معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 198

المقدمة
الحمد لله الواحد الأحد القوي الصمد، المبدئ المعيد، الذي تفضل على الناس وجعل النبوة والتنزيل ملازمين للوجود الإنساني في الأرض بأشخاص الأنبياء، وما يصاحبهم من المعجزات ومضامين الوحي القدسية، وإمتازت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإتصال والإستمرار إلى يوم القيامة بمعجزة القرآن العقلية المتجددة وأمته التي تحمل لواء التوحيد، وتتعاهد بالنفس والمال صرح الإيمان , وتتلقى الأذى في طريق الإستقامة والثبات على الهدى والرشاد ، وهو من الدلائل على فوزهم بمرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن هذه الدلائل أن كل آية قرآنية خزينة من العلوم المتجددة، وتتصف بأمور:
الأول: عدم النقصان بالنهل منها.
الثاني: إستمرار وتجدد إستقراء وإقتباس وإستنباط المسائل والأحكام من آيات القرآن.
الثالث: ما ينهل ويؤخذ من القرآن يبقى في متناول المسلمين والناس جميعاً، وهو من خصائص كنوز القرآن، فمقتضى ومفهوم الخزينة المادية أن ما يؤخذ منها ينفق ويتم تلفه وبذله، ولكن الذي يستخرج ويؤخذ من الآية القرآنية يبقى ملكاً للمسلمين وللإنسانية جميعاً لأنه علم وخير محض.
ومن كنوز القرآن خزينة المغفرة التي دلّ عليه قوله تعالى(وسارعوا إلى مغفرة) ( ) والذي يفيد أيضاً عدم نفاده أو نقصه , فالمسلمون يسارعون إليه مجتمعين ومتفرقين وهو باق يدعوهم إلى النهل منه، وسؤال العفو والمغفرة.
وقد تتعرض الخزائن المادية للتلف والنهب، وقد يغادرها أصحابها دون الإنتفاع منها , وتكون ميراثاً أو سبباً للفتنة والإبتلاء، أما خزائن القرآن فهي رحمة دائمة وأبهى مصاديق العلم.
(وعن الإمام علي عليه السلام: يا كميل العلم خير من المال , العلم يحرسك و أنت تحرس المال ,والمال تنقصه النفقة و العلم يزكو على الإنفاق)( ).
ومن معاني الرحمة الإلهية بآيات القرآن أن النهل والإستقراء منها قريب من الناس، ليس بينهم وبينه حجاب لذا تتجلى معاني ومفاهيم المعرفة الإلهية في الوجود الذهني عند تلاوة أو سماع الآية القرآنية.
ومن إعجاز القرآن أن إنتقالك إلى آية أخرى لا يسبب تزاحماً بين المعاني الإعجازية للآيات بما ينميه من ملكة التفقه عند المسلم، ويزيده إيماناً، وإرتقاءً في سلم المعرفة .
فبعد آية (لا تأكلوا الربا)( )، وما فيها من نهي عن فعل مذموم، وهو أكل أموال الناس بشرط غير سائغ شرعاً يتجلى بزيادة ونفع على القرض جاء قوله تعالى(واتقوا النار) بصيغة الأمر إلا أنه لا يختلف في ماهيته عن النهي الوارد في الآية أعلاه، لما فيها من لغة الإنذار والتحذير، ليكون بين مضامين الآيتين عموم وخصوص مطلق، وهذه النسبة لا تتعارض مع إستقلال كل من الآيتين ككنز للعلم تترشح عنه الدرر المضيئة التي تنير دروب الرشاد لسالكي سبل النجاة في النشأتين.
ومن إعجاز القرآن أن الصلة بين كل آيتين خزينة قائمة بذاتها ’ ومنهل لعلوم في موضوعات متعددة, ليكون عدد خزائن الصلات بين آيات القرآن وحدها هو 6236×6235 =460,881, 38 بلحاظ عدد الآيات مضروبة بنفسها , وتتجلى شذرات وتأسيس وشروع بها في تفسيرنا( )، وليس من حد للعلوم والمضامين القدسية التي تستقرأ من الصلة بين الآيات، بالإضافة إلى العلوم التي تقتبس من الجمع والصلة بين ثلاث آيات أو أكثر , لتكون من اللامتناهي موضوعاً وحكماً.
وجاء هذا الجزء في تفسير ثلاث آيات من سورة آل عمران هي(131-132-133) وتضمن صلتها مع الآيات المجاورة لها، وما فيه من إعجاز ليكون(علم الصلات) جزءً من علم التفسير للآية الكريمة، ومناسبة لإستخراج الدرر والذخائر العلمية لمعجزة الآية القرآنية.
وتضمنت أول آية من الآيات أعلاه الإخبار الإلهي عن إعداد النار للكفار، مع تحذير المسلمين منها , ومن أسباب المصير إليها .
وذكرت الآية الثالثة إعداد الجنة للمتقين، وترغيب المسلمين خاصة والناس عامة بالسعي إليها , وأكدت الآية التي بينهما وجوب طاعة الله ورسوله، لتكون هذه الطاعة أماناً من النار , وصراطاً مستقيماً لدخول الجنة , قال تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
وتتوجه الآيات الثلاث التي تضمنها هذا الجزء في خطابها إلى المسلمين والمسلمات وأجيالهم المتعاقبة، وفيه تشريف وإكرام لهم، وشاهد على إصلاح القرآن لهم لوظائف الإمامة بين الناس، وتعاهد منازل العبودية والخضوع لله سبحانه وقيل أن التفسير في الإصطلاح هو: إزاحة الإبهام عن اللفظ المشكل) سواء كان الإشكال في ذات اللفظ أو إرادة المعنى المقصود منه.
ولكن تفسير القرآن أمر آخر فليس فيه لفظ مشكل , ويمثل المعنى اللغوي أي البيان والكشف جانباً منه، وهو أصل له موضوعية في سنن وأبواب التفسير المتعددة , وفيه إستظهار للمعاني الدقيقة والعلوم الكثيرة في كل آية قرآنية , ووسيلة لإتخاذها طريق هداية , قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
وسيبقى علم التفسير أسمى العلوم، وأسنى مراتب المعرفة , إذ ترجع إليه العلوم كلها ولا يرجع إلى أحدها، وكلها رشحة من علومه، وتعرض عليه وتستقرأ منه، ويستلزم التفسير الفقاهة والنباهة والتدبر والتفكر وإستخراج الأحكام، وإستحضار الشواهد القرآنية، والإستعانة بالسنة النبوية التي هي من مصاديق الوحي.
وجاء تفسيرنا هذا بلطف من الله عز وجل ليكون صرحاً تجلت فيه علوم مستحدثة مستنبطة من ذات آيات القرآن، وبما لم يخطر على بال كثير من أهل العلم، وفيه غبطة للمؤمنين , وتأسيس لمناهج توليدية في التفسير, وهو من فضل الله، ورشحة من إفاضات آياته وما فيها من تنمية لملكة العلم والتقوى والصلاح، قال تعالى[لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ]( ).

قوله تعالى[وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]الآية 131
الإعراب واللغة
وإتقوا النار: الواو حرف عطف على الجملة السابقة(لا تأكلوا الربا) إتقوا: فعل أمر مبني على حذف النون .
والواو في(اتقوا) هي واو الجماعة التي تتصل بالفعل للدلالة على الجمع، فتكون ضميراً متصلاً مبنياً على السكون في محل رفع، وقد تكون فاعلاً أو نائب فاعل، وجاءت في الآية فاعلاً.
النار: مفعول به منصوب بالفتحة وجملة(اتقوا النار) لا محل لها معطوفة على جملة (لا تأكلوا الربا) في الآية السابقة.
التي أعدت: التي: اسم موصول في محل نصب صفة للنار، أعدت فعل ماض مبني للمجهول , والتاء تاء التأنيث الساكنة، ونائب الفاعل ضمير مسستتر تقديره هي، وجملة (أعدت) لا محل لها هي صلة الموصول (التي).
للكافرين: جار ومجرور متعلقان بأعدت.
(وكل ما وَقَى شيئاً فهو وِقاء له ووقاية، تقول: تَوَقَّ الله يا ذها، ومن عصى الله لم تَقِهِ منه واقية إلا بإحداث توبة ” ورجل تقيٌّ وقي بمعنى) ( )، وفي الحديث: من كُفِيَ شَرَّ لَقْلَقه وقَبْقَبه وذَبْذَبه فقد وُقِيَ” اللَّقْلَق: اللِسان، والقَبْقَب: البطن والذَّبْذَب: الفَرْج) ( ) .
(العُدَّة: ما أُعِدَّ لأمرٍ يحدث يقال أعددت الشيء أعِدُّه إعداداً واستعددت للشيء وتعدَّدت له)( ).
وأعدت: هيئت وأحضرت.
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة وهي على شعبتين:
الأولى: صلة هذه الآية بالآيات السابقة , وفيها وجوه:
الأول: صلة هذه الآية بالآية السابقة[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]( ).
الصلة بين بدايتي الآيتين
وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت آية السياق بالخطاب التشريفي للمسلمين(يا أيها الذين آمنوا)وجاءت آية البحث معطوفة عليها بحرف العطف(الواو)، وتحتمل وجوهاً:
الأول: إرادة المسلمين في لغة الخطاب.
الثاني: المقصود في الخطاب (واتقوا النار) الناس جميعاً ليكون من عطف العام على الخاص.
الثالث: إرادة المسلمين بالأصالة وغيرهم من الناس بالإلحاق والتبعية.
والصحيح هو الثاني، وتلك آية إعجازية في خطابات القرآن بأن يأتي الخطاب المعطوف بالمعنى الأعم الذي يكون سبيل هداية ورشاد وإلا فإن المسلمين إبتدأوا بإتقاء النار بأمور:
الأول: إختيارهم الإسلام ونطقهم بالشهادتين.
الثاني: حرصهم على التقيد بأحكام العبادات.
الثالث: سعي المسلمين في الصالحات وإرتقاؤهم في مراتب التقوى , قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ]( ).
الرابع: سعي المسلمين لسلامة الناس مطلقاً من النار بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وكأن تقدير الآية: قوا أنفسكم وغيركم النار) كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا]( ).
الخامس: تفقه المسلمين في المعارف الإلهية، وإنصاتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الحلال والحرام وتعاهدهم الخضوع والخشوع لله عز وجل، ومن أهم مصاديقه أداء الصلاة اليومية
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتْ النَّارُ فِيَّ الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتْ الْجَنَّةُ فِيَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَمَسَاكِينُهُمْ قَالَ فَقَضَى بَيْنَهُمَا إِنَّكِ الْجَنَّةُ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ وَإِنَّكِ النَّارُ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ وَلِكِلَاكُمَا عَلَيَّ مِلْؤُهَا)( ).
فإن قلت ظاهر الآية التالية (وأطيعوا الله والرسول)( ).
والجواب هذه الآية هي الأخرى تصلح خطاباً للناس جميعاً، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( )، وجاء آيات القرآن بدعوة الناس للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباع سنته، وتجلى مصداق هذه الآية في السنة النبوية الشريفة التي هي المصدر الثاني للتشريع بجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله، والدفاع عن بيضة الإسلام , وجذب الناس للإيمان بالحكمة والموعظة , قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الثانية: لغة المدح والثناء التي إبتدأت بها آية السياق وإرادة المسلمين بها باعث لهم للتنزه عن أسباب دخول النار، لما فيها من الهداية إلى تعاهد منازل الإيمان.
الثالثة: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار السكينة للمؤمنين، بالملازمة بين الإيمان والسكينة، وهي نوع بصيرة , وسبب للإحتراز من النار ومقدماتها، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا]( ).
الرابعة: تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا إتقوا النار) فإن قلت ألا يدل هذا الجمع على إرادة المسلمين على نحو الخصوص من الخطاب في هذه الآية (وآتقوا النار).
الجواب لا، لأن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
الخامسة: ترى هل الخطاب (واتقوا النار) من الكلي المتواطئ بمرتبة واحدة في توجهه للمسلمين وغيرهم، وتلقيهم له.
الجواب لا، فقد هدى الله عز وجل المسلمين للوقاية وأسباب السلامة من النار بتقوى الله عز وجل، قال تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، فيتلقى المسلمون قوله تعالى(واتقوا النار)بالبهجة والغبطة لأنهم إحترزوا منها بالشهادتين والعبادات.
السادسة: الإخبار السماوي للناس بأن الإيمان سبيل الوقاية من النار، وهو من عمومات قوله تعالى[وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى]( ).
صلة(لا تأكلوا الربا) بهذه الآية،
وفيها مسائل:
الأولى: لقد جعل الله الحياة الآخرة هي عالم البقاء والخلود، وينقسم فيها الناس إلى قسمين متباينين:
الأول: أهل الجنة والنعيم.
