المقدمة
الحمد الله الذي أنزل القرآن كتاباً جامعاً للأحكام مانعاً من الغفلة والجهالة، ومحيطاً بالوقائع والأحداث إلى يوم القيامة، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وفي إجتناب الأبناء للربا ثواب للآباء لأن الآباء خلّفوا هذا الإجتناب تركة كريمة، ويترشح ثواب تقيد الأبناء بأحكام حرمة الربا على الآباء، ويكون تأسيساً ومقدمة صلاح للاحق والمعدوم من الأبناء لتكون ذات البهجة والغبطة عوناً ومدداً للأبناء في التقيد بما جاء في التنزيل من النهي عن الربا ، قال تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
ويكون من خصائص المؤمنين توارث أحكام القرآن والعصمة مما نهى الله عنه ليكون دعوة للناس لعمارة الأرض بطاعة الله، وسبباً للفوز بالثواب العظيم قال تعالى [وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
وفيه إقامة للحجة على الناس في لزوم عبادة الله، والإمتناع عن معصيته.
ولزوم الصدور عن النبوة والتنزيل , قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
وذات البهجة من اللطف الإلهي بالناس، وتقريب لهم لأداء الوظائف العبادية والتنزه عن المعاصي ، ويجعل هذا الأداء والتنزه معاني السعادة ظاهرة للحواس ، ومدركة بالوجدان لتتبين حقيقة للخلائق وهي أن خلق الإنسان رحمة ونعمة ، وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة حينما قالوا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، في إحتجاجهم على جعل آدم عليه السلام خليفة في الأرض.
فمن علم الله عز وجل عصمة المسلمين من الربا وأخذ المال الزائد على القرض، وصيرورة هذه العصمة على وجوه:
الأول : إنها سبب لإستدامة الحياة.
الثاني : إنها مقدمة لعبادة الله.
الثالث : هي بذاتها عبادة وطاعة لله عز وجل.
الرابع : فيها حرب على الفساد وبرزخ دون سفك الدماء بغير حق.
فمن يجتنب أكل الربا والمال بالمعاملة المنهي عنها، يكون من باب أولى معصوماً عن الظلم والقتل بغير حق، ليكون من فلسفة حرمة الربا أمور:
الأول : سلامة أهل الأرض من الآفات، وبلاء قلة الرزق.
الثاني : تنمية ملكة التنزه من الفساد والإفساد.
الثالث : إتخاذ الحياة الدنيا مزرعة مباركة لولوج الآخرة، وعدم النفرة من الموت ، وقرب الأجل مع التسليم بما بعده من عالم البرزخ وأهوال الحساب.
الرابع : البيان العملي للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن ماجاء به من الأحكام حق وهو من عمومات رد الله على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، بوجود أمة تبتعد عن الفساد في باب المعاملات، لينال المسلمون شرف مراتب التقوى ، ويكونوا حجة على الناس في لزوم طاعة الله.
لقد إنقطع التنزيل بنزول تمام القرآن وإنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ليبقى المسلمون رافعين لواء الإيمان بتعاهد التنزيل بالتلاوة والعمل بأحكامه وسننه، ومنها حرمة الربا التي تتجلى في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( ).
وفي الوقت الذي جاءت فيه متعددة أجزاء من تفسيرنا , كل واحد منها في تفسير آية واحدة من القرآن وستأتي أجزاء كثيرة بذات المنهجية وسأحرص عليها في الأجزاء اللاحقة بتوفيق ومدد ولطف من عند الله عز وجل ، جاء هذا الجزء ليتضمن شطراً من تفسير آية [لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] ( ).
وكله في مضامين وأحكام الآية الكريمة أعلاه، وإستقراء الدلائل وإقتباس الحجج من صلتها بالآيات المجاورة لها.
وليس بالضرورة أن يكون الربا طريقاً للربح الوفير فقد يتعذر إنتزاع الأرباح الربوية أو حتى رأس المال، وجعل الله عز وجل إجتنابه طريقاً مباركاً للرزق الكريم وسبيلا لنماء الأموال وتوظيفها بما هو صحيح شرعاً وما ينفع الذات والوارث في الدنيا والآخرة إلى جانب الثواب العظيم في القرض وإمهال المدين إذ كان عاجزاً عن القضاء، قال تعالى[وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ]( ) .
لبيان حقيقة وهي أن المسلمين يعرضون عن الأضعاف المضاعفة من المال الربوي طاعة لله عز وجل، ويمهلون المدين من غير فرض زيادة عليه، شكراً لله عز وجل على نعمة الغنى بعد الفقر، والعز والقوة بعد الذل.
لقد نزلت آية البحث وما فيها من نهي المسلمين عن أكل الربا وكانوا يتصفون أوان التنزيل بأمور:
الأول : حال الضعف، قال تعالى[وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ] ( ).
الثاني : قلة العدد، بالقياس إلى الكفار.
الثالث : النقص في المؤونة والسلاح.
الرابع : المشقة في توفير الطعام للمهاجرين الذين جاءوا إلى المدينة المنورة.
وقد ورد في الحديث ذكر أهل الصفة( )، من فقراء المهاجرين، ونزلت آية البحث لتكون لهم في مفهومها بشارة الغنى والثروة اللذين يترشحان عن الفتح وظهور الإسلام، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ]( )، لتكون آية البحث مصداقاً للهدى ودين الحق وبشارة وبرهاناً على نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشريعة الإسلام، وبرزخاً دون سيادة المعاملات الفاسدة.
ولم تمر الأيام والليالي على أهل الصفّة إلا وأصبح عدد منهم قادة وولاة وأصحاب أموال طائلة، ولتختفي ظاهرة (الصفّة) عند جوار المسجد وإلى يوم القيامة، وعن محمد بن عمر (كانت لحارثة بن النعمان منازل قرب المسجد وحوله، فلما أحدث عليه الصلاة والسلام أهلاً تحول له حارثة عن منزله، حتى صارت كلها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان في المسجد موضع مظلل تأوي إليه المساكين يسمى الصفة، وكان عليه الصلاة والسلام يدعوهم بالليل فيفرقهم على أصحابه، وتتعشى طائفة منهم معه عليه الصلاة والسلام.
قال الحافظ الذهبي: إن القبلة – قبل أن يحول استقبال بيت المقدس إلى الكعبة – كانت في شمالي المسجد، فلما حولت القبلة إلى الكعبة بقي حائط المسجد الأول مكان أهل الصفة.
وقال الحافظ ابن حجر: الصفة مكان مؤخر المسجد، مظلل، أعد لنزول الغرباء ومن لا مأوى له، فكانوا يكثرون فيه تارة ويقلون أخرى، بحسب من يتزوج منهم أو يموت أو يسافر)( ).
وهو من الشواهد على صدق نزول الآية الكريمة وما فيها من بشارة السعة والثروة عند المسلمين، ووسيلة لطهارة أموال المسلمين، ومناسبة لقبول دعائهم، قال تعالى[وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]( ).
ومن طريق ابن سيرين (قال: كان أهل الصفة إذا أمسوا انطلق الرجل بالواحد والرجل بالاثنين والرجل بالجماعة فأما سعد فكان ينطلق بثمانين. وروى الدارقطني في كتاب الأسخياء من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال: كان منادى سعد ينادي على أطمه: من كان يريد شحماً ولحماً فليأت سعداً.
وكان سعد يقول: اللهم هب لي مجداً لا مجد إلا بفعال ولا فعال إلا بمال اللهم إنه لا يصلحني القليل ولا أصلح عليه)( ).
ويدل النهي عن الربا على بداية مرحلة جديدة للمسلمين تتصف بالإستقرار، وإزدهار الأسواق، وسيادة الإسلام وإستدامة العمل بأحكامه والصدور عن القرآن في باب العبادات والمعاملات قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
ومن فضل الله عز وجل أن أقوم بكتابة ومراجعة وتصحيح أجزاء هذا السفٍر بمفردي وإلى حين صدورها من المطبعة تباعاً، وكذا كتبي الفقهية والأصولية مع أن وجود أعوان في المقام تخفيف وسبب لمضاعفة الأجزاء التي تصدر منه، وتبقى كنزاً وإرثاً للأجيال اللاحقة إلا أن الفضل الإلهي علّي عظيم ومتصل قال تعالى[يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ]( ).
وتدل آية النهي عن الربا على دخول أحكام الإسلام الأسواق وانه ليس دين عبادات فقط، بل دين معاملات وأحكام أيضاً لتكون حرمة الربا شاهداً على شمول أحكام الإسلام للميادين المختلفة، وفيه رسالة إلى الناس جميعاً بأن المسلمين يستحضرون أحكام الشريعة معهم في الأسواق، ويجتنبون الأضعاف المضاعفة من الأموال طاعة الله، وتنزهاً عن المعاملات الباطلة التي تجلب الضرر لهم وللناس، وهذا التنزه من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
$$وتدل آية [خَيْرَ أُمَّةٍ] ( ) على حرمة الإرهاب والإمتناع عن التفجيرات للتضاد بينهما وبين صفة [خَيْرَ أُمَّةٍ] ولأن وظيفة المسلمين القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومنه الزجر عن الإرهاب ، وصيرورة هذا الزجر جزء من ثقافة السلم .
حرر في الأول من ذي الحجة 1431
النجف الأشرف
قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]الآية 130.
الإعراب واللغة
ياأيها الذين آمنوا : يا: حرف نداء.
أي : منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب .
الهاء : أداة تنبيه .
الذين بدل من أيها .
آمنوا : فعل ماض ، والواو: فاعل، والجملة صلة الموصول.
لا : ناهية ، تأكلوا: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، الواو: فاعل .
الربا : مفعول به .
أضعافاً : حال منصوب بالفتحة .
مضاعفة : صفة، جاءت لتوكيد الكثرة والتكرار في أكل المال بالربا.
واتقوا الله : الواو : حرف عطف ، اتقوا:فعل أمر مبني على حذف النون، الواو : فاعل ، اسم الجلالة : مفعول به منصوب بالفتحة.
لعلكم : حرف مشبه بالفعل، والكاف ضمير في محل إسمها.
تفلحون : جملة فعلية من : فعل مضارع، وفاعل وهو الواو جاءت خبراًُ لــ(لعل) وجملة الرجاء حالية.
والأكل يستعمل في الطعام، يقال أكلت الطعام أكلاً ومأكلاً، ويأتي للقمة الواحدة والمتعدد من الأكل، وفي حديث الشاة المسمومة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(مازالت أكلة خيبر تعادني فهذا أوان قطعت أبهري) ( ). أي اللقمة التي أكل النبي من تلك الشاة.
وتستعمل مادة(أكل) مجازاً في موارد كثيرة تزيد اللغة العربية جمالاً كما يقال(أكلت النار الحطب) أي صار طعماً لها، قال الزهري: سمعت بعض العرب يقول: جلدي يأكلني إذا وجد حكة) ( ).
والأكل : الرزق ، يقال إنه لعظيم الأكل في الدنيا، أي كثير الرزق، ويقال للميت : إنقطع أكله، أي رزقه.
ويقال : الرجل يستأكل قوماً) أي يأكل أموالهم بغير حق، (فلان يستأكل الضعفاء) أي يأخذ أموالهم، ويقال: هم أكلة رأس) أي قليل يشبعهم رأس واحد، وقد يراد به معنى آخر في حال القتال، وهو أنهم قليل يسهل القضاء عليهم وفي قوله تعالى [قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ] المثبّطين {مِّنكُمْ} الناس عن رسول الله صلّى الله عليه [وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ] تعالوا {إِلَيْنَآ} ودُعوا محمّداً فلا تشهدوا معه الحرب فإنّا نخاف عليكم الهلاك.
{وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا} دفعاً وتغديراً.
قال قتادة : هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم : ما محمّد وأصحابه إلاّ أكلة رأس ولو كانوا لحماً لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه،
دعوا هذا الرجل فإنّه هالك.
قال مقاتل : نزلت في المنافقين .
وذلك أنَّ اليهود أرسلوا إلى المنافقين .
فقالوا : ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه فإنّهم إنْ قدروا عليكم هذه المرّة لم يستبقوا منكم أحداً ، وإنَّا نشفق عليكم، أنتم إخواننا وجيراننا هلمَّ إلينا ، فأقبل عبدالله بن أُبيّ وأصحابه على المؤمنين يعوّقونهم ويخوّفونهم بأبي سفيان ومن معه وقالوا : لئن قدروا عليكم هذه المرّة لم يستبقوا منكم أحداً، ما ترجون من محمّد ، فوالله ما يريدنا بخير وما عنده خير ، ما هو إلاّ أنْ يقتلنا هاهنا ، انطلقوا بنا إلى إخواننا وأصحابنا ، يعني اليهود ، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلاّ إيماناً واحتساباً( ).
والربا لغة الزيادة والنماء قال: ربا الشيء يربو ربواً ورباء ، وفي التنزيل، [وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ]( )، أي يزيدها وثوابها.
والربا في الإصطلاح هو النفع الزائد الذي يؤخذ على القرض (وعن ابن إسحاق: والرِّبا رِبَوانِ فالحَرام كلُّ قَرْض يُؤْخَذُ به أَكثرُ منه أَو تُجَرُّ به مَنْفَعة فحرام والذي ليس بحرام أَن يَهَبَه الإِنسان يَسْتَدْعي به ما هو أَكْثَر أَو يُهْديَ الهَدِيَّة ليُهْدى له ما هو أَكثرُ منها)( ).
ولا دليل على هذا التفصيل، والتباين ظاهر العقل والحواس بين الربا والهدية، وقد إنحصر المعنى الإصطلاحي بالقسم الأول وهو الحرام، وجاء القرآن والسنة بالتحذير منه , وبيان قبحه الذاتي والعرضي، قال تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
وضعف الشئ: مثلاه، ويكون أكثر من المثلين بلحاظ القرينة والأمارة الدالة عليه، كما في قوله تعالى في الذين آمنوا وعملوا الصالحات[فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا]( ).
وقيل المراد من الضعف في المقام عشر حسنات لقوله تعالى[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا]( )، ولكن الضعف في المقام أعم في موارد الجزاء، ولا ينحصر بفرد مخصوص، وأضعاف الشئ: أمثاله.
والفلاح : الفوز والتوفيق ونيل الخير والبقاء فيه، قال تعالى[قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ]( )، أي نالوا مرتبة البقاء في النعيم الدائم، (وأصل الفلاح: البقاء) ( ).
والفلاح : السحور لبقاء نفعه وأثره، وفي الحديث: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح) ( )، أي السحور .
والمراد من الفلاح في الآية الكريمة أعم من البقاء في النعيم في الآخرة، فهو يشمل التوفيق والنجاح في الحياة الدنيا أيضاً.
في سياق الآيات
صلة هذه الآية بآيات القرآن على قسمين:
القسم الأول : صلتها بالآيات التي قبلها، وهي على شعب منها:
الشعبة الأولى : صلة آية(البطانة) قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] ( )، بهذه الآية، وفيها وجوه:
الأول : إتحاد جهة وصيغة الخطاب في الآيتين بصيغة الإيمان(يا أيها الذين آمنوا)، وفيه إكرام للمسلمين وثناء عليهم.
الثاني : جاءت كل من الآيتين في النهي عن فعل مخصوص، إذ تنهى وتحذر آية البطانة من إتخاذ الكفار وليجة، بينما تنهى آية البحث عن أخذ الزيادة على القرض، وفيه توكيد لحرمته.
وهل إتخاذ بطانة من الكفار مقدمة وطريق لأخذ الربا، الجواب نعم وهو أمر ممكن، إذ تزين البطانة الربا وأخذ الزيادة، وتسعى لإنحراف المسلم عن أحكام الشريعة بصيغ التحريف والتأويل بغير الحق لذا قال تعالى[لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( )، ليجتمع النهي في الآيتين في موضوع واحد فيكون بين موضوع الآيتين عموم وخصوص مطلق .
ولعل أكل الربا مقدمة لإتخاذ بطانة من الكفار لما فيه من التلبس بالحرام وأكل المال بالباطل مع الإقرار بعدم الملازمة بينهما.
الثالث : إن أخذ المسلمين الربا يشمت بهم الأعداء ويتخذونه مناسبة للتعريض بالمسلمين كما قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] ( ).
فجاءت آية البحث لسلامة المسلمين من العنت والمشقة والشدة، وفي الحديث: فيعنتوا عليكم دينكم( )، أي يأتون بأسباب الضرر في دينكم.
الرابع : أختتمت آية السياق بقوله تعالى[قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ] ومن هذه الآيات حرمة أكل الربا الذي ذكرته آية البحث بصيغة القطع والنص الخالي من تعدد التأويل.
وهل يشمل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ]( )، عقود الربا والوفاء بها بعد عقدها ؟ الجواب من وجوه:
الأول: القدر المتيقن من الآية والوفاء بالعقود هو العقود الصحيحة وليس الفاسدة.
الثاني: جاءت آية البحث بالنهي عن أكل الربا، وهذا النهي يفيد الترك، وعدم الجواز.
الثالث: ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إسقاط الأرباح الربوية التي كانت على القروض قبل الإسلام، فلا يأخذ الدائن إلا رأس ماله ومقدار قرضه، وليس من حصر للشواهد التي تؤكد أن كل خطاب تشريفي(يا أيها الذين آمنوا) يعضد الآخر من مثله في موضوعه وحكمه، وهو أمر يحتاج إلى دراسة الصلات بين خطابات القرآن ودلالاتها على نحو مستقل .
وتبعــث هـــذه الخطابات المســــلم على الإمتثـــال لأوامر الله عز وجل، وإجتناب ما نهى عنه، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ] ( )، لتكون مادة للإلتقاء بين الآية أعلاه وآية البحث من وجوه:
الأول: وحدة الخطاب التشريفي، وإرادة ذات الجهة العامة وهم المسلمون.
الثاني: صبغة النهي والزجر في الآيتين.
الثالث: بين موضوع النهي في الآيتين عموم وخصوص مطلق، فأكل الربا من الباطل، والباطل أعم من الربا وورد القيد(بينكم) للفرد الأهم والغالب وإلا فإن النهي عن أكل الربا بالباطل مطلق وعام، وتبين صلة قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، بهذه الآية وحدة كلمات الآيتين بإستثناء موضوع الآية.
فموضوع الآية أعلاه الصبر والمرابطة، وموضوع آية البحث الإمتناع عن الربا ومع التباين بين صيغة الآيتين إذ جاءت الآية أعلاه بلغة الأمر، وآية البحث بلغة النهي إلا أن إجتناب الربا من سنخية الصبر.
ويحتاج المسلم للتنزه عن الربا الصبر وعدم الطمع والشره في الأرباح الربوية، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ]( ). وبلحاظ أن الضلالة في الآية عامة، وتشمل المعصية مطلقاً، ومنها تعاطي الربا .
وفي الجمع بين الآيتين تحذير للمسلمين من الإفتتان بأهل الضلالة في المعاملات الباطلة، وفيه بيان لحقيقة وهي أن قيام غير المسلمين بالمعاملات الربوية لن يضر المسلمين في دينهم ودنياهم، وفيه مسائل:
الأولى: إنه نوع بشارة للمسلمين.
الثانية: فيد دعوة للمسلمين لتعاهد الأوامر والنواهي الإلهية.
الثالثة: توارث المسلمين لنعمة الإبتعاد عن الربا.
الرابعة : السماحة في المعاملات مع أهل الكتاب وعموم الناس , مع التقييدالذاتي بأحكام الشريعة .
قانون تعدد الإعجاز الذاتي في الآية القرآنية
هل تتضمن آية البحث معجزة واحدة أم معجزات عديدة، الجواب هو الثاني، من وجوه:
الأول : الخطاب التشريفي للمسلمين بصفة الإيمان.
الثاني : إقتران الخطاب التشريفي بالنهي عن فعل محرم، للدلالة على تقيد المسلمين بأحكام النهي عن الربا.
الثالث : تفقه المسلمين في الدين، وطاعتهم لله عز وجل في أحكام الحلال والحرام.
الرابع : تلاوة المسلمين لآية البحث، وما فيها من التذكير بحرمة الربا.
الخامس : دعوة المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحث على القرض، وهو من المعروف، والزجر عن الربا وهو من الحرام.
السادس : من البيان في آية البحث أن الربا منكر وحرام ، إذ تجعل الآية النفوس تنفر منه ومن آكله، فحينما قال تعالى[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( )، في خطاب ثناء على المسلمين فانه سبحانه تفضل وبين لهم مصاديق المعروف ، ومصاديق المنكر.
السابع : حث المسلمين على التنزه عن الربا وإن كان مالاً كثيراً ومتجدداً في كل أجل يعجز فيه المدين عن قضاء الدين.
الثامن : أمر المسلمين بالخشية من الله في باب العبادات والمعاملات، وليس في الربا وحده، لتكون تقوى الله حرزاً وواقية من المنكر.
وكل إجتناب لمصداق من المنكر خشية من الله مقدمة لإجتناب غيره من مصاديق المنكر، وسبيلاً للمغفرة , قال تعالى[إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ]( ).
التاسع : بشارة الفلاح والتوفيق للمسلمين باتيانهم الصالحات، وإجتنابهم السيئات.
العاشر : شمول المسلمين بالأمر والبشارة بالبقاء الدائم في النعيم على نحو العموم الإستغراقي.
الخامس : بيان خيبة الكفار بانتفاء المشقة والشدة على المسلمين، للتباين والتضاد بين التقيد بأحكام الشريعة والعنت ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
لقد تمنى الكفار وقوع المسلمين في الشدة والمشقة بأكل مال الربا، فجاءت آية البحث تنزيهاً لهم، وبرزخاً بينهم وبين الفعل الذي يكون سبباً للمشقة والعنت.
ليفيد الجمع بين الآيتين بعث السكينة في نفوس المسلمين من العنت وهو من عمومات قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، بلحاظ أن الإمتناع عن أكل الربا أمر وجودي واستحضار لذكر الله والخشية منه .
الشعبة الثانية: صلة آية (ها أنتم أولاء) وهو قوله تعالى [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ) بهذه الآية.
وفيها وجوه :
الأول : مجيء الآيتين بالخطاب التشريفي للمسلمين والمسلمات (يا أيها الذين آمنوا).
الثاني : بيان تعدد وظائف المسلمين، والعناية الإلهية بهم في السنن العبادية، وفي البيع والشراء، وسلامة أسواق المسلمين من المعاملات الربوية وما يسبب الأذى والعنت والفرقة.
الثالث : تعدد التحذير والتأديب القرآني للمسلمين، وشموله ميادين الحياة المختلفة ليسعى المسلمون في سبل الهداية والرشاد.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي( ).
الرابع : جاءت آية السياق بقوله تعالى[قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ومن مصاديق حصول هذا الغيظ عند مشركي قريش تقيد المسلمين بأحكام الحلال والحرام.
ومن الآيات في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحكام الشريعة الإسلامية أنها سبب وعلة مستديمة لإمتلاء نفوس الكفار بالغيظ والحنق، لما فيها من التكامل، ومحاربة الفساد.
الخامس : تقدير الجمع بين الآيتين على شعب:
الأولى : (ها انتم أولاء تحبونهم واتقوا الله).
الثانية : (ولا يحبونكم واتقوا الله).
وتكون تقوى الله حرزاً من الأضرار التي تترشح من حب المسلمين للكفار، وعدم حب الكفار للمسلمين.
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا إذا لقوكم قالوا آمنا).
الرابعة :وتؤمنون بالله لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة).
الخامسة : يا أيها الذين آمنوا إذا خلوا عضوا عليكم الأنامل)، ليكون الإيمان واقية من غيض وبغض الكفار.
السادسة : يا أيها الذين آمنوا إن الله عليم بذات الصدور.
السابعة : وتؤمنون بالكتاب كله لعلكم تفلحون.
السادس : تقسيم الناس على أساس الإيمان وعدمه، قال تعالى[إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ] ( ).
فجاءت آية السياق لإرشاد المسلمين للحب والبغض في الله ، قال تعالى [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
إن بغض الكفار سبب للنفرة منهم ومن سنن الضلالة ومنها الربا، فأراد الله عز وجل إجتناب المسلمين للمعاملات الباطلة، وعدم الركون للظالمين الذين يأكلون المال الحرام.
السابع : تنزه المسلمين عن أكل الربا سبب لعض الكفار أناملهم من الغيظ لرؤيتهم تقيد المسلمين بأحكام الحلال والحرام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامن : أمر الله عز وجل نبيه والمسلمين بالقول للكفار[مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ]( )، ومن مصاديقه طاعة المسلمين لله باجتناب أكل المال بالربا، وتقدير الجمع بين الآيتين:قل موتوا بغيظكم فالمسلمون لا يأكلون الربا.
التاسع: أختتمت آية السياق بإنذار الكفار وأن الله عز وجل يعلم ما يخفون من النوايا بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ].
وأختتمت آية البحث بالثناء على المسلمين وبشارتهم بنيل المراتب العالية والحياة الدائمة بقوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] .
وتعدد الموضوع فيها من عمومات قوله تعالى في ووصف القرآن [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ).
ليتضمن القرآن الذم والمدح، والإنذار والبشارة، وهو من أسباب غيظ الكفار لأنهم يتلقون أسباب الذم.
العاشر: تعدد وجوه التعليم والتأديب الإلهي للمسلمين، وتغشيه لميادين الحياة المختلفة، فيكون على وجوه:
الأول: تحذير المسلمين الله عز وجل من حب الكفار ، واتخاذهم أولياء عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعث الله يوم القيامة عبداً لا ذنب له فيقول له : بأيّ الأمرين أحب إليك أن أجزيك بعملك أم بنعمتي عليك؟
قال : رب أنت تعلم أني لم أعصك ، قال : خذوا عبدي بنعمة من نعمي فما يبقى له حسنة إلا استغرقتها تلك النعمة ، فيقول : رب بنعمتك ورحمتك ، فيقول : بنعمتي وبرحمتي ويؤتى بعبد محسن في نفسه لا يرى أن له سيئة فيقال له : هل كنت توالي أوليائي؟
قال : يا رب كنت من الناس سلماً .
قال : هل كنت تعادي أعدائي قال : يا رب لم أكن أحب أن يكون بيني وبين أحد شيء ، فيقول الله تبارك وتعالى : وعزتي لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي ويعاد أعدائي( ).
الثاني: الزجر عن الميل النفسي للكفار، ليكون هذا الزجر مقدمة للغلظة على الكفار، قال تعالى[قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً]( ).
الثالث: النهي عن أكل الربا.
الرابع: بشارة المسلمين بالبقاء الدائم في الجنة جزاء وثواباً.
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل :
الأولى: بيان التباين والتضاد بين الإيمــان وحب الكفار.
الثانية: هل يفيد الجمــع بين بدايتي الآيتين لوم المســلمين على حبــهم للكفــار.
الجواب لا، لكــبرى كلـــية نؤسســها في هذا التفســير وهي أن الله عز وجل أكرم المسلمين بالمدح والثناء، وأنه سبحانه لا يلومهم على فعلهم ولكن يحذرهم من هذا الفعل، وينذرهم من الكفار، ومن حبهم لهؤلاء الكفار من وجوه :
الأول : لا يكون الحب في المقام لعموم الكفار، بل لأفراد منهم.
الثاني : لم يأت الحب لهم بما هم كفار، بل بلحاظ صلات رحم ونحوها معهم ، وعن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم لا تجعل لفاجر عندي يداً ولا نعمة فيوده قلبي ، فإني وجدت فيما أوحيت إليّ لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
الثالث : الحب هنا هو الرغبة في دخولهم الإسلام، وفوزهم بالفلاح، وليس هو الميل النفسي والشوق الأكيد.
الرابع : التحذير الوارد في آية السياق من إكرام الله عز وجل للمسلمين، والثناء عليهم بتقريب وهو أن المسلمين أهل لتلقي التحذير والعمل بمضامينه.
الخامس: ما في الآية من الإخبار عن حال حب المسلمين للكفار، تنبيه وتحذير للمسلمين، ودفاع عنهم، وبيان أنه لا يضر في حقيقة وسنخية إيمانهم، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا]( ).
لقد جاءت آية البحث بالثناء على المسلمين بإجتنابهم الربا، وحسن سمتهم وصدق إيمانهم، أما حب الكفار فهو أمر عرضي لا يضر بإيمان المسلمين وتقيدهم بأداء الوظائف العبادية، وجاء قوله تعالى[هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ] لتثبيت أقدام المسلمين في منازل الإيمان، وندبهم لإجتناب الربا وأكله.
الثالثة : إتحاد جهة الخطاب في الآيتين بتوجهه إلى المسلمين على نحو الحصر والتعيين ، وبينهما عموم وخصوص من وجه، إذ يلتقيان في إكرام المسلمين وبعثهم على العمل في مرضاة الله، وتعاهد التقوى.
ويفترقان بأن جاءت آية السياق بالتحذير من الكفار وحسدهم للمسلمين.
وجاءت آية البحث بالزجر والأمر والبشارة، مع التداخل بينها، الزجر عن الربا، والأمر بتقوى الله والبشارة بالفلاح والبقاء، وهذا التعدد من فضل الله، وإصلاح المسلمين لمنزلة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابعة: تأكيد بيان موضوعية حب المسلمين لغيرهم في أمور الدين والدنيا فخطاب الله عز وجل المسلمين في آية البحث(يا أيها الذين آمنوا) ثناء عليهم وبيان لأثر حبهم وبغضهم عليهم وعلى الناس.
الخامسة: هل من تعارض بين الإيمان، وحب هؤلاء الكفار.
الجواب فيه تفصيل فالمدار على ماهية هذا الحب وغاياته فإذا كان بقصد جذبهم للإيمان، وعدم تضييعهم نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من أسباب الفلاح، فليس من تعارض.
وتقدير الجمع بين بدايتي الآيتين: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله ها أنتم أولاء تحبون إيمانهم، ولا يحبونكم لإيمانكم).
وكأن في الآية بعثاً لليأس في قلوب المسلمين من الذين يصرون على الإقامة على الكفر والجحود ، قال تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ]( )، وفي الآية دعوة للمسلمين لعدم الإنشغال بهم ووجوب إلتفات المسلمين إلى وظائفهم العبادية، والتوقي مما نهاهم عنه، ومنه أكل الربا قال تعالى[إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ]( ).
وهل يضر المسلمين بإيمانهم حبهم للكفار، الجواب لا، ولا يخلو من أذى لأن آية البحث تضمنت الشهادة من الله عز وجل لهم بالإيمان وهو الإعتقاد الجازم بالتوحيد ، والعبودية المطلقة لله ، ولا يضر معه الحب والميل خصوصاً وأنه في طول الإيمان لأن الغاية منه دخول الناس في الإسلام، وإدراكهم لوجوبه، بالإضافة إلى حقيقة وهي أن التحذير الوارد في الآية الكريمة بجعل حب المسلمين للكفار أمراً متزلزلاً غير ثابت ويمنع من زيادته وصيرورته جزء من حياة المسلمين ، قال تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وتلك آية في إعجاز القرآن الغيري بأن يأتي التحذير للمسلمين من فعل فيجعلون له موضوعية في حياتهم إلى يوم القيامة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ]( ).
وهل يتضمن الجمع بين الآيتين في مفهومه نهي المسلمين عن حب الكفار ، الجواب نعم، لأن الإيمان تبدل نوعي، وإرتقاء في سلم المعارف، وباب للإنقطاع إلى حب الله ورسوله وتعاهد الواجبات العبادية.
وفي الآية تحذير للمسلمين من ولاية الكفار , قال تعالى[لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ] ( ).
السادسة : أخبرت آية السياق بأن الكفار لا يحبون المسلمين مما يدل على تغيير نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم المبنى الذي يكون عليه الحب والبغض وأن الكفار أخذوا يبغضون الذي يدخل الإسلام وإن كان أخاهم ويقومون بتهديده ، ويتولى المنافقون حضّه على القعود عن الدفاع ، لبيان التعاون العرضي بين الكفار والمنافقين [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( )، فجاء قوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا) ليكون على وجوه :
الأول : مواساة المسلمين على بغض الكفار لهم.
الثاني : الرضا والغنى بإكرام الله للمسلمين، وتشريفهم بالخطاب بصفة الإيمان.
الثالث : رجاء الفلاح والفوز بالإيمان لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى(لعلكم تفلحون).
الرابع : دعوة المسلمين للصبر على عدم حب الكفار لهم، قال تعالى[وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
وبخصوص آية البحث لا تنحصر وظيفة العقل بالتقيد بالنهي عن الربا، فتكون على وجوه :
الأول : إستقراء أضرار الربا القريبة والبعيدة.
الثاني : معرفة منافع إجتناب الربا.
الثالث : إدراك حقيقة وهي أن مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنهي عن الربا شاهد على صدق نبوته من وجوه:
الأول : كل آية قرآنية معجزة تخاطب العقول، ودليل بالذات على نزولها من عند الله سبحانه.
الثاني : ثناء القرآن على المسلمين وأنهم أهل التفكر والتدبر، قال تعالى[فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا]( )، ومن التقوى إجتناب الربا والإنزجار عنه طاعة لله عز وجل.
الثالث : مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات الحسية التي تؤكد صدق نبوته.
فان قلت تلك الآيات تدركها الحواس من السمع والبصر ونحوها، أما القوة العاقلة فإنها تميز بين المدركات، والجواب إن الحسيات من المدركات التي يدركها العقل بالواسطة .
والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة، المقرون بالتحدي، السالم عن المعارضة.
والمعجزات التي جاء بها الأنبياء على قسمين:
الأول : المعجزة الحسية ، مثل سفينة نوح ، وناقة صالح ، قال تعالى [وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( )، ولم يرد في التأريخ تسمية لناقة بأنها ناقة الله ، وتنسب إليه سبحانه إلى ناقة النبي صالح عليه السلام لبيان أنها معجزة ، ومن المعجزات الحسية عصا موسى ومنها معجزات عيسى عليه السلام وفي التنزيل حكاية عنه [وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ]( )، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية انشقاق القمر إذ سأله أهل مكة أن يريهم آية ، ومنها تسليم الحج ، وحنين الجذع ، وبركة عصاه ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وعن أبي هريرة كان يقول (وَاللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِى عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ وَإِنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِى مِنَ الْجُوعِ وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِى يَخْرُجُونَ مِنْهُ فَمَرَّ بِى أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيَسْتَتْبِعَنِى فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ ثُمَّ مَرَّ بِى عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيَسْتَتْبِعَنِى فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ .
ثُمَّ مَرَّ بِى أَبُو الْقَاسِمِ -صلى الله عليه وسلم ، فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِى وَعَرَفَ مَا فِى نَفْسِى وَمَا فِى وَجْهِى ثُمَّ قَالَ : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : الْحَقْ ، وَمَضَى وَاتَّبَعْتُهُ فَدَخَلَ وَاسْتَأْذَنْتُ فَأَذِنَ لِى فَدَخَلْتُ فَوَجَدْتُ لَبَنًا فِى قَدَحٍ فَقَالَ : مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ.
قَالُوا : أَهْدَاهُ لَكَ فُلاَنٌ أَوْ فُلاَنَةُ
قَالَ : أَبَا هُرَيْرَةَ ، فَقُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : الْحِقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِى ، قَالَ : وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلاَمِ لاَ يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا فَسَاءَنِى ذَلِكَ قُلْتُ : وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِى أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا وَأَنَا الرَّسُولُ .
فَإِذَا جَاءُوا أَمَرَنِى أَنْ أُعْطِيَهُمْ وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِى مِنْ هَذَا اللَّبَنِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ بُدٌّ فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا حَتَّى اسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ فَقَالَ : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ، قُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ : خُذْ فَأَعْطِهِمْ ، فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحِ فَأُعْطِيهِ الآخَرَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَقَدْ رَوِىَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ وَنَظَرَ إِلَىَّ وَتَبَسَّمَ .
وَقَالَ : أَبَا هُرَيْرَةَ قُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ ، قُلْتُ : صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : اقْعُدْ فَاشْرَبْ، فَقَعَدْتُ وَشَرِبْتُ فَقَالَ : اشْرَبْ ، فَشَرِبْتُ فَقَالَ : اشْرَبْ ، فَشَرِبْتُ فَمَا زَالَ يَقُولُ : اشْرَبْ ، فَأَشْرَبُ حَتَّى قُلْتُ : لاَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا قَالَ : فَادْنُ ، فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ ( ).
الثاني : المعجزة العقلية وكل آية من القرآن معجزة عقلية من جهات :
الأولى : ألفاظ وكلمات وبلاغة الآية القرآنية .
الثانية : المضامين القدسية للآية .
الثالثة : دلالة الآية القرآنية ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الرابعة : الصلة بين أول وآخر الآية القرآنية .
الخامسة : الصلة بين الآية القرآنية والآيات المجاورة ، وعموم آيات القرآن ، ومنها :
الأول : الجزء الرابع والثمانون ويختص بالصلة بين الآية (110) بالآيات (101-109) من سورة آل عمران
الثاني : الجزء الخامس والثمانون ويختص بالصلة بين الآية (110) والآيات (94-102) من سورة آل عمران .
الثالث : الجزء السادس والثمانون ويختص بالصلة بين الآية (110) والآيات (85-93) من سورة آل عمران .
الرابع : الجزء السابع والثمانون ويختص بالصلة بين الآية (110) والآيات (78-84) من سورة آل عمران .
الخامس : الجزء الثامن والثمانون ويختص بالصلة بين الآية (110) والآيات (70-77) من سورة آل عمران .
السادس : الجزء الثالث والتسعون صلة الآية (110) بالآيات (64-69) من سورة آل عمران .
السابع : الجزء العشرون بعد المائة ويختص بالصلة بين الآية (152) بالآية التي قبلها من سورة آل عمران .
الثامن : الجزء الثاني والعشرون بعد المائة ويختص بالصلة بين شطر من الآية (153) وشطر من الآية (151)
التاسع : الجزء الخامس والعشرون بعد المائة والذي يختص بالصلة بين شطر من الآية (154) وشطر من الآية (153) .
العاشر : الجزء الرابع والأربعون بعد المائة ويختص بالصلة بين شطر من الآية ( 161 ) بشطر من الآية( 164 ) من سورة آل عمران .
الحادي عشر : الجزء السادس والثمانون بعد المائة ويختص بالصلة بين الآيتين المتجاورتين (180) والآية (181) من سورة آل عمران.
صلة(ها أنتم أولاء تحبونهم) بهذه الآية
وفيها مسائل :
الأولى : جاءت آية البحث بالنهي عن أكل مال الربا، وهذا النهي عام شامل للمسلمين، ولمن أخذ مال الربا والذي أكل منه سواء كان من عيال صاحب الربا أو غيرهم، وفيه آية إعجازية في كيفية وصيغة الأوامر والنواهي الإلهية.
فمجيء الآية بصيغة الإطلاق بخصوص أكل الربا دعوة للمسلمين جميعاً كباراً وصغاراً، وأغنياء وفقراء للتعاون في إجتناب الربا وهو من عمومات قوله تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
ومن الإعجاز في المقام المجيء بمصداق واحد للأمر والنهي الواردين في هذه الآية أعلاه، من وجوه:
الأول: التعاون والمناجاة لإجتناب الربا، وتوكيد حرمته من البر والإحسان للذات والغير وهو من الأمر بالمعروف.
الثاني: من مصاديق التقوى والخشية من الله التنزه عن الربا، والتعاون في الإبتعاد عنه.
الثالث: أكل الربا من الإثم ، لذا جاء النهي عنه.
الرابع: أخذ الفائدة الربوية من العدوان الذي تمنع الآية أعلاه وآية البحث منه.
الثانية: بيان حقيقة وهي أن كره وبغض مشركي قريش للمسلمين لم ولن يضرهم في أمور الدين والدنيا قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، وفي الخطاب التشريفي (يا أيها الذين آمنوا) وجوه:
الأول: إنه سلاح وبرزخ دون الركون للكفار والظالمين، قال تعالى[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ).
الثاني: إنه واقية من كيد ومكر الكفار.
الثالث: الإيمان حرز من الإفتتان بالكفار.
الرابع: من مصاديق الإيمان أداء الفرائض والعبادات، وفيه إعراض إنطباقي عن الكفار.
الخامس: يبعث إيمان المسلمين الفزع والخوف في قلوب الكفار.
لم تقل آية البحث (يا أيها الذين تؤمنون)، بل جاءت بصيغة الماضي (آمنوا) التي تفيد الثبوت والتقرير والإمضاء، والشهادة من الله عز وجل بأن المسلمين نالوا مرتبة الإيمان به، وبنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل عليه، قال سبحانه في تأديب المسلمين والثناء عليهم[قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا]( ).
ليكون معنى(ولا يحبونكم) إمتلاء نفوس الكفار بالبغض والحسد للمسلمين، وفيه وجوه:
الأول: المسلمون باقون على الإيمان.
الثاني: من أفراد هذا البقاء تنزههم عن أكل الربا طاعة لله سبحانه .
الثالث: بقاء المسلمين على الإيمان من مصاديق الفلاح الذي أختتمت به هذه الآية(لعلكم تفلحون).
فيكون من إعجاز الآية أنها تتضمن البشارة والمصداق من البقاء والثواب العظيم الذي ورد بصيغة الرجاء (لعل) وتكون ذات آية البحث شاهداً على حسد الكفار لقرب المسلمين من الفلاح ويتجلى هذا القرب من وجوه:
الأول: الإكرام بالخطاب بصيغة الإيمان.
الثاني: نهي المسلمين عن الربا، وما فيه الضرر والإفتتان والظلم.
الثالث: بلوغ المسلمين منازل السعة والغنى والقدرة على الإقراض الذي تدل عليه الآية في مفهومها وما فيها من النهي عن طلب الفائدة الربوية ولزوم تركه.
الرابع: إتصاف المسلمين بالتقوى، وظهور الخشية من الله على أفعالهم وأقوالهم، وتتجلى مصاديق هذه الخشية في آيات القرآن أي أن تقوى المسلمين أمارة وإقرار منهم بأن القرآن كلام الله وتعاهدهم لآياته بالعمل بما فيها من الأوامر، وإجتناب ما تنهى عنه ، قال تعالى[وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ]( ).
وصحيح أن الآية أعلاه جاءت بصيغة اللوم لفريق من الملل السابقة إلا أنها تدل على حاجة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيام أتباعه المسلمين بتقوى الله.
ليكون العمل بمضامين آية البحث من التقوى، والشواهد على أن المسلمين لم يشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً كان أو كثيراً، وأنهم متقيدون بسنن التقوى، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، ومن خروجهم هذا أدائهم للوظائف العبادية التي تخلفت عنها الأمم السابقة من الموحدين، وتنزههم عن الربا والزيادة على القرض، لأن الله عز وجل حرّمه، ونهى عنه.
الثالثة: موضوع عدم أكل الربا الذي جاءت به آية البحث من المصاديق الخارجية لقوله تعالى[هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ) للتضاد بين فعل المسلمين والكفار في المقام.
فالمسلمون يجتنبون الربا إعطاء وأخذاً، ولا يأكلون المال الذي يأتي منه، أما مشركو قريش فيعدونه نوع تجارة ومكسب، وورد في التنزيل حكاية عنهم[الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
وهل يحب المسلمون كفار قريش لأنهم يتعاطون الربا الجواب لا، ولكن يريدون لهم التنزه منه، ويحبون لهم دخول الإسلام ومشاركتهم بالنعم التي تأتي مع الإسلام، ومنها الرزق الحلال.
أما الكفار فإنهم لا يحبون المسلمين لأنهم صاوا حجة عليهم في لزوم ترك المنافع الربوية، والكف عن أكل المال بالربا والربح الزائد.و(عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب الناس فقال : أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات رجب مضر حرام ، إلا وإن النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا .
وأخرج أحمد والباوردي وابن مردويه عن أبي حمزة الرقاشي عن عمه – وكانت له صحبة – قال : كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوسط أيام التشريق أذود الناس عنه فقال : يا أيها الناس ، هل تدرون في أي شهر أنتم ، وفي أي يوم أنتم ، وفي أي بلد أنتم؟
قالوا : في يوم حرام ، وشهر حرام ، وبلد حرام .
قال : فإن دماءكم وأموالكم واعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه ، ثم قال : اسمعوا مني تعيشوا ، ألا لا تتظالموا ألا لا تتظالموا ، إنه لا يحل مال امرىء إلا بطيب نفس منه ، ألا أن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة ، وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني ليث فقتله هذيل ، ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوع ، وإن الله قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب ، [فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]( ).
ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، ألا و[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]( ).
ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، إلا إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكنه في التحريش بينهم ، واتقوا الله في النساء فانهن عوان عندكم لا يملكن لأنفسهن شيئاً ، وإن لهن عليكم حقاً ولكم عليهن حقاً أن لا يوطئن فرشكم أحداً غيركم ، ولا يأذن في بيوتكم لأحد تكرهونه .
[وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ]( )، ضرباً غير مبرح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وبسط يديه .
وقال : اللهمَّ قد بلغت ألا هل بلغت ، ثم قال : ليبلغ الشاهد الغائب فإنه رُبَّ مبلغ أسعد من سامع) ( ).
وفي قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] وجوه:
الأول: إنه بشارة خاصة للمسلمين.
الثاني: بعث المسلمين للإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية.
الثالث: إستحضار عالم الأفعال والإمتثال العملي عند تلاوة الآيات.
الرابع: إنه شاهد على النفع العظيم الذي يناله المسلمون من الإمتثال للأوامر الإلهية، ومنها الإمتناع عن الربا وأكله بالباطل.
ويؤكد قوله تعالى[وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ] على أمور:
الأول: التحذير مما يضمره كفار قريش ومن ولاهم من الحسد والغيظ، قال تعالى[أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]( )، بلحاظ أن النهي عن الربا والسعي لبلوغ مراتب الفلاح فضل من الله وخير محض.
الثاني: عدم رضا الكفار لما يرون من حسن سمت المسلمين.
الثالث: التحول النوعي السريع في المجتمعات وصيغ المعاملة.
الرابع: دخول شريعة الإسلام الأسواق وتمييزها بين المعاملات بلحاظ الحلال والحرام.
لتكون معاملة شائعة وهي : القرض بالربا حرام، ومنهي عنه وفق آيات من السماء نازلة بشأنه منها آية البحث وما فيها من الزجر عن أكل الربا وما يترتب على معاملته من الربح الزائد.
صلة (وتؤمنون بالكتاب كله) ( ) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إتحاد جهة الخطاب في الآيتين بتوجهه إلى المسلمين على نحو التعيين، وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: يا أيها الذين آمنوا تؤمنون بالكتاب كله.
الثاني: تؤمنون بالكتاب كله لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة.
الثالث: تؤمنون بالكتاب كله واتقوا الله.
الرابع: تؤمنون بالكتاب كله لعلكم تفلحون.
الثانية: إبتدأت آية البحث بخطاب المسلمين بلغة الإيمان[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لإرادة إيمان المسلمين بالله رباً ومحمد نبياً والقرآن كتاباً.
وذكرت آية السياق إيمان المسلمين بالكتاب كله، لتكون لها الحكومة وفق الإصطلاح الأصولي والذي يعني التوسعة في باب الإيمان بالكتاب وان تصديقهم بالكتاب يكون على وجوه:
الأول: التصديق بجميع آيات القرآن التي أنزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي المحصورة بين الدفتين وتبدأ بسورة الفاتحة وتنتهي بسورة الناس.
الثاني: التصديق بنزول التوراة على موسى عليه السلام.
الثالث: التصديق بنزول الإنجيل على عيسى عليه السلام.
الرابع: الإيمان بما أنزل الله على الأنبياء السابقين إبتداء من آدم عليه السلام[آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ] ( ).
وليس من أمة من أهل الأرض تؤمن بالتنزيل على نحو الإطلاق إلا المسلمين، لذا أنعم الله عز وجل عليهم بمنزلة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ليكون هذا الإيمان المطلق على وجوه:
الأول: إنه من عمومات الخروج للناس.
الثاني: إفادة الخروج معنى الحجة والأسوة.
الثالث: إنه دعوة للإقتداء بالمسلمين في هذا الإيمان.
قانون حرمة الربا في التنزيل
ويحتمل حكم الربا في الكتب السماوية السابقة والتي يؤمن بها المسلمون أيضاً وجوهاً:
الأول: الحرمة والنهي عنه.
الثاني: الحلية والجواز، وأن حرمته في القرآن ناسخة لتلك الحلية.
