وأدوا الفرائض والعبادات،و التذكير بالموت وسيلة للموعظة وسبب للهداية، وزاجر عن المعصية ودعوة للتدبر في إصلاح النفس والإستعداد للقاء الله، والوقوف بين يديه للحساب.
وتلك آية إعجازية أن يأتي التوبيخ للكفار بما يفيد الموعظة والنصح وإجتناب العداوة والبغضاء للمسلمين، ويجعل قوله تعالى (موتوا بغيظكم) الكفار منشغلين بأنفسهم، ويبعث الإرباك بين صفوفهم، ويمنعهم من الإتحاد والتآزر كما أنه يجذب بعضهم إلى الإيمان، ويدفع أرباب العقول إلى نبذ ما يكون مقدمة للهلاك والخسارة، ولوجاء القول (موتوا بغيظكم) من المسلمين لجاء الرد والسجال من الكفار ولحصل الإختلاف بين المسلمين في مقدار وماهية أثره.
ولكن جاء القول من عند الله عز وجل وعلى نحو الأمر إلى رسوله الكريم، ليكون هذا القول جهاداً في سبيل الله وسكينة ملازمة للمسلمين، وحثاً لهم على تعاهد منازل الإيمان والتقوى، وعدم الخشية من الكفار وغيظهم وغضبهم فإنه يرجع على الكفار أنفسهم بالضرر القادح.
بحث بلاغي
من وجوه البديع (النزاهة) وهي خلو ألفاظ الهجاء من الفحش، والقرآن مدرسة النزاهة، وهو كلام الله عز وجل، ورسالة السماء إلى الناس جميعاً، والمائدة الملكوتية الباقية إلى يوم القيامة، ينهل منها المسلمون والناس جميعاً الدروس والمواعظ.
ويستنبطون منها الأحكام والمسائل وجاء القرآن بمدح المسلمين، وذم الكفار، وهذا الذم خال من الفحش، والله عز وجل هو الغني عن العالمين، وهو الحليم الذي يمهل الناس.
وخلو الذم من الفحش سبيل لإنتفاع الكفار وعدم نفرتهم منه، وتلك آية في نزاهة الذم والهجاء الوارد في القرآن، وشاهد على أن القرآن لطف ورحمة من عندالله عز وجل لأن الرحمة المطلقة والعامة لايقدر عليها إلا هو سبحانه.
فمع أن الآية جاءت بمضامين البغض والكره والغيظ الذي يحمله الكفار للمسملين فانها ذكرت حب المسلمين لهم ، وأخبرت عن علم الله عز وجل بما يضمره كل إنسان في صدره، مؤمناً كان أو كافراً.
وجاء قوله تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] لتوكيد مايضمرون من الغيظ، والتذكير بالموت وأنه عاقبة الإنسان في الدنيا، وكأنه من التخيير بين التوبة والصلاح وبين الموت بسبب الغيظ والحسد، إذ أن هذه الآية ليست وحدها التي تتوجه الى الكفار بل تأتي معها الآيات التي تحث على التوبة والإنابة ليكون الذم ذاته دعوة إلى الهداية والصلاح، ويحرص كل إنسان على تخلصه من الكدورات الظلمانية، فجاءت الآية بذكر قبح الغيظ، وأنه لاسبيل للتنزه منه إلا بالإسلام.
قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]
جاءت الآية بصيغة الإطلاق والعموم وشاهداً على عظيم قدرة الله عز وجل، وسعة علمه وعدم إستعصاء مسألة عليه سبحانه، فكل الأشياء حاضرة عنده، ومنها ما في صدر الإنسان لايستطيع الناس الإطلاع عليه ومعرفته.
فجاءت الآية للإخبار بأن الله عز وجل يعلم خفايا صدور الناس جميعاً، وقد لا يعلم الإنسان نفسه بما في صدره أو تمر عليه الخاطرة والنية والرغبة ثم ينساها، ولكن الله عز وجل لن ينساها بل هي حاضرة عنده سبحانه.
وذكر الشطر السابق من الآية عض الكفار لأصابعهم في خلوتهم وجاء هذا الشطر لتوكيد أن هذا العض من الغيظ والغضب على المسلمين، وفيه مسائل:
الأولى: إقامة الحجة على الكفار.
الثانية: عجز الكفار عن إنكار وجود الغيظ والغضب عندهم وإمتلاء صدورهم به.
الثالثة: توكيد كون هذا الغيض على المسلمين وليس لفوات منفعة، أو الخوف من ضرر خاص.
الرابعة: أن الله عز وجل يعلم ما يفعله الكفار في خلوتهم، وما في صدورهم أيضاً، والعلم بما في الصدور أخص وأدق، فليس للكفار إدعاء أنهم لا يعضون أناملهم غيظاً.
الخامسة: قد يكون هناك من الكفار من لم يعض أصابعه فعلاً، فجاءت الآية للإخبار بأن الله يعلم بإمتلاء صدره غيظاً على المسلمين، وأن ذكر الأنامل جاء من باب الفرد الغالب وعلى نحو الحقيقة والمجاز والكناية عما في صدور الكفار من الغيظ.
السادسة: يفيد الجمع بين قوله تعالى [مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] وبين خاتمة الآية أن الله عز وجل يعلم بأن الغيظ الذي يتصف به الكفار بلغ مرتبة ودرجة تؤدي بهم إلى الموت حسرة.
ويحتمل قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] وجهين:
الأول: أنه داخل في جملة القول الذي أمر الله عز وجل به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقوله للكفار.
الثاني: مجئ الخاتمة قانوناً ثابتاً، وتوكيداً لمضامين الآية كلها.
والصحيح هو الثاني، ولكنه لايمنع من القول الأول بلحاظ أن الخاتمة بذاتها تذكير وموعظة وإنذار، وقد جاءت آيات عديدة في خطاب المسلمين، كما في قوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( )، فمن الإعجاز في الآية أنها ذات أثر مركب ومتعدد ومتباين.
فخاتمة الآية وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن في دلالتها وجوهاً:
الأول: الخطاب للكفار وفيه مسائل:
الأولى: الإنذار والوعيد للكفار، لأن الله عز وجل يعلم ما في صدورهم فيحصي عليهم نواياهم في السوء والخبث وبغضهم وحسدهم للمسلمين.
الثانية: إقامة الحجة على الكفار في الدنيا.
الثالثة: جعل الكفار يستحضرون دائماً حقيقة ثابتة وهي أن الله عز وجل يعلم ما في صدورهم، وهذا الإستحضار مقدمة لتخفيف وطأةّ وأثر غيظهم على المسلمين.
الثاني: الآية خطاب للمسلمين والمسلمات، وفيه مسائل:
الأولى: البشارة للمسلمين بأن الله عز وجل ناصرهم على أعدائهم.
الثانية: إن الله عز وجل يعلم ما في صدور الكفار فيطلع المسلمين عليه، ويجعل المسلمين في حال يقظة مستمرة.
الثالثة: إخبار المسلمين بأن ما جاء في بداية الآية من حبهم لغيرهم نتيجة لعلم الله عز وجل بما في صدور الناس جميعاً، ومن فضل الله عز وجل أن علمه بحالهم سبيل لتثبيتهم في منازل الإيمان.
الرابعة: تبعث خاتمة الآية السكينة في قلوب المسلمين بان الله عز وجل يعلم ما في صدور أعدائهم، فاذا همّوا بالتعدي على المسلمين فان الله عز وجل يطلع المسلمين على نواياهم، ويبشر المسلمين بإسباب النصر.
الثالث: تؤكد خاتمة الآية مضامين هذه الآية والآية السابقة من وجوه:
الأول: لقد إبتدات الآية السابقة بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] والصلة بينه وبين خاتمة الآية المدح والثناء على المسلمين والشهادة من عندالله بأن المسلمين بلغوا المراتب العالية في المعارف الحاصلة في قلوبهم وحالات الكمال التي هي أسمى درجات الإنسانية وأن قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ليس حكماً على الظاهر بل عن علم الله عز وجل بما تخفي صدور المسلمين والناس جميعاً.
الثاني: الزجر عن إتخاذ المسلمين بطانة وخاصة من دونهم، وهذا الزجر بسبب علم الله عز وجل بما تخفي صدور الكفار من الغيظ على المسلمين وفيه دعوة للمسلمين لعدم التفريط بالنعمة العظيمة بإخبارهم عما في صدور الكفار من الغيظ عليهم، وكون هذا الغيظ مقدمة لبث السموم من منازل البطانة والخاصة.
الثالث: من عظيم قدرة الله عز وجل أن يعلم ما تخفيه الصدور، وما ستخفيه وما يطرأ عليها من الخواطر في المستقبل، بالنسبة للموجود والمعدوم، فهو سبحانه يعلم الذين يولدون من الناس في المستقبل القريب والبعيد، وما يطرأ على قلوبهم من الدواعي والصوارف والبواعث.
الرابع: من علم الله عز وجل ان ما يطرأ على القلوب من الخواطر يعلمها الله ولاينساها وهي حاضرة عنده، دائماً، ومنها نوايا الكفار في سعيهم لإتخاذ المسلمين لهم بطانة، لذا تبعث الآية الفزع والخوف في قلوب الكفار، لما فيها من الإخبار عن قصد الكفار إثارة أسباب الفساد والإفساد بين المسلمين.
الخامس: جاءت الآية السابقة بقوله تعالى [وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ] وجاءت خاتمة هذه الآية بتوكيد صدق مضامين الآية السابقة لأن الود كيفية نفسانية، ورغبة في الصدور، فأخبرت هذه الآية بعلم الله عز وجل به لأن الله سبحانه يعلم كل ما في صدور الناس.
السادس: لما كان الله عز وجل يعلم ما في الصدور فانه سبحانه يعلم ما في كلام الكفار، وما له من المقاصد والنوايا السيئة.
السابع: جاءت الآية السابقة بذكر الصدور أيضاً والنسبة بينه وبين ذكرها في هذه الآية العموم الخصوص المطلق، إذ ذكرت الآية السابقة صدور الكفار وما تخفيه من البغض والعداوة، أما هذه الآية فجاءت بالإطلاق وعلم الله عزوجل بكل ما في صدور الناس وما في صدور المسلمين من نوايا الخير، وحبهم للكفار السلامة بدخول الإسلام وما في صدور الكفار من الغيظ على المسلمين، ورغباتهم في التعدي على المسلمين، فلأن هذه الآية جاءت بذكر حب المسلمين للكفار وبغض الكفار للمسلمين جاءت خاتمتها بالإطلاق في بيان علم الله عز وجل لما في الصدور.
الثامن: أخبرت الآية السابقة عن بيان الله عز وجل الآيات للمسلمين، وتأديبهم وإرشادهم إلى إسباب الهداية والرشاد وكشف تخلف الكفار عن منازل البطانة للمسلمين، وجاءت خاتمة هذه الآية لتوكد أن بيان الآيات رشحة من رشحات علم الله عز وجل لما في الصدور وأنه سبحانه ليس فقط يعلم بما في الصدور، بل يكون هذا العلم رحمة بالمسلمين ببيان الآيات لهم، وفيه دلالة بأن بيان الآيات لنا وكشف الأسرار عن علم الله عز وجل.
التاسع: يفيد الجمع بين خاتمة الآية السابقة وهذه الآية حث المسلمين على الأخذ بقوة بمضامين الآيتين، والمناجاة في إجتناب إستيطان غير المسلم، مع التوقي وأخذ الحائطة منهم وتقدير الجمع بينهما: فاجتنبوا البطانة من دونكم إن كنتم تعقلون أن الله عليم بذات الصدور.
العاشر: في الآية إصلاح لما في صدور المسلمين من الدواعي والصوارف والنوايا ومتى ما أدرك المسلم أن الله عز وجل يعلم ما في صدره فانه يحرص على تعاهد الإيمان وإجتناب إسباب الشك والريب، ومن هذه الأسباب إتخاذ البطانة من غير المسلمين.
ولم تقل الآية إن الله يعلم ما في الصدور بل ذكرت الآية ذات الصدور وذات كلمة للمؤنث في مقابل (ذو) للمذكر، لإرادة الجميع ما في الصدور من الخلجات والأوهام والعزائم والمقاصد الحسنة أو السيئة.
وفيه إشارة إلى بديع خلق الله عز وجل للإنسان وما جعل عنده من أسباب التفكير وعالم التصور غير المقيد بحد، فكما جعل الله عز وجل كلمات القرآن محدودة وهي تحيط باللامحدود من الوقائع والأحداث، فانه سبحانه جعل صدر الإنسان محدوداً في هيئته إلا أنه يحتوي على النوايا والدواعي والأوهام غير المحدودة بحد مع الفارق بأن القرآن كله خير محض ونفع دائم، أما ما تخفيه الصدور فهو متعدد ويجمع المتضادين.
فجاءت الآية لبيان بركة وفضل القرآن على الناس بإصلاح ما في صدورهم، وتهذيب ما في نفوسهم وتوجيه الدواعي والصوارف بما فيه مرضاة الله عز وجل.
بحث بلاغي
من ضروب الإطناب وهو إرادة المتكلم غرضاً فيقوم بتكميله وتأكيده بالبيان بألفاظ ومصاديق وقصص سالفة، تكون تأسيساً لمدارس في العلوم، وإستدل عليه بقوله تعالى [وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] الآيات فيها عنوان علم الكلام وعلم الجدل وعلم الهيئة]( ).
وجاءت الآية محل البحث لبيان موضوعية وأهمية البطانة والخاصة التي يتخذها المسلمون، وذكرت علة النهي عن إستبطان الكافر لوجود المانع الذاتي عنده وتخلفه عن الإرتقاء إلى منازل البطانة، وبينت هذه الآية حب المسلمين لغيرهم، ليكون المنع من إستبطان الغير آية إعجازية في العناية الإلهية بالمسلمين وتوجيههم لما فيه نفعهم ووقايتهم وفوزهم برحمة الله لأنهم يؤمنون بالكتب السماوية كلها لتوكيد المحافظة على هذا الإيمان ومنع حصول اللبس والشك فيه الذي قد يأتي من إتخاذ غير المسلم بطانة.
إذ ينفرد المسلمون بالتصديق بكل الكتب السماوية فأراد الله عز وجل أن يبقى هذا الإيمان مستقراً في نفوسهم، وحجة على غيرهم، ودعوة للناس للتصديق بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها جاءت لتثبيت التصديق بالكتب السابقة، وتعاهد الإيمان في الأرض.
علم المناسبة
ورد لفظ (الصدور) أربعاً وثلاثين مرة، بصيغة الجمع والخطاب والغائب، منها خمس مرات في سورة آل عمران، وهي أكثر السور التي ذكر فيها لفظ (الصدور) ولم يذكر هذا اللفظ في سورة البقرة، وكأن سورة آل عمران هي (سورة الصدور) التي تبين إحاطة الله عز وجل علماً بما في صدور الناس.
وتكرر لفظ الصدور في الآية السابقة وهذه الآية إذ ذكرت الآية السابقة مايضمره الكفار من البغضاء والحسد للمسلمين، وأنه أكبر مما يظهر على ألسنتهم، وذكرت الآية السابقة حال الذين كفروا والإخبار عما في صدورهم من الحسد والغيض.
أما هذه الآية فجاءت بالإخبار عن حب المسلمين لغيرهم، وبغض الكفار للمسلمين فلذا جاءت بلغة الإطلاق بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ].
وتضمنت آيات القرآن الإخبار عن أن الله عز وجل هو وحده العالم بما في صدور الناس قال تعالى [أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ]( )، والآية إنحلالية وتقديرها أنه سبحانه أعلم بما في صدر الإنسان من نفسه.
إذ أن الإنسان تخطر عليه الخواطر والدواعي والأماني ثم لايلبث أن ينساها، ولكن الله عز وجل لا ينساها ومن فضل الله عز وجل على الناس أن علمه بما في الصدور خير محض، وهو سبب للنفع العام وإصلاح النفوس وتهذيب الأخلاق، وتثبيت الإيمان وإزاحة الباطل، قال تعالى [وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
ولقد خلق الله عز وجل الإنسان وتغشاه برحمته ولم يتركه وشأنه، بل أنزل الكتب السماوية لإصلاحه ومعافاته من الأدران، وقد أنعم الله على الناس بالقرآن ليكون واقية من أمراض القلوب، وسبيلاً إلى النجاة من الكدورات، قال تعالى [قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ]( ).
ومن مصاديق الشفاء مضامين هذه الآية وما فيها من الإخبار عن إيمان المسلمين بالتنزيل والكتب السماوية كلها، وكشف حال الغيظ والحسد عند الكفار، ولزوم الحيطة والحذر منه.
وتدل الآيات على أن المسلمين ينتفعون من علم الله عز وجل لما في الصدور، وأنه حجة على الكفار وسبب لضعفهم ووهنهم وعجزهم عن صد ومنع إنتشار الإسلام، وهو حجة على الناس يوم القيامة عندما يقفون بين يدي الله عز وجل للحساب، قال تعالى [إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
وفيه بيان لأثر وموضوعية النوايا عند الحساب، ويروى في دعاء موسى عليه السلام : إلهي دلني على أخفى نعمتك على عبادك ، فقال: أخفى نعمتي عليهم النَفَس . ويروى إن أيسر ما يعذب به أهل النار الأخذ بالأنفاس( ).
بحث بلاغي
من وجوه البديع (حسن النسق) وهي أن يأتي المتكلم بكلمات متتاليات معطوفات، يتعقب بعضها بعضاً بنسق بديع، وتلاحم بهيج، لتكون كل واحدة منها عوناً في فهم معنى الأخرى، وكل جملة منها لها معنى مستقل بذاتها إلى جانب ما يستقرأ من إتصالها بغيرها، مما سبقها أو تأخر عنها.
وتتصف هذه الآية بأن كل كلمتين أو أكثر لها معنى خاص بها، ويتعلق بغيرها من مضامين الآية والآية السابقة إذ بدأت الآية بخطاب المسلمين (ها أنتم أولاء) معطوفاً على الخطاب الوجه لهم في الآية السابقة [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
ويفيد العطف أن الآية جاءت لتعليم وهداية المسلمين، وحثهم على إجتناب الزلل والخطأ، ثم جاء قوله تعالى [وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ] ليفيد الإطلاق في بغض الكفار للمسلمين، فهم لايريدون لهم السعة في الرزق، والنصر على الأعداء وكثرة الأولاد والأموال، والأمن في الديار.
فلا ينحصر عدم الحب بالذات والشأن بل يشمل المنافع والمصالح وأن الكفار لايحبون الخير والنفع للمسلمين، مما يستلزم من المسلمين الحذر في السراء والضراء وجاء النهي عن إتخاذهم بطانة ليكون من أرقى وأهم مصاديق الحذر والإحتراز، وجاء قوله تعالى [وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ] موضوعاً عقائدياً، تتفرع عنه مسائل كلامية متعددة، لاتنحصر بالمسلمين بل تكون حجة على الآخرين.
إذ أن التصديق بالكتب السماوية كلها شرط من شروط الإيمان، وقد إنفرد المسلمون به، ويكون وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: المؤمنون هم الذين يصدقون بالكتب السماوية كلها.
الصغرى: المسلمون يصدقون بالكتب السماوية كلها.
النتيجة: المسلمون هم المؤمنون.
وجاء قوله تعالى [وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ] معطوفاً على قوله تعالى [وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ] لبيان وجه من وجوه غيظ الكفار وعدم رضاهم عن التصديق بكل آيات القرآن والكتب السماوية المنزلة، وفي الجمع بينهما دعوة للمسلمين للصبر وتحمل أذى الكفار ومايترشح عن بغضهم للمسلمين بسبب إيمان المسلمين، وإصرار الكفار على الجحود والضلالة.
ثم جاءت جملة أخرى معطوفة على الإيمان بالكتاب كله وهو قوله تعالى [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا] ومن إعجاز الآية أن ذكر قولهم آمنا لم يأت الا بعد ذكر بغض الكفار للمسلمين، وإيمان المسلمين بالكتاب كله.
ليتبين للمسلمين ما عليه الكفار من النفاق لأن الإيمان لايجتمع مع بغض المسلمين، فمن يقول أنه مؤمن لابد أن يحب المسلمين لأنهم بادروا إلى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وجاء عدم حب الكفار للمسلمين على نحو العموم والقطع، أما قولهم آمنا فجاء مقيداً بشرط اللقاء بالمسلمين، وفيه تحذير للمسلمين وإشارة إلى موضوعية البغض والكره عند الكفار حتى في حال لقائهم للمسلمين وقولهم آمنا.
ثم جاء قوله تعالى [وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ] لبيان مايملأ صدور الكفار من البغض والحقد والحسد، وحتى إذا لم تخبر الآية عن عدم حبهم للمسلمين، ولم تذكر إدعاءهم الإيمان بحضرة المسلمين فإن هذا الشطر من الآية يؤكد بغض وعداوة الكفار للمسلمين، ولزوم حذر المسلمين، وكأنهم في حال رباط دائم ومتصل.
وجاء قوله تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] جملة مستقلة في المعنى، وخطاباً خاصاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويشمل المسلمين بالإلحاق، وتبين الآية دفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن المسلمين، وأثر دعائه في دفع شر وغيض الكفار.
إذ أن هذه الآية وما فيها من الخطاب الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باقية إلى يوم القيامة، وفيها فيض من فيوضات النبوة، وحضور دائم لها في المواجهة بين المسلمين والكفار مما يكون سبباً لرجحان كفة المسلمين.
وقد جاءت الآية بالخطاب من عندالله عز وجل للمسلمين بواو الجماعة (تحبونهم)، (تؤمنون)، (واذا لقوكم) وبالكاف وميم جمع المذكر (عليكم)، وجاء هذا الشطر بالأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمخاطبة الكفار، ودل على أن المراد من الواو في (موتوا) هم الكفار، وتدل عليه قرينتان:
الأولى: دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الكفار بالموت وهم في حال الغيظ.
الثانية: قوله تعالى (غيظكم) والمتعلق بالشطر السابق وأن نفوس الكفار مملوءة غيظاً وبغضاً للمسلمين.
ويبين هذا الشطر أن الله ورسوله عدوان لمن يعادي المسلمين، وفيه بشارة الظفر والغلبة على الكفار والمعاندين.
وجاءت خاتمة الآية “إن الله عليم بذات الصدور” لبيان قاعدة كلية، وقانون ثابت بأن الله عز وجل أحاط علماً بخفايا الصدور، وهو ناصر المسلمين وفيه دلالة على إبطال نوايا السوء للكفار، وردعهم عن إيذاء المسلمين.
قوله تعإلى [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ]الآية 120.
الإعراب واللغة
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ: إن أداة شرط، تمسسكم: مثل الشرط مجزوم، والكاف مفعول به مقدم يعود للمسلمين، حسنة: فاعل مؤخر، تسؤهم: جواب الشرط مجزوم، والهاء: مفعول به، والفاعل ضمير مستتر، تقديره هي يعود للحسنة.
وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ: جملة معطوفة على الجملة السابقة مماثلة لها في الإعراب.
يَفْرَحُوا: فعل مضارع، والواو: فاعل، بِهَا: جار ومجرور متعلقان بسيئة.
وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا: أداة شرط.
تعبدوا: فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، الواو: فاعل، تتقوا: عطف على تصبروا.
لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا: لا: نافية، يضركم: جواب شرط، والأصل في الراء هو السكون لمكان الشرط، وبه قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب مع كسرهم للضاد، ولكنه حرك بالضم مع التشديد إتباعاً لحركة الضاد، والكاف: مفعول به: كيدهم: فاعل مرفوع بالضمة، وهو مضاف والضمير الهاء مضاف إليه، شيئاً: مفعول مطلق أي شيئاً من الضرر.
إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ: إن: حرف مشبه بالفعل، اسم الجلالة: اسم إن، محيط: خبر إن مرفوع بالضمة، بما: جار ومجرور متعلقان بمحيط، يعملون: فعل مضارع مرفوع بثبوت النون، الواو: فاعل، محيط خبر إن مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره، والجملة لامحل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول.
ويقال مسسته اُمسه مساً ومسيساً أي لمسته باليد، وأستعير للأخذ والضرب، وللجماع بإعتبار أنه من اللمس المباح بالعقد، وجاء قوله تعالى حكاية عن مريم بنت عمران [وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُنْ بَغِيًّا] أي لم يصل إليها رجل عن طريق الزواج، ولا قربها أحد على غير الزواج لبيان آية خلق الله لعيسى عليه السلام من غير أب.
والحسنة النعمة والغنيمة والخصب والخير والنماء، وتأتي الحسنة بمعنى الفعل الحسن والطاعة وإتيان الفريضة وفعل المستحب كما في قوله تعالى [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]( )، أي أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها.
لكن الآية جاءت لما يأتي المسلمين، ومايتلقونه من النعم من عند الله عز وجل، وضد الحسنة السيئة، وهي في أفعال الناس الخطيئة والمعصية والعمل القبيح شرعاً وعقلاً، ويطلق لفظ السئ على الذكر من الأفعال المنكرة والقبيحة، كما في قوله تعالى [وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ]( )، والتأنيث في لفظ السيئة هو الغالب في الإستعمال.
والمراد من السيئة في الآية الآفة والبلية والداء من الخسارة في المعركة أو في التجارة والفتنة والمعصية.
الضرر ضد النفع، والمضرة خلاف المنفعة يقال ضره يضره ضراً وضاره مضارة وضراراً والاسم الضرر، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لاضرر ولا ضرار في الإسلام.
ومن قرأ بالسكون (يضرْكم) فهو من ضاره يضيره ضيراً، والضراء النقص في الأموال والأنفس، والكيد: الخبث والمكر والإحتيال يقال كاده يكيده كيداً ومكيدة.
ومن أسماء الله عز وجل (المحيط) وهو الذي يعلم بالأشياء جميعاً لا تخفى عليه منها جهة من جهاتها.
ويقال أحاط بالأمر إذا أحدق به من حواليه، وأصل المحيط بالشئ هو المطيف به من جهاته كلها، وهو من صفات الأجسام لذا يسمى الجدار بالحائط لأنه يحوط ما فيه.
ويقال حوّط كرمه تحويطاً أي بنى حوله حائطاً، والله عز وجل منزه عن صفات الأجسام، فإحاطته بالأشياء علمه، لذا وردت الآية بخصوص الأعمال لإرادة الفعل المتعدد في أفراد الزمان الطولية المختلفة وللإخبار عن علم الله عز وجل بالأفعال مطلقاً.
في سياق الآيات
الصلة بين الآيات السابقة وهذه الآية وفيه وجوه:
الأول: جاءت آية (كنتم خير أمة) للثناء على المسلمين وأنهم أحسن الأمم، يتعاهدون عبادة الله في الأرض، ويدعون الناس للإيمان ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والأصل ان الحسنة التي تصيب المسلمين يفرح بها الناس جميعاً لأنها تثبيت لمعاني الصلاح في الأرض، ويفيد الجمع بين الآيتين بأن كيد الكفار لن يضر المسلمين لأنه من صفات خير أمة التحلي بالصبر والتقوى.
وفي الآية لوم للكفار لأن المسلمين خير أمة وأخرجوا لهم ولغيرهم فيجب أن لايشتهوا حين نزول مصيبة بالمسلمين.
الثاني: تفيد الصلة بين قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ]( )، وبين هذه الآية
بأن كيد الكفار لايؤدي إلى الإضرار بالمسلمين ولايكون فيه أذى لهم، وتلك آية في تعيين الأسباب التي يأتي منها الأذى من الكفار، وفيه بشارة للمسلمين بأن كيد الكفار لن يسبب الأذى للمسلمين إذا إلتزموا الصبر والخشية من الله عز وجل، وتقدير الجمع بين الآيتين [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى].
وليس من أذى في المقام مع صبركم وتقواكم، وجاءت آية (لن يضروكم إلا أذى) بالإخبار عن تلقي المسلمين الأذى من الكفار مما لا يرقى إلى مرتبة الضرر القادح.
وجاءت هذه الآية بنفي الضرر من كيد الكفار، وليس من تعارض بين الآيتين لأن كلاً منهما تنفي الضرر، نعم جاءت هذه الآية بالنفي المطلق له، بينما أخبرت الآية أعلاه عن حصول الأذى وهو مرتبة أدنى من الضرر.
ويفيد الجمع بين الآيتين أن الأذى الذي يأتي من الكفار على وجوه:
الأول: تقصير المسلمين في منازل الصبر.
الثاني: تخلف المسلمين عن مراتب التقوى والخشية من الله عز وجل.
الثالث: يأتي الأذى من الكفار من غير جهة الكيد المذكور في هذه الآية
الرابع: إرادة دفع وتحمل المسلمين لما في كيد الكفار من الأذى.
والصحيح هو الثالث والرابع، وفيه إعجاز في نظم الآيات والدروس المقتبسة من الجمع بينهما.
الثالث: الصلة بين آية (بحبل من الله) وبين هذه الآية ، وفيه بيان لفضل الله عز وجل على المسلمين بالتخفيف عنهم ودفع شر الكفار الذين كانوا يقتلون الأنبياء ويكفرون بالآيات، وأصبحوا عاجزين عن الإضرار بالمسلمين، وإكتفوا بالفرح إذا حلت بهم مصيبة أو سبب للحزن، ومن التخفيف أن كيدهم لايضر المسلمين.
الرابع: الصلة بين آية [لَيْسُوا سَوَاءً]( )، وفيه لطف بالمسلمين، وإخبار بأن أمة من أهل الكتاب لاتسوؤهم الحسنة التي ينالها المسلمون.
الخامس: الصلة بين آية [يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]( )، وبين هذه الآية، وفيه أن الإيمان بالله واليوم الآخر واقية من الكيد والمكر بالمسلمين، ومن يسارع في الخيرات لايحزن إذا جاءت النعمة للمسلمين، وأن الصالحين عون للمسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادس: الصلة بين آية [لَنْ تُغْنِيَ]( )، وبين هذه الآية وفيه دلالة على أن مصيبة الكفار مستديمة لعدم إنتفاعهم من أموالهم وأولادهم في دفع البلاء والعذاب، وإذ كان المسلمون تصيبهم النعمة والغنيمة فان الكفار لايستطيعون دفع البلاء عن أنفسهم بالمال والولد.