الثاني: أهل النار والعذاب، قال تعالى[فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ]( ).
وهذا التقسيم إنعكاس لأعمال الناس في الدنيا، وتلك آية في بديع صنع الإنسان، ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، جاء الرد من الله عز وجل بلغة أدرك الملائكة معها آيات الحكمة الإلهية في خلافة الإنسان في الأرض بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علمه تعالى بلحاظ الجمع بين الآيتين أمور:
الأول: تفضل الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإنذار الناس، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
الثاني: مجيء القرآن بالنهي عن الربا، وأن التقيد بهذا النهي سبيل النجاة في الآخرة.
الثالث: تأكيد وجود النار يوم القيامة، وقدرة الإنسان على النجاة منها بالإيمان والصلاح، وتتصف النار يومئذ بأنها ليست وعاء جامداً بل تتصف بالفهم والإجابة إذا إستنطقها الله عز وجل, قال تعالى[يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ]( ).
الرابع: الوقاية من النار طريق إلى اللبث الدائم في الجنة، قال تعالى[فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ]( ).
الخامس: أكل الربا من الفساد في الأرض الذي ذكرته الآية أعلاه من سورة البقرة، فجاءت آية السياق بالنهي الصريح عنه، وجاءت آية البحث بالتحذير من عاقبته، والتخويف من النار.
الثانية: تقدير الجمع بين الآيتين على وجهين:
الأول: لا تأكلوا الربا وإتقوا النار بلحاظ أن الوقاية من النار لا تنحصر في موضوع الربا، فيكون العطف بالواو من عطف العام على الخاص.
الثاني: إتقوا النار لا تأكلوا الربا، بإعتبار أن أكل الربا طريق لدخول النار، والذي يقر ويعترف بوجود النار يتجنب الولوج إليها بأكل الربا، فيتنزه عنه.
الثالث: أخبرت آية البحث بأن النار أعدت للكافرين , ونهت آية السياق عن أكل الربا ولكن النسبة بين الكفر وأكل الربا هي العموم والخصوص المطلق , فالكفر أعم , فليس كل كافر يتعاطى ويأكل الربا ، لعدم الملازمة بين الكفر وأكل الربا.
لذا جاءت آية السياق لزجر المسلمين عن أكل الربا، والإخبار بأنه محرم، فإن قلت هل النسبة بين المسلم والكافر الذي لا يأكل الربا التساوي في هذا الباب , الجواب لا , للتباين بالحكم المترشح عن النية والقصد, إذ يتركه المسلم إمتثالاً لأمر الله, ورجاء الأمن من النار ,وهل يشمل النهي في آية السياق الكفار بلحاظ أنهم مكلفون بالفروع أم لا يشملهم.
الجواب هو الأول لتعلق النهي بأكل الربا بالذات لأنه قبيح ذاتاً, ومخالف لسنن الرحمة التي نشرها الله عز وجل بين الناس، قال تعالى[وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ]( ).
فإن قلت جاء الخطاب في آية السياق للذين آمنوا بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يشمل غيرهم.
والجواب من وجوه:
الأول: الأصل في الدعوة إلى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم العموم, قال تعالى[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا….]( ).
الثاني: إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فإثبات حرمة الربا على المسلمين لا يدل على عدم ثبوتها على غيرهم.
الثالث: جاء الأنبياء بحرمة الربا والنهي عنه.
الرابع: في الربا أضرار إقتصادية وإجتماعية، وكساد للتجارات، وتعطيل للأعمال، وهو أمر يتنافى مع رحمة الله في الخلق، والندب إلى التراحم بينهم.
الرابع: لقد أراد الله عز وجل أن يكون المسلمون الأمة التي تتعاهد أحكام الشريعة، وتحفظ سنن الرحمة في الأرض في العبادات والمعاملات.
أما في العبادات فلقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وأما في المعاملات فبالعمل بالحلال وترك الحرام، ومن المصاديق التي يجتمعان فيها قوله تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
فإن قلت لماذا لا ينتقم الله عز وجل في الحال من الذين لا يعبدونه، ويقومون بأكل الربا ولا يحترزون منه.
الجواب لقد جعل الله الحياة الدنيا دار إمتحان وتكليف وإختبار، وإقامة المسلمين للفرائض والمناسك حجة على الكافرين في الدنيا والآخرة، ومن يتخلف عن علة خلقه يلقى العذاب الأليم في الآخرة، وبه وردت آيات ونصوص كثيرة، قال تعالى[وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
الخامس: الجمع بين الآيتين من عمومات قوله تعالى[فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى]( )، أي إنتهى عن أكل الربا خشية من الله, وخوفاً من دخول النار بسبب المعصية وفعل المحرم.
الوجه السادس: هل يمكن إعتبار المسلم الذي يأكل الربا من الكافرين الذين ذكرتهم آية البحث[وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ] بلحاظ أنه كفر جزئياً بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حرمة أكل الربا.
الجواب لا، لأن القدر المتيقن من الكفر كتاباً وسنة هو الجحود والشرك بالله، والصدود عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أما الذي ينطق بالشهادتين فلا يصدق عليه أنه كافر، ولا عبرة بما يقول به بعض الأفراد بتكفير الآخر، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، أي المؤمنون بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
أما الذي يأكل الربا من المسلمين فهو عاص وليس كافراً، ويأتيه الزجر عن الإقامة على المعصية من وجوه:
الأول: آية السياق وما فيها من الثناء عليه بصفة الإيمان بقوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا) وهو خطاب إنحلالي بعدد المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
وليس من خطاب سماوي أو أرضي أكثر منه في عدد أفراده ومنافعه وهذه الكثرة من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على الملائكة لما إحتجوا على خلافة آدم في الأرض بأن يكون الخطاب الإلهي بالنعت بالإيمان من اللامتناه زماناً ومكاناً، فإن قلت أما زماناً فهو ظاهر بتعاقب الأجيال من المسلمين، فكيف يكون عدم التناهي مكاناً.
والجواب من وجوه:
الأول: لقد نزل خطاب(يا أيها الذين آمنوا) والمسلمون في المدينة المنورة فقط على نحو الحصر والتعيين، ولا يقدح بهذا القول وجود أفراد من المسلمين والمسلمات في مكة ونحوها يخفون أو يظهرون إيمانهم على نحو الموجبة الجزئية.
الثاني: إتسعت مصاديق هذا الخطاب التشريفي بآية من عند الله، وعلى نحو قوس الصعود ذي الطفرات.
الثالث: ذات خطاب التشريف(يا أيها الذين آمنوا) ترغيب متجدد لأهل المشرق والمغرب بدخول الإسلام.
الرابع: قد يأتي زمان ينتقل فيه شطر من الناس إلى الكواكب الأخرى، ومنهم المسلمون الذي يتلقون خطاب التشريف والإكرام.
الخامس: إذا نظرنا إلى الإيمان بلحاظ المتعلق يتعذر على الخلائق إحصاء أفراد الخطاب للتعدد والكثرة في ذات المكلف بحسب عمله وفعله جهات:
الأولى: يا أيها الذين آمنوا بالله.
الثانية: يا أيها الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: يا أيها الذين آمنوا بوجوب الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، قال تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ).
الرابعة: يا أيها الذين آمنوا بحرمة الربا.
الخامسة: يا أيها الذين آمنوا بأن نزول القرآن حق وصدق، قال تعالى[ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ]( ).
السادسة: يا أيها الذين آمنوا بأن الربا محرم وبرزخ دون الثواب العظيم.
السابعة: الذين آمنوا بأن الجنة حق والنار حق، وأن النار أعدّها الله للكافرين)وهكذا فإن هذه المصاديق ذاتها من اللامتناهي لأن القرآن جاء بأحكام العبادات والمعاملات والأحكام والسنن إلى يوم القيامة.
الوجه السابع: جاءت النصوص الأخبار بسوء حال آكل الربا يوم القيامة عند النشور وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلاً يجر شقيه، ثم قرأ (لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)) ( )، وفيه بعث للنفرة من الربا وآكله وحث للمسلمين لإجتناب المعاملة الربوية لضررها على الذات والغير، وسوء عاقبتها.
وعن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياك والذنوب التي لا تغفر الغلول فمن غل شيئاً أتى به يوم القيامة وأكل الربا، فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنوناً يتخبط)( ).
الثامن: تقدير الجمع بين الآيتين: هو أن النار أعدت للكافرين وليس للمسلمين)، فيجب أن يمتنع المسلمون عن أكل الربا، بعد أن أحرزوا النجاة من السبب الذي يدخل الإنسان النار وهو الكفر.
وقال الآلوسي({واتقوا النار} أي احترزوا عن متابعة المرابين وتعاطي ما يتعاطونه من أكل الربا المفضي إلى دخول النار {التي أُعِدَّتْ} أي هيئت {للكافرين} وهي الطبقة التي إشتد حرها وتضاعف عذابها وهي غير النار التي يدخلها عصاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها دون ذلك، وفيه إشارة إلى أن أكلة الربا على شفا حفرة الكفرة.
ويحتمل أن يقال: إن النار مطلقاً مخلوقة للكافرين معدّة لهم أوّلاً وبالذات، وغيرهم يدخلها على وجه التبع فالصفة ليست للتخصيص، وإلى هذا ذهب الجل من العلماء، روي عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول: إن هذه الآية هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله تعالى المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه في إجتناب محارمه وليس بنص في التخصيص)( ).
ويرد عليه من وجوه:
الأول: لا دليل على التعدد في النار ومراتبها، وآية البحث تنفي هذا التعدد لأن الألف واللام في النار تفيد العهد، وأنها النار المعهودة.
الثاني: ليس من نار إلا واحدة نعم هذه نار تكون على طبقات من العذاب لقوله تعالى[لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ]( )، وتكون أبواب النار على نحو عمودي بحيث يكون بعضها فوق بعض بلحاظ أن لكل طبقة باباً قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
الثالث: لا دليل على أن هذه الآية هي أخوف آية في القرآن، بل تتضمن في ثناياها ومفهومها البشارة للمسلمين بأن النار أعدها الله لأعدائهم الكافرين إن تلاوة أو سماع المسلم لآيات الربا وإقراره بنزول حرمته من الله من مصاديق الإيمان وباب لنيل الثواب العظيم ككفار قريش الذين عذّبوا المسلمين وأخرجوهم من ديارهم، وحملوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على الهجرة إلى الطائف ثم المدينة، والأمر لنفر من أهل بيته وأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، مع مخاطر تلك الهجرة في ذلك الزمان، ولم تكف عنهم قريش بل أرسلت خلفهم الرسل ليبطش بهم ملك الحبشة.
ولكن الله عز وجل جعلها رسالة عملية وسفارة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أرض الحبشة وسببها لإنتزاع شهادة النجاشي ملك الحبشة على صدق نبوته، لتكون هجرة هذا النفر معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خارج الجزيرة، وبشارة إنتشار الإسلام في مشارق ومغارب الأرض.
الرابع: من الإيمان بالله التسليم بحرمة الربا التي نزلت من السماء على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم
الخامس: أختتمت آية السياق بقوله تعالى(لعلكم تفلحون) وهي وإن جاءت بصيغة الرجاء إلا أنها تتضمن البشارة بالتوفيق والفوز في النشأتين، نعم أكل الربا معصية يجب التنزه عنها، لذا تفضل الله وأخرجهم لأنفسهم وللناس بسلاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]( ).
وقد جاءت آيات عديدة تحذر المسلمين من النار وأهوال اليوم الآخر وتدعوهم للوقاية منها من غير أن يقول أحد بدلالة هذا التحذير على دخول فريق منهم النار، قال تعالى[فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث أن من مصاديق إعداد النار للكفار أنهم وقود لها مع الحجارة، وهل تدل الآية أعلاه على أن النار لم تخلق بعد لأن وقودها الناس ولم يدخلوا بها والحجارة التي ورد أنها أصنامهم المنحوتة.
والجواب من وجوه:
الأول: ورد عن ابن عباس وابن مسعود(أنها حجارة الكبريت لأنها أحر شيء إذا حميت) ( ).
الثاني: لم ينحصر وقود النار بالكفار، ولكنهم جزء من الوقود لبيان شدة عذابهم.
الثالث: جاء قوله تعالى(أعدت للكافرين) بصيغة الفعل الماضي الذي يدل على سبق خلق النار.
الرابع: في الآية بيان لحقيقة وهي أن أهل النار وقود لها.
وهل يمكن أن يمتاز المسلم العاصي الذي يدخل النار بأنه ليس وقوداً لها، خصوصاً وأن الآية تقول وقودها(الناس) ولم تقيده بالكافرين، الجواب إن النقاش في الكبرى، وهي أن الإسلام واقية وحرز من دخول النار بالإضافة إلى النصوص الواردة في الشفاعة.
والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وقد ورد قوله تعالى[لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( )، فالمسلمون إتقوا الله وهم يخشونه بالغيب ويتقون النار، ويتجنبون أسباب الولوج فيها.
التاسع: الآية إنذار للكفار من أكل الربا، وإخبار بأنه سبب في زيادة العذاب في النار، ودعوة لهم للتوبة والإنابة من أكل الربا، وقد يهجر الكافر أكل الربا لقبحه الذاتي وما فيه من الأضرار على الذات والغير فيكون سبباً لتركه الكفر والإقلاع عن مفاهيمه، وإختيار التوبة والصلاح.
أما إذا ترك الكفر فالأمر أسهل عندئذ لأن أكل الربا فرع الكفر، وتركه فرع الإيمان، ليفيد الجمع بين الآيتين أن النهي عن الفرع وهو الربا زاجر عن الأصل وهو الكفر، ومناسبة للتدبر في أضراره في النشأتين.
صلة (أضعافاً مضاعفة) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: ذكر الأضعاف المضاعفة من الربا تأكيد لحرمته،وتغليظ في الحكم، وزيادة في الإنذار والوعيد من النار.
الثانية: يبعث الجمع بين الآيتين النفرة في النفوس من أمور:
الأول: الإستحواذ على الفائدة في القرض الربوي(عَنْ فَضَالَّةَ بْنِ عُبَيْدٍ صَاحِبِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الرِّبَا)( ).
الثاني: الكفر والجحود بما أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأن هذا الجحود سبيل إلى النار، ومن مصاديقه القول بحلية الربا، وأكله، قال تعالى في ذم الكفار[قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
الثالث: النفرة من الأموال التي تأتي عن طريق الربا وإن كانت كثيرة.
الثالثة: الأضعاف المضاعفة من الربا المتراكم والمتعاقب في أجله باب لدخول النار ليبدل قوله تعالى(وآتقوا النار) في مفهومه على لزوم ترك الأضعاف المضاعفة الربوية لأن وجوب إجتناب الشيء يقتضي لزوم إجتناب مقدماته والأسباب التي تفضي إليه.
الرابعة: تميل النفس الإنسانية إلى جمع المال، قال تعالى[وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا]( )، وتغلب أحياناً النفس الشهوية على الإنسان فيسعى لجمعه بغض النظر عن حكم الحلية والحرمة في طرق جمعه، فجاءت هاتان الآيتان لبعث النفرة في النفوس من الأموال الطائلة التي يجلبها الربا والمنافع التي تأتي بواسطته.
الخامسة: تقدير الجمع بين الآيتين: وإتقوا النار بترك أكل الربا أضعافاً مضاعفة)، ومن يترك الربا ويتنزه عنه، أو أنه ليس عنده مال يوظفه في المعاملات الربوية فهل ينجو من النار.
الجواب من وجوه:
الأول: إنما خلق الله النار للكافرين فمن كان كافراً فهو من أصحاب النار سواء أكل الربا أم لم يأكله، وهذا المعنى من إعجاز آية البحث، والجمع بينها وبين الآيات المجاورة لها، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا]( ).
الثاني: يأتي الثواب على ترك الربا المقترن بقصد القربة والطاعة لله عز وجل.
الثالث: توجه النهي عن الربا من الله عز وجل للمسلمين على نحو الخصوص لقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]( )، ليكون تركهم له واقية من النار.
ومن آيات الله بلحاظ آية السياق والبحث:
الأولى: الخطاب التشريفي للمسلمين شهادة من الله عز وجل للمسلمين، ومن يشهد له الله عز وجل بالإيمان فإنه يأمن من النار.
الثانية: منع المسلمين من أكل الربا للتنزه عن الحرام مطلقاً، وما يوجب البلاء والعذاب.
الثالثة: تقييد النهي عن الربا بكونه(أضعافاً مضاعفة) وفيه دلالة على أن صدق إيمان المسلمين بأن الأضعاف المضاعفة من الكسب الحرام لا تغريهم، وهم لا يقربونها تنزهاً وطاعة لله عز وجل.
ومن الآيات في تقييد أكل الربا بالأضعاف المضاعفة أن هذه الأضعاف لا تأتي بالمعاملة الربوية الواحدة أو المعاملات القليلة بل لا بد من توالي وتكرار أخذ الأرباح الربوية والزيادة في الآجال، والإكثار من المال الذي يتم توظيفه في الربا.
وحينما تنفر نفس المسلم من تلك الأضعاف لأنها محرمة فمن باب الأولوية القطعية أنه يمتنع ويتنزه عن الشروع الإبتدائي بالمعاملات الربوية، فلا يطرق باب الربا ولا يسعى لأكل المال الربوي، وتبقى كلمة(أضعافاً مضاعفة) مناسبة للأجر والثواب للمسلمين، وشاهداً على أنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
صلة(واتقوا الله) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تكرر فعل الأمر(إتقوا) في الآيتين مع التضاد الموضوعي بينهما على الظاهر، وهذا التضاد من إعجاز القرآن، فلابد للمسلم من الخشية من الله، وتتجلى هذه الخشية والتقوى بطاعة الله وإجتناب معصيته، والخشية من النار بالتوقي منها، والإبتعاد عن أسبابها , ومن رشحات ومصاديق تقوى الله عز وجل أيضاً.
(روي أنه لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين )إنتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رضمة من جبل فعلا أعلاها حجرا ثم قال يا بني عبد مناف إنما أنا نذير إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فخشي أن يسبقوه إلى أهله فجعل يهتف يا صباحاه)( ).
ومع أن ذكر النبي للعدو من باب المثال إلا أنه لا يخلو من دلالات، خصوصاً وأن هذا الذكر من الوحي لعمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، ترى ما المراد من العدو في المقام، فيه وجوه: الأول: الكفر والضلالة. الثاني: سوء العاقبة الذي ينتظر قريش عند إصرارها على الجحود. الثالث: الموت على الكفر، وترتب دخول النار عليه، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ). الرابع: ما يترشح عن الإقامة على الكفر والضلالة من صنوف البلاء والفتن في الدنيا، إذ يدل الحديث بالدلالة التضمنية على صرف أبواب من العذاب الدنيوي عن قريش ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وهو ظاهر من شدة الفقر الذي كانت عليه الجزيرة، وشيوع العادات المذمومة فيها كالغزو بين القبائل، وشرعنة النهب والسلب ووأد البنات. الخامس: إرادة الخير والصلاح والنجاة لذوي قربى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدخولهم الإسلام، وليكونوا نواة ودعاة للإيمان، قال تعالى[وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]( ). الثانية: من مصاديق تقوى الله الوقاية من النار، وما يؤدي إلى الدخول فيها يوم القيامة، وخشية الإنسان من الله عز وجل في العلانية والسر عصمة له من ولوج النار. الثالثة: يتضمن الجمع بين الآيتين الثناء على المسلمين لإنفرادهم بالجمع بين الخشية من الله والخوف من فعل المعصية التي تؤدي إلى الهلاك والبوار، وهو من عمومات قوله تعالى[المذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الرابعة: تحتمل النسبة بين تقوى الله والوقاية من النار وجوهاً:
الأول: نسبة العموم والخصوص المطلق.
الثاني: نسبة العموم والخصوص من وجه.
الثالث: نسبة التباين.
والصحيح هو الأول فإن التوقي من النار فرع تقوى الله عز وجل، وما آية البحث إلا من عند الله عز وجل فهو سبحانه الذي أمر بالخشية من دخول النار.
الخامسة: الملازمة بين تقوى الله والنجاة من النار لأنها أعدت للذين يجحدون بالربوبية، ويصرون على المعصية، ويتكرر اسم النار وعذابها على المسلم كل يوم في قراءته في الصلاة وتلاوتهم للقرآن خارجها وإستماعه للتلاوة والحديث وشيوع مفاهيم الأمر والنهي بين المسلمين لقوله تعالى في خطاب لهم[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
ولكنه لا يفزع عنها لأنه يسعى في طاعة الله، ويدرك أن النار أعدت للكافرين كما في آية البحث.
السادسة: تأكيد التباين والتضاد بين تقوى الله وبين دخول النار، فمن فضل الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً في آية البحث أنها ذكرت الكفار بإعتبارهم علة إعداد النار، وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فمن يفسد في الأرض فإن الله أعدّ له النار.
السابعة: جاءت السنة النبوية بالبيان والبرهان والفيصل بين الجنة والنار، لتكون عوناً للمسلمين للإهتداء إلى سبل الصلاح والتحلي بالتقوى، والإحتراز من الأسباب التي تؤدي بالإنسان إلى النار، بالإسناد عن معاذ بن جبل قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتائب تبوك و قد أصابنا الحر فتفرق القوم فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقربهم مني فدنوت منه
فقلت يا رسول الله أنبئني بعمل يدخلني الجنة و يباعدني من النار قال لقد سألت عن عظيم و إنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله و لا تشرك به شيئا و تقيم الصلاة المكتوبة و تؤدي الزكاة المفروضة و تصوم شهر رمضان قال و إن شئت أنبأتك بأبواب الخير
قال قلت أجل يا رسول الله قال الصوم جنة و الصدقة تكفر الخطيئة و قيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله ثم قرأ هذه الآية (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)( ).
والصلة بين الكافر والنار بلحاظ زمان الخلق على وجوه:
الأول: خلقت النار قبل أن يخلق الإنسان.
الثاني: بقاء الكافر بعيداً عن النار في الدنيا فلا يحس لهيبها، ولا يرى هيئتها يسمع وهو في الدنيا حسيسها( )، لأن الله عز وجل جعل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإختبار.
الثالث: القرب من النار في عالم البرزخ، وإنقطاع القدرة على العمل مطلقاً الحسن والقبيح، وغلق باب التوبة عند مغادرة الدنيا، قال تعالى في آل فرعون وحالهم في عالم البرزخ[النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا]( ).
الرابع: دخول الكافر المنزل الذي أعدّه الله عز وجل له قبل أن يولد ويخرج إلى الدنيا، وفي قوله تعالى[لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ]( )، ورد (عن ابن مسعود : يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون)( ).
وهل أعدت النار لأعيان مخصوصين من الناس وأنهم سيكونون كفاراً على نحو القطع والجزم، الجواب لا , إنما أعدت النار لصفة الكفر ومن إختار التلبس بها، قال تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، وتقوى الله هي الوسيلة الوحيدة للتخلص من صبغة الكفر والضلالة، إذ لا واسطة بين الإيمان والكفر، والإيمان هو مصداق التقوى.
صلة(لعلكم تفلحون) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين: وإتقوا النار التي أعدت للكافرين لعلكم تفلحون).
الثانية: إختتام آية السياق بجملة الرجاء باعث للمسلمين للوقاية من النار، والفرار من الطرق المؤدية إليها.
وهل هذه الطرق مظلمة لأنها تؤدي إلى العذاب أم أنها مضيئة، الجواب إنها تضاء وتفضح بسلاح التقوى فتصير مكشوفة، فيعرف المؤمن تلك الطرق وقبحها الذاتي، وما تؤدي إليه من الضرر في الدنيا، وسوء العاقبة في الآخرة، كأكل الربا الذي جاءت آية السياق بالنهي عنه.
الثالثة: الذي يسعى للفلاح والبقاء يتقي النار، ويتجنب أسبابها فمن إعجاز القرآن أنه بعد النهي عن أكل الربا جاء البعث على التقوى , ثم الرجاء بالفلاح والفوز، وبعدها التحذير من النار وعذابها الأليم.
الرابعة: تدل الآية على الملازمة بين التقوى والفلاح، وأن التقوى طريق سالكة للفلاح، وتدل على الملازمة بين الكفر والعذاب، وإن العذاب الأليم عاقبة الكفر والجحود، قال تعالى[إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ]( ).
وقد ورد لفظ تفلحون في القرآن إحدى عشرة مرة، وكلها بلغة الرجاء (لعلكم تفلحون) مع تعدد مواضيع وسبل الفلاح، والتي يكون سورها الجامع على وجوه مجتمعة ومتفرقة وهي:
الأول: التقوى والخشية من الله.
الثاني: العمل الصالح المتصل.
الثالث: شكر الله عز وجل على النعم , قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
الرابع: إجتناب المعاصي ومنها أكل الربا كما تدل عليه آية السياق.
الثاني: صلة هذه الآية بقوله تعالى[لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ]( ).
صلة (ليس لك من الأمر شيء)بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت آية البحث خطاباً للمسلمين وبواسطتهم للناس جميعاً، أما آية السياق فهي خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويبين الجمع بينهما خصائص مدرسة الخطاب القرآني، وما فيها من التعدد الذي يبعث على الإيمان، ويمنع من الغرور الذي يؤدي إلى النار.