الثالث: عدم ذكر الكتب السماوية السابقة لموضوع الربا، وكأنه من المباحات.
والصحيح هو الأول، وتلك آية في وحدة الحكم في الكتب السماوية لتكون من وظائف القرآن أمور:
الأول: التصديق بالكتب السماوية السابقة، قال تعالى في خطاب لبني إسرائيل بلزوم التصديق بالقرآن وشهادته على صدق نزول التوراة أيضاً[وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ] ( ).
الثاني: توكيد نزول التوراة والإنجيل.
الثالث:فضح التحريف الذي طرأ على الكتب السماوية السابقة، ومن إعجاز القرآن الغيري أن هذا الفضح مستمر إلى يوم القيامة من جهات:
الأولى: بقاء القرآن وآياته إلى يوم القيامة.
الثانية: تلاوة المسلمين اليومية للقرآن وعلى نحو الوجوب في الصلاة، والإستحباب في موارد عديدة، فآية البحث وما فيها من النهي عن الربا لم تبق في ثنايا كتب التفسير والفقه والأصول والكلام والأخلاق، بل يتلوها المسلمون والمسلمات في مشارق ومغارب الأرض، وفيه برزخ دون التحريف في آيات القرآن.
الثاني: تفقه المسلمين، وإرتقاؤهم في سلم المعارف الإلهية.
الثالث: إنه إخبار متجدد عما طرأ على الكتب السماوية السابقة.
الثالثة: سلامة القرآن من التحريف، رسماً وتلاوة وتأويلاً، وهو من خصائص القرآن، وأسباب بلوغ المسلمين مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) بتعاهدهم للقرآن وأحكامه وإلى يوم القيامة ، قال تعالى [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] ( ).
وتتصاعد في هذا الزمان أصوات من خارج الإسلام تدعو لحذف آيات قليلة من القرآن والتي تتعلق بالقتال، والمراد منه ما هو أعم من صيغ التحريف وتكون هذه الدعوة بكيفيات وأسباب مختلفة وذرائع وحجج واهية، وهي ذات الأصوات التي قامت بتحريف الكتب السماوية السابقة، ولا أثر لها بخصوص آيات القرآن فهي باقية في حرز ومأمن من التحريف والحذف والتبديل إلى يوم القيامة، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
إنما وردت آيات القتال بصيغة الدفاع ، وليس الغزو والهجوم ، كما في قوله تعالى وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَوقال تعالى [لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ( ).
الرابع: دعوة أهل الكتاب إلى أمور:
الأول: العمل بمضامين التوراة والإنجيل مما يوافق أحكام القرآن.
الثاني: تعضيد المسلمين في الأسواق وإشاعة أحكام الحلال والحرام.
الثالث: إجتناب المعاملات المحرمة كالربا والزيادة الربوية.
الرابع: التدبر في المضامين القدسية لآيات القرآن، والبراهين التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الصلة بين الإيمان والتقوى في آية البحث
تحتمل الصلة بين قوله تعالى[وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ]( )، في آية السياق، و[اتَّقُوا اللَّهَ] في آية البحث وجوهاً:
الأول: الإيمان بالكتاب كله من تقوى الله.
الثاني: ذات الإيمان بالكتاب تقوى وخشية من الله.
الثالث:الإيمان بالكتاب مقدمة للتقوى لذا جاءت آية البحث بصيغة الأمر(اتقوا الله).
الرابع: تقوى الله مقدمة ونوع طريق للتصديق والإيمان بالكتاب كله، والزيادة في الهدى ، قال تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الخامس: بين التقوى والإيمان بالكتاب عموم وخصوص من وجه، لأنهما يلتقيان في مادة، ويفترقان في مادة أخرى.
السادس: النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، وأن الإيمان بالكتاب كله من التقوى.
وعن عبد الله بن عمرو في صفة رسول الله في التوراة قال (إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِصِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ وَأَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ لَسْتَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ بِالْأَسْوَاقِ قَالَ يُونُسُ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ وَلَنْ يَقْبِضَهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا)( ).
السابع: التقوى علة للإيمان بالكتاب ووسيلة لتثبيت هذا الإيمان.
وباستثناء الوجه الخامس فان الوجوه أعلاه كلها من مصاديق الآية الكريمة.
وكل من الآيتين شهادة للمسلمين بتعاهد الأخرى منها، وفيه آية في إكرام المسلمين.
صلة [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا] بهذه الآية
وفيها مسائل :
الأولى : يتجلى في الجمع بين الآيتين فضل الله عز وجل على المسلمين وكيف أن الله عز وجل يحذرهم ويبين لهم التباين بين ظاهر الكفار وما يخفونه من الحنق والبغض للمسلمين وعلة هذا البغض وهي ذات وموضوع الإيمان .
الثانية : يدل الجمع بين الآيتين على أن إيمان المسلمين حقيقة ثابتة يعرفها أهل الأرض، وأنهم أصبحوا بمرتبة العز والمنعة بحيث يتظاهر الناس بحضرتهم أنهم مؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل هؤلاء الذين يدّعون الإيمان كذباً هم المنافقون الذين ذكروا في مواضع وموضوعات عديدة في القرآن، قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ] ( ).
الجواب نعم ومعهم بعض الكفار ، وان إلتقوا معهم في محاولة الخداع فالمنافقون أعلنوا الشهادتين، وأظهروا الإسلام، ويشملهم الخطاب التكليفي المتوجه للمسلمين بالإمتناع عن أكل الربا، والخطاب بأداء الوظائف العبادية كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، وإذا لاقى الكفار المنافقين هل يكون قولهم لهم مثل ما يدّعون أمام المسلمين [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ].
الجواب جاءت الآيات بالوعيد للمنافقين والكفار بالعذاب الأليم، والإخبار عن كذب المنافقين، قال تعالى [وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ]( )، ولكنه لا يمنع من تظاهر الكفار أمام المنافقين بالإيمان، وعضهم أيديهم عليهم من الغيظ لأن المنافقين نطقوا بالشهادتين، وأظهروا الإسلام وهو أمر يغيظ الكفار الذين يريدون من الناس الإعراض التام عن النبوة والتنزيل، ولكن المنافقين يؤاخذون لقبح فعلهم وإخفائهم الكفر والعناد قال تعالى [وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ]( ) وجاءت الآيات بالإنذار والوعيد للمنافقين.
لتدل الآية أعلاه على التباين بين أهل الإيمان وأهل النفاق.
علة بغض مشركي قريش للمؤمنين
مع أمر ونهي الله عز وجل للمسلمين في باب المعاملات، ومنه نهيهم عن أكل مال الربا والزيادة الربوية يأتي التحذير والإنذار من الكفار، ولزوم عدم الإطمئنان لإدعائهم الإيمان بحضرة المسلمين فعند الخلوة يظهرون البغض والكره للمسلمين، ومن أسباب هذا البغض أمور:
الأول : تلاوة المسلمين لآية البحث وما فيها من حرمة الربا.
الثاني : تقيد المسلمين مجتمعين ومتفرقين بأحكام هذه الحرمة.
الثالث : تنزه المسلمين عن أكل مال الربا.
وفيه آية من الفضل الإلهي على المسلمين بأن يقترن النهي عن الفعل المذموم شرعاً بالتحذير من الكفار وأهل الخداع.
ومن منافعه في المقام أن الشك والريب لايتسرب إلى نفوس المسلمين عندما يزاول الذي يدّعي الإيمان الربا بحضرتهم، ولا يمتنع عنه، لأن إدعاءه لا أصل له.
وهل يفيد الجمع بين الآيتين أن الكفار غير مكلفين بالفروع كتكليفهم بالأصول ، الجواب لا ، لأن الجمع في المقام نوع بيان وفضح للكفار، وحجة عليهم ، وقد جاءت خطابات إقامة الفرائض في القرآن مطلقة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، وقال تعالى في لوم وتوبيخ أهل النار [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ]( )، وسيأتي مزيد بيان في قانون (تكليف الكفار بالفروع) ( ).
ومن اسباب بغض الكفار للمؤمنين إظهار المسلمين إيمانهم بالله وتصديقهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشهادتين وأداء الفرائض والعبادات، والإمتناع عن أكل الربا.
ولم يعلموا أن هذا الإظهار بأمر من عند الله عز وجل قال سبحانه [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، ومن أسباب بغض الكفار للمسلمين تلاوتهم لآيات القرآن في الصلاة وخارجها والتي تتضمن ذم الآوثان وعبادتها والوعيد على الإنقياد لها ، خاصة وأن السور المكية نزلت بالوعد والوعيد .
لتكون سيرتهم في الأسواق ملحقة بسنتهم في المساجد والبيوت لوحدة الموضوع في تنقيح المناط وتغشي أحكام الإسلام لميادين الحياة المختلفة، وهو أمر يغيض الكفار، ويجعل نفوسهم تمتلئ حسداً.
فجاءت الآية للتحذير منهم، وفيه وجوه:
الأول : فيه نفع المسلمين في مختلف الميادين ولا يختص بواحد دون غيره.
الثاني : جعل المسلمين مواظبين على العبادات.
الثالث : حرص المسلمين على التقيد بأحكام الحلال والحرام.
الرابع : سلامة المسلمين من شرور الكيد والخداع قال تعالى[وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ]( ).
وفي التنزيل ورد حكاية عن طائفة من الناس [وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ]( ).
مسائل في الجمع بين الآيتين
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا إذا لقوكم قالوا آمنا).
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ.
الثالث : لا تأكلوا الربا وإذا لقوكم قالوا آمنا.
الرابع : لا تأكلوا الربا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ.
الخامس : وإذا لقوكم قالوا آمنا واتقوا الله.
السادس : وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل واتقوا الله.
السابع : إذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل لعلكم تفلحون.
الثانية : يفيد الجمع بين الآيتين أن تحلي المسلمين بمصاديق التقوى حجة على الكفار الذين يقومون بالتظاهر بالإيمان وفيه أمور:
الأول : إنه شاهد على عجز الكفار عن الجدال والإحتجاج والنقض لمعاني التقوى.
الثاني : دعوة المسلمين لتعاهد التقوى والتجاهر بالخشية من الله، من غير خوف من الكفار، لدلالة إعلانهم الإيمان على عجز الكفار، قال تعالى[الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي] ( ).
الثالث : تفقه المسلمين في الدين، ومعرفتهم لأحوال الأمم.
الرابع : حث الناس على دخول الإسلام، والتحلي بآداب التقوى التي هي رشحة من رشحات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ونزول القرآن.
الثالثة : مما يعض الكفار على أناملهم بسبب إظهار المسلمين أمرين:
الأول : الإمتناع عن أكل مال الربا ومنافع القرض.
الثاني : التقوى والخشية من الله.
وهما مجتمعين ومتفرقين دليل على رسوخ الإيمان في قلوب المسلمين، وصيرورة معالمه وأحكامه معروفة عند الناس، قريبة منهم، تلح عليهم بوجوب دخول الإسلام والتنزه عن الرذائل والقبائح التي جاء القرآن بتحريمها نصاً وصراحة.
ويدل الجمع بين الآيتين على حاجة المسلمين للصبر، ويفيد عض الكفار الأنامل وجوهاً:
الأول : الإشارة إلى حال الأذى الذي يلحق الكفار من تقيد المسلمين بأحكام الإمتناع عن أكل الربا.
الثاني : جلب الكفار الأذى والضرر لأنفسهم من وجوه :
أولاً : قيامهم بعض الأنامل، وهو ذاته أذى، وإشارة وعنوان لضرر لاحق.
ثانياً : إمتلاء نفوسهم بالغيظ، وظهوره على أفعالهم.
ثالثاً : دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عليهم لقوله تعالى[قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ( ).
رابعاً : إنقطاع فترة محاربة الكفار للمسلمين لتقواهم، وإنشغال الكفار بالحسرة والغيظ، وهو من عمومات قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الثالث : دعوة المسلمين لتعاهد أحكام الشريعة، وإجتناب أكل الربا، لأن هذا الإجتناب حرب على الكفر، وبعث للعجز في صفوف الكفار.
الرابع : إحتراز المسلمين من الكفار، وعدم الإفتتان بهم وبما عندهم من الأموال وما لهم من الجاه ، والتمييز بين الذين [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ]( )، والذي يدّعون الإيمان زوراً وبهتاناً .
وجاءت آيات القرآن ضياء ينير دروب المسلمين ويساعدهم في معرفة سنخية الناس.
الرابعة : جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار التوبة والإنابة، وجعل أسباب التوبة قريبة من الناس، ومنها حسن سمت المسلمين، وبلوغهم مراتب الفلاح، مما يكون سبباً لترغيب الناس بدخول الإسلام ومنهم الذين يحاربون المسلمين والذين يعضون أصابعهم حسداً وبغضاً للمسلمين، فليس من برزخ بينهم وبين التوبة.
ومن ومصاديق الترغيب بالإسلام بلوغ المسلمين مراتب الفلاح والبقاء، قال تعالى[وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ]( ).
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين أوان بدايات الدعوة الإسلامية بإنتصارات حاسمة في ميادين القتال مع التباين بين قوة العدو وضعف المسلمين وهو من الفلاح وأسباب دعوة الناس للإسلام والنهل من النعم والكنوز التي فتحها الله عز وجل للمسلمين.
(قل موتوا بغيظكم) ( )، سلم
في هذه الآية تقريع وتبكيت للكفار والمنافقين ، كما يحمل على الدعاء بأن يغادروا الدنيا بذات الحنق والكبت ، إذ أنهم كانوا يريدون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فيغادرون هم الدنيا ، وشريعة محمد باقية إلى يوم القيامة مقرونة بالعز للمؤمنين ،ويصاحب الغيظ الذين كفروا في المحشر ، وتمام الآية هو [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ).
ومن الآيات عدم قول المفسرين بنسخ هذه الآية ، مع أنهما من آيات السلم لما فيها من الإكتفاء بالقول والتبكيت والدعاء .
وفيها مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا قولوا للكفار موتوا بغيظكم.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا قل موتوا بغيظكم.
الثالث : وأتقوا الله قولوا موتوا بغيظكم.
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لعلكم تفلحون وقولوا موتوا بغيظكم.
إذ يمكن قراءة الآية بتقدير توجه الخطاب(قل) إلى المسلمين، والتقدير: قولوا موتوا بغيطكم.
المسألة الثانية: مع المسؤوليات العظيمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الله، وتبليغ وتلاوة آيات القرآن، وإرشاد المسلمين إلى العبادات والفرائض والحفاظ على بيضة الإسلام، والجهاد في سبيل الله، فإنه يتوجه إلى الكفار بالإنذار والوعيد والخطاب الإحتجاجي الذي يحمل التحدي[قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ].
لبيان حقيقة أن الإسلام يعلو ويرتقي، والمسلمون يظهرون أسمى معاني الإمتثال للأوامر الإلهية، والكفار في حال إنحسار وحسرة وعجز عن المواجهة.
ترى لماذا لم يقل لهم النبي (أسلموا) .
والجواب إن كل قول وفعل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة لهم وللناس جميعاً لدخول الإسلام.
وليس من تعارض بين الدعوة إلى الإسلام وقوله تعالى[قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ]( ) لوجوه :
الأول : الغيظ في المقام مقترن بالإصرار على الكفر والجحود.
الثاني : ذم الكفار دعوة للتنزه عن الكفر، والعداء للمسلمين.
الثالث : فيه زجر للكفار عن التعدي على المسلمين ودعوة للتدبر في معجزات النبي، وأنه يخبر عن الله عز وجل الذي يعلم ما في قلوب الكفار.
الرابع : حث الكفار للتدارك والتوبة قبل أن يدركهم الموت وهم على الكفر والضلالة .
ومن صيغ الدعوة إلى الإسلام قوله تعالى نداء التشريف [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]، وهو حث للناس جميعاً على الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تترى جلية.
المسألة الثالثة : لقد جعل الله نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس، وسبيلاً لهدايتهم، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وقد يقول قائل إذن لماذا يقول النبي لفريق من الناس(موتوا بغيظكم) وفيه وجوه :
الأول : إنه رحمة بالذين يتوجه لهم الذم والتبكيت لما فيه من توكيد لقبح الكفر.
الثاني : فيه دعوة لحث الكفار على هجران الكفر لأن فيه موتاً بالغيظ والحنق.
الثالث : حث الناس على عدم إتباع الكفار الذين لا يجلبون لأنفسهم من محاربة الإسلام إلا الموت بالغضب والحنق والعجز.
الرابع : التخفيف عن المسلمين بقهر عدوهم، وجعلهم في حال قنوط ووهن وجاء خطاب الثناء للمسلمين بصيغة الجمع الإستغراقي، وبلوغهم مرتبة الإيمان (يا أيها الذين آمنوا).
وجاء الذم والتوبيخ للكفار بذات الصيغة والعموم [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ]( ).
لبيان التباين والتضاد بين أهل الإيمان وأهل الكفر، وأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالناس بإظهار هذا التباين وجعله سبباً لإكرام المسلمين وما يدل عليه هذا الإكرام من البشارة بالثواب، ومناسبة لذم الكفار، والتذكير بما ينتظرهم من العذاب الأليم في الآخرة، قال تعالى[وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
استحواذ الحسرة على الكفار
لقد بعث الله النبي محمداً رحمة بالناس ، ومن أجل إصلاحهم ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ولكن الكفار ظلموا أنفسهم بالإقامة على الجحود وإنكار التنزيل , وفيه وجوه :
الأول : دخول الناس في الإسلام، ووجود أمة مسلمة تتبع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وتؤمن برسالته.
الثاني : توجه الخطاب الإلهي للمسلمين بلغة الإكرام والتشريف(يا أيها الذين آمنوا).
الثالث : تلقي المسلمين للأوامر والنواهي الإلهية، وتقيدهم بمضامينها برضا وغبطة.
الرابع : إمتناع المسلمين عن الحرام طاعة لله عز وجل.
الخامس : تعفف المسلمين عن الأضعاف المضاعفة التي تأتي من الربا، لأن الله حرّم الربا والمنفعة الربح القليل والكثير الذي يجره منه , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ولو توكل محام على حال ربوي لإسترداده هو وأرباحه الربوية ، فهل يصح ، الجواب تتعلق الصحة بأصل المال دون الزيادة الربوية ، والعلم عند الله.
السادس : إتخاذ المسلمين التقوى رداءّ ومنهجاً وما يترشح عنها من أسباب النفع العاجلة والآجلة.
فإن قلت إذا كان الكفار يدركون في الجملة منافع التقوى فلماذا يصرون على الكفر، والجواب إنه العناد والإستكبار، والإقامة على المعاصي، والصدود عن الدعوة إلى التقوى التي تتوجه لهم، قال تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ]( ).
السابع : سعي المسلمين في مسالك الهداية والإيمان، وما يؤدي إليه من الفلاح والبقاء وأسباب التوفيق في الدنيا والآخرة.
الثامن : إزدياد أموال المسلمين، وعملهم بها وفق القواعد الشرعية، وفيه مسائل :
الأولى : بيان تقيد المسلمين بالأوامر والنواهي الإلهية.
الثانية : إنتفاء الجهالة والغرر عند المسلمين.
الثالثة : بيان مصداق من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بأن المسلمين لـمّا صاروا أغنياء لم يسرفوا ولم يتخذوا من الأموال وسيلة ومقدمة لمعصية الله بل إتخذوها سبباً لتثبيت سنن التوحيد وإستدامة صرح الإيمان في الأرض، مما يزيد في غيظ وحنق الكفار.
الرابعة : توكيد السمو الأخلاقي الذي عليه المؤمنون، والذي يلقونه ببركات التنزيل ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما فيها من التنزه عن أكل المال بالباطل وأسباب الغرر الظاهرة والخفية .
عذوبة التقوى
يفيد الجمع بين الآيتين أن المسلمين بلغوا مراتب التقوى، وأن ثمار جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى
الإسلام والعمل بمضامين التنزيل قد إستبانت للناس، فأمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول للكافرين (موتوا بغيظكم)( ) ، لوجوه :
الأول : عجز الكفار عن منع نزول آيات القرآن.
الثاني : فشل الكفار في محاربة الإسلام، وهزيمتهم في المعارك مع قوتهم وكثرة عددهم وعدتهم ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثالث : تحدي الكفار بملاقاتهم الخسارة والخيبة إن همّوا بالتعدي والهجوم على المسلمين، قال تعالى[سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ] ( ).
الرابع : هجرة رجال من القبائل وشطر من شباب مكة وما حولها إلى المدينة لدخول الإسلام والقتال دفاعاً تحت راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : تنزه المسلمين عن أكل المال الربوي، ومن كانت له أرباح ربوية على غيره قبل الإسلام تركها وتعفف عنها واكتفى برأس ماله، ومقدار دينه.
السادس : حسن إنقياد المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومبادرتهم لأداء الفرائض، وإستعدادهم للإمتثال لما يأتي به التنزيل، ولم يدرك الكفار أن هذا الإنقياد بلطف من الله، وهو شاهد على صحة نبوته، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
السابع : تجلي معاني التقوى في أقوال وسيرة المسلمين، وظهور التغيير وعلامات الصلاح على وجه الأرض، وعمارتها بالصلاة وذكر الله، وصيرورة موضوعية للإنتماء للإسلام في الواقع اليومي، والعلاقات، والوقائع، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
فيفاجئ الكفار بالتعاضد والتعاون بين المسلمين في ميادين القتال، والمجتمعات والمنتديات والأسواق فتمتلأ نفوسهم حنقاً وغيظاً، وليس من سبيل لإظهار العداوة، وبث الفرقة بين المسلمين فيقوم الكفار بعضّ أصابعهم وحسرة من الأسى والحسرة .
الخامسة : الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، إذ يمشي الناس إلى آجالهم على نحو قهري وإنطباقي، فيمر اليوم عليهم لتكون كل ساعة منه خطوة إلى الآخرة والإستقرار في الموضع الذي يقود الإنسان نفسه إليه، أما في النعيم أو العذاب.
وتفضل الله عز وجل وجعل الفلاح قريباً من الناس ببعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية وما فيها من الأوامر والنواهي، ففاز المسلمون بأسمى مراتب الفلاح بأدائهم الفرائض والعبادات، وإجتنابهم الربا.
فجاء الأمر الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليخاطب الكفار(قل موتوا بغيظكم) لبيان ما صار عليه المسلمون من مراتب العز والفخر وما ينتظرهم من الفضل الإلهي ومصاديق الفلاح، قال تعالى[ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
صلة[إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]، بهذه الآية
وفيه مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا إن الله عليم بذات الصدور.
الثاني : لا تأكلوا الربا إن الله عليم بذات الصدور.
الثالث : وأتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور.
الرابع : إن الله عليم بذات الصدور لعلكم تفلحون.
الثانية : يفيد الجمع بين الآيتين دعوة المسلمين إلى التسليم بحكم حرمة الربا، وطرد الرغبة النفسية فيه عند الإمتثال للنهي عنه، وهو من إعجاز القرآن لأنه طريق تنمية التقوى في النفس، وصيرورة الإمتناع عن الربا ملكة ثابتة عند كل مسلم ومسلمة.
الثالثة : إن إدراك المسلمين لحقيقة علم الله عز وجل بما في قلوبهم باعث لتعاونهم وتناهيهم عن الربا، وكل من الآيتين من مصاديق قوله تعالى[فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( ).
ويدرك المسلم أن الله عز وجل يعلم ما في قلبه من الود وحب الخير، لإخوانه فينوي قصد مرضاة الله والقربة إليه بترك الربا، ويحرص على التآزر مع إخوانه المسلمين في الصالحات.
الرابعة : يمنع قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] المسلم من الهم بأخذ الربا، والإقتراب منه، وهذا المنع من عمومات ولاية ونصرة وإعانة الله عز وجل للمسلمين والمسلمات، قال تعالى[اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( ).
وأكل الربا من الظلمات فانعم الله عز وجل على المسلمين بآية البحث ونهاهم عن الربا ليكون هذا النهي ضياء، والإمتثال له نوراً يملأ قلوب المسلمين.
فمن المعلوم أن الضياء وسيلة وعرض غير مستقر وظيفته الإنارة وتوظيف آلة البصر توظيفاً حسناً، إلا أن الضياء الذي يشع من الآية القرآنية أعم في ماهيته وموضوعيته، فهو بلغة ومغيى وغاية إذ تتعدد أفراده فينفذ إلى القلب ويبقى مستقرا فيه يبعث النفرة من الربا وما يؤدي إليه من الظلام وأسباب الضلالة.
الخامسة : لما تفضل الله وأمر المسلمين بالتقوى والخشية منه سبحانه فانه أخبر بعلمه بكل ما في الصدور من الهم والنوايا.
وما يكون حاضراً في الوجود الذهني يعلمه الله عز وجل، وإن نساه الإنسان وتقادمت السنين فان الله عز وجل يعلم به قبل أن يخلق هذا الإنسان وبعد أن يموت، والله لا ينسى ما يخطر على بال الإنسان من الهموم والنوايا.
فجاءت خاتمة آية السياق إخباراً عن علم الله المطلق بذات الإنسان وما في صدره ليكون المسلم مخلصاً في إيمانه، ولبعث الشفاء في صدره من الكفار لأن الله عز وجل يعلم ما يضمرون من الغيط والبغض للمسلمين، وفيه تثبيت لنفوس المسلمين في منازل التقوى.
السادسة : في الجمع بين خاتمتي الآيتين بشارة وغبطة للمسلمين إذ أن وصفهم بالفلاح وبلوغ مراتبه يأتي عن علم الله عز وجل بما في صدورهم من المقاصد الحميدة.
نعم يحكم الناس على الإنسان بالعدالة أو غيرها بلحاظ ظاهر أعماله ومدى مواظبته على الصلوات الخمس، فجاءت آية السياق لتخبر أن الله عز وجل يعلم ما في صدور الناس، وفيه ترغيب للمسلمين بالصالحات لأن الحساب على عالم الأعمال.
مدرسة المعروف
لقد جعل الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدرسة لكل مسلم ومسلمة تصاحب فصولها حياتهم في الليل والنهار، وتبعث الإيمان في صدورهم.
وكل فرد من الوجوه أعلاه سكينة بذاته ومقدمة للسكينة، ومن الآيات أن المسلم لا يغادر مراتب السكينة التي يبلغها بأي مصداق منها، وذكر المصداق لإرادة التعدد والكثرة في صيغ السكينة التي تأتي مع التقيد بأحكام الشريعة.
وهل منها أفراد الإمتناع عن الربا بمعنى أنه في كل مرة يمتنع المسلم عن الربا يرتقي في مراتب الإيمان.
الجواب نعم، لأن هذا الإمتناع أمر وجودي يأتي بالإختيار والتفقه، والإستغناء عن المال الربوي طاعة لله عز وجل ويكون على وجوه:
الأول : إنه وسيلة لنيل المغفرة، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا]( ).
الثاني : إنه باب نزول الفضل الإلهي.
الثالث : فيه فتح لأبواب من الرزق الكريم.
الرابع : إنه من مصاديق الصبر قال تعالى[وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ومن المقاصد الشرعية لنزول آية البحث تعاون المسلمين في سبل الأمر بالمعروف، والتعاون والتداين بينهم بما يتنزهون معه عن الربا الذي هو نوع مفاعلة بين المرُبي والمستلف والكاتب والشاهد .
وفي أسباب غيظ الكفار بلحاظ آية البحث وما فيها من تأبيد حرمة الربا وجوه :
الأول : تلاوة المسلمين لآية البحث بالتسليم بأنها نازلة من عند الله عز وجل أمر يحزن الكفار.
الثاني : قيام أمة وجماعات من الناس بدخول الإسلام.
الثالث : إظهار المسلمين مفاهيم الإيمان في الواقع العملي، ومنه التنزه عن أكل الربا.
الرابع : إمتثال المسلمين لما في القرآن من الأوامر والنواهي.
الخامس : طاعة المسلمين والمسلمات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( ).
السادس : إجتناب المسلمين للربا وإن كانت فيه أرباح طائلة.
التحلي بالتقوى
جاءت آية السياق بتحذير المسلمين من الإستمرار في حبهم للكفار فنزول قوله تعالى [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ]( )، يدل في مضمونه ومفهومه على بداية إحتراز المسلمين من حبهم للكفار للقبح الذاتي للشرك بالله وعبادة الأوثان ولأن المشركيي يعدّون العدة للإجهاز على المدينة ويسعون لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، خاصة وأنها تؤكد حسد وبغض الكفار للمسلمين ويحتمل هذا الإضرار وجوهاً:
الأول : إستمرار أذى الكفار للمسلمين , وعدم إنقطاعه.
الثاني : توقفه وإختفاؤه في فترات يظهر فيها مرة أخرى حب المسلمين للكفار.
الثالث : صيرورة الإحتراز من حب الكفار ملكة عند المسلمين والمسلمات.
والصحيح هو الأول والثالث وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ومقدمة ووعاء لتنزه المسلمين من أكل المال الربوي .
وهو من مصاديق الإمتثال لقوله تعالى (واتقوا الله) ( )، إذ أن آية البحث جاءت بالأمر العام بالتقوى والخشية من الله بالسر والعلانية .
وفيه دعوة متجددة لكل أجيال المسلمين بالإجتهاد في سبل التقوى وبلوغ مراتب اليقين .
ففي كل واقعة تتجدد حاجة المسلم لإستحضار التقوى والتلبس بها فلذا جاءت الآية بصيغة الأمر(واتقوا الله) لتكون خطاباً إنحلالياً للامتناهي من الوقائع الخاصة والعامة والتي تشمل أفراد الوجوب والحرمة.
وتحلي المسلمين بسنن التقوى، ومبادرتهم للجهاد دفاعاً عن الإسلام رحمة وفضل من الله ، وفيه إنذار للكفار إن ظهر غيظكم في الواقع العملي بالتعدي على الإسلام والمسلمين فإن المسلمين يدافعون بأموالهم وأنفسهم عن الإسلام والنبوة والقرآن.
مسائل في التقوى
تضمنت آية البحث الأمر بالخشية من الله بقوله تعالى (واتقوا الله) لتكون موضوع التقوى أعم من النهي عن الربا ومنه حسن العشرة والسعي في قضاء الحوائج وترك مقدمات الربا وفيه مسائل :
الأولى : إرتقاء المسلمين في مراتب الهداية والإيمان، وسعيهم كأمة متحدة نحو الفلاح والثبات في منازل التوفيق والرشاد، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، ليكون المسلمون متآخين ومتعاضدين في سبل الصلاح والفلاح.
الثانية : علم المسلمين بغيظ الكفار، وحنقهم على المسلمين، وإحتمال ترشح غيظهم بأفراد وصيغ من الكيد، وهذا العلم مستقرأ من آية السياق، وفيه حجة إضافية على الكفار والظالمين، وكل حجة تزيدهم غيظاً.
فإن قلت الأصل في تعدد وتوالي الحجج والبراهين هو التوبة والهداية.
والجواب نعم لذا هجر كثير من الناس مواطن الكفر، ودخلوا الإسلام على نحو الجماعات، قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
فمن الدلائل على صدق مضامين الآية أعلاه الشواهد التأريخية، ومضاعفة عدد المسلمين في المعركة اللاحقة عنها في السابقة.
الثالثة : اتخاذ المسلمين الصبر جلباباً سواء في العبادات أو المعاملات ومنه العصمة عن الربا ، والربح على القرض ومنه تعاهد الزكاة وإخراج الصدقة الواجبة والمستحبة ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الشعبة الثالثة: صلة آية[إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ]( )، بهذه الآية.
وفيها وجوه :
الأول : أخبرت آية السياق بأن الحسنة التي تصيب المسلمين تسوء الكفار، ومن هذه الحسنات في آية البحث أمور:
الأول : الخطاب التشريفي للمسلمين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لأنه يتضمن شهادة الله عز وجل لهم بالإيمان.
الثاني : نزول القرآن بأحكام المعاملات.
الثالث : نهي المسلمين عن الربا، وما يدل عليه من قبح وأضرار الربا الخاصة والعامة، وجعله برزخاً بين الإيمان والكفر، فالمؤمنون لا يتعاطون الربا في معاملاتهم، ليكون تنزه المسلمين عن الربا دليلاً على إيمانهم، وأهليتهم للخطاب التشريفي بصفة الإيمان ليكون هذا الخطاب باعثاً على فعل الصالحات، قال تعالى[إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً]( ).
وإختص المسلمون بالجهاد في إتيان الفرائض وإجتناب النواهي، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكل فرد منها حسنة تسوء الكفار، ومن خصائص المسلمين أن تحذير القرآن لهم من الكفار لم يصدهم عن سبل الصلاح والفلاح.
الرابع : حث آية البحث المسلمين على تقوى الله، والخشية منه.
الخامس : بشارة المسلمين بالفلاح والبقاء.
السادس : تحذير المسلمين ودعوتهم لإجتناب الأذى والضرر.
السابع : تدل آية البحث بالدلالة التضمنية على صيرورة المسلمين أغنياء، قادرين على القرض وإدانة الغير، وحضورهم في الأسواق وقيامهم بعقود البيع والشراء فيما بينهم، ومع غيرهم من أهل الملل الأخرى، وهو من الحسنات التي تسوء الكفار، والشواهد على تضاؤل وإنتفاء الفقر عندهم.
الثامن : لما جاءت آية السياق بقوله تعالى[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( ) جاءت آية البحث بالصبر وإجتناب الربا وأخذ المال والنفع الزائد من القرض، وحصر الكسب بالحلال وإن إحتاج إلى الصبر، وكذا إمهال المدين لإستيفاء ذات الدين من غير زيادة فيه.
فان قلت لم تتضمن آية السياق الحث على الصبر، والجواب من وجوه:
الأول : الموضوع هنا الجمع بين الآيتين، والصلة بين مضامينهما.
الثاني : مجئ آيات القرآن بأمور:
الأول : الصبر والندب إليه.
الثاني : بيان منافع الصبر.
الثالث : إتخاذ الصبر بلغة للعصمة من الربا، وما فيه من الطمع وقصد جمع الأموال، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
الرابع : الحاجة إلى الصبر على نحو مستديم باعتباره صاحباً كريماً وحرزاً وفضيلة وآلة لحبس النفس عن الغضب والجزع والطمع وجمع الأموال مطلقاً من غير إعتبار للطريق والكيفية .
وأصل الصبر هو الحبس.
الخامس : الصبر مدرسة للإرتقاء وترويض النفس للمجاهدات، وقهر النفس الأمارة، ومواجهة الشهوات.
السادس : الصبر عن الربا طريق للنصر والغلبة.
الثالث : يستلزم أداء التكاليف والفرائض والإقامة عليها الصبر، وكل فرد منها ومنه واقية من أكل الربا.
الرابع : لقد أثنى الله عز وجل على المسلمين ووصفهم بأنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن مصاديق هذا الفضل والتفضيل تنزه المسلمين عن أكل الربا، وهو من أفراد خروجهم للناس لما فيه من تحصين الأسواق من الكسب بالباطل، وبيان حقيقة وهي موضوعية طاعة الله في المعاملات والمكاسب، ليكون المسلمون أسوة حسنة للناس، وهو من مصاديق خروج المسلمين للناس في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس : يستلزم التقيد بالأوامر والنواهي الإلهية الصبر سواء في الوجوب أو الإمتناع.
السادس : تدعو الآية في مفهومها إلى طلب المال الحلال، وإختيار الكسب الجائز شرعاً.
السابع : تدل الآية على إمكان الكسب الكثير بالربا لقوله تعالى[أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] ولكن المسلمين يعرضون عنه طاعة لله، وهذا الإعراض من مصاديق الصبر والتقوى.
التاسع : جاءت كل من الآيتين بحث المسلمين على تقوى الله والخشية منه.
وتضمنت آية السياق لغة الشرط (ان تصبروا وتتقوا).
أما آية البحث فجاءت بصيغة الجملة الإنشائية (واتقوا الله) والنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق.
فالمراد في آية السياق السلامة من كيد ومكر الكفار.
أما آية البحث فانها تتضمن التقوى مطلقاً في المكاسب وغيرها، لتكون أمناً من كيد الكفار، ونوع طريق لنيل مرتبة الخلود في النعيم، قال تعالى[وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ] ( ).
العاشر : أخبرت آية السياق عن فرح الكفار بوقوع السيئة، ولحوق الضرر بالمسلمين، فجاءت آية البحث لوقاية المسلمين من أكل المال بالباطل، الذي هو سيئة بذاته وتترشح عنه السيئات والأضرار.
ليتجلى قانون في الحياة الدنيا وهو إذا تقيد المسلمون بأحكام الشريعة في باب الحلال والحرام يصرف عنهم الله صنوفاً من البلاء، ويصيب الكفار الحزن ولا يجدون ما يشمتون بسببه بالمسلمين.
ولو نزل بلاء بالمسلمين ففيه الثواب والأجر، ويكون فيه المسلمون آية وحجة في الصبر والرضا بالمشيئة الإلهية , قال تعالى[قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا]( ) .
الحادي عشر : يبين الجمع بين الآيتين بأن إمتناع المسلمين عن الربا سبب لصرف كيد الكفار عنهم، ومنعهم من الإضرار بالإسلام، فقد جاءت آية البحث بالأمر للمسلمين بتقوى الله والخشية منه.
مما يدل على أن شرط الصبر والتقوى في قوله تعالى في آية السياق [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدهُمْ شَيْئًا] أعم من مشروطه وهو عدم الضرر من كيد الكفار، ويشمل التنزه عن أكل الربا والمال الحرام مطلقاً، قال تعالى[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
وقد يقال إن جمع المال (أضعافاًُ مضاعفة) حسنة تصيب المسلمين، وان كان من الربا , ويحزن الكفار لأنه شاهد على كثرة أموال المسلمين، والجواب من وجوه:
الأول : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إبتلاء، ومنه الإختبار بكسب المال ، قال تعالى [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ]( ).
الثاني : ليس المدار على جمع الأموال، بل المدار على التقيد بأحكام الحلال والحرام.
الثالث : حرمة الربا من رحمة الله بالمسلمين والناس، وشاهد على صلاح وتقوى المسلمين، والرزق بيد الله إذ تفضل بقوله [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( )، والذي يتضمن الوعد الكريم بالرزق والحث على نبذ الشريك.
ويفيد الجمع بين الآيتين: ان تمسسكم حسنة بعدم أكل الربا تسؤهم ، وان تصبكم سيئة بأكل الربا يفرحوا بها).
فجاءت آية البحث لمنع فرح الكفار في باب المعاملات، مثلما يصيبهم الحزن عند رؤية المسلمين في صلاتهم ونسكهم.
وتتضمن آية السياق الإخبار عن كيد الكفار بالمسلمين، ويحتمل هذا الكيد وجوهاً:
الأول : إنحصار الكيد بأيام النبوة ونزول القرآن.
الثاني : إختصاص الكيد بحال الحرب والقتال.
الثالث : إرادة الكيد في تحريف البشارات التي جاءت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية السابقة.
الرابع : كيد الكفار وإرادتهم الإضرار بالمسلمين في الميادين المختلفة.
والصحيح هو الثالث لأصالة الإطلاق، ولأن الصراع بين الإيمان والكفر في مختلف الموضوعات.
لتتضمن آية البحث البشارة بدفع كيد الكفار في باب المعاملات، بحصانة المسلمين من أكل المال بالباطل، وهذه الحصانة من عمومات قوله تعالى[يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا] ( ).
بتقريب أن الكيد من الله عز وجل أعم من الإنتقام والبطش بالكفار فيشمل إصلاح المسلمين لمنازل (خير أمة) ( )، ومقامات الرفعة وعلو الشأن.
إن نزول كل آية من القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حسنة تصيب المسلمين الموجود والمعدوم ، من وجوه:
الأول : إكرام وتشريف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي والتنزيل.
الثاني : القرآن ناسخ للكتب ، وهو ممتنع عن النسخ بكتاب آخر وإلى يوم القيامة ، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثالث : إحاطة آيات القرآن باللامتناهي من الوقائع والعلوم.
الرابع : تلاوة المسلمين لآيات القرآن تسليم بنزولها من عند الله، وتجلت مصاديق هذا النزول في إعجاز القرآن الذاتي والغيري.
الخامس : ضبط المسلمين لرسم ولفظ الحرف القرآني، ومبادرتهم لحفظ آياته عن ظهر قلب مع تدوينه في صحف ورقاع متفرقة من جلد أو عظم أو جريد النخل أو قطع الحجارة.
وعن زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنْ الرِّقَاعِ إِذْ قَالَ طُوبَى لِلشَّامِ قِيلَ وَلِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْهَا ( ).
السادس : مجيء آيات القرآن بأسباب نزول خاصة بها تكون حجة وموعظة وإلى يوم القيامة.
ومنها آية السياق التي تفضح الكفار، وتتضمن الإخبار عن حسدهم وبغضهم للمسلمين بغير حق.
السابع : مجيء آيات الأحكام التي تبين الضوابط الشرعية في العبادات والمعاملات ، ومنها آية البحث التي هي نص جلي بحرمة الربا، ولزوم الخشية من الله للوقاية من المعاملات الباطلة، قال تعالى[وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ]( ).
قانون السلامة من الكيد فلاح
من فلاح وبقاء المسلمين سلامتهم من كيد ومكر الكفار، فمع أن آية السياق إبتدأت بما يصيب الكفار من الحزن إذا فاز المسلمون بنصر ورزق كريم، وما يصيبهم من الفرح إذا لحق المسلمين الضرر والأذى ، قال تعالى [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ]( ).
وإنتقلت الآية إلى جملة شرطية تبين حاجة المسلمين إلى الصبر والتقوى لإجتناب أذى الكفار، وفيه شاهد على أن مقاليد الأمور بيد الله، وأنه سبحانه يجزي الصابرين المتقين بدفع كيد الكفار عنهم .
ومن الآيات في المقام وجوه :
الأول : يكون الفعل الواحد مصداقاً للصبر والتقوى، كما في الإمتناع عن الربا فانه من مصاديق الصبر في جنب الله بالتنزه عن كسب المال الكثير والمضاعف بالمعاملة الفاسدة وهو من التقوى لأن المسلمين يتنزهون عن المعاملات الربوية طاعة لله عز وجل.
الثاني : تكون الأفعال المتعددة مصاديق للصبر، كما في أداء الصيام أيام شهر رمضان، وهي أفراد غير إرتباطية, كل فرد له ثواب خاص .
الثالث : تأتي أفعال متعددة تترشح عن التقوى والخشية من الله ، ويتلقى أهل التقوى البشارة في الدنيا والآخرة، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا]( ).
الرابع : صيرورة كل من الصبر والتقوى ملكة عند المسلمين مجتمعين ومتفرقين وجعلهم موضوعية لكل منهما في مناجاتهم، لذا جاءت آية البطانة [لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ]( )، بالنهي عن إتخاذ الكفار وليجة كيلا يحولوا دون إختيار المسلمين للفعل المترشح عن الصبر والتقوى معاً.
وتأتي هذه الملكة بالتجربة وطول الملابسة، والتفقه في أمور الدين والدنيا، وتفضل الله عز وجل وجعلها شرطاً مستديماً للسلامة من كيد الأعداء، وهذا الشرط من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
فان قلت إن الشرط من الله عز وجل وليس هو فعل للمسلمين يستحقون به هذه المرتبة.
والجواب من وجوه:
الأول : ذات الشرط فضل من الله عز وجل، فالأمة التي يأمرها الله عز وجل بالصبر والتقوى ليكونا شرطين للأمن والسلامة من الأعداء هي أمة نالت مراتب الرفعة والشرف.
الثاني : لابد من مصداق عملي للشرط الذي يأمر به الله عز وجل، فكل كلام لله عز وجل له مصداق متعدد ومتجدد وفيه بعث للفزع والخوف والحسرة في قلوب الكفار قال تعالى[وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ]( ).
الثالث : تدل الشواهد والوجدان على تقيد المسلمين بالصبر والتقوى، ومنه أداء الفرائض والعبادات، والتنزه عن الربا.
وجاءت آية السياق بالبشارة بصرف كيد الكفار عن المسلمين أهل الصبر والتقوى.
ويحتمل تنزه المسلمين عن الربا بلحاظ المقام وجوهاً:
الأول : إنه مقدمة لصرف أذى وكيد الكفار بلحاظ أنه مصداق من الصبر والتقوى.
الثاني : إنه من الشواهد على صرف كيد الكفار عن المسلمين.
الثالث : ليس من صلة بين الأمرين، فاجتناب الربا فعل ذاتي من المسلمين، وكيد الكفار أمر خارجي.
والصحيح هو الأول والثاني، إذ أن الصبر والتقوى واقية من شرور الأعداء، وكل منهما مقدمة لصرف كيد الكفار لأن تقيد المسلمين بأحكام الشريعة يبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار ويجعلهم يتجنبون الإضرار بالمسلمين، وهو من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة حينما [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
ويمكن القول بقانون الإيمان طارد للضرر ، وفي التنزيل الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وتفضل الله عز وجل بالإحتجاج القاطع عليهم بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فمن علم الله عز وجل هداية المسلمين للإمتثال لأحكام الشريعة، وأن هذا الإمتثال حائل دون إفساد الكفار في الأرض بتقريب وهو أن كيد الكفار بالمسلمين من الفساد في الأرض.
ومن لطف الله بالمسلمين أن يأمرهم في باب المعاملات فيكون هذا الأمر على وجوه:
الأول : إنه علة للصلاح.
الثاني : إنه سبب لدفع الفساد من الأسواق والمجتمعات.
الثالث : تنمية ملكة التقوى وزيادة البصيرة، وتتجلى في الوجدان والوجود الذهني منافع إجتناب الربا والزيادة على القرض.
بحث بلاغي
من ضروب البديع (الإدماج) وهو إدماج المتكلم غرضاً في غرض، بحيث لا يظهر إلا أحدهما، منه قوله تعالى [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ].
وليس من حد للأغراض والغايات الحميدة في الآية القرآنية ومنها في الآية أعلاه إخبار المسلمين عما يصيب الكفار عند مجيء نفع للمسلمين.
وجاءت الآية بإسم(الحسنة) وهو إعجاز قرآني لأمور:
الأول: إرادة العموم من الفضل الإلهي.
الثاني: نزول الملائكة لنصرة المسلمين.
الثالث: دخول الناس في الإسلام.
الرابع: بيان حال التضاد بين المسلمين والكفار.
الخامس: لزوم حذر المسلمين من الكفار.
السادس: إجتناب حب الكفار، قال تعالى[مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ]( ).
ليكون النهي عن الربا رحمة والإمتثال للنهي والإمتناع عن الربا حسنة يفوز بها المسلم، وتبعث الحزن في نفوس الكفار، وتجعل الغيظ والحنق يملأ صدورهم.
لقد أراد الله عز وجل بقوله تعالى(لا تأكلوا الربا) إيذاء الكفار، وجعلهم يدركون المائز بين المسلمين وبينهم، وكيف أن الكفر حاجز للأمور الحسنة، والنفع في النشأتين .
وبلحاظ الآية أعلاه فإن عدم إمتثال بعض المسلمين في باب النهي عن الربا يدخل الفرح في نفوس الكفار، وقد يكون هذا الفرح باعثاً لتعاونهم من أجل قتال المسلمين، الأمر الذي يستلزم حصانة المسلمين من محاولة الإنقضاض عليهم، وتتجلى هذه الحصانة في المقام بالتنزه عن الربا وفيه آية إعجازية بأن يتقيد المسلمون بصيغ التقوى فيصيب الحزن الكفار لحسن سمت المسلمين لأنهم يفضحون المشركين في سوء فعلهم ودعوتهم قال تعالى في ذمهم[أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ]( ).
لقد جاءت آية البحث بالنهي عن الربا، ولكنها تفيد معنى الحث على الغلبة على الكفار بالتقيد بأحكام الحلال والحرام، وهو أمر إعجازي آخر لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يتخذ السيف آلة للنصر على الأعداء بل جاء القرآن ببشارات وأسباب النصر بأداء المسلمين للفرائض، وإجتناب المعاصي وإظهار يعاني الأخوة بينهم.
وتظافرت جهود المسلمين لدحض الكفر بجعل الكفار في حال حزن وغيظ وحنق، وفيه دلالة على أمور:
الأول : إنه شاهد بأن المسلمين يواصلون الجهاد وبناء دولة الإسلام.
الثاني : تقوى المسلمين وإجتنابهم الربا ومطلق المعصية إغاظة الكفار.
الثالث : زجر الكفار عن التعدي على الإسلام في حال المسلم، وفي ميادين العمل.