السابع: الصلة بين آية [رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ]( )، وبين هذه الآية، وفيه بشارة للمسلمين بأن ما ينفقه الكفار في الكيد بالمسلمين لن يضر المسلمين شيئاً لأن الله عز وجل يجعله هباء .
وفي الجمع بين الآيتين دليل على أن حزن الكفار بالنعمة التي تأتي المسلمين إنما هو من ظلم الكفار لأنفسهم، وليس لتخلف المسلمين عن النعمة وإن فرحهم عند حلول مصيبة بالمسلمين ظلم منهم بأنفسهم، وهو شاهد على أن كيدهم لن يضر المسلمين، وأنه يرجع بالأذى على الكفار أنفسهم.
الثامن: الصلة بين آية [البطانة]( )، وهذه الآية، وفيه حث للمسلمين لا يتخذوا بطانة وخاصة من الذين يحزنون إذا أصابت المسلمين نعمة وخير، ويفرحون إذا حلت بهم مصيبة وإن هؤلاء يرجون الفساد وحلول الأذى والضرر بالمسلمين.
ومن مصاديق الصبر والتقوى اللتين ذكرتهما هذه الآية إجتناب إتخاذهم بطانة لتكون النتيجة ماجاء في هذه الآية بقوله تعالى [يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] وبين هذه الآية وفيه توكيد عدم حب الكفار للمسلمين وشاهد على بغضهم للمسلمين بان يكرهوا الخير لهم، ويرجون البلاء والضرر لهم ، وإخبار بأن عض أناملهم غيظاً لن يضر المسلمين من باب الأولوية القطعية لما في هذه الآية من الإخبار بأن كيد الكفار لن يضر المسلمين شيئاً.
وإذ جاءت الآية قبل السابقة بظهور البغض والكره على ألسنة الكفار، وماتخفي صدورهم أكبر، وجاءت الآية السابقة بقيام الكفار بعض أصابعهم من الحسد والبغض للمسلمين جاءت هذه الآية لبيان أنهم لم يقفوا عنه حدود عض الأصابع في الخلوة، بل إنهم يمكرون بالمسلمين ويكيدون بهم، ويسعون في الإضرار بهم، وهو من إعجاز نظم الآيات، وأسرار سياق الآيات، وفيه مسائل:
الأولى: إستقلال كل موضوع في آية، فظهور البغض والعداوة للمسلمين، يبين سوء إختيار الكفار.
الثانية: التدرج في بيان بغض الكفار للمسلمين، إذ أخبرت آية البطانة عما تخفيه صدور الكفار من الحسد والعداوة للمسلمين، وجاءت الآية السابقة بالإخبار عن عض الكفار والمنافقين لأناملهم غيظاً وبغضاً للمسلمين، ثم جاءت هذه الآية لتخبر عن حسد الكفار، وسعيهم للكيد بالمسلمين.
الثالث: الصلة بين هذه الآية والآيات اللاحقة وفيه وجوه:
الأول: جاءت الآية التالية في الإخبار عن قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتهيئة المسلمين لمواجهة العدو في ساحة المعركة، والتحلي بالصبر والتقوى، لدفع كيدهم، والإجتهاد في القتال طلباً للنصر والظفر لكي لا يشمت بهم الكفار.
الثاني: الصلة بين هذه الآية، وقوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ]( )، وفيه تنبيه وتحذير للمسلمين من الفتنة والخلاف بينهم لأنه لما فيها من الضعف وجعل الكفار يفرحون لما يصيب المسلمين بسبب الهم بالرجوع إلى المدينة وترك القتال ومواجهة المشركين من قريش، مع بيان المدد الإلهي للمسلمين بقوله تعالى [وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] وفيه بشارة وإخبار بأن كيد الكفار لن يضر المسلمين لأن الله عز وجل ناصر المسلمين.
وإذ جاءت خاتمة الآية محل البحث بالإخبار عن علم الله عز وجل بكل ما يفعل الكافرون، جاءت خاتمة آية [إِذْ هَمَّتْ] بالثناء على المؤمنين الذين يبوء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقاعد القتال لهم بأنهم متوكلون على الله عز وجل، ليتضمن الجمع بين خاتمتي الآيتين خزي الكفار، ونصر المسلمين.
الثالث: الصلة بين هذه الآية وآية [نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( )، وفيه شاهد على نزول النعمة والحسنة بالمسلمين لأن النصر فضل ونعمة من عند الله عز وجل، فبعد الذلة وشماتة الأعداء، جاء النصر والغلبة وما يحزن الكفار، وفيه دعوة للمسلمين لتعاهد النصر بالصبر والخشية من الله عز وجل، فقد يسعى الكفار للإضرار بالمسلمين عند حصول النصر والظفر لهم، وجاء ذكر التقوى في هذه الآية بصيغة الشرط [إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] أما في آية [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ] فجاء بصيغة الأمر [فَاتَّقُوا اللَّهَ] لتكون خشية الله عز وجل من مصاديق ومقدمات الشكر له سبحانه.
الرابع: الصلة بين هذه الآية وآية [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ] وفيه شاهد على نزول النعمة على المسلمين حتى في حال القتال والشدة، أي أن الحزن يصيب الكفار على نحو القطع والجزم، لأن مدد الملائكة علة لتحقيق النصر والظفر للمسلمين على الكفار يوم بدر.
الخامس: الصلة بين هذه الآية وآية [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]( )، وفيه بيان لمنافع صبر المسلمين وخشيتهم من الله، وأنه لا ينحصر بدفع كيد الكفار بل يكون سبباً لوصول المدد من الملائكة نصرة وعوناً من الله عز وجل للمسلمين، فمع حضور الملائكة لن يضر المسلمين كيد الكفار.
السادس: الصلة بين هذه الآية وآية [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، فان نصر المسلمين هزيمة للكفار، وقطع لكيدهم ومكرهم بالمسلمين، ويكون قطع للطرف من الكفار إنذاراً وتخويفاً لغيرهم من الكفار ففي نصر المسلمين على القريبين منهم من الكفار كشف لغيرهم ممن يكون في عمق بلاد الكفر والشرك.
ويكشف الجمع بين هذه الآية والآية التالية عن إعجاز القرآن، يتجلى بتعاون الكفار والمنافقين لمنع وصول النعمة والحسنة والنصر للمسلمين، وجلب الضرر والخسارة إليهم، فيقوم الكفار بالهجوم على المسلمين في عقر دارهم، ويجتهد المسلمون للقتال، ويتولى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه وضعهم في مواقعهم لقوله تعالى في الآية التالية [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] وقبل أن تبدأ المعركة حتى ينسل المنافقون لمحاولة خذلان المسلمين وبعث روح الهزيمة بينهم لتأتي خاتمة هذه الآية بشارة للنصر والغلبة [إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ].
الآية سلاح
تبعث الآية الكريمة المسلمين إلى السعي والإجتهاد في مرضاة الله، وتخبر عن معاني الإبتلاء في الحياة الدنيا، وأنها دار فيها النعمة والخير، وفيها المصيبة والبلاء، وأن الله عز وجل أنعم على المسلمين بهذه الآية لتكون لهم سلاحاً في السراء والضراء، في النعمة والبلية، وهو من خصائص خير أمة أخرجت للناس بأن رزقها الله عز وجل هذا السلاح، وجعلها في حرز وواقية من الكفار إذ تدعو الآية المسلمين للإحتراز من مكر الكفار عندما يحقق المسلمون النصر، وعندما تصيبهم خسارة.
وتدعو الآية لسلاح التقوى في مواجهة الكفار، وفيه شاهد بأن المسلمين لم ينتصروا بالسيف وحده، بل إنتصروا بتحمل الأذى في مرضاة الله، وفي الخشية منه سبحانه، ولو أراد الكفار قتال المسلمين فهل هو من الكيد الذي ذكرته الآية الجواب نعم ويكون الدفاع عن الإسلام حينئذ من مصاديق الصبر والتقوى اللذين أمرت بهما هذه الآية الكريمة.
وتدعو الآية الكريمة المسلمين إلى عدم الوهن أو الضعف عند المصيبة والبلوى، لكي لا يشمت الأعداء، ولأن النعمة والحسنة قادمة وناسخة للبلوى.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الثبات في منازل الإيمان فأمدهم بهذه الآية لتكون حصناً وسلامة من الكدورات التي تأتي بسبب غيظ وبغض الكفار، وعوناً لهم في أداء الفرائض والعبادات، ليكون هذا الأداء طريقاً ووسيلة مباركة لنزول النعم من عندالله عز وجل.
مفهوم الآية
تؤكد الآية أن الدنيا دار إمتحان وبلاء، وفيها يلاقي الإنسان ضروب البلاء وما فيها من السعادة والغبطة، وما فيه الأذى والحزن وأن الإيمان بالله والتصديق بالنبوة والكتب السماوية لايستثنى الفرد والجماعة المؤمنة لأنه عام وشامل للناس جميعاً، ولكن تأتي الرحمة الإلهية للمسلمين بالتخفيف في أفراد ومصاديق هذا القانون، ومن التخفيف هذه الآية الكريمة,
وصحيح أن الآية جاءت بلغة الشرط [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ] ولكنها تتضمن بشارة النعمة ونزول الفضل الإلهي على المسلمين وتقدير الآية عندما تصيبكم حسنة تسوءهم.
ومن الآيات أن إبتداء الآية بذكر الحسنة والنعمة قبل السيئة للدلالة على كثرة النعم التي يتفضل الله عز وجل بها على المسلمين، وفيها دعوة للشكر لله عز وجل على النعم، والإنتفاع الأمثل منها، وعدم جعلها تذهب أو تغادر المسلمين لأن السيئة قد تأتي بالذات، وقد تكون بالعرض والأثر.
وفي الآية مسائل:
الأولى: الآية خطاب للمسلمين، وفيه تحد وأذى للكفار، لأن هذا الخطاب بذاته حسنة ونعمة إذ يتفضل الله عز وجل على المسلمين بتوجيه الخطاب لهم تحذيراً وتأديباً وإرشاداً.
الثانية: في الآية إخبار عن إستدامة حال الحزن عند الكفار، لأن النعم الإلهية على المسلمين متواترة ومتعددة، وتأتي المصيبة والخسارة وسط النعم المتوالية فيفرح بها الكفار ولكن سرعان ما يزول هذا الفرح.
الثالثة: تمنع الآية في مفهومها المسلمين من الجزع ، وإستيلاء الفزع على النفوس، وتحذر من التفريط في العبادات والفرائض، لقوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] إذ ينفذ أعداء الإسلام من حال الجزع وقلة الصبر، ويبثوان سمومهم، عندما يبتعد السامع عن منازل الخشية من الله عز وجل، فجاء الأمر بالصبر والتقوى واقية من كيد الكفار.
الرابعة: تبين الآية وجود كيد ومكر عند الكفار والمنافقين وإرادة التعدي على المسلمين والإضرار بهم، وجاءت هذه الآية حرزاً من شرهم وأذاهم، ودعوة للمسلمين للصبر والتحمل.
الخامسة: يعتبر أثر الكيد من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وجاءت الآية بالبشارة لرد كيد الكفار وعدم ترتب أثر له على المسلمين، ليس هذا فقط بل إن كيد الكفار يرجع على أنفسهم وهو من مصاديق ظلمهم لأنفسهم وإختيارهم الإضرار بها، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
السادسة: الآية بشارة الأمن والسلامة من القوم الكافرين والمنافقين، وبسلاح الصبر والخشية من الله عز وجل، والحرص على تعاهد العبادات والفرائض، وهي مدرسة في التقوى وبيان منافعها الوقائية، فاذا أراد المسلمون الإحتراز من شر ومكر الكفار تقيدوا بأحكام التقوى، وحرصوا على طاعة الله ورسوله في السر والعلانية.
إعجاز الآية
يتجلى الإعجاز في هذه الآيات بما تتضمنه من علوم الغيب، والأسرار التي لايعلمها إلا الله عز وجل خصوصاً وأن الآية جاءت بصيغة الشرط ولغة الإستقبال، والإخبار عن الحوادث والوقائع في قادم الأيام مع إشارتها إلى الماضي أيضاً.
وإذ جاءت الآية السابقة بالإخبار عن عض الكفار أطراف أصابعهم على المسلمين غيظاً وحسداً، جاءت هذه الآية بالإخبار عن حرص الكفار والمنافقين على متابعة أحوال المسلمين وماينالون ومايتعرضون له، وفي هذا الحرص وحده أذى للكفار لما فيه من الإشتغال بمتابعة أحوال المسلمين وملاحقة أخبارهم.
فاذا كانت بطانة المسلمين من المنافقين والكفار فانه يسهل عليهم الإطلاع على أمور المسلمين ومايحدث لهم، فجاءت هذه الآيات لمنع الكفار من متابعة أحوال المسلمين ورصد أخبارهم، ومن علوم الغيب في الآية أمور:
الأول: بيان حال الفرح والحزن عند الكفار، وهما كيفية نفسانية لايطلع عليهما إلا الله عز وجل.
الثاني: الملازمة بين نيل المسلمين النعمة وحصول الحزن عند الكفار، وبين إصابة المسلمين ببلية وضرر وفرح الكفار.
الثالث: صدور الكيد والمكر من الكفار ضد المسلمين وأنهم لم يقفوا عند عض الأنامل من الغيظ.
الرابع: إنتفاع المسلمين مما في الآية من علوم وأسرار الغيب بالإحتراز والتوقي من الكفار، وتلك نعمة أخرى على المسلمين.
لتكون كل آية قرآنية حسنة تصيب المسلمين، فمع نزول الآيات يزداد حزن الكفار، ومن النعم على المسلمين بقاء القرآن في أيديهم، وحاضراً بين ظهرانيهم خالياً من التحريف والتغيير إلى يوم القيامة، مما يعني أن الكفار في حزن دائم ومتصل.
وهل يعني هذا أن الفرح لايأتيهم الجواب لا، لأن الدنيا دار إبتلاء وإمتحان وإن جاءت الآية بصيغة الشرط إن تصبكم سيئة، والذي يدل على إمكان الإبتلاء وليس على الحدوث والوقوع حتماً.
الخامس: الإخبار عن إنعدام أثر كيد الكفار إذا تقيد المسلمون بأحكام وآداب الصبر والتقوى.
وجاءت خاتمة الآية بشارة المسلمين لما فيها من علم الله عز وجل بما يفعل الظالمون وإحصاء أعمالهم، ودفع الله عز وجل عن المسلمين.
ويمكن إن نسمي هذه الآية آية “إن تمسسكم” ولم يرد لفظ تمسسكم إلا في هذه الآية الكريمة.
الآية لطف
يتفضل الله عز وجل ويبين للمسلمين مايضمره الكفار لهم من الحسد والبغض، وكيف أنهم يشهدون ما يصيب المسلمين فليس من حواجز وبرزخ بينهم وبين المسلمين فما ان تصيب المسلمين النعمة والخير حتى يراها الكفار فيحزنوا لها، وفي هذا البيان عون للمسلمين للإنتفاع من النعمة وتعاهدها والشكر لله عز وجل عليها.
فصحيح أن الآية جاءت بخصوص نفرة وغيظ المسلمين مما يأتي للمسلمين من النعم، إلا أنها حث سماوي للمسلمين للمحافظة على النعم، ويتجلى اللطف الإلهي في الآية بوجوه:
الأول: نزول النعمة والحسنة على المسلمين والإخبار بأن النعم الإلهية تترى على المسلمين.
الثاني: التحذير الإلهي من الكفار عند ورود النعمة على المسلمين.
الثالث: الإخبار عن سرور وفرح الكفار عند حلول مصيبة بالمسلمين.
الرابع: بيان الواقية من كيد الكفار بالحصانة الذاتية للمسلمين، فلم تأت الآية برد كيدهم بمثله، بل أخبرت عن لزوم تقيد المسلمين بمضامين سنن الصبر والخشية من الله عز وجل، ومنها عدم التعدي والمؤاخذة على الكيفية النفسانية عند الكفار التي أخبر الله عز وجل عنها في هذه الآية الكريمة.
الخامس: توكيد النهي عن إتخاذ الكفار والمنافقين بطانة وخاصة، ويأتي هذا التوكيد بلغة التحذير وبيان حال الكفار وما هم عليه من مراقبة المسلمين عسى أن يصيب المسلمين مكروه فيفرحون به.
ومن اللطف الإلهي في الآية بيان منافع الصبر والتقوى متفرقين ومتحدين، وأثر كل واحد منها في دفع أذى ومكر الكفار مع أنهما ليسا سلاحاً موجهاً إلى الغير، بل هما من الملكات التي ترسخ في النفس فتكون واقية من الكيد والشر والضرر.
إفاضات الآية
تتجلى في الآية منافع نعمة الإيمان، وما يترشح عنها من الأنوار القدسية التي تضئ للمسلم دروب الهداية، وتجعله يعرف النعمة ويحرص على تعاهدها، ويجتنب زوالها، أو مغادرتها، ومن وجوه الحرص هذه التوقي من الأعداء، وحسدهم وكيدهم، والإحتراز من إتخاذهم خاصة وبطانة، وتتجلى في الآية إفاضات أسرار الغيب التي أطلع المسلمين عليها والتي تؤكد نزول القرآن من عندالله.
لقد جعل الله عز وجل الإنسان محتاجاً، تصاحبه الحاجة في حياته وبعد مماته، وكما يحتاج الكافر أسباب الهداية، فان المسلم يحتاج الثبات في منازل الإيمان، والتحلي بمبادئ التقوى والخوف من الله في السر والعلانية، وجاءت هذه الآية للأمرين معاً.
وفي الآية مسائل:
الأولى: الآية عون للمسلمين في تثبيت مفاهيم الإيمان.
الثانية: ودعوة للكفار للتوبة والإنابة.
الثالثة: وشاهد على حاجة الناس للقرآن إماماً وهادياً ومؤدياً.
الرابعة: وتجعل الآية المسلم يسيح في سبحات أنوار الجلالة، ويتطلع إلى المدد الإلهي بنزول النعم والإعانة على إجتناب حسد الأعداء.
وتدعو الآية المسلمين إلى التحلي بالكمالات الإنسانية بإظهار معاني الصبر والتحمل، فمع أن الأرض والسموات ملك لله عز وجل، وبيده سبحانه مقاليد الأمور، فانه سبحانه يدعو المؤمنين العاكفين على عبادته إلى الصبر والتحمل، لأن الصبر طريق لنيل الثواب العظيم في الآخرة، وجاء إقتران الصبر بالتقوى، لتوكيد موضوع الصبر وأنه في مرضاة الله وصبر في طاعة الله وعند المصيبة للملازمة بين الأجر والثواب وبين قصد القربة والطاعة لله عز وجل.
وجاءت الآية للإخبار عن المنافع الدنيوية للإقتران بين الصبر والتقوى، وانهما سياحة في عالم الملكوت وآية باهرة في خلق الإنسان وإصلاحه لتلقي النعم بعين الرضا والقبول، فقد ينشغل الإنسان بالكيد والمكر أو التصدي لهما ولايلتفت إلى ما عنده ومايأتيه من النعم.
فجاءت هذه الآية لطرد الغفلة عن المسلمين، ومنع الإنشغال بما يأتي من الكفار من ضروب الكيد والمكر، وهذه الآية حرب على الكيد والبغضاء وآثار النفس الشهوية والغضبية، وتدعو إلى مراتب المعراج والإرتقاء في سلم الكمالات بإظهار الإنكسار والخشوع لله عز وجل.
وفي الآية ترغيب بدخول الإسلام، وإخبار للناس بانه واقية من الكيد ومكر أهل الحسد، وسبيل الفوز في الدنيا والآخرة، وبدأت الآية بذكر الحسنة وهي فيض من عند الله عز وجل على المسلمين عامة، ليكون في الآية بعث للأمل والرضا في نفوس المسلمين، ودعوة لهم لشكر الله عز وجل على نزول النعم عليهم لإسلامهم وإظهارهم الخشوع لله عز وجل.
فتمتلأ صدور الكفار منهم غيظاً لتقيدهم بأحكام الشريعة الإسلامية فيأتي الجزاء من عند الله عز وجل عاجلاً بنزول الحسنة والنعمة والخير، والتحذير من كيد ومكر الكفار كي ينتفع المسلمون من النعمة الإنتفاع الأمثل، وليكون هذا الجزاء شاهداً ومقدمة للجزاء الأعظم والدائم في الآخرة.
الصلة بين أول وآخر الآية
جاءت الآية بتمامها خطاباً للمسلمين وفيه إكرام وتشريف لهم، وشاهد على عظيم منزلتهم عندالله عز وجل بأن يخصهم بالخطاب في آيات القرآن ويطلعهم على أحوالهم وكيفية الإحتراز من أعدائهم، إذ ذكرت الآية ما يأتي للمسلمين من الخير والشر وأثره عند أهل الكفر والنفاق.
وذكرت الآية الحسنة والنعمة التي تأتي للمسلمين، وقدمت الآية ذكر الحسنة والنعمة، وفيه بعث للأمل والرجاء في نفوس المسلمين، والتطلع إلى رحمة الله ونزول النعم والخصب وحصول النماء ونيل المنافع وكأن الأصل توالي النعم على المسلمين وبينت أن الكفار يحزنون في كل مرة تأتي فيها نعمة إلى المسلمين.
ثم ذكرت الآية ما قد يصيب المسلمين من المصائب والنوائب فيفرح لها الكفار، وهو من مصاديق البغض والغيظ الذي يضمرونه للمسلمين، وجاء ذكر الحسنة بلغة المس، بينما جاء ذكر السيئة بلغة الإصابة والوقوع، وبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل إصابة هي مس وليس العكس، فيحزن الكفار والمنافقون حال مقاربة النعمة للمسلمين مما يدل على شدة غيظهم، وهو من مصاديق ماجاء قبل آيتين وفي آية (البطانة) وما تخفي صدورهم أكبر.
ثم ذكرت الآية فرح وسرور الكفار إذا حلت المصيبة والبلية بالمسلمين، وفيه دعوة للمسلمين للتوجه الى الله عز وجل بالدعاء لصرف المصيبة، وسبب فرح الكفار، وشماتتهم بالمسلمين، مما يدل على أن الكفار لم يتركوا المسلمين وشأنهم، ولا يريدون لهم الخير والنفع.
وتتضمن الآية في مفهومها الذم للكفار على قبح سرائرهم، ومايضمرون من البغض والغضب على المسلمين، ولم تقل الآية (إن تمسسكم سيئة يفرحوا بها) لأن الكفار يريدون رؤية حلول الضرر والأذى بالمسلمين.
ومن الآيات أن الآية لم تقف عند حدود الإخبار بما يصيب المسلمين وأثره عند الكفار بل بينت وظيفة المسلمين لتعاهد الحسنة، ودفع السيئة وآثارها، فقالت [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]، وفيه إرشاد وتعليم للمسلمين فمع الإيمان يجب إتيان الصالحات، وفعل الخيرات.
ومن إعجاز الآية أنها لم تقل أن الصبر والتقوى يدفع فرح الكفار بالمصيبة التي تنال المسلمين، بل قالت إن الصبر ، والخشية من الله عز وجل يدفعان كيد ومكر الكفار، والكيد الصادر من الكفار فعل ومكر ودهاء خبيث، بينما الفرح والحزن كيفية نفسانية، وتحتمل الصلة بيم كيد الكفار وبين حزنهم وفرحهم وجوهاً:
الأول: الكيد فرع الحزن فاذا حلت نعمة بالمسلمين حزن الكفار وقاموا بالكيد للمسلمين.
الثاني: يأتي الكيد من الكفار عقب الفرح والسرور بالمصيبة التي تحل بالمسلمين، فاذا نزلت بلية أو أفة بالمسلمين، إتخذها الكفار فرصة سانحة، وسارعوا للمكر والكيد بالمسلمين، في محاولة للإجهاز عليهم.
الثالث: يأتي الكيد من الحزن والفرح مجتمعين ومتفرقين، فإذا أصابت المسلمين نعمة غلبت النفس الغضبية على الكفار وقاموا بالكيد للمسلمين، وإذا نزلت بالمسلمين نازلة وألمت بهم بلوى فرحوا وقاموا بالكيد للمسلمين ظناً منهم أن المصيبة تضعف المسلمين.
الرابع: الكيد أمر مستقل ومنفصل عن حال الحزن والفرح التي تصيب الكفار، إذ يكيد الكفار للمسلمين في كل الأحوال حتى وأن لم يكن هناك سبب مباشر لحزن أو فرح الكفار.
الخامس: يببيت الكفار الكيد والمكر للمسلمين ، ويسعون للإضرار بهم ، أما الحزن بالنعمة التي تصيب المسلمين، والفرح بالمصيبة التي تحل بهم فهما فرعان من الكيد لذا أمرت الآية المسلمين بالصبر والتقوى للسلامة من الكيد، ومايتفرع عنه من حسد وشماتة الأعداء.
والتعارض بين هذه الوجوه شبهة بدوية، فبالتأمل يتبين إنعدام التعارض بينها للتداخل بين حال البغض والغيظ، ونية السوء والتعدي على المسلمين، وتفرع بعضها عن بعض.
وجاءت الآية بالفرد الأهم وهو الكيد، مما يدل بالأولوية القطعية على دفع الغيظ الذي ذكرته الآية السابقة، واسباب البغضاء التي تصدر على ألسنتهم.
وتبين الآية نعمة أخرى على المسلمين فالى جانب الحسنة والنعمة فإن الله عز وجل يصرف الكيد والشر عن المسلمين، وفيه منع من الحرمان من تمام النعمة، فقد يمكر الكفار بالمسلمين لزوال النعمة والحسنة التي تأتي من عندالله عز وجل فجاء قوله تعالى [لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] إخباراً بإستدامة النعمة وكأن قيد الصبر والتقوى شكر لله تعالى على النعمة، وسبب لإستدامتها وبرزخ دون ضياعها.
وجاءت خاتمة لبيان علم الله عز وجل بمكر الكفار والمنافقين وأنه سبحا نه هو القادر على رد كيدهم، وتقدير الآية: وإن تصبروا وتتقوا يرد الله كيدهم.
لقد هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يثرب فاراً بدينه وأسرار النبوة من قومه ، ليجد أهل يثرب في إستقباله إستقبالاً إيمانياً لم يشهد له التأريخ مثيلاً وتلك خصوصية في تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين، والمسلمين على الأمم الأخرى وهو من مصاديق [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
إذ إجتمع المهاجرون والأنصار على إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته بالنفس والمال والأهل، وجاءت هذه الآية لتجعل المسلمين متمسكين بمبادئ الإسلام، متحلين بأبهى معاني الأخوة بعد التباعد في النسب والبلد والعشيرة وموضوعيته في زمان التنزيل، ببيانها لحقيقة وهي أن الكفار يحزنون للحسنة التي تقارب أو تصيب المسلمين وأخبرت بأن الصبر والتقوى هو السبيل للنجاة والسلامة من كيد الكفار والمنافقين.
فبدأت الآية بصيغة الإخبار لتأتي بعدها بصيغة التأديب والتعليم والإرشاد لكيفية دفع كيد الكفار، فذكرت الآية أمرين يقدر عليهما المسلمون مجتمعين ومتفرقين وهما الصبر والتقوى، ولم تذكر شرطاً لدفع كيدهم مثل المال والسلاح والعدة، كي يقول بعضهم يصعب علينا هذا الشرط، بل جاءت الآية بإصلاح الذات، والهداية إلى العمل بأحكام القرآن والسنة.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: بيان عظيم فضل الله عز وجل بنزول النعم على المسلمين، وتأتي النعمة للفرد أو الجماعة أو للأمة، وجاءت هذه الآية لتخبر بأن النعم تأتي للمسلمين بصفة الإسلام، وفيه آية من عند الله عز وجل بأن خص المسلمين بنعم عظيمة كمسلمين إكراماً وتشريفاً لهم.
الثانية: دعوة المسلمين لتلقي النعم بالقبول والشكر.
الثالثة: عدم التفريط بالنعم.
وجاءت الآية بلفظ المساس وفيه شاهد على تعدد النعم التي تأتي للمسلمين، ولزوم الحذر من الكفار والمنافقين عند دنو ومقاربة النعمة، فمن النعم ما تكون مقدمة لغيرها، سواء كانت مقدمة قريبة أو بعيدة، ومنها ما تأتي دفعياً أو تدريجياً، والكفار يألمون حالما تبدو أمارات النعمة، ودنوها من المسلمين، وفيه تفسير لقوله تعالى [وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ] ومن مصاديق الغيظ الذي يملأ صدورهم، وتلك آية إعجازية في نظم القرآن وما في لفظ (يمسسكم) من دلالات ومعاني متعددة.
الرابعة: تهيئة المسلمين لتلقي المصيبة، وعدم الجزع عند حلول النائبة أو الآفة.
وتبين الآية أن المصيبة إذا حلت بالمسلمين تكون مركبة من وجهين:
الأولى: ذات المصيبة.
الثانية: شماتة وفرح الكفار والمنافقين لوقوعها.
فجاءت الآية الكريمة للتخفيف من هول المصيبة من وجهين:
الأول: يبع الإخبار المسبق عن حصول المصيبة الإتعداد في النفس لتلقيها، وبتجنب معها الفرد والجماعة أثر الصدمة والمغاطبة بوقوعها.
الثاني: معرفة المسلمين بشماتة الأعداء يجعلها فاقدة الأثر والموضوع.
الخامسة: دعوة المسلمين إلى عدم الإنشغال بفرح الكفار بما يصيب المسلمين، ومايصدر عنهم من الكلام والفعل الدال على هذا الفرح والشماتة، ومن منافع إعراض المسلمين عن شماتة وفرح الكفار هذا، التوجه العام للتدارك ودفع مايترتب على المصيبة والسيئة، ليكون هذا التدارك حسنة للمسلمين تبعث الحزن في نفوس الكفار.
السادسة: إخبار الكفار بأن الله عز وجل يعلم ما في نفوسهم، ومايظهرون في منتدياتهم وخلوتهم من أٍسباب الحزن أو الفرح، وفيه دلالة على نزول القرآن من عندالله عز وجل.
السابعة: زجر الكفار عن الشماتة بالمسلمين، ودعوتهم للتوبة والإنابة.