الثانية: يدل الجمع بين الآيتين على حقيقة وهي أن الناس مكلفون بالأصول والفروع، وأن الإنسان يجب عليه أن يحترز من الأسباب التي تؤدي إلى دخول النار، ورأسها الكفر والضلالة، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
الثالثة: النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو سيد ولد آدم تقدم الإعلان السماوي عن نبوته خلق آدم ونفخ الروح فيه(وقال: كنت نبياً وآدم بين الماء والطين)( )، ومع هذا يقول له الله عز وجل[لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ]، مما يدل بالأولوية على إنطباق ذات الحكم على غيره من الأنبياء والرسل والأئمة والصالحين.
ولو إجتمع أكثر من نبي أو ولي فهل يتغير الحكم ويكون لهما في الأمر شيء، الجواب لا، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط، مما يستلزم إجتهاد كل إنسان مسلماً كان أو غير مسلم بالنجاة من النار، وورد في ذم بني إسرائيل قوله تعالى[وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا]( ).
لتتضمن الآية أعلاه نفي هذا الإدعاء، وجاءت آية البحث للحث على الوقاية من النار، ومن أسباب الوقاية الإمتناع عن أكل الربا وما فيه من الظلم للذات والغير، قال تعالى[وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
الرابعة: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، ليكون عالم الآخرة هو موعد الحصاد مع الفارق، إذ أن الحصاد في الدنيا كله نفع ومناسبة لجني الحبوب والزراعات.
أما حصاد الآخرة فهو جامع للضدين للثواب العظيم لمن زرع الصالحات والعذاب الأليم لمن تمادى في الغي، فجاءت الآيتان للدعوة إلى الأول ومقدماته، والتحذير من الثاني وأسبابه.
الخامسة: أعدت النار للذين كفروا بالله وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من المعجزات العقلية والحسية، ومن البراهين المتجددة التي تدل على صدق نبوته.
وتقدير آية البحث: وإتقوا النار التي أعدت للكافرين بنبوة محمد، وقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتوحيد وإقامة الفرائض والعبادات.
صلة(أو يتوب عليهم) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: من مصاديق وسبل توبة الله على العباد، الإنذار من النار، ودفع الناس عن زلات الأقدام والحوم حول الشبهات.
الثانية: بيان السعة في رحمة الله، وبقاء باب المغفرة والتوبة مفتوحاً للعبد ما دام فيه نفس، لذا فإن الخطاب(وإتقوا النار) متجدد في كل ساعة، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا]( ).
الثالثة: قوله تعالى(أو يتوب عليهم) بصيغة الغائب للذين تقع عليهم التوبة ، وصحيح أن موضوع الآية هو كفار قريش الذين هجموا على يثرب في واقعة أحد إلا أن موضوعها عام شامل لأهل الكتاب والكفار بل والمسلمين فليس من إنسان إلا ويحتاج توبة الله عليه.
ترى ما هي الصلة بين(أو يتوب عليهم) وبين(وإتقوا النار) الجواب أحدهما نوع طريق للآخر، ومدد قرآني للإعانة عليه.
الرابعة: لقد جعل الله عز وجل النار مثوى للكافرين الذين يجحدون بالربوبية والنبوة، وقوله تعالى(أو يتوب عليهم) يدل على زوال صفة الكفر، وتلك آية في رحمة الله عز وجل.
الخامسة: من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ترغيب الناس بالتوبة، وحثهم على التوقي من النار، والسعي للأمن في النشأة الآخرة, والأمة التي تدعو الناس إلى التوبة تتحلى بخصالها، لذا يبادر كل مسلم إلى الإستغفار والتوبة وأداء الفرائض والذي هو نوع إستغفار عملي صادق.
بالإسناد عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس عليكم بالصلاة عليكم بالصلاة فإنها عمود دينكم كابدوا الليل بالصلاة و اذكروا الله كثيرا يكفر عنكم سيئاتكم إنما مثل هذه الصلوات الخمس مثل نهر جار بين يدي باب أحدكم يغتسل منه في اليوم خمس إغتسالات فكما ينقى بدنه من الدرن بتواتر الغسل فكذا ينقى من الذنوب مع مداومته الصلاة فلا يبقى من ذنوبه شيء) ( ).
السادسة: إذا كان باب التوبة مفتوحاً للمشركين الذين قاتلوا المسلمين في واقعة أحد فمن باب الأولوية أنه مفتوح لعموم المشركين الذين لم يقاتلوا المسلمين، ولم يسعوا لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وفي هذه الأولوية أمور:
الأول: تفقه المسلمين في الدين، ومعرفتهم لمنازل الناس.
الثاني: ترغيب الناس بالإسلام وجعلهم يهجرون النفرة من الإيمان وأداء التكاليف.
الثالث: حجب المدد عن الذين يحاربون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الرابع: تأكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه نبي الرحمة والهداية، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
السابعة: جاء الوعيد في آية البحث للكافرين جميعاً، والإخبار بأن النار والعذاب الأليم في إنتظارهم، فهي لم تخلق إلا للكفار المجرمين، وأن الفوز بالتوبة والمغفرة من الله سبيل النجاة من النار.
صلة(أو يعذبهم فإنهم ظالمون) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: المراد من العذاب في آية السياق أمور:
الأول: العذاب في الحياة الدنيا.
الثاني: العذاب في الآخرة.
الثالث: العذاب في الحياة الدنيا والآخرة.
وقد يرد على الوجه الأخير أن الله عز وجل إذا عذب إنساناً في الدنيا فإنه أكرم من أن يعذبه مرة أخرى في الآخرة.
والجواب القدر المتيقن منه العذاب على الذنب الواحد، ولكن ذنوب الكافر كثيرة ومتعددة لذا تراه في الدنيا مبتلى، ويكون مصيره في الآخرة إلى النار، قال تعالى بخصوص الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه الآخر[فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ]( ).
الثانية: لما جاءت آية السياق بقوله تعالى(أو يعذبهم) جاءت آية البحث ببيان ماهية وجنس العذاب، وهو اللبث الدائم في النار، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ]( ).
الثالثة: آية البحث حجة على الكفار بأن بقاءهم على الكفر طريق تؤدي إلى النار، وجاءت آية السياق لبعث النفرة في نفوسهم وبيان حقيقة وهي أن النار بذاتها عذاب، وفيها أنواع من العذاب.
الرابعة: في آية السياق بيان لعلة العذاب الذي ينزل بالكفار بأنهم ظالمون، ويحتمل هذا الظلم وجوهاً:
الأول: ظلم الكفار لأنفسهم، قال تعالى[فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
الثاني: ظلم الكفار لغيرهم، وليس من حصر لهذا الغير فيشمل الموجود والمعدوم لتعاهده لمفاهيم الكفر وتركها من بعده، ويتغشى ظلم الكافر عياله ومن حوله وغيرهم، لأن الكفر تركة قبيحة، وإرث ينفث سماً بالذات والعرض.
الثالث: المعنى الجامع للوجهين أعلاه.
والصحيح هو الثالث لصيغة الإطلاق الشامل للجميع، ولأن الظلم قبيح بذاته وله أضرار أكثر من أن تحصى، فجاءت آية البحث للزجر عن الكفر الذي هو أم الكبائر وأصل الظلم للذات والغير.
وقد جعل الله عز وجل إبليس عبرة لبني آدم بإعتباره أول من كفر، ولاقى العذاب حال كفره، وهو مصاحب له على نحو التأبيد، وموضوع كفره الجهل بذات الإنسان وعداوته له إذ أبى إبليس السجود لآدم، وفي التنزيل[قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا]( ).
وهو لم يعلم شرف طينة آدم وأن المدار ليس على أصل الخلق بل على النفخ فيه من روح الله، قال تعالى[فنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا]( )، ولزوم الإمتثال لأمر الله بالسجود له , ولأن الله أعدّه للخلافة في الأرض لتكون عداوة إبليس وإغوائه لبني آدم على وجوه:
الأول: فيه إثم إضافي لإبليس وحجة لهم في الإحتراز منه.
الثاني: فيه موعظة لبني آدم الذين تفضل الله عز وجل بفتح باب التوبة لهم.
الثالث: مجيء آيات الإنذار، ومنها كل من آية البحث والسياق.
الرابع: تحذير الناس جميعاً من عداوة وشر إبليس، قال تعالى[إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا]( )، ومن عداوة الإنسان للشيطان، والعصمة من شروره اللجوء إلى طلب المغفرة والعفو من الله.
الخامسة: هل ينفع الإنذار والتحذير مع الظالمين، وإبلاغهم بلزوم التوقي والحذر من النار، أم أن الشقاء كتب عليهم على نحو الحتم والقطع.
الجواب هو الأول، لفضل الله في سنخية العموم والإطلاق في فتح باب التوبة بالإضافة إلى أن آية البحث جاءت في سياق خطاب للمسلمين، ليكونوا أئمة للناس في الإحتراز من النار، وهذا الإحتراز على قسمين:
الأول: إيجابي بإقامة الفرائض والعبادات.
الثاني: سلبي بالإمتناع عن المعاصي، ويتصف المسلمون بالجمع بين القسمين , وتعاهد وتوارث هذا الجمع وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث: صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ……]( )، وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين: وإتقوا النار وما جعله الله إلا بشرى لكم) بتقريب أن الوقاية من النار بشارة للمسلمين في الدنيا والآخرة.
ومن خصائص هذه البشارة مصاحبتها للمسلم في يومه وليلته، فكل أداء لفرض من العبادات هو بشارة الوقاية من النار، وخطوة مباركة في الإبتعاد عنها، ومن بركات هذه الخطوات أنها لا تذهب بالمسلم إلى المجهول، بل تؤدي به إلى الجنة لعدم وجود برزخ بين الجنة والنار يوم القيامة لتكون فيه بشارة إضافية.
الثانية: إن الله عز وجل الذي أمدّ المسلمين بالملائكة يوم أحد، هو الذي تفضل وحذّّرهم من النار، فمن باب الشكر له سبحانه على نعمة المدد الملكوتي الذي لم تنله أمة قبلهم وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالثة: إخبار آية البحث بأن النار أعدت للكافرين بشارة أخرى للمسلمين، تتصف بالإستدامة، ونزل المدد الملكوتي يوم أحد لتبقى منافعه إلى يوم القيامة، وتطل آية البحث على الناس جميعاً تحذرهم من النار ومن الكفر الذي هو الطريق المؤدي إليها، وبين الناس والمسلمين في تلقي الآية عموم وخصوص من وجه فمادة الإلتقاء هي التحذير والإنذار من النار.
ومادة الإفتراق هي تلاوة وتلقي المسلم الآية بالسكينة والبشارة والأمن من النار التي أعدت لأعدائه، ويتلقى الكافر الآية بالفزع والخوف لأن مصيره إلى النار، قال تعالى[فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ]( ).
الرابعة: لقد تلقى المسلمون شتى أنواع الأذى من الكفار، ومات عدد من المسلمين تحت التعذيب كياسر وسمية أبوي عمار بن ياسر، وهجم الكفار بجيوش عظيمة لقتل النبي وأصحابه والقضاء على الإسلام، ومنع نزول القرآن، ولكن الله عز وجل أمدّ المسلمين بأسباب القوة والصبر والصمود إلى أن نزل قوله تعالى[وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ]( ).
وجاءت آية البحث بإخبار المسلمين بأن أعداء الإسلام هم الخاسرون ومن خصائص هذا الإخبار زيادة قوة المسلمين وصبرهم في ميادين القتال لأنهم يعلمون بأن النار تنتظر الذين يقاتلونهم قال تعالى في الثناء على المسلمين، وبيان مصاديق البر والصلاح[وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ]( ).
صلة(ولتطمئن قلوبكم به) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: ولتطمئن قلوبكم بأن النار أعدت للكافرين) وفيه بعث للسكينة بخصوص الذات والغير، أما الذات فلأن النار لم تعد وتخلق إلا لأعداء الإسلام، وأما الغير فإن الكفار يلقون الخزي والعقاب الأليم.
الثانية: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الطمأنينة للمسلمين ويفيد الجمع بين الآيتين تعدد وتباين مصاديق الطمأنينة، فتارة تكون البشارة بالنصر، وأخرى بما يلحق الكفار من الهزيمة.
وتبعث آية البحث الطمأنينة في نفوس المسلمين ببيان سوء عاقبة الكفار، ومن وجوه الطمأنينة الذاتية في المقام إدراك المسلمين مجتمعين ومتفرقين فوزهم بمرتبة الحصانة من النار , والسلامة من حرها ولهيبها بفضل من الله عز وجل.
الثالثة: تبين آية السياق أن القلوب مرآة تتأثر سلباً وإيجاباً، وإذا كانت قلوب المسلمين تطمئن بالأمن من النار والإخبار بأنها أعدت لأعدائهم، فهل يكون الكفار على ذات الحال من الطمأنينة.