الرابع: تجلي صبغة الإيمان في الأسواق.
وتنزه المسلمون عن الربا في صلة بينهم وبين الله عز وجل وإرادة القربة إليه سبحانه، فيظهر الأثر على الكفار بالوهن والضعف وهو أمر أعم من مفهوم الإدماج في مصطلح لهم البديع والبلاغة.
الشعبة الرابعة: الصلة بين آية[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
وبين هذه الآية، وفيها وجوه :
الأول : جاءت آية السياق أعلاه خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أما آية البحث فهي خطاب للمسلمين جميعاً.
الثاني : يتعلق موضوع آية البحث بحال المسلمين في القتال مع الكفار، أما آية البحث فتضمنت أموراً:
الأول : تنظيم الأسواق ، ودفع الغبن.
الثاني : بيان حقيقة وهي موضوعية الشريعة وأحكامها في البيع والشراء وعالم المعاملات.
الثالث : نشر مفاهيم الصلاح ومعاني التعاون والرحمة بين الناس.
الرابع: منع الغبن والضرر في المعاملة.
الثالث : يفيد الجمع بين الآيتين إرتقاء المسلمين في المعارف ونيلهم مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، إذ يجمعون بين الخروج للدفاع ، والتقيد بأحكام الشريعة في الأسواق والمعاملات الذاتية فيما بينهم ، ومع غيرهم من أهل الملل والنحل.
ومن أسرار هذا الجمع أن المسلمين الذين يجاهدون بأنفسهم في سبيل الله يستطيعون قهر النفس الشهوية، والإحتراز من كسب المال بالباطل.
ومن خصائص(خير أمة) تلقي التكاليف والأوامر الإلهية بالقبول والإمتثال مع تعددها وكثرتها وشمولها للعبادات والمعاملات وبصيغ النص والبيان وفيها أمور :
الأول : الدلالة على تكامل الشريعة الإسلامية قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثاني : بعث السكينة في النفس بأن الله عز وجل فرض أحكام الشريعة لتبقى في الأرض شاهداً على عبودية وخضوع أهل الأرض له سبحانه.
الثالث : تزكية المسلمين بإلتزامهم التام بأحكام الشريعة.
الرابع : خلو التكاليف من اللبس والترديد، وفيه برزخ لمنع الخلاف والفرقة بين المسلمين .
ومن الآيات أن عدم اللبس لا ينحصر بأحكام القرآن إنما يشمل ما تضمنته السنة النبوية من الأحكام فالأمر بالصلاة والزكاة جاء مطلقاً قال تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ).
وجاءت السنة النبوية ببيان عدد الفرائض، وركعات كل فريضة، ونصب الزكاة، ولم ولن تجد إختلافاً بين علماء المسلمين بخصوصها.
ومن الإعجاز في المنع من الربا البيان والوضوح في مفهوم الربا والقطع بحرمته، وإنتفاء الإستثناء فيه.
الرابع : تحتمل النسبة بين الآيتين من جهة الترتيب الزماني وجوهاً:
أولاً : آية السياق (وإذ غدوت) متقدمة زماناً على آية البحث.
ثانياً : إتحاد أوان النزول، كما لو نزلت الآيتان في يوم واحد.
ثالثاً : تقدم نزول آية الربا على آية(وإذ غدوت).
والصحيح هو الأول، إذ جاءت آية السياق بخصوص معركة أحد والتي جرت في السنة الثالثة للهجرة، وكان المسلمون في حال من قلة المؤون والأسلحة والأموال.
قانون الإيمان تنشيط للتجارة
تدل آية البحث على تعدد وكثرة المعاملات التجارية عند المسلمين، والبشارة بهذه الكثرة وضبطها وفق القواعد الشرعية وهو من عمومات قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ] ( )، وفيه توكيد لحقيقة وهي أن طاعة الله لا تنحصر في باب العبادات بل تشمل المعاملات وأمور البيع والشراء والرهن والإيجار ونحوها.
فان قلت من العقود المالية ما ليس فيه ربا ولا يتعلق موضوع آية البحث بها، والجواب تدل آية السياق على شمول أحكام الشريعة للمعاملات، ولزوم الصدور عن القرآن والسنة فيها، وعدم إجراء العقود إلا بالرجوع للشريعة وأحكامها، ومنها قاعدة لا ضرر ولا ضرار.
فيخرج المسلمون لدفع جيوش المشركين وُيقتل بعضهم ولا يعتبر إضراراً بالنفس والجماعة لأنه على وجوه :
أولاً : إنه دفاع عن الإسلام وعن النبوة والتنزيل وعامة أهل المدينة .
ثانياً : فيه تثبيت لمعالم التوحيد.
ثالثاً : إنه فوز بالثواب العظيم، قال تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
الخامس: تتجلى في الجمع بين الآيتين لغة الإعجاز في الخطاب القرآني، فمرة يأتي الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فينتفع منه المسلمون جميعاً، وأخرى يأتي خطاباً مباشراً لهم ليكون توليدياً متجدداً وصاحباً كريماً للمسلمين يضئ لهم سبل الحياة الدنيا، ويكون مفهوم الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مركباً من وجوه :
الأول : إرادة المسلمين بالتبعية والإلحاق، أي يشملهم الخطاب القرآني بالذات.
والأصل في الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يتعدى إلى المسلمين إلا مع القرينة الصارفة، ولكن قواعد الخطاب في القرآن أمر إعجازي ، فإذا سمع المسلمون الخطاب القرآني للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتبادر إلى أذهانهم أنهم مخاطبون بالأصالة أيضاً، وأن الله عز وجل يريد منهم الإنبعاث إلى الفعل، أو الإنزجار عنه، إلا مع القرينة التي تفيد خصوص الخطاب كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ إلى قوله تعالى وَامرأة مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ]( ).
لتكون الهبة في المقام وإنتفاء المهر من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحتى أزواج النبي لهن خصوصية تترشح بالعرض من الصلة السببية التشريفية مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا]( )، وقال ععالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
ومن معاني آية البحث وما فيها من النهي عن الربا البشارة بكثرة أموال المسلمين ، وإزدياد المكاسب والبيع والشراء بينهم وهو من رشحات الإيمان، والرزق الكريم الذي يتفضل به الله عز وجل على المؤمنين ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
الصلة بين خاتمتي الآيتين
فيها مسائل :
الأولى : ذكرت كل من الآيتين اسم الجلالة(الله)، وفيه وجوه:
الأول : تلاوة المسلمين لآيات القرآن التي تتضمن اسم الجلالة.
الثاني : تذكير المسلمين والناس بلزوم عبادة الله.
الثالث : حضور ذكر الله في الوجود الذهني، وفيه دعوة للخشوع والخضوع لله عز وجل.
الرابع : بعث السكينة والطمأنينة في نفوس المسلمين، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الثانية : تتضمن كل من الآيتين التكليف، فآية السياق تتضمن الإخبار عن التهيئ للقتال، وخروج المسلمين وهم قلة إلى الكفار وهم كثرة في عددهم وسلاحهم إذ أن عدد المسلمين يوم أحد نحو ثلث عدد الكفار.
وجاءت آية البحث تكليفاً في باب المعاملات، ليتولى المسلمون وإلى يوم القيامة الصلاح في الأسواق وتهذيبها من العقود الفاسدة.
الثالثة : يدل الجمع بين الآيتين بأن الحياة الدنيا دار الجهاد للمسلمين، وكل مسلم ومسلمة يجاهدان في سبيل الله، سواء في سوح المعارك، أو في أداء الوظائف العبادية، أو في الأسواق، وقهر النفس على الإمتناع عن الربح المنهي عنه.
فليس من أمة تمتنع عن جني الأموال والأرباح من معاملة مخصوصة لأن الله عز وجل نهى عنها إلا المسلمين، لذا رزقهم الله مرتبة خَيْرَ أُمَّةٍ]( ).
الرابعة : تفضل الله عز وجل ونهى المسلمين عن أكل مال الربا، وأختتمت آية السياق بقوله تعالى[وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ].
قانون الله يسمع تلاوتك
من الربوبية المطلقة لله عز وجل أن الأصوات كلها حاضرة عنده ما معنى وما يأتي منها ، وهو من عمومات قوله تعالى [عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ]( ).
وفي الجمع بين الآيتين وجوه:
الأول : إن الله عز وجل يسمع تلاوة المسلمين لآية الربا، ويثيبهم على هذه التلاوة.
الثاني : يسمع الله عز وجل مناجاة المسلمين في التناهي عن الربا.
الثالث : إن الله عز وجل يعلم أهلية المسلمين للإمتثال لنهيه عن الربا، وأنهم يبقون إلى يوم القيامة، منزهين عن الربا، ولا عبرة بالقليل النادر الذي إن أخذ الربا يقابل بالأزدراء والسخط من عموم المسلمين.
الرابع : إن الله عز وجل يعلم أنه يرزق المسلمين رزقاً واسعاً، بالكسب الحلال، وأن المال الحرام لا يدخل بطونهم، وللكسب الحلال موضوعية في قبول الطاعات والدعاء والمسألة، والله هو السميع العليم الذي جعل أبواب السماء مفتحة لدعاء المسلمين، وهو من الشواهد على كونه تعالى(سميع عليم).
ولا تتعارض هذه الموضوعية مع عمومات قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الخامس : إختتام آية السياق بثلاثة أسماء الله هي(الله،السميع، العليم) دعوة للمسلمين للإجتهاد والتوقي من المعاملات الربوية ومقدماتها وآثارها.
السادس : في خاتمة آية السياق وعد للمسلمين بالرزق الكريم والثواب العظيم إن تقيدوا بأحكام الشريعة، قال تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا]( )، لإرادة إصلاح الذات والإنقطاع للدعاء.
السابع : من علم الله عز وجل أن الأشياء كلها حاضرة عنده، ومنها أفعال المسلمين، ومسارعتهم في الخيرات وتلاوتهم للقرآن في الصلاة وخارجها لتكون الحياة الدنيا لهم روضة بهيجة وحديقة ناضرة يتلذذون فيها بترك الربح الكثير الذي يأتي من المعاملة الفاسدة.
ومن سجايا الإنسان الميل للربح والكسب وجمع الأموال، ولكن المسلمين يتصفون بخصوصية وهي الإعراض عن المال الكثير الذي يأتي من الربا والمعاملات الباطلة.
وهذه الصفة من خصائص(خير أمة) فهي تتنزه عن المال الحرام، والملاك عند المسلمين والمسلمات مرضاة الله والإمتثال لأوامره.
وجاءت آية البحث لترغيب المسلم بتلاوة القرآن والعمل بأحكامه ، والله عز وجل يتكفل رزقه ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الثامن : يفيد إستحضار إسم(السميع)و(العليم) في موضوع الربا إنذار وتخويف المسلمين من المعاملات الفاسدة، وما فيها من الكسب الحرام، وهذا التخويف من اللطف الإلهي بالمسلمين.
التاسع : من حب الله للعباد نزول الكتاب ليتلوا آياته ويسمعهم الله ويشهد لهم الملائكة وهو من مصاديق احتجاج الله عليهم بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، حينما احتجوا على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، إذ قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
وهل يتعارض مع إرادة إكرام المسلمين باستحضارهما بلحاظ موضوعية وحدة الموضوع في حصول التضاد، الجواب لا.
قانون تعدد المقاصد السامية للآية القرآنية
من إعجاز القرآن التعدد في الغايات من الآية الكريمة، وتكون هذه الغايات على وجوه:
الأول : التشابه الموضوعي بينها، وإفادتها الإنذار المتعدد في موضوعه وحكمه كما في قوله تعالى[إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ]( ).
الثاني : العموم والخصوص المطلق في موضوعاتها، كما في آيات الإنذار ، وإرادة الكفار من باب الأولوية القطعية، قال تعالى [وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]( ).
الثالث : العموم والخصوص من وجه، فمع إتحاد الموضوع تجد الغايات وجهة الخطاب تلتقي في موضوع وتفترق في موضوع آخر.
الرابع: التباين بين الغايات والجهات في ذاتها وموضوعها.
وفيه آية في إعجاز القرآن الغيري بأن يرى كل مستمع للآية القرآنية أنه المقصود منها، وكأنها نزلت تواً، مما يجعل الآية القرآنية على وجوه:
الأول: إنها حجة ودعوة لدخول الإسلام.
الثاني: كل آية شاهد على سلامة إختيار المسلمين دخول الإسلام والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : الآية القرآنية زاجر عن المعاملات الباطلة، ومنها المعاصي.
أي أن علة النفرة من الربا لا تنحصر بالآية محل البحث وما فيها من النهي عن الربا، بل تشمل آيات أخرى.
فكل آية قرآنية تنهى عن الربا أما في منطوقها أو مفهومها أو أحكامها، فمثلاً آية السياق تتضمن الإخبار عن خروج المسلمين للدفاع بإمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيادته الميدانية.
ومن يخرج للقتال في سبيل الله يتنزه من باب الأولوية القطعية عن الربا والمعاملات الباطلة، لذا يجاهد بنفسه وهي أعز وأكرم ما عنده وينفق أمواله لعلو كلمة التوحيد، فلا يطمع في الكسب الحرام قال تعالى[الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ] ( ).
ومن فضل الله عز وجل على المسلمين مجيء المكاسب لهم بما يجعلهم أغنياء، فأراد الله لهم عدم توظيف هذه الأموال بالباطل , ولا يختص النهي عن المعاصي بآيات القرآن إنما تتولى الفرائض العبادية النهي عنها قال تعالى [اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ] ( ).
قانون احتراز المؤمن من الإضرار بالذات
إن الله عز وجل عليم باضرار الربا، وآثاره السلبية على النفوس والإقتصاد والمجتمعات، فاراد سلامة المسلمين من تلك الأضرار، وإنحسارها في الملل الأخرى رحمة منه بالناس، ورجاء فلاحهم وطيب معايشهم.
وفيه دعوة للمسلمين للإحتجاج بصحة ونفع النهي عن الربا، والتصدي لأهل الجدال والمغالطة الذين يحاولون تزيين المعاملات الربوية, كما ورد في التنزيل[قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا]( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الرحمة العامة التي تتغشى الناس جميعاً، ومن مصاديقها حرمة الربا والتحذير منه، فان قلت جاء النهي عن الربا لخصوص المسلمين وهم(خير أمة) فكيف ينتفع الناس منه , والجواب على وجوه:
الأول: مقتضى الأصل هو لزوم إسلام الناس جميعاً، وإقرارهم بالعبودية لله، قال تعالى بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ] ( ).
الثاني: إجتناب المسلمين للربا رحمة من وجوه:
الأول: صلاح الأسواق، وهو من مصاديق عموم الرحمة في بعثة النبي محمد لما فيها من تنظيم الأسواق ومنع الظلم الخفي في المكاسب.
الثاني: المنع من التمادي في المعاملات الفاسدة.
الثالث: تذكير الناس بلزوم إستحضار حكم الشريعة في المعاملات، وأنه لايختص بدور العبادة.
الثالث: لقد جعل الله عز وجل القرآن مائدة ينهل منها الناس ما يحتاجون إليه في عباداتهم ومعاملاتهم، ويلجأون إليه في المهمات إذ جعله الله[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الرابع: جاء النهي عن الربا لقبحه الذاتي، وما فيه من أسباب الغبن والضرر الظاهرة للوجدان، فمن رحمة الله دعوته الناس بالأمر والنهي إلى سبل السلامة، ومقدمات الهداية، لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ].
وكأن أخذ الربا برزخ دون الفلاح والبقاء في منازل(خير أمة) بمراتب الغبطة والسعادة العامة والخاصة، إذ أن الربا أذى للآخذ والمعطي.
فجاءت النواهي في القرآن ليحترز المؤمن من الإضرار بنفسه في الدنيا , ومن حمل الأثقال والأعباء يوم الحساب قال تعالى في ذم الكفار الجاحدين [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ] ( ).
أختتمت آية السياق بأسماء ثلاثة لله عز وجل[وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ].
ليكون الإقرار والتسليم بصفات الله الحسنى فلاحاً وطريقاً للنجاح والفوز، وكذا التقيد بأحكام حرمة الربا، والإمتناع عنه، وجعله موضوعاً متجدداً من مواضيع(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) الذي يصاحب المسلمين في حياتهم وإلى يوم القيامة.
ويفيد الجمع بين الآيتين تعدد سبل ومصاديق الفلاح التي يفوز بها المسلمون، وهو من الشواهد على تفقهم في الدين من وجوه:
الأول: إرتقاء إلى المراتب العالية.
الثاني: دعوة المسلمين الناس للتقيد بأحكام الحلال والحرام , قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
الثالث: إمامة المسلمين للناس في تنزيه الأسواق من أسباب دفع الضرر المالي والنفسي عنهم.
الشعبة الخامسة: صلة آية[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى:كل من الآيتين خطاب للمسلمين، وجاءت آية السياق بخصوص واقعة أحد، وما أصاب فريقاً من المسلمين من الفزع والخوف من مجريات المعركة في بدايتها.
أما آية البحث فتضمنت أحكاماً وقواعد فقهية في باب من أبواب المعاملات.
الثانية: إذا كان المسلمون في حال الدفاع صابرين مجاهدين، فمن باب الأولوية أنهم يصبرون في أحكام الحلال والحرام في الأسواق وباب المعاملات، ويلتزمون بالضوابط الشرعية، ولقد ثبـّت الله أقدام المسلمين في معركة أحد بقوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ).
فإن قلت: موضوع الآية أعلاه طائفتان من المسلمين، وليس كل المؤمنين يوم أحد.
والجواب جاء قوله تعالى(والله وليهما) لمناسبة الحكم والموضوع، فالله سبحانه ولي المؤمنين في حال الحرب والسلم, ومن مصاديق الولاية النصر والغلبة على الأعداء المشركين المعتدين[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) إذ أصرّ كفار قريش يومئذ على القتال .
والله هو الذي يدفع المسلمين بلطفه عن صيغ الربا، ومنه نزول آية البحث التي تتضمن أموراً:
الأول: النص على حرمة الربا.
الثاني: النهي عن كسب الأموال الطائلة بالمعاملات الربوبية.
الثالث: الدعوة إلى الخشية من الله[فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي]( ).
الرابع: بشارة الفلاح والتوفيق والبقاء، ومن إعجاز القرآن مجيء البشارة في خاتمة آية النهي عن الربا.
ومن مصاديق اللطف في المقام إجتناب الربا طاعة لله عز وجل.
الثالثة: تقدير الجمع بين بدايتي الآيتين(يا أيها الذين آمنوا إذ همّت طائفتان منكم).
ويفيد البشارة بالمدد والعون الإلهي لدفع الهم بالجبن، وجعل المؤمنين يثبتون في ميادين المعارك، ليس يوم أحد وحده بل في المعارك كلها لما في الخطاب الإلهي للمسلمين بصيغة الإيمان من المنافع الذاتية والغيرية والظاهرية والخفية منها:
الأول: إنه باعث على السكينة والطمأنينة.
الثاني: فيه وعد كريم بالنصر والغلبة، قال تعالى[وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث: حث المسلمين على والتحلي بالصبر، وعن الامام علي عليه السلام قال: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد)( ).
قانون عذوبة التقوى
تضمنت آية البحث الأمر للمسلمين بالخشية من الله بقوله تعالى[واتقوا الله] وهو خطاب يشمل المسلمين على نحو العموم الإستغراقي، ويتصف بالإطلاق الزماني والمكاني والموضوعي، فليس هناك مورد يستثنى منه.
ويحتاج المسلمون تقوى الله في ميادين الدفاع في حال الهجوم والدفاع، وكانت واقعة أحد معركة دفاعية، وبالتقوى يدفع المسلمون العدو، وأسباب الخوف والجبن عن أنفسهم.
و(عن رفاعة بن رافع الزرقي قال : لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : استووا حتى أثني على ربي ، فصاروا خلفه صفوفاً فقال :
اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ، ولا باسط لما قبضت ، ولا هادي لما أضللت ، ولا مضل لما هديت ، ولا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا مقرب لما بعدت ، ولا مباعد لما قربت ، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك .
اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف ، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا .
اللهم حبب إلينا الإِيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا مفتونين ، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك ، واجعل عليهم رجزك وعذابك ، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب يا إله الحق)( ).
وتقدير الجمع بين الآيتين (إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا واتقوا الله).
ومن مضامين الجمع أعلاه أن الهم من طائفة وفرقة من المسلمين، بينما التقوى عامة عندهم، ويدل على أمور:
الأول: إنحصار الهم بالجبن والفشل بطائفة من المؤمنين، ويدل في مفهومه على إنتفائه عند أكثرهم.
الثاني: إعانة المسلمين جميعاً بعضهم لبعض لإجتناب الهم بالفشل عند ملاقاة العدو , قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
الثالث:مناجاة المسلمين بلزوم إتخاذ التقوى ملكة راسخة عندهم.
الرابع:قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه المناجاة بعدم الجبن والخور في المعركة.
ومنه إجتناب الربا في المعاملات، فقوله تعالى [لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] إنحلالي يتضمن مسائل :
الأولى: الخطاب لكل مسلم باجتناب الربا وأكل المال بالباطل، وتقدير صيغة المفرد: يا أيها الذي آمن لا تأكل الربا.
الثانية: زجر المسلمين عن تأسيس جمعيات ومصارف للمعاملات الربوية.
الثالثة: دعوة المسلمين لنهي بعضهم بعضاً عن الربا، وقد ذم القرآن قوماً من الأمم السابقة بقوله تعالى [كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ] ( )، ومن خصائص (خير أمة) وهم المسلمون التناهي عن المنكر، والتعاضد لإجتنابه ومقدماته.
وقد تفضل الله عز وجل وفتح لهم باب التوبة والإنابة، وحبّب إليهم الإستغفار وهو حسن ذاتاً وعرضاً وأثراً، إذ أن اللجوء للإستغفار نوع إقرار بقبح الذنب، ورغبة للتنزه عنه.
الخامس: في إخبار آية السياق عن ولاية الله للمؤمنين ولطفه بهم، ونصرته لهم بقوله تعالى[وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] مسائل:
الأولى: إنه دعوة للمسلمين لنبذ الربا والمعاملات الفاسدة مطلقاً.
الثانية: حث المسلمين على الخشية من الله في العبادات والمعاملات والأحكام .
الثالثة: لزوم إظهار أسمى معاني الطاعة لله ولرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة: الشكر لله على نعمة الولاية، قال تعالى[وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
السادس: تبين آية السياق حقيقة وهي وقاية المسلمين من الجبن والخور يوم أحد، بفضل ولطف من الله عز وجل، وتؤكد آيات القرآن على المدد الملكوتي للمسلمين يومئذ، قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
ويترتب على نجاة ونصر المسلمين في معارك الإسلام الدفاعية الأولى وجوب عمارتهم الأرض بسنن العبادة والتقوى ، ومنها مسائل وأمور تتعلق بآية البحث منها :
الأول: إجتناب المعاملات الباطلة.
الثاني: التنزه عن الربا , (وفي الأثر يقول [الله] تعالى: “ابن آدم، اطلبني تَجدني، فإن وَجَدْتَنِي وجَدْتَ كل شيء، وإن فُتُّكَ فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء”.
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [أنه قال] ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه) ( ).
الثالث: عدم أخذ الزيادة على القرض.
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالدولة والحكم في أمصار الإسلام، لتكون الأحكام والمعاملات فيها حجة على الناس، ودعوة لهم للصلاح والإصلاح.
الرابع: إتخاذ سلاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتنزيه الأرض من أكل المال بالربا.
بحث فقهي
لقد جعل الله الناس بالناس في الطلب وتوفير الحاجات، وهذه العلقة والصلة باب للهداية إلى سبل الإيمان، ومنها صيغ ومصاديق التجارة وتنظيم شؤون الملكية، وللتجارة مستحبات ومكروهات، ومنهم من أوصلها إلى أكثر من ستين إستقراء من آيات القرآن والسنة النبوية والأخبار منها:
الأول: الإجمال في طلب الرزق، وعدم اللهث وراء الربح وجمع المال.
والإلحاح في طلب الرزق مشغلة عن الوظائف العبادية وقد يميت القلب، ويؤدي إلى تعدي الحدود باليمين الزور، والغبن، والغش، وعدم بيان العيب في السلعة، والتشديد في الشروط، والدخول في الشبهات.
قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِى الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِىَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ) ( ).
إن الإجمال في الطلب واقية من المعاملات الربوية، وبرزخ دون أكل الربا، لأن الكسب الحلال يكفي في حال الإجمال في الطلب والسعي.
وهل يحمل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(أجملوا في الطلب) على الوجوب أم الإستحباب.
الجواب هو الثاني لعمومات إباحة طلب الرزق وعدم تقييده، قال تعالى[وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ] ( )، لذا إبتدأ الحديث النبوي بتقوى الله عز وجل بلحاظ أنها واقية من الحرام، وكأن في خاتمة الحديث أعلاه تفسيراً للإجمال في الطلب وهو أخذ الحلال، وترك الحرام.
الثاني: إقالة النادم في البيع والشراء فسواء كان النادم مشترياً أو بائعاً يستحب إقالته وفسخ العقد مع إمضائه وإنقضاء خيار المجلس( )، أو خيار الشرط( )، و غيرهما من الشروط.
وفي هذه الإقالة أمور:
الأول: المنع من الحسرة وإستيلاء الندامة على النفس.
الثاني: إستدامة مفاهيم المودة بين الناس، وطرد النفرة وأسباب العداوة والحسد.
الثالث: زيادة المبادلات التجارية، وإجراء العقود، فلا يخشى الإنسان الندم بعد بيعه أو شرائه لسلعة وحاجة من المنقول وغير المنقول.
ووردت نصوص في إستحباب إقالة النادم منها قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(من أقال نادما أقاله الله تعالى يوم القيامة)( ).
إن إقالة النادم باب للوقاية من الربا والمعاملات الباطلة، وهو من مصاديق الرحمة والرأفة في البيع والشراء، ومن يرأف بالناس في المعاملات لا يأكل الربا الذي هو خلاف الرحمة، وأخذ للمال الربوي بتعد وظلم.
الثالث: يستحب سهولة الشراء، ويسر القضاء والإقتضاء، في الدَين ووفائه.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تبارك وتعالى يحب العبد يكون سهل البيع ، سهل الشراء ، سهل القضاء ، سهل الاقتضاء) ( ).
في السهولة في المعاملة مسائل ومنافع منها:
الأولى: نشر معاني المودة بين الناس.
الثانية: البعث على النفرة من المعاملات الربوية وأسباب الغبن.
الثالثة: المنع من الجهالة وغلبة النفس الشهوية والغضبية في الأسواق.
الرابعة: هذه السهولة حرب على الربا.
الرابع: ذكر الله في الأسواق، وفيه مسائل:
الأولى: إنه دعوة للصلاح.
الثانية: إنه مناسبة لإستحضار عالم الآخرة والرجوع الحتمي إلى الله.
الثالثة: إنه وسيلة للفوز بالرحمة واللطف الإلهي بالإبتعاد عن الحرام ومنه الربا، قال تعالى[فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ]( )، وهو من الآداب العامة في الأسواق.
الرابعة: إنه برزخ دون مقدمات المعاملة الربوية لعدم إجتماع الضدين.
الخامسة: ذكر الله يطرد نية أكل المال الحرام والمعاملة الفاسدة.
السادسة: ذكر الله مناسبة كريمة للتفقه في الدين، ومعرفة أحكام الحلال والحرام.
صلة قوله تعالى[وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: يحتمل إجتناب الربا وجهين:
الأول: إنه أمر وجودي، يحتاج إلى قصد وعزم.
الثاني:إنه أمر عدمي لا يستلزم النية والقصد.
والصحيح هو الأول، لذا جاءت آية البحث بالنهي عن أكل الربا والذي يدل على لزوم الإمتناع عن العقود الربوية التي هي علة وسبب لأكل المال.
وإن تم العقد هل من تدارك، الجواب نعم، قال تعالى[فَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]( )، ليكون من إعجاز آية البحث وجوه:
الأول: إمكان التدارك بعد إجراء العقد.
الثاني: بيان حقيقة وهي أن الربا ظلم.
الثالث: الحث على إعادة الزيادة الربوية.
الرابع: مجيء النهي في الآية بخصوص أكل الربا أي قبضه وحيازته، ودخوله في الملكية.
الثانية: لما كان الإنزجار عن الربا يستلزم النية والقصد، فان الله عز وجل حث المسلمين على التوكل عليه، واللجوء إليه للإحتراز من النفس الشهوية ومن إقتناء المال ظلماً للنفس والغير.
فإن قلت سلّمنا بأن أكل الربا ظلم للذي يؤخذ منه، فكيف يكون ظلماً لنفس آخذ الربح.
والجواب إنه معصية وتعد على الآخرين وحقوقهم، وتجاوز لحدود الله قال تعالى[وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( ).
الثالثة: في التوكل على الله عز وجل أمور:
الأول: التوكل على الله بذاته فلاح.
الثاني: يقود التوكل على الله إلى الفلاح.
الثالث: يترشح عن التوكل الفلاح.
الرابع: التوكل طريق مبارك للبقاء الدائم في نعيم الآخرة.
الخامس: في التوكل على الله مسائل:
الأولى: إنه إستحضار متصل لذكر الله.
الثانية: في التوكل على الله زجر عن إتيان الربا للقطع بأنه معصية، وأن الله عز وجل نهى عنه.
الثالثة: التوكل على الله من عمومات قوله تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
إن السكينة والرضا يملئان قلب المسلم عند تركه للمعاملة الربوية مع أنها قريبة منه، فلا يطمع فيها لأنه توكل صادقاً على الله عز وجل الذي ينهى عنها وفي هذا التوكل غنى وثروة , قال تعالى[وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] ( ).
السادس: التوكل على الله صيغة من صيغ الصبر , قال تعالى[الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ]( ) إذ يحتاج المسلم الصبر في مواطن إجراء العقود وفي الأسواق والمعاملات التجارية، والصبر سلاح للإحتراز من الربا.
لقد إختار الله عز وجل المسلمين منزلة وسنن الإيمان وتفضل بهدايتهم إلى سبل تعاهد هذه المنزلة، ومن أهمها التوكل على الله عز وجل واللجوء إليه، ومن مصاديق التوكل وجوب قراءة سورة الفاتحة في الصلاة اليومية، ومنها قوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ).
الرابعة: إن الرزق بيد الله عز وجل، قال سبحانه[يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ]( )، تفضل بأمور:
الأول: تحريم الربا مطلقاً.
الثاني: نهي المسلمين عنه.
الثالث: دعوة المسلمين إلى التقوى، والتوكل عليه سبحانه.
والتوكل باب كريم لطلب الرزق، وفيه غنى عن المنهي عنه من المعاملات الفاسدة، وجاءت خاتمتا الآيتين بأمور مباركة كل فرد منها مدرسة عقائدية تفتح منها أبواب متعددة من الفضل الإلهي وأسباب الإرتقاء وهي:
الأول: الخشية من الله وطاعته، وإجتناب معصيته للغة الأمر في قوله تعالى[وَاتَّقُوا اللَّهَ].
الثاني: السعي الحثيث للفلاح والبقاء في مراتب الإيمان، وما يترشح عنه من العز والرفعة، قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث: التوكل الإستغراقي لعموم المسلمين والمسلمات على الله عز وجل إذ جاءت آية السياق بالأمر العام[وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] وفيه مسائل:
الأولى: توكل المسلمين في أمور دينهم ودنياهم على الله كأمة متحدة.
الثانية: توكل كل مسلم على الله عز وجل في أموره الخاصة.
الثالثة: إتخاذ دولة الإسلام التوكل على الله أصلاً في منهاج العمل والصلاح.
وهل يتضمن قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( )، معنى التوكل على الله، الجواب نعم، ويتجلى في موضوع وذات الإعتصام وحكمه وأنه طاعة لله وهداية لسبل الفلاح.
الخامسة: لم تقل آية السياق (وعلى الله فليتوكل المسلمون) بل جاءت بصيغة الإيمان، وفيه إكرام للمسلمين وشهادة لهم بأنهم بلغوا مراتب الهداية والإيمان.
ليكون التوكل على الله سلاحاً ومدداً تفضل الله عز وجل به على المؤمنين شكراً حالّاً لهم على الإيمان، وليس من حصر لمصاديق التوكل على الله، فيشمل أموراً:
الأول: إتخاذ التوكل وسيلة لتعاهد الإيمان.
الثاني: التوكل على الله بلغة لتحقيق الغايات الحميدة.
الثالث: إنه واقية من إرادة المنكر، وحينما نهى الله عز وجل المسلمين عن أكل الربا فانه سبحانه أمرهم بالتوكل عليه لما في التوكل من الرزق الكريم المتصل.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار وهي عالم للأوامر والنواهي، وإجتمع في الآيتين أمور:
الأول: التوكل على الله.
الثاني: الأمر بتقوى الله , ليقع النهي عن الربا بين التوكل والتقوى، ومصاحباً لهما ومترشحاً عنهما.
وكل فرد منهما حصن مانع من ولوج المعاصي، وسلاح للعصمة من الربا قال تعالى[وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
وكل من التوكل على الله والتقوى والمنع من الربا رحمة متجددة خصّ الله عز وجل المسلمين والمسلمات، وجعلهم يرتقون بها إلى منزلة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الشعبة السادسة: صلة الآية[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) .
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت آية السياق بحرف العطف الواو، وإبتدأت آية البحث بحرف النداء (يا) في النداء التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
ترى ما هي الصلة بينهما، الجواب: يفيد حرف العطف إتصال موضوع الآية بما سبقها وفيه توكيد ومصداق عملي لولاية الله للمؤمنين.
فمن مصاديق الولاية في الآية السابقة صرف الوهن والضعف والجبن عن طائفتين من المؤمنين همتا به يوم أحد .
أما في آية السياق فتتجلى ولاية الله للمسلمين بأبهى صورها في تأريخ الخلق والإنسانية بنصر المسلمين في معركة بدر مع ضعفهم وقلة مؤونتهم.
أما في آية البحث فان الولاية تظهر في نهي المسلمين عن الربا والمعاملات الباطلة، بصيغة النداء، وكأن هذه الصيغة إستمرار للعطف وفيها بيان وتعدد لفضل الله عز وجل على المسلمين في ميادين الحرب وحال المسلم، وفي المعاملات والأسواق.
وتحتمل الصلة والتأثير وجوهاً:
الأول: النصر في معركة بدر عون للمسلمين للتقيد بأحكام البيع، وإجتناب الربا.
الثاني: إجتناب الربا مقدمة ووسيلة للنصر في معارك القتال.
الثالث: كل من النصر وإجتناب الربا يؤثر بالآخر ويكون مقدمة له.
الرابع: تنمية ملكة الصبر عند المسلمين، قال تعالى[إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
والصحيح هو الثالث، وتلك آية في الفضل والمدد الإلهي للمسلمين وهو من مصاديق التخفيف عنهم في صيغ الإمتثال ومعاني الصبر مطلقاً سواء في ميادين القتال أو في الأسواق حيث يميل الإنسان للكسب السريع والكثير.
وقد يغفل عن القيود والضوابط الشرعية والأخلاقية التي تحكم صيغ المعاملة وعقود البيع والشراء ونحوها.
فجاءت آية البحث لتكون برزخاً دون الظلم والتعدي في المعاملة وأخذ أموال الناس.
الثانية:تقدير الجمع بين الآيتين:يا أيها الذين آمنوا لقد نصركم الله ببدر) وفيه دلالة على إقتران ومصاحبة النصر للمؤمنين، وتبعيته للإيمان.
ويحتمل النصر يوم بدر من جهة الإتساع والضيق وجوهاً:
الأول: إختصاصه بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الذين خرجوا إلى معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة.
الثاني: شموله للصحابة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا في المدينة المنورة يومئذ.
الثالث: جميع الصحابة إلى حين مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
الرابع: شمول منافع النصر المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
والصحيح هو الرابع لوجوه:
الأول: أصالة الإطلاق.
الثاني: تجدد منافع النصر يوم بدر في كل زمان، لينهل منها المسلمون والمسلمات.
الثالث: النصر يوم بدر من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بتقريب أن إنتفاع المسلمين من النصر يوم بدر متجدد في كل زمان
ومن الآيات أن كل جيل من المسلمين يدرك أن هذا النصر لهم، ولذراريهم مثلما هو لآبائهم من المسلمين.
الثالث: إذا أنعم الله عز وجل بنعمة فانه أكرم من أن يرفعها، فتبقى النعمة دائمة ومتجددة.
الرابع: يتلو المسلم والمسلمة هذه الآية في كل زمان، وكأنها خطاب له ووعد كريم بالنصر.
الخامس: ينهل المسلمون من بركات ومنافع هذه الآية في كل زمان.
الثالثة: لقد آمن المسلمون بالله وصدّقوا برسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاءهم النصر في معركة بدر.
وليس من مدة مديدة بين الإيمان والنصر يوم بدر، ولم تتهيأ أسباب ومقدمات النصر، ليكون وقوع النصر يوم بدر معجزة وفضلاً وشكراً من الله للمسلمين الذين آمنوا به وبرسوله من بين أهل الأرض جميعاً.
الرابعة: جاء النصر في معركة بدر على وجوه:
الأول: إنه بشارة وشاهد على إستدامة العون واللطف الإلهي بالمسلمين.
الثاني: فيه حث للمسلمين على التقيد بسنن التقوى.
الثالث: النصر دعوة عملية لإتخاذ الصبر آلة ورداء في العبادات والمعاملات.
الرابع: بعث المسلمين للشكر لله بالعصمة من الربا، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ]( ).
والذكر في المقام أعم من القولي، فيتجلى في عالم الفعل بالإمتثال للأوامر، والنواهي، ومنها الإمتناع عن أكل الربا.
الخامسة: بيان فضل الله عز وجل على المسلمين، وأنه سبحانه هو القوي العزيز الذين بيده النصر، قال تعالى [وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ] ( ).
الصلة بين(وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ) ، وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: لقد نصر الله عز وجل المسلمين في معركة بدر، وحثهم على التقوى والصلاح، وجاءت آية البحث لبيان حاجة المسلمين إلى التقوى في المعاملات.
الثانية: من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، التنزه عن الغرور والطغيان بعد النصر والغلبة على الأعداء، والدليل على هذا التنزه أمور:
الأول: الإمتناع عن ظلم النفس والغير بموضوع الديون والمعاملات التجارية.
الثاني: إجتناب المسلمين أكل المال بالباطل.
الثالث: سعي المسلمين للرزق الحلال.
وكما جاء ذكر النصر في معركة بدر صريحاً وجلياً، فان النهي عن الربا جاء نصاً لا يقبل تعدد التأويل.
ومن خصائص(خير أمة) نزول الكتاب عليها بالبيان الذي يتضمن التأديب والهداية والإرشاد، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثالثة: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: ولقد نصركم الله ببدر لا تأكلوا الربا).
ليكون عدم أكل الربا شكراً لله، وعلى وجوه:
الأول: شكر الله عز وجل على نعمة النصر.
الثاني: النصر شاهد على أهلية المسلمين للنصر والغلبة، والإنتفاع الأمثل من النصر الإلهي، خصوصاً وأن النصر جاء بآية ومدد من الله، وليس بجهد وسعي من المسلمين على نحو الحصر والتعيين.
الثاني: ولقد نصركم الله ببدر واتقوا الله) لتكون التقوى والخشية من الله سبيلاً لتعاهد النصر، وجني ثماره العقائدية في باب العبادات والمعاملات.
ومن فضل الله عز وجل على المسلمين أن ينصرهم الله في ميادين القتال، ويأمرهم بذات الوقت بالتقوى والخشية منه تعالى لأن التقوى على وجوه منها:
الأول: إنها واقية من إستحواذ النفس الشهوية والغضبية.
الثاني: إنها سلاح ذاتي لبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار.
الثالث: التقوى وسيلة للفوز بالمدد والعون من الله، قال سبحانه[فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الرابع: بالتقوى تستديم نعمة النصر، وما يترشح عنها من الفيض.
ومن التقوى إجتناب الربا طاعة لله عز وجل.
الخامس: التقوى شكر متصل لله عز وجل على نعمة النصر.
الثالث: ولقد نصركم الله ببدر لعلكم تفلحون) .
من فضل الله عز وجل على المسلمين تذكيرهم بأن النصر بيده وأن نصرهم ببدر كان من عنده سبحانه.
الصلة بين يوم بدر وحرمة الربا
لذا يفيد الجمع بين أول آية السياق وخاتمة آية البحث أموراً:
الأول: البشارة بتجدد أسباب الفلاح.
الثاني: دعوة المسلمين للإنتفاع الأمثل من النصر يوم بدر.
الثالث: السعي لسبل الفلاح من مصاديق الشكر لله عز وجل.
الرابع: في النصر يوم بدر أمور:
الأول: إنه مقدمة لبلوغ المسلمين مرتبة الفلاح.
الثاني: إنه بلغة في أمور الدين والدنيا.
الثالث: بنصر المسلمين يوم بدر رزخ دون إتيان المعاصي، لذا أختتمت آية السياق بقوله تعالى(لعلكم تشكرون) وجاءت هذه الخاتمة بعد إخبار الآية عن نصر المؤمنين يوم بدر.
الرابع: زيادة إيمان المسلمين لأنه شاهد على أن الأمور وخواتيمها بيد الله عز وجل وأنه سبحانه أدّخر النصر للمسلمين , قال تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
مسائل في الجمع بين الآيتين
الأولى : يفيد الجمع بين الآيتين توكيد التضاد والتباين بين نصر الله وبين أكل الربا لأن نصر الله جاء بصفة الإيمان والتسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أما أكل الربا فهو ظلم للنفس والغير.
فأراد الله عز وجل لثمرات ومنافع نصر المسلمين يوم بدر البقاء والإستمرار إلى يوم القيامة، وهو من الشواهد على أهلية المسلمين لمنزلة[خَيْرَ أُمَّةٍ]( )، وبقائهم بهذه المنزلة إلى يوم القيامة.
وهو من الدلائل على سعي المسلمين في سبل الفلاح التي أرادها الله عز وجل لهم وشرّفهم معها بالنهي عن أكل الربا، لأمور:
الأول: الربا برزخ دون الفلاح.
الثاني: الربا عنوان للظلم ويترشح عنه الظلم.
الثالث: التباين والتنافي بين النصر الإلهي وبين أكل الربا.
الرابع: ملازمة الفلاح للنصر الإلهي للمسلمين الذين تجلى يوم بدر.
الثانية: جاءت آية السياق وثيقة لبيان معرفة حال المسلمين يوم معركة بدر، وأنهم كانوا أذلة مستضعفين، بينما تضمنت آية البحث نهيهم عن أكل الربا، وزجرهم عن الظلم والتعدي، ويحتمل وجوهاً:
الأول: آية البحث بشرى للمسلمين للنجاة من حال الإستضعاف.
الثاني: إستدامة حال الضعف ومجيء النصر معه، وعدم التضاد بين الضعف والنصر لأن النصر من الله، وكذا السعة في المال.
الثالث:يدل النهي عن الربا على زوال حال الإستضعاف والعوز عن المسلمين، وأنهم يصبحون قادرين على الإقراض وإجراء العقود التجارية.
والصحيح هو الأول والثالث فان النهي عن الربا بشارة كثرة الأموال، والمعاملات التجارية بين المسلمين أنفسهم، ومع غيرهم، وفي دعاء إبراهيم للمسلمين ورد في التنزيل[رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ] ( ).
الثالثة: تكون النسبة بين المسلمين والكفار بعد معركة بدر على وجوه:
الأول: صيرورة المسلمين أقوياء، وبقاء الكفار أقوياء أيضاً.
الثاني: صيرورة الكفار ضعفاء، وبقاء المسلمين على حال الضعف والذل التي ذكرتها آية بدر بقوله تعالى(وأنتم أذلة).
الثالث: تغير حال المسلمين من الضعف إلى القوة، وتغير حال الكفار من القوة إلى الضعف والعجز عن مقاتلة المسلمين.
الرابع: كل من المسلمين والكفار في حال من الضعف، أي أن معركة بدر ونصر المسلمين فيها جعل الكفار ضعفاء، بينما يبقى المسلمون على حالهم.
والصحيح هو الثالث لترشح العذاب للكفار عن قتالهم للمسلمين، قال تعالى[قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ] ( )، والضعف من مصاديق العذاب، ونتيجة له، لتكون أسباب وماهية ضعف الكفار متعددة، وتلك معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
الأول: تهيئة مقدمات وأسباب نصر المسلمين وعلو كعب المسلمين.
الثاني: إزاحة الموانع التي تحول دون دخول الناس في الإسلام.
الثالث: جعل الكفار يدركون طوعاً وقهراً قبح التعدي على الإسلام ولزوم إجتنابه.
إن نصر المسلمين باعث للعمل بالأوامر والنواهي الإلهية، وموضوع ووعاء للإستقرار والتفقه في الدين في مأمن من الكفار الذين أصابهم الضرر من وجوه:
الأول: الإنهاك والضجر من الحروب , قال تعالى في حث المؤمنين على جهاد وطلب الكفار[فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ]( ).
الثاني: هلاك عدد من رؤسائهم وكبرائهم.
الثالث: دخول فريق منهم الإسلام.
الرابعة: نصر المسلمين يوم بدر فلاح بذاته وهو مقدمة وطريق للفلاح من وجوه:
الأول: النصر مناسبة لإنتشار الإسلام، ودخول الناس فيه، وهو من أهم مصاديق الفلاح، بلحاظ أن كثرة المسلمين وإتساع دولتهم بقاء وطريق للبقاء، ومواجهة الكفار.
الثاني: خروج المسلمين من المعركة سالمين، وعدم إبادتهم أو وقوعهم بالأسر فلاح وبقاء ونجاح.
ومن الآيات أن المسلمين ظهروا منتصرين من معارك الإسلام الأولى، بينما أصيب الكفار بهلاك طائفة منهم، لقوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
الثالث: النصر في معركة بدر دليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه جاء عن معجزة ومدد ملكوتي للمسلمين.
الرابع: إنه مقدمة ومناسبة لأداء الفرائض والوظائف العبادية بأمن وطمأنينة كما أن أداء الفرائض ذاته سكينة وأمن.
صلة قوله تعالى(فاتقوا الله) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله.
الثاني : فاتقوا الله فلا تأكلوا الربا.
الثالث : لا تأكلوا الربا فاتقوا الله.
الرابع : فاتقوا الله لعلكم تفلحون.
الثانية : بين الإسلام والتقوى عموم وخصوص مطلق، فكل متق هو مسلم، قال تعالى[قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]( )، ليكون الإيمان والتقوى أعلى مرتبة من الإسلام.
ولا تدل الآية أعلاه على بقاء الأعراب بذات المرتبة من التخلف عن الإيمان، بل جاءت الآية لأمور:
الأول : بيان حال الأعراب في مراتب الإسلام.
الثاني : بعث الأعراب وغيرهم من المسلمين على بذل الوسع لبلوغ مراتب التقوى.
الثالث : توكيد حقيقة وهي عدم الإكتفاء بالنطق بالشهادتين، فلابد من إمتلاء النفس بالإيمان.
الرابع : حث المؤمنين جميعاً على إعانة إخوانهم من المسلمين للإرتقاء في سلم الإيمان والتقوى، وهو من عمومات قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
الخامس : دعوة المسلمين للتفقه في الدين، ومعرفة أحكام الحلال والحرام.
السادس : دعوة المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسارعة في الخيرات بنية القربة إلى الله، وإجتناب المعاصي والسيئات.
السابع : بيان فضل الله على المسلمين عامة والأعراب خاصة في مسالك الإيمان .
الثالثة : التقوى ملكة نفسانية تمنع من إرتكاب الفواحش، وتكرار الفعل السيء، لذا جاء النهي عن المضاعفة في مال الربا، لأن في كل فرد منه حرمة مستقلة تكون ملكة التقوى زاجرة عنها.
الرابعة : جاءت الآيتان بالأمر بتقوى الله عز وجل، ففي كل آية منهما ورد قوله تعالى[اتَّقُوا اللَّهَ] وفيه توكيد لموضوعية التقوى والصلاح.
الخامسة : التقوى طريق للفلاح والبقاء، وسبب لبلوغ المراتب العالية.