الثامنة: توكيد قانون ثابت، وهو أن الناس جميعاً معرضون للبلاء ونزول الحزن والشدائد، ولكن المؤمنين يمتازون بنيل الثواب والأجر على مايصيبهم، ولو يعلم الكفار بما كتب الله عز وجل للمسلمين من الأجر على المصيبة في البدن والولد أو المال لحزنوا على ما يصيب المسلمين من المصائب لأنها تكون سبباً لنيل الثواب العظيم في الأخرة، إلى جانب البدل والعوض من الله عز وجل للمسلمين في الحياة الدنيا، وهذا العرض من أٍسرار تقديم الحسنة التي تصيب المسلمين.
التاسعة: حث المسلمين على التحلي بالصبر، وإظهار معاني الرضا بأمر الله عز وجل، فقوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا] دعوة للمسلمين للصبر، وبيان عظيم نفع الصبر لهم مجتمعين ومتفرقين.
العاشرة: بيان موضوعية التقوى والخشية من الله عز وجل ومالها من الفوائد على الأمة والأفراد، وحث المسلمين على ملازمة التقوى في السراء والضراء.
الحادية عشرة: التوكيد على سلاح الصبر والتقوى والحاجة لهما في صرف شرور الكفار والمنافقين.
الثانية عشرة: زيادة إيمان المسلمين بالعلم بأن الله عز وجل يحصي على الكفار أفعالهم، وأنه سبحانه أحاط بكل شئ علماً.
التفسير
قوله تعالى [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ]
جاءت الآية بصيغة الخطاب‘ وإرادة المسلمين ومع أن الآية لم تبدأ بحرف العطف الواو إلا أنها معطوفة على الآية السابقة والتي لم تبدأ بحرف عطف إلا أن الآيتين معطوفتان في المعنى والدلالة على آية البطانة التي بدأت بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ].
وفي هذا العطف شاهد على وحدة نظم الآيات، وإتحاد الخطاب مع تعدد الموضوع وهو تشريف إضافي للمسلمين بأن تأتي آيات متعاقبة في خطاب إكرام وتأديب لهم، وكل آية فيها مضامين وأحكام متعددة تضئ دروب الحياة للمسلمين، وتجعلهم يستنيرون بنورها الذي يكشف مكر وكيد أعداء الإسلام.
وإبتدأت هذه الآية بإخبار المسلمين بحزن وحسرة هؤلاء عندما تصيب المسلمين نعمة من الله، ويفيد الجمع بين الآيتين تأديب المسلمين وإرتقائهم في سلم المعرفة، وإعانتهم في مسالك الحيطة والحذر، ومن الآيات أن الصلة الموضوعية بين أول هذه الآية والآية السابقة لاتنحصر ببدايات الآيتين بل تشمل مضامينها الأخرى من وجوه:
الأول: مايصيب الكفار من الحزن عند حلول النعمة بالمسلمين من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ] إذ أن عدم الحب على مراتب تشكيكية متعددة قوة وضعفاً فجاءت بداية هذه الآية لتبين ضرباً من ضروب بغض الكفار للمسلمين يتمثل بحزنهم عند نزول النعمة بالمسلمين.
الثاني: من أفراد عدم حب الكفار للمسلمين أنهم لا يتمنون مجئ النعمة للمسلمين، وكأن حلول النعمة بالمسلمين مصيبة تحل بالكفار، والنعم متتالية على المسلمين مما يعني بالدلالة الإلتزامية أن الكفار في حزن دائم.
الثالث: بيان علة بغض الكفار للمسلمين وكيف أنهم لايريدون حلول النعمة بالمسلمين لأن المسلمين يصدقون بكل الكتب السماوية النازلة من عند الله، ومنها القرآن وآياته وسوره التي هي أحكام الشريعة متكاملة، فقد ورد في الآية السابقة [وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ].
الرابع: [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا] والكفار أثناء هذا القول وعند اللقاء يرجون ألا تنزل نعمة على المسلمين، وإن أصابت المسلمين نعمة وخير وخصب فانهم يحزنون حتى عند اللقاء قال تعالى [وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ].
الخامس: حينما يظفر المسلمون بالأعداء ويظهرون في المعركة، أو تتجلى آية ومعجزة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتناقلها المسلمون بفخر وإعتزاز فان الكفار يعضون أطراف أصابعهم غيظاً وغضباً على المسلمين.
السادس: الله عز وجل ولي المسلمين، وهو ناصرهم، فهو سبحانه ينزل عليهم النعم، وعندما يكره الكفار الأمر الإلهي بنزول النعم على المسلمين فانه تعالى ينزل آية يأمر فيها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء على الكافرين وتبكيتهم وتوبيخهم بقوله تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ].
وتأتي العقوبة الإلهية للكفار لأنهم يبغضون ما يأمر به الله من نزول النعمة على المسلمين والله [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( )، إن نزول النعمة على العباد رحمة من عند الله، ولو لم يشأ الله نزولها لا تنزل، لذا فان بغض الكفار لحلولها بالمسلمين من الكره والبغض لأمر الله عز وجل فيكون إثم الكفار مركباً ومتعدداً.
ويتجلى بالدراسة المقارنة التضاد والتباين بين المسلمين وغيرهم من الكفار إذ أن المسلمين يتلقون النعمة بالشكر لله لأنها فضل وفيض منه تعالى، أما الكفار فانهم يحسدونهم على ما أنزل الله عز وجل عليهم من فضله وإحسانه.
ومن الإعجاز في الآية أنها لم تذكر إصابة وحلول النعمة بالمسلمين بل ذكرت أمرين:
الأول:لغة المس (إن تمسسكم) والتي تشمل وجوهاً:
الأول: مقاربة النعمة للمسلمين، فما أن تدنو النعمة من المسلمين يصيب الكفار الحزن.
الثاني: تهيئة مقدمات النعمة وأسباب ظفر المسلمين فحالما تظهر هذه المقدمات يبتئس الكفار.
الثالث: في مجئ حسنة ونعمة عرضية وفرع لنعمة أخرى موجودة عند المسلمين حزن إضافي للكفار.
الرابع: بدايات حلول النعمة على المسلمين.
الخامس: ثبوت وإستدامة النعمة عند المسلمين.
فجاء لفظ المس في الآية شاهد على العموم، والسعة والتعدد في أسباب غيظ وإكتئاب الكفار بسبب ما يأتي للمسلمين من الخير والفضل الإلهي.
فتكون ذات النعمة سبباً متعدداً لحصول الحزن المتكرر والمتجدد عند الكفار، فهم يحزنون عندما يعلمون أنه سينال المسلمون خيراً أو يكون عندهم نصب وسعة، وفيه دعوة للمسلمين للحذر والحيطة حال دنو النعمة مع السعي لنيلها باكمل وجه، وتلك آية في إختيار مادة المس في الآية والإخبار عن حزن الكفار به.
فقد تأتي مقدمات وأسباب النعمة وتدنو من الفرد والجماعة ولكنهم لايسعون في نيلها فتكون كالثمر الذي يحين أوان قطافه، فيترك إلى أن يفسد على الشجرة أو يأكله الغير، وفي لفظ المس آية أخرى، وهي دلالة إزدياد حزن الكفار عند نيل المسلمون النعمة.
وجاءت الآية بلفظ الحسنة، والمراد منها النعمة بالمعنى الأعم لتشمل الفعل الصالح والعمل الحسن الذي يأتي به المسلمون فلا ينحصر حزن الكفار بنزول النعمة من عند الله على المسلمين، بل يشمل مايقوم به المسلمون من الأفعال التي تدل على ثباتهم على الإسلام، وإخلاصهم العبادة لله عز وجل، وظفرهم في المعارك والحروب، وهو أيضاً نعمة وفضل من الله عز وجل.
ولكن الآية جاءت بلفظ الحسنة لبيان المعنى الأعم من النعمة النازلة، وفيه تحذير دائم للمسلمين، ودعوة لهم للإجتهاد في طاعة الله، لأن هذا الإجتهاد سيف يبعث الحزن والفزع في قلوب الكفار، ودعوة للناس لدخول الإسلام وتلقي الحسنات والنعم من الله عز وجل.
لذا فان الآية شاهد على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، بل بالمدد الإلهي وصبر وتقوى المسلمين، وأثر النعمة التي تصيبهم على أقطاب الكفر والضلالة وإمتلاء نفوسهم حسداً وبغضاً للمسلمين.
فجاءت الآية بلفظ الحسنة لبيان الكثرة والتعدد في مصاديقها وأن الكفار يحزنون عند حلول النعمة مطلقاً في رياض الإسلام، وتكون أفراد الحسنة المذكورة في الآية على وجوه:
الأول: نصر المسلمين وغلبتهم على أعدائهم.
الثاني: إتساع رفعة الإسلام وعجز الكفار عن التصدي للإسلام.
الثالث: إتحاد وألفة المسلمين.
الرابع: تمسك المسلمين بالقرآن والسنة.
الخامس: نزول آيات القرآن، من عند الله عز وجل، فكلما نزلت آية يصيب الكفار الحزن والألم، وهل ينحصر هذا الفرد من النعمة بأيام التنزيل الجواب لا، لأن تلاوة المسلمين للآية في كل زمان ومكان يبعث الحزن والحسرة في قلوب الكفار، وهو من إعجاز القرآن وأسرار بقاء آياته غضة طرية.
الخامس: التوفيق في أداء الفرائض والعبادات فإنه حسنة وبهاء يغيظ الكفار.
السادس: إصلاح الذات وتهذيب الأخلاق، وحسن سمت المسلمين، فما أن يدخل الإنسان الإسلام إلا ويأخذ بإصلاح نفسه وجعل أقواله وأفعاله مرآة لأحكام الشريعة، الأمر الذي يجعل الكفار في حيرة وإندهاش.
السابع: الخصب والسعة في رزق المسلمين.
الثامن: حصول البركة والنماء في أموال المسلمين وكثرة أولادهم.
التاسع: نزول المطر في بلاد المسلمين، وإنتفاء القحط وأسباب الفاقة.
العاشر: قيام أغنياء المسلمين بإخراج الزكاة من أموالهم، وفيه حسنة لهم، وللفقراء من المسلمين.
الحادي عشر: نزول نعمة من الله على المسلمين.
الثاني عشر: شيوع معاني العفو والرحمة بين المسلمين، وهو من مصاديق التقوى التي ذكرتها هذه الآية، قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ( ).
الثالث عشر: صدّ المسلمين لمحاولات الأعداء غزو بلادهم عن ثغور المسليمن، وحسن مرابطة المسلمين في الثغور بما يبعث الفزع والحزن في نفوس الكفار.
الرابع عشر: دخول الناس الإسلام أفواجاً إذ أنه حسنة لمن يدخل الإسلام، وحسنة لعموم المسلمين، لما فيه من قوة شوكة الإسلام.
الخامس عشر: صحة أبدان المسلمين، وسلامتهم من الأدران.
السادس عشر: إنعدام الآفات الأرضية والسماوية في بلاد المسلمين.
السابع عشر: الأمن والإستقرار الذي يترشح عن التقيد بأحكام الشريعة الإسلامية.
الثامن عشر: أنباء الثواب والأجر الذي أعده الله عز وجل للمسلمين.
أن نعم الله عز وجل على الناس لا تعد ولا تحصى، قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، وبين المسلمين وعموم الناس في باب النعم عموم وخصوص مطلق إذ تأتي النعم للناس عامة ومنهم المسلمون، وتأتي النعم الخاصة للمسلمين فضلاً من عند الله، وحزن الكفار على وجوه:
الأول: يحزن الكفار إذا جاءت للمسلمين نعمة خاصة.
الثاني: يصيب الكفار الغيظ حين تأتي النعم العامة للمسلمين.
الثالث: من معاني الحسد سلب النعمة عن المحسود، فالكفار لايريدون دوام النعمة عند المسلمين.
الرابع: يريد الكفار حجب النعم العامة عن المسلمين، إذ يتخذ الكفار أن تكون النعم خاصة بهم مع جحودهم وضلالتهم، ولا تصل الى المسلمين مع أن المسلمين يقابلونها بالشكر والثناء على الله عز وجل.
وهذه الوجوه من مصاديق الآية الكريمة، وشاهد على الغيظ الذي يملأ صدورهم على المسلمين.
ان النعمة والحسنة التي تصيب المسلمين قوة، لذا فان ما يناله المسلمون من النعم يغيظ الكفار بالذات والأثر، لأن المسلمين ينتفعون من ذات النعمة، ويتخذونها طريقاً ووسيلة لنعم متعددة تترشح عنها، وهو آية في الإرادة التكوينية بأن يتفضل الله عز وجل على المسلمين بالنعمة فتتفرع عنها نعم كثيرة متعددة، فيزداد حزن الكفار، ويحصل عندهم الإرباك والضعف، لأن تعدد النعم عند المسلمين مدد لهم من عند الله، ويدرك الكفار أنهم لايستطيعون اللحاق بالمسلمين أو منعهم من نشر معالم الدين، والعمل بأحكام شريعة سيد المرسلين، وفي الآية بشارة للمسلمين بتوالي النعم، ودعوة لتعاهدها وحفظها.
ومن وجوه النعم التي تصيب المسلمين إنتفاء البلاء والفتن، فانه يغيظ الكفار الذين يرجون حصول النصب والعناء والتعب للمسلمين ويدفع البلاء وشماتة الأعداء بقيام المسلمين بأداء العبادات والمناسك بقصد القربة إلى الله عز وجل.
وتبين الآية حقيقة وهي إستحواذ الغم على نفوس الكفار لأن النعم الإلهية على المسلمين متواترة وظاهرة وباطنة، فمن الكفار من يرى ويدرك النعم الباطنة، أما النعم الظاهرة فإنها تكون ظاهرة لحواس الناس جميعاً، وعلة لغيظ وغم الكفار، وسبباً لجذب الناس ودخولهم الى الإسلام، وهذا الدخول نعمة ظاهرة يحس بها الكفار فتغيظ فريقاً منهم، وتكون مادة وموضوعاً لإسلام شطر منهم، كان قد إغتاظ من نعم سابقة أصابت المسلمين، ولكنه إتعظ من الآيات فادركته رحمة الله.
وتلك آية في اللطف الإلهي بالناس، وتقريبهم إلى الهداية، وإضاءة طريق الإيمان لهم، وكذا فان إجتهاد المسلمين في سبل الطاعة سبب لإزدياد النعم عليهم، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( )، فجاءت هذه الآية لطفاً بالمسلمين لهدايتهم إلى سبل إزدياد غيظ وغم الكفار بالإكثار من الشكر لله تعالى على النعم، وتعاهد الفرائض، ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقوله تعالى [تَمْسَسْكُمْ] عام ويشمل مقدمات النعم، وفيه حث للمسلمين للسعي لكسب النعم، ونيل الحسنات، فقد تدنو النعمة من المسلمين وتستلزم منهم العمل لنيلها وكأنها ثمر يتدلى من شجرة مباركة، فيغتاظ الكفار في المقام من أمور:
الأول: تدلي وقرب النعم من المسلمين.
الثاني: سعي وعمل المسلمين لجلب النعم، وتحصيل المصلحة ودرء المفسدة، فهو حسنة تغيظ الكفار.
الثالث: تحقق نيل المسلمين للنعمة، وعدم ضياعها من أيديهم.
الرابع: حرص المسلمين على حفظ وإستدامة النعمة بالإيمان والعمل الصالح وحسن الإمتثال للأوامر الإلهية.
وتأتي الحسنة إحساناً وإمتناناً من عندالله عز وجل، وفيها إمتحان وإختبار للإنسان الذي ترد عليه في كيفية تلقيها ومقابلتها بالشكر لله تعالى.
ومن الآيات أن النعمة والحسنة التي تأتي للمسلم تكون موضوعاً لإفتتان الكفار فيغتاظون منها، والرحمة الإلهية على الكفار وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ] وفيه إشارة إلى لزوم إجتناب شماتة الكفار عند نزول النعمة، ويتحقق هذا الإجتناب بالشكر لله عز وجل على النعمة والإنتفاع منها في سبيل الله.
علم المناسبة
جاءت مادة (مس)، إحدى وستين مرة في القرآن، منها خمس مرات في سورة آل عمران، وكذا في سورة البقرة، وجاءت بعدد أقل في سور أخرى من القرآن، قال تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ]( )، في بيان آية من آيات الله عز وجل في نصر المسلمين بأن رجعوا من بدر بالسلامة والنجاة من قريش، وبعث الخوف والفزع في قلوب الكفار.
وذكرت الآية أنه لم يمسس المسلمين سوء في إشارة إلى أن القتل في سبيل الله، ليس سوءً وأذى إنما فيه السعادة الأبدية للشهداء الذين قتلوا في بدر، والقوة المنعة لمن بقي من المسلمين.
وتبين آيات القرآن تعاهد المسلمين للنعم الإلهية وموضوعية إتيان أداء وتعاهد الصلاة والزكاة في الإيثار وإعانة الآخرين، وإتخاذ النعمة لنشر مفاهيم الفضيلة قال تعالى [إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا *إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا *إِلاَّ الْمُصَلِّينَ *الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ]( ).
وفي الجمع بين الآيتين إخبار عن أداء المسلم لوظائف الشكر لله عز وجل على النعم وإنتفاع والمسلمين والناس جميعاً من النعمة التي تصيبه بابتعاده عن الشح والبخل، عن النبي صلى الله عليه وسلم ” أفضل العمل أدومه وإن قل( ).
وينزل البلاء والعذاب بالكفار لجحودهم وتكذيبهم بالآيات، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمْ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ]( )، وهل يعتبر نزول البلاء والضرر بالكفار حسنة للمسلمين مما ذكرته الآية محل البحث،الجواب لا ، لأن الآية خاصة بالنعم التي تنزل على المسلمين، وما يصدر من المسلمين من الطاعة لله ورسوله، وأسباب تعاهد النعم.
وجاءت الآيات لتبين أن الخير والنعم من عند الله عز وجل وهو الذي لاتستعصي عليه مسألة قال تعالى [وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] وفيه إشارة إلى فضل الله عز وجل في دوام النعمة، ولزوم التوجه إليه سبحانه بالدعاء لدوام النعم، ونيل المزيد من بديع قدرة الله وعيظم سلطانه ولم يرد لفظ (تمسسكم) في القرآن إلا في هذه الآية، ولم تأت مادة المس بعدها إلا في نظم سور القرآن في سورة هود وبذات اللغة من الخطاب وإن إختلف الموضوع، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ]( ).
وفي الجمع بين الآيتين إعجاز قرآني يتعلق بموضوع البطانة ومجئ هذه الآيات في التحذير من إتخاذ الكفار والمنافقين بطانة وخاصة من دون المسلمين بتقريب أن إتخاذهم بطانة قد يكون مقدمة لهذا الركون، فيحذر الله عز وجل المسلمين من الركون للظالمين، ويتفضل وينزل الآيات التي تساعد المسلمين على الوقاية من هذا الركون والسلامة من عواقبه وآثاره، وما يجعل إجتناب هذا الركون أمراً سهلاً ويسيراً على المسلمين.
علم المناسبة
ورد لفظ (حسنة) بصيغة المفرد ثمان وعشرين مرة في القرآن الكريم، وورد بصيغة الجمع (حسنات) ثلاث مرات، ولم يرد لفظ (حسنة) في سورة آل عمران إلا مرة واحدة في هذه الآية الكريمة، ويأتي اللفظ تارة بمعنى الفعل الحسن للصبر، قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا] ( )، وهذه الحسنة أيضاً نعمة من عندالله، من وجوه:
الأول: الهداية لإتيان الحسنة.
الثاني: الإنتفاع الذاتي والغيري من الحسنة، فمن يأتي بالحسنة ينتفع منها لما فيها من معاني الصلاح، وينفع غيره من الناس بالتأثير والأثر.
الثالث: الأجر والثواب العظيم في إتيان الحسنة.
وورد قوله تعالى [مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ]( )، خطاباً للإنسان مطلقاً، والمراد من الحسنة النعمة والإحسان والفضل من الله عز وجل، وجاء قوله تعالى [إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ] ( ).
والآية خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتضمن الإخبار عن حزن وغيظ المنافقين عند حصول النصر والغنيمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في المعارك.
فتأتي الحسنة والنعمة إبتداء من عند الله عز وجل، وتأتي بالدعاء والمسألة من العبد، قال تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( )، وفيه حث للمسلمين على الدعاء بالخير ونزول النعم، أذى وحسرة للكافرين، أي أن توجه المسلمين للدعاء سلاح يؤذي الكفار بالذات والواسطة، أما بالذات فان قيام المسلم بالدعاء شاهد على الإيمان والتقوى ورجاء الخير من عند الله، وأما بالواسطة فان الله عز وجل يستجيب الدعاء قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
فتكون الإستجابة نعمة وحسنة نازلة على المسلمين، وهو أمر يسوء ويحزن الكفار، وقد وعد الله عز وجل المؤمنين الذين هاجروا بالنصر والعز قال تعالى [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً]( )، إذ أظهر الله الإسلام ، وجعل الغلبة للمهاجرين والأنصار على أهل مكة ومن ظلمهم ” وعن عمر أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك ربك في الدنيا ، وما ذكر لك في الآخرة أكثر” ( ).
قانون “تمسسكم حسنة”
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا للمؤمنين طريقاً إلى الجنة، وسبيلاً إلى الخلود في دار النعيم، فيرون الآيات التي تبعث الشوق في نفوسهم إلى الجنة، وتبعثهم على العمل لبلوغ المقامات الحميدة فيها، وتأتي الحسنة والنعمة في الدنيا لتكون على وجوه:
الأول: نعمة الدنيا مقدمة لنعم الآخرة، وبشارة لنيلها والوصول إليها.
الثاني: في النعمة تذكير بنعم الآخرة، وإستحضار لها في الوجود الذهني.
الثالث: النعمة الدنيوية دعوة للتدبر بالنعم الأخروية، والحرص على بلوغها.
الرابع: إتخاذ الدعاء سلاحاً لبلوغ النعم الأخروية.
فالنعمة والحسنة خير محض بذاتها، بالإضافة إلى الإنتفاع الأعم منها في النشأتين، وإتخاذها موضوعاً تقتبس منه الدروس والمواعظ، وكل نعمة شاهد على عظيم قدرة الله عز وجل وسعة رحمته، وأنه تعالى (الوهاب) الذي يتفضل على الناس بالنعم الجزيلة.
إن إدراك الإنسان لحاجته للنعمة الإلهية سبيل للتقوى، ووسيلة لرجاء فضله ونزول رحمته وتوالي إحسانه.
وجاءت الآية بصيغة الجمع المخاطب (تمسسكم) وتفيد وجوهاً:
الأول: النعم التي تنزل على المسلمين كأمة متحدة.
الثاني: النعم الفردية التي تصيب المسلم على نحو القضية الشخصية.
وتقدير الآية (وإن تمسسك حسنة تسوءهم).
وهل يمكن أن يكون الحزن عند الكفار على النعمة الشخصية شخصياً وفردياً فقط وأن يكون تقدير الآية (وان تمسسك حسنة تسوءه) الجواب لا، من جهات:
الأولى: تأتي الحسنة للمسلم فيحزن الكفار، فكل من يعلم بها أو يسمعها من الكفار يسوءه أمرها، ويود أنها لم تصل إلى المسلم.
الثانية: في النعمة الشخصية دعوة للمسلمين للتعاون لحفظ النعمة الشخصية التي تأتي لأحدهم، ويكون هذا الحفظ بالتمسك العام بالكتاب والسنة، والتقيد بأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالثة: النعمة الشخصية خير محض ينتفع منه عموم المسلمين، وفيها قوة ومنعة للمسلمين فمثلاً إذا كثر عدد الأغنياء من المسلمين فهو عون لهم جميعاً في التجارات والزراعات وفرص العمل ومؤون القتال مما يبعث الغيظ والحزن في نفوس الكفار.
الرابعة: موضوع الخلاف وأسباب ألم وحزن الكفار هو الملة والعقيدة، فما يأتي للمسلم من الخير يغيض الكفار لأنه يأتي له كمسلم.
الخامسة: مايصيب المسلم من النعم الشخصية عون له في أداء وظائفه العبادية، ومادة وسبب لإقتداء المسلمين به في الصالحات.
السادسة: النعمة التي تصيب أحد المسلمين تأتي لغيره منهم فضلاً من عند الله عز وجل على المسلمين، ولمضامين المحاكاة والتشابه، ووحدة الموضوع في تنقيح المناط.
السابعة: أصبحت حال النفرة والحسد ملكة عند الكفار، تظهر جلية عند رؤية النعمة الشخصية أو النوعية التي تأتي للمسلمين.
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إماماً في الخيرات والصلاح، وقائداً في سبل النجاة، والإقتداء به نعمة وهي وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حسنة.
الصغرى: كل مسلم يتبع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
النتيجة: كل مسلم تناله الحسنة.
لذا فان الحسنات والنعم تترى على المسلمين بطاعتهم لله عز وجل ورسوله، وحرصهم على التقيد بأحكام الشريعة، مما يبغض ويحزن الكفار.
وتبعث الآية الحذر عند كل مسلم بخصوص النعم الشخصية التي عنده، وتدعوه لتعاهد الواجبات والفرائض، وتحثه على عدم الإصغاء الى صيغ الشك والريب التي يثيرها أعداء الإسلام، فقد يحزن الكفار لنعمة تأتي للمسلمين، فيتوجهون إلى بعض المسلمين ممن يظنون أنه ضعيف الإيمان أو يمكن التأثير عليه بسبب من أسباب الدنيا لصلات القربى والرحم، والرضاع والجوار والقبيلة والعهد والميثاق.
فتأتي هذه الآية لتكشف له حسد الكفار وبغضهم لما عند المسلمين من النعم، ووظيفته بحفظ هذه النعم، فتكون عوناً له في نجاة الأمة من الحسد، إذ يستطيع بمفرده أن يصد العدو، ويمنع من نفاذه إلى مجتمعات المسلمين، فيحترز من إتخاذه بطانة وخاصة، لأنه يدرك أنه يسعى لحجب أو دفع النعمة عن المسلمين.
وتنمي الآية ملكة التقوى عند المسلمين وتجعلهم يرتقون في مراتب الكمالات الإنسانية، ويبذلون الوسع لتعاهد النعم، لأن حفظ وإستدامة النعمة نعمة أخرى.
فجاءت هذه الآية لبعث اليقظة والفطنة عند المسلمين على تعاهد النعم بلحاظ وجود أعداء لايرغبون بنزولها وبقائها عند المسلمين، ليدرك معه عموم المسلمين ضرورة الإتحاد والأخوة الإيمانية بينهم، وتمسك الجميع بالقرآن والسنة، فيأتي حفظ النعمة من وجوه:
الأول: حفظ المسلمين كأمة متحدة للنعم التي نزلت عليهم، ومن مصاديقه تعاهدهم للقرآن وحفظهم لآياته وتدوين المصاحف، لتبقى عصمته من التحريف والتبديل شاهداً على جهادهم في حفظ نعمة التنزيل، وما تتفرع عنها من الحسنات والنعم غير المتناهية.
الثاني: قيام المسلم والمسلمة بحفظ وتعاهد النعم العامة التي عند المسلمين، وهذا الحفظ نعمة أخرى تغيظ الكفار، وتزيد في حزنهم وغضبهم، ومن وجوه حفظ النعمة ما تتضمنه هذه الآيات من النهي عن إتخاذ بطانة وخاصة من غير المسلمين.
الثالث: تعاهد المسلم والمسلمة للنعمة والحسنة الشخصية التي تأتيهما وتحزن الكفار.
وأيهما أكثر وطاة وشدة على الكفار النعم العامة أو الخاصة التي تصيب المسلمين، الجواب على وجوه:
الأول: تحزن النعم العامة التي تصيب المسلمين عموم الكفار لما فيها من النفع العام للمسلمين، وتثبيتهم في منازل الإيمان، نعم ليس من فصل تام بين النعم العامة والخاصة، وهناك تداخل بينهما ، ومن خصائص النعمة والحسنة العامة أنها إنحلالية تنبسط على كل المسلمين.
الثاني: ينتفع من النعمة الخاصة المسلم ومن حوله من المسلمين كما في تشريع الزكاة، ومساهمة الأغنياء من المسلمين في دفع الفقر والفاقة عن المحتاجين منهم.
الثالث: تعاهد المسلم للنعمة الخاصة عز ومنعة لعموم المسلمين، وشاهد على حسن سمتهم، ومناسبة لشيوع مفاهيم حفظ النعم العامة عندهم.
قوله تعالى [تَسُؤْهُمْ]
تتكون هذه الكلمة من فعل وفاعل ومفعول به، وجاء الفعل (تسوء) بصيغة المضارع لإرادة إستدامة وتجدد حزن الكفار الذي هو نتيجة لما يأتي للمسلمين من النعمة والخير والنماء، والفاعل هو الحسنة أما المفعول به فجاء بصفة الضمير (هم) مما يدل على عودته إلى أمر سابق، وعند الرجوع إلى الآية السابقة نجدها جاءت بصيغة الخطاب للمسلمين أيضاً، وتكرر فيها ضمير الجمع وواو الجماعة التي تدل على ذات المعنى والجهة.
فنرجع إلى الآية قبل السابقة وهي البطانة لنجد أن المقصود من الضمير الوارد في (تسؤهم) هم الذين دون المسلمين ممن حذرت منهم الآية الكريمة [لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ] وتلك آية في نظم آيات القرآن لما في عائدية الضمير من معنى التداخل والترابط بين الآيات الثلاثة من وجوه:
الأول: إستمرار التحذير ولزوم التوقي من القوم الكافرين.
الثاني: التوكيد على موضوع البطانة وصفاتها بالتحذير من الضد، بإعتبار أن النهي عن الشئ يدل على الأمر بضده.
الثالث: مافي الآية من التوكيد رحمة إضافية من عند الله، وطرد للغفلة والجهالة، ودعوة للمسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب البطانة.
الرابع: بيان موضوعية تداخل وإتصال الآيات في مضامينها ومعانيها، وكل آية تدعو إلى الأخرى، وتحث المسلمين للعمل بمضامينها.
الخامس: هذا العطف والإتصال بين الآيات بإتحاد الضمير فيها من عمومات القرآن يفسر بعضه بعضاً.
السادس: يمنع هذا التداخل بين الآيات من اللبس والترديد، فمن الإعجاز عدم مجئ الضمير في هذه الآية والآيتين السابقتين إلا على قسمين:
الأول: ضمير الجمع الغائب والمراد منه الكفار.