الجواب لا، فهم في فزع وخوف دائمين، قال تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه وجوه:
الأول: لم تأت الآية بخصوص واقعة مخصوصة بل جاءت مطلقة وعامة.
الثاني: تتضمن الآية بيان علة إمتلاء قلوب الكفار بالرعب وهي إشراكهم بالله عز وجل، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
الثالث: إنبساط الرعب على جميع الكفار على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي والبدلي، فهم وإن إجتمعوا يتغشاهم الخوف والرعب وكذا إن تفرقوا، وتجلى الأمر بمعارك الإسلام الأولى مع أن الكثرة كانت إلى جانبهم، وهي:

                      عدد المسلمين           عدد الكفار

1- معركة بدر 313 1000
2- معركة أحد 700 3000
3- معركة الخندق 3000 نحو10000، 4000 من قريش، 700 بني سلم ،1000 من فزارة، 3500 من جميع القبائل.
هذا إلى جانب الفارق الكبير الذي يمتاز به الكفار من كثرة المؤون والسلاح والخيل، وليس مع المسلمين في معركة أحد إلا فرسين، فإن قلت لماذا هذه القلة، وقد قال الله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( ).
والجواب من وجوه:
الأول: قيدت الآية إعداد الخيل والسلاح بالإستطاعة، قال تعالى[لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]( ).
الثاني: في الآية بشارة المدد الملكوتي فإن هيء المسلمون ما يقدرون عليه تأتيهم أسباب النصر من عند الله وهو من عمومات الآية التالية لآية البحث[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثالث: كأن الآية تخبر المسلمين بأن ليس عليكم إلا تهيئة ما تستطيعون أما الباقي من مستلزمات النصر فالله عز وجل هو الكفيل به، قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الرابع: في الآية بعث للمسلمين لتهيئة السلاح والخيل وبذل الأموال لشرائها وتسخيرها في الجهاد في سبيل الله.
ومن أسرار لفظ(وأعدوا) في الآية تهيئة وتجهيز المسلمين بأسباب ومقدمات القتال في حال السلم والحرب وما يسمى في الإصطلاح العسكري في هذا الزمان الإنذار ودرجاته.
الخامس: تتضمن الآية في مفهومها الإخبار بأن المعارك ستقع بين المسلمين والكفار، وأنها ستكون ضارية وشديدة البأس.
السادس: تبعث الآية الفزع في قلوب الكفار، لذا جاء في ذات الآية بيان النفع من رباط الخيل[تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ]( ).
السابع: في الآية وقاية للمسلمين من النار لإنفاقهم في سبيل الله، قال تعالى[فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً]( ).
الثامن: إعداد المسلمين للسلاح ومؤون القتال والتمرين على فنون القتال مقدمة وتذكير للكفار بما ينتظرهم من العذاب الأليم في النار.
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ارتبطوا الخيل فإن ظهورها لكم عز وأجوافها كنز)( ).
وهل المراد الخيل على نحو الحصر والتعيين، أم أن المعنى أعم والمراد مؤون القتال والأسلحة ذات النفع المتعدد.
الجواب هو الثاني لبيان أن دلالات الحديث النبوي لا تنتهي بزمان مخصوص، بل هي متجددة بلحاظ تبدل الموضوع والبلغة وآلة الحرب مع إتحاد الحكم, وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الرابعة: لقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون شتى أنواع الأذى من الكفار، وإستشهد عدد كبير منهم في سوح القتال دفاعاً عن بيضة الإسلام، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)( ).
فجاءت آية البحث لتطمئن قلوب المسلمين، وتخفف من العناء الذي لحقهم، وتساهم في تنمية ملكة الصبر عندهم، وتزيدهم ورعاً وتقوى، وهو من مصاديق قوله تعالى[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
صلة(وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم)بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تحتمل نتيجة المعركة ثلاثة وجوه:
الأول: النصر.
الثاني: الهزيمة.
الثالث: المنزلة بين المنزلتين، فلا نصر ولا هزيمة، وجاءت آية السياق بالإخبار بأن النصر وأسبابه من عند الله.
ومن الشواهد العقلية قوله تعالى[كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ]( )، ومن المصاديق العملية معركة بدر وأحد،فقد نصر الله المسلمين مع قلة عددهم، وكثرة عدد العدو الكافر.
الثانية: لقد سعى المسلمون لسوح الجهاد طلباً للنصر والظفر بالأعداء وهذا الســعي من عمومات قوله تعالى (واتقوا النار) فهو مصداق عملي للأمــن والإحتراز من النار، ومن يجاهد بنفسه وماله في ســبيل الله يتنزه عن المنفعة الربوية التي يجــرها القـــرض، لأنه يبــذل نفســه وماله طاعة لله عز وجل.
الثالثة: إن الله عز وجل العزيز الذي يرزق المسلمين بالمال والتمكين ويجعلهم في غنى عن الربا، هو الذي يحجبهم عن النار وأسباب ولوجها.
وهو الحكيم الذي تفضل بآية البحث ليقوموا بإنذار الناس من النار، وهذا الإنذار مطلق في حال الحرب والسلم، سنن العبادات والدعوة إليها، وأحكام المعاملات وهو من عمومات الثناء على المسلمين في قوله تعالى[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]( ).
الرابعة: إعداد النار وتقييده بخصوص الكفار من حكمة الله، وبديع صنعه وتدبيره لشؤون الخلق، قال تعالى[صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ]( ).
الخامسة: تبين آية السياق قدرة الله على الإنتقام من الكفار في الحياة الدنيا بالهزيمة والخسارة أو هلاك طائفة من مقاتليهم، قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، وجاءت آية البحث لبيان قدرة الله عز وجل على عقاب الكفار في الآخرة بالعذاب الدائم في النار، وبيان أن المغفرة والعذاب بيده تعالى، وفيه دعوة للناس للإقرار بالربوبية والتسليم بالعبودية لله، والإنزجار عن الكفر والجحود.
الشعبة الثانية: صلة هذه الآية بالآيات التالية وفيها وجوه:
الأول: صلة الآية بالآية التالية[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت آية السياق بحرف العطف(الواو) مما يدل على إتصال موضوعها بموضوع آية البحث.
ومن معاني العطف في المقام عدم كفاية التوقي من النار، بل لابد من طاعة الله والرسول لكي يكون السبيل إلى الجنة ممهداً، ويتلو المسلم عدة مرات في الصلاة اليومية الواجبة[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، لتكون التلاوة وأجزاء الصلاة الأخرى الواجبة منها والمستحبة من مصاديق إجتماع أمرين:
الأول: طاعة الله والرسول وإتيان الصالحات.
الثاني: إجتناب المعاصي والسيئات وأسباب الولوج إلى النار.
الثانية: جاءت الآيات خطاباً للمسلمين إلا أن المورد لا يخصص الوارد فكل من الآيتين خطاب عام للناس جميعاً، لما فيهما من وظائف العبودية، وهما من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثالثة: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الأوامر والنواهي، ليكون كل فرد منها طريقاً إلى الجنة وواقية من النار، فإن قلت علمنا أن في الإمتثال للأمر الإلهي ثواب وأجر، فهل في الإمتناع عما نهى الله ثواب أيضاً ؟
الجواب نعم، لأن هذا الإمتناع بقصد القربة إلى الله، وهو فعل وقصد وإمتثال وأمر وجودي وليس أمراً عدمياً.
الرابعة: تقدير الجمع بين الآيتين: وإتقوا النار لعلكم ترحمون)، وتحتمل الرحمة الإلهية التي تترشح عن توقي المسلم من النار بلحاظ أفراد العوالم الطولية وجوهاً:
الأول: الرحمة في الحياة الدنيا.
الثاني: الرحمة في عالم البرزخ والقبر.
الثالث: الرحمة يوم النشور.
الرابع: الرحمة يوم الحساب.
الخامس: الرحمة في مواطن الآخرة عامة.
السادس: عالم الجزاء، وتتجلى أبهى وأعظم مصاديق الرحمة فيه بدخول الجنة واللبث الدائم فيها، قال تعالى[وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ]( ).
الخامسة: لقد خلق الله عز وجل النار، وهو رب كل شيء وبيده مقاليد الأمور، وتفضل وقرن طاعة رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بطاعته فهل من موضوعية لطاعة الرسول في الوقاية من النار، الجواب نعم، قال تعالى[مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( ).
الثاني: صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا…..]( )، وفيها مسائل:
الأولى: يفيد الجمع بين الآيتين : وإتقوا النار وسارعوا إلى مغفرة من ربكم).
الثانية: جاءت كل من الآيتين في سياق الخطاب للمسلمين، ويدل عليه إبتداؤها والآيتين السابقتين بحرف العطف(الواو) وجاءت الآية التي قبلهن بلغة الخطاب[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]( ).
ولا يعني الحصر والتقييد الموضوعي بالمسلمين، بل الخطاب موجه بواسطتهم إلى الناس جميعاً للتوقي من النار، وللمبادرة إلى فعل ما فيه تنال المغفرة.
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا يا رب وأي شيء أفضل من ذلك قال أجل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا)( ).
الثالثة: بيان التضاد والتباين بين النار والمغفرة، ويتجلى بعالم الأفعال كنوع طريقية ومقدمة لكل من الأفعال التي تؤدي إلى الهلكة كالفجور والمعصية , والأفعال تؤدي إلى الفوز بالمغفرة والرضوان، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
الرابعة: تبين الآيتان الحاجة إلى الله عز وجل في الشدة والرخاء، وفي الدنيا والآخرة، فصحيح أن آية البحث ذكرت إعداد النار بصيغة المبني للمجهول(أعدت) إلا أنه يدل بالدلالة المطابقية على أن الله عز وجل هو الذي أعدّها وخلقها، قال تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الخامسة: من إعجاز القرآن مجيء آية تحذر من النار، وتعيّن أصحابها الذين أعدت لهم على نحو القطع والنص الخالي من الإجمال, لتتعقبها آية تأمر بطاعة الله والرسول , ثم آية تبشر بالجنة وترغب فيها , وتدعو الناس إلى الفوز بالعفو والمغفرة، قال تعالى[أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ).
السادسة: لم تذكر سعة النار في هذه الآية، بينما ذكرت آية السياق سعة الجنة بأبهى صيغة، وما يبعث الشوق والأمل في النفوس إليها بقوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( ).
السابعة: لما أختتمت آية البحث بالإخبار بأن النار(أعدت للكافرين) أختتمت آية السياق بالإخبار بأن الجنة(أعدت للمتقين)وهو من إعجاز القرآن، وبيان التضاد بينهما الذي هو مرآة لحال الناس في الدنيا.
ومن بديع صنع الله أن مادة الجزاء مخلوقة، ويحتمل هذا الخلق في زمانه وجوهاً:
الأول: قبل نزول القرآن، فجاء الفعل(أعدت) بصيغة الماضي المبني للمجهول.
الثاني: خلقت الجنة والنار في ذات الوقت الذي خلق فيه آدم عليه السلام، ونفخ الروح فيه من الله.
الثالث: إقتران أوان خلق الجنة والنار بهبوط آدم وحواء وإبليس إلى الأرض قال تعالى[قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الرابع: تقدم خلق الجنة والنار على خلق آدم.
والصحيح هو الأخير، وفي قوله تعالى[فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ]( )، ورد عن عبد الله بن مسعود قال: هي حجارة من كبريت، خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا، يعدها للكافرين)( ).
وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال: إن الله خلق الجنة قبل أن يخلق النار، وخلق الطاعة قبل أن يخلق المعصية، وخلق الرحمة قبل أن يخلق الغضب، وخلق الخير قبل أن يخلق الشر، وخلق الأرض قبل أن يخلق السماء، وخلق الحياة قبل الموت، وخلق الشمس قبل القمر، وخلق النور قبل الظلمة)( ).
ولقد جعل الله عز وجل درجات الجنة على عدد آيات القرآن لترغيب الناس بتلاوته والعمل بأحكامه وسننه.
الثالث: صلة هذه الآية بقوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ…..]( )، وفيها مسائل:
الأولى: تتضمن آية السياق سبلاً للنجاة من النار، فلما قالت آية البحث(وإتقوا النار) فإن الله عز وجل هدى المسلمين لطرق الوقاية من النار ومنها الإنفاق في سبيل الله فإن قلت لماذا لم تذكر الآية القتال في سبيل الله.
الجواب من وجوه:
الأول: جاءت آيات القرآن بالأمر للمسلمين بالقتال، قال تعالى في الآية التي تسمى آية السيف[وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ]( ).
الثاني: تقدم في الآية السابقة الأمر الإلهي بالمسارعة إلى المغفرة والجنة الواسعة، وليس من ثواب وأجر وسبب لنيل المغفرة أعظم من الجهاد في سبيل الله، قال تعالى[فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً]( ).
الثالث: القتال في سبيل الله من أسمى معاني التقوى، وجاءت آية السياق لبيان بعض صفاتهم والترغيب فيها.