السادسة : تجلي صبغة التقوى على أفعال المسلمين دعوة للناس لدخول الإسلام، وإمتناعهم عن الأرباح الطائلة من الربا طاعة لله عز وجل شاهد على خشيتهم منه سبحانه، وإخبار عملي للناس بأن الدنيا مزرعة للآخرة، ولابد من يوم يقف الناس فيه بين يدي الله للحساب، الأمر الذي يجعلهم يتدبرون في ماهية الحياة الدنيا، قال تعالى[وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ] ( ) , والحيوان مصدر حيى.
لتوكيد أن الآخرة هي الحياة الدائمة التي ليس فيها موت ولا فناء , فمن يدخل الجنة يكون خالداً في النعيم , ومن يدخل النار يكون في عذاب دائم.
قانون التصديق بكل التنزيل
من الآيات في عالم الموحدين في الأرض أن المسلمين يصدّقون بما عند أهل الكتاب من التوراة والإنجيل، ولكن أهل الكتاب لا يصدّقون بما نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو القرآن الذي قال فيه الله عز وجل[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ]( ).
وهذه الحال قد لا تستمر مع تداخل الإمصار وتقارب الحضارات، وإنكشاف المبادئ والأحكام للناس جميعاً وعدم إنحصار ما يتلقونه بكتب خاصة وبرؤسائهم .
ليتجلى على نحو متجدد إعجاز القرآن والبراهين التي تدل على صدق نزوله من الله، وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله قال تعالى[وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ]( )، سواء يعود الضمير (الهاء) في الآية أعلاه للقرآن أو نسخ القبلة بأمر من الله عز وجل بحسب الآية التي قبلها.
الثالثة:جاء القرآن بحرمة الربا بصيغة النص الذي لا يحتمل تعدد التأويل، وفيه وجوه:
الأول: إنه دليل على البيان والوضوح في آيات الأحكام وهو من التخفيف والتيسير فيها وقاعدة نفي الحرج في الدين.
الثاني: خلو حكم النهي عن الربان، وهو من إعجاز القرآن والشواهد على صدق نزوله من الله عز وجل.
الثالث: في الآية حجة على الناس، وهو من مصاديق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً، والحكم في الآية ظاهر وبيّن وإن ترجمت إلى اللغات المختلفة، فلا يدخل الترديد ولا يحصل الغرر أو الجهالة في قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
فلا تحتمل آية البحث الكراهة في الربا أو الإباحة في حالات مخصوصة وإستثناء من الحكم الكلي بالحرمة، وتلك آية في البيان القرآني وأن كل آية منه مدرسة عقائدية قائمة بذاتها.
ومن الإعجاز في المقام مجيء آيات أخرى بذات الصيغة من الحرمة في نفس الموضوع منها قوله تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ).
صلة قوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: يا أيها الذين آمنوا لعلكم تفلحون) بلحاظ أن الإيمان طريق للفلاح، وسبيل للنجاة.
الثاني: لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة لعلكم تشكرون).
الثالث: واتقوا الله لعلكم تشكرون).
الرابع: لا تأكلوا الربا لعلكم تشكرون لعلكم تفلحون).
الثانية:يفيد الجمع بين الآيتين بعث المسلمين على الشكر لله عز وجل من وجوه:
الأول: نعمة الإسلام وإتيان الفرائض والواجبات.
الثاني: توجه الخطاب الإلهي للمسلمين بصبغة الإيمان.
الثالث: تفضل الله عز وجل بزجر المسلمين عن الربا وأكل المال بالباطل، أي أن آية البحث نعمة عظيمة، وإدراك هذه الحقيقة باعث للمسلمين بالمناجاة والتواصي بينهم بالإمتناع عن الربا وأكله، قال تعالى[ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ]( ).
الرابع: الأمر الإلهي إلى المسلمين بتقوى الله والخشية منه في السر والعلانية.
الخامس: تكرار الأمر الإلهي إلى المسلمين بتقوى الله، وفيه توكيد لموضوعية التقوى ولزوم طرد الغفلة والجهالة.
الخامس: مجئ الأمر بتقوى الله متعقباً للنهي عن الربا، وذات الإمتناع عن أكل الربا من تقوى الله، وكأن الآية من عطف العام على الخاص.
السادس: حث المسلمين على بلوغ مراتب الفلاح والبقاء بتقوى الله والإمتناع عن الربا.
الثالثة: مما ثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب، وليس من حصر لنعم الله عز وجل كماً وكيفاً على الفرد والجماعة والأمة.
ويفيد الجمع بين الآيتين الفناء في مرضاة الله شكراً له سبحانه ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
الرابعة: من الشكر لله عز وجل على النعم مطلقاً، وعلى آية البحث أن المسلمين منزهون عن أكل المال بالباطل.
وتتعدد منافع وآثار هذا التنزه على حياة المسلمين في الميادين المختلفة، ويكون مقدمة للدعاء والتوجه إلى الله عز وجل بسلامة وعافية من الآفات التي يتركها أكل المال والحرام على البدن , وفي عالم الفعل.
قانون السنة النبوية منهاج وضياء
لقد جُبلت أجيال المسلمين المتعاقبة على إمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الحياة كلها، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
ومن الآيات في السنة النبوية حضورها في باب العبادات والمعاملات والأحكام، لتكون نبراساً يضيء دروب الحسن والبهاء في الأخلاق وأفعال السلوك بما يكون سبباً لنيل الثواب العظيم. ( )
ويحتمل الإمتناع عن الربا أموراً:
الأول: إنه معاملة وعقد بين طرفين ولا صلة له بعلم الأخلاق.
الثاني: إجتناب الربا خلق حميد، وملكة أخلاقية تبعث الثناء على صاحبها.
الثالث: إنما الأمر يتعلق بعقد الربا وهل هو مناف للأخلاق الحميدة أم لا بلحاظ أنه فعل وأمر وجودي أقوى في ظهوره.
والصحيح هو الثاني ولا يتعارض مع الثالث، فإن إجتناب الربا قهر للنفس الشهوية والغضبية، وصد للذات من التصرف في مال الآخرين، ومنع من الجري واللهث في طريق تجاري فاسد ينهى عنه الشارع.
وهناك ملازمة بين أمر الشارع والحسن، وبين نهي الشارع والقبح وهي لا تمنع من البحث والتحقيق في مصاديقها موضوعاً وحكماً، وفي هذا التحقيق مسائل:
الأولى: إنه مدرسة أخلاقية إضافية.
الثانية: فيه توكيد للإعجاز في أحكام الشريعة الإسلامية.
الثالثة: إنه مادة للجدال والإحتجاج، وإبطال شبهات الكفار والذين[قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا]( ).
الرابعة: فيه إرتقاء في منازل الصلاح والتقوى.
الخامسة: هذا التحقيق مناسبة للتفقه في الدين، ومعرفة الرفعة والسمو الأخلاقي الذي يتصف به الإسلام.
السادسة: إنه وسيلة لترغيب الناس بدخول الإسلام.
لقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ الرسالة ، وتثبيت سنن الهداية والأخلاق السامية في المجتمعات ، وفي قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، دعوة للمسلمين للتحلي بالأخلاق الحميدة ، ونبذ الإرهاب ، وإنكار واستهجان التفجيرات العشوائية ، وسيأتي مزيد كلام في الجزء الحادي عشر بعد المائتين من هذا السٍفر إن شاء الله .
قانون عمارة الأسواق بحسن المعاملة
تتجلى موضوعية إجتناب الربا في عالم الأخلاق بحاجة الأسواق إلى تقويم السلوك، والإمتناع عن أكل المال الحرام.
إن الآفات التي تصيب المجتمع والأفراد وحركة الأسواق بسبب إنغماسهم في المعاملات الربوية شاهد على سلامة نهج التنزه عن الربا.
ومن الآيات في إمتناع المسلمين عن الربا أنه وسيلة لإطمئنان القلوب، وإمتلاء النفوس بالسكينة والرضا، فهناك أمران متضادان:
الأول : طاعة الله وإجتناب الربا.
الثاني : معصية الله وأكل الأموال الربوية أضعافاً مضاعفة.
ويدور رضا وسكينة نفس المسلم مع طاعة الله ويلازمها على نحو الوجوب الإمتناع عن الربا.
ليأتي الرزق الكريم بسبب الطاعة فيفوز المؤمن بالرضا والسكينة على نحو مركب ومتعدد، وهو من عمومات قوله تعالى[فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
بتقريب أن النهي عن الربا علة للسكينة ورشحة من رشحاتها لأن ترك الأضعاف المضاعفة من أموال الربا طاعة لله قرار يحتاج إلى سكينة ورضا بأمر الله عز وجل، فتفضل الله وجعل السكينة مستقرة في نفوس أجيال المسلمين وواقية من الربا والمال الحرام.
ومن الآيات في الفضل الإلهي أن السكينة التي أنعم الله بها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين توليدية متوارثة.
لتكون السكينة في المقام على وجوه:
الأول : من رشحات السكينة التي فاز بها المسلمون في ميادين القتال.
الثاني : التنزه عن الربا ذاته سكينة.
الثالث : تترشح السكينة عن التنزه عن الربا، قال تعالى[فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا]( ).
الشعبة السابعة: صلة الآية[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ) بهذه الآية.
وفيها مسائل :
الأولى : جاءت الآية أعلاه بلغة الخطاب وهي على قسمين:
الأول : آية السياق خطاب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين في ميدان معركة أحد.
الثاني : قول وإخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه وتضمنه البشارة العظمى .
وجاءت آية البحث خطاباً من الله عز وجل للذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : بين بدايتي الآيتين عموم وخصوص مطلق، إذ جاء خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين في معركة أحد، أما آية البحث فتضمنت نهي أجيال المسلمين عن الربا وإلى يوم القيامة، نعم جاء المدد يوم أحد ليكون عوناً لأجيال المسلمين.
الثالثة : حث المسلمين على الشكر لله على نعمة المدد الملكوتي بإجتناب الربا، وأكل المال بالباطل.
الرابعة : لقد وصفت آية السياق المسلمين بصفة الإيمان، ومن خصائص المؤمنين بلحاظ آية البحث أمور:
الأول : تلقي الأوامر والنواهي من الله عز وجل.
الثاني : الإمتناع عن أكل الربا طاعة لله عز وجل.
الثالث : إتصاف المؤمنين بالتقوى والخشية من الله عز وجل، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا]( ).
وبلحاظ الآية أعلاه فان إجتناب الربا لا ينقص من رزق المسلمين، وما كتب الله عز وجل لهم من النماء في المال بدلالة ذات آية البحث بالدلالة التضمنية إذ تخبر عن أمور:
الأول : بشارة كثرة أموال المسلمين.
الثاني : قيام المسلمين بالإقراض والسلف وتوظيفهم وإستثمارهم الأموال في الأمور التجارية والصناعية.
فأراد الله عز وجل تنزه المسلمين عن هذه المعاملات من الربا لتكون الأرض دار الأمن في باب المعاملات.
الثالث : من تقوى الله إجتناب الربا، ليفوز المسلمون بأحكام وسنن اليسر والتسهيل في أمور الدين والدنيا، لذا جاء الأمر لهم جميعاً بتقوى الله بعد النهي عن أكل الربا.
وتقدير الجمع بين آية البحث والآية أعلاه (لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله، يجعل لكم من أمركم يسراً).
الخامسة : توكيد تعدد مصاديق فضل الله على المسلمين بأن يمدهم في سوح المعارك بالملائكة، ويهديهم في المعاملات إلى إجتناب الربا وأكل المال بالباطل.
السادسة : القتال أمر طارئ وحدث عرضي غير مستقر وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقاتل دفاعاً واضطراراً إذ أن المشركين هم الغزاة( )، يأتي مرة أو مرات، لتبقى أغلب أيام المسلمين والناس في حال السلم والإستقرار، وتلك آية من خصائص الحياة الدنيا، وعمومات قوله تعالى[فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( )، ومن مصاديق آيات الرحمة الإلهية والتخفيف عن الناس، وجعلهم يتدبرون في الخلق ولزوم عبادة الله.
وليس من حصر لرحمة الله في الدنيا، ومنها قلة أيام الحروب والقتال فيها، ونفرة الناس من القتال، وإستمراره، لذا قيل أن أول الحرب نجوى، واوسطها شكوى، وآخرها بلوى) إلا دفاع النبي والمؤمنين عن الإسلام والجهاد في سبيل الله ففيه أمور :
الأول : إنه عز وفخر للمؤمنين وذراريهم وفيه إمتثال لأمر الله قال سبحانه[وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ] ( ).
الثاني : الجهاد سبيل للثواب العظيم.
الثالث : إنه سلاح لتثبيت أحكام الشريعة في الأرض , ومنها حرمة الربا قال تعالى[وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ]( ).
قانون نزول الملائكة رحمة عامة
من رحمة الله تعالى نهي المسلمين عن الربا، وهذا النهي شامل لأيام الحرب والسلم، وحكم كلي يتغشى حال الحضر والسفر، والغنى والفقر، وسيأتي الكلام بأن الربا محرم حتى في حال الإضطرار ، وفي نزول الملائكة مدداً وعوناً للمسلمين رحمة من جهات :
الأولى : نزول الملائكة آية حسية وعقلية حاضرة في الوجود الذهني والواقع العملي.
وصحيح أنه مدد للمؤمنين في معركة أحد إلا أنه لا يتعارض مع كونه مدداً للمسلمين في المعاملات بإعانتهم على التقيد بالأوامر والنواهي والتحلي بالتقوى في الأسواق وإجراء صيغ العقود بشكر المسلمين لله عز وجل على نعمة المدد في القتال بالتقيد بالنهي عن الربا.
الثانية : لقد أنزل الله عز وجل ثلاثة آلاف من الملائكة لنصرة المسلمين يوم أحد ، ليفوزوا بالنصر والغلبة، والأمن من مكر وتعدي الكفار وأنزل عليهم آية (الربا) ليفوزوا بالسلامة من أكل المال بالربا وما يلحق به من الإثم.
ولم يكن المسلمون يعلمون أنه سحت وجمع للمال بغير حق إلا بنزول آية البحث والآيات المشابهة التي تحرمه ، والسنة النبوية.
ليرتقي المسلمون في مراتب الفقاهة والعلم، ويتعاهدوا السمو الأخلاقي بلحاظ إتخاذ التنزيل واقية من الظلم والتعدي وهل تنزه المسلمين من الربا من عمومات قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
الجواب نعم، لأن ترك جمع الأموال بالباطل من الأخلاق الحميدة، والسنن الرشيدة، وإشاعة للعدل ومفاهيم التعاون بالإقراض من غير فرض زيادة ربوية، وقد جاءت نصوص عديدة باستحباب الدين والقرض نتعرض لها في الجزء التالي إن شاء الله .
الثالثة : إبتدأت آية السياق بموضوع بشارة سماوية للمسلمين في ميادين القتال، جرت على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أما آية البحث فجاءت بخطاب للمسلمين بلغة التكليف في باب المعاملات والعقود، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
ومن خصائص (خير أمة) وهم المسلمون التسليم بأن كل آية من القرآن رحمة وخير محض، ويترشح عنها الخير ومنه التكليف.
الرابعة : يفيد الجمع بين الآيتين تعدد أسباب وميادين الفلاح والتوفيق التي يفوز بها المسلمون، ومنها سوح المعارك إذ يتجلى الفلاح بأبهى كيفية وحال شهدها تأريخ الإنسانية بنزول الملائكة للنصرة.
ومنها باب المعاملات إذ يجتنب المسلمون الربا مع أنه مورد للكسب السريع الذي ليس فيه تعب أو عناء، وباب لربح مضمون.
فقد يخاف بعض أرباب الأموال من الخوض في تجارات وصناعات تحتمل الكساد والخسارة، فيكون الربا باب أمن لهم من هذا الإحتمال المفزع.
فجاءت آية البحث مدداً سماوياً من التنزيل لتكشف بأن الربا ليس أمناً بل هو معاملة باطلة تجلب البلاء والعذاب، وأن تركه باب للفلاح والبقاء، والذي يخاف الكساد إنما يريد البقاء وديمومة أمواله والفلاح، والربا ضد له.
فأشارت الآية إلى أن الفلاح بترك الربا يتضمن التوكيد بأن الربا ليس أمراً مربحاً، وليس فيه فلاح وبقاء، وإنما أراد الله عز وجل للمسلمين البقاء والفلاح .
لقد نصر الله عز وجل المسلمين في ميادين القتال بالمدد الملكوتي كي يدخل الناس الإسلام.
وجاءت آية (حرمة الربا) لدخول الناس الإسلام، وإدراكهم لحقيقة وهي أن الإسلام دين العدالة والإنصاف والرحمة، وأن الله لا يرضى للمسلمين أكل المال بالربا.
وفيه توكيد بأنهم[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وأن الذي يدخل الإسلام يفوز بالفلاح والبقاء هو وذريته بالتنزه عن الربا وأكل المال بالباطل , ومن مصاديق خروجهم للناس هدايتهم لسبل الفلاح , ومنه التنزه عن الربا .
الخامسة : هل يجوز القول بالجمع بين الآيتين بصيغة ( إذ تقول للمؤمنين لاتأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة) الجواب إن النهي عن الربا أمر من الله عز وجل جاء خطاباً مباشراً للمسلمين، وحكماً نافذاً من ساعة نزوله، وهو لا يتعارض مع أمور:
الأول : نهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين عن الربا.
الثاني : تحذير المسلمين من الربا.
الثالث : إبطال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكل ربح مترتب على ربا سابق لنزول الآية، ويدل هذا الإبطال في مفهومه على فساد وحرمة الربح الربوي وإلى يوم القيامة , (حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة) ( ).
الشعبة الثامنة: صلة آية[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا] ( )، بهذه الآية
وفيها وجوه:
الأول : تقدير الجمع بين الآيتين على شعب:
الأولى : يا أيها الذين آمنوا إن تصبروا وتتقوا.
الثانية : بلى أن تصبروا وتتقوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة).
وقد يرد على هذا الجمع أن النهي عن الربا مطلق غير مقيد بشرط إذ تدل على الشرط أداة الشرط(إن).
والجواب يأتي الشرط في طول النهي عن الربا بلحاظ أن الصبر مقدمة للإمتناع عن الربا، وذات الإمتناع عنه صبر وتقوى ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
الثالثة : ان تصبروا وتتقوا لعلكم تفلحون).
الثاني : تتجلى في الجمع بين الآيتين حاجة المؤمن للصبر والتقوى، وأن أبواباً من المعرفة وسبلاً للهداية تفتح مع التحلي بهما.
ومن مصاديق الحاجة إلى الصبر والتقوى أمور:
الأول : إتخاذهما مقدمة للإمتناع عن الربا.
الثاني : ذات الإمتناع عن الربا صبر وتقوى.
الثالث : ملكة الإمتناع عن الربا وأكل المال بالباطل.
فإن قلت هناك تشابه بين هذا الأمر والأمر الثاني أعلاه.
والجواب لا ، وبينهما عموم وخصوص مطلق، والأمر الثاني أعلاه يأتي على نحو قضية عين، وما يفيد الحاجة إلى الصبر والتقوى في واقعة مخصوصة، أما ملكة الصبر والتقوى فهي حرز وواقية.
الرابع : إجتناب الربا طريق إلى الصبر والتقوى، لذا فمن إعجاز آية البحث مجيء الأمر بالتقوى في الآية بعد النهي عن أكل الربا.
الرابعة : يؤدي السعي للكسب الحلال، وإختيار البيع في المعاملات دون الربح الزائد إلى الفلاح والبقاء، لذا فان النهي عن الربا نعمة تفضل الله عز وجل بها على المسلمين، يجب عليهم تعاهدها وحفظها.
ويبدأ هذا التعاهد بصيغة الأمر الذي جاءت به الآية الكريمة، وإفادته الوجوب واللزوم ، وحاجة المسلمين للصبر والتقوى للتقيد بهذا الوجوب.
الخامسة : لقد أدرك المسلمون منافع الصبر والتقوى في سوح المعارك، ونزول المدد الملكوتي لإعانتهم ونصرهم ثم جاءت آية البحث لتؤكد أن الحاجة لهما لا تنحصر بميدان القتال، بل هي مستمرة ومتصلة، وجاءت آية البحث لبيان موضوع معاملاتي يستلزم الصبر والتقوى.
السادسة : لقد نزل الملائكة لنصرة المسلمين في ميادين القتال، فهل ينزلون لإعانتهم في ترك الربا.
الجواب لا، ولكن المدد الإلهي للمسلمين حاضر ومتصل وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ومنه آية البحث وما يصاحب فيها النهي عن الربا من العون والمدد، وهو على وجوه:
الأول : الخطاب التشريفي للمسلمين بصفة الإيمان، وما يدل عليه بالدلالة التضمنية من إكرام المسلمين، والشهادة لهم بالإيمان.
الثاني : بيان قدرة المسلمين على الإعراض عن الأرباح الكثيرة من الربا تنزهاً، وإمتثالاً للأمر الإلهي.
الثالث : توجه الأمر للمسلمين بالخشية من الله عز وجل.
الرابع : البشارة برجاء الفلاح للمسلمين عامة.
السابعة : تكرر الأمر للمسلمين بالتقوى إذ ورد ذكر التقوى في كل من الآيتين وفيه توكيد لحاجة المسلمين للتقوى والخشية من الله عز وجل، وإذا كان للصبر والتقوى في ميادين القتال موضوعية، فهل للإمتناع عن الربا طاعة لله وخشية منه تعالى موضوعية في سوح المعارك.
الجواب نعم، وتلك آية إختص الله عز وجل بها (خير أمة).
صلة آية [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ] ( )، بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين: لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة وما جعله الله إلا بشرى لكم).
ترى ما هي البشرى في النهي عن الربا الجواب من وجوه:
الأول: مضامين آية البحث أعم من النهي عن الربا، إذ تبدأ بخطاب الإكرام والثناء على المسلمين(يا أيها الذين آمنوا)،(بالإسناد عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام عن علي عليه السلام قال : ليس في القرآن ” يا أيها الذين آمنوا ” الا وهى في التورية يا أيها المساكين) ( )،(وروي عن خيثمة قال: ما تقرأون في القرآن يا أيها الذين آمنوا فإنه في التوراة يا أيها المساكين)( ).
الثاني : بشارة كثرة أموال المسلمين، وإستثمارها في التجارات لدلالة ومفهوم النهي عن الربا، فان قلت جاء النهي عن الربا مطلقاً يشمل أخذه وأعطائه.
والجواب المراد في الآية أخذ مال الربا والنفع الزائد.
الثالث : دلالة آية البحث على إزدياد قوة المسلمين، وقدرتهم على أخذ مال الربا والنفع الزائد، إذ ورد في القرآن التحذير من وضع الوديعة عند أهل الكتاب بقوله تعالى [وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا] ( ).
الرابع : الأمر للمسلمين بتقوى الله يشمل ميادين الحكم والقتال إلى جانب باب المعاملات والعقود.
الخامس : بشارة الفلاح والتوفيق.
الثانية : إختص الله عز وجل المسلمين بالبشارة، وليس من حصر لجهات البشارة فتأتي من وجوه:
الأول : بشارة النصر على الأعداء آية.
الثاني : حضور أسباب النصر والغلبة مع الضعف، كما في آية (ببدر).
الثالث :الوعد بالمدد الملكوتي الحاضر، كما في آية السياق.
الرابع : الأوامر الإلهية.
الخامس : النهي والزجر عن المعاصي.
السادس : البشارة بالأمن والسلامة في النشأتين، قال تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
السابع : بشارة اللبث الدائم في النعيم الأخروي.
الثامن : بشارة تقيد أجيال المسلمين بالأوامر والنواهي النازلة من الله في القرآن والتي ترد في السنة النبوية لقوله تعالى[مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، والأخذ بالتقييد الوارد في السنة لشطر من إطلاقات القرآن.
الثالثة : يستلزم إجتناب الربا الصبر في مرضاة الله، والرضا بحكمه وأوامره ونواهيه، فجاءت آية السياق وما فيها من البشارة مدداً وعوناً للمسلمين في مسالك الصبر عن الربح غير الشرعي وإن كان أضعافاً مضاعفة لرأس المال ومقدار القرض.
لقد جعل الله الإنسان كائناً محتاجاً، وتفضل وأنعم عليه بسد وقضاء حاجته، قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( )، فلما نهاه عن الربا فانه سبحانه آتاه البشارة بالنصر، وما يترشح عنه من أمور وهي:
الأول : عمارة المساجد.
الثاني : إزدهار الأسواق.
الثالث : كثرة التجارات.
الرابع : السلامة من الكساد والإفلاس.
ليكون النصر عوناً للمسلمين في إجتناب الربا، وعدم الخشية من الفقر والفاقة.
بحث منطقي
تحتاج القضايا إلى البيان والدليل في الجملة، ومن القضايا ما تكون ظاهرة للعقل والحواس، فهي بذاتها حجة وبيان، وشاهد على بديع صنع الإنسان وما رزقه الله من نعمة العقل وإدراكه لليقينات التي لا تحتاج إلى التسلسل في طلب الحجة والبيان إلى ما لا نهاية.
والمقدمات المستغنية عن البيان من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة .
وهي عديدة نذكر أسناها وأعلاها مرتبة وأثراً في منازل البيان والوضوح، اليقينيات: وهي التي تفيد الإعتقاد الموافق للواقع، وما ينتفي معه الجهل، ولا يكون هناك مكان لطرف الظن غير الراجح، وتنقسم القضية اليقينية إلى قسمين:
الأول : البديهية.
الثاني : النظرية الكسبية ، وهل منها موضوع قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، الجواب نعم ، إذ أن رؤية هلال شهر رمضان من قبل المكلف من اليقينيات مما يتم صوم اليوم التالي ، ولا يحتاج إلى حكم الحاكم الشرعي أو الفتوى أو الشهود العدول ، وفي رسالتنا العملية الحجة باب اسمه (رؤية الهلال) ( وتثبت بأمور:
الأول : رؤية المكلف بنفسه.
الثاني : البينة الشرعية وهي خبر عدلين بأنهما رأيا الهلال سواء شهدا عند الحاكم وقبل شــهادتهما أو لم يشهدا عنده، او شهدا ورد شهادتهما فكل من شهد عنده عدلان يجوز بل يجب عليه ترتيب الأثر من الصوم او الإفطار ، ولا فرق بين ان تكون البينة من البلد او من خارجه، وبين وجود العلة في السماء وعدمها.
(مسألة 111) يشــترط توافق الشـــاهدين في الأوصاف، فلو اختلفا كما لو قال احدهـــما رأيتـــه عالياً بعد ســقوط قرص الشمس، وقال الآخر رأيته منخفضاً قبل سقوط القرص لم تثبت البينة، نعم لا يعتبر اتحادهما في زمان الرؤية مع توافقهما على الرؤية في الليل.
(مسألة 113) الاقوى كفاية رؤية الهلال الشرعية في بلد لثبوته في البلدان الاخرى التي تجتمع معه بلــيل واحـد، ومن النصوص الدالة على اطلاق حكم الهلال مع اختلاف الآفاق صحيحة هشام بن الحكم عن الإمام الصادق عليه السلام انه قال : فيمن صام تسعة وعشرين قال: ان كانت له بينة عادلة على اهل مصر انهم صاموا ثلاثين على رؤيته قضى يوماً”، ومشهور علماء الاسلام مطلقاً والإمامية خاصة قال بموضوعية اتحاد الأفق، وتقارب البلدين.
الثالث : مضي ثلاثين يوماً من هلال الشهر الماضي فاذا انقضت ثلاثون يوماً من هلال شعبان مثلاً ومن غير ان تثبت رؤية الهلال ليلة الثلاثين تمت عدته ويكون اليوم التالي لتمام العدة من شهر رمضان، ويجب الصوم لأن الشهر القمري لا يزيد على ثلاثين يوماً مطلقاً، وكذا لو مضت ثلاثون يوماً على شهر رمضان وجب الافطار في اليوم التالي لأنه من شهر شوال.
ذكرت طرق اخرى لثبوت الهلال وهي:
الأولى : التواتر والمراد به نقل جماعة عن جماعة رؤية الهلال مما لا يظن معه تواطؤهم على الكذب.
الثانية : الشياع المفيد للعلم والإطمئنان الذي يعتبر علماً عادياً.
الثالثة : حكم الحاكم الذي لم يعلم خطأه ولا خطأ مستنده.
ويمكن القول انها مجتمعة ومتفرقة فرع البينة والرؤية الشرعية والصوم فريضة لا تؤدى بالتظني.
(مسألة 115) يجوز ان يجتمع جماعة من وكلاء المراجع في البلدة والمصر للإستماع الى الشهادة برؤية الهلال، واخبار المرجعية بتفاصيل الشهادة وليس لهم حق اصدار فتوى بالهلال، نعم لهم شخصياً العمل بشهادة العدول وان لم يأخذ بها الحاكم، ومع اختلاف الشهود واختلاف اللجنة فالمرجع الحاكم الشرعي.
(مسألة 116) لا يثبت الهلال بقول المنجمين وان اتصف اخبارهم بالدقة كما في هذا الزمان لا سيما وان المدار على الحكم الظاهري، ولا يثبت برؤيته قبل الزوال، اي لا يحكم بكون ذلك اليوم اول الشهر.
(مسألة 117) لا بأس بتصنيع منظار صغير متداول لإنتفاع المؤمن من العلوم في العبادات وتكون له وظيفتان على نحو الإستقلال والإنفصال.
الأولى : اختراق البصــر للغيوم لرؤية الهـلال بحجـــمه الطبيعي من غير تكبير ولا تقريب ونحوهما، ورؤية الهلال فيه حينئذ شرعية وان كانت في السماء علة.
الثانية : تقريب الهلال ونحوه مما يساعد على معرفة منزله وموضعه، وثبوت الهلال حينئذ لا يكون الا بالعين المجردة بعد تنحية المنظار.
(مسألة 118) اذالم يثبت الهلال وترك الصوم ثم شهد عدلان برؤيته او تبين ثبوت رؤيته يجب قضاء ذلك اليوم.
(مسألة 119) التطويق لا يثبت ان الهلال لليلتين فلو لم ير الهلال الا مطوقاً بالنور في جميع اطرافه لا يعني انه لليلتين فالمدار على رؤية الهلال ليلته، أي هناك نوع ملازمة بين رؤية الهلال والليلة الأولى من الشهر كاتمام العدة ولا عبرة بالصغر او الكبر او التطويق واطــلاق اعتبار واخبار الرؤية وان مال الشيخ الى احتساب التطويق وانه لليلتين عندما تغم الشهور استنداداً الى ما ورد في صحيحة بن مرازم : اذا تطوق الهلال فهو لليلتين، واذا رأيت ظل رأسك فيه فهو لثلاث، فلبيان مسألة كونية واعم من الرؤية الشرعية بالإضافة الى اعراض الأصحاب عنها.
(مسألة 120) لا يثبت الهلال انه لليلتين،لو بقي بعد ان يغيب الشفق وهو بقية ضياء الشمس وحمرتها في اول الليل وان ذهب اليه الشيخ الصدوق كخبر ضعيف سنداً.
(مسألة 121) لا يثبت الهلال بالعدد والحساب ونحوهما مما يفيد الظن الا للأسير والمحبوس ومن العدد عد شعبان ناقصاً ابداً وشهر رمضان تاماً ابداً ومنه عد خمسة ايام على هلال شهر رمضان الماضي ويصوم اليوم الخامس وسنده ضعيف غير منجبر وقد لا يوافق الوجدان وموضوعه اطباق السماء اليوم واليومين.
(مسألة 122) لا يثبت الهلال بالجدول وهو حساب مستقرأ من سير القمر واجتماعه مع الشمس ومبناه اذا كان شهر محرم تاماً عد شهر رمضان تاماً وتاليه ناقصاً لأشهر السنة كلها ويبدأ التام من المحرم، فيكون شهر رمضان دائماً تاماً لأنه التاسع من اشهر السنة.
(مسألة 123) البينة الشرعية وهي خبر عدلين بأنهما رأيا الهلال سواء شهدا عند الحاكم وقبل شــهادتهما أو لم يشهدا عنده، او شهدا ورد شهادتهما فكل من شهد عنده عدلان يجوز بل يجب عليه ترتيب الأثر من الصوم او الإفطار ، ولا فرق بين ان تكون البينة من البلد او من خارجه، وبين وجود العلة في السماء وعدمها.
(مسألة 124) الأقوى ان ثبوت رؤية الهلال في بلد تكفي لثبوته في غيره من البلدان الا ان يكونا متباعدين بحيث لا يجمعهما ليل واحد.
قد يختلف فقيهان وربما من بلد واحد في حكم الهلال بسبب موضوع البينة او مصاديقها او افرادها، بل قد يختلفان بسبب التباين في المبنى واحتساب اتحاد الأفق وهو المشهور وتقارب البلدين او عدم اعتبارهما واختلاف المطالع .
وقد يكون هذا الإختلاف رحمة ويتعلق بالفتوى والإجتهاد ولا يعني الفرقة او الخلل او خطأ احد القولين، فالكل على صواب مع الإستناد الى دليل شرعي معتبر والله واسع كريم ونسأله تعالى اجتماع المسلمين في هذه المسألة الإبتلائية في كل عام بل في كل شهر، ومن حق عامة المسلمين ان يتطلعوا الى علمائهم في وحدة الحكم في موضوع الهلال ومن غير تفريط)( ).
والبديهية هي كل قضية يصدق العقل بها لذاتها من غير إستحضار لواسطة، أو توقف على مبدأ غيرها، فلا يحتاج العقل لاستحضار طرفي القضية المحكوم والمحكوم عليه، سواء كان موضوعاً أو محمولاً، كما يقال (للقمر نور) (القرآن إمام) فحالما تتوجه النفس لأحد الطرفين تصوراً وإدراكاً يكون التصديق بهما في الحال وهل القول [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ] ( )، من البديهيات التي لا تحتاج إلى وسائط الجواب نعم ، إذ أنه قرآن [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( )، وقد جاءت الوسائط مع النبوة وهي نزول القرآن من عند الله , وتجلي المعجزات على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فصارت نبوته صلى الله عليه وآله وسلم من المسلّمات، بالاضافة إلى حقيقة وهي تجدد المعجزات بالذات والأثر ما كرّ الليل والنهار.
بحث أصولي
النهي طلب لترك الفعل، والزجر عن إتيانه، ومن معاني النهي المنع والردع والإجتناب ، وعلم النواهي من مباحث الأصول، وقيل ليس منها لأن الضابطة للمسألة الأصولية وقوعها كبرى في قياس ينتج حكماً كلياً فرعياً.
ويتعلق مبحث النواهي بحجية الظهور، ومباحث أصل الظهور وإتيانه.
ويأتي النهي بصيغة الإنشاء وطلب الترك، ويأتي أحياناً بصيغة الخبر الذي يفيد النهي، كما في قوله تعالى[يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ] ( )، والمحق نقصان الشيء حالاً بعد حال والمحق: النقصان وذهاب البركة) ( )، والمحاق: آخر الشهر إذا تناقص القمر وإضمحل لإرادة الذهاب والتلف التدريجي.
وجاءت الجملة الخبرية لتوكيد ذهاب أرباح الربا أدراج الرياح، لتكون الآية إعجازاً، وتحدياً من القرآن بأن أموال الربا لم تبق أو تدوم.
وقيل للإمام جعفر الصادق عليه السلام:و قد يرى الرجل يربي فيكثر ماله فقال يمحق الله دينه و إن كثر ماله ( ).
لبيان حتمية زوال الإرباح الربوية وذهاب نمائها المباشر والذي يكون بالواسطة وبعد حين وتوظيف تلك الأرباح، فتفاجئ بنكسة مالية كبيرة لأموال الفرد أو المؤسسة والشركة القائمة على المعاملات الربوية.
وليس من حصر لصيغة النهي التي تدل على طلب الترك فقد تأتي بأداة النهي لا في (لا تفعل) أو بلغة التحذير والمنع والتخويف والوعيد بما يفيد الترك كما في قوله تعالى[الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ]( ).
وقد يأتي النهي بلغة الأمر وهي تفيد صيغة النهي، وقد يأتي النهي بلغة الأمر وهي تفيد صيغة النهي كما في قوله تعالى [إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ] ( )، فتدل صيغة الإجتناب على الأمر بالترك ولكنها تدل على النهي بالدلالة الإلتزامية.
ومن خصائص هذه اللغة في النهي أنه يشمل الكف عن الفعل، وعدم إتيانه.
وفي موضوعية العلو في النهي أو عدمه وجوه:
الأول: يشترط في النهي أن يكون صادراً من العالي إلى الداني.
الثاني:عدم إعتبار العلو في النهي، فيصح صدوره من المساوي ومن الداني.
الثالث : النهي من العالي إلى الداني حقيقة، أما من المساوي وما هو أدنى منه فيصح عليه أنه نهي مجازاً، ولابد من قرينة ومؤونة زائدة.
الرابع : موضوعية الإستعلاء، وإظهار الناهي هيئة الإستعلاء بالقول أو الفعل أو لغة الإشارة والتلميح والتوكيد والتهديد.
فإذا جاء النهي خالياً من الإستعلاء فإنه لا يتجاوز مرتبة طلب الترك.
الخامس : عدم موضوعية الإستعلاء، فيكون المنع من العالي إلى الداني نهياً وإن جاء بصيغة الرجاء والترغيب، فالمدار على مقام ومنزلة الناهي وإن لم يكن مستعلياً وزاجراً، كما هو ظاهر في العرف والوجدان.
السادس : موضوعية أحد الأمرين، أما العلو، وأما الإستعلاء، فيكفي أحدهما، مع أن شرط العلو مختص بكون الناهي أعلى منزلة من النهي عن الفعل، ولكن الإستعلاء قد يأتي أيضاً من المساوي والأدنى.
ليكون بين الإستعلاء والعلو عموم وخصوص مطلق من جهة المرتبة والمنزلة.
وهذا البحث لا موضوعية له في الأوامر والنواهي القرآنية لصدورهما من مقامات الإلوهية والربوبية المطلقة إلى العبيد الذين خلقهم الله عز وجل لطاعته ، وقد تجمع الآية الواحدة الأمر والنهي كما قوله تعالى [وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وكذا بالنسبة للأوامر التي يأتي بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن جانب العلو ظاهر فيها لأمور:
الأول : طاعة النــبي محمد صلى الله عليه وآله وســـلم من طـــاعة الله عز وجل، قال تعالى[مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( ).
الثاني : ما يأمر به أو ينهى عنه النبي إنما هو بيان وتفسير للقرآن.
الثالث : السنة النبوية شعبة من الوحي، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، وهو أمر ظاهر لغة وعقلاً وأطراف موضوع النهي هي:
الأول : الناهي الذي يُصدر النهي.
الثاني : المنهي الذي ينهى عن الفعل.
الثالث : الموضوع والأمر المنهي عنه.
ومع عدم القرينة الصارفة إلى الكراهة فان صيغة النهي الشرعي تدل على التحريم لوجوه :
الأول : أصالة الإطلاق ، ولحاجة الكراهة إلى مؤونة زائدة وقرينة تدل على الأذن في الفعل.
الثاني : تبادر الوجوب من صيغة الأمر.
الثالث : نشوء الترك والمنع من وضع اللفظ للنهي، كما في أداة النهي(لا).
الرابع : الإقتباس والأخذ من السنة النبوية لإستنباط حكم التحريم وإستقرائه من صيغة النهي.
الخامس : إقامة الحدود على فعل الفواحش.
السادس : الوعيد بالعقاب الأليم على فعل ما نهى الله عز وجل عنه ولو كان المنهي عنه مكروهاً وفق المعنى الإصطلاحي لما جاء الوعيد عليه في القرآن لعدم الإثم في فعل المكروه ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
بحث فقهي
السعي للكسب وطلب الرزق محبوب بذاته، وجاء الكتاب والسنة بالبعث إليه، والترغيب فيه قال تعالى[فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ]( ).
وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: العبادة سبعون جزء أفضلها طلب الحلال) ( )، وفيه بيان لموضوعية الكسب في حياة الإنسان، وطرد وهم وهو أن الإنقطاع إلى العبادة ، وترك الرزق هو الأفضل والأسمى.
وبين الكسب والتجارة عموم وخصوص مطلق، فكل تجارة هي كسب، وليس العكس لأن الكسب مطلق السعي لطلب الرزق.
وتنطبق الأحكام التكليفية الخمسة على الكسب والتجارة، وجاءت آية البحث للتحذير من الكسب والتجارة المحرمة.
وبين الكسب الحرام وأكل الربا عموم وخصوص مطلق، فالكسب الحرام هو الأعم، والربا مصداق منه.
وتتكون المعاملة الربوية من قسمين:
الأول : إستيفاء رأس المال.
الثاني : أخذ الربح الربوي الزائد.
وتتعلق الحرمة بخصوص القسم الثاني، وجاء التخويف والوعيد عليه فكيف بجعل مورد المعيشة هو حيازة الحرام، كالغصب والنهب، فإن قلت وكذا بالنسبة للربا لأن أصل المال يرجع نفسه، ويكون النماء وربا المال بالحرام والمعاملة الربوبية.
والجواب هذا صحيح ولكنه يختلف عن الغصب والنهب، لأنه معاملة وعقد يجري بين طرفين ذو شعبتين:
الأولى : إنشغال ذمة المدين برأس المال.
الثانية : الربح الربوي الزائد.
وهذا العقد يتصف بالفساد ذاتاً وأثراً.
وجاءت الشرائع بالنهي عنه، ثم أن أصل المال قد يتعرض للتلف عند الدائن وهو من عمومات الإبتلاء والأذى العاجل في الكسب الحرام وعمومات قوله تعالى[ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ]( )، والأصل في التجارة الإستحباب خصوصاً لتوفير المؤونة، والتوسعة على العبد، وصلة الرحم وفعل الخيرات، وإصلاح ذات البين، والصدقة.
وتطرأ عليها بالعرض الأحكام التكليفية الأخرى من الوجوب والإباحة والكراهة والحرمة بحسب العوارض الخارجية كما في حال سد الرمق، ودفع الفاقة والذل والعوز الشديد وقد تكون مكروهة في مواطن الشبهات وبعض الأعمال التي تورث قساوة القلب ونحوه، والتي تتزاحم مع أداء العبادات وقد تكون محرمة كما في المعاملات الربوبية، والتكسب بالخمور، والميتة والسحر والقمار والتجارة أفضل المكاسب، وعليه الإجماع، ووردت في تفضيلها نصوص كثيرة، وعن الإمام علي عليه السلام قال: أتجروا بارك الله لكم، فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الرزق عشرة أجزاء : تسعة أجزاء في التجارة وواحد في غيرها)( ).
وقد يقال هناك من المكاسب ما يكون في الصناعة والزراعة ولا يقل أهمية أو نفعاً ونماء من التجارة .
والجواب إن الأغلب الأعم منها هي تجارة، كما وردت نصوص بالحث على الزراعة وتربية الأنعام، وتكون التجارة فرعاً منها .
وتدخل التجارة في مكاسب كثيرة، وتكون بذاتها مكسباً، منها ما ورد في تربية الأغنام (عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اتَّخِذِي غَنَمًا يَا أُمَّ هَانِئٍ فَإِنَّهَا تَرُوحُ بِخَيْرٍ وَتَغْدُو بِخَيْرٍ)( )، في إشارة إلى بركتها، وقلة الجهد في رعيها والعناية بها، بخلاف إقتناء الأبل وما فيه من المشقة وفي الحديث: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَاعِىَ غَنَمٍ قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَأَنَا كُنْتُ أَرْعَاهَا لأَهْلِ مَكَّةَ بِالْقَرَارِيطِ) ( ).
(عن أبي إسحاق عن ابن حزن قال افتخر أهل الابل والشاة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث موسى عليه السلام وهو راعي غنم , وبعث داود عليه السلام وهو راعي غنم وبعثت أنا أرعى غنما لاهلي بأهلي بأجياد)( ) .
ليكون هذا الرعي كسباً وعملاً لإكتساب المنفعة، لأن العين تعود للغير، وهم أهل مكة وتكره بعض المهن مثل القصابة وبيع الأكفان.
ويجب على الذي يزاول التجارة مهنة وإختصاصاً أو كسباً عرضياً غير مستقر أن يتفقه في أحكام التجارة والصحيح والفاسد من المعاملات، وما يتعلق بها من الأحكام، على نحو الإجمال وبما يكون نبراساً لإيقاع المعاملة والتمييز بين العقد الصحيح والفاسد، ولو بالتقليد الصحيح ويصح التعلم قبل المشروع في التجارة وإجراء العقود، وأثناءها وعند إيقاعها (وبعد الايقاع ان كانت المعاملة مشكوكاً بصحتها، فاذا تبين عند السؤال صحتها رتب الأثر عليها)( )، وعلى العامل بالتجارة تعلم أحكام الربا ولو إجمالاً وإجتناب إجراء معاملة ربوية لعدم جواز الإقتحام في الشبهات الحكمية قبل الفحص.
وتتضمن كل من آية البحث والسياق الإرشاد إلى هذا التعلم لتوكيد الأولى على حرمة الربا، والثانية على لزوم الحذر والحيطة من النار.
صلة [بُشْرَى لَكُمْ] بهذه الآية
وفيها مسائل :
الأولى : من وظائف المسلمين التوجه إلى الله عز وجل بالشكر والثناء على نعمة البشارة بالنصر، والشكر أعم من القولي فيشمل الشكر الفعلي ومنه إجتناب الربا الذي نهى الله عنه بنص آية البحث.
ومن خصائص هذا الشكر إستدامة النعمة ، ودوام النصر ، والغلبة للمسلمين قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
فان قلت لا يخوض المسلمون المعارك دائماً ، ولا يدخلونها إلا دفاعاً .
والجواب هذا صحيح ، ونعمة النصر أعم من ميادين القتال ، ومن مصاديقها العز والرفعة والهيبة والربح في التجارات والمكاسب غير المحرمة.
الثانية : لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بنزول الملائكة مدداً لهم في ميادين القتال ليخشوا الله، ويجتنبوا ما نهى عنه ومنه أكل المال بالربا.
وتقدير الجمع بين الآيتين: وما جعله الله إلا بشرى لكم واتقوا الله)، لتكون التقوى سبيلاً لإستدامة منافع البشارة وأثرها على المسلمين، ومن التقوى إجتناب الربا، والتنزه عن المال الحرام.
الثالثة : تحتمل الصلة بين البشارة والمنع من الأضعاف المضاعفة التي تأتي عن الربا وجوهاً:
الأول : هذا المنع جزء من البشارة وفي طولها.
الثاني : التعارض بين البشارة وخسارة الأموال الربوية الكثيرة.
الثالث : التباين الموضوعي بين البشارة في ميدان القتال وبين النهي في باب المعاملات عن الربا.
والصحيح هو الأول فإن المنع عن الربا في طول البشارة وتثبيت وإستدامة لها وليس من تباين موضوعي في المقام لأن الشريعة الإسلامية متكاملة وشاملة للميادين المختلفة وهو من عمومات قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( ).
ومن أحكام الدين الإسلامي حرمة الربا مطلقاً والتي وجاءت بها هذه الآية.
الرابعة : ذات النهي عن الربا بشارة من وجوه:
الأول : تفضل الله عز وجل على المسلمين بالأمر والنهي وهو الغني الذي لا يحتاج أحداً ، ومع غناه سبحانه فان رحمته وسعت كل شئ ، وفي التنزيل [وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ]( ).
الثاني : نزول القرآن ببيان الأوامر والنواهي، وكل فرد منها رحمة ونعمة من عند الله، ومنها النهي عن الربا، لذا خصّ به الله عز وجل المسلمين.
الثالث : إنه بشارة الثواب العظيم بالخلود في النعيم وهو من أسرار إختتام آية البحث بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( )، لبيان أنه سعي مبارك للوصول إلى الخلود في النعيم.
وجاء حرف الترجي (لعل) لبيان أن هذا الوصول لا ينحصر بالإمتناع عن الربا، بل يستلزم الإمتثال للأوامر الإلهية وإجتناب النواهي الأخرى.
الخامسة : تضمنت آية البحث أمر المسلمين بتقوى الله، وبها يستطيع المسلم أن يدرك المضامين القدسية للبشرى القرآنية، فالبشارة وعد كريم من الله لا يقبل النسخ أو النقض، ولا يأتي عليه النسيان مع تقادم آلاف وملايين السنين بين نزول الآية والبعث.
ومن الآيات أن البشارة معصومة من التحريف في ذاتها ودلالتها وموضوعها وتنجز مصداقها الخارجي ، سالمة من التبديل، لتبقى ذات البشارة كنزاً مدخراً لكل جيل من المسلمين ، وهل مصداق البشارة القرآنية متحداً ، متعدد ومتجدد ، الجواب هو الثاني .