الثاني: ضمير المخاطب وهو على قسمين:
الأول: إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] أي قل يامحمد للكفار.
الثاني: ضمير الجمع المخاطب، والمراد به المسلمون كما في (تمسسكم) (تصبكم).
لقد إبتدأت هذه الآية بذكر النعم التي تأتي للمسلمين، وتحل بهم فضلاً من عندالله عز وجل وذكرت النعم بلفظ (الحسنة) لإرادة المعنى الأعم وشمول الآية للنعم التي تنزل من عند الله، ولإتيان المسلمين الأفعال الحسنة والعمل الصالح، وقيامهم بتعاهد الفرائض والعبادات، والألفة والإتحاد وشمول الآية لهذا المعنى آية إعجازية في إختيار لفظ حسنة من عند الله، لتكون هذه الأفعال نعمة من عند الله، ولكن بالواسطة بإعتبار أن الله عز وجل هو الذي هدى المسلمين إليها، وأرشدهم إلى سبلها، وفي الآية وجوه:
الأول: أن الحسنات المتعددة تسبب حزناً متحداً عند الكفار.
الثاني: كل حسنة تصيب المسلمين تحدث حزناً عند الكفار.
الثالث: تحدث الحسنة التي تصيب المسلمين وجوهاً متعددة من الحزن عند الكفار.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية، فكلما ترد حسنه ونعمة على المسلمين يستحدث حزن عند الكفار، وهو من مصاديق مجئ الآية بصيغة الفعل المضارع.
وذكرت الآية الفاعل والصلة في تحصيل الغم والحزن عند الكفار، فلم تنسب الآية فعل الحزن وبعث السوء اليهم فلم تقل (إن تمسسكم حسنة يحزنوا) بل قالت الآية إن الحسنة ذاتها هي التي تحزن الكفار، لذا فان الآية تحتمل وجوهاً:
الأول: تأتي النعمة للمسلمين، وتتضمن في غاياتها بعث الحزن في نفوس الكفار والمنافقين.
الثاني: ما ينزل بالكفار من الحزن عند حلول النعمة بالمسلمين أمر مستقل، ليس من غايات النعمة.
الثالث: الملازمة بين النعمة التي تصيب المسلمين وحدوث الحزن والغم عند الكفار،.
ولاتعارض بين هذه الوجوه، وكلها محتملة لتعدد النعم والإحسان والفضل الذي يأتي للمسلمين، من عند الله عز وجل متعدد، وليس له حد من طرف الكثرة، وتارة تأتي النعمة للمسلمين وتكون نقمة وعقوبة للكفار كما في حال حصول التعدد والغلبة للمسلمين ومافيه من هزيمة الكفار، وفي الحزن الذي يصيب الكفار أذى لهم، وضرر عليهم، كجماعات وأفراد، وهو من وجوه البلاء في الحياة الدنيا.
وفيه دلالة بأن الله عز وجل لم يترك الناس وشأنهم، ولم يجعل الصراع بين الإيمان والكفر يجري بأسبابه الذاتية بل أن الله ينصر المسلمين فتحل الهزيمة بالكفار ويتفرع عنها الحزن والغم ، قال تعالى في غلبة المسلمين وتحقيقهم النصر بالملائكة الذين يبعثهم الله عز وجل مدداً لهم، [ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )، ويكون الحزن الذي يصيب الكفار في أثره ونتائجه على وجوه:
الأول: يأتي الحزن والغم نتيجة لما يلحق الكفار من الضرر لوجود ملازمة بين نيل المسلمين الحسنة، وحصول الضرر عند الكفار.
الثاني: الحزن والغم عند الكفار لحلول الهزيمة بهم في المعارك، فتأتي النعمة للمسلمين فيصيب الإكتئاب الكفار، ويؤثر هذا الإكتئاب سلباً عليهم، ويبعث الوهن والضعف فيهم ويكون مقدمة لهزيمتهم.
الثالث: يصبح الحزن والغم عند الكفار مستديماً في حال السلم والحرب، والرخاء والشدة، لأن النعم الإلهية على المسلمين متوالية وللملازمة بينها وبين حصول الغم عند الكفار.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، ويدل الوجدان والظاهر على التداخل بينها، وفيه توكيد لقبح الكفر وأضراره العاجلة على صاحبه، وهذه الأضرار أمارة وتذكير بسوء إختيار الكفار، ومايترتب عليه من العذاب الأليم في الآخرة.
وتبين الآية حال الكفار في الدنيا بلحاظ توالي النعم على المسلمين وتعاهدهم لها، وإكتنازهم الحسنات في مرضاة الله عز وجل، وتبعث في نفوس المسلمين السكينة.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن الكفار والمنافقين يعلمون بما يكتسبه المسلمون من الحسنات، وهل في الآية دعوة للمسلمين لكتمان النعم والتستر عليها كيلا يحزن الكفار، الجواب لا، من وجوه:
الأول: في الآية إخبار عن علم الكفار بالحسنات والنعم التي تأتي للمسلمين.
الثاني: في النعم الإلهية على المسلمين ، وعلم الكفار بها حجة عليهم، ودعوة لهم لدخول الإسلام.
الثالث: يدل توالي النعم على المسلمين على القبح الذاتي للكفر،وفيه بيان علة عدم وصول النعم الإلهية كاملة وتامة للكافر، فاذا سأل الكافر لماذا تأتي النعم للمسلمين وحرم منها، فجوابه انه حجب عن نفسه النعم بإختيارك الكفر والضلالة.
الرابع: قال تعالى [أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]( )، وهذه الآية من النعمة لما فيها من الإخبار عن نزول الخير والإحسان للمسلمين، وحزن وغم الكفار.
الخامس: تضمن الآية لوعد كريم بأن كيد الكفار لن يضر المسلمين.
قانون “تسوءهم”
تبعث الآية الغبطة في نفوس المسلمين على نحو متعدد ومتكرر، فإنهم يستبشرون بكل نعمة تأتي إليهم، وبما يلحق الكفار بسببها من الحزن والغيض، كما أنها تدعو المسلمين لمحاربة الكفار بفعل الحسنات وإتيان الصالحات، وفيه شاهد على أمور:
الأول: في الإخبار الإلهي عن النعم التي تصيب المسلمين وترتب الحزن في نفوس أعدائهم دليل على تفضيل المسلمين وأنهم خير أمة أنعم الله عز وجل عليها بتوالي النعم.
الثاني: حزن الكفار عند حلول النعمة عند المسلمين لوجوه:
الأول: ذات النعمة ونيل المسلمين لها.
الثاني: حرمان الكفار منها.
الثالث: رجحان مجئ مثلها للمسلمين، وتجدد النعم عند المسلمين، وإستمرار حرمان الكفار منها.
الثالث: الآية من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فالحزن الذي يحدث عند الكفار من عمومات خروج المسلمين للناس، فان قلت ظاهر معنى الخروج في الآية هداية الناس للإيمان وأن المسلمين أئمة في التقوى والصلاح، وقادة للناس في طاعة الله والتصديق بالنبوة والتنزيل فكيف يكون الحزن الذي يصيب غيرهم من معاني الخروج المذكور في الآية، والجواب من وجوه:
الأول: تأتي النعم للمسلمين ويطلع عليها الكفار فتسبب لهم الحزن.
الثاني: توالي النعم التي تأتي للمسلمين ترغيب للكفار بدخول الإسلام، ولكنهم يقابلونها بالحسد والغيظ، لأن التلبس بالكفر مانع من رؤية الأشياء كما هي.
الثالث: ورد إستحباب ظهور المسلمين بمظهر العز والغنى كما في جواز لبس المسلم الحرير في الحرب مع أن لبسه محرم، لوجود راجح وهو ترغيب الكفار بالإسلام، ولبس الحرير هنا من عمومات الحسنة التي تذكرها الآية لأنها شاهد على السعة والغنى عند المسلمين.
الرابع: صحيح أن خروج المسلمين يعني الإمامة والزعامة في الصلاح والهداية، إلا أنه يتضمن تأديب أهل الجحود، وبعث الفزع والخوف في قلوبهم لمنع إستحواذ الكفر على النفوس.
الخامس: تثبيت المسلمين في منازل الإيمان برؤية أثر النعم التي تأتي إليهم على الكفار، وفيه دعوة للتوقي مما يؤدي إلى شماتة الأعداء بالمسلمين.
السادس: جاءت الآية في سياق تحذير المسلمين من إتخاذ بطانة من غيرهم، فكشفت حال الكفار عند نزول النعمة بالمسلمين، وإذا كان الكفار بطانة فإن هذا الحزن يظهر على ألسنتهم وأفعالهم بما يكون فيه حسد وضرر بالمسلمين، ومن مصاديق حسن الخروج للناس التوقي من أذاهم، ودفع ضررهم.
السابع: الآية دعوة للكفار لنيل مراتب البطانة عند المسلمين والتي لاتتقوم إلا بالإسلام.
تحث الآية الكفار للتخلص من الكفر، وما يسببه من الكدورات الظلمانية والأدران كالحسد والحزن الدائم الذي تدل عليه هذه الآية في مفهومها بلحاظ إتصال ودوام النعم التي تأتي للمسلمين، وما يترشح عنها من عدم مفارقة الغم والحزن للكفار، وفيه أذى إضافي يلحق الكفار، وأثر خارجي عرضي يحل بهم بسبب إختيار الكفر والجحود.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار النعم، وسخر ما في الأرض للناس جميعاً، فيصيب من الخير البر والفاجر، وهو من مصاديق رحمة الله بالناس كافة في الحياة الدنيا، ولكن الكفار لايتمتعون بتلك النعم لما يصيبهم من الحزن والغم بسبب ما يأتي للمسلمين منها، ولقيام المسلمين بأداء وظائف الشكر على تلك النعم.
وهذا الأداء رحمة أخرى بالكفار ومادة لإزدياد حزنهم، وآية في خلق الإنسان ، وهو من عمومات قوله تعالى مخاطباً للملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] عندما قالوا ساعة خلق آدم وإخبار الله عز وجل بجعل خليفة في الأرض [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
فمن علم الله عز وجل أن الله عز وجل أنزل النعم والخيرات سابغة على المسلمين وأصلحهم لتلقيها بالحمد لله والإنقطاع إلى عبادته مما يبعث الحزن والغيظ في نفوس الكفار، ويجعلهم عاجزين عن الإفساد في الأرض وعن سفك الدماء لأن المسلمين يصبحون بالنعم وتوالي الإحسان من عندالله عز وجل أكثر قوة ومنعة.
وهو من أسرار إستبشار وفرح الملائكة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن فيها بداية إزاحة الفساد من الأرض ببعث الحزن الدائم في قلوب الكفار وعجزهم عن مواصلة الفساد، وسعي المسلمين الحثيث لإصلاح النفوس وتهذيب الأفعال بتعاهد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كواجب كفائي عليهم، ليكون هذا التعاهد حسنة مصاحبة للمسلمين تساهم في ثباتهم في منازل التقوى، وهو باب لنيل الفضل الإلهي مما يزيد الكفار حزناً وغيظاً، ويجعلهم في حيرة من أمرهم.
إن النعم الإلهية التي تأتي للمسلمين نصر من عند الله عز وجل لهم، وواقية من العوز والفاقة، وحصن من الحزن والحسد لما يأتي للكفار من النعم في الحياة الدنيا، فلم تذكر الآية أن المسلمين يسؤهم مايصيب الكفار من حال الغنى وكثرة الأولاد في بعض الأمصار والأزمنة، وعدم الذكر أعم من عدم الوجود، لأن عدم الإيجاد لايدل على عدم الوجود، والجواب من وجوه:
الأول: أن هذه الآيات جاءت بالإخبار عن أن المسلمين يحبون غيرهم من الناس بقوله تعالى في أول الآية السابقة [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ] ومن يحب لايحزن بالنعمة التي ترد على من يحبه.
الثاني: تتوالى النعم العامة والخاصة على المسلمين ، وهم في شغل عما يأتي لغيرهم.
الثالث: جاءت آيات القرآن بما فيه إرتقاء للمسلمين في المعارف الإلهية، فيحلمون ان الله عز وجل هو الرحمن الرحيم الذي تصيب رحمته الخلائق كلها، ومنها أهل الأرض.
الرابع: حينما يرى المسلمون الخير عند الكفار لايحسدونهم، وتلك آية في تفضيل المسلمين وأنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، من وجوه:
الأول: توالي النعم الإلهية على المسلمين فضلاً وإحساناً من عند الله عز وجل.
الثاني: تعاهد المسلمين للنعم التي تأتيهم بالشكر والحمدلله عز وجل.
الثالث: يتوجه المسلمون إلى الله عز وجل بالدعاء وسؤال مثل ما عند الكفار وأحسن منه والله هو الرزاق ذو القوة المتين.
الرابع: يعلم المسلمون أن ما يرد للكفار من النعم إستدراج وإمتحان لهم، قال تعالى [أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَ يَشْعُرُونَ]( ).
علم المناسبة
ورد لفظ (تسؤهم) مرتين في القرآن، وجاء قوله تعالى [إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ]( )، في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما إستنفر الناس للخروج إلى تبوك ، وبادر المسلمون إلى الخروج.
وفيه إخبار بأن المنافقين يحزنون إذا نالت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين نعمة وفتح وغنيمة.
فوردت الآية مرة بصيغة الجمع وإرادة المسلمين، ومرة بصيغة المفرد وإرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولاتعارض بينهما، وتلك آية في إعجاز القرآن، إذ أن المراد بتوجه الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شمول المسلمين جميعاً بالواسطة، وإن جاء لبيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وماكان يلاقيه من الأذى من المنافقين والكفار وفيه دعوة للمسلمين لنصرة النبي وعدم جعل المنافقين يفرحون بما يصيب النبي محمداً والمسلمين من الأذى والضرر.
كما يدخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الخطاب العام للمسلمين [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ] لأن لغة الخطاب عامة تشمل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فهو إمام المؤمنين وسيد المتقين وخاتم النبيين.
وجاء اللفظ بصيغة الخطاب تسوءكم بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ]( )، ونزلت في الذين أحفوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمسألة، وقيل كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إستهزاء مرة، وإمتحاناً مرة فيقول له بعضهم من أبي، ويقول آخر أين أبي ، ويقول آخر إذا ضلت ناقته أين ناقتي، فانزل الله عزوجل هذه الآية.
وورد أنها نزلت فيمن سأل النبي محمداً وهو يخطب على المنبر عن الحج ” أفي كل عام يا رسول الله ؟ فاعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا ، فقال رسول الله : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم ، والله لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت ما إستطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني كما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم وإختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما أستطعتم ، وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه( ).
وفيه زجر للمنافقين وتأديب للمسلمين، وإرشادهم لعدم إتباع أهل الشك والريب بكثرة السؤال والإلحاح في المسألة، وهذ التأديب حسنة تصيب المسلمين وسبب لصلاحهم.
قوله تعالى [وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ]
إبتدأت الآية من غير حرف عطف مع أنها جاءت في نظم الآيتين السابقتين، والتحذير من موضوع البطانة لبيان أن أحكام هذه الآية أعم من موضوع البطانة، فحتى لو لم يتخذ المسلمون الكفار بطانة فإن الكفار يحزنون حالما تقارب النعمة والفضل الإلهي المسلمين كلاً أو بعضاً.
وجاء هذا الشطر من الآية بحرف العطف (الواو) مع لغة الشرط ذاتها (إن) لبيان إمكان وقوع السيئة،، وهل منه إتخاذ البطانة السيئة الجواب نعم، فكأن الكفار يفرحون إذا تولوا مناصب بطانة المسلمين وصاروا خاصة لهم، لأنها سيئة ومقدمة للشر والضرر تلحق بالمسلمين، وتلك آية في نظم الآية، وعون للمسلمين للتقيد بأحكام النهي الذي جاءت به آية البطانة بدليل إتحاد نظم الآيات وتداخل معانيها، وحتى لو كانوا بعيدين عن مراتب البطانة فانهم يفرحون بما يصيب المسلمين من الضرر بما يدل على عدم أهليتهم للبطانة.
فقد يأتي بلاء ومصيبة إلى المسلمين فيشعرون بالحاجة معه إلى البطانة والمشورة، فتأتي هذه الآية واقية ساعة الحرج والحاجة، وسبباً للإستبصار في الشدة والرخاء، ولم تقل الآية: وإن تمسسكم سيئة)، كما جاء بخصوص الحسنة، وفيه وجوه:
الأول: مس ودنو السيئة من المسلمين لا يبعث الفرح في قلوب الكفار، فهم لشدة غيظهم يريدون أن يروا السيئة والمصيبة أحاطت بالمسلمين.
الثاني: ذكرت الآية فرحهم بإصابة المسلمين بالسيئة، ولايعني هذا عدم فرحهم بمس وقرب السيئة من المسلمين، لأن عدم الذكر أعم من الوجود.
الثالث: المس هو ذاته إصابة كما قال الزمخشري (المس مستعار لمعنى الإصابة) ( ).
الرابع: دنو وقرب المصيبة والسيئة من المسلمين يسبب فرح الكفار، ولكن المس هذا لا يحس به ويدركه كل الكفار، فجاءت الآية بالإصابة بالمصيبة لأن أثرها عام.
الخامس: أدرك الكفار بالحس والوجدان أن السيئة تقترب من المسلمين، ولكنها تدفع وتصرف عنهم بآية من عند الله، وستأتي الآية التالية في معركة أحد، وكيف إقتربت الهزيمة من المسلمين، وأشاع الكفار بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل، ولكن سرعان ما أكتشف المسلمون أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حي في المعركة يدفع الكفار عن الإسلام .
والصحيح هو الثاني والرابع والخامس، وعلة الأول أعلاه، لأن المس أدنى مرتبة وأقل تمكناً من الإصابة، بالإضافة إلى حقيقة وهي فضل الله عز وجل على المسلمين بمحو المصيبة والسيئة وأن دنت وقربت من المسلمين وأن الكفار يدركون هذه الحقيقة فقد يفرحون بدنو المصيبة من المسلمين ثم لايلبثوا أن يروا زوالها وإنكشافها وبقاء المسلمين في مراتب العز والمنعة والقوة، وهذا الزوال والمحو حسنة ونعمة من عند الله تكون سبباً لحزن الكفار.
فلا يشمت الكفار عندما تقارب السيئة المسلمين ولكن الله عز وجل يصرفها عن المسلمين بدعائهم وعبادتهم، أو إبتداء من عنده وهو من نعم الله عز وجل على [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، مما يسبب كآبة وغم الكفار على نحو مركب لإنصراف السيئة والبلاء عن المسلمين بعد دنوه منهم، وإدراك إتصاف المسلمين بنعمة محو السيئة بعد إقترابها منهم، وفيه بعث للفزع في نفوس الكفار وإنذار لهم، وإخبار بأنه حتى في حال إصابة السيئة والمصيبة المسلمين فأنهم لايلبثوا أن يتغلبوا عليها، ويتخلصوا من أضرارها وآثارها.
ومن إسباب الحصانة هذه إجتناب إتخاذ بطانة من غيرهم تريد لهم الإستسلام للمصيبة والهزيمة.
وذكرت الآية السيئة التي قد تصيب المسلمين ومن مصاديقها:
الأول: الهزيمة في المعركة.
الثاني: حصول الخسارة في الحرب والقتال.
الثالث: ظهور الفقر والجوع على المسلمين.
الرابع: قلة الأمطار ونقص الربع.
الخامس: الأمراض التي تصيب الأبدان.
السادس: حلول مصيبة المسلمين.
السابع: الخصومة والخلاف والفتنة بين المسلمين.
الثامن: تقصير شطر من المسلمين بالعبادات والفرائض.
التاسع: التخلف عن أداء الزكاة ودفعها للمستحقين.
العاشر: التهاون بأحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الحادي عشر: القصور عن وظائف خير أمة أخرجت للناس.
الثاني عشر: ظهور الشح والبخل عند بعض المنافقين.
وفي سبب نزول قوله تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي] والآية التي بعدها [إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ]( ) قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لما إستنفر الناس إلى تبوك ، قال : إنفروا لعلكم تغنمون بنات الأصفر، فقام جد بن قيس ، أخو بني سلمة من بني الخزرج ، فقال : يا رسول الله ! إئذن لي ، ولا تفتني ببنات الأصفر ، فإني أخاف أن افتتن بهن . فقال : قد أذنت لك . فأنزل الله تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي….الآيات] ( )، عن ابن عباس ، ومجاهد.
فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لبني سلمة : من سيدكم ؟ قالوا : جد بن قيس غير أنه بخيل جبان ! فقال عليه السلام : وأي داء أدوى من البخل ، بل سيدكم الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن المعرور . فقال في ذلك حسان بن ثابت:
وقال رسول الله والقول لاحـــق بمن قال منا من تعدون سيداً
فقلنا له جد بن قيس على الذي نبـــــخله فينا وإن كان أنكداً
فقال وأي الداء أدوى من الذي رميتم به جدا ، وإن كان أمجداً
وسود بشر بن البراء لجـــــــــوده وحق لبشر ذي الندا أن يسوداً
إذا ما أتاه الوفد أنهب مالـــــــــه وقال خذوه إنه عائد غدا( ).
الثالث عشر: نقص الأموال، وعدم قدرة المسلمين على توفير العدة والسلاح والمؤون للمجاهدين والغزاة، قال تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( ).
الرابع عشر: طرو أسباب الحزن أو الخوف على المسلمين.
الخامس عشر: إتخاذ المسلمين للكفار بطانة وخاصة.
السادس عشر: وفاة بعض أئمة المسلمين.
لقد جاءت الآيات السابقة بالإخبار عن أن المسلمين خير أمة أخرجت للناس، وجاءت بالتحذير من إتخاذهم بطانة من دونهم ، فجاءت هذه الآية لبيان حقيقة وهي أن خير أمة قد تبتلى بالمصائب وأسباب الأذى، وتتعرض للهزيمة والخسارة في معركة وفيه منع لوقوع اليأس والإحباط عند المسلمين، وبرزخ دون تأثير فرح وشماتة الأعداء بالمسلمين، فتأتي المصيبة للإنسان ويستطيع الصبر عليها، ومنع تعدي أثارها، وقد ينصت لأهل الشماتة ويفاجئ بفرحهم وسرورهم بما أصابه فيحزن حزناً إضافياً ويجزع ليس من المصيبة ذاتها، فحسب، بل بما تولد عنها من فرح العدو، ومايتفرع عن هذا الفرح من الإساءة للمسلمين.
فجاءت الآية لتحصين المسلمين من الأضرار التي تتفرع عن المصيبة وما ينزل بهم من البلاء، وإخبارهم بأن المصيبة والبلاء من القوانين الثابتة في الحياة الدنيا التي تعم الناس جميعاً، ولكن تنفرد [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] بنيل الثواب والأجر لما أصابهم، فليس من خسارة للمسلمين عند المصيبة، كما أن الأجر والثواب أعظم نفعاً وهو شامل للحياة الدنيا والآخرة، ولو يعلم الكفار بما أعد الله عز وجل للمسلمين من الثواب على البلاء لما فرح الكفار لأصابهم الحزن وإستولى عليهم الكرب والكآية إلى الممات.
وجاءت الآية بصيغة الجمع في الخطاب مع الإتحاد بلفظ السيئة، وفيه وجوه:
الأول: إصابة المسلمين جميعاً بمصيبة أو بلاء.
الثاني: تعدد المصائب والبلايا التي تحل بالمسلمين.
الثالث: حصول المصيبة والبلوى للمسلم الواحد.
الرابع: حلول المصيبة بجماعة أو أهل بلد من المسلمين.
ولاتعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، ومن النكت العقائدية في الآية أمور:
الأول: السيئة الواحدة التي تصيب المسلم تحزن جميع المسلمين، وفي الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم “المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر”( ).
الثاني: المسلمون أمة واحدة تأتي الحسنة أو المصيبة لهم جميعاً، ووصف القرآن المسلمين بأنهم أمة وأنهم خير الأمم، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
ومن خصائص خير أمة ان المصيبة التي تصيب الفرد الواحد منهم كأنها تصيب الجميع، وإذا حلت بهم مصيبة حزن لها الجميع.
فلذا جاءت الآية بصيغة الجمع المخاطب، مع إتحاد السيئة والمصيبة، وما يفرح به الكفار ويحتمل وجوهاً:
الأول: المصيبة التي تصيب المسلمين جميعاً، كالهزيمة في المعركة، أو الآفة الأرضية أو السماوية.
الثاني: يفرح الكفار عند البلاء الذي يصيب الفرد الواحد من المسلمين.
الثالث: الفرح مطلقاً سواء كانت المصيبة عامة أو شخصية.
والصحيح هو الأخير فان الكفار يفرحون بالمصيبة والبلاء الذي يحل بالمسلمين جميعاً، وبالأفراد منهم.
ولم تأت الآية بالمشاكلة في موضوع السيئة كما ورد بخصوص المس في الحسنة فلم تقل “أن تمسسكم سيئة” بل جاءت بصيغة الإصابة الدالة على الوقوع، وفيه مسائل:
الأولى: الإشارة الى إمتثال المسلمين للأمر الإلهي الوارد في هذه الآيات بعدم إتخاذ بطانة من دونهم، لأن الآية تحتمل وجهين:
الأول: لا يفرح الكفار بمس السيئة للمسلمين، الى أن تصيبهم فعلاً.
الثاني: لا يعلم الكفار بمس السيئة للمسلمين لإبتعادهم عن الأخبار الخاصة بالمسلمين وأسرارهم.
والصحيح هو الثاني، ففي مجيء الآية بإصابة السيئة للمسلمين إعجاز وقد لا يعرف هذا الإعجاز الا بالجمع في مقام واحد بينها وبين مس الحسنة للمسلمين وحزن الكفار به.
الثانية: مس السيئة للمسلمين لا يشفي صدور الكفار، فقد غلبت عليهم النفس الشهوية والغضبية، ولا يرضون الا بما فيه ضرر للمسلمين.
الثالثة: يفرح الكفار بما هو أدنى من إصابة السيئة للمسلمين فحال حصول أسبابها ومقدماتها يأخذهم السرور، ولكن هذا السرور لا يصل الى مرتبة الفرح العام عندهم.
الرابعة: دلت التجربة والحس عند الكفار على ان السيئة قد تقترب وتدنو من المسلمين ولكنها سرعان ما تزول وتمحى.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الإعجاز في نسبة العموم والخصوص بين الإصابة والمس.
علم المناسبة
وردت “صوب” في مواضع كثيرة من القرآن، وتأتي الإصابة في الخير والشر، ولم يأتِ لفظ “تصبكم” الا في هذه الآية الكريمة، وفيه توكيد لموضوعية هذه الآية الكريمة وما فيها من الدلالة، وورد بصيغة المفرد خطاباً إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتين وفي آية واحدة [إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ] ( ) في ذم للمنافقين وكشف سوء سرائرهم، فان نال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون النصر والغلبة وجاءوا بالغنائم من الغزو فان المنافقين يحزنون، أما إذا أصابت المسلمين مصيبة أو خسارة كما جرى يوم حد يفرح المنافقون لإنحرافهم وعدم مشاركتهم مع المسلمين في القتال، ولا تصيب السيئة المسلمين فقط، بل تصيب الناس عامة لأنها من القوانين الإبتلائية الثابتة التي تتصف بها الحياة الدنيا، قال تعالى [وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ]( ).
أي تصيبهم مصيبة وبلاء من جدب ومرض لما إقترفت أيديهم وما فعلوه من الذنوب والمعاصي، أما السيئة التي تصيب المسلمين فانها لم تأتِ عن ذنب ومعصية بل هي إمتحان ودرس وتعليم في أمور الحياة الدنيا، ومناسبة للأجر والثواب.
وقد جاءت الآيات بمدح المسلمين على صبرهم ولجوئهم إلى الله تعالى عند نزول البلاء والضرر، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
ويأتي البلاء للمسلمين أحياناً لأنهم يجاهدون في سبيل الله، ويدعون الناس إلى الإسلام ويبذلون الوسع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويعلمون انه لن يصيبهم أذى إلا بإذن الله، وهو الذي أحاط بكل شيء علماً، قال تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
وجاءت الآيات بالإخبار عما يصيب الكفار من العذاب الأليم في الآخرة قال تعالى [سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( )، فيأتيهم البلاء في الدنيا بما قدمت أيديهم، وما أرتكبوه من الذنوب، وفي الآخرة تكون عاقبته العذاب الأليم.
وما يصيب المسلمين على وجوه:
الأول: حلول النعمة بهم ومقاربتها لهم.
الثاني: حلول المصيبة بالمسلمين.
الثالث: مجيء النعمة والمصيبة في آن واحد.
الرابع: عدم مجيء نعمة مستحدثة، أو خسارة ومصيبة.
وقد ذكرت الآية الوجه الأول والثاني، أما الثالث فهو إنحلالي ففي حال حصولهما معاً، فان الكفار والمنافقين يحزنون للنعمة، ويفرحون للمصيبة، وأما الوجه الرابع فان المسلمين في نعمة دائمة وهي نعمة الإيمان والسكينة والرضا بفضل الله، لذا جاءت الآية السابقة بالإخبار عن إمتلاء نفوس الكفار بالغيظ، ولكن بمجئ النعمة للمسلمين يجتمع الغيظ والحزن في صدور الكفار والمنافقين.
قوله تعالى [يَفْرَحُوا بِهَا]
تبين الآية ما في نفوس الكفار من الغيظ والحسد على المسلمين بحيث إذا جاء البلاء والمصيبة للمسلمين يفرحون بها، وهل هذا الفرح كيفية نفسانية أم أنه أمر يظهر على الجوارح، الجواب هو الثاني خصوصاً وان الآية جاءت بصيغة الجمع وحصول ما يدل على الفرح العام عند الكفار بما يحل بالمسلمين من المصائب وأسباب الحزن، وفرحهم هذا من الفرح المذموم لقبح موضوعه وسببه الذاتي، وفي التنزيل ورد في قارون [إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ] ( ).
وكان قارون قد بغى على موسى وعلى بني إسرائيل بكثرة المال والولد وإظهار البذخ ، وقيل ملّكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم، وفرح الكفار المذكور في الآية أشد قبحاً من فرح قارون، لأن فرحهم ليس بأمر ذاتي يخصهم، بل بما يصيب المسلمين من الضرر والبلاء.