الرابع: جاءت آية السياق لبيان صفات عامة يستطيع كل مسلم ومسلمة إتيانها وبلوغها، فمن لم يستطع القتال ينفق في سبيل الله، ومن لم يستطع الإنفاق يظهر مكارم الأخلاق ويحبس النفس الغضبية، ويمنع النفس الشهوية من الإستحواذ على قوله وفعله.
الثانية: يفيد الجمع بين الآيتين تأكيد وقاية المسلمين من النار، لأنهم يســعون لبناء برزخ وحاجب عن دخولها، وفيه مصداق لهداية الله عز وجل المسلمين للنجاة من النار، فهو سبحانه حينما قال(اتقوا النار) تفضل وحثهم على السعي لدخول الجنة، ثم ذكر صفات المتقين الذين تعصمهم أفعالهم من دخول النار بفضل من الله عز وجل.
الثالثة: من أسباب الوقاية من النار الأخلاق الحميدة، والسنن الرشيدة، وتلقي الأذى بالصبر والحلم، وفيه دعوة إلى الهداية والإيمان، وورد في التنزيل في خطاب الملائكة لأهل الجنة[سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ]( ).
الرابعة: أختتمت هذه الآية بالإخبار عن إعداد النار للكافرين على نحو الخصوص، بينما جاءت آية السياق بالثناء والمدح للمحسنين والإخبار بأن الله يحبهم ويرضى عليهم بقوله تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] وفيه أمور:
الأول: الترغيب بالسعي للتنزه والأمن من موجبات النار.
الثاني: تأكيد التباين والتضاد بين الإحسان والكفر، إذ أن الكافر ظالم لنفسه ولغيره.
الثالث: إن الله عز وجل لا يحب الكافرين لجحودهم النعم، وتركهم لعلة الخلق وهي العبادة، وتكذيبهم بالنبوة، وفي التنزيل[فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ]( ).
صلة(واتقوا النار)بــ(وسارعوا إلى مغفرة….)
وفيها مسائل:
الأولى: بيان تعدد وظائف المسلمين في أمور الدين والدنيا، ففي ذات الوقت الذي يتجنبون فيه مقدمات دخول النار، فإنهم يسعون في سبل الصلاح وأسباب الهداية وما يقربهم إلى إحراز الخلود في الجنان برحمة من الله عز وجل.
الثانية: الجمع بين الآيتين برهان على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لأنهم يواظبون بدأب على السعي إلى الجنة في ذات الوقت الذي يتنزهون فيه عن المعاصي والسيئات.
الثالثة: من الخصائص التي تجمع الآيتين أن كل واحدة منهما بشارة للمسلمين، إذ تخبر آية البحث عن إختصاص الكفار بالنار، وهو ظاهر قوله تعالى(أعدت للكافرين) وتتضمن آية السياق البشارة بالمغفرة والجنة الواسعة.
الرابعة: لقد ذكرت آية البحث النار على نحو مجرد من غير تفصيل في طولها وسعتها، بينما ذكرت آية السياق سعة الجنة بآية إعجازية ووصف لا يقدر عليه إلا الله يمتاز بالتحدي وتأكيد الإطلاق في قدرة الله، إذ تتخلف مدارك عقول البشر عن إدراكه , فإذا كانت الجنة تسع السموات والأرض فأين النار.
ليفيد الجمع بين الآيتين أموراً وهي:
الأول: إن سعة الجنة لا تتعارض مع وجود النار حقيقة، وهو من أسرار سبق خلقها.
الثاني: بيان عظيم قدرة الله، وأن الأكوان والمخلوقات أعم من السموات والأرض، قال تعالى[وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( )، وفيه وجوه:
الأول: إنحصار التوسعة بالسماء.
الثاني: إرادة التوسعة في المخلوقات والأكوان.
الثالث: تعليق التوسعة على الزمن المستقبل.
الرابع: إتصال وتجدد التوسعة وإنبساطها على أفراد الزمان الطولية الماضي، الحاضر، والمستقبل.
والصحيح هو الثاني والرابع، ليكون متعلق قوله تعالى(وإنا لموسعون) الإطلاق والتجدد وهو من عمومات قوله تعالى[بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، ودلالته على تجدد الإبداع والخلق، وما فيه من تأكيد متجدد وظاهر على عظيم قدرة الله , ليكون سبباً وحجة كونية عامة وآية حسية تجذب الناس للتوبة والإنابة.
الثالث: بعث الناس جميعاً على السعي لمنازل الجنة، والإحتراز من النار، وتلك وظيفة الأنبياء، ولكن التنزيل والقرآن إمام يشاطرهم في جهادهم وإذ إنقضت أيام النبوة، فإن القرآن وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باقيان في جذب الناس إلى منازل الإيمان وأسباب نيل الثواب والجزاء العظيم، وهو من الشواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين، وحاجة الناس إلى القرآن وسلامته من التحريف كرحمة متجددة في الأرض.
الرابع: دعوة المسلمين والناس جميعاً للتفكر في بديع صنع الله، وسعة سلطانه، وكريم ثوابه الذي يدل هو الآخر على عظيم قدرته وإستدامتها ودوامها.
الخامسة: يكون معنى (اتقوا النار )بلحاظ نظم الآيات على وجوه:
الأول: إجتنبوا الربا.
الثاني: سارعوا إلى مغفرة أي سارعوا إلى التوبة من الربا.
الثالث: ترك الربا وأضعافه المضاعفة واقية من النار.
وقال الكلبي الجنان أربع: جنة عدن وهي الدرجة العليا، وجنة المأوى، وجنة الفردوس، وجنة النعيم، كل جنة منها كعرض السموات والأرض لو وصل بعضها إلى بعض)( ).
ولكن القدر المتيقن من الآية هو إرادة الجنة كاسم جنس أي مجموع الجنان تكون سعتها كسعة السموات والأرض.
ويقال لم يرد بهذا التقدير ولكنه أراد بذلك أنها أوسع شيء رأيتموه) ولكنه الأصل هو التقدير، وهو المتبادر من الكلام وليس هو من باب الحقيقة والمجاز كي يصرف إلى المجاز مع القرينة لوجوه التباين بين التقدير وعدمه.
ومن خصائص لغة المثل في القرآن الدقة والمصداق الخارجي ومن شرائط لغة التشبيه معرفة المشبه به وإستبانته للناس، وهو في المقام عرض السموات والأرض، وفيه بشارة توصل الإنسان إلى معرفة أبعاد ومساحة الأرض، وأبعاد السماء ولو على نحو الإجمال فيما يصل إليه العلم الحديث، قال تعالى[يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ]( ).

إعجاز الآية
إبتدأت الآية بحرف العطف(الواو) لبعث المسلمين على إدراك وجوه الإتصال بينها وبين الآية السابقة، إذ جاءت الآية السابقة بصيغة الرجاء(لعلكم تفلحون) وعطفت عليها هذه الآية والآية التالية بما يجعل صيغة الرجاء هذه حقيقة وبشارة، فقد يقول قائل لماذا يأتي الفلاح في آيات من القرآن بصيغة الرجاء وليس على نحو القطع والجزم والمسلمون هم الذين شرّفهم الله لمنزلة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
والجواب يتجلى الفلاح وقربه من المسلمين في آية البحث بالوقاية من النار , وفي الآية التالية من بلوغ مراتب الجنة العالية، وإذا كان هذا حال [خَيْرَ أُمَّةٍ] فكيف هو حال الأمم الأخرى وهي لم تبلغ حتى مرتبة الرجاء ولم يخاطبهم القرآن بلفظ(لعلكم ترحمون) .
وإذا كان الفلاح والبقاء يتوقف على الوقاية من النار جاءت الآية بالأمر بها على نحو الخطاب الإنحلالي لكل مسلم ومسلم , والتقدير : أيها المسلم إتق النار.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بخ بخ لخمس من لقى الله مستيقنًا بهن دخل الجنة يؤمن بالله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث بعد الموت والحساب)( ).
وتقدير لغة الخطاب في الآية على وجوه:
الأول: أيها المسلمون إتقوا النار التي أعدت لأعدائكم.
الثاني: يا أهل الكتاب إتقوا النار التي أعدت للكافرين.
الثالث: يا أيها الناس إتقوا النار التي أعدت للكافرين.
الرابع: أيها الكافرون إتقوا النار التي أعدت لكم إذا متم على الكفر، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ]( ).
ومن إعجاز الآية منع الجهالة والغرر بخصوص الذين يدخلون النار بإخبارها عن الذين أعد الله لهم النار وهم الكفار.
ويمكن تسمية الآية الكريمة آية (واتقوا النار) وورد هذا اللفظ مرتين في القرآن وفي سورة البقرة( )، وجاء الإنذار بهذا اللفظ في بداية القرآن , فوعاه المسلمون وإتعظوا منه , فإنتقلت آيات القرآن في السور الأخرى إلى مضامين ومواضيع أخرى.
الآية سلاح
لما خلق الله آدم عليه السلام، تفضل وأخبر أنه جاعله خليفة له في الأرض، فإنبهر الملائكة وقالوا كيف يكون الإنسان خليفة وهو يفعل السيئات[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
فأقام الله عز وجل عليهم الحجة بأنه سبحانه قال[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وجاءت هذه الآية وما يترتب عليها من الأثر مصداقاً لعلم الله عز وجل، أي أن الله يخبر الملائكة بلحاظ هذه الآية بأمور:
الأول: إنقطاع خلافة الإنسان في الأرض، وهذا الإنقطاع على شعبتين:
الأولى: الإنقطاع على نحو القضية الشخصية بموت الإنسان ومغادرته الدنيا.
الثانية: فناء العالم، قال تعالى[وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ]( ).
الثاني: وجود عالم الجزاء في الآخرة الذي هو مرآة لعالم الأعمال في الدنيا.
الثالث: نزول الكتب السماوية، ومجيء القرآن خاتماً لها وجامعاً للأحكام، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الرابع: وجود أمة مؤمنة في الأرض تتحلى بطاعة الله، وتحارب الفساد، وتمنع من سفك الدماء، وسببهما وهو الكفر ويبذل أفراد هذه الأمة في طريق هذا المنع النفوس والأموال، قال تعالى في خطاب للمسلمين[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)( ).
وفي هذا الحديث دلالة بأن قتال المسلمين للكفار رحمة بالكفار أنفسهم، وسبيل لنجاتهم من ظلم النفس في الدنيا والآخرة، ليتحمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون الأذى ويتلقون الضرر من أجل إصلاح الناس وإزاحتهم عن منازل الضلالة التي تجلب لهم الكدورات والشرور والعذاب الأليم.
وفيه شاهد دائم ومتجدد على علم الله عز وجل في إختيار الإنسان لخلافة الأرض وجهاد أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإصلاح الناس، وعمارة الأرض بالتقوى ودفع أسباب الفساد.
وفي هذا القتال وما يترشح عنه من بذل المسلمين للنفس والمال وتعطيل الأعمال في سبيل الله من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس: تحذير المسلمين من النار، وإنذار الكافرين من الكفر والضلالة لقبح عاقبته، وللملازمة بين خلق النار وذكر الذين خلقت لهم.
السادس: تلاوة وعمل المسلمين بهذه الآية إلى يوم القيامة، وهو من عمومات إتخاذهم هذه الآية سلاحاً لأنفسهم وغيرهم.
ومن إعجاز القرآن أن الآية التي يأمر الله عز وجل بها المسلمين بالوقاية والإحتراز من النار هي ذاتها واقية وحرز في النشأتين، وهل تلاوتها من مصاديق إتخاذها سلاحاً.
الجواب نعم، من وجوه:
الأول: الأجر والثواب على تلاوة الآية.
الثاني: إنطباع مضامين الآية في الوجود الذهني.
الثالث: ترتب الأثر على التلاوة بالتدبر في كيفية الإحتراز من النار.
الرابع: تفقه المسلمين في الدين بإدراك الملازمة بين المعصية ودخول النار، والملازمة بين الصلاح والتقوى والنجاة من النار.
إفاضات الآية
تتضمن الآية التذكير بالنار وما فيها من شدة العذاب، وفيه بعث لمعرفة أسباب ورودها وإجتنابها، وسبل النجاة والوقاية منها والعمل بمضامينها، قال تعالى[وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا]( )، والمراد من الورود الحضور والمرور، وفي الوعيد في المقام أقوال ووجوه:
الأول: من يدخلها لا يخرج منها.
الثاني: لا يدخلها مؤمن.
الثالث: جواز دخول العصاة من المؤمنين النار، ثم يخرجون منها، ونسب القرطبي هذا القول إلى أهل السنة ولا دليل على إطلاق هذه النسبة.
ولكن ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه عاد مريضا من وعك به فقال له النبي صلى الله عليه و سلم: أبشر فإن الله تبارك وتعالى يقول هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار)( )، أي أن نزول المرض بالمؤمن برزخ ونجاة له من حر نار جهنم.