ومن الشواهد على تقوى المسلمين أنهم يتعاهدون آية البحث رسماً ولفظاً، ويعملون بمضامينها وما فيها من النهي مجتمعين ومتفرقين، وهو من مصاديق فوزهم بمرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
السادسة : البشارة مقدمة للفلاح، وهي بذاتها فلاح، لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الرشاد والتوفيق في الدنيا، فانعم عليهم بالبشارة بالنصر، ورزقهم الغلبة في ميادين القتال ليكون عزاً لهم وسبيلاً للتفقه في الدين، بلحاظ أن الطمأنينة والأمن مناسبة لإكتساب العلوم.
صلة [وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ] بهذه الآية
وفيها مسائل :
الأولى : يفيد الجمع بين الآيتين بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين من وجوه :
الأول : الخطاب التشريفي للمسلمين والمسلمات بصفة الإيمان، وما يتضمنه من الثناء عليهم، ولبيان أهليتهم لتلقي النهي عن الربا بإجتنابه والتنزه عنه.
الثاني : الطمأنينة بالنهي عن الربا، لإدراك المسلمين أن المصلحة الخاصة والعامة بترك الربا، قال تعالى[اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ومن خصائص (خير أمة) الإطمئنان والسكينة عند الإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية، وهو من عمومات قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، بتقريب أن أداء الفرائض والعبادات من ذكر الله عز وجل.
الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين (لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة وما جعله الله إلا بشرى لكم) لبيان قانون وهو ترك المعاملات الربوية باب للرزق والسعادة .
والنقاش في الكبرى ، وهي هل في نهي المسلمين عن الربا بشارة لهم، الجواب نعم، من وجوه :
الأول : إجتناب الربا تنزه عن الظلم والتعدي بلحاظ أن أخذ المنفعة الزائدة على القرض ظلم وتعد.
الثاني : يدل النهي بالدلالة الإلتزامية على كثرة أموال المسلمين.
الثالث : حصول النماء في أموال المسلمين في تجارات ومكاسب ومعاملات صحيحة وخالية من الربا، وليس فيها ظلم.
وفي ترك الربا أمور ومنافع منها:
الأول : تنشيط الأسواق ، وهل في قوله تعالى [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، دعوة للكسب الحلال ، ونهي عن الربا الجواب نعم .
الثاني : بعث الهمم.
الثالث : إختيار العمل، وإتخاذه وسيلة للكسب ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
الرابع : إشاعة معاني المودة بين الناس، والربا سبب للضغائن بين الناس لأنه أخذ للمال من غير تعب وجهد , ويسبب أذاهم ونفرتهم وبغضهم.
الرابعة : تضمنت آية البحث الأمر بتقوى الله عز وجل لقوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ] وفي هذا الأمر بشارة للمسلمين بذات التقوى، وما يترشح عنها من السعادة والغبطة والسكينة، فالتقوى واقية وبلغة لنيل الغايات الحميدة.
الخامسة : لقد جعل الله عز وجل الحياة الآخرة دار الجزاء والثواب.
ويفيد الجمع بين الآيتين أن الدنيا دار ثواب أيضاً للمؤمنين، وكأنه من الثواب الإبتدائي الذي يؤكد الثواب الأخروي ويكون مقدمة له، وشاهداً عليه، قال تعالى[يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]( ).
السادسة : إن قوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] بشارة وفضل من الله عز وجل، وباعث على التقيد بالأوامر والنواهي الإلهية، وكما أن نزول الملائكة لنصرة المسلمين بشارة وخير، وسبب للصلاح والفلاح فان قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] بشارة أيضاً بذاته وبلحاظ أنه مقدمة وطريق هداية للفلاح لوجوه :
الأول : التنزه من الربا.
الثاني : التقوى والخشية من الله.
الثالث : إجتماع الأمرين أعلاه معاً.
وكل وجه منها بشارة وفعل حسن، وهو من خصائص الإيمان، والشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الذين يؤمنون بها لن ينالوا إلا الخير والفلاح، ومنه النهي عن معاملات باطلة تؤدي إلى الفساد والإفساد.
لتكون آية البحث من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فلما إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض يفسد فيها ويسفك الدماء تضمنت آية البحث أسباب الصلاح والمنع من مقدمات الفساد.
السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا لتطمئن قلوبكم.
الثاني : لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة لتطمئن قلوبكم.
الثالث : واتقوا الله لتطمئن قلوبكم.
الرابع : لتطمئن قلوبكم لعلكم تفلحون.
قانون الحسن الذاتي للطمأنينة
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الطمأنينة في الحياة الدنيا، فخاطبهم بصفة الإيمان ، وهو سبب للطمأنينة ، وجاء النهي عن الربا لبعث السكينة.
والطمأنينة في نفوس المسلمين، وفيه شاهد على الأضرار التي تترتب على الربا في النفوس والأموال والحال الإقتصادية، وانما الأمور بخواتيهما قال تعالى [وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] ( )، بلحاظ أن إجتناب الربا طاعة لله، وشاهد على الصلاح.
والنسبة بين الربا وطمأنينة القلوب هي التباين، سواء بالنسبة للآخذ أو المعطي
فجاءت آية البحث لبعث السكينة في قلوب المسلمين والإستقرار في المجتمعات من وجوه:
الأول : خطاب الإكرام بصفة الإيمان.
الثاني : الزجر عن أكل الربا.
الثالث : بيان المائز بين المسلمين ومشركي قريش في المعاملات وعالم القروض والديون.
الرابع : دلالة الآية في مفهومها على هداية المسلمين إلى صيغ التجارة والكسب الشرعي الصحيح.
الخامس : بعث المسلمين للتفقه في أمور التجارات والبيع والشراء، وعن الإمام علي عليه السلام: من أتجر بغير علم إرتطم في الربا ثم إرتطم) ( )، وفيه تحذير متعدد من وجوه:
الأول : عدم تفقه التاجر ومطلق الذي يقعد في السوق ويمارس البيع والشراء , والقدر المتيقن من التفقه في المقام هو المعاملات والمكاسب.
الثاني : الوقوع في الربا عن جهالة وغفلة.
الثالث : تكرار الوقوع في الربا مرة ثانية وثالثة لإنعدام الأصل الذي يتوقى به من الربا وهو القدر اللازم من التفقه في المعاملات.
السادس : ترغيب الناس بالإسلام، وإدراكهم لحقيقة وهي الإسلام الدين الذي يحيط بالوقائع والأحداث والذي يدخل البيوت والأسواق فيجعلها ذات إشراقة إيمانية، وبهجة وأمل في نيل الثواب وبلوغ مراتب الفلاح.
السابع : أمر المسلمين بتقوى الله ، وهو باعث على السكينة من جهات:
الأولى : ذات الأمر الإلهي بالتقوى سكينة وطمأنينة.
الثانية : الإمتثال لأمر الله، وإظهار معاني التقوى في القول والفعل.
الثالثة :الأثر الحميد المترتب على تقوى الله.
الرابعة : الملازمة بين تقوى الله وإجتناب الربا.
الخامسة : إرادة قصد القربة في إجتناب الربا، وطلب الثواب حتى في المعاملات، والبيع والشراء.
إن إقتران حرمة الربا بالأمر بتقوى الله تخفيف عن المسلمين وهذا التخفيف من مصاديق الطمأنينة، وسبب وعلة لها، وهو من عمومات [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( ).
وتبعث ملكة التقوى والطمأنينة الشوق في النفس لأداء التكاليف سواء كانت واجباً أو مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً، أو إمتناعاً عن المحرمات.
الثامن : ترك الربا طاعة لله عز وجل وباعث للسكينة والطمأنينة في النفوس، وهي بذاتها فلاح وتوفيق.
لقد جاءت آية البحث لتنقيح مكاسب المسلمين، وهو من فضل الله عز وجل عليهم.
وأراد الله للمسلمين الفلاح والبقاء واللبث الدائم في النعيم الدائم، والربا برزخ دون دخول الجنة، فضمن الله عز وجل للمسلمين الكسب الحلال الذي يكون طريقاً للفلاح ودخول الجنة، ونهاهم عما هو برزخ دون دخولها.
قانون حرمة الربا في الإختيار والإضطرار
لقد نزلت آية النهي عن الربا والإسلام في أيامه وسنواته الأولى، ولم تمر إلا بضع سنوات على هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وأهل بيته وأصحابه من معارك ضارية مع الكفار، ومكر وكيد منهم , ومن فريق من أهل الكتاب، وكل آية قرآنية وثيقة في هذا الباب.
ومع هذا الجهاد وما يستلزمه من الصبر أظهر المسلمون أسمى معاني التقوى بتلقي التكاليف بالرضا والإمتثال، ومنها الإمتناع عن الربا وأخذ المنفعة الزائدة على القرض، وهم مطمئنون لأمور:
الأول : نزول النهي عن الربا من الله.
الثاني : وجود أضرار على الإسلام والمسلمين في الربا وتعاطيه.
الثالث : الفوز بالثواب العظيم بالإمتناع عن الربا، قال تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا]( ).
ولم يقل أحد من المسلمين باللجوء إلى الربا للضرورة والحاجة إلى المال في الغزو والدفاع عن الإسلام، ولم يطلب المسلمون الإذن بأخذ الربا ولو إلى حين لشراء السلاح، وتوفير المؤون خصوصاً وأن الآية تقول أن فيه أضعافاً مضاعفة.
بل تلقى المسلمون الآية بالقبول والرضا فأنعم الله عليهم بالغنائم العظيمة التي جاءت مع الفتح.
وحتى في حال الدفاع وإضطرار الكفار للهزيمة يتركون أمتعتهم خلفهم غنائم للمسلمين، قال تعالى بعد وصف الكفار بقطع طرف منهم وهزيمة الباقينلِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ، أن الله عز وجل الذي حرّم على المسلمين الربا هو الذي تفضل عليهم بفتح أبواب من الرزق والمغانم لم تعرفها أرض الحجاز أبداً، وتلك آية في نعم الله وعظيم قدرته.
وهل هي مما لا تعرفه أرض الحجاز في مستقبل أيامها الجواب لا، لأن النعم التالية بعد الإسلام إمتداد لها، وتوكيد لقانون وهو فتح خزائن الأرض والسماء على المسلمين وأهل الأرض ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام، لتكون على وجوه :
الأول : مصاحبة مضامين آية البحث، وما فيها من النهي عن أكل الربا للناس وإلى يوم القيامة.
الثاني : إنها مصداق لقوله تعالى[لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ].
الثالث : فيها دلالة على صدق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : إنها عون ومدد للمسلمين للعمل بمضامين آيات القرآن، والتنزه عن أكل الربا والمال الحرام مطلقاً ، وعندما هجم عشرة آلاف من المشركين لغزو المدينة وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شهر شوال من السنة الخاصة للهجرة ، قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بحفر خندق حول المدينة بمشورة من سلمان .
وعن (عمرو بن عوف: فكنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن وستة من الانصار في أربعين ذراعا، فحفرنا حتى إذا بلغنا الندى ظهرت لنا صخرة بيضاء مروة ، فكسرت حديدنا وشقت علينا .
فذهب سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في قبة تركية، فأخبره عنها، فجاء فأخذ المعول من سلمان فضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها – يعنى المدينة – حتى كأنها مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون، ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك.
وذكر ذلك سلمان والمسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه عن ذلك النور، فقال: لقد أضاء لى من الاولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتى ظاهرة عليها .
ومن الثانية أضاءت القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتى ظاهرة عليها.
ومن الثالثة أضاءت قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتى ظاهرة عليها فأبشروا، واستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعود صادق.
قال: ولما طلعت الاحزاب قال المؤمنون: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما.
وقال المنافقون: يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم، وأنتم تحفرون الخندق لا نستطيعون أن تبرزوا فنزل فيهم ” وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً)( ).
الخامس : صيرورة أفعال المسلمين وتقيدهم بأحكام الحلال والحرام حجة على الناس، وترغيباً لهم في الإسلام ، وفي التنزيل [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
صلة قوله تعالى(وما النصر إلا من عند الله) بهذه الآية
فيها مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا ما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.
الثاني : لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة وما النصر إلا من عند الله.
الثالث : وما النصر إلا من عند الله واتقوا الله.
الرابع : وما النصر إلا من عند الله لعلكم تفلحون.
الثانية : يحتمل قوله تعالى [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ]( )، أمرين:
الأول : صيغة الجملة الخبرية.
الثاني : صيغة الجملة الإنشائية.
والظاهر هو الأول بلحاظ نظم آية السياق وإبتدائها بالخطاب للمسلمين وعطف الآية على ما قبلها[وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( )، ليكون الجامع بين الآيتين صيغة الإنشاء، وما فيها من البعث في مسالك الفلاح والتوفيق والصلاح ، والحث على ترك الربا.
الثالثة : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الرحمة للناس جميعاً، ودار البشارة للمسلمين ليفوزوا بالنعمتين معاً وهو لا يتعارض مع نهيهم وزجرهم عن الحرام وأسباب الفساد في الأرض.
ترى ما هي النسبة بين البشارة، والنهي عن الربا.
الجواب هو العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه :
الأول : كل من البشارة والنهي عن الربا نعمة ورحمة من الله عز وجل، وهو من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
الثاني : التداخل بين نعمة البشارة والنهي عن الربا، من جهات:
الأولى : البشارة وسيلة للتقيد بالنهي.
الثانية : الإمتناع عن الربا شكر لله عز وجل على نعمة البشارة.
الثالثة : التقيد بالنهي عن الربا تعاهد للبشارة ومضامينها.
الرابعة : دلالة تقيد المسلمين بالإمتناع عن الربا على أهليتهم لتلقي البشارة بالنصر والغلبة على أعدائهم.
الثالث : مصاحبة كل من البشارة والنهي عن الربا المسلمين إلى يوم القيامة، ومن مصاديق صحبة البشارة تلاوتهم لآية السياق في صلاة الفريضة وغيرها، والإنتفاع الأمثل منها، أما صحبة آية الربا فبالتلاوة والعمل بمضامين الآية الكريمة.
الرابع : مجيء كل من البشارة والنهي عن الربا من عند الله في القرآن، قال تعالى[وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ]( ).
قانون الخطاب العام في النهي عن الربا
توجه كل من البشارة والنهي عن الربا إلى أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
أما مادة الإفتراق فمن وجوه:
الأول : جاءت البشارة بصيغة الجملة الخبرية وورد النهي عن الربا بلغة النهي والزجر الذي يحمل على لزوم الترك وعدم جواز الفعل.
الثاني : تتعلق البشارة بميدان المعركة وأسباب ظفر المسلمين على الأعداء، أما النهي عن الربا فيتعلق بالمعاملات وعالم الأسواق.
الثالث : البشرى فضل ونحلة من الله عز وجل، أما النهي عن الربا فهو تكليف في باب المكاسب والتجارات.
الرابع : تبين آية السياق قانوناً ثابتاً في أفراد الزمان الطولية وهو إنحصار النصر بيد الله عز وجل ، وفي التنزيل [يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ]( ).
ويحتمل متعلق النصر وجوهاً:
الأول : إرادة خصوص معارك المسلمين في الدفاع.
الثاني : النصر في الجدال والإحتجاج.
الثالث : الغلبة في أمور الحياة الدنيا من المكاسب والتجارات.
الرابع : إرادة الدولة والسلطان.
والصحيح هو الأول والثاني والرابع، وهو أعم من القدر المتيقن من الآية وجاء نظم الآية بخصوص معركة أحد، ومجيء البشارة من الله في القرآن بنزول الملائكة لنصرة المؤمنين، ليكون نصر المسلمين في معارك القتال مقدمة ومناسبة لإزدهار أسواق المسلمين، وكثرة سعيهم في باب المكاسب والتجارات.
الخامس : تضمنت آية البحث الأمر بتقوى الله، لتكون التقوى شكراً لله عز وجل على نعمة النصر، وهي وسيلة لجذب النصر لتعدد أفراد النصر، وحاجة المسلمين المستمرة لتحقيق النصر والغلبة على الكفار، قال تعالى[وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]( ).
وفي الآية أعلاه إشارة إلى نزول الخير، وحصول النماء في الزراعات والأمطار بالإيمان والتقوى، ويحتمل إجتناب الربا أموراً:
الأول: إنه من مصاديق الإيمان ، لأنه طاعة لله عز وجل.
الثاني: إنه من التقوى والخشية من الله عز وجل.
الثالث: إجتناب الربا من الإيمان والتقوى معاً.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وهو باب لنيل الثواب العظيم من الله عز وجل فضلاً منه تعالى بأن يجعل الفعل المتحد مصداقاً لأمور حسنة عديدة كل فرد منها له ثواب وأجر.
لقد جعل الله عز وجل الناس مجتمعين ومتفرقين محتاجين له سبحانه في أمور الدنيا والآخرة، ويخوض المسلمون معارك الدفاع ضد الكفار .
فجاءت آية السياق لبعث المسلمين لسؤال النصر ورجاء فضل الله عز وجل في ميادين المعركة.
إن قهر الكفار في القتال ودفعهم عن ثغور الإسلام مناسبة لإستقرار مجتمعات المسلمين ، وسعيهم في المكاسب والتجارات وتقيدهم بأحكام حرمة الربا ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ولو لم يكن هناك نصر للمسلمين فهل يستمرون بالتقيد بحرمة الربا.
الجواب نعم ، لأن هذه الحرمة مطلقة في حال النصر وغيره، والحرب كر وفرّ، ولكن حرمة الربا ثابتة إلى يوم القيامة، ومن فضل الله يكون التقيد بحرمة الربا طريقاً ووسيلة لجلب النصر، وتحقيق هزيمة الأعداء، خصوصاً وقد جعل الله عند المسلمين البشرى بالنصر.
قانون اجتناب الحرام عزُ
لقد أخبر الله سبحانه بأنه العزيز الحكيم، وهو سبحانه الغالب، إن قوله تعالى(العزيز) يدل على أن النصر لا يلازم القوة والكثرة بل هو بيده سبحانه، فجعله خاصاً بالمؤمنين، قال تعالى[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ]( ).
وفي الآية أعلاه إكرام للمسلمين، فمع أن دخول الإسلام واجب، تؤكده الدلائل العقلية والحسية فإن الله عز وجل يحسبه والدفاع عن الإسلام نصراً له، وهو الغني عن العالمين إذ أن الحاجة تلازم عالم الإمكان والله واجب الوجود غير محتاج أبداً ، وفي التنزيل [اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
وهل نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نصرة لله الجواب نعم من وجوه:
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث من الله عز وجل.
الثاني : أمر الله أهل الكتاب ومن ورائهم الناس بدخول الإسلام ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجاءت قصة المباهلة لتحكي العبرة والموعظة في إقرار رؤساء من أهل الكتاب بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( ).
الثالث : لقد أمر الله عز وجل أهل الكتاب بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه وعدم جعل يد الكفر تصل إليه، قال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
قانون إجتناب الحرام نصر
وجاءت آية البحث لتخبر عن نصرة المسلمين لله عز وجل بالإمتناع عن الربا وفيه ترغيب لهم بالثبات على نهج التنزه عن الربا، وتركه لزوماً في حال الإختيار والضرورة، والحضر والسفر، والغنى والفقر.
وفيه موضــوعاً وحكماً آية في فضل الله عز وجل على المسلمين وهي إحتســاب العبـــادات والمعاملات الصــــحيحة منهم نصرة لله عز وجل، فتأتيهم البشارة على الصبر ومفاهيم التقوى التي تتجلى في الخروج للقتال دفاعاً عن الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الإمتناع عن الربا.
وفي هذا الإمتناع مسائل :
الأولى : إنه نصر لله ولرسوله ، وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم مجنة وعكاظ وفي المواسم بمنى يقول (من يؤويني ، ومن ينصرني ، حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة)، فلا يجد أبدا أحدا يؤويه ولا ينصره ، حتى أن الرجل ليرحل من مضر أو اليمن، فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون : احذر فتى قريش لا يفتنك يمضي بين رحالهم، وهم يشيرون إليه بأصابعهم، حتى بعثنا الله إليه من يثرب فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه حتى لم تبق دار من دور يثرب إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الاسلام.
ثم بعثنا الله تعالى فأتمرنا واجتمعنا فقلنا : متى نذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوف في جبال مكة ويخاف ، فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا فيه من رجل ورجلين حتى توافينا عنده، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك ، قال: (تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العشر واليسر، وعلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله، لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة).
(فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغر السبعين رجلا إلا أنا فقال: رويدا يا أهل يثرب.
فإنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم وعلى قتل خياركم وعلى مفارقة العرب كافة، فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة، فذروه فهو أعذر لكم عند الله.
فقلنا: ابسط يدك يا أسعد بن زرارة، فو الله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها.
فقمنا إليه نبايعه رجلا رجلا، يأخذ علينا شرطه ويعطينا على ذلك الجنة)، رواه الامام أحمد والبيهقي)( ).
الثانية : فيه شهادة يومية متجددة بصدق نزول القرآن من عند الله عز وجل .
الثالثة : يترك المسلمون الأرباح الطائلة والأضعاف المضاعفة من أموال الربا، فيرزقهم الله النصر وما فيه من أسباب العز والفخر، وكثرة الغنائم وإستدامة المكاسب والزراعات , قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
وتبين آيات القرآن وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن إتيان الواجبات وإجتناب ما نهى الله عنه قهر للنفس الشهوية ونصر على الشيطان ، وإمتناع عن إغوائه وفيه تثبيت لمعالم الإيمان في الأرض.
صلة آية [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) ( )، بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين: يا أيها الذين آمنوا ليقطع طرفاً من الذين كفروا).
ويؤكد هذا المعنى مجيء الآية أعلاه في سياق خطاب للمسلمين لقوله تعالى قبل آيتين[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا]( ).
الثانية : بيان التباين بين المسلمين والكفار، إذ يتلقى المسلمون خطاب التشريف والإكرام (يا أيها الذين آمنوا) بينما يأتي الإنذار والوعيد للكفار.
الثالثة : هل في الخطاب التشريفي للمسلمين بصفة الإيمان قطع لدابر الكفار، الجواب نعم، من وجوه:
الأول : آية السياق بالإخبار عن كون قطع طرف وهلاك طائفة من الكفار بنزول الملائكة لنصرة المسلمين إلا أن الوارد لا يخصص المورد والموضوع الذي هو أعم، وجاءت الآية لبيان الفرد الأمثل.
الثاني : تصديق المسلمين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرب على الكفر، وفضح له بين الناس.
الثالث : دخول الفرد الواحد للإسلام سبب لضعف ووهن الكفار، فكيف إذا كان دخولهم فيه على نحو المتعدد والجماعة، قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( ).
الرابع : تحلي المسلمين بالصبر، وأداؤهم للفرائض سبب لبعث اليأس والقنوط في قلوب الكفار.
لقد اثبتت البعثة النبوية على الصبر من الأيام الأولى للدعوة ، و(عن ابن عباس : أن عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبا سفيان بن حرب ، والنضر بن الحارث ، وأبا البختري ، والأسود بن المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أمية ، وأمية بن خلف ، والعاصي بن وائل ، ونبيه بن الحجاج . اجتمعوا فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه ، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك قال :
فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له : يا محمد انا بعثنا إليك لنعذر منك . فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا ، وإن كنت تطلب الشرف فنحن نسودك .
وإن كنت تريد ملكاً ملكناك . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما لي مما تقولون .
ما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل علي كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالة ربي ، ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم .
قالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضنا عليك قالوا : فإذا لم تفعل هذا فسل لنفسك وسل ربك أن يبعث معك ملكاً يصدقك بما تقول ، ويراجعنا عنك ، وسله أن يجعل لك جناناً، وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك عما تبتغي – فإنك تقوم بالأسواق ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه – حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أنا بفاعل
ما أنا بالذي يسأل ربه هذا؛ وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً ، فأنزل الله في قولهم ذلك [وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ] ( )، إلى قوله [وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا] ( )، أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا ، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسولي فلا تخالفوه لفعلت)( ).
الخامس: تنزه المسلمين عن أكل الربا.
الرابعة: صحيح أن الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء إلا أن قدرة الله ظاهرة في أمور الناس، وهي على قسمين:
الأول: أسباب المدد والعون للمسلمين ظاهرة جلية.
الثاني: أسباب الإحباط والقنوط للكفار تدرك بالحواس والوجدان.
قانون نداء الإيمان لطف
يتجلى اللطف الإلهي بالمسلمين بآية البحث في صيغة الخطاب وما فيه من الإكرام للمسلمين، وجاءت آية السياق بالذم والتبكيت للكفار.
وهو من رحمة الله عز وجل بالناس في الحياة الدنيا لما فيه من الزجر عن الكفر والضلالة.
يفيد الجمع بين الآيتين أموراً:
الأول : إنذار الناس من الكفر، وما يؤدي إليه من الهلاك والضعف والوهن.
الثاني : المنع من الإقامة على الكفر والضلالة، وبيان الخسارة الفادحة التي تلحق بجيوش الكفار ورؤسائهم، وإن لم يكن هناك قتال فإن البلاء ينزل بالكفار الذين يسعون في محاربة الإسلام والمسلمين، ويصرون على الجحود والعناد.
وورد مثل في القرآن في قرية كفرت بنعمة الطمأنينة والرزق الكريم بقوله تعالى[فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] ( ).
الثالث : الإيمان هو السبيل للنجاة من قطع الطرف، وعذاب الإستئصال، وحتى لو قاتل المسلمون فلن يقطع الطرف والطائفة منهم وإن تعرضوا للخسارة والوهن في بداية القتال.
كما في معركة حنين، إذ كان الملأ من هوازن وثقيف بعد فتح مكة مشفقين من أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد فتح مكة، وقالوا : لا مانع له من غزونا، والرأي أن نغزوه قبل أن يغزونا) ( ) ، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد غزوهم.
وكان المسلمون يومئذ إثني عشر ألف مقاتل ففاجئهم العدو بالنبال التي تساقطت عليهم كالمطر.
وهجم عليهم العدو بغتة وهم في الوادي ففرّ أكثرهم، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا عدداً قليلاً من أصحابه ولكن ما لبث المسلمون أن إجتمعوا وقاتلوا بضراوة ليتحقق النصر لهم، وينهزم جمع الكفار.
قال الله تعالى بخصوص واقعة حنين[ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا]( )، ولم تمر الأيام والشهور حتى دخلوا في الإسلام وكانوا من الذين تلقوا بالقبول النهي الإلهي في آية البحث عن الربا.
وفيه معجزة ظاهرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأثر عظيم لآيات القرآن وإعجازها الغيري بما يجري على النفوس من الإنقلاب نحو الهداية، والسعي للإمتثال لما فيها من الأوامر والنواهي.
فقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا) يشمل المسلمين الذين كانوا مع الكفار، أي يا أيها الذين نبذتم الكفر والضلالة، وأخترتم الهداية ونطقتم بالشهادتين عليكم بإتباع آيات القرآن وما فيها من الأوامر والنواهي، ومنها حرمة الربا وأكل المال بالباطل، وهو من عمومات قوله تعالى[ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا]( ).
فمن ولاية الله عز وجل للمسلمين إصلاحهم لمنازل الخلود في النعيم بتحريم الربا عليهم , وإتخاذ إجتنابه مقدمة للعبادات , وموضوعاً لنشر مفاهيم الصلاح في الأرض، ويحتمل الإمتناع عن الربا وجهين :
الأول : إنه من العمل الصالح بقوله تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ]( ).
الثاني : إنه إنزجار وترك لفعل مخصوص، ولا يصدق عليه أنه عمل لأنه ليس مثل الصلاة والزكاة وما فيها من الفعل بالجوانح والجوارح.
الثالث : إنه برزخ بين العمل وعدم العمل، لأن الإمتناع عن الربا نية وإرادة بقصد القربة ولكنه ليس فعلاً خارجياً.
والصحيح هو الأول، فإن الإمتناع عن الربا عمل صالح متجدد بلحاظ العزم والقصد لإجتناب الربا، وتحقق هذا الإجتناب فعلاً.
صلة(لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : لا تأكلوا الربا ليقطع طرفاً من الذين كفروا).
الثاني : إتقوا الله ليقطع طرفاً من الذين كفروا.
الثالث : ليقطع طرفاً من الذين كفروا وأتقوا الله).
والمراد من الوجه الثاني أعلاه أن تقوى وخشية المسلمين من الله وسيلة لهلاك طائفة من الكفار قال الله[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )، لبيان الملازمة بين التقوى والنصر وأن غلبة المسلمين تترشح عن إيمانهم وتقواهم وليس بسبب الرجحان في كفتهم من جهة كثرة العدد والسلاح والمؤونة.
أما الوجه الثالث فالمراد منه أن قطع الطرف والطائفة من الكفار مقدمة وسبيل لبعث المسلمين على التقوى لذا جاء في الآية السابقة لآية السياق قوله تعالى[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ]( )، بلحاظ أن البشرى من الله وسيلة وسبب للتقوى وجعل المسلمين يبادرون إلى الشكر لله على نعمة النصر، ورجاء إستدامة منافعه وتجدده، وظهور آثاره على المسلمين بالعز والرفعة والكثرة وعلى الكفار بالوهن والضعف والنقص.
الرابع : ليقطع طرفاً من الذين كفروا لعلكم تفلحون.
الثانية : يحتمل الجمع بين الآيتين وجهين:
الأول : وجود صلة بين هلاك طائفة من الكفار، ونهي المسلمين عن أكل الربا.
الثاني : عدم وجود صلة بين الأمرين، وكل أمر فيهما مستقل عن الآخر.
فالأول في سوح المعارك وخاص بالكفار وان كان له نفع عام للمسلمين.
والآخر حكم تعبدي وخطاب للمسلمين على نحو التعيين.
والصحيح هو الأول لقانون ثابت وهو لابد من صلة بين كل آيتين من القرآن وان تباين الموضوع فيهما، وتلك آية وإعجاز ذاتي للقرآن تتجلى فيه مضامين قدسية تنير دروب السعي في الحياة الدنيا، وتقود نحو الفلاح واللبث الدائم في النعيم.
قراءة في الصلة بين الآيتين
تستقرأ من الصلة بين الآيتين وجوه عديدة ومسائل منها:
الأولى : لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إلى عبادته، وكانت دعوته بالموعظة والبرهان لم يتخذ السيف فيها آلة ووسيلة، ولكن الكفار جهزوا الجيوش العظيمة لمحاربته وأصحابه الذين هم شبه عزل من السلاح.
فكان النصر معجزة خالدة كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، ليكون النصر مناسبة لإستمرار نزول القرآن، ومنها آية البحث.
لقد أراد الكفار إستئصال الإسلام، وقصدوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا ينزل القرآن إلا على صدره، أي أنهم أرادوا منع أحكام الشريعة وأبى الله عز وجل إلا أن تنزل آيات القرآن كلها قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( )، مما يدل على أمور:
الأول : لزوم قهر الكفار.
الثاني : دفع كيد ومكر الكفار بهلاك طائفة منهم.
الثالث : خيبة الباقين من الكفار لتنزل آية البحث بندب المسلمين للتنزه عن الربا.
الثانية : لم تنزل آية البحث لخصوص زمان النبوة بل هي حكم باق إلى يوم القيامة، ممتنع عن النسخ والتبديل، فأنعم الله عز وجل بحجب الكفار عن تغييره وتحريفه بأن إبتلاهم هم بهلاك طائفة منهم، وعدد من رؤسائهم.
فجعلهم منشغلين عن التعدي على القرآن ورسمه وتلاوته وأحكامه، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الثالثة : تعدد البشارة وتداخلها وإجتماعها في الأثر الذي يتجلى بالنهي عن الربا من وجوه:
الأول : بشارة إصابة المسلمين الأموال.
الثاني : صيرورة المسلمين أغنياء , قال تعالى[وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
الثالث : يفيد هلاك طائفة من الكفار في دلالته التخفيف عن المسلمين والأمن لهم والسلامة لأموالهم من النهب وتعدي الكفار.
الرابع : إصلاح المسلمين لإتخاذ الأموال , وليكون الغنى شاهداً على تقواهم وطاعتهم لله ورسوله بلحاظ أنه فضل من الله بآية ظاهرة وخارقة للأسباب.
وهل الغنى والإمتناع عن أكل الربا من عمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( )، وحجب الضرر القادم من الكفار عن المسلمين .
الجواب نعم ، من وجوه :
الأول : السعة والغنى واقية وسبب للقوة والمنعة، فقوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( )، يستلزم شراء السلاح ومؤون القتال.
الثاني : إحتراز المسلمين من الربا من مصاديق قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
الثالث : من الثــواب العاجل للمســـلمين على عصمتهم من الربا دفع الضــرر والكيد عــنهم وعدم بقائــه إلا بصــورة الأذى القليل، ليكــون مناســبة للثــواب الإضـــافي، وتوجه المســلمين بالشكر لله عز وجل.
الرابعة : إنذار الكفار بأن المسلمين يتعاهدون آيات القرآن بالعمل بأحكامها وسننها، وفيه دعوة للناس جميعاً لدخول الإسلام بلحاظ أن هذا العمل شهادة على صدق نزول القرآن من عند الله وسمت حسن، يجذب أرباب العقول، وأهل التفكر.
الخامسة : الدعوة لدخول الإسلام من خلال التباين بين حال الكفار، وهلاك طائفة منهم، وبين حال المسلمين وتحولهم إلى مراتب الغنى وإدخار الأموال، وتقيدهم بالأحكام الشرعية في المعاملات.
ومن باب المثال نذكر أن لبس الحرير محرم على المسلمين، ولكن يجوز لبسه في ميادين القتال ليظهر المسلمون في حال من الغنى والمندوحة، وفيه ترغيب للكفار ومن خلفهم في دخول الإسلام، والكف عن قتال المسلمين.
السادسة : التقوى مرتبة إرتقى لها المسلمون من بين أهل الأرض وفيها أمور:
الأول : فيها جهاد للنفس، قال تعالى[وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الثاني : إنها حصانة من المعاصي والذنوب.
الثالث : التقوى سبيل اللبث الدائم في النعيم.
والتقوى موضوع ونوع طريقية لبقاء أمة مؤمنة تكون مصداقاً لقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، وهي حجة ظاهرة على الكفار.
قانون الدنيا دار تخفيف
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار التخفيف عن الناس عامة، وعن المسلمين خاصة.
فمع إختيار الإيمان يأتي التخفيف على نحو دفعي متصل، ومنه إنزال الهزيمة بالكفار بآية من عند الله، قال سبحانه[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
وأراد الله عز وجل بيان نعمته وفضله على المسلمين بأن جاءت آية السياق بنسبة هلاك طائفة من الكفار لله عز وجل، فهو الذي أهلكهم لقوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا]، وفيه تخفيف عن المسلمين، ومقدمة غيرية لتقيدهم بأحكام الوديعة وزيادة أموالهم وإمتناعهم عن أكل الربا.
ومن التخفيف في المقام قلة الإنفاق في باب الدفاع وحراسة الثغور ودفع الأعداء، وإن كان في هذا الإنفاق ثواب عظيم، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ]( ).
السادسة : إن قطع الطرف وهلاك الطائفة من الكفار نصر للمسلمين من وجوه:
الأول : مجيء قطع وهلاك طائفة من الكفار من الله عز وجل، فهو الذي يصيب الكفار بالبلاء، وينزل الهلاك بكبرائهم.
الثاني : إنه شاهد على استجابة دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
وفي واقعة بدر (خرّج مسلم من حديث ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر استقبل القبلة ، ثم مد يديه ، فجعل يهتف بربه : اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه، مادا يديه، مستقبل القبلة حتى سقط رداءه عن منكبيه) ( ).
الثالث : كان الكفار في حال قتال وتعد على المسلمين، إذ زحفوا من مكة إلى المدينة المنورة يريدون إستئصال المسلمين، فجاء هلاك طائفة من الكفار لأمور:
الأول : إنه عقوبة عاجلة، للكفار على تعديهم على الإسلام والمسلمين ، وقد هلك سبعون من كبرائهم في معركة بدر ليكون إنذاراً لهم وزاجراً عن غزو المدينة ، وهذا الزجر من مصاديق النصر والتخفيف في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، ولكن المشركين استحوذ عليهم الشيطان ، ولم ينتفعوا من الزاجر السماوي ، وهذا الزاجر تخفيف عن كل من :
الأول : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة سعيه الحثيث في تبليغ الرسالة وتثبيت أحكام الشريعة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
الثاني : أهل البيت ، والصحابة من المهاجرين والأنصار .
الثالث : كفار قريش بالامتناع عن غزو المدينة .
الرابع : أهل الكتاب .
الخامس : عامة الناس .
السادس : المسلمون والمسلمات في مكة .
الثاني : بيان معجزة عقلية وحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهلاك طائفة من كبراء عدوه بآية من الله عز وجل.
الثالث: تثبيت قلوب المسلمين، وبيان برهان على صدق إختيارهم الإسلام.
الرابع: العز والفخر والفلاح للمسلمين، إذ يدل هلاك طائفة من الكفار وهزيمة الباقين منهم على منعة الإسلام، وبشارة دوام شريعته ودخول الناس فيه، قال تعالى[وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ] ( ).
الخامس: لقد أصاب الفزع قلوب فريق من المسلمين في معركة أحد لكثرة وشدة بطش العدو، قال تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( ) فانزل الله عز وجل عليه السكينة وأمنة من نعاس وشدّ على قلوبهم وأنزل الملائكة لنصرتهم ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ) .
فمن ولاية الله عز وجل تجلي حقيقة وهي العقوبة العاجلة للكفار بهلاك طائفة منهم وهذا الهلاك عذاب من الله لهم، وزجر لمن خلفهم عن التعدي على الإسلام.
ومن ينصره الله في المعركة بآية فانه لا يخشى في مستقبل الأيام العدو الذي أصبح ضعيفاً بهلاك طائفة من رجاله، ويتجدد حضور أسباب الهلاك ذاتها لمن بقي منهم.
صلة[أَوْ يَكْبِتَهُمْ] بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: لقد خلق الله الإنسان لعمارة الأرض، ولكن ملكيتها له سبحانه دائمة، وهو أمر ظاهر للوجدان، إذ يموت الإنسان ويغادر سطح الأرض، ويُنقل إلى باطنها، أي أنه عاجز حتى عن المغادرة، فيقوم من بعده بحمله جثة هامدة إلى القبر، لتبقى الأرض على ملكيتها لله عز وجل، وقد جعلها مكاناً لعبادته، ووعاء لهداية الناس للإيمان ومزرعة للآخرة .
وأبتلى الكفار بالكبت والذل ليبقى المسلمون في مأمن، ويقتبسون المواعظ من الخطاب الإلهي[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] بسلام من كيد الكفار لإبتلائهم بالكبت والصرع.
ومن يكون مصروعاً ذليلاً يصبح عاجزاً عن صد الناس عن الإيمان، وفيه حجة على الناس في لزوم دخول الإسلام، وعدم الخوف إلا من الله عز وجل قال تعالى[فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
وتتعدد النعم على المسلمين بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] من وجوه:
الأول: التشريف والإكرام بالخطاب بصفة الإيمان.
الثاني: الشهادة للمسلمين بالإيمان.
الثالث: الأمن والأمان من الكفار.
الرابع: رؤية أعداء الإسلام وهم في حال ذل وهوان وخزي.
الثانية: هل في دخول الناس الإسلام وزيادة إيمانهم كبت للكفار أم أن القدر المتيقن هو كبتهم وذلهم في سوح المعارك بنزول الملائكة لنصرة المسلمين.
الجواب هو الأول، لقد أراد الله عز وجل أن تكون الحياة الدنيا دار الكبت والذل والفزع للكفار والظالمين، ويأتيهم هذا الكبت على نحو مباشر وبالوسائط، منها:
الأول: خطاب الله للمسلمين بصفة الإيمان.
الثاني: مجيء الأوامر والنواهي الإلهية إلى المسلمين.
الثالث: إمتثال المسلمين للأوامر الإلهية، وإنزجارهم عما نهى عنه.
الثالثة: ان إمتناع المسلمين عن أكل الربا كبت وتحد للكفار، ولصيغ المعاملات السائدة في المجتمعات التي لا تحدها ضوابط شرعية، فهي قائمة على الربح المجرد.
قانون الترغيب بالعمل
جاء الإسلام رحمة للناس ليدخل الأسواق بانظمة وقوانين إقتصادية تتجلى فيها معاني الإيمان والتقيد بالأوامر الإلهية، وتقديم طاعة الله , وترك الربح والمال الذي يتعارض جمعه مع أحكام الشريعة .
فيدخل المسلم وغيره السوق في الصباح، ويتنزه المسلم عن أكل الربا وأخذ الربح الزائد على القرض، وهو دليل على حضور الإسلام في الإسواق، وفيه مسائل:
الأولى: تذكير الناس بلزوم الإيمان.
الثانية: ترغيب الناس بدخول الإسلام، ومنع النفرة من المسلمين.
الثالثة: الكف عن منع المسلمين عن أداء وظائفهم العبادية.
الرابعة: دعوة الناس للتدبر في معاني الأوامر والنواهي الإلهية، وبعثهم على التفقه في حكم النهي عن الربا، وإطلاق حرمة الربا على الآخذ والمعطي.
الخامسة: إنصراف الناس عن نصرة الكفار , وقد كانت قريش تطوف على القبائل تحرض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وتدعو إلى الإنضمام لجيشها للزحف على المدينة المنورة فيأتي إمتناع المسلمين عن أكل الربا، وأخذ الربح الزائد من الناس لبيان حقيقة وهي أن أحكام الإسلام رحمة للمسلمين ولغيرهم وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الرابعة: قد يظن فريق من المسلمين أن حجب باب من الكسب عن المسلمين وهو الذي يأتي من المعاملات الربوية يضرهم في أموالهم وانفاقهم في سبيل الله، ويجعلهم متخلفين عن شراء المؤون للذات والدفاع.
ولا يتحرز الكفار من أخذ مال الربا، وتوظيفه في محاربة الإسلام خصوصاً وأن قريشاً كانت ذات قوة وخيل وسلاح كثير يفوق كثيراً ما في أيدي المسلمين.
وتدل حرمة الربا على أن المسلمين لا يجتهدون في إحراز المال للإنفاق على القتال ، إنما يسعون للإخلاص في العبادة والتنزه عن الظلم للذات والغير ، وهل تختص حرمة أخذ المال الربوي من المسلم أم مطلقاً ، الجواب هو الثاني ، فالربا محرم بذاته ، وفيه دعوة للناس للهدى والإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
جاءت آية السياق للإخبار عن لحوق الضرر الجسيم بالكفار بكبتهم وخزيهم مما يجعلهم غير قادرين على التعدي على المسلمين ويبين هذه الحقيقة التخطيط البياني لمواجهة الكفار للإسلام في بداية الدعوة وتلك المواجهة على مراتب طولية:
الأولى: الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتعذيب المؤمنين برسالته في مكة المكرمة.
الثانية: هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف ثم إلى المدينة المنورة إعراضاً عن الملأ من قريش.
الثالثة: زحف قريش بخيلها وخيلائها في السنة الثانية للهجرة ووقوع معركة بدر، التي هي فيصل بين الإيمان والكفر، وظهور معاني المدد الإلهي للمسلمين بنزول الملائكة، قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
الرابعة: عودة قريش في السنة الثالثة بثلاثة أضعاف جيشها في معركة بدر، وكانت ذات النتيجة تنتظر الكفار، وهو الذي تدل عليه آية السياق والتي نزلت بخصوص وقائع تلك المعركة، ليكون معنى قوله تعالى[أَوْ يَكْبِتَهُمْ] رمي الكفار بالعجز عن الهجوم على المسلمين لأن الكبت من الكلي المشكك في ماهيته وأثره.
قانون كبت الكفار يوم الخندق
يأتي الكبت من الله للكفار بما يجعلهم صرعى على نحو السالبة الكلية، فان قلت قد زحفوا في معركة الخندق بنحو عشرة آلاف مقاتل في شوال من سنة خمس للهجرة مما يدل على إحتفاظهم بذات القوة.
والجواب من وجوه:
الأول: الكبت أعم من أن ينحصر بالحال، وهو من أسرار مجيء آية السياق بصيغة الفعل المضارع، ولا يدل قوله تعالى[أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] على إنحصار حصول الكبت في ميدان القتال بحيث يصيبهم الفزع والقنوط ويختارون الإنسحاب والرجوع إلى بلادهم.
فلا تعارض بين وقوع الكبت في المعركة وإستمراره بعدها.
الثاني: لم يقاتل الكفار في معركة الخندق، وإنسحبوا بعد خسارة أحد أبطالهم وهو عمرو بن ود العامري إذ كان قتله إنذاراً وكبتاً لهم ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
الثالث: صبر المسلمين في مواجهة العدو يوم الخندق مع كثرة عدد جنوده كبت وصرع لقادته وأفراده، إذ أرسل الله عليهم ريح الصبا في ليلة شاتية، (فلم تطمئن لهم قدر، وسفر التراب على وجوههم، لذا قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نصرت بالصبا( ) واهلكت عاد بالدبور)( )، واطفأت نيران المشركين وماجت خيلهم (وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم) ( )، ( فقال طليحة بن خويلد الأسدي: أما محمد فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء فانهزموا من غير قتال) ( ).
ولكن هذا القول منه , وما يصدر من رؤساء الكفر من أسباب الضلالة والفرية لم يمنع عامة جيش الكفار من إدراك المعجزة والتحدث بها بلغة التصديق ، فما أن عادوا إلى مكة وقراهم حتى أخذوا يتوافدون على المدينة المنورة لإعلان إسلامهم مما يعني أن إنسحابهم من ميدان المعركة من غير قتال مقدمة لدخولهم الإسلام، وأن قادتهم أدركوا أن عامة جيشهم لا يقاتلون .
وترى بني قريظة لم ينصروهم مع أن نفراً من كبراء بني النضير كان لهم الأثر في تحزيب الأحزاب، ومارسوا الضغوط على كعب بن أسد القرظي صاحب عقد وعهد بني قريظة، الذي وادع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قومه وامضى معه عهداً وامتنع كعب بن أسد عن نقض العهد وأغلق باب حصنه بوجه من أراد نقضه في بداية الأمر ولكنه وافق في الأخير على نقض العهد، لتكون نتيجة معركة الخندق كبتاً وخزياً للكفار ومن ولاهم ونصرهم، ويصير هذا الكبت على وجوه:
الأول: إنه مقدمة لنزول قوله تعالى [لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] ( ).
الثاني: فيه حث للمسلمين المسلمين على التقوى والصلاح ، ولقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحضّ على التقوى ، ويرّغب بها ، وهي وصيته للمسلمين (عن عبد الله بن مسعود قال : نعى إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، بأبي هو ، نفسه قبل موته بشهر ، فلما دنا الفراق جمعنا إليه في بيت أمنا عائشة ، ثم نظر إلينا ، ودمعت عيناه ، وتشدد .
فقال : مرحبا بكم ، حياكم الله ، رحمكم الله ، آواكم الله ، نصركم الله ، رفعكم الله ، نفعكم الله ، هداكم الله ، رزقكم الله وفقكم الله ، سلمكم الله ، قبلكم الله ، أوصيكم بتقوى الله ، وأوصي الله بكم ، وأستخلفه عليكم ، إني لكم منه نذير مبين ، لا تعلوا على الله في عباده وبلاده ، فإن الله قال لي ولكم [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]( )، وقال [أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ]( ).
ثم قال : قد دنا الأجل والمنقلب إلى الله ، وإلى سدرة المنتهى ، وإلى جنة المأوى ، وإلى الرفيق الأعلى ، والكأس الأوفى، والحظ والعيش المهنى قلنا : فمن يغسلك يا رسول الله .
قال : رجال أهل بيتي ، الأدنى فالأدنى قلنا : وكيف نكفنك ،
قال : في ثيابي هذه ، إن شئتم ، أو في حلة يمانية ، أو في بياض مصر قلنا : فمن يصلي عليك منا .
فبكينا وبكى : ثم قال : مهلا ، غفر الله لكم ، وجزاكم عن نبيكم خيرا ، إذا غسلتموني وكفنتموني ، فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري ، ثم اخرجوا عني ساعة ، فإن أول من يصلي علي جليسي وخليلي ، جبريل ثم ميكائيل ، ثم إسرافيل ، ثم ملك الموت مع جنوده .