فالآية وان جاءت بصيغة الخطاب إلى المسلمين إلا انها تتضمن التوبيخ والتبكيت للكفار، وتفضح سوء سريرتهم وقبح نواياهم، وتدعو المسلمين للحذر والحيطة منهم، وإجتناب إتخاذهم بطانة وخاصة، ومن أسرار نفخ الله من روحه في آدم ان جعل الناس يرحم بعضهم بعضاً ولو على نحو الموجبة الجزئية، وان يحزنوا لما يصيب بعضهم من البلاء والضرر ويتجلى هذا في حب المسلمين للناس.
إذ يتفرع عنه حزنهم عند إصابة بعض الناس البلاء والضرر بغض النظر عن الملة لمفاهيم الأخوة الإنسانية، وفضائل الأخلاق التي يتصف بها المسلمون، وأثر الذكر والعبادة في تهذيب نفوسهم، وما يظهره الكفار من الفرح من مصاديق قوله تعالى ظهور البغضاء على ألسنتهم، وما تخفيه صدورهم وكأن فيه شفاء لصدورهم والغيظ الذي يعضون بسببه أطراف أصابعهم.
وجاءت الآية بذكر الفرح الذي يصيب الكفار مما يصيب المسلمين، وهل يتفرع عن هذا الفرح التعدي ومحاولات الإضرار بالمسلمين، الجواب ان القدر المتيقن من الآية هو إظهار الكفار الفرح بما يصيب المسلمين، أما إتخاذ المصيبة وسيلة لمحاولة الإجهاز على المسلمين فهذا موضوع آخر، قد يكون الفرح مقدمة له، وأخبرت الآية عن حصول الفرح عند عموم الكفار بما يصيب المسلمين، ولو دار الأمر بين إحتمال إرادة الآية حصول الفرح عند شطر منهم، وبين حصوله عند الجميع.
فالصحيح هو الثاني لأصالة العموم، ومجيء الآية بصيغة الإطلاق “يفرحوا”.
وتبين الآية ما يضمره الكفار من العداء للمسلمين، وقد جاء في القرآن مدح لأهل الكتاب الذين يفرحون بنزول آيات القرآن وما فيها من الأحكام ويدل هذا الفرح بالدلالة الإلتزامية على إقرارهم بان القرآن نازل من عند الله عز وجل، قال تعالى [وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ]( ).
وقيل يريد من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وأخيه وأصحابهما ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً: أربعون بنجران، وإثنان وثلاثون بأرض الحبشة، وثمانية من أهل اليمن.
ومن الآيات ان فرح الكفار يتعلق بذات السيئة، وليس بما أصاب المسلمين، فلم تقل الآية “ويفرحوا بما أصابكم” وفيه إشارة الى قبح متعلق هذا الفرح وانه السيئة، وهي مذمومة شرعاً وعقلاً، والأصل ان النفوس تنفر منها، ولكن الذين يقيمون على إرتكاب السيئات والذنوب يفرحون بالسيئة والبلية التي تحل بالمسلمين.
وجاء الإخبار عن فرح الكفار هذا ليكون دعوة للمسلمين للتدارك والتغلب على آثار المصيبة، وفي الآية حث للمسلمين للتعاون والتآزر والتمسك بالقرآن والسنة لمنع شماتة الأعداء.
وهذه الآية من علم الغيب لما فيها من الإخبار عن حال الكفار عند حلول البلية والمصيبة عند المسلمين، فعندما تصيب الفرد والجماعة البلوى وتحل بهم المصيبة فانهم ينشغلون بها، ولا يلتفتون إلى غيرهم إلا من يظهر المواساة، ويمد لهم يد العون والمساعدة، وجاءت هذه الآية لتطلع المسلمين عن حال الكفار وما فيه من الشماتة والفرح عندما يصيب المسلمين ضرر وتلحق بهم خسارة، مما يبعث في نفوس المسلمين العزم على تجاوز آثار تلك الخسارة.
لذا ترى المسلمين يخرجون من المصائب والمحن بحال أقوى مما كانوا عليه، ومن أسباب هذا الخروج إجتنابهم إتخاذ بطانة من غيرهم، فلو كانت عندهم بطانة سيئة لسعت لمنع المسلمين من تجاوز المصائب والسيئات، وحاولت إيقاعهم في محنة وبلاء إضافي، وبعث الإرباك والفتنة في صفوفهم، وتجرأ المنافقين في التصدي للولاية والوظائف ذات الشأن والتأثير، والتسلل إلى منازل الحل والعقد، ولكن الإخبار الإلهي عن فرح الكفار بما يصيب المسلمين وسيلة مباركة لإرتقاء المسلمين في مراتب المعرفة الإلهية، وسلاح لمواجهة المصائب والمكر والكيد في آن واحد، ومدرسة في العلم بأحوال وأهل الملل والنحل.
علم المناسبة
وردت مادة “فرح” في القرآن إثنتين وعشرين مرة، ولم ترد في سورة البقرة، وجاءت في سورة آل عمران ثلاث مرات، وهو أكبر عدد منها يذكر في سورة واحدة.
فقد جاء في الثناء على المجاهدين الذين قتلوا في سبيل الله قال تعالى [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] ( ) للإخبار عما حباهم الله عز وجل من الكرامة والمنزلة الرفيعة في الآخرة، والأمن من عذاب البرزخ والبشارة بالجنة وورد في ذم المنافقين قوله تعالى [لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا]( ).
إذ نزلت في المنافقين الذين يتخلفون عن الجهاد مع رسول الله، فإذا رجع المسلمون إعتذروا لهم بأنهم رأوا المصلحة في التخلف، ويحمدوا بما ليسوا عليه من الإيمان، وهو المروي عن أبي سعيد الخدري وزيد بن ثابت، وقيل نزلت في جماعة من اليهود أذ أحبوا أن يحمدوا بانهم أتباع إبراهيم وأنه كان يهودياً.
والتباين في موضوع الفرح يبين ان من الفرح ما ليس بمذموم، ومنه ما جاء بخصوص نعمة الهداية والإيمان، قال تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ).
وعن أبي بن كعب ( أن رسول لله صلى الله عليه وسلم تلا – قل بفضل الله وبرحمته – فقال : بكتاب الله والإسلام ( ).
وجاء القرآن بالذم على الفرح البطر والترف الذي لم يقابل بالشكر لله تعالى، وأعرضوا عن كون النعم الدنيوية من عند الله عز وجل ولم تأتِ بسعيهم وكسبهم، قال تعالى [وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ]( ).
وهل فرحهم بالسيئة التي تصيب المسلمين من عمومات فرحهم في الحياة الدنيا، الجواب لا، لأن المراد من الآية أعلاه ما بسط الله عز وجل للكفار من النعم وهي من رحمته في الدنيا التي تصيب البر والفاجر وتكون موضوعاً للإبتلاء والإختيار، ليكون إثمهم مركباً من البطر والأشر بالنعم الدنيوية التي تأتيهم فضلاً من الله ، ومن الفرح بما يصيب المسلمين من الأذى والضرر إمتحاناً وتعليماً وسبباً للثواب العظيم، ولو علم الكفار أن ما أصابهم من النعيم في الدنيا كقطرة من البحر في جنب نعيم الآخرة لأصلحوا أنفسهم للآخرة بالتوبة والإيمان.
ولو يعلم الكفار والمنافقون ما للمسلمين من البدل والثواب على ما يلقون من البلاء والمصائب لحزنوا عندما تصيب المسلمين مصيبة لأن إنتفاع المسلمين أكبر من أن يحصى، فهي لهم في الدنيا موعظة ودرس وسبب للجوء إلى الله عز وجل بالدعاء، والإنقطاع الى العبادة، وفي الآخرة يأتي الجزاء عليها بالثواب.
قانون الدعاء لدفع السيئة
لقد جعل الله عز وجل الإنسان خليفة في الأرض وتفضل ورزقه سلاح الدعاء، وجعله حبلاً ممدوداً ليس من حاجب أو بواب أو برزخ يحول دون وصوله الى الله عز وجل، وليس من ثمة مسافة أو وقت يستغرقه وصول الدعاء الى الله عز وجل فحالما يصدر من العبد يسمعه الله عز وجل، ومن الآيات ان الدعاء ليس سلاحاً يتوصل اليه الإنسان بالتجربة والحواس والوجدان فقط، بل جاء بأمر من عند الله عز وجل قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
ومن الآيات انه سبحانه قرن الإستجابة بالأمر بالدعاء، فلم تأتِ آية بالأمر بالدعاء والآخرى بالإستجابة، ولم تأتِ الآية بصيغة الجملة الخبرية “الذين يدعون الله يستجيب لهم” لإحتمال صرفها الى إستحباب الدعاء، بل جاءت الآية بصيغة الأمر الذي يحمل على الوجوب، “وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الدعاء هو العبادة، وقرأ هذه الآية أعلاه”( )، وعن ابن عباس أفضل العبادة الدعاء.
لقد أخبرت الآية محل البحث بأن الكفار يفرحون إذا أصابت المسلمين سيئة ونزلت بهم مصيبة، وفيه دعوة للمسلمين للتوقي والحيطة من أمور:
الأول: نزول المصيبة والبلاء بهم.
الثاني: شماتة الكفار والمنافقين بهم.
الثالث: ترتب الأضرار على المصيبة والبلاء، ويكون التوقي والحيطة على أقسام منها:
الأول: الإخلاص في العبادة، والتقيد في أداء الفرائض والعبادات.
الثاني: التمسك بالقرآن والسنة، وإجتناب الفرقة والخلاف بين المسلمين، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
الثالث: الإحتراز من الآثار التي تخلفها المصيبة في النفوس، وعالم الأفعال.
الرابع: إتخاذ المصيبة والخسارة سبباً للإتعاظ، وإجتناب أسبابها ومقدماتها.
الخامس: التوجه الى الله عز وجل بالدعاء، وهو سلاح الأنبياء، وجاءت الآية محل البحث بصيغة الشرط، وإن تصبكم سيئة، وفيه إشارة إلى اللجوء إلى الدعاء وتوكيد حقيقة وهي أن القرآن لايقف عند حدود تفسير آياته بعضها لبعض، بل تهدي الآية منه إلى العمل بمضامين الآية الأخرى ليبلغ فيه المسلمون مراتب الكمال الإنساني، ويقاربوا سمت الملائكة، وينالوا الثواب العظيم في الآخرة.
فقد جاءت الآية بنسبة الفعل إلى السيئة [وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ] ولا تصيب السيئة فرداً أو جماعة أو أمة إلا بإذن الله عز وجل قال تعالى [مَا
أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ]( )، كما جاء بخصوص مايصيب المسلمين أيضاً قال سبحانه[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ]( )، أي مالحق المسلمين في معركة أحد، لتخليه الكفار، وأن الله عز وجل تركهم يتمادون في التعدي على المسلمين، لموضوعية الإذن بين المأذون له وغايته، وكذا ما يأتي من الخير والنعم فهي بأمر الله عز وجل.
ويحتمل الدعاء بخصوص صرف المصيبة وجوهاً:
الأول: محو المصيبة والسيئة، وعدم حدوثها، قال تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ].
الثاني: التخفيف من حدة وشدة المصيبة بالدعاء وسؤال الله عز وجل.
الثالث: تأجيل أوان المصيبة.
الرابع: دفع أضرار المصيبة والسيئة، ومايترتب عليها من الأذى.
فبالدعاء ينجو المسلمون من المصائب ويدفع عنهم البلاء، ولايقف الدعاء عند نزول البلاء ومحوه، بل أنه ينفع المسلمين حتى لو نزل البلاء، بأن يصرف عنهم الله آثاره فترى ذات المصبة تصيب المسلمين وغيرهم، فيكون وقعها وأثرها على الغير كبيراً، أما المسلمون فإنهم يلجأون الى سلاح الدعاء فيستجيب لهم الله، ويكتب لهم الأجر والثواب في الآخرة على الإصابة بالبلاء ، وعلى الصبر عليه ، والتوجه إلى سلاح الدعاء والمسألة، ولا ينحصر الدعاء بحال الشدة وأوان المصيبة أو ظهور أماراتها ومقدماتها، إذ جاءت الآية الكريمة بصيغة الإطلاق الشامل لحال الحرب والسلم، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الله في حوائجه كلها، وفي الشدة والرخاء، وفيه مدرسة تأديبية للمسلمين، ودعوة للإقتداء به في باب الدعاء.
إن سؤال الله عز وجل بصرف السيئات يدل بالدلالة التضمنية على إستحضار أمور في الوجود الذهني:
الأول: الإقرار بالعبودية لله عز وجل.
الثاني: مقاليد الأمور بيد الله عز وجل، ولايحدث شئ في الأرض ولا في السماء إلا بمشيئته وإذنه سبحانه.
الثالث: إحتمال وقوع المصيبة والبلاء.
الرابع: عدم الركون إلى الدنيا وزينتها.
الخامس: إدراك الحاجة الى الله عز وجل ورحمته وعونه ومدده.
السادس: التسليم بأن الدعاء باب لقضاء الحوائج، ودفع البلاء، وصرف المصائب.
السابع: المسلمون خير أمة، إذ رزقهم الله الدعاء، ووعدهم عليه بالإستجابة ولم يجعل حداً لمواضيع الدعاء والمسألة، بل هي مطلقة تشمل جميع أمور الدنيا والآخرة.
وإذ جعل الله البلاء والمصائب من الصفات الثابتة والملازمة للحياة الدنيا، فإنه سبحانه جعل الدعاء كنز السماء في الأرض، وسلاحاً عند الإنسان لمواجهة هذه الصفة في الحياة الدنيا، وفيه دعوة للإنسان للتنزه من الحسد، وتمني زوال نعمة غيره، وإنتقالها لنفسه، إذ أن الدعاء مدرسة لنيل الخير كله من عند الله عز وجل، والعلم بأن الخزائن بيده تعالى، وهو سبحانه يهب لمن يدعوه.
فالدعاء وقاية من المصيبة والسيئة، ووسيلة لإستبدالها بالحسنة والنعمة والإحسان الإلهي، وتلك آية لا يقدر عليها أحد غير الله ، وهي من بديع صنعه تعالى، وعظيم فضله على الناس، وقد فاز بها الأنبياء وأصحابهم لتبقى تركة كريمة عند المسلمين، وجاء القرآن ببيانها وتثبيتها، وتأكيد الوعد الإلهي بها.
وفي إظهار المسلمين حال الخضوع والخشوع لله عز وجل، والتوجه إليه بالدعاء بلحاظ المقام وموضوع هذه الآيات أمور:
الأول: بعث اليأس والفزع في نفوس الكفار.
الثاني: زيادة غيظ وحنق الكفار.
الثالث: إنه من إسباب عض الكفار أناملهم على المسلمين.
الرابع: في الدعاء غنى عن إتخاذ الكفار بطانة، لما فيه من اللجوء الى الله عز وجل، قال سبحانه [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الخامس: الدعاء وسيلة لمحو الذنوب، ودفع لسوء العاقبة وأسبابه فمن البلاء ما يتعقب الذنب والمعصية، فيأتي الدعاء لصرفه.
السادس: لقد جعل الله عز وجل الدعاء واقية من كيد ومكر الكفار قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدر أرزاقكم ؟ قالوا : بلى . قال : تدعون ربكم بالليل والنهار فإن سلاح المؤمن الدعاء( ).
والدعاء أعم من المسألة فقد يأتي بمعنى التسبيح والحمد، وتنزيه مقام الربوبية كما في أهل الجنة إذ أنه لاتكليف فيها، وقد ورد قوله تعالى [وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
السابع: الدعاء دعوة للناس جميعاً للكف عن الفرح بما يصيب المسلمين، والتدبر في آيات محو السيئات عنهم، وإتخاذها مناسبة لدخول الإسلام.
قانون” يفرحوا بها”
من المتضادين الإيمان والكفر فهما لايجتمعان في محل واحد، وينافي أحدهما الأخر، ولايثبت معه، والتنافي بينهما بالذات والأثر والعاقبة.
ومن رحمة الله عز وجل أنه لم يجعل الإيمان والكفر متكافئين في الصراع بينهما بل جعل كفة الإيمان هي الراجحة، وأيد المسلمين بأسباب الغلبة والظفر، ومنها هذه الآية الكريمة، وما فيها من إخبارهم عن فرح الكفار عند طرو المصيبة وحلول البلاء بالمسلمين، ويحتمل هذا الإخبار في أثره وجوهاً:
الأول:إصابة المسلمين بالغيظ والحنق على الكفار لفرحهم بما يصيبهم من البلاء.
الثاني: بطش وإنتقام المسلمين من الكفار عند حلول المصيبة والبلاء بالمسلمين.
الثالث: حال القنوط وشدة الحسرة عند المسلمين لفرح الكفار بما يصيبهم من الخسارة والبلاء.
الرابع: خوف المسلمين من حلول المصيبة على نحو مركب، من ذات المصيبة، ومن شماتة الأعداء.
الخامس: إحتراز المسلمين من وقوع المصيبة بالدعاء وحسن السمت والصلاح.
السادس: التستر على المصيبة عند حدوثها كي لا يعلم بها الكفار.
السابع: عدم ركون المسلمين للكفار، وإجتناب إتخاذهم بطانة.
الثامن: تفقه المسلمين في الدين، وزيادة معرفتهم بأحوال الناس.
التاسع: التوجه إلى الله عز وجل بالشكر والثناء على نعمة الإخبار عما يضمره الآخرون لهم.
العاشر: تجلي معاني الأخوة والإيثار بين المسلمين، والحرص على التقيد بأحكام الشريعة الإسلامية كواقية من كيد الكفار.
الحادي عشر: إجتناب أسباب ومقدمات المصيبة والبلاء بحسن التدبير والفعل.
الثاني عشر: إظهار معاني التعاون والتكافل بين المسلمين للتخفيف من آثار البلاء والمصيبة، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
الثالث عشر: التحلي بالصبر في درء المصيبة ودفع آثارها عند وقوعها.
والصحيح هو الوجه الخامس ومابعده من الوجوه أعلاه، فجاء هذا الشطر من الآية مدرسة في التقوى وتهذيب النفوس، وإصلاح مجتمعات المسلمين وإعانتهم في مسالك الدين والدنيا، فالآية حرز من:
الأول: شماتة الأعداء، وسرور الكفار بما قد ينزل بالمسلمين من البلاء.
الثاني: أسباب هذه الشماتة.
الثالث: مقدمات نزول المصيبة.
فتبعث الآية في نفوس المسلمين ملكة التوقي من فرح وشماتة الأعداء، وتجعلهم حريصين على إستدامة وتعاهد النعم التي تفضل الله عز وجل بها عليهم، لأن السيئة والمصيبة التي تصيب المسلمين ويفرح بها الكفار على وجوه:
الأول: نزول المصيبة والخسارة بالمسلمين.
الثاني: حلول البلاء بدل الرخاء، والجدب بعد الخصب.
الثالث: زوال النعمة والحسنة عن المسلمين، فزوال النعمة من السيئة التي يفرح بها الأعداء، ويثيرون معها أسباب الشك والريب.
فجاء هذا الشطر من الآية لحث المسلمين على تعاهد النعم، ولزوم عدم التفريط بها، وفعل ما يؤدي إلى رفعها من الذنوب والمعاصي.
فيبعث قوله تعالى [وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا] المسلمين على تعاهد التقوى والفلاح، والمناجاة للتقيد التام بالفرائض والأحكام، وإستدامة العمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشوق ورغبة لأن فيها دوام النعم، وغلق باب الشماتة والفرح على الأعداء، وهو باب للجهاد ومنع النفس وقهر الغضب والشهوة فيها، وسلاح مع الأعداء إلى الإسلام.
وتلك آية في آيات القرآن وما فيها من لغة التحذير والكشف وفضح الكفار، بأن تكون الآية مدرسة في البناء العقائدي للإسلام، ووسيلة لبعث أسباب الهداية في نفوس الناس جميعاً، ودعوة لهم ليكون فرحهم بالحق وما يكون سبباً للفرح والغبظة في الدنيا والسعادة في الآخرة وهو دخول الإسلام والتنعم بما في القرآن من الأحكام إذ يكون إماماً للمسلمين في سبل الهداية والصلاح ، والإخبار عن توثب الكفار للشماتة، ومتابعتهم أخبار المسلمين لكي يفرحوا بما يصيبهم من المصائب والبلايا.
فتأتي آية البطانة لتجعل هذه المتابعة أمراً صعباً وفيه مشقة على الكفار، لما في النهي عن إتخاذهم بطانة من غلق لباب النفاذ إلى مجتمعات المسلمين والإطلاع على أسرارهم ويصاب الكفار بالحزن لإمتثال المسلمين لأحكام النهي في البطانة والخاصة بكلمات قليلة من القرآن.
ثم يأتي هذا الشطر من الآية ليخبر المسلمين بأن الكفار يفرحون بما يصيبكم من المصائب، ويعني في مفهومه حث المسلمين على إجتناب أسباب هذا الفرح، فيسعى المسلمون لمنع أسباب شماتة العداء، وهذا السعي وسيلة لدفع ورفع المصائب والفتن وأسباب الفرقة، وسبب للكسب والإجتهاد في طلب الرزق الكريم، والمنعة والقوة وأخذ الحائطة في الدين، وهو سلاح في جذب الناس للإيمان ويعد لرؤساء الكفر أتباعهم بحلول المصيبة والبلاء بالمسلمين فتأتي هذه الآية لتشحذ الهم، وتحث المسلمين على التدارك ومنع أسباب المصيبة مما يبعث القنوط واليأس في قلوب الكفار، ويدعو عامتهم إلى دخول الإسلام.
أن حسن سمت المسلمين وإعتصامهم بحبل الله، وإنصراف البلاء عنهم سلاح عملي، وآية حسية لدعوة الناس إلى الإسلام، وهو شاهد بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف، بل إنتشر بآيات القرآن، وما فيها من أسباب الهداية، وتجلي المصاديق العملية والمنافع العظيمة لما فيه من الأوامر والنواهي بحسن إمتثال المسلمين وطاعتهم لله ورسوله.
ولم تقل الآية: وإن أصبتهم سيئة، لأن نسبة الفعل تكون حينئذ للمسلمين، ويكون من معانيها فعل المعصيبة والذنب، وأرادت الآية بيان ما يحل بالمسلمين من المصائب والخسارة والضرر، ولكن هذا لا يعني عدم فرح الكفار بالمعصية التي تصدر من بعض المسلمين، لأنها مصيبة وضرر.
فجاءت الآية لتحث المسلمين على إلتزام التقوى والصلاح لمنع شماتة الأعداء، ترى ما هي النسبة بين فرح الكفار هذا وبين خصلة الحسد الجواب هو العموم والخصوص المطلق، فهذا الفرح فرد من أفراد الحسد المذموم.
قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا]
لم تذكر الآية فرح الكفار بما يصيب المسلمين من الضرر على نحو القطع وثبوت الوقوع، بل جاءت بصيغة الجملة الشرطية في طرفيها وهما:
الأول: فرح وسرور الكفار.
الثاني: وقوع السيئة والمصيبة.
إلا أنها أكدت الملازمة بين الأمرين في عالم الإمكان، وكأنها من المعلول الذي لايتخلف عن علته، وتلك آية في علوم القرآن، وشاهد على إعجازه وما فيه من الإخبار عن أحوال الناس، والوقائع والحوادث، وترى في الآية إنتقال كل كلمتين من لغة الخطاب إلى الغائب مع إتحاد الموضوع [إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا] إذ أن المسلمين هم المخاطبون وتعود واو الجماعة في يفرحوا إلى الكفار والمنافقين.
وصحيح أن الآية جاءت بصيغة الجملة الشرطية إلا أنها تتضمن دعوة المسلمين إلى الصبر وتحثهم عليه، وهو إعجاز إضافي للقرآن من وجوه:
الأول: جاء الشطر السابق من الآية بالإخبار عن شماتة الكفار والمنافقين بالمسلمين إا أصابتهم مصيبة، مما يبعث الأسى والحزن في نفوس المسلمين والتساؤل لماذا يشمت هؤلاء مع أن المسلمين خير أمة أخرجت للناس، وهم الذين يعمرون الأرض بعبادة الله، ويتعاهدون الحياة بالتقوى وماينفع الناس جميعاً.
فجاء هذا الشطر لنقل المسلمين الى الموضوع الأكثر الأهمية وهو كيفية إجتناب أذى وكيد الكفار، وفيه إعجاز قرآني يتجلى بحقيقة وهي أن الإنشغال بالأسى يربك الفرد والجماعة، ويحول دون بلوغ الغايات والمقاصد الحميدة التي يسعون إليها.
فجاءت هذه الآية لتنقل المسلمين إلى العمل والسعي في مرضاة الله، وبدل الإنشغال بالأسى والأسف على قيام الكفار بالشماتة بهم يقوم المسلمون بأصلاح أنفسهم للوقاية من آثار الشماتة، وتحذر الآية مما يتفرع عن فرح الكفار بما يصيب المسلمين من البلاء هو أشد ضرراً ويستلزم من المسلمين الإحتراز والتوقي، وجاء ذكر الصبر على نحو الإطلاق من غير تعيين لمتعلقه، وفيه وجوه:
الأول: الصبر عن حزن الكفار بما يصيب المسلمين من الخير والنعم.
الثاني: الإعراض عن شماتة وفرح الكفار إذا أصابت المسلمين مصيبة ومكروه.
الثالث: تحمل أذى المنافقين وغض الطرف عن إخفائهم الكفر وهو خلاف مايظهرون.
الرابع: الصبر على تعدي الكفار وأذى الفاسقين.
الخامس: الصبر على العبادة وأداء المناسك فينصرف المسلمون إلأى عباداتهم فيكنيهم الله عز وجل شر الكفار والظالمين، قال تعالى [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا].
السادس: الصبر في المصيبة وعدم الجزع عند وقوعها، فحتى لو فرح الكفار بوقوعها فأنهم لايستطيعون إتخاذها فرصة للإجهاز على المسلمين بسبب ماقد يحصل بسببها من الجزع والإرباك واللوم الذاتي، فجاءت الآية للإحتراز من الجزع ونحوه وإظهار الصبر، وجعله واقية وحصناً من مكر الكفار والمنافقين.
السابع: التحلي بالصبر ملكة راسخة في نفس كل مسلم ومسلمة.
الثامن: الصبر عن زينة الدنيا وحب الشهوات.
التاسع: الصبر عن إتخاذ بطانة وخاصة من الكفار والمنافقين فقد يميل المسلم الى بعضهم لإتخاذهم بطانة لما يظهره من الود وإدعائه الإيمان بحضرة المسلمين، أو لما يتصف به من المهارات.
فجاءت هذه الآية لتدعو المسلم إلى التحلي بالصبر وترك إتخاذه بطانة.
العاشر: الصبر في مواطن القتال،ومواجهة الأعداء والإمتناع عن الفرار عند الزحف،قال تعالى [وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ]( ).
الحادي عشر: الحرص على التحلي بالأخلاق الحميدة وإجتناب الأخلاق المذمومة من الكذب والرياء والخيانة ونحوها.
إن تعدد وجوه ومصاديق الصبر آية في مفاهيم الإبتلاء، والإختبار في الحياة الدنيا، وسعة وتعدد الموارد التي ينال فيها المسلمون الثواب والأجر، وكثرة أسباب التوقي من الكيد والمكر، وهو شاهد على نصرة الله عز وجل للمسلمين، ومصداق من مصاديق كونهم خير أمة أخرجت للناس، لأن الصبر مدرسة أخلاقية تبعث بضيائها إلى نفوس الناس كافة، وهو سلاح ضد الكبرياء والزهو وبرزخ دون غلبة النفس الغضبية والشهوية، ولايعلم أحد أن الصبر هو السلاح النافع عند حلول النعمة بالمسلمين لما فيه من الشكر لله على النعمة عدم الغفلة عن ذكره سبحانه.
فقد تأتي النعمة للمسلمين ويحزن الكفار، ولكنهم يأملون حينها أن يبطر المسلمون ويصابون بالغرور والزهو ولايحسنون تلقي النعمة، فيأتي سلاح الصبر وحسن توظيف المسلمين له، في تلقي النعمة والإنتفاع الأمثل منها، فيزداد حزن الكفار.
وتطرأ السيئة والمصيبة على المسلمين، فيفرح الكفار والمنافقون، ثم لايلبث هذا الفرح أن يزول لما يرون من صبر المسلمين حين تلقي المصيبة وإتخاذهم لها موعظة وعبرة، ومناسبة للجوء الى الله عز وجل، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( )،.
وينقلب فرح الكفار إلى حزن مستديم، وفيه دعوة لهم للتدبر في أحوال المسلمين، ودعوة لدخول الإسلام لما يظهره المسلمون من الصبر في ميادين الحياة المختلفة وإتخاذهم له طريقاً لأداء الفرائض والعبادات، وتهذيب النفس، والمناجاة بالصلاح والصبر مناسبة كريمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حال السراء والضراء، والرخاء والشدة، فمتى ماصبر الإنسان ولم يبطر ولم يجزع فانه يكون مستعداً لتلقي الأمر والنهي، وقادراً على القيام بوظيفته في الإصلاح والدعوة إلى الهداية والرشاد.
وجاءت الآية بصيغة الجمع في لغة الخطاب [وَإِنْ تَصْبِرُوا] وفيه وجوه:
الأول: الآية إنحلالية بأن يتوجه الخطاب لكل مسلم بالصبر.
الثاني:إرادة صبر المسلمين كأمة كما في قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ].
الثالث: المعنى الأعم الشامل للوجهين أعلاه.
والصحيح هو الثالث، إذ أن الآية تدعو المسلمين جميعاً للصبر على نحو القضية النوعية والقضية الشخصية ليكون كل مسلم عوناً لأخيه لترسيخ معاني الصبر في النفوس، وتثبيت مفاهيمه في المجتمعات.
وهل الصبر أمر وجودي أم عدمي الجواب هو الأول، لما فيه من حبس النفس عن الجزع، وإرادة منع الجوارح من الفعل المنافي للأحكام والسنن الشرعية، وفي الصبر في المقام الأجر والثواب من وجوه:
الأول: الإمتثال للأمر الإلهي الذي تدل عليه الجملة الشرطية في هذه الآية، وما فيها من الدلالة على لزوم التسلح بالصبر واقية من الكيد والأذى.