وعن يعلي بن منبّه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تقول النار للمؤمن يوم القيامة جزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي)( )، نعم لو ورد دليل يخرج العصاة من المؤمنين بالتخصيص نأخذ به، ولكنه مزاحم ومعارض بأحاديث الشفاعة وإطلاقها، وعمومات رحمة الله بالمسلمين وذراريهم.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: يجاء بالأمير الجائر فتخاصمه الرعية)( )، وظاهر الحديث الخصومة، وإنتزاع الحق منه، وهل تكون هذه الخصومة سبباً لإدخاله النار، أم عنده أعمال أخرى حسنة ترجح كفة الميزان، قال تعالى[الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ]( ).
الرابع: عن السدي: سألت مرة الهمداني عن هذه الآية فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يرد الناس النار ثم يصدرون بأعمالهم فأولهم كلمع البرق ثم كمر الريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب ثم كشد الرجل ثم كمشيه)( ).
الخامس: عن أبي سمينة قال : اختلفا في الورود فقال قوم لا يدخلها مؤمن و قال آخرون يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله فسألته فأومى بإصبعيه إلى أذنيه و قال صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
الورود الدخول لا يبقى بر و لا فاجر إلا يدخلها فتكون على المؤمنين بردا و سلاما كما كانت على إبراهيم حتى أن للنار أو قال لجهنم ضجيجا من بردها ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا)( ).
السادس: عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في قوله عز وجل(وأن منكم إلا واردها) قال: أما تسمع الرجل يقول وردنا ماء بني فلان فهو الورود ولم يدخله)( ).
لقد جاءت آية البحث لبيان إمكان النجاة من النار، وعدم دخولها، وأنها لم تخلق إلا للكافرين بالله عز وجل الجاحدين بربوبيته , وفيه مسائل:
الأولى: بعث الأمن والسكينة في القلوب المنكسرة.
الثانية: جذب الناس إلى منازل الإيمان.
الثالثة: تنزيه الأرض من الكفر والضلالة.
الرابعة: نفرة الناس من الكفر والجحود، وبعثهم على الإحتراس من مفاهيم الضلالة.
وتدعو الآية المسلمين إلى اللجوء إلى سلاح الدعاء للإحتراز من النار، ومن منافع الدعاء في المقام العصمة من السيئات التي تقود إلى النار في الآخرة، كما يحضر الدعاء مع المؤمن ليكون برزخاً له من النار، وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم رب جبرئيل وميكائيل وإسرافيل أعوذ بك من حر النار وعذاب القبر) ( ).
ومن الإعجاز في الدعاء أعلاه أن يجمع الوقاية من العذاب في عالم البرزخ وفي الآخرة، فليس من عاقل إلا ويرغب بالسلامة من النار، ويختار سبل الوقاية منها وينفر من أسبابها، ويجتنب أهلها ومنازل الإقامة على الكفر.
وعن أنس بن مالك عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال:”إن عبدًا في جهنم لينادي ألف سنة: يا حنّان، يا منّان. فيقول الله لجبريل: إذهب فآتني بعبدي هذا. فينطلق جبريل فيجد أهل النار مُنكبين يبكون، فيرجع إلى ربه عز وجل فيخبره، فيقول الله عز وجل: آتني به فإنه في مكان كذا وكذا.
فيجيء به فيوقفه على ربه عز وجل، فيقول له: يا عبدي، كيف وجدت مكانك ومقيلك؟ فيقول: يا رب شر مكان، شر مقيل فيقول: ردوا عبدي، فيقول: يا رب، ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيها! فيقول: دعوا عبدي)( ).
الآية لطف
ليس من آية في القرآن إلا وتتضمن معاني اللطف الإلهي، ويترشح عنها اللطف، ويحتمل في إدراك مفاهيمه وجوهاً:
الأول: اللطف في الآية القرآنية خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده، فهو الذي يعلم التأويل ويقوم ببيان الآيات بلحاظ أن السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع.
الثاني: إنه خاص بالعلماء فهم ورثة الأنبياء، والذي يعرفون مضامين اللطف في الآية القرآنية، ويقومون ببيانها للناس، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ]( ).
الثالث: يختص المؤمنون بمعرفة معاني اللطف الإلهي في الآية القرآنية.
الرابع: كل من يتلو القرآن يدرك ما فيها من مفاهيم اللطف.
الخامس: معرفة الناس لأفراد اللطف في الآية القرآنية من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، فالعلماء يعلمون منها أكثر وأعظم ويغوصون في كنوزها لإستخراج اللآلئ البهية التي في ثنايا الآية الكريمة، وغيرهم كل بحسبه ومقدار تدبره في الآية.
السادس: يدرك كل إنسان معاني اللطف الإلهي في الآية الكريمة، مسلماً كان أو غير مسلم، ولو بمراتب متفاوتة.
والصحيح هو الخامس السادس أعلاه، ليكون اللطف في الآية القرآنية من الإعجاز الذاتي، وإدراك عموم الناس له من الإعجاز الغيري، قال تعالى في وصف القرآن[هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ]( ).
وكما يأتي اللطف بالإخبار والبشارة عن الجنة وما فيها من أسباب النعيم الدائم يأتي بالإنذار عن النار وما فيها من العذاب الأليم الذي يفوق حد التصور الذهني في شدته وطول مدته، مما يبعث النفرة في النفوس من أسبابه وهي الشرك وأنواع المعاصي.
ويدرك الإنسان مطلقاً مسلماً أو غير مسلم، ذكياً فطناً أو دون ذلك، أن الثمن الذي يدفعه عن لذة محرمة في ساعة أكبر من الدنيا وما فيها، وإن هجران المعاصي يجلب الخير والسعادة الأبدية للمكلف.
لقد جاءت الكتب السماوية كلها بالبشارة والإنذار، قال تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، والنسبة بين البشارة والإنذار النبوي والكتابي هي العموم والخصوص المطلق، فبشارات وإنذارات الأنبياء أعم وأكثر.
إلا القرآن فإن بشاراته وإنذاراته من اللامتناهي فهي متجددة مع الليل والنهار، ويستحضرها الناس خمس مرات في اليوم وهو من أسرار وجوب التلاوة في الصلاة اليومية الواجبة، فإن قلت لماذا هذا العموم ولم تقل(ويستحضرها المسلمون).
والجواب من وجوه:
الأول: تلاوة المسلمين للآية القرآنية دعوة للناس جميعاً للإنصات لها، والتدبر في مضامينها القدسية.
الثاني: هذه التلاوة من عمومات قوله تعالى في الثناء على المسلمين[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
الثالث: التلاوة مادة ومناسبة للتفقه في الدين.
الرابع: إنها مقدمة لقيام المسلمين مجتمعين ومتفرقين بإصلاح أنفسهم، وحث الناس على الصلاح، ونبذ الفساد، فحينما إحتج الملائكة على جعل آدم عليه السلام خليفة في الأرض، لأن الإنسان يفسد في الأرض ويسفك الدماء، جاء الرد من الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علمه تعالى بعثة سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن عليه وتلقي أمة تتقي الله له بالقبول والرضا، قال تعالى[كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ]( ).
وتتضمن آياته فيضاً متصلاً متجدداً من اللطف الإلهي وتلاوة المسلمين لها على نحو الوجوب عدة مرات، وإنصات الناس لهم طوعاً وإنطباقاً وقهراً، لتكون التلاوة درساً في اللطف الإلهي وإقتباساً سنن الحكمة منها، وتكون دلالات ومعاني القرآن قريبة من كل وارد وطالب، بل ومن الذي يعرض عنها وينشغل بالدنيا.
الصلة بين أول آخر الآية
إبتدأت الآية بحرف العطف (الواو) لبيان صلتها بالآية السابقة التي جاءت في النهي عن أكل الربا بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( )، وبينها وبين قوله تعالى(وإتقوا النار) عموم وخصوص مطلق، لأن التوقي من النار أعم ويشمل الفعل والترك، والوجوب والنهي، والحلية والحرمة بلحاظ التباين في ماهية الفعل، بأن يأتي المكلف المأمور به، ويتجنب المنهي عنه , ويتجلى هذا التباين والحاجة العامة إليه بالإعجاز الذي يتضمنه قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وجاءت الآية بصيغة الجمع، وفيه وجوه:
الأول: الآية إنحلالية تنحل بعدد المكلفين من الذكور والأناث.
الثاني: إرادة تعاون المسلمين فيما بينهم في الحذر والوقاية من النار، وهو من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: توقي المسلمين والمسلمات على نحو العموم المجموعي من النار.
ومن أسرار هذا التعدد زيادة إحتراز المسلم من النار، وبعثه على التدبر والتفكر عند الإقدام على أي فعل يفعله.
وجاءت الآية من خمس كلمات تدل مجتمعة ومتفرقة على سعة رحمة الله بالناس جميعاً في الدنيا، وهو من عمومات قوله تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وهل من تعارض بين معاني الرحمة والإنذار والوعيد في الآية الكريمة، الجواب لا، لأن ذات الوعيد رحمة وفضل من الله.
لقد جعل الله عز وجل الإنسان عاجزاً عن معرفة عالم الجزاء، لا يبلغ به عقله وحواسه إلى معرفة أهوال الآخرة، فأنزل الله القرآن لحاجة أهل الأرض له في هذا الباب إلى يوم القيامة، وتفضل وعصمه من التحريف والتبديل والتغيير، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
وهذه العصمة من إعجاز القرآن الذاتي والغيري، فما من إنسان إلا وهو محتاج لها، وينتفع منها في دينه ودنياه، ومع أن النار غير موجودة في الدنيا لكن هذه الآية تجعلها قريبة من حواس الناس، وينفرون من لهيبها، وتقدير الآية: إتقوا الأفعال والسيئات في الحياة الدنيا التي تسوق صاحبها إلى نار جهنم.
وإذا كانت النار أعدت للكافرين فلماذا جاء قوله تعالى(إتقوا النار) والذين آمنوا بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم منزهون من الكفر.
الجواب من وجوه:
الأول: تقدير الآية: إجتنبوا الأفعال والذنوب التي تؤدي إلى دخول النار.
الثاني: إتقوا النار وإعملوا على إتقاء غيركم لها ولشدة حرها , وهذا العمل من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( )، وقيام المسلمين بالأمر والنهي للناس جميعاً وهما مطلقان في موضوعاته وأهمها دفع الناس عن دخول النار، بالسعي لتخليصهم من الكفر والضلالة، قال تعالى[وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الثالث: مفهوم الآية واظبوا على أداء العبادات التي أمركم الله وهي المائز بين المسلمين والكفار، وبسببها كتب الله عز وجل للمسلمين النجاة من النار، لذا جاءت الآية التالية بتأكيد أدائها بقوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ]( ).
الرابع: لقد رحم الله عز وجل المسلمين قبل أن يخلقوا بإخراجهم بالتخصص من الذين أعدّ النار لهم، ثم تفضل وأخبر في القرآن بأنها أعدت لأعدائهم من أهل الضلالة والجحود.
وجاءت آية البحث لتأمر المسلمين بإثبات أهليتهم للسلامة من النار بالسعي والعمل في سبل النجاة منها.
الخامس: تحذير المسلمين من أهل الشك والريب الذين يسعون لإرتدادهم عن الإسلام، قال تعالى[وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا]( ).
وعندما سكن آدم الجنة حذّره وزوجه حواء اللهُ عز وجل من إبليس ووسوسته، ونهاهما عن الأكل من الشجرة ، ولكن إبليس إستطاع الدنو منهما وإغرائهما بالأكل من الشجرة، فكان الهبوط إلى الأرض.
وجاءت آية البحث لتكون تحذيراً للمسلمين من شياطين الجن والإنس ومن عمومات قوله تعالى[يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ]( ).
السادس: تقدير الآية: إنقذوا الناس من النار التي أعدت للكافرين، بجذبهم إلى الإيمان، وتنزيههم من الكفر بالحكمة والسيف، وبذل الوسع في إصلاحهم.
فقوله تعالى(اتقوا النار) عنكم وعن غيركم من الناس، وهو من خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إشراقات التقوى أطلت على أهل الأرض بنبوته بعدم ترك الكفار وإنقاذهم منها، وهو من عمومات قوله تعالى في الثناء على المسلمين[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: إكرام المسلمين والمسلمات بلغة الخطاب والتحذير في الآية.
الثانية: تأكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إنذاره المسلمين من النار.
وهل يتعارض هذا الإنذار مع فضل الله بشفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله: إدخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)( )، الجواب لا، من وجوه:
الأول: حاجة المسلم والإنسان مطلقاً إلى إجتناب أسباب ولوج النار.
الثاني: جعل الله الحياة الدنيا دار عمل بلا حساب، والآخرة دار حساب بلا عمل.