ثم ادخلوا علي فوجا فوجا ، فصلوا علي وسلموا تسليما ، ولا تؤذوني بباكية ، ولا ضجة ، ولا رنة ، وليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي ونساؤهم ، ثم أنتم ، اقرءوا عني السلام كثيرا من غاب من أصحابي ، فإني قد سلمت على من بايعني على ديني إلى يوم القيامة ، قلنا : فمن يدخلك في قبرك .
قال : أهلي مع ملائكة كثيرة ، يرونكم من حيث لا ترونهم) ( ) .
الثالث: إنه برهان للمسلمين على صدق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع: إنه مناسبة ووسيلة لتثبيت سنن التنزيل في الأرض.
الخامس : دعوة المسلمين للإجتهاد بالشكر لله عز وجل على نعمة صرف شرور عشرة آلاف من المشركين بعد حصارهم المدينة .
السادس : التدبر والتفكر بكبت الذين كفروا في معركة الخندق كمعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفيه بعث المسلمين على الشكر لله عز وجل لما يصيب الكفار من الكبت والخزي.
وتقدير الجمع بين الآيتين: أو يكبتهم واتقوا الله) وفيه دعوة للمسلمين للثبات في مواطن القتال مع مجيء النهي عن أكل الربا، بلحاظ أن كلاً من هذا الثبات والتقيد بأحكام النهي في باب المعاملات مصداق للتقوى، وشاهد على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
فمن خصائص الجماعة ظهور الملل عند فريق منهم عند إزدياد الأوامر والواجبات لاسيما إذا كانت في ميادين وموضوعات متباينة، ولكن المسلمين إتصفوا بالإنقياد التام للأوامر الإلهية، وتلقي الأحكام بالقبول والإمتثال، وهو المصداق الأمثل للتقوى، فتفضل الله عز وجل وجعلهم يرون بأعينهم كيف يصاب عدوهم مع كبريائه بالكبت والخزي، وفيه وجوه:
الأول: إنه شكر عاجل من الله عز وجل للمسلمين.
الثاني: إنه باعث على تقيد المسلمين بالأحكام الشرعية.
الثالث: فيه موضوع للمناجاة بين المسلمين للتنزه من الربا، قال تعالى[لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
الرابع: توكيد عظيم قدرة الله وبطشه بأعدائه وأعداء رسوله.
الخامس: إنه من التفسير الحاضر لخاتمة الآية التي سبقت آية السياق[وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( )، وإن الله عز وجل جعل النصر للمؤمنين، ومن عزته وقوته وحكمته هلاك عدد من رؤساء المشركين، ورمي جيش المشركين بالخزي والذل.
السادسة: ليس من حصر لمواضيع التقوى، وهي على وجوه:
الأول: ما يكون ذاتياً، خاصاً بفعل العبد كأدائه الفرائض والواجبات.
الثاني: ما يتعلق بالغير من الناس، وما فيه الهداية والفلاح، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفعل الخير , قال تعالى[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ]( ).
الثالث: الأمر الجامع للذات والغير، ومنه حرمة الربا، لتعدد أطراف العقد الواحد منه.
والتقسيم أعلاه للبيان والتفصيل، وليس إستقراء.
فمن الصعب أن تجد فيصلاً وبرزخاً بين الوجوه الثلاثة أعلاه وعند التحليل الذهني تجد أن كل مصداق من مصاديق التقوى ينفع الذات والغير.
وجاءت آية السياق وقوله تعالى[أَوْ يَكْبِتَهُمْ] لبعث المسلمين على التقوى، وحثهم على التقيد بسننها وحب فعل الخير من رشحات قوله تعالى [فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا] ( ) وهو من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض .
فعندما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) لوقوع الفساد وسفك الدماء فيها ، وهي ملك طلق لله عز وجل، أجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) بلحاظ أن حب الناس لفعل الخير باب للثواب ، وزاجر عن الفساد .
ويشمل عموم النهي عن الربا المسلمين والمسلمات جميعاً، أخذاً وإعطاءً، وتلك آية في التقوى والصلاح تشع على الأرض وتبعث السكينة في النفوس، والنفرة من المعاملات الفاسدة وأكل أموال الناس بالباطل وإن كان يحمل صفة العقد، وفيه كبت وخزي آخر للكفار في الأسواق والتجارات إلى جانب الكبت والخزي الذي لحقهم في ميادين القتال، وتلك آية في تقوى المسلمين بأن يلازموا التقوى فتصاحب الخيبة والخسارة أعداءهم الكفار.
الثاني : التنزه عن أكل مال الربا وعدم إجراء المعاملات الربوية، وترك الشهادة عليها طاعة لله عز وجل، وتلك آية في التقوى، ومع هذا جاءت الآية بعطف الأمر بتقوى الله على النهي عن الربا.
الثالث : ترك السعي لكسب الأموال الكثيرة والأضعاف المضاعفة التي تأتي عن طريق الربا، لأن الله عز وجل حرّم أصل هذه المعاملة.
الرابع : طلب المسلم الرزق الحلال ، و(عن ابن عباس : أنه سئل عن هذه الآية {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة}( ) قال : الحياة الطيبة ، الرزق الحلال في هذه الحياة الدنيا . وإذا صار إلى ربه جازاه بأحسن ما كان يعمل)( ).
الخامس : بقاء أجيال المسلمين متقيدين بحرمة الربا، ومن التقوى أن هذا التقيد لاينحصر بأصحاب الأموال بل يشمل المسلمين جميعاً، من وجوه :
الأول : إرادة المسلمين عامة إجتناب الربا.
الثاني : النفرة من الربا لأنه مناف للتقوى.
الثالث : التسالم بين المسلمين على حرمة الربا، واجتنابه أضراره.
وتلك خصوصية في (خير امة) بأن ينفر أفرادها مع كثرتهم وإنتشارهم في عموم الأرض من الأمر الذي حرّمه الله وان كانت به منفعة، وربح ظاهر.
الرابع : التفقه في الدين لمعرفة التباين بين البيع والربا، قال تعالى[قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
قانون توارث حرمة الربا
لقد أنزل الله عز وجل القرآن ليبقى إماماً إلى يوم القيامة ومن خصائصه الترغيب العام بفعل الخير ، وبعث النفرة من ارتكاب المعصية ، وفي التنزيل [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ]( ).
توارث المسلمين إجتناب الربا، وهو أمر أعظم من الملكة، وآية إختص الله بها المؤمنين، بأن جعلهم سيتوارثون التنزه من الأمر المحرم لتولد معهم ملكة الغلبة على النفس الشهوية والغضبية ليعرف المسلمون بهذه الخصال المباركة، وتكون دعوة للناس من عالم الأفعال والسيرة بدخول الإسلام، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( )، بتقريب أن الله عز وجل جعل مبادئ الإسلام والتقوى راسخة في الوجود الذهني وتكون عند المكلفين من المسلمين سابقة لأوان البلوغ والتكليف وملازمة له.
ومن الآيات أن غير البالغ لا يتوجه له الخطاب التكليفي إلا أنه مشمول بحرمة الربا، وعليه إجتنابه ما دام قادراً على التمييز بين الحق والباطل، والحلال والحرام، بالإضافة إلى وظيفة الولي وغيره من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزجر الصبي عن المعاملة الفاسدة، وفي تقيد صبيان المسلمين من ذوي الأموال وغيرهم بأحكام حرمة الربا أمور:
الأول: فيه كبت وخزي للكفار، وحجة عليهم.
الثاني: بعث اليأس والقنوط في قلوب الكفار من أبناء المسلمين لأنهم يولدون على فطرة الإسلام.
الثالث: بيان ثبات أحكام الشريعة الإسلامية، وتوارث الأجيال لها، فاذا كان الصغير متقيداً بها، فمن باب الأولوية أن الكبير يتقيد بها ويتعاهدها ويحافظ عليها.
فيفتخر المسلم أنه إمتنع عن الربا في صباه حيث لا تكليف، وفي شبابه وكهولته وشيخوخته.
ومن الآيات أن المسلم في مأمن من الكفار في هذا الباب لأنهم في حال من الكبت والقهر، ويدل عليه إعراض المسلمين عن المعاملات الربوية طاعة لله عز وجل.
فإن قلت سلّمنا أن أصحاب الأموال من صبيان المسلمين يتقيدون بأحكام حرمة الربا وتدل عليه الشواهد والوجدان هم وأولياؤهم وأهل القيمومة عليهم ولكن أقرانهم ممن ليس عندهم أموال لا دليل عن تقيدهم بها، إنما هو من عمومات(من العصمة إنعدام المعصية).
والجواب إن حرمة الربا تنشـأ مع أطفال المسلمين في الحضانة والمدرسة والبيت والسوق , فيسمع الصبي تلاوة آية البحث والآيات المشابهة لها في الموضوع والحكم ، ويرى بحواسه نفرة عموم المسلمين من موضوع الربا والذي يقوم به.
قانون كثرة سبل الفلاح
أختتمت آية البحث بقوله تعالى(لعلكم تفلحون) ويأتي الفلاح للمسلمين من وجوه كثيرة منها:
الأول : حسن إيمان المسلمين، وأداء الوظائف العبادية ، قال تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى]( ).
الثاني : التوفيق والمدد من الله عز وجل في إتيان الصالحات، وفعل الحسنات، قال تعالى[أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ]( ).
الثالث : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع : الإمتناع عن الأمور التي نهى الله عز وجل عنها، ومنها الربا.
الخامس : تقوى الله والخشية منه بالغيب ، وإتخاذ التقوى سلاحاً ووقاء وحرزاً وكنزاً، قال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
السادس : ما يلحق الكفار من الضرر لجحودهم وصدودهم، ومنه هلاك طائفة من كبرائهم الذين يخرجون لقتال المسلمين، وخزي وصرع الباقين منهم، كما تدل عليه آية السياق[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ]( ).
لقد أراد الله عز وجل للحياة الدنيا أن تكون (دار الفلاح) وهو مقيد بالإيمان، فلا يكون الفلاح والبقاء والتوفيق إلا مع الهداية والإيمان، فقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة، فخاطب العقل الذي هو رسول باطني عند الإنسان للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزات جرت على يديه وتعضدها آيات كونية وآيات من التنزيل باقية إلى يوم القيامة بذات النضارة التي نزلت بها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وكل آية كنز تستخرج منه مضامين الحكمة التي تؤكد نزوله والتي تنفع الناس بما يقودهم في مسالك الفلاح، ومنها آية البحث التي تضمنت نهي المسلمين عن أكل الربا، نهياً لا يقبل الترديد وتعدد التأويل.
والفلاح نعمة عظمى ينالها الإنسان بالإيمان وفعل الصالحات ، ومن إعجاز القرآن ذكر مصاديق الفلاح ، وصفات أهله في أول سورة المؤمنون قال تعالى [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ) ، لبيان الفلاح فعل في الدنيا وجزاء في الآخرة وعن رسول الله (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته ، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر ، وإن انتقص من فريضته قال الرب : انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به ما انتقص من الفريضة ، ثم يكون سائر عمله على ذلك)( )، والتوبة من الفلاح ، قال تعالى [فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ]( ) .
ومن فضل الله أن عسى ولعل منه تعالى وفي باب رحمته إيجاب وتنجز وتحقيق وهل الإمتناع عن الربا من الفلاح الجواب نعم ، وهذا الإمتناع من الصبر والتقوى وهو سبيل للفلاح ، قال تعالى [لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
قانون الترغيب بالفلاح
وهل في آية البحث ترغيب للمسلمين بالفلاح الجواب نعم، من وجوه:
الأول : مجيء الآية بالخطاب التشريفي(يا أيها الذين آمنوا) والذي يدل بالدلالة التضمنية على إكرام المسلمين وحثهم على التحلي بسنن الإيمان بالتقيد بالأوامر والنواهي الإلهية.
الثاني : القبح الذاتي لأكل المال بالربا، لما فيه من أخذ الفائدة الكبيرة على القرض.
الثالث : بعث المسلمين للتقوى والخشية من الله، لقوله تعالى في ذات آية البحث (وأتقوا الله).
وأختتمت الآية الكريمة بالترغيب بالفلاح، وفيه تذكير بموضوع الفلاح والبقاء، ولعل من أسرار نفخ الروح في آدم عليه السلام بقوله تعالى [فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا] ( )، رغبة الإنسان في البقاء ومع اليأس من إستدامة البقاء في الحياة الدنيا أكثر من عمر الإنسان الذي يدركه كل لما تدل بالبينة والشواهد والوجدان فإنه يسعى لبقائه أطول مدة، ويجتهد في جمع الأموال ، ويتوخى البقاء في ذريته وخلقه، وأسباب إستمرار ذكره قال تعالى[الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ] ( ).
فجاءت آية البحث لتؤكد حقيقة وهي أن البقاء الحسن والمبارك بتقوى الله وإجتناب الربا، وتدل آية السياق على أن الذي يكفر بالله ورسالة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصاب بالكبت والقهر والخزي، لتبقى ذات الدنيا داراً لفعل الصالحات ونشر مفاهيم المعروف والأخلاق الحميدة.
وهل الفلاح من الخير الجواب نعم فهو خير محض ومقدمة للخير وبشارة لنيل المراتب العالية، وغاية في الخير وهو من عمومات قوله تعالى[أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ).
ويتجلى الفلاح بملكة الإمتثال للأوامر الإلهية، ومصاديق إجتناب ما نهى الله عز وجل، ومنها أكل مال الربا.
ويمكن القول بقانون وهو كل آية قرآنية دعوة سماوية للفلاح , الجواب نعم .
وأيهما أهم في ميادين التقوى ورجاء الفلاح إتيان الأوامر كالصلاة والصوم والزكاة أم إجتناب ما نهى الله عز وجل كالربا والزنا.
الجواب من وجوه:
الأول : الأوامر والنواهي في عرض واحد من الأولوية والأهمية.
الثاني : تجلي الملازمة ظاهرة بين إتيان ما أمر الله عز وجل به، والتنزه عما نهى عنه.
الثالث : كل فرد من الأوامر والنواهي مصداق للتقوى، ولبنة ذهبية في صرحها الخالد، وضياء يراه أهل السماء قبل وبعد أهل الأرض.
وعندما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض، كما ورد حكاية عنهم في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
جاء الرد من عند الله عز وجل بإحاطتهم علماً بما يعجز الملائكة عن إدراكه ومنه أن المسلمين يتسابقون ويتناجون في إجتناب النواهي ومنها الربا، إذ تفيد آية البحث النص على حرمته بأداة النهي (لا) في قوله تعالى (لا تأكلوا).
قانون الزهد واقية من الربا
لقد نزلت الكتب السماوية بالإعراض عن الدنيا ، والزهد في زينتها ، ومنه حرمة الربا ، لتكون امتثال المؤمنين بخصوصه زهداً ، ورضا بالقليل من متاع الدنيا ، وكذا بالنسبة لمقترض المال الربوي فانه يصبر ويمتنع عن المعاملة الربوية .
ومن الزهد ترك الحلال مخافة الحساب ، ليكون ترك الحرام من باب الأولوية القطعية ، وعن سعد بن سعد (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعظ رجلا فقال : ازهد في الدنيا يحبك الله عز وجل وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس)( ).
ومن خصائص المسلمين وتفقهم في أحكام القرآن أنهم لم يتأولوا الآية بما يفيد الربح الوفير بالإحتيال في الربا، كما في طائفة من أهل قرية من أهل الملل السابقة كما في قوله تعالى[إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ]( ).
وكان فريق من أهل القرية يعظ الذين يعصون أمر الله ولكنهم لا يستمعون لهم إلى أن نزل العذاب بهم وأنجى الله الذين ينهون عن السوء.
أما المسلمون فلم تقم فرقة منهم بتعاطي الربا، ولم تجد في الكتب الفقهية للمسلمين ما فيه إنحراف عن حرمة الربا.
ومن الآيات أن تجار المسلمين وأصحاب الأموال منهم يحذرون من الربا، ويسعون للتفقه في الدين إحترازاً منه.
وإذا قام فرد من المسلمين بتعاطي الربا يأتيه الأذى العاجل، من وجوه:
الأول : توجه اللوم له من المسلمين جميعاً.
الثاني : تسوء سمعته.
الثالث : تنفر النفوس منه.
الرابع : يشعر بالندم عند تلاوة أو سماع آية البحث ويتدبر في أمره ويدرك عظيم ذنبه.
وليس من أمة منهم مثل الأمة التي ورد ذكرها بخصوص أهل القرية أعلاه إذ كانوا يصدون المؤمنين عن زجرهم ونهيهم عن المعصية كما ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا]( ).
وكل المسلمين متحدون في النهي عن الربا، وذم فاعله لذا أثنى الله عز وجل عليهم بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]، ليكون هذا الإتحاد من الشواهد على بقاء أحكام الإسلام والعمل بها إلى يوم القيامة، وعدم طرو النسخ والتبديل عليها، وهو من مصاديق قوله تعالى(لعلكم تفلحون) لما فيه من الفلاح والبقاء، إذ أن التقيد بأداء الوظائف العبادية وأحكام المعاملات في البيع والشراء من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، بلحاظ سعة رحمة الله بالناس وأن عبادة الناس لله سبب لإستدامة الخلق والحياة.
إن قوله تعالى أعلاه(وما خلقت) يحتمل بخصوص خلق الناس أموراً:
الأول : المقصود أصل الخلق، ونفخ الروح في آدم عليه السلام.
الثاني : إرادة أصل الخلق، وهبوط آدم وحواء إلى الأرض قال تعالى[قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى]( ).
الثالث : تجدد الخلق مع كل جيل وطبقة من الناس وولادة كل فرد.
والصحيح هو الثالث لقوه تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، والذي يدل على توجه الخطاب إلى أهل زمان النبوة والذين من بعدهم، بدليل ذكر الآية لخلق الأمم السابقة بصيغة العطف(والذين من قبلكم) وما فيها من التعدد والمغايرة.
وهل تدل الآية أعلاه على الخلق ما بعد نزولها، وأن الجمع بينها وبين آية البحث أن الإمتناع عن الربا جزء علة في هذا الخلق.
الجواب نعم، لوجوه:
الأول : خطابات القرآن متجددة، وتتوجه لكل جيل من المسلمين في كل زمان.
الثاني : من معاني العبادة طاعة الله في التنزه عن الربا، وعبادة الله علة تامة للخلق بدليل الآية أعلاه من سورة الذاريات.
الثالث : يشمل خطاب الخلق عموم الناس سواء المسلم وغير المسلم، والبالغ وغيره، وهل يشمل ما في الأرحام الذين لم يولدوا بعد.
الجواب خطابهم معلق إلى حين الولادة والبلوغ، لأن القدر المتيقن هو الموجود من الناس، لذا ترى أحكام الأرث تتعلق بالموجود ولا تشمل المعدوم، نعم تترك حصة للحمل إن كان موجوداً، فان ولد حياً واستهل صارخاً كان له نصيبه وفق عمومات قوله تعالى[لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ]( )، وإلا تقسم تلك الحصة أيضاً على الورثة الموجودين.
قانون الإمتناع عن الحرام بركة
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بآية البحث ليفوز المسلمون بالفلاح ومنه كثرة النسل، وحصول البركة في ذراري المسلمين والنماء في أموالهم، وهذا النماء فضل من الله عز وجل، وهل ينحصر موضوعه وأسبابه بخصوص أصحاب تلك الأموال وتقيدهم بأحكام البيع والشراء والإبتعاد عن الربا، الجواب لا، بل هو فضل من الله على كل من:
الأول : آباء الأفراد والطبقة من المسلمين التي تتقيد بأحكام الربا.
الثاني : الذين يمتنعون عن أكل الربا أنفسهم.
الثالث : أولاد الذين يمتنعون عن الربا، من الصبيان الموجودين ممن لم يتوجه لهم الخطاب التكليفي، والذين لم يولدوا بعد،بلحاظ أنه تركة كريمة، وتأديب عملي، قال تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
الرابع : الأحفاد والذراري للمسلمين الذين سيأتون بعد عشرات ومئات السنين.
ليكون النهي عن الربا الوارد في آية البحث بركة من وجوه :
الأول : إنه رحمة بالمسلمين وأجيالهم المتعاقبة .
الثاني : إنه رحمة بالناس بالواسطة .
الثالث : فيه فيض وسر من أسرار إستدامة الخلق، وتعاقب الأجيال.
الرابع : ما يتفرع عنه من الفيض والرزق الإلهي .
الخامس : إستمرار عبادة الله في الأرض وتلاوة آيات القرآن، وهو من الفلاح والترغيب بالسعي إلى الفلاح.
حرف الترجي في آية البحث
من معاني حرف الترجي الوارد في خاتمة آية البحث(لعلكم تفلحون) البعث للسعي للفلاح النفسي والغيري، وهذا الغيري أعم من أن ينحصر بالذين هم في محيط المسلم بل يشمل الناس بفردي العرض والطول، أما العرض ففيه وجوه:
الأول: التنزه عن الربا طاعة لله عز وجل , ورسالة شخصية موجهة للناس جميعاً، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثاني : إنه بلاغ وحجة في لزوم الإمتثال لأوامر الله.
الثالث : حث الناس على إجتناب المعاملات الفاسدة التي تؤدي إلى الضرر الخاص والعام وكساد التجارات إذا شاع إستعماله، وصار هو الغالب والسائد في الأسواق.
الرابع : رجاء الأجر والثواب من عند الله وقال بعض المفسرين أن (لعل) من الله واجبة ، لبيان ترتب الأثر الحسن والأجر على تلاوة آية البحث والعمل بمضامينها القدسية .
وأما الطول فمن وجوه:
الأول : إمتناع المسلمين عن أكل الربا مقدمة وتأسيس لمنهج قويم يتبعه الأبناء.
الثاني : إنه أرث عقائدي وأخلاقي تفتخر به الأمم اللاحقة من المسلمين.
الثالث : فيه حجة للمسلمين، ومصداق لنيلهم مرتبة(خير أمة).
قانون انتفاع اللاحق من تقوى السابق
إنتفاء الجهالة والغرر عن أجيال المسلمين، فكل فرد منهم يعلم أن آباءه إمتنعوا عن الربا، وورد في قصة موسى عليه السلام والخضر قوله تعالى[أَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا]( ).
وروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: كان بينهما وبين ذلك الأب الصالح سبعة آباء)( ).
وتلك آية في الفضل الإلهي على المسلمين في أنفسهم وذراريهم، وإن كان موضوع الآية يتعلق بالمسلمين من الأمم السابقة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو شامل لعموم المسلمين في الأجيال المتعاقبة لوجوه:
الأول : وحدة الموضوع في تنقيح المناط، بلحاظ تنمية ملكة الصلاح وتعاهد المسلمين لها، ومنها العمل بمضامين هذه الآية.
الثاني : أولوية إكرام المسلمين الذين آمنوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم(خير أمة) ولأن الصلاح سنخية متوارثة عندهم، فإذا كان الغلامان حفظهما الله ومالهما في جدهما السابع فإن المسلمين يتوارثون الصلاح أباً عن جد، ومنه إجتناب أكل المال بالربا والمعاملة الفاسدة.
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده و أهل دويرته و دويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله) ( ).
إن العناية واللطف الإلهي بالمسلم وذريته كبت وقهر للكفار، وباعث للألم في نفوسهم، وهو لا يتعارض مع ما فيه من ترغيبهم بالإسلام والفوز بهذه العناية وبلوغ مراتب الفلاح، ومحاكاة المسلمين في إتخاذ إجتناب الربا بلغة للفلاح والنجاح واللبث الدائم في الجنة.
ليكون موضوع الربا فيصلاً بين الإيمان والكفر، وبين البقاء والزوال، فمن شاء البقاء فعليه بتقوى الله والعمل بأحكام القرآن وما في من السنة النبوية قال تعالى[إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً]( ).
تتصف معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنها عقلية وحسية، وأنها كثيرة وتوليدية، وفي كل موضوع وعلم كنوز ولآليء، ومن وظائف كل معجزة في المقام أمور:
الأول : تثبيت قلوب المسلمين وإنارة دروب الهداية لهم.
الثاني : بعث المسلمين على أداء الفرائض والعبادات.
الثالث : دعوة الناس لدخول الإسلام وكل معجزة حجة عليهم، وشاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنه آيات القرآن، قال تعالى [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ).
الرابع : بيان التباين بين الإيمان والكفر، وحال المسلمين وحال الكفار، فمن المتسالم عليه تأريخياً أمور:
الأول : بداية الإسلام غريباً فصار الدين الأظهر بفضل الله.
الثاني : كان المسلمون في حال عوز وفاقة، فما لبثوا في سنوات قليلة بعد الهجرة حتى أصبحوا من أغنى الناس.
الثالث : لم ينبعث الإسلام من دولة أو يولد في رحم سلطان وملك، بل إجتمع المستضعفون حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل , فلم تمر بضع سنوات حتى صاروا حكاماً وأمراء وقادة وعلماء في الفقه واللغة وغيرهما.
الرابع : كان المسلمون ضعفاء فأصبحوا أعزة أقوياء قال تعالى[وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ]( ).
وفي حال العز والمنعة التي صار عليها المسلمون أمور:
الأول : إنها من عمومات قوله تعالى(لعلكم تفلحون).
الثاني : إنها بذاتها فلاح.
الثالث : هي مقدمة تؤدي إلى الفلاح.
الرابع : تبعث تلك المنعة على جذب الناس للإيمان لتكون رحمة بالناس جميعاً.
الخامس : إنها مصداق عملي لقوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
أي ينال المسلمون منزلة العز ويمتلكون القوة فيتخذونها آلة للتقيد بالأحكام الشرعية وإجتناب الربا والمعاملات الفاسدة فتكون رحمة بالناس جميعاً ودعوة لهم لنبذ الكفر والضلالة وما يتفرع عنها من إتيان الفواحش، وإجراء المعاملات الفاسدة التي تكون سبباً لأمور:
الأول : الضرر العام.
الثاني : كساد التجارات.
الثالث : حصول البطالة.
الرابع : تعدد حالات الإفلاس.
الخامس : ظهور الجريمة.
السادس : شيوع الكآبة وأمراض النفس.
فجاء الإسلام بمحاربة أصل هذه الفتن بالنهي عن الربا، ودعوة الناس للتفكر بأحكام الإسلام، وما فيها من إصلاح للأجيال، وحفاظ على سلامة الأسواق والتي تتقوم معها الحياة الدنيا ليس فقط بإحترام الملكية الخاصة، بل للمنع من ضياعها وأكل الغني لأموال الفقير.
وورد في القرآن نبأ الخصمين الذين جاءا لداود بقوله تعالى[إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ] ( ).
وجاءت الآية على نحو التمثيل لداود، وذكرت روايات عديدة في تفسير وقصة الآية الكريمة بخصوص داود عليه السلام وأنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب، إذ قال:( يا رب إنّ آبائي قد ذهبوا بالخير كله ، فأوحى إليه: إنهم ابتلوا ببلايا فصبروا عليها : قد ابتلي إبراهيم بنمروذ وذبح ولده، وإسحاق بذبحه وذهاب بصره ، ويعقوب بالحزن على يوسف.
فسأل الابتلاء فأوحى الله إليه : إنك لمبتلى في يوم كذا وكذا ، فاحترس ، فلما حان ذلك اليوم دخل محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور.
فجاءه الشيطان في صورة حمامة من ذهب ، فمدّ يده ليأخذها لابن له صغير ، فطارت ، فامتدّ إليها ، فطارت فوقعت في كوّة ، فتبعها ، فأبصر امرأة جميلة قد نقضت شعرها فغطى بدنها ، وهي امرأة أوريا وهو من غزاة البلقاء .
فكتب إلى أيوب بن صوريا وهو صاحب بعث البلقاء . أن ابعث أوريا وقدمه على التابوت ، وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد ، ففتح الله على يده وسلم ، فأمر بردّه مرة أخرى ، وثالثة ، حتى قتل ، فأتاه خبر قتله فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء، وتزوج امرأته) ( ).
وجاءت القصة في بعض الإسرائيليات بصيغة لا تليق بمقامات النبوة، وبما يتعارض مع تنزيه مقام الأنبياء قبل أن تصل النوبة إلى الإقرار ببلوغهم منزلة العصمة والسلامة من الرزق صغيراً كان أو كبيراً.
وعن سعيد بن المسيب والحرث الأعور: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حديث الفرية على الأنبياء) ( )، وفي الحديث أعلاه أمور:
الأول: إظهار قدسية الأنبياء، وتوكيد ما لهم من منزلة رفيعة خاصة عند الله لا يرقى إليها غيرهم.
الثاني: تفضيل الأنبياء وإكرامهم، ومضاعفة عقوبة الإفتراء عليهم، فحد الإفتراء هو ثمانون جلدة.
ولقد جاء هذا الحديث لبيان الضرر العام الذي يأتي من الفرية على الأنبياء.
الثالث: في الحديث تأديب ودعوة للإحتراز عند الحديث عن الأنبياء.
الرابع: دعوة المسلمين للصدور عن القرآن في أخبار وقصص الأنبياء، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الخامس: جاء القرآن بالإنذار بالعقوبة بالضعف والثواب بالضعف لأزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ] ( ), لبيان منزلة نساء النبي ولزوم تقيدهن بأحكام الشريعة وموضوعية الفعل الذي يقمن به، فجاء الإنذار من الإمام علي عليه السلام للزجر عن الإفتراء على الأنبياء.
السادس: يدل الخبر على وجود قصاصين يحكون الأخبار والقصص ولم يمنعهم الإمام عليه السلام ولكنه أنذرهم من التعدي والظلم، ونهى عن الإفتراء على الأنبياء وتوعد بإقامة الحد على من يفتري عليهم، وقد صارت ظاهرة القصاصين فيما بعد متعارفة إذ كانوا يرتقون المنبر بعد صلاة الجماعة ويروون المغازي والقصص.
السابع: في الحديث أمارة على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم على الأنبياء السابقين، إذ يتوارثون المسلمون وأئمتهم تنزيه الأنبياء والذب عنهم.
صلة الآية [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ] ( )،بهذه الآية
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: النسبة بين صيغة الخطاب في الآيتين، هي العموم والخصوص المطلق، إذ توجه الخطاب في آية البحث إلى المسلمين والمسلمات جميعاً، بينما توجه في آية السياق إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين.
وهل هو خطاب خاص أم يشمل المسلمين بالإلحاق.
الجواب هو الثاني وفيه آية في نضارة الخطاب القرآني وتجدده، في كل زمان بتوجهه إلى المسلمين والمسلمات من غير أن يتعارض هذا التجدد مع أصالة إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحضور هذا المعنى في الوجود الذهني لكل مسلم، وإستحضاره عند تفسير الآية، وتقدير صيغة الجمع في الخطاب(ليس لكم من الأمر شيء).
وهل يصح القول بجواز توجه الخطاب إلى كل مسلم ومسلمة بصيغة المفرد[لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ] أم أن صيغة المفرد خاصة بمقام النبوة.
الجواب الأولى الترك، وان كان لا مانع من هذا التقدير لأمور:
الأول: إقتداء وتعلم المسلمين من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
الثاني: عمومات الخطاب القرآني، وبيان عظيم النفع من هذا العموم.
الثالث: بقاء مضامين الآية القرآنية غضة حية طرية.
الرابع: إنه مصداق من مصاديق الفلاح الذي جاءت خاتمة آية البحث(لعلكم تفلحون) بالتوكيد عليه، وحث المسلمين على السعي إليه.
الخامس: دلالة الجمع بين بدايتي الآيتين، ومجيء الخطاب في آية البحث بالمدح والثناء على المسلمين، ليكون من مصاديقه إتباع نهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنفرة من الكفار.
السادس: نزول شآبيب الرحمة على المسلمين , وتعدد أسباب هدايتهم وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثانية: يفيد الجمع بين الآيتين: إكرام المسلمين من وجوه:
الأول: إيمان المسلمين بالله.
الثاني: تصديق المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: تلقي المسلمين آيات القرآن بالقطع والجزم بأنها نازلة من عند الله عز وجل ومنها آية البحث وما فيها من حرمة الربا.
الرابع: تقيد المسلمين بمضامين آية البحث، والتنزه عن الربح الزائد غير المشروع في القرض.
الثالثة: تقدير الجمع بين الآيتين: يا أيها الذين آمنوا ليس لكم من الأمر شيء) بلحاظ أن تعدد هذا الإيمان على وجوه:
الأول: إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله.
الثاني: إن مقاليد الأمور بيد الله عز وجل، وأنه قادر على كل شيء، قال تعالى[أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( ).
الثالث : إيمان المسلمين بنزول العذاب الأليم بالكفار لتعديهم وظلمهم.
وتقدير الجمع بين بدايتي الآيتين: يا أيها الذين آمنوا ليس لكم من الأمر شيء) للأولوية فإذا كان سيد الأنبياء والمرسلين ليس له من الأمر شيء، فكذا أمته، وفيه مسائل:
الأولى : إن الله عز وجل ينتقم من الكفار الذين يصرون على التعدي على المسلمين.
الثانية : زجر الكفار عن الإستمرار بتجهيز الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : من دلالات هذا الجمع بعث السكينة في نفوس المسلمين، وطرد الفزع عنهم.
الرابعة : حث المسلمين على التقوى والخشية من الله.
الخامسة : تجلي معاني التقوى بإجتناب ما نهى الله عز وجل عنه ومنه الربا وأكل المال بالباطل ، قال تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ]( ).
ومن مصاديق المنّ في المقام حرمة الربا على المسلمين عقداً وشهادة وكتابة وأكلاً ودفعاً.
الصلة بين(ليس لك من الأمر شيء) وهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين: ليس لك من الأمر شيء لا تأكلوا الربا) وفيه أمور:
الأول: الدلالة على أن النهي عن الربا أمر من عند الله، وليس من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكل الأوامر والنواهي الواردة في القرآن من الله، وهو سبحانه أعلم بالمصلحة والمفسدة، وهناك نوع ملازمة بين الأمر والمصلحة، وبين النهي والمفسدة.
الثاني: حكم النهي عن الربا محكم وغير قابل للنسخ، والمختار أن السنة النبوية لا تنسخ القرآن، وإن نسب بعضهم إلى المشهور القول بالعكس.
ولا دليل على هذه النسبة خصوصاً وأن كثيراً من العلماء لم يتعرض لذكر الأمر، مما يدل على التسالم على عدم نسخ القرآن بالسنة، ولعل التقدير أعلاه من الشواهد على عدم النسخ هذا، فإن قلت إن هذا التقدير إفتراضي ولا يبتنى عليه حكم، فهذا صحيح، إلا أنه من البديهيات والأوليات التي يصدق بها العقل لذاتها من غير إستحضار لأمر خارج عن ذاتها مثل(ضياء الشمس أقوى من نور القمر).
إن آيات الأحكام من القرآن، ومنه آية البحث، وما فيها من النهي عن الربا باقية إلى يوم القيامة، ومعصومة من التغيير والتبديل والتحريف في الرسم واللفظ والحكم وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثالث: نهي المسلمين عن الرجوع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسؤاله التخفيف والإستثناء في حرمة الربا فليس فيه أذن وإستثناء خاص، وفيه توكيد لحقيقة وهي أن حرمة الربا مطلقة، وعامة لا تقبل التخصيص.
ومن الآيات أن أحكام الضرورة حاكمة في أبواب الفقه من الطهارة إلى الديات، ويؤتى بالمحظورات بقدرها، ولكن الربا محرم حتى في حال الضرورة، وهو من عمومات قوله تعالى[لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ]( ).
الرابع: سلامة السنة النبوية القولية والفعلية من التحريف في المقام، وتعذر الكذب والفرية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أحكام الربا لأن هذه الأحكام من الله عز وجل.
ويقطع المسلمون بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا ينسخها أو يبدلها، وفيه تخفيف عن المسلمين في العمل بمضامين أحكام القرآن، وتوارث حرمة الربا حكماً وفعلاً.
الخامس: إمكان تداخل الخطاب القرآني , وتوجهه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في النفي والنهي وإستنتاج الدروس والمواعظ منه.
السادس: إن قوله تعالى(ليس لك من الأمر شيء) رحمة ونعمة على المسلمين والناس جميعاً، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
فإن قلت جاءت الآية بالنفي والسلب (ليس لك من الأمر شيء) فكيف يكون من الرحمة، والجواب من وجوه:
الأول: الآية أعلاه وعد كريم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله عز وجل ينتقم من الكفار الذين يقاتلون المسلمين.
الثاني: نسبة وتفويض الأمور لله عز وجل من الرحمة والرأفة بالمسلمين والناس.
الثالث: توكيد حقيقة نزول القرآن من عند الله، وأن النبي ليس له إلا الذي يأمر ويأذن به الله عز وجل.
الثانية: إن الله عز وجل الذي نهى المسلمين عن أكل الربا , هو الذي يتكفل سعة رزقهم، ويجعله أضعافاً مضاعفة بالكسب الحلال، إذ أن الآية تحتمل وجوهاً:
الأول: فوات الأضعاف المضاعفة من الأرباح التي تأتي من الربا لنهي الله عز وجل عنه.
الثاني: مجيء ذات الأضعاف بالرزق الحلال بلحاظ أن إجتناب الربا من مصاديق التقوى والخشية من الله، قال سبحانه[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
الثالث: إستغناء المسلمين عن الأضعاف المضاعفة من أرباح الربا.
الرابع: جعل البركة في أرزاق المسلمين بدلاً عن الأرباح الربوية.
والصحيح هو الثاني والرابع، من وجوه:
الأول: ما يكسبه المسلمون من الإمتناع عن أكل الربا أكثر كماً وكيفاً مما يأكل من الربا.
الثاني: الملازمة بين طاعة الله وبين سعة الرزق، وكثرة المال قال تعالى[وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى]( ).
الثالث: الربا نوع مفاعلة تتم بين طرفين، وليس كل المسلمين يستطيعون الإقراض، وكثير من أرباب الأموال يختارون أبواباً غير الربا لتوظيف أموالهم.
الثالثة: إن مجيء الأرباح من الربا أو عدمها أمر بيد الله عز وجل ولا يقدر عليه غيره سبحانه، قال تعالى[لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، فليس من ملازمة بين المعاملة الربوية وبين الربح قليلاً كان أو كثيراً، وأراد الله للمسلمين التنزه عن الربا، ليأتيهم الرزق والربح من التجارة وهو أمر واسع ومتعدد الأبواب والمصاديق.
وبالأسناد عن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر قريش لا يغلبنّكم هذه الموالي على التجارة وإنّ البركة في التجارة وصاحبها لا يفتقر إلاّ تاجر خلاّف مهين)( ).
قانون الإمتناع عن الربا تجارة
التجارة تبادل للسلع والخدمات والمنافع لتلبية الحاجات ، وأختيار الأحسن وزيادة الثروات، والتجارة قديمة في الأرض ، ومصاحبة لإزدياد الثروات ، والتجارة قديمة في الأرض ، ومصاحبة لإزدياد عدد أولاد آدم والذي بلغ عمره تسعمائة وستين سنة (وقال السدي : أخرج الله آدم من الجنّة ولم يهبط من السماء ثمّ مسح ظهره وأخرج ذريته.
قالوا : فأخرج من صفحة ظهره اليسرى ذرية سوداء فقال لهم : ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال. وأصحاب المنامة.
وقال لهم : جميعاً أعلموا أن لا إله غيري وأنا ربكم لا رب لكم غيري فلا تشركوا بي شيئاً فإنّي مرسل إليكم رجالاً يذكرونكم بعهدي وميثاقي ومنزل عليكم كتباً فتكلّموا وقالوا : شهدنا بأنك ربنا وإلهنا ولا رب لنا غيرك .
فأقرّوا يومئذ كلهم طائفة طائعين. وطائفة على وجه التقدير تقيّة .
فأخذوا بذلك مواثيقهم وسُمّيت آجالهم وأرزاقهم وحسابهم فنظر إليهم آدم .
ورأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك.
فقال : رب لولا سويت بينهم .
فقال : إنّي (أحببت أن) أشكر.
قالوا : وفيهم الأنبياء يومئذ أمثال السرج فرأى آدم نوراً ساطعاً فقال : من هذا؟
فقال : هذا داود نبي من ذريتك قال : كم عمره؟
قال : ستّون سنة قال : رب زده.
قال : جرى القلم بآجال بني آدم .
قال : رب زده من عمري أربعين سنة .
فأثبت لداود أربعين وكان عمر آدم ألف سنة .
فلما استكمل آدم تسعمائة وستين سنة جاء ملك الموت .
فلما رآه آدم قال : مالك؟
قال : استوفيت أجلك .
قال له آدم : بقي من عمري أربعون سنة .
قال : أليس قد وهبتها لداود؟
قال : لا فجحد آدم .
فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته .
وخطأ فخطئت ذريته .
فرجع الملك إلى ربه فقال : إن آدم يدعي أنه بقي من عمره أربعون سنة .
قال : أخبر آدم أنه وهبها لابنه داود (عليه السلام) والأقلام بطيئة فأثبتت لداود،)( ).
ومن التجارة الإمتناع عن الربا لأنه هذا الإمتناع تجارة مع الله، ورجاء للربح بطاعته تعالى وهل من ذم لهذا الرجاء.
الجواب لا، لأنه شاهد على التسليم بأن الرزق بيد الله قال تعالى[إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ] ( )، وبرزخ دون السعي في مسالك الكسب الحرام.
وعن الإمام علي عليه السلام قال: إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار) ( ).
ولا يعني هذا التبكيت والتوبيخ لمن يرجو الخير والثواب من عبادته وطاعته لله، كما ذهب بعضهم إلى الإستدلال بالحديث لتحريم العبادة لهذا القصد، إنما أراد الإمام عليه السلام بيان التفصيل في أحوال الناس، ومراتب الفضل في وجوه العبادة وأن أسماها هو العبادة شكراً لله عز وجل على نعمة الخلق والهداية، وحباً لله عز وجل.
نهي آية البحث عن التجارة بالباطل
جاءت آية البحث للنهي عن التجارة بالباطل وبيان مصداق منه، ورجاء للتجارة في الإمتثال للأوامر الإلهية والثواب العظيم بالفلاح والخلود في النعيم ليس لقاعدة وهي النهي عن الشيء أمر بضده، إنما لورود الأوامر جلية بالندب لأداء الفرائض، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ] ( ).
وذكرت الآية أعلاه الصالحات التي يؤتى بها للفوز بالحسنات والأجر، ولم تذكر إجتناب الربا، والإحتراز مما نهى الله عز وجل عنه، ولا يعني هذا عدم الثواب عليه، ولكن الآية جاءت لذكر الإمتثال للأوامر لدلالته بالدلالة الإلتزامية على الثواب على الإمتناع عن النواهي، بلحاظ أن هذا الإمتناع أمر وجودي وليس عدمياً.
وقد أثنى الله عز وجل على المؤمنين الذين يمتنعون عن السيئات، قال تعالى[وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ]( ).
وتقدير الجمع بين الآيتين: ليس لك من الأمر شيء وأتقوا الله، وجاءت آية البحث بالأمر بالتقوى والخشية من الله لتكون واجباً، ودعاء مباركاً لإتيان الصالحات وإجتناب السيئات ومنها ترك الربا قربة إلى الله تعالى، ورجاء رضاه.
لقد أرسل الله عز وجل النبي محمداً لدعوة الناس للإسلام ، وتبليغ آيات التنزيل وما فيها من البشارة والإنذار، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( )، ولتكون رسالته تأسيساً لعهد جديد من التقوى والصلاح في الأرض بأن يكون كل مسلم من أتباعه متقياً مطيعاً لله عز وجل فيما أمر ونهى عنه.
ويدل الجمع بين الآيتين على لزوم التقوى، وأنها لا تسقط عن المسلم أو المسلمة، وإفادة لغة الإطلاق في قوله تعالى(وأتقوا الله)، فمع وجود النبي بين ظهراني المسلمين فلابد أن يكونوا أهلَ التقوى والصلاح، وفيه تأكيد لأمور:
الأول: تنزه المسلمين عن الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع تسليمهم بأنه سيد الأنبياء والرسل، قال تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ]( ).
الثاني: بلوغ المسلمين مرتبة تلقي الأمر بالتقوى، وما فيه من التشريف والإكرام، فمع النطق بالشهادتين يأتي الأمر من الله للمسلمين بالتحلي بالتقوى وسننها وآدابها، ومنها الإمتناع عن أكل الربا.
الثالث: إرتقاء المسلمين لمنزلة الإمتثال للأوامر الإلهية.
الرابع: التنزه عن أكل مال الربا من مصاديق التقوى.
الخامس: ليس من إستثناء في السنة النبوية بخصوص حرمة الربا.
السادس: نزول حرمة الربا من الله عز وجل وأن أقوال النبي في حث المسلمين على الإبتعاد عنه من الوحي وليس من أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذ جاءت أحاديث العرض كما في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط) ( ).
فكذا بخصوص موضوع التقوى فإنه ليس في السنة النبوية القولية والفعلية ما يدل على التخصيص والإستثناء، فكل مسلم ومسلمة يجب أن يكونا من أهل الإيمان والتقوى.
بحث كلامي
إن الله عز وجل هو الذي يعلم الأضرار العظيمة للربا، وهي لا تبدو جلية للناس فإن قلت هناك مجتمعات وملل يتعاطون الربا، ولا يمتنعون عنه، ومع هذا يحصل عندهم تقدم وإرتقاء.
والجواب من وجوه:
الأول: المقصود بالتقدم والإرتقاء في المقام هو في الصناعات ونحوها.
الثاني: لا ملازمة بين هذا التقدم وبين الربا، وليس من دليل على كون الربا علة لوقوع وحصول الإرتقاء.
الثالث: لعل أكلهم الربا حال دون إرتقائهم على نحو أكثر في باب التجارات والصناعات ذاتها.
الرابع: الأمور بخواتيمها، وأن الأزمات والأضرار التي تفرعت وتتفرع عن أكل الربا ظاهرة على تلك المجتمعات ، ومنها ما تأتي على نحو دفعي كآفة يصعب تداركها ودفعها، ويعجز معها المديون عن دفع المال الربوي ويتعذر إنتفاع صاحب المال الربوي منه.
الخامس: موارد النفع والضرر أعم من الأمور الإقتصادية والصناعية، وأراد الله عز وجل للمسلمين السلامة من الآفات والأدران.
السادس: جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وإختبار، وإبتلى الناس بالنهي عن الربا، أي مع ما فيه من الأضرار فإن النهي عنه جاء بحكم تكليفي عظيم.
وقوله تعالى(ليس لك من الأمر شيء) إخبار عن الثواب العظيم الذي أعدّه الله عز وجل للمسلمين الذين يمتثلون للأمر الإلهي بالنهي عن الربا، قال تعالى[وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى *فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى]( ).
ويتصف الأثر المترتب على الربا بالتعدد من وجوه:
الأول: الأثر الحال لعقد الربا.
الثاني: العناء الذين يلقاه آخذ القرض الربوي في دفع الأموال الزائدة عن القرض.
الثالث: بذل الجهد لجمع الأرباح ودفعها في أوانها ، لتكون قاعدة لا ضرر ولا ضرار من علل حرمة الربا .
الرابع: الضرر الذي يلحق الأسواق ومعدلات الأسعار بسبب الربا.
الخامس: الإفتتان والأذى الذي يصيب النفوس.
فإن قلت من المعاملات الربوية ما تتضمن نوع الإستثمار، وتدفع آخذ المال إلى العمل والكسب السريع ليحقق له الربح، ويدفع الزائد الربوي.
والجواب من وجوه:
الأول: قد يحدث هذا على نحو الموجبة الجزئية، وما يكون بخلافه هو الأكثر، أي أن أكثر الذين يأخذون المال الربوي لا يحققون الأرباح الكبيرة وإن بذلوا الوسع في الكسب.
الثاني: لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة ورأفة منه تعالى للناس جميعاً، ومن مصاديق الرحمة تحريم أكل الربا.
الثالث: حرمة الربا ذاتية وهي أعم من تحصيل الربح للآخذ.
الرابع: أراد الله عز وجل للناس ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن أن يكون ربح الإنسان له نفسه، وليس لغيره ممن يسطو عليه، قال تعالى[كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ] ( ).
فالنهي عن الربا بركة وخير محض، وفيه دعوة للناس للتدبر في معاني ودلالات وغايات ومنافع هذا النهي.