الثاني: دفع أذى وكيد الكفار بسلاح الصبر، من غير حاجة إلى القتال والفتنة.
الثالث: الصبر وسيلة لجذب الناس للإسلام، ودعوة لهم لرؤية ماعليه المسلمون من الإرتقاء في المعارف الإلهية.
الرابع: في الصبر دفع لأضرار المصيبة أو التقليل منها.
الخامس: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإختبار ، وأنعم على المسلمين بالصبر والهداية إلى سبله لكي يفوزوا بالأجر والثواب.
ومن رزق ملكة الصبر فقد نال فضلاً عظيماً، وحاز مرتبة السبق في إجتياز إختبار وإمتحان في الدنيا، ليس هذا فحسب بل الصبر حرز مما يأتي من المصائب والمحن والخسائر.
فمتى ما تحلى المسلمون بالصبر عند النعمة وعند المصيبة فان الكفار يصيرون في حزن دائم، فيزداد حزنهم عند نزول النعمة بالمسلمين وتمسكهم بها وتعاهدها لها، وأدائهم الشكر على تلقيها، إذ أن متعلق الصبر الوارد في الآية ويحتمل وجوهاً:
الأول: نزول النعمة على المسلمين، وحزن الكفار بسببها.
الثاني: حلول المصيبة بالمسلمين، وفرح الكفار والمنافقين بها.
الثالث: المعنى الأعم، الجامع للوجهين أعلاه.
الرابع: التحلي بالصبر مطلقاً وفي جميع الوارد.
والصحيح هو الرابع إذ أن الآية تدعو المسلمين للتحلي بالصبر في ميادين الحياة المختلفة وأمور الدين والدنيا، وتمنع من الجزع والتهور، والغضب وإتباع الشهوة.
وتحث الآية على الصبر، والصبر من الملكات المكتبسة وجاءت الآيات بدعوة المسلمين إلى سؤال الصبر من عند الله عز وجل، وهو أرقى مصاديق الإكتساب، وفي التنزيل [رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه وبين الآية محل البحث توجه المسلمين الى الله عز وجل بالدعاء لسؤال الصبر لدفع كيد الحاسدين، ومكر الكافرين، لقد أمر الله تعالى بالصبر وأخبر بأنه مع المسلمين في صبرهم ، وهو ناصرهم مع تقيدهم بأحكام وسنن الصبر قال تعالى [وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
لقد جاءت الآية التالية في قصة معركة احد لتكون مصداقاً عملياً حاضراً على ضرورة تحلي المسلمين بالصبر والتقوى وعلى نحو الملازمة والإقتران، وشاهداً على حسن إمتال المسلمين للأوامر الإلهية، فلم يمهل الكفار المسلمين، إذ توجهوا بجيوشهم وخيلهم زاحفين على المدينة المنورة للقضاء على الإسلام وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتصدى لهم المسلمون وكان عدد الكفار ثلاثة آلاف رجل، وعدد المسلمين سبعمائة فصبر المسلمون، وأظهروا أسمى معاني التقوى، فكانت النتيجة في نهاية المعركة إنهزام الكفار مع الخسارة التي أصابت المسلمين كما سنبينه في الجزء اللاحق ان شاء الله.
قانون”الصبر دفاع عن النبوة”
ورث المسلمون الصبر من الأنبياء وإتخذوه جلباباً ورداءً يقيهم شر الإنس والجن، ويمنع أهل الجحود والفسق من الشماتة بالمسلمين ومحاولات إضلال الناس وإثارة الشك والريب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يصيب المسلمين من المصائب والخسارة والمحن، فجاء الحث والندب الى الصبر في هذه الآية لتثبيت معالم النبوة في الأرض، وكشف زيف مغالطة الأعداء، وفضح مايقومون به من أسباب الشك والريب.
وتلك آية في مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية بأن يكون الندب الى الصبر الشخصي والنوعي سلاحاً لتوكيد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: في الصبر إخبار عن صدق إيمان المسلمين.
الثاني: الصبر واقية من الضرر الذي يأتي من الكفار.
الثالث: جاءت هذه الآيات للنهي عن إتخاذ بطانة من غير المسلمين والصبر عون للمسلمين في إجتناب إستيطان غيرهم، وتلك آية في تعليم المسلمين، فقد يميل المسلم لشخص آخر من الكفار، فيأتي الصبر ليكون حاجزاً بين النفس الشهوية وبين إختيار البطانة، ويجعل المسلم يفصل بين الميل والهوى وبين الإمتثال للحكم الشرعي.
الرابع: سميت العبادات بالتكاليف لما فيها من المشقة والتعب على الإنسان ويكون الإتصاف بآداب العبودية لله، والشوق إلى لقاء الله عز وجل ، وما أعد للصالحين من الأجر والثواب هو سلاح ً ووسيلة لأن يؤديها المسلم بشوق ورغبة، ويحس باللذة في أدائها، ولا يشعر بنوع تعب وعناء ومشقة فيه.
فترى المسلم والمسلمة يصومان اليوم من شهر رمضان فرحين بالصيام إبتداء وإستدامة وإفطاراً، فبسلاح الصبر يتغلبان على النفس الشهوية، ويحرص على أداء التكاليف في حال النعمة والمصيبة من غير تفريط في أي حال منهما، لذا ترى الأذان يصدح خمس مرات في اليوم بين مساكن المسلمين، وفي مساجدهم وأسواقهم وفي حال الحضر والسفر، والسلم والحرب، والرخاء والشدة وهو من مصاديق الصبر والإستعانة به لدفع أضرار الكفار وتعديهم على بلاد المسلمين.
ويعتبر الصبر مدرسة النبوة، وليس من نبي الا ولاقى من قومه صنوف الأذى والبلاء، وجاهد في سبيل الله لجذبهم الى منازل الإيمان، وكان الناس أزاء دعوة النبي على أقسام:
الأول: من يحارب النبي، وينصب له العداوة والبغضاء.
الثاني: الذين يختارون السكوت، والإعراض وعدم التصديق.
الثالث: من يكذّب بالمعجزات ولكنه لا يحارب النبي ولا يضمر له العداوة.
الرابع: الذين يصدقون بالنبي وبالمعجزات التي جاء بها، وهؤلاء على وجوه:
الأول: الذي يتبع النبي وينصره ويذب عنه، ويدعو الناس للتصديق بنبوته.
الثاني: الذي يتبع النبي ولكنه لا ينصره ولا يذب عنه من جهات:
الأولى: الخشية من الكفار وبطشهم.
الثانية: ضعف الإيمان، وعدم نفاذه الى القلب والجوانح.
الثالثة: أثر أسباب الشك والريب التي يثيرها أهل العناد.
الرابعة: حب الدنيا، والإنشغال بزينتها.
الثالث: الذي يصدق بالنبي ومعجزاته من غير أن يتبعه.
الخامس: المنافقون الذين يظهرون الإيمان ويخفون الكفر، ويأتي النبي معه بالصبر سلاحاً له وللمسلمين الذين ينصرونه ويتبعونه، وهذا السلاح ملازم ومصاحب للنبوة، وواقية لصد أذى الكفار ووسيلة لجذب الناس الى الإسلام، وبيّنت آيات القرآن صفحات مشرقة من صبر الأنبياء ودعوتهم الى أتباعهم للتحلي بالصبر وإتخاذهم صاحباً ورفيقاً وعوناً في المهمات وفي موسى ورد قوله تعالى [قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا]( ).
ولم يغادر النبي الى الرفيق الأعلى الا وينمي ملكة الصبر، والحث عليها بين أتباعه، إذ يقوم كل واحد منهم بندب أصحابه الى الصبر، ويترك الصبر إرثاٌ لمن بعده من المؤمنين، قال تعالى [ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ]( ).
ليكون الصبر عوناً في أداء العبادات، وبرزخاً دون فعل المعاصي والسيئات وسلاحاً لمواجهة وعلاج ما يرد عليه من المحن، فيغادر النبي الى الرفيق الأعلى ويترك أحكام نبوته أمانة وعهداً عند أصحابه ويكون الصبر حرزاً لها ولهم، وتلك آية من آيات النبوة، وسبب من أسباب إظهار وبقاء أحكامها، ونصر أتباع الأنبياء.
وقد جاءت الآيات بإقتران الصبر مع الصلاة في الإستعانة بها مما يدل على موضوعيته في الثبات على الإيمان والدعوة الى الله عز وجل، ومدح الله عز وجل الأنبياء لصبرهم، قال تعالى [وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنْ الصَّابِرِينَ]( )، وفيه ترغيب للمسلمين بالصبر وإستحضاره عند النعمة والمصيبة ليكون آلة لحفظ النعمة ووسيلة لدفع أضرار المصيبة.
ويمكن تسمية الإسلام دين “الصبر” إذ حافظ المسلمون على قيم وأحكام الصبر، وكان صبرهم مرآة لما يتصفون به من الإيمان، وهو من الشواهد على كونهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]، ويتخذ المسلمون من الصبر واقية وسلاحاً، وسبيل نجاة من الكيد والمكر.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين حفظ نواميس النبوة، وما جاء به الأنبياء من عند الله فهداهم إلى سبيل الصبر وبيّن لهم موارد الحاجة اليه، ومنها ما جاء في هذه الآية من التصدي لأهل الشماتة والفرح بغير حق، ليقذف الصبر في عيونهم التراب، ويمنعهم من مواصلة أسباب الحسد والبغض، ويكون كاشفاً لسوء نواياهم أزاء المسلمين، ومؤكداً لحقيقة تخلفهم عن مواطن البطانة والخاصة للمسلمين.
فمن الآيات أن يأتي الصبر ليكون مصداقاً خارجياً للنهي الوارد من إتخاذهم بطانة، وبياناً لرحمة الله عز وجل بالمسلمين في دعوتهم للإحتراز من اللذين كفروا.
علم المناسبة
وردت مادة “صبر” في آيات عديدة من القرآن ،وكل آية منها مدرسة في الصبر، ومصداق لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: “بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” ووردت مادة “تصبر” بصيغة المفرد مرة واحدة في القرآن بقوله تعالى [وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا]( )، في خطاب من الخضر الى موسى عليه السلام لأن منهج الأنبياء الصلاح والإصلاح، والنصح والشفقة على الناس، وكان الخضر يعمل بما يأمره الله من المصالح غير الظاهرة لموسى عليه السلام.
وجاءت هذه الآية محل البحث لتأمر المسلمين بالصبر عن كيد الكفار مما ظهر منه وما بطن، ليكون الصبر واقية مستديمة لهم، وهو من أسرار إقتران التقوى بالصبر.
وورد قوله تعالى “تصبروا” خمس مرات في القرآن، منها واحدة في سورة النساء، وواحدة في سورة الطور( )، وثلاثة في سورة آل عمران وحدها.
ومن الإعجاز ان هذه الثلاثة وردت كلها بإجتماع الصبر والتقوى، وتعقب التقوى للصبر [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] بينما جاءت الآيتان الأخريان بذكر الصبر وحده.
وجاءت الآيات الثلاثة من سورة آل عمران كالآتي:
الأولى: هذه الآية وتتعلق بموضوع البطانة، ودفع كيد الكفار والمنافقين بالصبر والتقوى.
الثانية: قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
لبيان المدد والعون الإلهي الذي يكون مع الصبر والتقوى، وتوكيد النصر والظفر للمسلمين، فمن كان الآلاف من الملائكة معه فانه لا يخشى المشركين إن رجعوا من فورهم.
الثالثة: قوله تعالى [وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
وفيه بيان لتعدد جهة الأذى وأنه يأتي بإثارة الشك والريب والشتم، والعزم على الضرر بالمسلمين، وقيل : نزلت في فنحاص اليهودي ، سيد بني قينقاع ، لما بعث رسول الله أبا بكر إليه ليستمده ، وكتب إليه كتابا . فلما قرأه قال : قد احتاج ربكم إلى أن نمده ! فهم أبو بكر بضربه ، ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تفتاتن بشئ حتى ترجع فكف عنه ، عن عكرمة ومقاتل( ).
وفيه تأديب للمسلمين وإخبار بأن الصبر والتقوى من صفات العاقل وهما من الحكمة والتدبير في السراء والضراء، والحياة الدنيا مدرسة الصبر وهو واقية من شرور الكفار والظالمين، قال تعالى [وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ]( )، وأختتمت سورة آل عمران بقوله تعالى [اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] وفيه حث على الصبر على طاعة الله عز وجل، وإجتناب معاصيه، والصبر في ميادين القتال، ومواجهة العدو في القتال والثغور.
قوله تعالى [وَتَتَّقُوا]
تجتمع في هذه الكلمة لغة الشرط والعطف، لأنها معطوفة على قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا] ويحتمل وجوهاً:
الأول: كفاية الصبر لدفع كيد الكفار.
الثاني: التقوى وحدها علة تامة لصرف مكر وكيد الكفار.
الثالث: لزوم الجمع بين الصبر والتقوى.
والصحيح هو الثالث فجاءت (واو العطف) في الآية لإفادة الجمع بينهما، ولزوم تحلي المسلمين بالصبر والخشية من الله عز وجل، وفيه آية في أخذ القرآن بأيدي المسلمين للإرتقاء في سلم المعارف الإلهية، وتحتمل النسبة بين الصبر والتقوى وجوهاً:
الأول: التساوي بينهما وأن الصبر هو ذاته التقوى.
الثاني: العموم والخصوص المطلق، وهو على قسمين:
الأول: الصبر جزء وفرع من التقوى.
الثاني: التقوى فرع وجزء من الصبر.
الثالث: التباين والتغاير بينهما.
الرابع: العموم والخصوص من وجه، فهناك وجوه للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
الخامس: أنهما مما إذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا اجتمعا.
والصحيح هو القسم الأول من الوجه الثاني، ومن الشواهد عليه هذه الآية إذ تدل بالدلالة التضمنية على الأمر الإلهي بالصبر والتقوى، وإتخاذهما مجتمعين ومتفرقين سلاحاً وواقية.
ومن الآيات أن الصبر مقدمة للتقوى، وكذا العكس أي أن التقوى مقدمة للصبر، وكل واحد منهما عون للتحلي والإرتقاء في مراتب الآخر، وتحتمل موارد الإحتراز في المقام وجوهاً:
الأول: الأمن والسلامة من كيد الكفار والمنافقين.
الثاني: عض الكفار أطراف أصابعهم.
الثالث: آثار ونتائج غيظ الكفار.
الرابع: حزن الكفار بالحسنة التي تأتي المسلمين.
الخامس: فرح الكفار والمنافقين بما يصيب المسلمين من المكاره والإضرار.
والصحيح هو الأول والثالث إذ أن متعلق الصبر والتقوى في الآية هو الكيد، وجواب الشرط هو يضركم، ولكن هذا لا يعني حصر منافع الصبر والتقوى بدفع كيد الكفار، بل هما سلاح وواقية من الوجوه الأخرى المذكورة أعلاه، والتي جاءت هذه الآيات بذكرها بالإضافة إلى حقيقة، وهي أن المعنى الأعم للكيد يشمل وجوهاً:
الأول:أسباب الكيد وهي على أقسام:
الأول: الأسباب الخارجية التي تأتي من الغير.
الثاني: الأسباب الذاتية التي تخص الكفار أنفسهم.
الثالث: العنوان الجامع للأسباب الخارجية والذاتية.
الثاني: مقدمات وأمارات الكيد.
الثالث: ذات الكيد والمكر.
الرابع: نتائج وآثار الكيد.
وجاءت الآية للتحذير من الوجوه الأربعة كلها، ويدخل في مصاديقها حزن الكفار بما يصيب المسلمين من النعم، وفرحهم وسرورهم بالمصيبة والسيئة التي تحل بالمسلمين، وهذا المعنى من إعجاز القرآن لما فيه من تعدد صيغ التنبيه والتحذير للمسلمين، وتعدد مواضيعها لتشمل ذات المكر ومقدماته وآثاره.
وهل تشمل منافع الصبر والتقوى الإحتراز من البطانة السيئة، الجواب نعم، لأن إختيار الكافر للبطانة مناسبة لإظهار كيده سواء كان ظاهراً أو خفياً، ويكون أثر التقوى في المقام بالإنقطاع إلى طاعة الله عز وجل، وإتباع القرآن والسنة.
ومن مصاديق الطاعة في المقام الإمتثال لقوله تعالى [لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ] وقد يكون كيد الكفار والمنافقين بالسعي للوصول إلى مراتب البطانة والخاصة، وبطرق مختلفة بحسب الحال والشأن، ومنها ماذكرته الآية السابقة [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا] وهل مقدمات الكيد من الكيد الجواب نعم لما فيه من الحيلة والمكر ولأنه وسيلة للكيد، وهو محرم حرمة ذاتية وغيرية.
وجاءت الآية للإحتراز منه ومن أهله وآثاره، وتلك آية كريمة أن يبّين الله عز وجل للمسلمين سبل النجاة من الكيد، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] إذ تبتلى الأمم والجماعات بمكر العدو، وتعاني من أضراره وآثاره عليهم، ولكن المسلمين إنفردوا من بين الأمم بنعمة عظيمة وهي تفضل الله عز وجل بتحذيرهم من عدوهم، وصيغ الإضرار بهم، ومجئ هذا التحذير في الآية على وجوه:
الأول: الزجر والنهي الذي يستلزم الكف والإمتناع.
الثاني: لغة الجملة الخبرية وإفادة الإنشاء منها.
الثالث: صيغة الجملة الشرطية، وما فيها من الحث والندب إلى الصبر والتقوى.
وتتحد وتتداخل هذه الوجوه لتكون مدرسة في إصلاح الأجيال المتعاقبة من المسلمين وإحترازهم من الشر والكيد، إذ تطل عليهم يومياً في كل زمان ومكان لتخبرهم بوظائفهم العقائدية، وتجعلهم يدركون لزوم إعطاء الأولوية في التدبير والقول والفعل للإسلام وتثبيت مبادئه، وحصانة المسلمين من الضرر والكيد.
نعم هذه الحصانة ليست مطلقة لأن الكيد يأتي من الأعداء، ولكنها تخفف من وطأته أحياناً، وتصرف شره وأذاه أحياناً أخرى، ليصاب الكفار بالحزن ويملأ نفوسهم الغيظ.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين بهذه الآية المجاهدة في سبيله، وقهر النفس ومنع غلبة الشهوة عليها، وهي مدرسة أخلاقية تبين كيفية مواجهة الكيد والمكر من غير ظلم وتعد وإنتقام، وعن الأمام علي عليه السلام: التقوى رأس الأخلاق.
وهذه الآية أمان للمسلمين من الأخلاق المذمومة وحرز من إستيلاء الغيظ والغضب على النفس، ووسيلة لإصلاح الناس، وحجة عليهم، وقوله تعالى [وَتَتَّقُوا] أي وتخشوا الله عز وجل وتبادروا الى طاعته، وتحرصوا على ذكره تعالى في القول والفعل، وإجتناب معصيته في السر والعلانية.
وتدل الآية على حاجة الإنسان للعناية واللطف الإلهي في توجيهم إلى سبل التقوى، ويكون دخول الإسلام أول وأسمى مراتب التقوى، لتبدأ مرحلة الإيمان ثم التقوى، وقد تأتي مجتمعة على نحو دفعي فيدخل الإنسان الإسلام ويتحلى بالإيمان، ويتصف بالتقوى في آن واحد فضلاً من عندالله، أو انه يولد على الإسلام ويتلقاه وراثة عن آبائه وفيه فضل من الله عظيم، ويرث معه الإيمان والتقوى بالفطرة وحسن التلقي والفيظ الإلهي بالهداية إلى مسالك الإيمان.
ويمنع الصبر والتقوى النفس من الملل والمكر، ويطردان اليأس والملل، ويجعلان المسلم في حال يقظة ونباهة متصلة بعيداً عن الإنشغال بملذات ومباهج الدنيا، وهذه الآية مدرسة في تعليم المسلمين سبل الهداية والصلاح من وجوه:
الأول: الوقاية من كيد الكفار مقدمة للهداية وسبيل للرشاد.
الثاني: السلامة من الكيد مناسبة كريمة للشكر لله تعالى، والإقرار بانها نعمة من عندالله، ولطف إلهي مصاحب للإيمان.
الثالث: النجاة من كيد الكفار دعوة للناس، ومنهم الكفار أنفسهم للإسلام، إذ أنهم يحبكون مكرهم، ويتقنون كيدهم بالمسلمين، ولكن النتيجة تأتي مخالفة لما يرجون، ومن غير أسباب ظاهرة، فيدركون أن نجاة ونصر المسلمين بمدد غيبي، وفضل من الله عز وجل، وقد دخل أفراد وجماعات من الكفار الإسلام عند وقوع المعارك مع المسلمين، ورؤية آيات النبوة والمدد الذي يأتي من الله والملائكة للمسلمين.
الرابع: يبعث إرتقاء المسلمين في سبل الهداية، وإزدياد إحترازهم الفزع والخوف في قلوب الأعداء.
وتأتي هذه الآية بلزوم التحلي بالصبر والتقوى للأمن والسلامة من كيد الكفار، ولكن منافعها أعم وأكبر، وهما باب لنيل الثواب والأجر، فيحرص المسلم على آداب الصبر، ويتقيد بسنن الخشية من الله في الليل والنهار ليدفع كيد الكفار، ويرزقه الله الثواب العظيم بسبب سعيه إجتناب هذا الكيد، وطاعته للأوامر والنواهي الإلهية، وخشيته من الله عز وجل، لأن منافعها تترشح على الجوارح والأركان وفي ميادين العمل المختلفة.
وجاء لفظ (التقوى) بصيغة الجمع، وفيه وجوه:
الأول: تقيد المسلمين كأمة بأحكام وسنن التقوى.
الثاني: الآية إنحلالية، والمراد تقوى كل فرد من المسلمين، وخشيته من الله عز وجل في السر والعلانية.
الثالث: المعنى الأعم الجامع للتقوى النوعية والشخصية.
والصحيح هو الثالث إذ تدعو الآية المسلمين للتحلي بالتقوى في جميع الأحوال لأنها خير محض، ونفع متصل في العوالم الطولية المختلفة، فهي في الدنيا حرز من كيد الكفار، وفي عالم البرزخ واقية من الحساب الإبتدائي، وفي الآخرة موضوع لنيل السعادة الأبدية.
وإذ يحذر المسلمون من كيد الكفار، ويبذلون الوسع لدفعه بالأسباب المادية، تأتي هذه الآية لتخبرهم عن سلاح أكثر أثراً وواقية كريمة لدفع ضررهم، وهي الفرار الى الله عز وجل بالصبر والخشية منه سبحانه، وتلك آية إعجازية في مفاهيم الحياة الدنيا، وأسرار كنهها وماهيتها.
فيأتي الضرر من جهة وجيهة ظاهرة بينة، وهم الكفار ليكون الدفاع من جهة أخرى مناقضة لها في الفعل والموضوع، فلا يقابل المسلمون الكيد بمثله، ولايتوجهون إلى العدو بالجهاد والمقاومة، بل يجاهدون في صلاح الذات والإلتجاء إلى الله، والإمتثال لأوامره، وإظهار معاني الصبر والتقوى لينصرف الكيد عنهم .
نعم من معاني التقوى وخشية الله طاعة أوامره والتي منها الجهاد في سبيله والدفاع عن الإسلام، ومقاتلة الأعداء، وكأنها تأتي فرعاً للصبر والتقوى، ومن أهم مصاديق الصبر والثبات في ميادين القتال ومناجزة الأعداء، ومتى ما كان المسلمون يتصدون للكيد من منازل التقوى، ويقاتلون في سبيل الله فان النصر حليفهم.
وهو من وجوه نصر الله عز وجل للمسلمين بأن هداهم إلى سبل النجاح والفلاح والظفر بسلاح الصبر والتقوى وليس من أمة تعاهدت هذين السلاحين إلا المسلمين، وهو من خصائص خير أمة أخرجت للناس.
وتؤكد الوقائع والحوادث التأريخية إنفراد المسلمين بهذا التعاهد أمس واليوم وغداً، ولايستطيع الإنسان والجماعة أن يدركوا حقيقة دفع كيد العدو بالصبر والتقوى، إذ يتبادر إلى الذهن الحيطة والحذر والمواجهة بالمثل.
فجاءت الآية لتؤكد على سلاح الإيمان وهو المركب من الصبر والتقوى، وإذا كانت هناك حاجة للدفاع والجهاد والقتال فانها تتفرع عن الصبر والتقوى، وقد لايرى ولايحس الإنسان بكيد عدو ما إلى أن يداهمه الخطر.
وتدل هذه الآية بالدلالة التضمنية على قيام الكفار والمنافقين بالكيد للمسلمين فجاءت بذكر الوقاية على نحو صريح، يسمعه ويطلع عليه الكفار أيضاً، ولكنهم لايستطيعون مواجهته بالمثل، ولا العمل على التصدي له بمكر ظاهر أو خفي، وتلك آية في مبادئ الإسلام بأن تأتي الهداية من عند الله للمسلمين في أسباب الوقاية والجهاد، وبيان أسباب الظفر والنصر، ويعجز الكفار عن كل من:
الأول: محاكاة المسلمين.
الثاني: منع وصول مصاديق الهداية للمسلمين، لأن القرآن والسنة مصاحبان للمسلمين في جميع أصقاع الأرض وإلى يوم القيامة.
الثالث: معرفة أسباب الوقاية من الكيد.
الرابع: الإتيان بمكر وكيد جديد بعد توقي المسلمين وتسلحهم بمفاهيم الصبر والخشية من الله عز وجل.
ولم يقل أحد بأن التوقي من الكيد بالصبر والتقوى وكشف هذا السلاح بجعل الكفار يحتالون عليه، إذ أنه أمر علني جاء بخطاب تشريفي للمسلمين في الكتاب الباقي الى يوم القيامة بين ظهراني الناس فليس بمقدور الكفار الإتيان بمكر جديد لايقدر سلاح الصبر والتقوى دفعه، وتلك آية إعجازية في علوم القرآن وما فيه من المدد للمسلمين، ولما جاء قول الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ، رد الله عز وجل عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) فمن علم الله عز وجل عجز الكفار عن مواجهة مايتصف به المسلمون من سلاح الصبر والتقوى، وقدرة هذا السلاح لمواجهة كيد الكفار مطلقاً، سواء ماتقدم أو ماتأخر منه، وماجاء إبتداء او محدوثاً وعن تدبير ومكر ودهاء.
فكلما يستحدث الكفار والمنافقون ضرباً من الكيد يكون الصبر والتقوى واقية منه خصوصاً وأن الصبر يساعد المسلمين على تحمل الأذى ويكون مناسبة لمعرفة دقائق وخفايا الكيد، وكيفية مواجهته وطروه.
والصبر وسيلة لطرد الروح الغضبية وما تؤدي إليه من العجلة وما يورث الندامة، فيحمل المسلمون على الإحتراز من الكيد بالصبر والتقوى، ليكون عملهم مباركاً، وسبباً لتحصيل المصلحة الدنيوية، وجلب المنافع الأخروية.
والخروج بأمن وسلام من المكر والكيد، ويزيد هذا الخروج المسلمين إيماناً، لأنه معجزة حسية وعقلية على صدق نزول القرآن من عندالله، ويجعلهم يتمسكون بالقرآن وأحكامه في ميادين الحياة المختلفة فحينما جاء قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] جاءت هذه الآية لتهدي المسلمين إلى الحاجة للتمسك بالقرآن والتقيد بأحكامه وحفظ الآيات، وحب تلاوتها في الصلاة وخارج الصلاة لتجلي منافعها، فإذا ظهرت أمارات ومقدمات نعمة على المسلمين أو أصابتهم مصيبة أو ظهرت أمارات مكر من الكفار، تبادرت إلى أذهان المسلمين هذه الآية، وقاموا بتلاوتها والتدبر في معانيها، وحرصوا على العمل بأحكامها.
إذ تجعل المصاديق العملية لأحكام الآية القرآنية المسلمين يدركون الحاجة إلى مصاحبة العمل بآيات القرآن لتلاوتها، كما أن التلاوة تقود وتؤدي للعمل بأحكامها ومضامينها القدسية خصوصاً مع تجلي منافع الآيات في الخارج ليكون الوجود الذهني للآيات سبيلاً للعمل بأحكام الآيات، والعمل بها وسيلة مباركة رسوخ الآيات في الذهن النوعي العام. وهو من الأسباب التي تساعد المسلمين على حفظ آيات القرآن، والإحساس بعذوبة تلاوتها.
ولم تقل الآية (وإن تتقوا وتصبروا) بل قدمت الصبر على التقوى وفيه وجوه:
الأول: إنه من تقديم الخاص على العام.
الثاني: الصبر حرز من البطر عند النعمة، والجزع عند المصيبة.
الثالث: متى ما صبر المسلم فانه يبقى ملتفتاً إلى لزوم التقيد بأحكام العبادات.
الرابع: تفيد واو العطف في الآية [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] الجمع بين الصبر والتقوى وليس من تأخر رتبي للتقوى عن الصبر، بل إنهما يبدأن معاً ويكونان متلازمين لاينفك أحدهما عن الآخر، وتلك آية في الكمالات الإنسانية التي يدعو إليها القرآن، وتتجلى ظاهرة في أحكام الإسلام، وحسن سمت المسلمين.
الخامس: من أسرار إقتران التقوى بالصبر إتخاذهما معاً واقية وحرزاً.
السادس: الصبر مقدمة ودعاء للتقوى، فالصيام مثلاً عبادة تتمثل بالإمساك عن الأكل والشرب نهار الصوم، مما يستلزم الصبر وتحمل العطش والجوع.
علم المناسبة
ورد قوله تعالى [َتَتَّقُوا] بصيغة الخطاب والجمع أحدى عشرة مرة في القرآن، منها خمس مرات في سورة آل عمران وحدها، والستة الأخرى في عدد من سور القرآن في كل سورة مرة واحدة، بإستثناء سورة النساء إذ ورد اللفظ فيها مرتين.