وجاء القرآن بأمور:
الأول: البعث على السعي في التجارات والمكاسب , قال تعالى[فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا]( ).
الثاني: الترغيب في التجارات.
الثالث: بيان تفاصيل أحكام التجارات.
والله سبحانه العالم بوقوعها على الوجه الأكثر نفعاً إذا كانت خالية من الربا.
صلة[أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ]، بهذه الآية
وفيها مسائل:
المسألة الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: يا أيها الذين آمنوا أو يتوب عليهم أو يعذبهم) وفيه دلالة على التباين بين المسلمين وغيرهم وأن الإيمان أمن وسلامة من فعل القبائح وما يترتب عليها من الأذى والضرر.
والجمع بين الآيتين بالصيغة أعلاه موضوع لتفقه المسلمين في الدين، ومعرفة حقيقة وهي أن باب التوبة مفتوح للكفار، وفيه دعوة لهم للتوبة والإنابة والتدارك قبل نزول العذاب بهم لإصرارهم على الكفر، قال تعالى[وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ] ( ).
الثاني: (أو يتوب عليهم أو يعذبهم لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة).
وفيه حث للمسلمين للتقيد بالأوامر والنواهي وعدم الإنشغال بأمر الكفار، فإن الله عز وجل جعلهم بين أمرين لا برزخ بينهما، إما أن يتوبوا ويلتحقوا بالمسلمين ويمتنعوا عن التعدي على المسلمين أو ينزل بهم العذاب المستديم.
وفي كلتا الحالتين يكون المسلمون في مأمن من الضرر القادم من الكفار، وهذا الأمن مقدمة لعمل المسلمين بالأوامر الإلهية، والإبتعاد عما حرّم الله كأكل مال الربا.
الثالث: لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة أو يتوب عليهم أو يعذبهم) وقد تقول بالتشابه بين هذا الوجه مع الوجه الثاني أعلاه، لإتحاد الكلمات والموضوع.
والجواب بينهما تباين في المعنى بلحاظ التقديم والتأخير إذ يتوجه الخطاب للمسلمين بالإمتناع عن الربا.
ليكون هذا الإمتناع وظيفة ذات نفع ذاتي وغيري، ومن الغيري نزول البلاء بالكفار، وعذابهم عذاباً أليماً إلا من تاب منهم.
ومن أسباب هذه التوبة تقيد المسلمين بالنهي عن الربا، وتنزههم عن أكل الأرباح الربوية، والتصرف فيها، لأن الأصل بقاؤها على ملك أصحابها.
وقد يخشى بعض المسلمين من الكفار، ومكرهم إن إجتنب أكل الربا، فجاءت الآية بالبشارة بأن الله عز وجل يدفع كيد الكفار ويبتليهم بالضعف والوهن ما دام المسلمون متقيدين بأحكام إجتناب الربا، وهو من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]( )، وإن كان موضوع الآية أعلاه واقعة أحد، ولكن الوارد لا يخصص المورد، والآية أعم في دلالتها ومضامينها والنفع من الخصال الحميدة التي جاءت بها.
قانون الإمتناع عن الربا صبر
والإمتناع عن أكل الربا من مصاديق الصبر والتقوى والخشية من الله عز وجل، ليكون الجمع بين الآيتين سبباً لأمور.
الأول : رؤية الكفار المسلمين وهم يمتثلون للأوامر الإلهية.
الثاني : بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار من تقيد المسلمين بالأوامر والنواهي القرآنية، وما أنزله الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : إتعاظ فريق من الكفار بتجلي مفاهيم الإيمان على فعل وسمت المسلمين، وتنزههم عن المعاملات الفاسدة، وإختيار هذا الفريق دخول الإسلام .
وفيه آية بأن إمتناع المسلمين عن الربا سبب لدخول الناس الإسلام وهو من الشواهد على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف بل إنتشر بالأمر والنهي وسنن الأحكام وطاعة المسلمين لله عز وجل.
الرابع : قيام الحجة على الكفار الذين يواصلون التعدي على المسلمين وثغورهم، ونزول العذاب بهم بما يكون عبرة لغيرهم، ودعوة للناس للكف عن المسلمين ، قال تعالى[فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ]( ).
السادس : بعث السكينة في قلوب الناس من أحكام الإسلام، ودلالة حرمة الربا على تنزه المسلمين عن الظلم ما ظهر منه وما خفي، بلحاظ أن شيوع المعاملة الربوية بين الناس يخفي وجوه الظلم فيها، والضرر المترتب عليها بالذات والواسطة، وبالزمن الحال والمستقبل القريب والبعيد، فجاءت آية البحث لتجعل الحياة الدنيا مدرسة لمعرفة ماهية وسنخية المعاملات، وموضوعية تقسيمها تقسيماً موضوعياً بلحاظ الحلال والحرام، وملازمة النفع للحلال والضرر للحرام.
وتقدير الجمع بين الآيتين واتقوا الله أو يتوب عليهم أو يعذبهم) وفيه آية إعجازية في توجه الخطاب للمسلمين بصيغة الأمر بالتقوى والحث على الخشية من الله عز وجل ومجيء الوعيد للكفار بصيغة الجملة الخبرية، ليدل الأمر بالتقوى في منطوقه على إكرام المسلمين، وذات المعنى يفيده الوعيد للكفار في مفهومه.
قانون الإمتناع عن أكل الربا فلاح
تقدير الجمع بين الآيتين (أو يتوب عليهم أو يعذبهم لعلكم تفلحون) وفيه مسائل :
الأولى : من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، إبتلاء الكفار بالوهن والضعف عند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وليس من حصر لكيفيات ما يلحق الكفار من الضرر، وما يصيبهم من الضعف إلى جانب ما ينتظرهم من العذاب في الآخرة، وهناك تناسب عكسي بين ضعف الكفار وقوة المسلمين، فكلما إزداد الكفار ضعفاً إزداد المسلمون قوة ومنعة.
ومن الشواهد المتحدة التي يجتمع فيها الأمران:
الأول : ضعف الكفار وقوة المسلمين سبيل لتوبة فريق من الكفار، فكلما تاب واحد من الكفار أصاب الكفار الضعف بوجوه :
الأول : لحوق النقص بالكفار بإيمان واحد أو جماعة منهم.
الثاني : مبادرة أحد الكفار إلى التوبة تسفيه لأحلامهم، وإخبار عملي على بطلان مذهبهم.
الثالث : في التوبة فضح للكفار، وبعث للخزي والفرقة بينهم وهل هذه التوبة من مصاديق القطع في قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )، أم أن القدر المتيقن من القطع هنا هلاك طائفة منهم كما في واقعة أحد ، المختار هو الثاني لتعلق القطع بالذين كفروا.
الرابع : كل تائب من الكفار أسوة حسنة لغيره من أقرانه، وتوبته دعوة كريمة لأصحابه للحوق به ونبذ الكفر والضلالة.
الخامس : توبة العبد فلاح وبقاء للمسلمين، وتثبيت للإيمان في الأجيال اللاحقة، فتوبته إنما هي توبة وهداية لأمة من أبنائه وذريته في الأجيال المتعاقبة، وهو من مصاديق الفلاح للمسلمين، ومنهم الذي ذكرته آية السياق بقوله تعالى (أو يتوب عليهم) بتقريب أن التوبة من الله تأتي لتوبة العبد وهجرانه السيئات والمعاصي، ومنها أكل مال الربا، ولزوم الإكتفاء بأخذ رأس المال عند توبته لأن (الإسلام يجّب ما قبله) ( ).
أما المسلم فلو أقدم على أكل مال الربا فموضوعه يختلف إذ يجب أن يعيد الأموال الربوية التي أخذها إلى أهلها، ويكتفي برأس ماله ومقدار القرض الذي إسترده، وهذا التدارك من الفلاح الذي جعل الله عز وجل سبله مفتوحة للمسلمين والمسلمات .
وإذا كان الكافر تشمله أحكام التوبة فمن باب الأولوية أن يتوب الله عز وجل على المسلم بلطفه وكرمه ومنّه.
ومن الآيات أن نفوس عامة المسلمين تنفر من الربا، وتجد فيه غضاضة، وأن أفراد أسرة المسلم تاجراً كان أو غيره تأبى أن يكون رب أسرتهم يعمل بالربا، وهو من إعجاز آية البحث ومجيئها بأمور:
الأول : لغة الإستغراق الشامل للمسلمين لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا).
الثاني : المنع المطلق عن أكل الربا.
الثالث : حث المسلمين مجتمعين ومتفرقين على التقوى.
الرابع : بشارة المسلمين بالفلاح والنجاح والبقاء وكل فرد من الأمور أعلاه باعث للأسرة وذوي المسلم لنهيه عن أكل الربا إلى جانب الواعز الذاتي عنده وأسباب التقوى التي تدفعه إلى الإحتراز من الربا.
وعن أبي سعيد الخدري قال : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الشيطان قد أيس أن بعبد بأرضكم هذه ، ولكنه راض منكم بما تحقرون .
وأخرج البيهقي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب ، ولكن سيرضى منكم بدون ذلك بالمحقرات ، وهي الموبقات يوم القيامة ، فاتقوا المظالم ما استطعتم( ).
ومن الإعجاز في المقام مجيء آية البحث بالنهي عن أكل الربا، ليشمل النهي أسرة وأفراد وعائلة المسلم بأن عليه الإمتناع عن أكل المال الذي يأتي من الربا، ولا يحق لأحدهم أن يقول أنا لم أأخذ الربا، لأن الآية جاءت بالمعنى الأعم وهو النهي، كما يشمل النهي الفقراء ليتعففوا عن أخذ الصدقات التي تأتي من الربا، قال تعالى[يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ] ( ).
المسألة الثانية : يفيد الجمع بين الآيتين ذكر فريقين من الناس مع التباين بينما في الماهية والسنخية.
الأول : المسلمون الذين شرّفهم الله عز وجل بالخطاب بصفة الإيمان، وما فيه من معاني الأمن والأمان فضلاً وشكراً وجزاء من الله عز وجل.
الثاني : الكفار الذي يعتدون على المسلمين، ويريدون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الذين خرجوا معه للقتال ويوم بدر وأحد.
وتفضل الله وأنزل ملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كما في قوله تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
فالله سبحانه الواسع الكريم ذو الفضل المتصل فلم يقف الأمر عند المدد الملكوتي، وتحقق هزيمة الكفار، بل خاطب الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم[لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ] .
ومن آثار المدد الملكوتي على الكفار أمور:
الأول: يستأصل الله الكفر والضلالة.
الثاني: يمنع الله الكفار من الإضرار بالمسلمين بعد واقعة أحد.
الثالث: يجعل الله الكفار بين أمرين أحدهما إختياري نافع وهو التوبة والإنابة، والآخر قهري ضار بهم وهو العذاب الأليم.
فإذا جاءت الآية السابقة لآية السياق بالإخبار عن إنقلاب الكفار خائبين خاسرين في معركة أحد، وذكرت آية السياق عدم تركهم وشأنهم في أمصارهم وبيوتهم، فقد قامت عليهم الحجة بالظلم والتعدي والحرب على النبوة والإسلام بغير حق.
لقد قتل أفراد من بعض الأمم السابقة الأنبياء الذين بعثهم الله لهم قال تعالى[قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، وزحفت قري لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكانت النتيجة هزيمتها شر هزيمة ونزول آية السياق بإنذارهم إنذاراً خال من المهلة والمدة، فليس لهم إلا التوبة أو العذاب لأن الله عز وجل أراد التفضل بأمور:
الأول: إستمرار نزول آيات القرآن على النبي محمد.
الثاني: مجيء آية البحث بحرمة الربا.
الثالث: حصول الإستقرار وحسن معاملة الأسواق ببركة نبوته.
الرابع: يكون نزول الآيات باعثاً لليأس في نفوس الكفار ويجعلهم على مفترق طريقين:
الأول: العمل بمضامين الآية والكف عن الربا، لأن هذا الكف من مصاديق قوله تعالى(أو يتوب عليهم).
الثاني: العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وفي هذين الطريقين مجتمعين ومتفرقين أمور:
الأول: العز والمنعة للمسلمين.
الثاني: التسليم بأن الأمور كلها بيد الله، وأنه لا تستعصي عليه مسألة، قال سبحانه[أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( ).
الثالث: إزاحة الموانع التي تحول دون إجتناب المسلمين للربا وأكله، وطرد الخوف عن نفوس المسلمين في باب المعاملات.
الرابع: تفقه المسلمين في الدين بأمن من كيد الكفار.
الخامس: توكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووراثة المسلمين الأرض وإعمارهم لها بالصلاح والتقوى.
صلة الآية السابقة.[ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] ( )، بهذه الآية:
الصلة بين بدايتي الآيتين:
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين بلحاظ بداية آية البحث على وجوه:
الأول: يا أيها الذين آمنوا لله ما في السموات وما في الأرض.
الثاني: يا أيها الذين آمنوا الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
الثالث: يا أيها الذين آمنوا الله غفور رحيم، وهذا الوجه له معنيان:
الأول: الإيمان بأن الله عز وجل هو الغفور الرحيم.
الثاني: بشارة المسلمين بأن الله غفور رحيم.
الثانية: يفيد الجمع بين الآيتين الثناء على المسلمين لحسن إختيارهم، ومبادرتهم لإعلان الإيمان بالله والتصديق بنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فكل شيء في السماوات والأرض هو ملك لله عز وجل، وهو الذي بعث نبيه محمداً لهداية الناس إلى عبادته ومن الآيات أن القرآن جاء بدعوة الناس جميعاً للإسلام , وعبادة الله قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ]( ).
إن تلاوة واستحضار المسلمين لقوله تعالى[وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] سبب ومناسبة لزيارة إيمانهم من وجوه:
الأول: إنه إقرار بالعبودية لله عز وجل.
الثاني: التسليم بأن الإنسان كائن ممكن مخلوق، وأن الله عز وجل هو الذي خلقه، أي هناك مائز بين أن يدرك الإنسان أنه مخلوق ويقف عند هذا الإدراك، وبين بلوغه مرتبة اليقين بأن الله عز وجل هو الذي خلقه، الأمر الذي يترشح عنه الإيمان بالله عز وجل وهو الذي فاز به المسلمون، فقوله تعالى في أول آية البحث (يا ايها الذين آمنوا) شاهد على التسليم التام من المسلمين بأن كل شئ في الوجود هو ملك لله عز وجل.
الثالثة: يحتمل المراد من ملك الله عز وجل في آية السياق وجوهاً:
الأول: الجواهر والأعيان.
الثاني: العروض والأجناس.
الثالث: الأشياء مطلقاً.
الرابع: الأفعال التي يقوم بها الناس.
وباستثناء الوجه الرابع فان الوجوه الثلاثة الأولى صحيحة، أما أعمال العباد فان الله عز وجل جعلها باباًَ للإبتلاء، نعم هو سبحانه له المشيئة المطلقة وان شاء حال بين العبد والفعل القبيح، وان شاء هداه إلى الفعل الحسن قال تعالى[أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ] ( ).
الرابعة: توكيد تفقه المسلمين، وإرتقائهم في سلم المعارف الإلهية لمجئ آية البحث بالشهادة لهم بالإيمان والذي يفيد صبغة الإطلاق وأنهم يؤمنون بأن ملك السماوات والأرض كله لله عز وجل، وأن الناس يرجعون إليه ليقفوا بين يديه للحساب، وهذا الإيمان باعث للتقيد بأحكام حرمة الربا، وإجتناب أكله لأن إجتنابه سبب للمغفرة والثواب، أما أكل الربا فانه باب للعذاب الأليم.
الخامسة: إستحضار العبد لحقيقة ملك الله للسموات والأرض مناسبة للإحتراز من المعاملات الباطلة , وبرزخ دون غلبة النفس الشهوية والغضبية، وواقية ذاتية من الربا وأكل المال بالباطل.
علم جديد في إعجاز القرآن
في القرآن إعجاز من جهة تعضيد وإعانة الآية القرآنية للمسلم في العمل بمضامين آية أخرى، فتأتي آية قرآنية بحكم معين كالوجوب والحرمة، وتأتي آيات أخرى تبعث على الإمتثال لمضامين هذا الحكم، وتزجر عن ترك العمل به.
وهذا الإعجاز أعم من أن تشمله دراسة وإحصاء مخصوص، فكل آية قرآنية ضياء ينير قلب المسلم ويبعث الشوق في نفسه للعمل بالأوامر الإلهية ويبين له مساوئ وأضرار الفعل المنهي عنه فيجتنبه وتنفر نفسه منه، كما في الربا ويكون النهي عن الربا بلحاظ آية السياق على وجوه:
الأول: يتجلى في قوله تعالى(والله) الذي تبدأ به آية السياق ذكره سبحانه، وهذا الذكر برزخ دون المعصية مطلقاً، وأكل الربا خاصة، لذا تفضل الله عز وجل وشرّع الأذان وأداء الصلاة خمس مرات في اليوم لتكون حرزاً ووسيلة للخشية من الله عز وجل، وسبباً لإجتناب المعاصي والذنوب.
الثاني: إخبار آية السياق بان كل ما في السماوات هو ملك لله عز وجل وأن جبرئيل الذي نزل بآية تحريم الربا هو ملك لله عز وجل قال تعالى[نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ] ( )، وكذا الملائكة الذين نزلوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم بدر وأحد والخندق وغيرها، فإنهم ملك وخلق لله عز وجل لا يشاركه في ملكهم أحد .
وكان نزول هؤلاء الملائكة بالنسبة لآية البحث وما فيها من حرمة الربا على وجوه:
الأول: إنه مقدمة لنزول آية البحث، ومصاحب لها.
الثاني: تهيئة أذهان المسلمين لآيات الأحكام.
الثالث: بعث السكينة في نفوس المسلمين بأن الله عز وجل الذي أنزل الملائكة لنصرتهم هو الذي يخلف عليهم خيراً من تركهم الربا، ويثيبهم على تنزهم عنه، وهو من عمومات قوله تعالى بخصوص نزول الملائكة يوم أحد[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ]( )، فمن مصاديق الطمأنينة ترك الأرباح والأضعاف المضاعفة طاعة لله عز وجل بتقريب أن الله سبحانه نصر المسلمين وهم في حال ضعف بأن أنزل الملائكة وجعلهم حاضرين لنصرتهم وهلاك طائفة من الكفار، وهو الذي يفتح أبواب الرزق الكريم على المسلمين لتفقههم وإستغنائهم عن المال الربوي.
الرابع : ليس من خلق أكثر من الملائكة ولا يعلم أجناس وأعداد الخلائق في السموات إلا الله ، وكل أهل السماوات مخلصون في عبادة الله، لا ينفكون عن ذكره وتسبيحه، فلا يرضون للإنسان أن يأكل مال الربا، ويستبشرون بالمسلم الذي يتنزه عنه .
وفاز المسلمون بمنزلة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، لأنهم جعلوا الملائكة يرون كل يوم عمارة الإنسان للأرض بطاعة الله في العبادات والمعاملات , ومنها ترك الأرباح الكثيرة لأن الله نهى عن الربا .
الخامس : لقد إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، وفيه وجهان:
الأول : أن ملكية الملائكة لله عز وجل , وأنهم عبيد داخرون له لم يمنعهم من الإحتجاج.
الثاني : تدل هذه الملكية على أن كلامهم هذا ليس إحتجاجاً بل سؤالاً لتنزه أهل الأرض من الفساد فيها.
والصحيح هو الثاني رأفة من الملائكة بالناس وإعانة لهم في أمور دينهم ودنياهم قبل أن يخلقوا.
فجاء قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] لإخبار الملائكة بوجود أمة عظيمة تؤمن بالله والملائكة والكتاب والنبيين، وتتلقى الأوامر والنواهي من الله بواسطة الملائكة أنفسهم الذين ينزلون بالنصرة والوحي على خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أمة تحرص على إجتناب الفساد، وحرمة قتل النفس إلا بالحق ويدخل الربا في الفساد، ليكون في آية البحث مسألة إعجازية وهي أن الملائكة إحتجوا على إفساد الإنسان في الأرض.
فجاءت آيات القرآن باجتناب المسلمين الفساد والمقدمات التي تؤدي إليه بلحاظ أن الربا فساد بذاته وهو مقدمة لفساد أعم في موضوعه وأفراده وزمانه.
أما الموضوع فان أضراره تظهر في الميادين الإقتصادية والإجتماعية والأخلاقية، وأما بخصوص الزمان فان أضراره تتعدى الآخذ والمعطي إلى غيرهما طولاً وعرضا الزمان فانها تنعكس على مستقبل أيام الإنسان وأبنائه وذريته.
لذا جاءت آية البحث بتحذير أضافي بالنهي عن (أكل الربا) وتوكيد ضرر المأكول إذا كان فاسداً على البدن والصحة معروف، إن قانون تعضيد الآية للمسلم لعمله بآية أخرى مدرسة إعجازية ينفرد بها القرآن، ومنافعه من اللامتناهي في كل زمان ومكان، ويلح على العلماء باستقراء مصاديق التعضيد بلحاظ موضوعية آيات القرآن كلها كمدد لكل آية من القرآن وللمسلم في العمل بأحكامها على نحو مستقل .
لذا جاءت الأجزاء الأخيرة من تفسيرنا في هذا العلم وعلوم أخرى تتعلق بالصلة بين الآيات وتكامل النص القرآني( ).
الصلة بين (ولله ما في السماوات وما في الأرض) وهذه الآية
وفيها مسائل :
الأولى : الصلة بين الآيتين على وجوه:
الأول : الله ما في السموات وما في الأرض لا تأكلوا الربا.
الثاني : ولله ما في السموات وما في الأرض اتقوا الله.
الثالث : ولله ما في السموات وما في الأرض لعلكم تفلحون.
الثانية : من عمومات ملك الله للسموات والأرض، الأرزاق ذاتاً وموضوعاً وسبباً وكيفية، قال تعالى[قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ] ( ).
ليفيد الجمع بين الآيتين مصاحبة البشارة والعوض للنهي عن الربا، فلما منع الله عز وجل المسلمين من الربا فانه سبحانه يكفل لهم الرزق الواسع، لذا يفيد قوله تعالى[أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] البشارة بالبدل والعوض الكثير والذي يكون أضعافاً متعددة , لأن المسلمين يزهدون في الأضعاف الربوية طاعة لله سبحانه الذي له ملك السموات والأرض , فيخلف عليهم خيراً منها.
وفي تأكيد ملكية الله للسموات والأرض في آية السياق أمور:
الأول : في الآية وعد كريم للمسلمين والمسلمات بالعوض والبدل، عن الربا.
الثاني : عدم حصول الحسرة عند المسلمين لفوات الأرباح الربوية الطائلة التي يتركونها ويعرضون عنها.
الثالث : ترغيب المسلمين بالتناهي عن الربا، وحثهم على وصية ونصيحة بعضهم بعضاً بلزوم إجتنابه.
الرابع : قرب النفع والخير من المسلمين مع إبتعادهم عن الربا.
وهل الإمتناع عن الربا، ورجاء البدل من مصاديق النفقة وعمومات قوله تعالى[وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] ( ).
الجواب لا، للتباين الموضوعي بينهما، إذ أن الإنفاق إخراج للمال بقصد القربة بعد تملكه، أما الإمتناع عن الربا فهو تعفف عن نوع من العقود والمعاملات لحرمتها ولكن الخلف والعوض من الله لا ينحصر به، وهو الذي يخلف على المسلمين خيراً لتقيدهم بأداء الفرائض البدنية كالصلاة والصوم مع أنه ليس فيه إنفاق أو إجتناب لربح محرم، ليكون من باب الأولوية العوض والخلف على ترك الربح والكسب , لنهي الله ورسوله عنه.
الخامس : في الآية إنذار وتخويف من أكل الربا، فالله عز وجل الذي له ملك السموات والأرض قد يحجب الرزق الكريم عن الذي يأكل الربا، ويستوفي ما كتب الله له بالربا والمعصية، لتبقى أوزاره عليه يوم الحساب قال تعالى[وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى] ( ).
قانون حلاوة الكسب الحلال
وقد يسأل سائل لماذا حرّم الله الربا وغلق باباً من أبواب الربح عن المؤمنين.
والجواب إن الله عز وجل[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( )، فهو سبحانه أعلم بالمصالح والمفساد.
وتأتي آية السياق لتكون بياناً في المقام إذ قسّم الله الأرزاق في ملكه بالكسب الحلال.
ومن خصائص المسلمين السعي للكسب الحلال، وعمارة الأرض وإزدهار الأسواق بالعمل والتجارة والكسب، وهم دعاة للإسلام باستحضارهم الخشية من الله في أكثر الأماكن التي ينشط فيها الشيطان وهي الأسواق وتنزههم عن الأرباح بالكسب الذي نهى الله عز وجل عنه، وهذا التنزه من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، إذ يجاهد المسلمون في حال السلم في الأسواق وهذا الجهاد نفير عام يخرجون له رجالاً ونساءً، ومن غير سلاح إلا سلاح التقوى وطاعة الله عز وجل في المعاملات بعدم أكل الربا.
وتضمنت آية البحث الأمر بتقوى الله، وجاء هذا الأمر متعقباً للنهي عن الربا، لبيان حقيقة وهي لزوم كون الخشية من الله ملكة عند المسلمين جميعاً تضئ لهم دروب الحياة، وتكون واقية من الفسوق والمعصية، وأخبرت آية سياق عن كون السموات والأرض ملكاً لله عز وجل .
ويفيد الجمع بين الآيتين أن الله عز وجل أهل أن يتقى ويطاع، فكل الخلائق ملك له، وليس من قوة وسلطان لغيره، قال سبحانه[أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( )، وهو الذي أمر بالتقوى منه ونهى عن الربا والفائدة الربوية، وليس للإنسان أن يتخلف عن طاعة الله عز وجل لأنه ملك الله، والأصل في المملوك الإنقياد والطاعة.
قانون النهي عن الربا هدى
ترى لماذا يتعاطى شطر من الناس الربا مع نهيهم عنه.
الجواب إنه أمر يتعلق بماهية خلق الإنسان وكيف أن آدم وحواء هبطا للأرض للإمتحان والإبتلاء ، قال تعالى[قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى]( )، وغلبة النفس الشهوية عند بعضهم.
وآية البحث من الهدى المذكور في الآية أعلاه لما فيها من النهي عن الفائدة الربوية وما فيها من الأمر بتقوى الله، وفي التقوى وجوه:
الأول : التقوى هدى بذاته.
الثاني : إنها مقدمة ووعاء كريم للهدى.
الثالث : التقوى سبيل للصلاح.
الرابع : التقوى حرز من الضلالة والجحود وآية السياق من الهدى لما فيها من بيان حقيقة وهي عائدية ملك السموات والأرض لله وعدم مشاركة غيره له فيها ملكاً وسلطاناً وفعلاً وأثراً.
فان قلت إن الهداية للإمتناع عن الربا في آية البحث خاصة بالمسلمين بدليل لغة الخطاب فيها (يا أيها الذين آمنوا).
والجواب الأصل هو وجوب إيمان الناس مطلقاً، وتصديقهم بالنبوة.
أيهما أكثر من سبل الكسب
أيهما أكثر سبل الكسب الشرعية أم المحرمة، الجواب هو الأول، لوجوه:
الأول : أصالة الإباحة.
الثاني : قاعدة كل شيء لك حلال حتى تعلم حرمته.
الثالث : مجئ القرآن والسنة بمصاديق كثيرة من الكسب الحلال ويأتي النهي عن الربا في الآية ليدل على حلية وصحة معاملات كثيرة لم ترد فيها حرمة أو نهي.
لقد جعل الله عز وجل التقوى سلاحاً ورقيباً في باب المعاملات فتنفر النفس من المعاملات الربوية خشية من الله، ويقبل الإنسان على المعاملة الصحيحة لما فيها من السكينة والرضا لعدم منافاتها لأحكام الشريعة.
ترى ما هي الصلة بين أول آية السياق (ولله ما في السموات) وبين خاتمة آية البحث (لعلكم تفلحون).
الجواب من وجوه :
الأول : الفلاح والبقاء أمر بيد الله عز وجل، لا يقدر عليه أحد غيره لأنه من مصاديق ملك الله للسموات والأرض، ويجري في سلطانه وملكه وهو من عمومات قوله تعالى[أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، فمن قدرته تعالى جعل أمة من الناس مفلحة، وتأهيلها مجتمعة ومتفرقة إلى منازل الفلاح.
الثاني : إن الله عز وجل هو الذي يهب الفلاح، ويتفضل به على من يشاء من عباده، ولا يحول بينه وبين منحه لمن يشاء ، لذا يفيد الجمع بين الآيتين دعوة المسلمين لإخلاص العبادة لله والفوز بالفلاح، ومن صيغها في المقام التنزه عن الربا طاعة لله عز وجل.
الثالث : بعث حب الله في نفوس المسلمين، وحرصهم على إجتناب الربا طاعة لله عز وجل وشوقاً للقائه، وتنزهاً عن معصيته.
إن تسليم المسلمين بأن ملك السموات والأرض لله عز وجل فلاح ومقدمة للفلاح والتوفيق.
وإذ ذكرت آية البحث الفلاح بصيغة الرجاء , فان آيات القرآن جاءت بالبشارة بنيل المسلمين لمرتبة الفلاح بقوله تعالى[قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ] ( ).
وهو من اللطف الإلهي بالمسلمين، فلم يجعلهم يعيشون في الحياة الدنيا بلغة الأمل والرجاء لبلوغ منزلة مخصوصة فقط، بل تفضل عليهم وأخبرهم بنيلها، والذي تدل عليه صيغة الفعل الماضي(أفلح) وما فيها من معاني الرضا من الله عز وجل عن المسلمين، والشهادة لهم بالتنزه عن المعاصي، ومن تلك المعاصي أكل مال الربا وما فيه من القبح الذاتي والغيري، والإضرار بالنفس والغير.
ومن معاني الجمع بين الآيتين تأكيد قانون وهو أن الرزق بيد الله وأنه تعالى ما ينهى عن باب من الكسب إلا ويفتح ما هو أفضل وأقرب وأيسر منه ، وما فيه البركة ويدل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، على قانون كفاية الرزق الحلال يكفي الناس جميعاً وأن تضاعفت أعداد أهل الأرض وفي الآية أعلاه تكذيب لما قد يقال من أزمة غذاء تصيب العالم مع كثرة سكانه ، إنما جعل الله عز وجل للناس بالناس في المكاسب الحلال.
بحث أصولي
جاء القرآن بالأوامر في باب العبادات فاقبل المسلمون على أدائها بشوق وصبر مع مافيها من التكليف والعناء بذاتها، إلى جانب الأذى الذي يأتي من الكفار بسبب أداء المسلمين لها مع أنها لا تضر الكفار في شيء.
ولم تختص آيات الحكام بالعبادات إنما شملت المعاملات، ومنها حرمة الربا التي هي مدرسة عقائدية وتجارية وأخلاقية وفيها عزوف عن أرباح كثيرة وفق المتعارف في الأسواق لأن المعاملات الربوية كانت سائدة أيام النزول.
ومن خصائص الإنسان حبه للمال، وإستهجانه لما يحول دون كسبه وربحه بالطرق المألوفة والمتعارفة، فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنهي عن الربا من وجوه:
الأول: النهي المطلق عن معاملات الربا القرضي والمعاملاتي، والمنع منه في حال الإختيار والإضطرار.
الثاني: النهي الدفعي عن الربا، فقد جاء النهي عن الخمر على نحو تدريجي كما في قوله تعالى[لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى] ( )، إلى أن قال تعالى[إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ]( ).
أما النهي عن الربا فجاء دفعة واحدة وعلى نحو السالبة الكلية، ومن غير مقدمة وتهيئة بتحريم جزئي له، مما يدل على بلوغ المسلمين مراتب عالية في الإيمان بحيث يتلقون النهي المطلق بالقبول والإمتثال.
نعم قد يقال أن المسلمين لم يكونوا أيام نزول آية البحث في حال مندوحة وغنى ولم يتعاطوا التجارات بعد لأن أكثرهم كانوا فقراء ولإنشغالهم بالفتوحات والتفقه في الدين.
والجواب هذا صحيح وهو من إعجاز القرآن ومناسبة آياته لحال المسلمين إلا أنه كانت هناك أسواق عند المسلمين، وكانت لهم تجارات وشركة مع يهود المدينة وبلاد الشام لذا جاء قوله تعالى[وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا] ( ).
وفي إسباب نزول الآية أعلاه ذكر عن(جابر بن عبد الله : أقبلت عير ونحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم الجمعة فانفض الناس إليها فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا فيهم فنزلت الآية و قال الحسن و أبو مالك أصاب أهل المدينة جوع و غلاء سعر .
فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام و النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يخطب يوم الجمعة فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشية أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلا رهط , فنزلت الآية فقال و الذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا) ( ).
وهذه التجارات إمتداد لتجارة قريش مع الشام واليمن كما في قوله تعالى[رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) .
إذ كانت رحلة الشتاء إلى اليمن لأنها بلاد دافئة، ورحلة الصيف إلى الشام لأنها بلاد باردة، وكانت قريش أهل تجارة، ولم تكن عندهم زراعة أو مواشي، وبعض الصحابة من قريش ومنهم من زاول التجارة والكسب حتى بعد هجرته إلى المدينة .
الثالث: جاء النهي عن الربا بصيغة الأكل، وبين الربا وأكله عموم وخصوص مطلق، فالأكل أعم من جهات:
الأولى: إنه ثمرة ونتيجة وأثر للعقد.
الثانية: الأكل دليل قبض الفائدة الربوية.
الثالثة: فيه شاهد على توظيف مال الربا للأكل والإنتفاع الخاص.
وهل يغير هذا الكسب من رزق الإنسان، الجواب لا، فما كتبه الله عز وجل هو ذاته فأراد الله عز وجل له ترك الحرام ليأتيه الرزق الحلال من فضل الله.
الرابعة: الذي يأكل الربا متعدد، فيشمل الذي يقبضه وعياله , والذين يتولى الإنفاق عليهم .
وهذا لا يتعارض مع المعنى المجازي للفظ الأكل، وإن المراد منه جني الأرباح بواسطة المعاملة الربوية.
الرابع: تأتي أكثر الأحكام بالأمر أو النهي لقادم الأيام وترك ما سلف فلا قضاء في تشريع الصلاة والصوم لمن فاتاه أيام كفره، ولكن بعض الأحكام جاءت بآثار على العقود السابقة إن كانت ماضية ومستمرة في موضوعها، وهو ليس من الإستصحاب القهقري الذي لا يقول به الأصوليون.
بحث فقهي
جاءت آيات من القرآن في ذم فريق ينكرون وديعة المسلم ولا يردونها عليه , قال تعالى[وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا]( )، ويقابلهم المسلمون بالإمتناع عن أخذ الزائد عن القرض، وعن الفائدة الربوية ليكون على وجوه:
الأول:معرفة الناس بإقرار المسلمين بان ملك السموات والأرض لله عز وجل، وأنه الرزاق الكريم.
الثاني: عدم التفكيك بين المساجد والأسواق من جهة ذكر الله وطلب مرضاته تعالى.
الثالث: في المنع عن الربا درس وموعظة للناس، وأن التعدي على أمانات المسلمين لم يمنعهم من صبغة العموم في إجتناب الربا لوجوه:
الأول: جاء النهي عن الربا في آية البحث مطلقاً من غير تخصيص أو استثناء.
الثاني: التباين في المعاملة، وإستقلال معاملة الربا عن الوديعة.
الثالث: من خصائص المسلمين الإئتمار بما أمر الله به، والإنتهاء عما نهى عنه.
وتقيد المسلمين بالإمتناع عن الربا من صيغ الحجة على الناس، ودعوتهم للإسلام.
الرابع: يود أعداء الإسلام لو يقدم المسلم على أكل الربا، ويتخذونه ذريعة لتشويه سمعة المسلمين أو لإستدراجه لغيره من المعاصي، قال تعالى[إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
الخامس: السلم مرآة للشريعة الإسلامية، ويحكي في سلوكه ومعاملاته أحكام الشريعة السمحاء التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيتنزه عن المقاصد التي فيها ريب وسوء ظن، وهذا التنزه لايمنع من مطالبته بأمانته وحقه.
صلة [يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] بهذه الآية
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: يا أيها الذين آمنوا يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
الثاني:لا تأكلوا الربا يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
الثالث: واتقوا الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
الثانية: لقد جعل الله الحياة الدنيا مملوءة بالإبتلاء والإمتحان، ومنه عالم المعاملات والمكاسب.
وجاءت آية السياق للنهي عن كسب المال بالربا والفائدة القرضية، ويستلزم الترك الأكيد، والإثم على مزاولة الربا، لذا جاءت آية السياق بالبشارة والإنذار، البشارة لمن يتقيد بأحكامه، ويجتنب الربا طاعة لله عز وجل .
فتفضل الله عز وجل وجعل المسلمين لاينتظرون إلى يوم القيامة ليروا الثواب العظيم الذي أعدّه لهم لإمتناعهم عن الربا بل تفضل بالبشارة العظيمة على الإمتناع عن معصية الله، بالأجر والثواب وعلى نحو الرجوع القهقري أيضاً إلى أعماله السابقة بالعفو والمغفرة، وتلك آية لايقدر عليها أحد غير الله عز وجل وفيه بعث للمسلمين والناس جميعاً للتقيد بالأوامر والنواهي الإلهية من وجوه :
الأول : إن الله عز وجل الذي بيده الثواب والعقاب أهل لأن يعبد، وأن يطاع ولا يعصي، وهذا المعنى من معاني قصد القربة كما ذكرناه في علم الأصول.
الثاني : إجتناب الربا شكراً لله عز وجل على نعمة الخلق والرزق الواسع والأمن والعز الذي معه يقدر المسلمون على البيع والشراء والإقراض والقضاء، وإتخاذ الشكر وسيلة للنجاة من المعصية ومن العذاب، قال تعالى[مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ] ( ).
الثالث : سعي المسلمين والمسلمات مجتمعين ومتفرقين رجاء الفوز بالمغفرة ومحو الذنوب.
الرابع : حرص المسلمين على النجاة من العذاب الأليم الذي ينتظر آكلي الربا.
الخامس : بعث الخوف في نفوس المسلمين والناس من الربا كما وجاءت آية البحث بالنهي عن أكله، فان الخوف يكون من ذات الربا ومن آثاره وعواقبه وما يتفرع عنه، وهو لا يتعارض مع محبوبية الإمتناع عن الربا لما في هذا الإمتناع من السلامة من أكل المال بالباطل.
الثالثة: يغفر الله عز وجل للذين يتنزهون عن الربا وأكل المال بالباطل ، ويضرب أهل المعاصي.
قانون الوعيد لكفار قريش وثقيف
يفيد الجمع بين الآيتين الوعيد لكفار قريش وثقيف الذين يزاولون المعاملات الربوية ويأخذون الزيادة على القرض ورأس المال بتأخيره عن أوان قضائه إلى أجل لاحق.
وهل كان نزول القرآن بحرمة الربا من أسباب خروج هوازن وثقيف لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح مكة في معركة حنين وقيامهم بجلب نسائهم وذراريهم معهم للمعركة بتقريب وهو أن مكاسب الربا الذي حرمه القرآن والسنة النبوية ، المختار نعم ، ليلقوا الخزي في تلك المعركة ويقع نساؤهم وذراريهم سبايا لتركهم إياهم ، وفرارهم عنهم ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعادهم لهم ، ولم يمنع خروج الكفار على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عمله بأحكام القرآن وهو من مصاديق صدق نبوته والإعجاز فيها ، وقد أبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس يوم فتح مكة بحرمة الربا ، وسقوط الأموال الربوبية مما أغاظ ثقيفاً وأرباب الشرك .
وبخصوص يوم فتح مكة ورد عن (برة بنت أبي تجراة ، قالت: أنا أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين خرج من البيت، فوقف على الباب وأخذ بعضادتي الباب، فأشرف على الناس وبيده المفتاح، ثم جعله في كمه .
قالوا: فلما أشرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الناس، وقد ليط بهم حول الكعبة فهم جلوس، قال: الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده! ماذا تقولون وماذا تظنون ، قالوا : نقول خيراً ونظن خيراً، أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريم، وقد قدرت .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فإني أقول كما قال أخي يوسف : (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ).
ألا إن كل رباً في الجاهلية، أو دمٍ ، أو مالٍ ، أو مأثرةٍ ، فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ، ألا وفي قتيل العصا والسوط الخطأ شبه العمد، الدية مغلظةً مائة ناقةٍ، منها أربعون في بطونها أولادها. إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها، كلكم من آدم وآدم من تراب، و[يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرامٌ بحرمة الله، لم تحل لأحدٍ قبلي، ولا تحل لأحدٍ كائنٍ بعدي، ولم تحل لي إلا ساعةً من النهار يقصرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده هكذا – لا ينفر صديها ولا يعضد عضاهها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، ولا يختلى خلاها .
فقال العباس، وكان شيخاً مجرباً: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لابد منه، إنه للقبر وطهور البيوت.
قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساعة، ثم قال: إلا الإذخر فإنه حلال. ولا وصية لوارث، وإن الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ولا يحل لامرأةٍ تعطي من مالها إلا بإذن زوجها، والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوةٌ، والمسلمون يدٌ واحدةٌ على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، يرد عليهم أقصاهم، ويعقد عليهم أدناهم، ومشدهم على مضعفهم وميسرتهم على قاعدهم؛ ولا يقتل مسلمٌ بكافرٍ، ولا ذو عهدٍ في عهده.
ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، ولا جلب ولا جنب ؛ ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا في بيوتهم وبأفنيتهم، ولا تنكح المرأة على عمتها وخالتها .
والبينة على من ادعى واليمين على من أنكر، ولا تسافر امرأةٌ مسيرة ثلاثٍ إلا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد العصر وبعد الصبح، وأنهاكم عن صيام يومين، يوم الأضحى ويوم الفطر، وعن لبستين! لا يحتب أحدكم في ثوبٍ واحدٍ يفضي بعورته إلى السماء، ولا يشتمل الصماء ، ولا إخالكم إلا وقد عرفتموها.
قال: ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه المفتاح، فتنحى ناحية المسجد فجلس، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قيض السقاية من العباس وقبض المفتاح من عثمان، فلما جلس قال: ادعوا إلي عثمان!
فدعي له عثمان بن أبي طلحة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعثمان يوماً، وهو يدعوه إلى الإسلام، ومع عثمان المفتاح، فقال: لعلك سترى هذا المفتاح بيدي أضعه حيث شئت!
فقال عثمان: لقد هلكت إذاً قريشٌ وذلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بل عمرت وعزت يومئذٍ.
فلما دعاني بعد أخذه المفتاح ذكرت قولة ما كان قال، فأقبلت فاستقبلته ببشرٍ واستقبلني ببشرٍ، ثم قال: خذوها يا بني أبي طلحة تالدةً خالدةً، لا ينزعها إلا ظالمٌ؛ يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا بالمعروف.
قال عثمان: فلما وليت ناداني فرجعت إليه، فقال: ألم يكن الذي قلت لك ، قال : فذكرت قوله لي بمكة فقلت: بلى، أشهد أنك رسول الله ، فأعطاه المفتاح، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مضطجعٌ بثوبه، وقال : أعينوه ، وقال : قم على الباب وكل بالمعروف.
ودفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السقاية إلى العباس، فكان العباس يليها دون بني عبد المطلب في الجاهلية وولده بعدهم.
وكان للعباس مالٌ بالطائف، كرمٌ كان يحمل زبيبه إليها فينبذ في الجاهلية والإسلام .
ثم كان عبد الله بن عباس يفعل مثل ذلك، ثم كان علي بن عبد الله بن عباس يفعل مثل ذلك إلى اليوم)( ).
فصحيح أن آية البحث جاءت لنهي المسلمين عن الربا إلا أن حرمته عامة وشاملة للناس جميعاً، وسابقة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى في ذم قوم من أهل الكتاب[وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ]( ).
والمراد من النهي في الآية أعلاه وروده في الكتب السماوية السابقة، وهل ينفع هذا الوعيد المسلمين، الجواب نعم من وجوه:
الأول : تجلي التباين بين المسلمين وغيرهم من جهات:
الأولى : صيغة الخطاب القرآني.
الثانية : المغفرة للمسلمين لإنزجارهم عن الربا، والعذاب للكفار لأكلهم المال الربوي.
الثالثة : بعث المسلمين لتعاهد الإمتناع عن الربا، بينما يبقى الكفار مصرين على أخذه وأكله.
الثاني : شفاء صدور المسلمين لما يلقاه الكفار، وما ينتظرهم من العذاب الأليم بسبب أكلهم الربا.
فان قلت جاءت آية السياق مطلقة ومعلقة على المشيئة الإلهية فلم تقل الآية:يغفر لمن يمتنع عن الربا ويعذب من يأكل الربا) والجواب تفيد آية السياق الإطلاق في طرفيها، طرف المغفرة بالإيمان وفعل الصالحات، وطرف العذاب وترتبه على الكفر وفعل المعاصي ومنها أخذ المال الربوي .
وجاءت آية أخرى من القرآن لبيان نزول العذاب بالكفار والظالمين , قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ]( ).
الثالث : تنمية ملكة الجدال عند المسلمين، ومعرفة مواضيع الإحتجاج بالمتضادين الذي يتجلى واضحاً في الآية بأن المغفرة للذي ينتهي عن المعاصي، والعذاب لمن يصر عليها.
تأكيد نسبة وكيفية عواقب الأمور إلى الله عز وجل لتكرار قوله تعالى [لِمَنْ يَشَاءُ] في آية السياق، وفيه بعث للجوء إلى الله عز وجل وإظهار معاني الإيمان بالقول والفعل.
قانون صرف العذاب بالإيمان والتقوى
لقد آمن المسلمون برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوجهوا إلى أداء العبادات وتقيدوا بأحكام الشريعة في باب المعاملات، ومنها إجتناب الربا والفائدة القرضية، وهذا الإجتناب طاعة لله عز وجل الذي أنزل القرآن وهو يتضمن الأوامر والنواهي، ومنها آية البحث التي جاءت صريحة بالزجر عن الربا ولزوم إجتنابه وان كانت فيه فوائد مالية كثيرة.
وتدل الآية في مفهومها على العذاب الأليم للذين يأخذون الربا ويصرون على المعاصي لذا جاءت آية السياق بالتفصيل بذكر الثواب والعقاب، ليخاطب القرآن العقول في المقام على وجوه:
الأول : نيل المسلم الذي يعمل الصالحات الأجر والثواب، وفوزه بالمغفرة، ومحو الذنوب، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا]( ).
الثاني : دنو العذاب الأليم لمن يصر على فعل المعاصي، وأكل الربا، ويفّوت على نفسه فرصة العفو وغفران الذنوب التي تتجلى بالتنزه عن الربا طاعة لله.
الثالث : ترشح المغفرة ومحو الذنوب عن فعل الصالحات، ليدرك الناس ماهية الحياة الدنيا وموضوعية العقل في التمييز بين الحق والباطل , وبعثه على التدبر في منافع إجتناب الربا.
تحتمل المغفرة والعذاب أموراً:
الأول : إنها خاصة بالحياة الدنيا، وأيام الإنسان فيها.
الثاني : المراد عالم البرزخ ، ومدة دخول الإنسان القبر، ولبثه فيه إلى حين يوم البعث، قال تعالى[وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( ).
الثالث : المقصود عالم البعث والنشور، ومواطن الحساب والثواب بالجنة، والعذاب بالنار.
الرابع : المراد من حين دخول القبر وعالم البرزخ وأيام الآخرة والخلود فيها.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وصحيح أن الآخرة هي دار جزاء بلا عمل إلا أنه لا يمنع من وقوع أسباب ومقدمات المغفرة والعذاب في الحياة الدنيا، وبما ينفع في ذات الحياة الدنيا وفي الآخرة.
(عن أنس قال : قيل : يا رسول الله من يحرم على النار ؟
قال : الهين ، اللين ، السهل ، القريب) ( ).
(سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال : تقوى الله وحسن الخلق .
وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال : الأجوفان . الفم والفرج) ( ).
والإمتناع عن الربا وسيلة وسبب لنيل العفو والمغفرة، والبشارة بنيلها واقية من الربا والفائدة الربوية.
فمن يجتنب المعاصي طاعة لله عز وجل يفوز بالعفو والمغفرة، بخلاف من يصر على تعاطي الربا فانه يبوء بالعذاب، وقد يكون المسلم فقيراً ولا يقدر على إعطاء القرض الربوي وتأخير أجله مقابل زيادة ربوية، فهل ينال المغفرة بخصوص هذا الموضوع أم أن المغفرة خاصة بأصحاب الأموال من المسلمين الذين يمتنعون عن الربا مع القدرة عليه.
الجواب هو الأول لوجوه:
الأول : تلقي المسلمين والمسلمات آية البحث بالقبول والرضا.
الثاني : تدبر المسلمين في المضامين القدسية للآية، وما فيها من النهي الصريح عن الربا.
الثالث : عزم المسلم على إجتناب الربا، فقيراً كان أو غنياً.
الرابع : تلاوة المسلم لآية البحث في الصلاة وغيرها، وإدراكه للحاجة إلى الإمتثال لما فيها من النهي والأمر.
الخامس: ثناء آية البحث على المسلمين، وتوجه الخطاب لهم بصبغة الإيمان لقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
السادس : جاء الوعد الكريم للمسلمين الذين لا يملكون ما ينفقونه في سبيل الله، أي ليس عندهم ما يقرضونه ويرجون به أرباحاً ربوية، قال تعالى[وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ]( ).
السابع : قد يجعل الله بعض عباده في حال الفقر، وعدم الإفتتان بكثرة المال، ليرزقهم على التلاوة والعزم على حسن التصرف في المال في حال تملكه.
بين الفلاح والمغفرة
يفيد الجمع بين الآيتين أموراً:
الأول : إتحاد موضوع الفلاح والمغفرة، وكل فرد منهما نعمة وفوز.
الثاني : أخبرت آية السياق عن المغفرة ليكون الفلاح سبيلاً لبلوغ منازل المغفرة.
الثالث : المغفرة طريق إلى نيل الفلاح وأسباب البقاء.
وهل يلزم الدور بين الأمر الثاني والثالث أعلاه وتوقف أحدهما على الآخر، الجواب لا، للتباين في الطريق، ولأهلية كل فرد منهما للسعي له بالوسائل والسبل الشرعية المحمودة ، ومن الفلاح الهداية إلى التوبة وصيرورتها طريقاً إلى المغفرة ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
إن تعليق المغفرة على المشيئة في آية السياق بقوله تعالى [يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ] رحمة من الله عز وجل، ودعوة للناس جميعاً لبذل الوسع للفوز بالمغفرة.
ومن مصاديق الرحمة في المقام تذكير الناس بالحاجة إلى مغفرة الله لهم.
ومن إعجاز الآية إختتامها بقوله تعالى[وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] لبعث الناس على فعل الصالحات ، وإختيار سبيل التوبة، وإجتناب الربا وأكل المال الحرام والكف عن المعاصي وإرتكاب الذنوب.
ومن مصاديق الرحمة في آية البحث الخطاب التشريفي للمسلمين بصفة الإيمان رحمة من جهات :
الأولى : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمته، وبيان عظيم جهاده ببلوغ أمته مرتبة الإيمان، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا] ( ).
الثانية: الشهادة للمسلمين بالإيمان بالله والتصديق بالنبوة.
الثالثة: بعث المسلمين للثبات في مراتب الإيمان بالسعي للمغفرة والرضوان، والتقيد بأحكام إجتناب الربا.
الرابعة: دعوة الناس لدخول الإسلام، والفوز بتلقي الخطابات التشريفية من الله عز وجل التي إختص بها المؤمنين، فان قلت جاء القرآن بالتكاليف الشاقة للمسلمين، والجهاد بالمال والنفس، وهو عناء يكون الكفار في مأمن منه.
فالجواب من وجوه:
الأول: الدنيا دار التكاليف، وهي واجب على المكلفين جميعاً وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة السمحاء للناس، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ).
الثاني: لقد خلق الله عز وجل الناس لعبادته وطاعته، وفاز المسلمون بأداء الوظائف الواجبة عليهم وبما ينالون به المغفرة والرضوان من الله، قال سبحانه [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ومن الرحمة الإلهية بالعباد أن يأتي الفعل المتحد فيكون مصداقاً لعبادة الله، ووسيلة مباركة للفوز بالمغفرة، وهذا الفعل أعم من الإيجاد في الخارج، فيصح بالإجتناب والإحتراز كما في ترك أكل الربا، طاعة لله عز وجل.
الثالث: علة الجهاد وبذل المسلمين أنفسهم إصرار الكفار على مخالفة وظيفتهم العبادية، وإمتناعهم عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع مجئ الكتب السماوية السابقة بالبشارة به، ومصاحبة البراهين المعجزات له، وإستمرارها من بعده لتكون شواهد متجددة على صدق نبوته، ومنها آيات القرآن التي تتضمن الدليل على صدق نزولها من الله عز وجل.
وفي وصف القرآن في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وماحل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل وهو الفصل ليس بالهزل وله ظهر وبطن فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة( ).
قانون تبكيت الكفار
في الجمع بين الآيتين إنذار وتبكيت للكفار من وجوه:
الأول: حرمان كفار قريش أنفسهم من الخطاب التشريفي(يا أيها الذين آمنوا) مع قيام الحجة بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله.
الثاني: الملازمة بن الكفر والعذاب، فقوله تعالى[وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ] وعيد الكفار، ودعوة لهم لهجران منازل الكفر والجحود.
الثالث: بيان حجب المغفرة عن الكفار مع أن الله عز وجل هو الغفور الرحيم، أي أن مغفرة ورحمة الله حاضرتان للناس جميعاً، ليس من برزخ بينهم وبينهما.
ولكن الكفار هم الذين إمتنعوا عن الإنتفاع من المغفرة والعفو، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار، وإن كان إمهالهم وعدم التعجيل لهم بالعذاب رحمة من الله عز وجل ، وترغيب بالمغفرة، قال تعالى[وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ] ( ).
الرابع: أكل الكفار للربا، وعدم إحترازهم من المعاملات الربوية.
والنهي عن الربا في آية البحث عام، فالأصل حرمة الربا وبها جاء الرسل، ونزلت بها الكتب السماوية، مما يدل على عموم حرمته.
وجاء قوله تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، وقد ترك الكفار الأهم والأصل وهو الإيمان بالربوبية لله والتصديق بالنبوة.
الخامس: بعث الحزن في نفوس الكفار، ومنعهم من الفرح والسرور بالأموال التي يكتسبونها عن طريق الربا والقرض الربوي من جهات:
الأولى: توكيد آية البحث على حرمة الربا.
الثانية: تلاوة المسلمين لآية البحث والآيات الأخرى التي تؤكد حرمة الربا.
الثالثة: تعاهد المسلمين لحرمة الربا، وإمتناعهم عنه أخذاً وإعطاء وكتابة وشهادة حتى في حال الضرورة.
الرابعة: ترك الذين يدخلون الإسلام ما لهم من أموال ربوية في ذمة وأموال الآخرين، وإكتفاؤهم برؤوس أموالهم.
وهل يكون هذا السبب مانعاً لبعض التجار من دخول الإسلام خشية ضياع ما لهم من أرباح ربوية؟.
الجواب لا، وجوه:
الأول: الغاية هي حب الله والفوز بالمغفرة.
الثاني: إن الله سبحانه هو الذي يخلف على المسلمين خيراً.
الثالث: وجوب الإيمان بالله والتصديق بالنبوة.
الرابع: تعدد الشواهد التي تدل على حصول السعة والمندوحة عند الذين دخلوا الإسلام، وتقيدوا بأحكام حرمة الربا لقد جاء الإسلام بأمر جديد في الأرض وهو توكيد معاني الظلم التي في الربا، وبيان ضرره على الآكل والموكل أي الذي يأخذ الفائدة الربوية وعلى الذي يدفعها، وليس من عقد تشمل فيه العنة المتعددمثله , إذ أنها تشمل الكاتب والشاهد والوكيل أيضاً.
الخامس: تعتبر قاعدة تقديم الأهم على المهم قاعدة عقلية، يدرك معها الإنسان لزوم تقديم الأهم والأكثر نفعاً , ودخول الإسلام واجب، وكذا ترك الربا، فلا بد أن يتخلى الإنسان عن المال القليل من أجل الواجب ,
والمال الربوي ليس من المهم في المقام بل هو من الحرام والضد للواجب.
قانون ترك الربا رحمة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الرحمة ، لذا ابتدأ القرآن بالبسملة التي تتضمن ثلاثة من الأسماء الحسنى :
الأول : اسم الجلالة .
الثاني : الرحمن .
الثالث : الرحيم .
ومن رحمة الله تعالى أن يترك المسلم المال الربوي فتأتيه الغنائم والمكاسب على نحو دفعي ومضاعف، وهو من مصاديق قوله تعالى[أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] في النهي عن الربا، بأن تأتي الأرباح والأضعاف عن طريق الرزق الحلال، وما فيه من البركة والنماء.
ليس من شيء أكبر على كفار قريش من تقيد المؤمنين بأداء الفرائض وإتباعهم لسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً مع إنتشار الإسلام في الأمصار، المسلمون في أمور مباركة هي:
الأول: التفقه في الدين.
الثاني: تلاوة آيات القرآن.
الثالث: دراسة سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف أنه أبطل الربا وأسقط الأرباح المترتبة عليه من غير إمهال وأن المسلمين الأوائل تلقوا الأمر بالقبول والرضا، وكذا التابعين وتابعيهم إلى يوم الدين، وهو من أسباب إستدامة الغيظ الذي يملأ قلوب الكفار، قال تعالى[قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ]( ).
أي أن تلك الأسباب باقية وهي في إزدياد لأمور:
الأول: إتساع أمصار المسلمين والذي إبتدأ بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
الثاني: تكاثر عدد المسلمين.
الثالث: زيادة قوة ومنعة المسلمين.
الرابع: تجلي أحكام الشريعة ، وتوارث المسلمين الإمتناع عن الربا طاعة لله عز وجل.
وهل تكاثر العدد من عمومات قوله تعالى[أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ]( )، الجواب لا، لأن التكاثر هنا بالمنافع من الجواهر والأعيان والعروض، كالتباهي بالأموال والأولاد، والتفاخر بالكثــرة القبلية ونحوها مع إعراض عن الوظائف العبادية وذكر الله.
أما المسلمون فإن إزدياد عددهــم فضـــل ونعمة من الله، وسبب لتوجههم بالشكر إلى الله عز وجل على نعمة تغشي الإسلام الكثير من الناس، وكثرة أهل الإيمان سبب للعز والمنعة وتعظيم شعائر الله.
فإن قلت قد تكون الكثرة سبباً للفتن وظهور المعاصي والذنوب، والجواب على وجوه:
الأول: كثرة المسلمين محكومة بطاعة الله، والتقيد بأحكام الشريعة.
الثاني: تفضل الله عز وجل وأثنى على المسلمين بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، ويتغشى هذا الثناء عموم المسلمين في أفراد الزمان الطولية التي يتناسب معها عدد المسلمين كثرة وإزدياداً.
الثالث: الأصل في دعوة الإسلام دخول الناس جميعاً فيه، والكثرة مقدمة لهذا الدخول، وحجة على الناس، ووسيلة لترغيبهم في الإسلام، وإشتهار الحجة والبرهان , والكثرة لها موضوعية في الجذب، إلا أنها إذا كانت فاقدة للأصل والموضوع الذي يناسبها فسرعان ما تتفرق ذات الكثرة، أما إذا كانت على الحق فإنها في إزدياد لأن الكثرة ليست مستقرة دائماً، وهي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب بيانية متفاوتة.
وكثرة المسلمين حق وبالحق وللحق، قال تعالى[وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
ومن رحمة الله ترك المعاصي وما نهى الله عز وجل عنه ، ومنه أكل الفائدة على القرض بين الأشخاص في المعاملة ، وقد وردت النصوص باستحباب الإقراض لما فيه من تيسير الأمور (عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : رأيت ليلة أسري بي مكتوباً على باب الجنة ، الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر ، فقلت : يا جبريل ، ما بال القرض أفضل من الصدقة؟
قال : لأن السائل يسأل وعنده ، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة) ( ).
من مصاديق الوسيلة
جاء النهي عن الربا وأكل المال بالباطل ليكون نوع طريق لبلوغ مراتب الفلاح، واللبث الدائم في النعيم، للملازمة بين المغفرة والفلاح، وكل منهما مقدمة للآخر من غير تعارض مع تداخلهما والملازمة بينهما، قال تعالى[وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ومن مصاديق الوسيلة إلى الله إجتناب الربا قربة وطاعة له سبحانه، وهو لا يتعارض مع ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا ينالها إلا عبد واحد و أرجو أن أكون أنا هو)( ).
فتأتي الوسيلة بمعنى المنزلة وبمعنى القربة، والواسطة والبلغة التي توصل إلى الغاية والغرض والمطلوب، قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ]( ), ليكون الإمتناع عن الربا على وجوه:
الأول : طاعة لله عز وجل.
الثاني : وسيلة للقربة إلى الله سبحانه.
الثالث : توكيد عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأفضلية على الأنبياء بجهاده لإصلاح أمته لإتيان الخير، وترك الشر، ولإتباع أمته له وثباتها على العمل بأحكام التنزيل إلى يوم القيامة.
الرابع : إجتناب الربا جهاد في سبيل الله.
والوسيلة على وزن فعيلة والجمع الوسائل، قال لبيد :
أَرى الناسَ لا يَدْرونَ ما قَدْرُ أَمرِهم
بَلى كلُّ ذي رَأْيٍ إِلى الله واسِلُ)( )
لتكون المغفرة إشراقة على النفس، وبداية جديدة نحو الفلاح والتوفيق .
وهل إجتناب الربا سبب للمغفرة , الجواب نعم، لوجوه:
الأول : التنزه عن الربا سعي في مرضاة الله، فهو أمر وجودي، وقصد وإحتراز.
الثاني : في إجتناب الربا ترك لمنافع دنيوية طاعة لله عز وجل قال تعالى [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا]( ).
الثالث : ترك الربا مناسبة للإستغفار والشكر لله عز وجل، ورجاء فضله وإحسانه.
الرابع : في الإمتنــاع عن الربــا إمتثــال للأوامر الإلهيــة، والله عز وجل هو الذي يشكر للمؤمنين حسن عملهم، قال تعالى[لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ]( ).
الخامس : من اللطف الإلهي بالعباد أنه جعل الإمتناع عن الربا سبيلاً للمغفرة، وهداية إليها، فيكون المسلم في حال غبطة وسعادة عند الإنقطاع عن الربا، ورضا للتوفيق لهذه المرتبة العظيمة، وهي ترك ربح الأموال الطائلة من المعاملة الربوية لأن الله عز وجل نهى عنها، قال تعالى [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ]( ).
صلة(والله غفور رحيم) ( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا الله غفور رحيم.
الثاني : لا تأكلوا الربا والله غفور رحيم.
الثالث : إتقوا الله والله غفور رحيم.
الرابع : الله غفور رحيم لعلكم تفلحون.
الثانية : صحيح أن الدنيا دار إمتحان وإبتلاء إلا أن كفتي الخير والشر ليستا متساويتين في القرب والبعد عن الإنسان، والخير والإيمان أقرب للإنسان، وليس بينه وبين الإيمان حاجز وبرزخ، ومن فضل الله في الحياة الدنيا أن الإنسان يرى البراهين والدلائل قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
والبراهين على قسمين:
الأول : البراهين التي تقرب الإنسان إلى الطاعة.
الثاني : البراهين التي تزجر الإنسان عن المعصية .
قال تعالى في يوسف عليه السلام [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ]( )، وفيه توكيد بأن البرهان نعمة وفضل إختص الله به نبيه يوســـف عليه الســلام، وهو لا يمنــع من حضـــوره لدى النــاس من وجوه:
الأول : إنه من مصاديق قوله تعالى(والله غفور رحيم).
الثاني : البرهان حجة وموعظة وتذكير.
الثالث : إنه من مصاديق اللطف الإلهي بتقريب العبادة لسبل الطاعة، ودفعهم عن منازل المعصية.
الرابع : في حضور البرهان حجة على الناس.
ويمكن تقسيم البرهان تقسيماً إستقرائياً إلى قسمين:
الأول : البرهان الشخصي.
الثاني : البرهان العام.
ومن الآيات التداخل والتأثير المتبادر بينهما، فيؤثر البرهان الشخصي بالناس عامة، ويؤثر البرهان العام بالأفراد متفرقين ومجتمعين، وفيه إعانة لهم لبلوغ مراتب المغفرة والفوز بالفلاح.
وكل آية من القرآن برهان حاضر ومتجدد للمتحد والمتعدد من المؤمنين وغيرهم، ومنها آية البحث وما فيها من البراهين الدالة على وجوب عبادة الله والتنزه من الحرام.
فلم يأت النهي عن الربا مجرداً، بل تقدمه الخطاب التشريفي للمسلمين(يا أيها الذين آمنوا) وفيه بعث للتقيد بالنهي عن الربا، فمن خصائص المؤمنين أن الإكرام يزيدهم هدى، ويجعلهم يتوجهون إلى الله عز وجل بالشكر وهو على وجهين:
الأول : الشكر القولي، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثاني : الشكر العملي، ومنه الإبتعاد عن الربا وتوارث التنزه منه.
فمن كان فقيراً من المسلمين يوصي أبناءه بلزوم إجتناب الربا قال تعالى [وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ]( ).
وصحيح أن الآية أعلاه جاءت بخصوص أموال اليتامى والولاية عليهم إلا أنها أعم في موضوعها، وفيها أمور:
الأول : تنمية ملكة العفة والنزاهة عند المسلمين.
الثاني : بيان التباين في حال المسلمين من الغنى والفقر، والدعوة لإحترام الملكية الخاصة.
الثالث : البشارة لفقراء المسلمين بكفايتهم من الرزق الحلال, وطرد الخوف من الفاقة عنهم.
الرابع : التنزه عن أكل مال الغير، وفيه مسائل:
الأولى : إنه من الرحمة الإلهية بالمسلمين والناس.
الثانية : توكيد قرب الخير وأسباب الهداية من المسلم.
الثالثة : إصلاح المسلم لمحو ذنوبه بتقييده بالإمتناع عن المحرمات.
ومن عمومات قوله تعالى (والله غفور رحيم)( )، أن الله يمحو الذنوب، ويهيء أسباب ومقدمات هذا المحو، ويجعل العباد قريبين من سبل المغفرة.
ومن صيغ القرب من المغفرة وجود أمة مؤمنة بالله ورسوله ووصفها بأنها [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، والثناء على الأفراد جميعاً في آية البحث بقوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا).
وهذا الثناء مقدمة للنهي عن جمع الأضعاف المضاعفة من الأموال من مورد مخصوص، أي أن المؤمنين غير ممنوعين من جمع الأموال، ولكن المنع متعلق بطريق ومورد معين لجمعها، والقبح الذاتي والأضرار العرضية لهذا لمورد الربا ظاهرة وبينة للفرد والجماعة.
الثالثة : لقد أنعم الله عز وجل على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون دعوة سماوية للتوبة والإنابة، والفوز بالمغفرة، وكذا بالنسبة للنبوات السابقة .
وتجري على أيدي الأنبياء المعجزات وهي من مصاديق رحمة الله عز وجل وعمومات قوله تعالى (والله غفور رحيم) التي لا تنحصر بمحو الذنوب، وتغشي الرحمة من تاب وآمن بل تشمل الخلق والإيجاد وأسباب الجذب إلى سبل المغفرة.
نصوص في قبح وحرمة الربا
وعن انس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فذكر الربا وعظم شأنه ، فقال : إن الرجل يصيب درهماً من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم( ).
لقد كانت السنة النبوية بياناً وتفسيراً للقرآن ، وكما تعددت آيات النهي عن الربا ، فقد تعددت الأحاديث النبوية التي تؤكد حرمته ، ولزوم الإمتناع عنه إذ أنه نوع لفاعلة بين آكل وموكل الربا كما يكون فيه كاتب وشاهدات (وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والبيهقي عن ابن مسعود قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آكل الربا ، وموكله ، وشاهديه ، وكاتبه.
وأخرج البخاري وأبو داود عن أبي جحيفة قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الواشمة ، والمستوشمة ، و آكل الربا ، وموكله ، ونهى عن ثمن الكلب ، وكسب البغي ، ولعن المصوّرين.
وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن خزيمة وابن حبان عن ابن مسعود قال : آكل الربا وموكله و شاهده وكاتباه إذا علموا ، والواشمة والمستوشمة للحسن ، ولاوي الصدقة ، والمرتد أعرابياً بعد الهجرة ، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة .
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أربع حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها .
مدمن الخمر ، وآكل الربا ، وآكل مال اليتيم بغير حق ، و العاق لوالديه .
وأخرج الطبراني عن عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : لدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله من ثلاثة وثلاثين زنية يزنيها في الإِسلام .
وأخرج أحمد والطبراني عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية .
وأخرج الطبراني في الأوسط عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الربا اثنان و سبعون باباً ، أدناها مثل أن يأتي الرجل أمه ، وأن أربى الربا استطالة الرجل في عرض الرجل.
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشترى الثمرة حتى تطعم ، و قال : إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله.
وأخرج أبو يعلى عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله)( ).
قانون من رحمة الله النهي عن الباطل
قوله تعالى [نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] ( )، رحمة للناس جميعاً، لما فيها من الدعوة إلى الإيمان والتوبة.
لقد تضمنت آية البحث أموراً :
الأول : النهي عن الربا والباطل .
الثاني : وجوب تقوى الله .
الثالث : رجاء الفلاح والخير والفوز .
ويحتمل متعلق قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، وجوهاً :
الأول : إختصاص الفلاح بتقوى الله .
الثاني : تقوى الله مع إجتناب الربا .
الثالث : الفلاح بفضل من الله عز وجل .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وإن كانت النسبة بين التقوى والإمتناع عن أكل الربا هو العموم والخصوص المطلق فلا تختص حرمة الربا بأكله إنما تشمل المفترض والمستلف بالمعاملة الربوية .
وتتضمن آية البحث مصاديق من سبل المغفرة، منها:
الأول: إنه من الإيمان بالله ورسوله، لذا إبتدأت الآية بلغة الخطاب (يا أيها الذين آمنوا) لإفادة الملازمة بين الإيمان والتنزه عن الربا.
الثاني: إنه حكم شرعي يفيد النهي عن فعل مخصوص، مع السعة في ذات الباب من المكاسب بالتجارة والشركة والبيع والشراء.
الثالث : لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الفوز بالمغفرة والبركة , بالقيام بالإقراض والدين من غير فائدة ربوية .
وعن الأمام جعفر الصادق عليه السلام (على باب الجنة مكتوب: القرض بثمانية عشر، الصدقة بعشرة)( ).
إن غلق باب الربا عن المسلمين بالنهي بالنص القرآني الذي لا يقبل تعدد وإختلاف التأويل مناسبة كريمة للفوز بالثواب العظيم للقرض ومنافعه الإقتصادية والإجتماعية والأخلاقية.
الرابع : ترك الأضعاف المضاعفة من الأرباح الربوية طاعة لله عز وجل، ورجاء لعفوه ومغفرته.
الخامس : تقوى الله والخشية منه، وهو من أسمى سبل الفوز بالعفو والمغفرة، ويتلقى المتقون بشارات المغفرة من الله عز وجل، وهذه البشارات من عمومات قوله تعالى (والله غفور رحيم) وفيها مسائل:
الأولى : البعث إلى سبل المغفرة ، ومن هذه السبل الفوز بشفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باجتناب الحرام الذي نزل به الوحي و(عن الإمام الصادق عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله: هبط علي جبرئيل
فقال لي: يا محمد إن الله عزوجل شفعك في ستة : بطن حملتك آمنة بنت وهب، وصلب
أنزلك عبد الله ابن عبد المطلب، وحجر كفلك أبو طالب، وبيت آواك عبد المطلب، وأخ كان لك في الجاهلية – قيل: يا رسول الله وما كان فعله ؟ قال: كان سخيا يطعم الطعام، ويجود بالنوال وثدي أرضعتك حليمة بنت أبي ذوئب)( )، و(عن أبي الدنيا قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كنت أرعى الغنم فإذا أنا بذئب على قارعة الطريق فقلت له: ما تصنع ههنا ؟ فقال لي: وأنت ما تصنع ههنا ؟ قلت أرعى الغنم قال مر أو قال ذا الطريق قال: فسقت الغنم فلما توسط الذئب الغنم إذا أنا به قد شد على شاة فقتلها قال: فجئت حتى أخذت بقفاه فذبحته وجعلته على يدي وجعلت أسوق الغنم. فلما سرت غير بعيد .
وإذا أنا بثلاثة أملاك جبرئيل وميكائيل وملك الموت صلوات الله عليهم أجمعين، فلما رأوني قالوا هذا محمد بارك الله فيه فاحتملوني وأضجعوني وشقوا جوفي بسكين كان معهم وأخرجوا قلبي من موضعه وغسلوا جوفي بماء بارد كان معهم في قارورة حتى نقي من الدم .
ثم ردوا قلبي إلى موضعه وأمروا أيديهم على جوفي فالتحم الشق باذن الله تعالى فما أحسست بسكين ولا وجع، قال: وخرجت أغدو إلى امي يعني حليمة داية النبي صلى الله عليه وآله فقال لي: أين الغنم فخبرتها بالخبر فقالت: سوف تكون لك في الجنة منزلة عظيم)( ).
الثانية : جعل المسلمين يسعون إلى سبل المغفرة.
الثالثة : ندب المسلمين لإجتناب ما يبعدهم عن سبل المغفرة والرحمة، قال تعالى[وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( ).
السادس : بيان موضوعية حسن العاقبة، وحاجة الفرد والجماعة والأمة إلى الفلاح، إذ تتجلى هذه الحاجة بصيغة الجمع (لعلكم تفلحون) لتوكيد لزوم سعي الأمة مجتمعة ومتفرقة في سبل الرشاد والفلاح، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمناجاة بالصلاح والتقوى، قال تعالى [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ]( ).
قانون الرزق البديل
لقد جعل الله عز وجل النهي عن الربا وسيلة سماوية لنيل العفو والمغفرة، ولنزول الرحمة الإلهية على المسلمين والناس جميعاً، وبسط البركة في أموال المسلمين، وما يتداولونه من القروض والديون فيما بينهم.
فحينما حرّم الله الربا فإنه كفل للمسلمين سبل الرزق البديل، والأضعاف من الكسب الحلال ويتقدم لهم بالرزق الكريم والأضعاف المضاعفة ليكونوا أسوة للناس بالتقيد بالأوامر والنواهي، وعدم توظيف الأموال في الربا والمعاملات المحرمة، وهو من اللطف الإلهي بالناس وأسباب جذبهم إلى سبل المغفرة، قال تعالى[اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ]( ).
قانون فيوضات الأسماء الحسنى
في إخبار الله عز وجل للمسلمين بأنه سبحانه [غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، وجوه :
الأول : بشارة المسلمين بالفوز بمحو الذنوب، وهو مقدمة للإقامة في النعيم الدائم.
الثاني : بعث المسلمين على الإستغفار، وندبهم للنهل من رحمة الله عز وجل ، ومن إعجاز نظم وسياق آيات البحث اختتام الآية السابقة بثلاثة من الأسماء الحسنى وهي :
الأول : اسم الجلالة .
الثاني : الغفور .
الثالث : الحريم .
ثم إبتدأت آية البحث بنداء الإيمان للشهادة للمسلمين على إيمانهم وتسليمهم بالربوبية المطلقة لله عز وجل وسعيهم من سبل المغفرة والرحمة التي تفضل ويتفضل بها سبحانه ثم جاء بعد نداء الإيمان النهي عن أكل الربا ليتلقاه المسلمون بالقبول والرضا والامتثال الفوري العام ، وهذا التلقي من إعجاز القرآن الغيري.
الثالث : دعوة الناس للإسلام وطرد القنوط واليأس عن نفوسهم.
الرابع : حث المسلمين على الدعوة إلى الله بإخبار الناس بأنه سبحانه الذي يغفر الذنوب جميعاً، وهذه الدعوة من مصاديق قوله تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( )، لما فيها من الترغيب باللجوء إلى التوبة، والمبادرة إلى الإنابة.
الخامس : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسعي لإصلاح الأرض لنيل مراتب المغفرة لهم وللناس، فمن خصائص المسلمين إتخاذ الأمر والنهي لنفعهم الذاتي ونفع الناس عموماً.
السادس : بيان فضل الله على الإنسان بفتح باب التوبة له الى ساعة مغادرته الدنيا .
ولم يدخل المسلمون الإسلام بشرط العفو والمغفرة، بل صدّقوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها، وأدركوا أن وظيفتهم العبادية كمكلفين تقتضي إيمانهم وصبرهم في سبيل الله، وتقيدهم بأحكام التنزيل، ومنها إجتناب الربا ، وتطلعوا إلى العفو والمغفرة من عند الله ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
فجاءتهم البشارة في القرآن بالمغفرة، والإخبار بأن الله عز وجل هو الغفور الرحيم، وهو من مصاديق توالي النعم على المسلمين قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ).
ومن رحمة الله هداية المسلمين لسبل النجاة، ومنها الإمتناع عن أكل الربا والمال الحرام، وهذا الإمتناع سؤال عملي للعفو والمغفرة.
إن قوله تعالى(والله غفور رحيم) زاجر للمسلمين عن الربا، وباعث للرغبة في نفوس المسلمين لتلقي الأوامر والنواهي القرآنية، فمع كثرة أسئلة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في تكرار قوله تعالى(يسألونك) ( ) فإن المسلمين لم يسألوا عن أمور:
الأول : المهلة في حرمة الربا ولو إلى حين أخذ أموالهم وأرباحهم التي عند الآخرين.
الثاني : علة حرمة الربا مع أنه معاملة وعقد بين طرفين قائم على القبول والإيجاب.
الثالث : بقاء المعاملة الربوية أسوة بما هو شائع ومتعارف عند الملل الأخرى.
لقد تلقى المسلمون حرمة الربا بالقبول، وإستبشروا به لما فيه من الدلالة على ما ينتظرهم من حال الغنى والثروة، وتوالي مجيء الغنائم للمدينة.
وهل في حرمة الربا حث للمسلمين على الجهاد في سبيل الله، أم أنه إشارة للعقود وإنتظار تحقق البشارة بكثرة الأموال؟
الجواب النفير للجهاد أو عدمه لا يختص بمفهوم هذه الآية، وما فيها من الإشارات، إذ جاءت آيات القرآن نصاً صريحاً بالندب إلى الجهاد قال تعالى[اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ] ( )، وإعتبار الإمتناع عن الربا وسيلة إلى الله، إذ أن كل مصداق من مصاديق الطاعة لله وسيلة للتقرب إليه سبحانه، ومناسبة للفوز بالعفو والمغفرة.
وتحتمل الصلة بين النهي عن الربا وقوله تعالى(والله غفور رحيم) وجوهاً:
الأول : الإمتناع عن أكل الربا سبب وطريق لنيل المغفرة.
الثاني : من رحمة الله عز وجل بالمسلمين نزول تحريم الربا.
الثالث : إن الله عز وجل هو الغفور فتفضل ونهى عن الربا.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وفيه آية في الفضل الإلهي، وكل فرد منه توليدي تتجلى منه فروع تشع على أصل آخر من غير تعارض بين تلك الأصول، أو تقاطع بين فروعها.
فالنهي عن الربا أصل وضياء نحو المغفرة، والمغفرة أصل وضياء يبعث إلى عدم أخذ المال الربوي وهو من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
(وعن ابن عباس كان الرجل منهم إذا حل دينه على غريمه فطالبه به قال المطلوب منه له زدني في الأجل و أزيدك في المال فيتراضيان عليه و يعملان به فإذا قيل لهم هذا ربا قالوا هما سواء)( ).
فنزل القرآن بحرمة هذه المعاملة وذمها وإبطال قولهم بالتساوي بين البيع والربا وتوكيد التباين بينهما في الموضوع والحكم والعاقبة.
قانون سعة المغفرة
تحتمل المغفرة في الإمتناع عن الربا من جهة السعة والضيق وجوهاً:
الأول : مغفرة ما تم أكله من الأرباح الربوية.
الثاني : المغفرة للمعاملات الربوية التي لم تستوف أرباحها أوان نزول حرمة الربا.
الثالث : المعنى الأعم للمغفرة، فيمتنع المسلم عن الربا فيتفضل الله عز وجل بمغفرة ذنوبه في باب آخر غير الربا.
والصحيح هو الثالث لعمومات الفضل الإلهي، وتقريب العباد من طاعة الله ورسوله ،قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، ولأن الإمتناع عن أكل الربا تنزه عن الحرام، ورضا بأمر الله ورجاء لنيل مغفرته، والله عز وجل عند حسن ظن عبده المؤمن، فقد يظن بعضهم أن النهي عن الربا تكليف لا يخلو من المشقة، وفيه حجب لأرباح من معاملات شائعة بين الناس، ولا تتعارض مع أداء الفرائض والعبادات.
والجواب لقد أراد الله عز وجل رحمة المسلمين بأن إمتحنهم بالنهي عن أمر في حال مخصوص يتصف بوجوه:
الأول : كان المسلمون في حال من الفقر والعوز ونقص المؤون، فنهاهم الله عن الربا ليأتيهم الثواب على نية التقيد به.
الثاني : عزم وإستعداد المسلمين للتنزه عن الربا إن صارت عندهم أموال وتجارات ومكاسب.
الثالث : قيام المسلمين الذين كانوا يتعاطون الربا بإسقاط الأرباح الربوية التي لهم في ذمة الغرماء .
الرابع : تنزه الأغنياء من المسلمين عن أكل الربا، سواء من كان أصلاً غنياً، وصاحب ثروة وأموال أو الذي إستحدثت تجارته وأمواله.
الخامس : إمتناع المسلمين عن أخذ الربا على القرض، وإجتنابهم المعاملات الربوية إعطاء أو أخذاً.
وهذا التعدد في وجوه النهي المتحد من إعجاز الآية القرآنية وإتساع موضوعها، وإستدامة أحكامها.
السادس : رجاء المسلمين العوض والفضل من الله عز وجل ، و(عن عائشة قالت : لما أراد الله أن يتوب على آدم أذن له فطاف بالبيت سبعاً والبيت يومئذ ربوة حمراء فلما صلى ركعتين قام استقبل البيت .
وقال : اللهم إنك تعلم سريرتي وعلانيتي فاقبل معذرتي فأعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي .
اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتبت لي ، والرضا بما قسمت لي .
فأوحى الله إليه : إني قد غفرت ذنبك ، ولن يأتي أحد من ذريتك يدعوني بمثل ما دعوتني إلا غفرت ذنوبه ، وكشفت غمومه وهمومه ، ونزعت الفقر من بين عينيه ، واتجرت له من وراء كل تاجر ، وجاءته الدنيا وهي راغمة وإن كان لا يريدها)( ).
بحث كلامي
إن الله الغفور الرحيم هو الذي نهى المسلمين عن الربا، وأمرهم بالتقوى، مما يدل على كونه تعالى لطيفاً بالناس، يمنعهم من التمادي بفعل المعصية، ويدفعهم عن إختيار الغفلة.
وجاءت آية البحث بالنهي والأمر والبعث لمنازل الفلاح، ومصاديق المغفرة والرحمة وفيها من وجوه:
الأول: خطاب الإكرام(يا أيها الذين آمنوا) رحمة بالمسلمين، ويدل بالدلالة التضمنية على مغفرة ذنوبهم فضلاً من الله، وشكراً منه تعالى على إهتداء المسلمين للإسلام، قال تعالى[فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] ( )، وهناك مسائل:
الأولى: هل من إيمان المسلمين إقرارهم بأن الله غفور رحيم.
الثانية: هل هناك ملازمة بين الإيمان والإمتناع عن الربا.
الثالثة: هل من مصاديق رحمة الله إعانة المسلمين للتنزه عن الربا.
أما الأولى فنعم، ولابد من التسليم بصفات الله عز وجل الثبوتية والسلبية، وتسمى صــفات الله الثبوتية صفات الإكرام ومنها أنه سبحانه : قادر، عالم، حي، مريد، قديم، أزلي، متكلم , صادق، مدرك .
أما الصفات الســلبية وتسمى صفات الجــلال وهذه التسمية مستقرأة من قوله تعالى[تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ]( )، فهي التي يجب أن تسلب عن الله عز وجل فهو تعالى ليس بمركب، لأن المركب يفتقر إلى أجزائه، وأنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، لأنه سبحانه لا يحتاج إلى المكان وليس في جهة لإستغنائه عنها، وعدم دركه بالإشارة الحسية إلى جهة مخصوصة.
والله عز وجل واجب الوجود , وغير محتاج إلى المكان فكل شيء حاضر عنده، قال تعالى[وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]( ).
أما الثانية فإن الملازمة ظاهرة جلية بينهما وتدل عليه مضامين آية البحث، فليس من فاصلة بين الخطاب التشريفي(يا أيها الذين آمنوا) وبين(لا تأكلوا الربا)مما يدل على أمور:
الأول: موضوعية إجتناب الربا في صبغة وسلّم الإيمان.
الثاني: لزوم مبادرة المسلمين إلى العمل الصالح، وإجتناب النواهي حال دخولهم الإسلام فليس من فترة بين دخولهم الإسلام وإمتناعهم عن الربا، قال تعالى[قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ]( ).
لتكون المغفرة ملازمة للإيمان لا تتخلف عنه رحمة ووعداً من الله عز وجل.
وبين الرحمة والمغفرة عموم وخصوص مطلق، فكل مغفرة من الله رحمة منه تعالى، أما الرحمة فهي أعم وأوسع.
الثالث: تفقه المسلمين في الدين، ومعرفتهم لمجيء الأوامر والنواهي بعد الخطاب التشريفي بالإيمان.
أما الثالثة فنعم وآية البحث من مصاديق رحمة الله، ويدفع الله المسلمين عن الربا أمس واليوم وغداً، وآية البحث من صيغ هذا المنع والدفع , وهل يدفع عنهم الله الربا , الجواب نعم وكذا يدفع مقدماته , وهو من الطف بالمسلمين , ودفاعه عنهم , وتقريبهم لسبل الهداية والإرتقاء في سلم المعارف .
ومن خصائص رحمة الله أنها متجددة ومتصلة ليس فيها فترة وفتور، ويدل عليه بقاء آية البحث حية غضة في موضوعها وحكمها وتلاوتها، وعموم أثرها في الزجر عن الربا وأكله، وفي النهي عن الباطل ووجوه معصية الله.
وهل تدخل فيها سيرة الأجيال السابقة من المسلمين، الجواب نعم، وهو رحمة إضافية بالمسلمين، ونوع تخفيف على الأجيال اللاحقة من المسلمين ولبعثهم على محاكاة آبائهم في الصلاح والتقوى، وهو من خصائص(خير أمة) وهم المسلمون إذ أن الكافرين يصرون على الجحود وفعل المعاصي، وفي التنزيل[وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا]( ).
وأختتمت آية السياق بثلاثة أســـماء لله عز وجل(الله غفور رحيم).
وجاءت آية البــحث بقوله تعالى(وأتقوا الله) وفي الجمع بينهما دلالة على لزوم تقوى الله لأنه الغفور الرحيم، وما في هذين الإسـمين من معــاني القدرة والعظمة والسلطان، فكما ينفرد الله عز وجل بوجوب الوجود والقوة والقدرة المطلقة فإنه ينفرد بالقدرة على مغفرة الذنوب وتفضله بمحوها.
فإن قلت ذات دخول الإسلام من التقوى فلماذا يأمر الله المسلمين بالتقوى كما في آية البحث.
والجواب تحتمل التقوى وجهين:
الأول: إنها من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة متساوية، تكون مطلوبة من الناس جميعاً في قوله تعالى(وأتقوا الله).
الثاني: إنها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
والصحيح هو الثاني فإن التقوى على مراتب متعددة بلحاظ الموضوع والحكم، والتقوى باب للإرتقاء في سلّم الخشية من الله، وسبل اليقين، وكما أنها سبيل إلى المغفرة والرحمة، فإن كلاً من المغفرة والرحمة سبيل لبلوغ منازل التقوى واليقين بالسعي في مرضاة الله، وإظهار معاني حبه والتفاني في طاعته والإخلاص في سنن الإيمان بما يجعل الدنيا حديقة ذات بهجة يفوح منها عطر الهدى، وتتجلى فيها معاني الصلاح والرشاد.
وفي التنزيل[هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ]( )، أي أن الله أهل أن يحذر من بطشه وعقابه، وأهل أن يسعى الناس لنيل مغفرته، ولا يدركون المغفرة إلا عند الله.
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالنهي عن الربا، وفيه أمور:
الأول: الربا برزخ دون المغفرة.
الثاني: إنه سبب لحمل الأوزار في الدنيا والآخرة.
الثالث: أكل الربا مانع من بلوغ مراتب الفلاح والبقاء.
والمنع من الربا من عمومات قوله تعالى(والله غفور رحيم) ومن فضل الله عز وجل على المسلمين تلاوتهم كل يوم في الصلاة الواجبة قوله تعالى[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ].
ومن مصاديق رحمة الله تعالى بالمسلمين أمور:
الأول: نهي المسلمين عن الربا.
الثاني: إعانة المسلمين لإجتناب الربا.
الثالث: نيل المسلمين الأجر والثواب على الإمتناع عن أكل الربا.
الرابع: تهيئة أسباب الرزق الكريم للمسلمين، بما يغنيهم عن الربا، ويفتح عليهم آفاقاً واسعة من العمل وأسباب الكسب والتجارة.
ولو أجريت دراسة مقارنة على مجتمعين بينهما تساو في الحال والمال، مع التباين في الفعل:
المجتمع الأول: يتعاطى الربا ويتعامل به.
المجتمع الثاني: يمتنع عن الربا ويتنزه عنه.
لظهر تجلي سبل العمل والنفع المستديم واضحة في عند المجتمع الثاني لأمور:
الأول: إنتفاء الغبن والغرر الذي يحصل بالربا.
الثاني: سعي صاحب الربا للعمل وبذل الوسع للكسب، ودخوله منافساً مع الذي إمتنع عن أخذ المال الربوي منه ودفع الزيادة له.
الثالث: عدم إنتزاع أرباح على القرض.
الرابع: إنتشار مفاهيم الود والمحبة بين أفراد المجتمع لإنتفاء الغبن والغرر والظلم، لذا فإن النهي عن الربا من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )، وفيه آية إعجازية بأن الله عز وجل يأمر وينهى المسلمين بما يجعلهم أخوة متحابين في الله .
ومن معاني الأخوة بينهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنه سبيل الصلاح والرشاد، ووسيلة لنزول الرحمة، وفي الحديث: من عَصى الله لم يَقِه منه واقِيةٌ إِلا بإِحْداث تَوْبةٍ) ( ).
لقد إبتدأت آية السياق بالإخبار عن ملك الله للسموات والأرض وما فيهما لتختتم بالبشارة والإخبار عن كونه تعالى الغفور الرحيم، ليكون من مصاديق الرحمة نزول الفضل الإلهي من السماء، ومجيؤه من الأرض، قال تعالى[سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ).
بحث بلاغي
من ضروب البديع الطباق، وهي الجمع بين متضادين في الجملة سواء كان التضاد على نحو الحقيقة أو المجاز أو التكافؤ، ومن مصاديق الطباق على نحو الحقيقة قوله تعالى[وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى *وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا] ( ).
وتجلى الطباق في كل من آية السياق والبحث على نحو الإستقلال والإجتماع.
فجمعت آية السياق بين المغفرة والعذاب مع التباين الموضوعي والحكمي بينهما فأسباب المغفرة جلية في القرآن، وكذا أسباب العذاب مما يؤدي إلى القطع بعد إمكان الخلط بينهما.
وجاء الطباق اللفظي في آية البحث بالتضاد مجازاً بين لغة الأمر والنهي، إذ تتضمن الآية وجوهاً:
الأول: الثناء على المسلمين بلغة الخطاب(يا أيها الذين آمنوا) وإرادة عموم المسلمين وبقاء هذا الخطاب نعمة سماوية حاضرة، وهبة تستقبل كل مسلم ومسلمة يبلغان سن التكليف.
الثاني: النهي عن أكل الربا، ومجيء الخطاب بصفة الإيمان، وقد تقدمت بضع آيات تخاطب المسلمين من غير أن تبدأ بخطاب تشريفي(يا أيها الذين آمنوا) كما في قوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ]( )،[ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( )،[ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]( )،[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ]( ).
وكذا جاءت الآيات التالية لآية [وَاتَّقُوا النَّارَ]( )،[ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ]( )،[ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ]( )، فلم تبدأ آية البحث بقوله تعالى(لا تأكلوا الربا) بل إبتدأت بالنداء الذي خصّ الله به المسلمين، وأكرمهم به من بين أهل الأرض، وفيه وجوه:
الأول: بيان موضوعية حكم النهي عن الربا في منازل الإيمان.
الثاني: الملازمة بين الإيمان بالله عز وجل والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين الإمتناع عن الربا.
الثالث: إجتناب الربا ليس أمراً سهلاً، بل يحتاج إلى ملكة الإيمان، والتعاون بين المسلمين لذا خاطب الله عز وجل المسلمين بصفة الإيمان لبعثهم على الثبات على الإيمان، والتحلي بخصاله الحميدة.
الرابع: دعوة المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح الذاتي فيما بينهم للإمتناع العام عن الربا، وتوارث الحرص على النفرة والإبتعاد عنه.
وقد ذمّ الله قوماً من الأمم السابقة بقوله تعالى[فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا]( ).
فلم يعلموا بمضامين الكتاب السماوي يتمتعون يزينة الدنيا من غير إعتبار للزوم ترك الحرام منه، وعن ابن عباس في تفسير الآية(إذا أشرف لهم شيء من الدنيا أخذوه)( ).
وأختصت أجيال المسلمين بصفة كريمة وهي توارث العمل بالكتاب، وتعاهد آيات الكتاب، والذب عن رسماً وتلاوة وتأويلاً، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس: بعث المسلمين للإلتفات والعناية بما يأتي من الأوامر والنواهي والأحكام بعد خطاب (يا أيها الذين آمنوا).
السادس: بيان أهمية وموضوعية التكليف بالنهي عن الربا , وما فيه من المنافع الخاصة والعامة في النشأتين .
قانون كثرة منافع الوعد والوعيد
الوعد هو البشارة بالثواب العظيم على الإيمان والصلاح ، والوعيد هو التخويف والترهيب على المعاصي وإرتكاب السيئات ، وقد تجمع آية قرآنية بين الوعد والوعيد ، كما في قوله تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] ( ) أما مجئ آية بالوعد وتعقبها بآية تتضمن الوعيد فهو كثير في القرآن ، ومنه قوله تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه] ( ).
وليس من حصر لمنافع الوعد والوعيد في القرآن، فكل فرد من أفراد كل منهما له أثر مستقل في إصلاح النفوس، ويشتركان معاً في تثبيت هذا الصلاح، وجعله ملكة دائمة عند الإنسان يستطيع معها الغلبة على النفس الشهوية والغضبية، ويمتنع عن أكل المال بالباطل، رجاء الوعد القرآني، وخشية الوعيد.
والوعد والوعيد في القرآن حق وصدق، وإخبار عن أمر حتمي الوقوع , قال تعالى[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا]( )، وفيه حجة على الناس يوم القيامة.
ومن رحمة الله عز وجل إنتفاع شطر من الناس بلغة الوعد والوعيد في القرآن وإبتعادهم عن أسباب العذاب، ومنها تعاطي الربا، عقداً وقبضاً وأكلاً.
إن جني الأرباح والأضعاف من الأموال بالمعاملات الربوية يؤدي إلى العذاب الأليم لما فيه من المعصية، أما ترك الربا والتنزه عن أكل المال بالباطل فيؤدي بالإنسان إلى العفو والمغفرة ليفيد الجمع بين الآيتين عزوف أرباب العقول عن الربا بلحاظ أن العذاب أليم شديد، وأكثر أثراً وضرراً من الأرباح من الربا، خصوصاً وان هذا العذاب دائم أبدي، قال تعالى[وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً]( ).
فجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآيات من الإخبار عن الثواب والعقاب، وعلة وأسباب كل فرد منها بلغة البيان والوضوح الخالي من الترديد واللبس وبما يبلغ الناس ويدركونه مع إختلاف مداركهم، وتباين ألسنتهم وأمصارهم.