وبذا فان كلاً من لفظ (تصبروا) ولفظ (تتقوا) ورد في سورة آل عمران أكثر من غيرها، وإذ جاء اللفظان متعاقبين ثلاث مرات جاء لفظ (تتقوا) مرتين في السورة على نحو منفرد وهما:
الأول: قوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً]( )، فاذا كانت الغلبة للكفار فيجوز أن يظهر المسلم مداراتهم وحسن العشرة معهم، ومودتهم بلسانه ليدفع الضرر عن نفسه وعن المؤمنين، وروى الحسن أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله ” صلى الله عليه وآله وسلم ” فقال لأحدهما : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم . قال : أفتشهد أني رسول الله ؟ فقال : نعم . ثم دعا بالآخر فقال : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم . ثم قال : أفتشهد أني رسول الله ؟ فقال : إني أصم قالها ثلاثا ، كل ذلك يجيبه بمثل الأول . فضرب عنقه . فبلغ ذلك رسول الله فقال : أما ذلك المقتول فمضى على صدقه ويقينه ، وأخذ بفضله ، فهنيئا له . وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه( ).
وهل من التقية إتخاذ الكفار بطانة الجواب لا، إلا مع الخشية والخوف والإكراه والضرورات تقدر بقدرها من جهة الزمان والفعل والأثر مع ملازمة الحذر والفطنة للمسلم المستبطن.
الثاني: قوله تعالى [وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ]( )، وفيه حث للمسلمين على الإيمان والتصديق بالقلب والجوانح بماجاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل، والخشية منه تعالى بإطاعة أوامره، وإجتناب ما نهى عنه لينالوا الأجر العيظم.
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية محل البحث أن صبر وتقوى المسلمين ينفعهم في دفع ضرر الكفار في الدنيا، ويجلب لهم الثواب العظيم في الآخرة، فمع التقوى وخشية الله يأتي الأمن والسلامة في الدنيا والآخرة، أي أن الله عز وجل يأمر المسلمين بما ينفعهم في النشأتين، ويصلح حالهم، ويكون سبباً لأدائهم الفرائض والطاعات.
قوله تعالى [لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]
جاءت الآية بذات صيغة الخطاب للمسلمين وفيها تشريف وإكرام وبشارة ووعد كريم.
أما التشريف فان الآية خصت المسلمين بالخطاب من بين الناس، مع خلو الخطاب من الذم والتوبيخ في نظم الآية كلها.
وأما الإكرام فان الآية فضل من عند الله عز وجل على المسلمين والمسلمات كافة، وعون لهم في أمور الدين والدنيا.
وأما البشارة فان الآية تبعث الفرح والسرور في نفوس المسلمين، وتجعل مجتمعاتهم تنعم بالسعادة والغبطة في الدنيا فليس من بشرى أعظم وأكبر من بشارة الأمن والسلامة من الأذى والكيد، والآية وعد كريم لأن دفع الكيد والمكر عن المسلمين لايكون إلا بأذن الله عز وجل، فهو سبحانه الذي يصرف الكيد والأذى ويلقي الرعب والفزع في قلوب الكفار.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على وجود كيد ومكر من الكفار أزاء المسلمين، ويحتمل هذا الكيد وجوهاً:
الأول: إنحصار الكيد بأيام البعثة النبوية، ومكر الكفار والمنافقين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثاني: إرادة المسلمين وعدم شمول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب في الآية، للحصانة الخاصة التي تفضل الله عز وجل وعصم بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال سبحانه [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
الثالث: الخطاب شامل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والتابعين والأجيال المتعاقبة من المسلمين والمسلمات.
والصحيح هو الثالث، لوجوه:
الأول:أصالة الإطلاق.
الثاني: إستدامة الصراع بين الإيمان والكفر في الحياة الدنيا.
الثالث: تغشي رحمة الله عز وجل للمسلمين وإتصال المدد والعون الإلهي لهم.
وتلك آية تبين عظيم فضل الله عز وجل على المسلمين في الحياة الدنيا، وفيه شاهد بأن الله عز وجل لم يترك الخير والشر يتصارعان، والإيمان والكفر في حرب متصلة، كلاً بذاته، بل تفضل وأنعم على أهل الإيمان والساعين في الخير بالمدد والعون، لتكون كفة التوحيد هي الراجحة.
وجاءت هذه الآية لتبين وجهاً من وجوه المدد، وعوناً للمسلمين في إصلاحهم لدفع الضرر الذي يأتيهم من الكفار والمنافقين.
ومن إعجاز الآية انها لم تدع المسلمين إلى مواجهة الكيد بمثله، أو بما هو أشد منه، بل أمرت المسلمين بالتحلي بالصبر وإظهار معاني الخشية من الله عز وجل، فان الكفار يكيدون بالمسلمين ليصدوهم عن طاعة الله، ويشغلوهم عن الجهاد في سبيله.
ومن رحمة الله عز وجل بالمسلمين تهيئة مقدمات العبادة والطاعة، ومحو أسباب منع المسلمين عن الطاعة.
فجاءت هذه الآية بالبشرى بدفع الضرر والكيد، وترد معاني هذه البشرى بالإحاطة بشطر من أضرار كيد الكفار في حال ترتب الأثر عليه، وتحقيق نوايا الكفار والمشركين والذين يتخذون الكيد وسيلة، لمقاصد خبيثة منها:
الأول: منع المسلمين من مواصلة أداء الفرائض والعبادات.
الثاني: صد وإشغال المسلمين عن الجهاد في سبيل الله.
الثالث: بعث الشك والريب في نفوس المسلمين بما يثيرونه من المغالطات والدعوى الباطلة والتكذيب بنزول الآيات من عندالله عز وجل.
الرابع: محاولة إرتداد بعض المسلمين من حديثي الإيمان.
الخامس: التضييق على المسلمين، وتخويفهم وإغوائهم وترغيبهم في إتباع الهوى.
السادس: السعي للنفاذ إلى مراتب بطانة وخاصة المسلمين.
السابع: الفرقة والخلاف بين المسلمين.
الثامن: تعدد المذاهب عند المسلمين، وإغراء أتباع كل مذهب بالمذهب الآخر وأتباعه.
التاسع: إثارة النعرة القبلية، وإستحضار الوقائع والأحداث السابقة التي وقعت بين القبائل.
العاشر: المبالغة في مدح طرف على حساب طرف آخر من المسلمين.
الحادي عشر: بعث الخلاف بين المسلم وأخيه المسلم، ومحاولة الفصل بينهما.
الثاني عشر: قتال المسلمين، وغزو ديارهم، فان القتال من أشد وجوه الكيد والمكر.
الثالث عشر: محاربة المسلمين في أسباب الرزق، والتضييق عليهم في المعاش، وقلة المعاملة معهم في التجارات والصناعات.
الرابع عشر: الجدل في أحكام الشريعة الإسلامية، ومبادئ الإسلام، وفي آيات التنزيل، قال تعالى [مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
الخامس عشر: تحريف البشارات التي جاءت بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية السابقة.
السادس عشر: محاولة منع الناس من دخول الإسلام، وصدهم عن سبل الهداية والإيمان.
السابع عشر: الكيد الذي يترشح من عض الأنامل على المسلمين من الغيظ، والذي أخبرت عنه الآية السابقة.
الثامن عشر: إنتهاز الكفار والمنافقين مناسبة فرح المسلمين بالنعمة،
وإنشغالهم بالخير الذي يأتيهم، والخصب الذي يحل بدارهم للكيد بهم، والتعدي عليهم.
التاسع عشر: الإضرار بالمسلمين عند إنشغالهم بالمصيبة والخسارة وآثارهما، كما في قريش بعد معركة أحد إذ ندموا بعد إنصرافهم لأنهم لم يهجموا على المدينة، وهموا بالرجوع إلى القتال، ولكن الله عز وجل بعث الفزع في نفوسهم، واوحى الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمر أصحابه بالتهيء للرجوع إلى قتال الكفار وتعقيبهم، قال تعالى [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ] ( ).
العشرون: إدعاء الكفار والمنافقين الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحضرة المسلمين كذباً وزوراً.
الحادي والعشرون: الحرب على القرآن، ومحاولة منع الناس من الإنصات لآياته، بعد رؤية أفواج من الناس يدخلون الإسلام عند الإصغاء لآيات القرآن، والتدبر في معانيها، وإدراك ما فيها من الإعجاز، قال تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ] ( ).
الثاني والعشرون: لقد كانت آيات الأنبياء السابقين حسية، وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآية العقلية الخالدة وهو القرآن، إلى جانب ماجرى على يديه من المعجزات والآيات الحسية، ولكن الكفار قابلوها بالإعراض والصدود والتكذيب قال تعالى [قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ).
الثالث والعشرون: إنكار عالم الحساب والجزاء يوم القيامة.
الرابع والعشرون: الإستهزاء بالمسلمين وأداء العبادات، ومحاولات بث روح الشك في نفوسهم.
الخامس والعشرون: تخويف المسلمين، وتظاهر الكفار بالقوة والعدة، وكثرة الرجال والأولاد والمؤون.
السادس والعشرون: إنفاق المال في الباطل، وأسباب اللهو والفجور، والتعدي على الإسلام والمسلمين.
السابع والعشرون: تدبير المكائد للمسلمين.
الثامن والعشرون: تحريف الوقائع والأخبار، والإعراض عن النعم وأسباب العز والقوة، وإظهار النقص والعيب.
ونسبت الآية الكيد إلى الكفار بصيغة الجمع (كيدهم) وفيه وجوه:
الأول: الكيد الذي يتفق عليه الكفار، ويصدر منهم جميعاً.
الثاني: الآية إنحلالية وتشمل الكيد الفردي الذي يصدر من بعض الكفار والمنافقين.
الثالث: مايصدر من المنافقين من المكر والكيد الخفي.
وهذه الوجوه من مصاديق الآية الكريمة، إذ أنها جاءت مطلقة وشاملة للكيد النوعي والشخصي، وفيه آية في الفضل الإلهي على المسلمين، لأن الله إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، وأراد سبحانه أن يتنعم المسلمون بنعمته عظيمة وهي الأمن والسلامة من كيد الكفار، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
وقد إبتلى بنو إسرائيل وفي أيام موسى عليه السلام بالعذاب من آل فرعون قال تعالى [وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ] ( ).
وجاءت هذه الآية لتخبر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بسلامتهم ونجاتهم من كيد ومكر الكفار، وتحتمل السلامة والأمن من كيدهم وجوهاً:
الأول:كفاية التحلي بالصبر في حال المسلم والحرب للسلامة والنجاة من الكفار.
الثاني: لابد من التقوى والخشية من الله مع الصبر.
الثالث: المدد والعون الإلهي الذي يأتي لنصرة المسلمين عند تحليهم بالصبر وطاعة الله عز وجل.
والصحيح هو الثاني والثالث، فان صدق الكيد والمكر لم يأت بالصبر والتقوى وحدهما بل بفضل الله في إعانة المسلمين عند تقيدهم بأحكام الشريعة الإسلامية كما في قوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ) فالآية وعد مقترن بالشرط.
وجاءت الآية بالإخبار عن نفي وقوع الضرر بالمسلمين بما يفيد التوكيد والإطلاق فيكفي في الآية قوله تعالى [لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ] ولكن الآية جاءت بالتقييد بالشئ الذي يفيد توكيد نفي الضرر من وجوه:
الأول: الضرر الكثير والقليل.
الثاني: الضرر النوعي والشخصي.
الثالث: الحال واللاحق من الضرر.
الرابع: الضرر في النفس والعرض والمال.
الخامس: نفي إستيلاء الكفار على الثغور الإسلامية.
السادس: نفي الضرر على الملة وأحكام الشريعة.
السابع: البشارة بعدم وصول يد التحريف إلى القرآن والفرائض والعبادات.
الثامن: كيد الكفار لايستطيع بث الفرقة، وإحداث الصراع بين المسلمين، ويحتمل الضرر الذي ينتج عن كيد الكفار وجوهاً:
الأول: الضرر التام على نحو السالبة الكلية.
الثاني: الضرر الذي يكون على نحو السالبة الجزئية.
الثالث: الضرر القليل.
وجاءت الآية الكريمة بالبشارة في إنتفاء الضرر في هذه الوجوه وغيرها وهي أكثر من أن تحصى، وسلامة المسلمين من الكيد والشر الذي يصدر من الكفار والمنافقين أيام التنزيل ومابعده وإلى يوم القيامة إذ يتعاهد المسلمون الصبر والتقوى، ويتقيدون بأحكام الفرائض، ويحرصون على أداء العبادات في أوقاتها وكما جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير تحريف أو تبديل أو إضافة أو نقيصة.
وتتضمن الآية العهد من الله عز وجل للمسلمين وتقديره: إن تقيدتم بأحكام الصبر والتقوى فان كيد الكفار لن يضركم أبداً، وهذا العهد متجدد يطل على المسلمين والمسلمات كل يوم يحثهم على التحلي بالصبر وأحكام التقوى ويبين لهم عظيم نفع كل فرد منها ومصدايقه العملية المتجددة من إعجاز القرآن.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على وجود كيد للكفار، وهذا الكيد ليس عفوياً أو أنه يحدث إتفاقاً وصدفة، بل يأتي عن قصد ونية وعزم وفيه إثم إضافي للكفار.
فمن الآيات في المقام توكيد منافع إجتماع الصبر والتقوى عند المسلمين من وجوه:
الأول:الأمن والسلامة للمسلمين من كيد الكفار والمنافقين.
الثاني: الأجر والثواب للمسلمين لأن في الصبر والتقوى سلاح لتثبيت الإسلام وهذا التثبيت من أسباب وعلل إنتشار الإسلام، فالإسلام لم ينتشر بالدعوة اليه وحدها، بل بثبات المسلمين على الإيمان أيضاً، فتحلي المسلمين بالسمت الحسن والآداب والسنن التي أمر الله تعالى بها بقاء وتعاهد لمبادئ الإسلام، ووسيلة مباركة لجذب الناس للإسلام، فقد لا تتوجه الدعوة إلى شخص ما ولكنه يرى المسلمين في صبرهم وخشيتهم من الله وتفانيهم في طاعته، فيميل إلى المسلمين وينصت لآيات القرآن، ويشرح صدره للإسلام، فيبادر لدخول الإسلام.
الثالث: لحوق الإثم والذنب بالذين يسعون في الإضرار بالمسلمين، فمن الآيات أن يأتي الإثم للكفار مع أنهم لم ينالوا ما يريدون، فبصبر وتقوى المسلمين ينصرف كيد الكفار، ولايبقى منه إلا مايلحقهم من الإثم والوزر الثقيل.
وجاءت الآية بلفظ (لا) النافية للجنس بما يفيد النفي الإستغراقي، إذ أن صيغ البيان في العربية في المقام على قسمين:
الأول: التعبير النصي الذي يؤدي معنى واحداً لايحتمل غيره.
الثاني: التعبير الإحتمالي، وهو الذي يفيد أكثر من معنى، ويعرف المقصود بالقرائن لما في قولك (أنا مكرم زيد) فانه يحتمل إرادة الزمن الماضي والحاضر والمستقبل.
وقوله تعالى [لاَ يَضُرُّكُمْ] يفيد الإطلاق في أفراد الزمان الطولية خصوصاً وأن (لا) لاتعمل إلا في نكرة لأنها كالجواب لسؤال حاصل أو مقدر (هل من ضرر من كيد الكفار) فيأتي الرد والبشارة من عند الله بأنه لاضرر منهم على نحو الإطلاق.
ويحتمل موضوع الكيد والجهة التي يتوجه إليها وجوهاً:
الأول: الكيد الموجه للمسلمين جميعاً وهو على شعب :
الأولى: الكيد في أمورهم الخاصة.
الثانية: في صلاتهم العامة، وما يربط بعضهم بعضاً من وشائج القربى والنسب وأخوة الإيمان.
الثالثة: الكيد في أرزاق ومعاشات المسلمين.
الثاني: الكيد الشخصي الموجه للمسلمين كأفراد، فيرى الكفار مايناسب كل فرد من المسلمين من الكيفية والموضوع الذي يتضرر به ليؤذوه منه.
الثالث: الإضرار بالإسلام ديناً وعقيدة، فصحيح أن الآية جاءت خطاباً للمسلمين، إلا أن موضوعها أعم من الأمور الشخصية فالفرد الأهم هو الإسلام، فلا ينوي الكفار الضرر بالمسلم إلا بإختياره الإسلام، وثباته على مبادئ الإسلام، وأدائه للفرائض والعبادات.
لقد أراد الله عز وجل للإسلام أن يبقى قوياً عزيزاً الى يوم القيامة، فجاءت هذه الآية لدفع الضرر عنه وعن مبادئه بتقيد المسلمين بمفاهيم الصبر والتقوى، وحرصهم على الخشية من الله عز وجل، لتكون هذه الخشية واقية من الضرر والأذى، وأمن وسلامة في الدنيا تكون شاهداً ومقدمة للأمن والسلامة يوم القيامة، فهذه الآية دعوة للمسلمين لنصر الإسلام، والحفاظ على مبادئه، ومنع إضرار الكفار به من وجوه:
الأول: الإضرار بالمسلمين إضرار بالإسلام ديناً وعقيدة.
الثاني: الإضرار بالمسلم بما هو مسلم حرب على الإسلام.
الثالث: التعدي على الإسلام والنبوة والقرآن.
فمن وجوه الصبر والتقوى التفقه في الدين، ومعرفة الأحكام، وحسن أداء الفرائض، فاذا صدر من الكفار شك وريب فان المسلمين ممتنعون عن الإفتتان بهذا الشك فيذهب أدراج الرياح، ويرجع بضرره على الكفار أنفسهم.
ومن منافع ورود لفظ (شيئاً) في الآية دفع الشك والوهم بإحتمال حصول ضرر بالمسلمين في العقيدة والمبدأ، فجاء نفي الضرر مطلقاً، وليس من تعارض بين إطلاق النفي الوارد في هذه الآية وقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )، إذ يفيد الجمع بين الآيتين القطع بنفي الضرر، وحصول الأذى من تعدي الكفار على المسلمين، أما هذه الآية فجاءت بخصوص كيد الكفار، فقد يصل أذى قليل إلى المسلمين من كيد الكفار، وفيه موعظة وتنبيه للمسلمين وحجة.
فلا يأتي أحد ويقول لقد وعدنا الله عز وجل عدم الضرر من كيد الكفار مطلقاً، وقد جاءنا أذى منهم، وهو من أسرار الجمع بين آيات القرآن وحاجة المسلمين له، وإستقراء المسائل والدروس والعبر منه، وهو كنز من كنوز علم التفسير يدعو العلماء لإستخراج الدرر منه وإذ أصبح هذا الزمان زمان الإنقسام والإنشطار في العلوم والإختصاصات.
فان علم التفسير يطل على أهل الأرض بعلوم جديدة مستحدثة مقتبسة من آيات القرآن تكون ذات نفع متصل وعام وشامل للمسلمين والناس جميعاً.
ترى لماذا لم يأمر الله عز وجل المسلمين برد الكيد بمثله، الجواب يفيد الجمع بين الأمر بالصبر والتقوى في هذه الآية وبين قوله تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] ( )، وجوهاً:
الأول: التباين الموضوعي فالكيد غير التعدي.
الثاني: الكيد من الكلي المشكك ومنه ما فيه تعد وظاهر، فيجب رده منه إظهار الفرح والسرور في النفس لما يصيب المسلمين من الخسارة، ويدفع بالصبر والتقوى.
الثالث: رد التعدي من مصاديق الصبر والتقوى.
ولاتعارض بين هذه الوجوه، وتدعو الآية الى العلم والصبر والتأني وعدم الغضب والرد وأن طاعة الله سبحانه واقية من الكيد، ومن وجوه طاعته الدفاع عن الإسلام والجهاد في سبيل الله، ومنع وقوع الظلم والتعدي على المسلمين وثغورهم وبلدانهم، وتتضمن الآية في مفهومها وجوهاً:
الأول: إن لم يصبر المسلمون يضرهم كيد الكفار ولو حرصوا على تقوى الله.
الثاني: إذا صبر المسلمون ولكنهم لم يتقوا الله فان كيد الكفار يضرهم وغن كانوا صابرين في أمورهم كلها.
الثالث: لابد من إجتماع الصبر وخشية الله لصرف كيد الكفار والوقاية منه.
الرابع: يكفي أحد الأمرين، إما الصبر وإما التقوى للسلامة من كيد الكفار.
والصحيح هو الثالث، فلابد من إجتماع الصبر والخشية من الله عز وجل للحصانة من كيد الكفار والسلامة من مكرهم.
بحث بلاغي
وجاء الضمير في الآية بصيغة الجمع على نحو التعدد وهو على أقسام:
الأول: واو الجماعة لإرادة المسلمين بلغة الخطاب خمس مرات.
الثاني: واو الجماعة وإرادة الكفار بلغة الغائب أربع مرات.
الثالث: ورد الضمير (الهاء) للمفرد المؤنث ويعود للسيئة في قوله تعالى [يَفْرَحُوا بِهَا].
والأصل توافق الضمائر في العائدية لمنع اللبس والترديد إلا أن ترد قرينة صارفة إلى التعدد كما في قوله تعالى [أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ] فقد جوز بعضهم التباين في عائدية الضمير لموسى.
أما الثاني فانه يعود للتابوت ورد الزمخشري هذا القول وقال فيه هجنة لما يؤدي اليه من تنافر النظم، ولكن السيوطي قال: عابه الزمخشري، وجعله تنافراً مخرجاً للقرآن عن إعجازه ( )، ولكن الزمخشري لم يجعله علة لإخراج القرآن من إعجازه بل قصد تعاهد ووحدة النظم فقال (فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن) ( ).
والحق أنه ليس من تنافر في النظم عند التباين في عائدية الضمير بل هو وجه من وجوه الإعجاز، وعلى فرض إرادة التابوت فالمراد منه الحقيقة والمجاز معاً، إذ يراد منه أيضاً موسى لذكر المحل وإرادة الحال، ومع تعدد الضمائر في الآية فانها لم تخرج عن أمرين:
الأول: صيغة الجمع، فوردت تسعة ضمائر في الآية بصيغة الجمع.
الثاني: تعيين جهة الخطاب وإرادة المسلمين بضمير الجمع المخاطب، وما فيها من المدح والثناء.
الثالث: تعيين المراد من ضمير الجمع للغائب، وهم الكفار والمنافقون.
ومن الآيات أن تعدد ضمير الغائب لم يغير من صيغة الخطاب في الآية إذ أنها بقت على صيغة مخاطبة المسلمين وفيه عز إضافي للمسلمين ودعوة لهم للفطنة، واليقظة، وشاهد على أن الآية نزلت لنفع ومصلحة المسلمين
علم المناسبة
ورد قوله تعالى [يَضُرُّكُمْ] ثلاث مرات في القرآن، أحداها في هذه الآية، والثانية في قوله تعالى [عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ] ( )، وذكر في أسباب النزول أن الرجل إذا أسلم قالوا له: سفهت أباءك ولاموه، فنزلت عليكم أنفسكم، وعن أبي ثعلبة الخشني ( أنه سئل عن ذلك فقال للسائل : سألت عنها خبيراً ، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال : إئتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا ما رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع أمر العوام ، وإن من ورائكم أياماً الصبر فيها كقبض على الجمر ، للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله ( ).
أما الثالثة فجاءت حكاية عن إبراهيم بعد أن قام بكسر الأصنام التي يصنعها قومه، وكان عددها سبعين صنماً وترك كبيرها، وهو صنم عظيم مستقبل الباب مصنوع من الذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فلم يكسره ولكن قام بتعليق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه، وحينما جاءوا بإبراهيم أخذ بالإحتجاج على قومه في عبادة الأصنام، قال تعالى [قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ]( ).
وورد قوله تعالى [وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا] ( )، في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإخبار بأن ترك الحكم بين أهل الكتاب لن يضر النبي وإن عادوه بسبب هذا الإعراض وله أن يحكم بينهم بالعدل، وقيل هو منسوخ بقوله تعالى [وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ].
وذكر أن الحدود لاتقام عليهم، لأنهم صولحوا على عدم تصديقهم بالنبوة، وهو أعظم من الحدود، وقيل أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رجم في اليهود قبل نزول الجزية، وورد في ذم فريق من أهل الكتاب الذين إتبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها الشياطين أيام ملك سليمان وفي زمانه، إذ كان الشياطين يسترقون السمع.
قال تعالى [وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ] ( )، ويفيد الجمع بينها وبين الآية محل البحث تحذير أهل الكتاب والكفار من تعلم صيغ المكر التي تضر بالمسلمين، وتنهى عن المناجاة فيما بينهم بما يتضمن الدعوة للتعدي على المسلمين وإخبارهم بأن هذا الكيد وتعلمه لن يضر المسلمين شيئاً، وليس فيه نفع للكفار إنما يكون وبالاً عليهم في الدنيا والآخرة.
بحث بلاغي
من وجوه البديع (الإنسجام) وهو مجئ الكلام منحدراً منسجماً بعضه مع بعض وتتجلى فيه عذوبة الألفاظ، والذي يتدبر آيات القرآن يرى أبهى معاني ألإنسجام والتناسق بين ألفاظ الآية والتداخل في المعاني، ولاينحصر الإنسجام في الآية القرآنية الواحدة بل يشمل الآيات المتجاورات سواء إتحد أو تعدد موضوعها، وتلك خصوصية في القرآن، ومصداق من مصاديقه الإعجازية، وفيه صيانة للسمع من الملل وطرد للسآمة في التلاوة والإصغاء.
وإبتدأت الآية بصيغة الشرط ولغة الجمع المخاطب، وفيه بعث للشوق في النفوس لتلاوة الآية والإصغاء لها، إذ يشترك التالي والسامع للآية الرغبة في معرفة مضامين الآية ومافيها من الدلالات، وصحيح أن الخطاب موجه للمسلمين على نحو التعيين إلا أن الإنجذاب لمضامينها لاينحصر بهم دون غيرهم، بل يشمل الناس جميعاً.
فيتلقى الكفار والإنذار بلغة بديعة، ونظم متناسق فلا يلتفتون إلا وقد إخترقت معاني الإنذار قلوبهم، وإستقرت في نفوسهم، لينشغلوا بعدها بأنفسهم، ويدركوا قبح الحزن الذي يأتي بسبب النعمة التي تصيب المسلمين، ويفقد فرحهم بما يبتلى به المسلمون من الضرر معنى السرور، ويكون في حقيقة حزناً خصوصاً مع إدراك سوء العاقبة على هذا الفرح لأنه شماتة بالمؤمنين.
وأيهما أكثر إنتفاعاً من لغة الخطاب والإنسجام بين كلمات ومضامين هذه الآية المسلمون أم أهل الكتاب أم الكفار، الجواب المسلمون أكر نفعاً من غيرهم وهو من مصاديق كونهم خير أمة أخرجت للناس، إذ ينفرد المسلمون بالإنتفاع الأتم من آيات القرآن، وما فيها من الإنسجام وفي حسن كلمات الآية ترغيب بما فيها من الأوامر التي جاءت بصيغة الشرط والدعوة إلى الصبر والخشية من الله عز وجل.
أن قوله تعالى [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ] دعوة للمسلمين للسعي لنيل النعم، فمن النعم ما يأتي إبتداء وفضلاً من عند الله، ومنها ما تكون كسباً يستلزم السعي والعلم.
علم المناسبة
ورد لفظ شئ بصيغة المفرد مائتين وتسعاً وسبعين مرة، منها سبع وسبعون مرة بصيغة النصب، كما في هذه الآية إذ ورد لفظ الشئ، وكل موجود فهو شئ، وكل شئ هو موجود، والشئ عنوان مطلق لايحد حد إلا أن يأتي مايدل على حده، وجاءت هذه الآية لنفي الضرر مطلقاً عن المسلمين بسبب كيد الكفارز
فمن إعجاز الآية إنتفاء الحد في أطراف هذا الشطر من الآية وهي:
الأول: الكفار.
الثاني: كيد الكفار الموجه للمسلمين.
الثالث: المسلمون والمسلمات في الأجيال المتعاقبة.
الرابع: إنتفاء الضرر عن المسلمين فلو إشترك الكفار والمشركون في المكر والكيد بالمسلمين، وشمل كيدهم الميادين المختلفة وتوجه إلى المسلمين جميعاً فلا يكون له أثر وضرر على المسلمين، وتلك بشارة في الآية الكريمة وإعجاز بأن تأتي البشارة مصاحبة للأمر والنهي والتحذير القرآني للمسلمين.
وجاءت الآيات لتخبر بأن الكفار لن يضروا الله عز وجل بكفرهم ونفاقهم وإصرارهم على المعصية، قال تعالى [إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا] والله عز وجل هو القوي القاهر لعباده، وهو النافع الضار.
فجاءت الآية محل البحث لتوكد للمسلمين أنه سبحانه يدفع عنهم عنهم بصبرهم وتقواهم وتعاهدهم الفرائض كيد الكفار إن الذي يكيد بالمسلمين يظلم نفسه بذات الكيد، وما يرجع عليه من أثره وضرره قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ]( )، ومن ظلم الكفار لأنفسهم كيدهم بالمسلمين.
وجاءت آيات القرآن بوجه من وجوه الكيد، وهو مايقوم به الكفار من النجوى في خلوتهم، وبحضرة المسلمين بالتغامز والهمس فيما بينهم قال تعالى [إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ]( )، وكان الكفار يوم أحد يلمحون للمسلمين بأن الغزاة من المسلمين إنهزموا وخسروا المعركة، وأن فلاناً وفلاناً من الغزاة قتل.
وقد وردت الآيات والأحاديث النبوية بلزوم إتصاف النجوى بالإحسان والصلاح، وعن النبي صلى الله عليه وسلم ” إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه( ).
قانون “لايضركم كيدهم”
يتضمن القرآن البشارات والإنذارات، ومن الإعجاز أن تأتي البشارة لتتضمن في مفهومها الإنذار مما قد يحول دون البشارة، أو يؤخر حلولها، ويأتي الإنذار في الآية القرآنية ليتضمن في مفهومه البشارة لمن تقيد بأحكامه، وتوخى الحيطة والحذر لسلامة دينه ودنياه، وقد تكون البشارة في أول الآية والإنذار في وسطها أو آخرها، أو بالعكس، كما تتعدد البشارة والإنذار في الآية الواحدة مما يدل على أن كل آية من القرآن خزينة، تحتوي على الدرر والجواهر التي تكون حرزاً ومؤنة للمسلم في آخرته ودنياه.
وجاءت مقدمة الآية بالإخبار عن وجه من وجوه المكر والكيد الخفي للكفار بإن يحزنوا بما يصيب المسلمين من النعم، ويفرحوا بما يحل بساحتهم من المصائب، ليكون هذا الإخبار إعجازاً وشاهداً على نزول القرآن من عندالله عز وجل من وجوه:
الأول: إنه من علم الغيب في موضوعه وإطلاقه، لأن الآية تخبر عن سجية ثابتة عند الكفار في كل مرة يصيب المسلمين أمر ذو بال وأهمية.
الثاني: تحد الكفار، وعدم قدرتهم على مخالفة ما في هذه الآية من الإخبار، فلايستطيعون أن يظهروا الفرح إن أصابت المسلمين نعمة، ولا الحزن إن أصابتهم مصيبة وخسارة، وهذا التحدي باق إلى يوم القيامة، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن، والمصاديق الخارجية التي تدل على نزوله من عندالله عز وجل.
الثالث: كفاية الصبر والخشية من الله في دفع كيد الكفار سواء بجعل حزنهم بما ينال المسلمون من الخير، وفرحهم بما يصيبهم من الأذى والمصائب بسبب الكيد، أو ما يترشح عن هذا الحزن والفرح من المكر والخبث والضرر.
الرابع: منافع الإيمان والتقيد بأحكام القرآن على المسلمين أفراداً وجماعات وأمة، وهو من الشواهد على أن الله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم.
إذ جاءت الحصانة للمسلمين مطلقة من غير تقييد بقيد أو حدها بحد ومن أشد ما يواجه الإنسان ما يأتيه من الكيد من عدوه، لأن العدو يدبر أمره، ويحكم كيده وهو يحرص على إخفائه وعدم إطلاع عدوه عليه ليفاجئه به، وللمباغتة موضوعية في ترتب الأثر على الفعل.
فجاءت هذه الآية لتطرد الغفلة عن المسلمين بالدعوة للوقاية والسلامة من كيد الأعداء بالصبر والتقوى، والبشارة بالسلامة والنجاة من كيد الكفار وعدم ترتب الإضرار بالمسلمين الجواب نعم، وهو من خصائص الإنذار القرآني بأن يتضمن الزجر عن الفعل الضار بالذات والغير، ونزل القرآن لدعوتهم للتوبة والإنابة وإصلاح النفوس وإجتناب الأخلاق المذمومة والتعدي على المسلمين، ويأتي إنذار وتحذير الكفار في الآية الكريمة من وجوه:
الأول: بيان قبح الحزن لما يأتي للمسلمين من خير، ودعوة الناس مطلقاً لنيل ذات الخير بإتباع السبيل الذي سلكه المسلمون بالتصديق بالنبوة والتنزيل على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، إذ يصدق المسلمون بكل الأنبياء إبتداء بآدم عليه السلام وإنتهاء بخاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإيمان بكل الكتب السماوية المنزلة ومنها صحف إبراهيم وزبور داود وتوراة موسى عليه السلام، وإنجيل عيسى، والمهيمن عليها جميعاً القرآن.
الثاني: الإشارة الى أن الخير كله بيد الله عز وجل، وهو الذي يصرف الكيد، وهو مقدمة وعلة للبلاء والضرر لولا فضل الله عز وجل بوقاية المسلمين.
الثالث: زجر الكفار والمنافقين عن الشماتة بالمسلمين حينما تصيبهم مصيبة، وتوكيد حقيقة وهي إنتفاع المسلمين منها، وإتخاذها عبرة وموعظة.
الرابع: الإنذار من رجوع المكر والكيد إلى أصحابه ولحوق الضرر بالكفار، قال تعالى [وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ]( ).
الخامس: علم الله تعالى بما يفعل الكفار ويكيدونه للمسلمين.
السادس: الإنذار والوعيد بالعذاب الأخروي لمن يكيد بالمسلمين إذ أنهم إختاروا الإسلام، وأخلصوا الطاعة لله عز وجل، فأصبحت أجيالهم المتعاقبة في كنف وعناية الله عز وجل، ومن يكن في كنفه، فلن تضره الخلائق وإن إجتمعت.
ونسبت الآية الكيد إلى الكفار والمنافقين الذين حذرت هذه الآيات من إتخاذهم بطانة وخاصة، وفيه وجوه:
الأول: إذا تم إختيارهم للبطانة ومكروا بالمسلمين، لكن يضر المسلمين كيدهم.
الثاني: الآية مطلقة تشمل موضوع البطانة، والركون والولاية فحتى لو إتخذ المؤمنون الكفار أولياء فان كيد الكفار لن يضرهم.
الثالث: جاءت البشارة بصرف كيد الكفار مع لزوم التقيد بإجتناب إستبطانهم، لأن هذا الإجتناب من الصبر والتقوى.
وتقدير الآية (ان تصبروا وتتقوا فلن تتخذوهم بطانة).
والصحيح هو الثالث، وهو من إعجاز نظم الآيات وتداخل معانيها وكثرة دلالاتها وعدم التعارض بينها.
وفي الآية نكتة عقائدية وهي لاتخافوا من الكفار وتتخذوهم بطانة وخاصة، فان الله عز وجل يكفيكم أمرهم إن إجتنبتم إستبطانهم، فلا يستطيع الكفار مؤاخذة المسلمين والإضرار بهم بسبب عدم إتخاذهم بطانة، نعم يلجأون إلى الغيظ والحسد للمسلمين.
فجاءت هذه الآية للإخبار عن صرف الله عز وجل لكيدهم المترتب عن عدم إتخاذهم بطانة ومطلقاً، وتلك آية في تفضيل المسلمين وكونهم خير أمة أخرجت للناس، إذ ينعم عليهم الله عز وجل بالوقاية من الكفار والتحذير من الركون إليهم، فتكون هذه الوقاية عامة ومطلقة ومصاحبة للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة، ويحتمل الكيد الصادر من الكفار وجوهاً:
الأول: الكيد الذي يصدر من أهل ملة ما.
الثاني: ما يأتي من المنافقين وأهل الضلالة.
الثالث: الكيد الشخصي بأن يقوم شخص بالمكر والكيد للمسلمين.
الرابع: الكيد بالواسطة حيلة وخداعاً، وجاءت الآية بالبشارة بالأمن والسلامة منها جميعاً.
بحث بلاغي
من وجوه البديع (الإئتلاف اللفظي) بأن تلائم الألفاظ بعضها بعضاً في وزنة وموضوعية وكثرة أو قلة تداوله ويتجلى فيه حسن الجوار والصيغة والمناسبة، ومنه هذه الآية إذ جاءت بلفظ الخطاب للمسلمين، وبيان شدة بغض الكفار لهم ومصاديق لهذا البغض، وكيفية دفعها وصرفها والحاجة إلى رحمة الله عز وجل والإستعانة به سبحانه في دفعها ليزداد المسلمون إيماناً، ويصاحبهم الإحتراز من شماتة الأعداء.
وجاءت الآية بصيغة المضارع في طرفيها أي فيما يصيب المسلمين وأثره عند الكفار والمنافقين، ويحتمل وجهين:
الأول: أن حزن وفرح الكفار بما يصيب المسلمين من الخير أو الضرر مؤقت ولا يلبث أن يزول.
الثاني: إستدامة حزن الكفار وإن كانت الحسنة مؤقتة، ودوام فرحهم بالمصيبة التي تحل بالمسلمين وإن كانت محدودة.
والصحيح هو الأول لأن المسلمين في عز دائم، وتدل هذه الآية على قدرتهم على الإنتفاع الأمثل من الحسنة، وتجاوز السيئة ليبقى الكفار في حزن متجدد، وهو من منافع الإئتلاف اللفظي في الآية، ففي كل جملة وموضوع منها حزن وغيظ للكفار، نعم ذكرت هذه الآية فرحهم بالسيئة التي تصيب المسلمين ولكن هذا الفرح لايلبث أن يزول، ويحل محله الحزن لإن المسلمين يتلقون المصيبة بالإسترجاع قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] لينال المسلمون الثواب والأجر لتكون البشارة بالثواب مواساة كريمة لهم، والنسبة بين الإسترجاع وبين الصبر والتقوى على وجوه:
الأول: الإسترجاع من مصاديق الصبر.
الثاني: إنه من أفراد التقوى، فمن يخشى الله عز وجل يسترجع عند المصيبة والخسارة.
الثالث: التساوي، فالإسترجاع هو نفسه الصبر، وهو نفسه التقوى.
الرابع: التباين بين الإسترجاع وكل من الصبر والتقوى.
والصحيح هو الأول والثاني، فتدل الآية بالدلالة التضمنية على إستحضار الشكر لله عز وجل عند النعمة، والإسترجاع عند المصيبة ليكون مصداقاً من مصاديق الصبر والتقوى، ومقدمة لأفراد ومصاديق أخرى منها.
بحث أصولي
تدل الجملة الشرطية في منطوقها على تعليق التالي فيها على المقدم الذي يأتي على نحو التقدير وإحتمال الوقوع ويسمى في علم الأصول فعل الشرط، وتكون الجملة الشرطية على قسمين بلحاظ موضوع المفهوم وهو بإصطلاح علم الأصول وهو الذي يقابل المنطوق، ويختص بالدلالات الإلتزامية، فإذا قلت أن زيد عالم، فان مفهوم هذه الجملة الخبرية أنه ليس بجاهل.
القسم الأول: يأتي المقدم في الجملة الشرطية لبيان موضوع الحكم، ليكون الحكم في التالي متعلقاً بالشرط الوارد في المقدم بحيث لايتحصل الحكم من غير تحقق المقدم، مثل: أن وصلت إلى البيت الحرام أصلي ركعتين عند المقام، ومثل هذه الجملة الشرطية ليس لها مفهوم لإنتفاء المشروط بإنتفاء شرطه، فلا يبقى موضوع للتالي عند عدم تحقق المقدم، فلايقال: إن لم تصل الى البيت الحرام لاتصل ركعتين في المقام.
القسم الثاني: الجملة الشرطية التي لا تأتي لبيان الموضوع إذ يكون الحكم في التالي متعلقاً بالشرط، بل هو أعم من الشرط، ويمكن تحصيل الحكم بدون الشرط كما في قولك: إذا دخل وقت الصلاة أذهب إلى المسجد، إذ أن الذهاب الى المسجد لاينحصر بالصلاة ووقتها وأدائها بل هو أعم.
وأجمع الأصوليون بأنه لا مفهوم للجملة الشرطية، في القسم الأول، ولكنهم إختلفوا في القسم الثاني ودلالة الجملة الشرطية على إنتفاء الحكم عند إنتفاء الشرط.
وهل من مفهوم لقوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] أي إن لم تصبروا وتتقوا فان كيد الكفار يضركم، أم ليس لها مفهوم لأن إنتفاء الشرط يعني إنتفاء موضوع الحكم، الجواب هو الأول.
جاءت الآية لتحث المسلمين على الصبر والخشية من الله عز وجل، وتبين لهم الملازمة بينهما وبين صرف كيد ومكر الكفار، للإرتباط بين المقدم والتالي في الجملة الشرطية وتعلق التالي على المقدم، وتبعيته له وكأنه من العلة والمعلول، والسبب والمسبب، ويدل على وجود مفهوم للآية الكريمة التبادر ومجئ الآية بصيغة الشرط والجزاء، نعم تتعدد مصاديق كل من الصبر والتقوى وليس من حد في كثرتها، لذا تفضل الله تعالى بالفرائض العبادية لتكون أسمى مصاديق الصبر والتقوى إذ أن المصاديق في الحق على أقسام:
الأول: مصاديق الصبر والتحمل.
الثاني: مصاديق التقوى والخشية من الله وإن لم يكن فيها موضوع للصبر.
الثالث: المعنى الجامع للصبر والتقوى.
وجاءت الآية لتكون عوناً للمسلمين لبلوغ مراتب الصبر والتقوى، والإخبار عن إنتفاء الحكم عند إنتفاء الشرط الذي يترتب عليه الحكم وهو الأمن والسلامة من كيد الكفار.
والجملة الشرطية هنا من عمومات قوله سبحانه [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، وجاءت الآية بتعدد الشرط مع إتحاد الجزاء لبيان إستقلال كل من شرط الصبر، وشرط التقوى، مع إتحادها معاً، وكأنها مما إذا إجتمعا إفترقا، وإذا إفترقا إجتمعا.
قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ]
من الإعجاز في هذه الآية مجئ مواضيعها بصيغة الإطلاق، وليس من تقييد أو تخصيص فيها، والإطلاق من وجوه:
الأول: الحزن العام عند الكفار إذا قاربت النعمة المسلمين، مما يدل على شدة حزنهم عند حلول النعمة فعلاً عند المسلمين.
الثاني: حصول الفرح عند الكفار إذا أصابت المسلمين مصيبة وسيئة، وليس من أمارة أو دليل على الإستثناء في المقام، إلا أن يأتي من آية ودليل آخر.
الثالث: تقيد المسلمين التام بالصبر وصيرورته ملكة راسخة في النفوس والمجتمعات، ومصداقاً من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين المسلمين بأن يحث بعضهم بعضاً على التحلي بالصبر في حال النعمة والخسارة، والسراء والضراء.
الرابع: تعاهد المسلمين لأحكام وآداب التقوى والخشية من الله عز وجل، التي تهذب بها النفوس، وتصلح المجتمعات وتتقوم الأعمال، وليس من إستثناء لبعض المسلمين من وجوب التقيد بسنن التقوى بل هي حاجة لهم مجتمعين ومتفرقين.
الخامس: نفي الضرر من جهة الكفار على نحو الإطلاق إذا تقيد المسلمون بآداب الصبر والخشية من الله عز وجل للتوكيد الذي يدل عليه قوله تعالى [شَيْئًا].
وجاءت خاتمة الآية بصيغة الإطلاق، والإخبار عن علم الله عز وجل بكل ما يعمل الكفار والمنافقون، وإذا كان الحزن والفرح كيفية نفسانية، فهل يدخلان في مضامين خاتمة الآية، أم أنهما يدخلان في خاتمة الآية السابقة [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] الجواب هو الثاني وفي الجمع بينهما إنذار وتحذير للكفار بأن الله عز وجل يعلم ماتخفي صدورهم ويعلم ما يفعلون وما ينطقون فيصرف كيدهم وضررهم، ويحاسبهم على أفعالهم وما يقومون به من التعدي على المسلمين، ومحاولة إلحاق الضرر بهم.
وبلحاظ نظم الآية وأنها خطاب للمسلمين فان خاتمتها بشارة للمسلمين، وتبعث السكينة في نفوسهم وتخبرهم بأن الله عز وجل قادر على درء ضرر الكفار، ومنعه من الوصول إلى المسلمين لوجوه:
الأول: علم الله عز وجل بالنوايا والعزائم.
الثاني: الوعد الإلهي الكريم بنصرة المسلمين، وكفايتهم ودفع ضرر الكفار عنهم.
الثالث: مشيئة الله تعالى في عمارة الأرض بعبادته، والمسلمون هم الذين يعمرون الأرض بالعبادة، فيتفضل الله عز وجل بحفظ المسلمين لإستدامة العبادة قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
الرابع: عظيم قدرة الله عز وجل وسعة سلطانه.
وهذه الآية وعد كريم للمسلمين، ووسيلة لتفقههم في أمور الدين والدنيا، وبرزخ دون الغفلة والجهالة، وهذا البرزخ لا ينحصر بالمسلمين وحدهم، فالآية مدرسة في المعارف الإلهية تدعو الناس الى الإقرار بالعبودية لله عز وجل، ومتى ما علم الفرد والجماعة بان الله عز وجل يعلم كل ما يفعلون فانهم يخشونه ويخافون عقابه، وخاتمة الآية من أسباب منع وصول الضرر للمسلمين من كيد الكفار من وجوه:
الأول: تبعث خاتمة الآية الفزع والخوف في قلوب الكفار والمنافقين.
الثاني: حصول الإرباك في صفوف أعداء الإسلام بسبب العلم بان أعمالهم حاضرة عند الله تعالى.
الثالث: في الآية إخبار بان الكفار لا يعرفون قدرهم وما يتصفون به من الضعف والذل والهوان.
الرابع: يأتي الكيد في الغالب بالخفاء، والتدبير سراً، ويحرص صاحبه على كتمانه عن عدوه بل عمن يكون قريباً منه كي لا يظهر أمره، وجاءت هذه الآية لتفضح ما تقدم وما يأتي من كيد الكفار.
الخامس: في الآية دعوة للكفار للتوبة والإنابة، وتلك آية في لغة الإنذار القرآنية، إذ يتضمن التحذير من التعدي على المسلمين، دعوة الكفار الى إصلاح الذات، والكف عما ليس فيه نفع، ولا يؤدي إلا الى قوة ومنعة المسلمين لأن الله عز وجل ناصرهم، ومن ينصره الله يكون عدوه عاجزاً عن مواجهته والإضرار به.
لقد أخبرت الآية عن صرف كيد الكفار والمنافقين عن المسلمين بقوله تعالى [لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]( )، وجاءت الخاتمة تفسيراً وبياناً لعلة إنعدام ضرر الكفار على المسلمين بان الله عز وجل محيط بكل فعل يفعلونه فيمنع من تعديهم على الإسلام والمسلمين.
والإحاطة بالشيء الإطافة به من جميع جوانبه وأركانه، وهي من صفات الأجسام، والله تعالى منزه عنها، فجاء إطلاق الاسم على الله من باب المجاز لبيان حقيقة وهي ان الله عز وجل عالم بكل شيء، وقادر على منع جور وظلم الكفار من الوصول إلى المسلمين ومبادئ الإسلام.
ولم تقل الآية “ان الله محيط بما يعملون” بل قدمت العمل لوجوه:
الأول: إخبار المسلمين والناس جميعاً بان الله عز وجل عالم بكل ما يفعله الإنسان.
الثاني: ان الله عز وجل محيط بكل شيء، ولا تنحصر إحاطته علماً بما يفعل الكفار فما من شيء في الأرض والسماء صغيراً أو كبيراً إلا ويعلمه الله عز وجل.
الثالث: تقديم موضوع الآية وما فيه الإنذار والوعيد بالتوكيد على أفعال الكفار.
الرابع: إختتام الآية بصفة من صفات الله عز وجل، وفيه مسائل:
الأولى: توكيد نزول القرآن من عند الله عز وجل.
الثانية: ان مقاليد الأمور بيد الله عز وجل.
الثالثة: بعث الغبطة والسعادة في قلوب المسلمين، إذ ان الإخبار عن حزن الكفار عند النعمة التي تأتي للمسلمين، وشماتتهم لما يصيب المسلمين، ومكر وكيد الكفار بهم أمور تبعث على الألم والأسى، فجاءت هذه الآية لمنع هذا الألم والأسى، وجعل المسلمين في سعادة لما تدل عليه خاتمة الآية من السلامة.
الرابعة: إفادة الإعتقاد الجازم عند المسلمين بالأمن من كيد الكفار، لأن جميع أعمال الكفار لا تخفى على الله عز وجل.
لقد جاء الإخبار عن سوء نوايا وكيد الكفار بعد بيان علم الله تعالى بما في الصدور كما جاءت به خاتمة الآية السابقة، وإحاطته سبحانه بأعمال الكفار لبيان ان حزن وشماتة الكفار لن تضر المسلمين ولن تكون مقدمة لما فيه الضرر.
وتمنع الآية من تسرب الكآبة والغيظ إلى نفوس المسلمين، لأن الرضا والغبطة بفضل الله تملأ صدورهم، وتجعلهم منشغلين بشكر الله عز وجل، ليكون الغيظ مائزاً بين الكفار والمسلمين، بإعتباره صفة ملازمة للكفار، وأخبرت الآية في أولها عن أثر النعمة أو المصيبة التي ترد على المسلمين في نفوس الكفار، وعلم الله عز وجل بحزنهم وفرحهم وفيه توكيد بالأولوية القطعية على علم الله عز وجل بما يفعلون، وظاهر الإحاطة أنها تتضمن العلم مع السلطان والحد من الفعل، فهو سبحانه يعلم بمكر الكفار ويحول دون ترتب الأثر عليه، ليكون بياناً وتوكيداً لصرف كيدهم ومنع إضرارهم بالإسلام والمسلمين.
وإذ ينال المسلمون الأجر والثواب على الصبر والتقوى، قربة وطاعة لله عز وجل، وعلى ما يأتي عليهم من الأذى من الكفار، فهل يثابون على ما ينصرف عنهم من الضرر والكيد الذي يمكر به الكفار، الجواب نعم، فصحيح ان هذا الضرر لا يصل اليهم إلا أن الأجر والثواب يأتيهم فضلاً من الله عز وجل، مما يزيد حسرة الكفار في الدنيا والآخرة، ويجعلهم في غيظ شديد.
علم المناسبة
ورد لفظ “محيط” تسع مرات في القرآن، وكلها صفات لله عز وجل وجاء بخصوص العمل وإحاطته تعالى بأعمال العباد وبالكفار عامة كما في قوله تعالى [وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ] ( )، وبينها وبين الآية محل البحث عموم وخصوص مطلق، إذ ان الإحاطة بالكفار أعم فتشمل أعمالهم وذواتهم، وحالهم في الدنيا والآخرة، وقيل معنى قوله تعالى [وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ] أي جامعهم يوم القيامة، كما ورد في ذم وإنذار الكفار، قال تعالى [وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ]( ).
أي وإن تمادى الكفار في الغي والتعدي فإن قدرة الله شاملة لهم، ولن يعجزوه، ولابد أن يرجعوا إليه سبحانه، ويقفوا بين يديه للحساب، و
وردت إحاطة الله مطلقة شاملة لكل شئ قال سبحانه [وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا]( )، في إشارة إلى علمه تعالى بالحوادث والوقائع قبل وقوعها، وأنه سبحانه يعلم أعمال الكفار ونتائجها وآثارها، وما يأتي للمسلمين من الضرر من الكفار.
وإذ جاءت الآية بالإخبار عن إحاطة الله تعالى علماً بما يعمل الكفار والمنافقون، فقد جاءت آية أخرى بالإخبار عن إحاطة جهنم بهم يوم القيامة، وفيه إنذار وبيان بأن علم الله تعالى بما يفعل الكفار يكون حجة عليهم يوم الحساب، ليلقوا الجزاء بالعذاب الأليم في النار، قال تعالى [يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ]( )، أي ستكون النار مأوى للكفار، ولايستطيعون مغادرتها، وقيل هي محيطة بالدنيا أي بلحاظ الإصرار على الكفر وإرتكاب المعاصي ومايترشح عنه إنطباقاً وجزاء من الخلود في النار.
بحث بلاغي
من البديع (التفويف) وهو المجئ بمعان متعددة من الوصف والثناء والمدح والذم، في جمل كل جملة منفصلة عن أختها، مع تساوي الجملة في زنتها، وتأتي في الجملة الطويلة والمتوسطة والقصيرة، وجاءت في هذه الآية من الجملة الطويلة على وجوه:
الأول: قال تعالى [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ] فذكرت الآية أمور:
الأول: الموضوع وهو مقاربة ووصول الحسنة للمسلمين.
الثاني: أثره وهو حزن الكفار بسبب بغضهم للمسلمين.
الثالث: بيان حد ومرتبة النعمة وهو القرب والمساس.
وفيه آية وهي علم الكفار بأن النعمة إذا لامست وقاربت المسلمين فلابد وأن تصل إليهم، وتلك حجة عليهم، وأمارة على إعترافهم بالعناية الإلهية التي تحيط المسلمين وكذا بالنسبة للمصيبة فانهم لايحزنون في قرب المصيبة من المسلمين إلا أن تصيب المسلمين فعلاً لأنهم يعلمون أن المصيبة تدنو من المسلمين وتصبح قريبة منهم، ولكنها سرعان ما تندفع، كما في معركة الخندق فقد جاءت قريش بخيلها وخيلانها ظنا منهم أن معركة أحد ومالاقاه المسلمون فيها سبب لضعفهم ووهنهم فحفر المسلمون الخندق حول المدينة، وما لبث المشركون أن إنهزموا خائبين خاسرين.
الثاني: إنتقلت الآية إلى بيان حالة إصابة المسلمين بالخسارة والمصيبة بلغة الشرط أيضاً، أي فيما إذا أصابت المسلمين خسارة فان الكفار يفرحون بها، ظناً منهم أنها تجعل المسلمين يتخلفون عن وظائفهم العقائدية والعبادية.
فبينت الآية موضوعاً مبايناً ومختلفاً عن الموضوع الأول وكذا يكون التباين في أثره على الكفار، ومع الإختلاف الرتبي بين المس بخصوص الحسنة والإصابة في السيئة إلا أنه لم يؤثر على الإنسجام في الزنة خصوصاً وأن الآية جاءت لبيان أثر مايصيب المسلمين من الخير والسوء.
بحث كلامي
كشفت الآية عن حقيقة عقائدية تحكم الصلات بين الناس، وتدل على ما يلاقيه المسلمون من الأذى من الكفار، وتبين أن صيرورة المسلمين بحال من القوة والمنعة لم يمنع من مجئ الضرر والأذى من الكفار مما يستلزم الحذر واليقظة الدائمة، وإجتناب الغفلة والتكاسل وتدفع الآية البطر عن المسلمين عند نزول النعمة.
فقد تأتي النعم للإنسان فينشغل بها، ويفرط في وظائفه العبادية وهذا التفريط مصيبة وخسارة، فجاءت هذه الآية لتقول للمسلمين لاتجعلوا الكفار يتخذون من آثار النعمة التي تأتيكم مناسبة للفرح، وتحث الآية المسلمين على تعاهد الأخوة الإسلاميةوجعل النعمةوسيلة لتثبيتها وإجتناب الغرور والغواية.
ومن الآيات ان يأتي بيان حزن وغيظ الكفار بسبب النعمة عند المسلمين، ليحرص المسلمون على تلقي النعمة بالشكر لله عز وجل، والتقيد بأحكام الشريعة، وإجتناب إتخاذ الكفار بطانة، ترى لماذا يحزن الكفار للنعمة التي تصيب المسلمين الجواب من وجوه:
الأول: تساعد الآية في تثبيت المسلمين في منازل الإيمان.
الثاني: النعمة التي تأتي للمسلمين على نحو الخصوص والتعيين شاهد على صدق إختيارهم الإسلام، وتعاهدهم لمبادئه.
الثالث: إقرار المسلمين بأن ما عندهم من النعم والخير من عندلله عز وجل.
الرابع: يظن الكفار أن إبطاء النعم عن المسلمين يضرهم في دينهم ودنياهم، لذا فانهم يحزنون لمجئ النعمة للمسلمين، فجاءت الآية في مفهومها بأمر المسلمين بالصبر والتقوى لبعث اليأس في قلوب الكفار، لأنهم يرون المسلمين يتعاهدون الفرائض وسنن التقوى في حال الرخاء والشدة، ويتخذون من النعمة مناسبة للشكر والثناء على الله والدعاء بالمزيد منها، ويتخذون من إبطائها فرصة للإلحاح بالدعاء، والإجتهاد في العبادات، وسؤال النعم من عند الله.
الخامس: حلول النعم والخير والحسنات بالمسلمين دعوة للناس لدخول الإسلام، ودليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيها من تفضيل المسلمين فمع مجئ النعمة للمسلمين تدخل أفواج من الناس إلى الإسلام، وتتبين للجميع العناية واللطف الإلهي بالمسلمين.
السادس: إمتلاء صدور الكفار بالغيظ والحسد للمسلمين، ولا يحب الحاسد رؤية النعم عند المحسود، ويتمنى زوالها، فجاءت الآية لوقاية المسلمين من حسد الكفار بالصبر والتقوى، بتقريب هو أن الحسد من مقدمات وأسباب الكيد الذي ذكرته الآية [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] وقيل ” ان إبليس أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون من هذا ؟ فقال إبليس : لو كنت إلهاً لما جهلتني ، فلما دخل قال فرعون : أتعرف في الأرض شراً مني ومنك ، قال : نعم ، الحاسد ، وبالحسد وقعت في هذه المحنة( )،ولم يرفع الخبر ولم يذكر السند، وليس من صلة بين إبليس وفرعون إلا أنه قد جاء بهيئة بشر لإقامة الحجة على فرعون لأنه عتى وتجبر وطغى.
وجاءت هذه الآية لتحذر الكفار من حسدهم للمسلمين وتخبرهم بأن حسدهم لن يضر المسلمين لإستجارة المسلمين بالله عز وجل وتضمنت سورة الفلق الإستعانة بالله لدفع الحسد قال تعالى [وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ] ( ).
السابع: تأتي النعمة للمسلمين خاصة، وتفضح الذين يعادون الإسلام والمسلمين، وتكون حجة عليهم، ورداً عملياً على ما يثيرونه من أسباب الشك والريب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فنزول القرآن من عند الله عز وجل، ونسبت الآية نزول الإساءة بالكفار إلى الحسنة مما يدل على أنها أمر وجودي وأن لها وظائف متعددة منها مايكون بالذات وهو توجهها للمسلمين وإنتفاعهم منها، ومنها مايكون بالعرض ومنه بعث الحزن والحسرة والأسى في قلوب الكفار، وفيه إشارة إلى نعمة نزول الآية القرآنية وما تسببه من الحزن في قلوب الكفار ولزوم حيطة المسلمين لها، وحفظها من التحريف والتبديل والتغيير.
إن حزن الكفار عند نزول النعمة بالمسلمين من وجوه التضاد والصراع بين الإيمان والكفر، ولكن المسلمين لايقابلون الكفار بذات الحزن إن أصابت الكفار نعمة دنيوية لوجوه:
الأول: مايتحلى به المسلمون من الصبر واقية من الحسد.
الثاني: علم المسلمين بأن الله عز وجل ينزل النعم فتصيب البر والفاجر.
الثالث: النعمة التي تأتي للكفار إمتحان لهم.
الرابع: نزول النعم على الناس مناسبة ليتوجه المسلمون إلى الله عز وجل بالدعاء والمسألة، وسؤال مثلها من غير تمني زوالها.
الخامس: كرة النعم التي عند المسلمين.
السادس: عند المسلمين من النعم مايفتقر له الكفار، فمن أفضل النعم نعمة الهداية والإيمان.