الثالث: الشفاعة من مصاديق إتقاء النار باللجوء إلى الله ورسوله.
الثالثة: بيان الآية علماً من علوم الغيب، وهو على وجوه:
الأول: تقدم خلق النار.
الثاني: لزوم إتقاء النار.
الثالث: إختصاص الكافرين بإعداد النار لهم.
الرابع: بيان ما ينتظر الكافرين من العذاب وسلامة المسلمين من سوء العاقبة , قال تعالى[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]( ).
الرابعة: بعث الشوق في النفوس لعمل الصالحات، والنفرة من فعل السيئات.
الخامسة: دعوة المسلمين والناس للتدبر في صيغ إتقاء النار والسلامة من حرها ولهيبها.
السادسة: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا(دار الإنذار) وليس من حصر في المقام لأمور:
الأول: المواضيع التي يأتي الإنذار منها.
الثاني: صيغ وكيفية الإنذار، سواء بالتنزيل، أو النبوة، أو تعاقب الأيام، أو الإتعاظ والإعتبار من الغير.
الثالث: متعلق الإنذار، وشموله لأفراد الزمان الطولية الحياة الدنيا، عالم البرزخ، دار الخلود وتعدد المواطن فيها.
الرابع: الأثر المترتب على الإنذار، والإنتفاع العظيم منه.
السابعة: الوقاية من النار، من مصاديق التقوى والخشية من الله، والحرص على إجتناب عذابه.
وعن أنس بن مالك قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا هذه الآية فقال : قال الله سبحانه أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له)( ).
الثامنة: في الآية إخبار عن عزل وحجز الكفار عن الناس يوم القيامة، ليدل بالدلالة الإلتزامية على التحذير منهم في الدنيا، وعدم الإفتتان بما في أيديهم ومباهج الدنيا التي يتنعمون بها.
التفسير الذاتي
ورد لفظ(إتقوا) في القرآن سبعين مرة جاء أكثرها في تقوى الله والخشية منه بالغيب والحرص على إتيان ما أمر به وإجتناب ما نهى عنه، وفي الخشية من يوم القيامة لما فيه من الأهوال وشدة الحساب والجزاء الدائم، أما في النعيم وأما في العذاب، قال تعالى[وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا]( ).
ومع أن لفظ(اتقوا النار) لم يرد إلا مرتين في القرآن، فقد إبتدأ نظم القرآن بخصوص لفظ(اتقوا) بإحداهما بقوله تعالى في بدايات سورة البقرة[فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( )، في إنذار وتوبيخ للكفار، ونعتهم بالجهل لأن عاقبتهم كالحطب الذي يكون مادة للنار ولا يفعل شيئاً.
(قال الحجاج لسعيد بن جبير حين أراد قتله: ما تقول فيّ؟ قال: قاسط عادل، فقال القوم: ما أحسن ما قال، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل؛ فقال الحجاج: يا جهلة، إنه سماني ظالماً مشركاً، وتلا لهم قوله تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } وقوله تعالى: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ})( ).
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثير التحذير من النار، والتذكير بالحاجة للسعي للنجاة منها , ولزوم عدم الغفلة عنها (عن أبي ليلى قال: صليت إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم فمر بآية فقال: أعوذ بالله من النار، ويل لأهل النار).
ليكون الحديث أعلاه من الشواهد على بيان وتفسير السنة النبوية لمضامين الآية القرآنية من وجوه:
الأول: تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية.
الثاني: حث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين على الإستعاذة من النار من باب الأولوية القطعية، فإذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتعوذ من النار وهو المعصوم من الزلل الذي غفر له قال تعالى[لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ]( )، إلى جانب لزوم الإقتداء به صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: ترغيب المسلمين بقراءة القرآن.
الرابع: تأكيد شدة عذاب الكفار في النار.
الخامس: بعث الناس للتوبة والإنابة والنجاة من النار بالتنزه عن الكفر والضلالة.
السادس: بيان بركات القرآن، ومنافع التلاوة بأن تكون مناسبة لتذكر النار، والإحتراز منها، والوعيد لمن يصر على الكفر والضلالة، قال تعالى[كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ]( ).
وأخرج ابن أبي شيبة عن النعمان بن بشير قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: أنذركم النار، أنذركم النار حتى سقط أحد عطفي ردائه على منكبيه)( ).
لقد وقف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الآية لبيان موضوعيتها وأهميتها وليتدبر المسلمون معانيها وما فيها من علوم الغيب بالإخبار عن مادة النار بما لا يخطر على بال الإنسان بأن يكون الكافر حطباً للنار فهو لا يعذب بذات النار فقط، ولكنه يعذب بنفسه وأعضائه، ليكون هذا العذاب عنوان إبتلاء بسوء فعله، وقبيح أعماله.
(وأخرج ابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا، عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة} ، تلاها على أصحابه وفيهم شيخ.
فقال : يا رسول الله ، حجارة جهنم كحجارة الدنيا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده، لصخرة من صخر جهنم أعظم من جبال الدنيا . فوقع مغشياً عليه
فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده فإذا هو حي، فناداه فقال : قل لا إله إلا الله. فقالها، فبشره بالجنة: فقال أصحابه: يا رسول الله، أمن بيننا؟ فقال:نعم، يقول الله عز وجل {ولمن خاف مقام ربه جنتان} {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد})( ).
لقد جاء الكتاب والسنة بجهاد النفس للسلامة من النار، وبإصلاح الذات والأهل للوقاية من حرها، وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أسلم قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} فقالوا: يا رسول الله كيف نقي أهلنا ناراً؟ قال: تأمرونهم بما يحبه الله وتنهونهم عما يكره الله)( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث أموراً:
الأول: ضرورة توقي المسلمين من النار.
الثاني: تهيئة وإعداد النار للكفار.
الثالث: الناس وقود النار.
ويحتمل لفظ الناس وجوهاً:
الأول: إفادة الألف واللام في (الناس) العهد، والمراد الكفار.
الثاني: رؤساء الكفر، وأئمة الضلالة هم وقود النار.
الثالث: عبدة الأوثان هم حطب جهنم، لقوله تعالى[إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ]( ).
والصحيح هو الأول فإن أصحاب النار هم وقود لها، ليكون من معاني(أعدت للكافرين) أي أعدت ليكونوا حطباً ووقوداً لها، فكما أنهم لا يفقهون في الدنيا بإرتكابهم السيئات والمعاصي فإن جزاءهم صيرورتهم حطباً للنار بسبب الغواية والعناد وما في معناه من الجهالة وعدم الإدراك ليكون فيه زيادة في الوعيد، وباعث للتخويف من النار، وبيان لماهية عذابها وما فيه من الشدة والألم.
ويدل على العموم في كون أهل النار حطباً لها نصوص منها ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “لو كان هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون، وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه، لاحترق المسجد ومن فيه”)( ).
وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أدنى أهل النار عذاباً يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار، يغلي دماغه من حرارة نعليه).
ومن إعجاز القرآن أن البشارة بالنجاة جاءت مقيدة بالتقوى المطلقة قال تعالى[وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ]( )، لتشمل أموراً:
الأول: التقوى من الله.
الثاني: إجتناب السيئات.
الثالث: الخشية من يوم الحساب، ولزوم الإستعداد له.
وإذا كانت تقوى الله على نحو الإستطاعة والمقدرة لقوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا]( )، فهل تقوى النار أيضاً على نحو الإستطاعة الجواب لا، بدليل الآية أعلاه التي ذكرت وجوب الإستماع للتنزيل والطاعة لله والرسول ليكون فيه نجاة من النار، إن تلاوة هذه الآية ذاتها إستجارة من النار، وكذا ذكر الله وتسبيحه.
ومن خصائص الحياة الدنيا أنها دار الوقاية من النار، إنتفع المسلمون من هذه النعمة وتبعث هذه الآية على عدم تضييع فرصة السلامة والوقاية من نار الآخرة بالصلاح والذكر في الحياة الدنيا.
(عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِى الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ. قَالَ فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهْوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ عِبَادِى قَالُوا يَقُولُونَ يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ.
قَالَ فَيَقُولُ هَلْ رَأَوْنِى قَالَ فَيَقُولُونَ لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ. قَالَ فَيَقُولُ وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِى قَالَ يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا . قَالَ يَقُولُ فَمَا يَسْأَلُونِى قَالَ يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ . قَالَ يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا.
قَالَ يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً. قَالَ فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ قَالَ يَقُولُونَ مِنَ النَّارِ.
قَالَ يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَوْهَا. قَالَ يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً. قَالَ فَيَقُولُ فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّى قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. قَالَ يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ فِيهِمْ فُلاَنٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ. قَالَ هُمُ الْجُلَسَاءُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ)( ).
وهل الوعيد بالنار على سبيل الحقيقة أم المراد التهديد والتخويف، الجواب هو الأول فإن ما يخبر به القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة وليس مجازاً، نعم قد يأتي تخصيص بدليل ونص آخر، وليس في الوعد بالجنة لأهل الإيمان، والوعيد بالنار لأهل المعصية من ناسخ، فهي آيات محكمات.
ولكن جاءت الآيات والسنة لبيان سبيل دخول الجنة، والنجاة من النار، لذا فإن قوله تعالى(أعدت للكافرين) لا يتعلق بكفار مخصوصين بأعيانهم، بل من يتلبس بالكفر ولم يتخل عنه ويتعمد ترك طاعة الله ورسوله، ويأتي الوعيد من إصابة شظايا ولهب من النار في المعاملات في الحياة الدنيا لبيان قبح معصية مخصوصة، والتذكير بنار الآخرة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه، فإنما أقطع له قطعة من النار)( ).
وفي الحديث تأديب للحكام والمسلمين جميعاً، لبيان إن الحكم الظاهري على البينة والشهود واليمين لا يغير من ماهية الحق فلو حكم القاضي بأن المال لزيد بعمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: البينة على من إدعى واليمين على من أنكر)( ).
ولم يكن هذا المال في الحكم الواقعي لزيد فإن هذا الحكم لا يحل له المال، لأن الحق واحد، ومن خالفه عن عمد وإصرار فهو آثم، وجاء الحديث لتذكيره بالنار، ولبيان الملازمة بينها وبين أكل الباطل لذا جاءت آية البحث بعد قوله تعالى[لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( ).
ساعة قبض الروح
يبدأ عالم الآخرة من حين دخول الإنسان القبر، بعد أن تغادر الروح الجسد، ويعجز عن العمل، ويدرك ألا عودة إلى الدنيا للتدارك والإنابة وفي التنزيل[رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا]( ).
ومن أسرار خلق الإنسان تولي ملك الموت قبض روحه، فمع تعدد وكثرة أجيال الناس وموت المتعدد في اللحظة الواحدة فإن ملك الموت وأعوانه يتحملون هذه المسؤولية من غير كلل وملل.
وهل يأتي ملك الموت بذات الهيئة لجميع الناس، أم أن صورته وهيئته تتباين، الجواب هو الثاني، فيأتي للمؤمن بصورة بهية، ويأتي للكافر بصورة قائمة تبعث الفزع والروع في القلب ليكون هذا التباين مقدمة ومرآة للتضاد بين ثواب المؤمن، وعذاب الكافر في الآخرة.
(وروي عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه قال لملك الموت هل تستطيع أن تريني صورتك التي تقبض عليها روح الفاجر قال لا تطيق ذلك قال بلى قال فأعرض عنى فأعرض عنه ثم التفت فإذا هو برجل أسود قائم الشعر منتن الريح أسود الثياب يخرج من فيه ومناخيره لهيب النار والدخان فغشي على إبراهيم عليه السلام ثم أفاق وقد عاد ملك الموت إلى صورته الأولى فقال ملك الموت لو لم يلق الفاجر عند الموت إلا صورة وجهك لكان حسبه)( ).
لتكون صورة ملك الموت مقدمة علمية لعالم الآخرة وبشارة للمؤمن، وإنذاراً للكافر، وباباً لنماء اليقين في القلب وورد(أن النبي سأل جبرئيل عن تفسير اليقين، قال: المؤمن يعمل لله كأنه يراه)( ).
لقد فرض الله على الناس الفرائض والواجبات كما في قوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] وكتب عليهم على نحو الحتم والقطع مغادرة الدنيا، وترك ما يملكون فيها كاللباس المخلوع قهراً، قال تعالى[قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ] ( )، ومن خصائص ملك الموت أنه لا يمل ولا يتعب ولا يخطئ في قبض روح الشخص المطلوب، وليس عنده تقديم أو تأخير عن الأجل المحتوم للإنسان.
وجاءت الآية أعلاه بصيغة العموم (يتوفاكم)، فلا ينجو أو يسستثنى إنسان من الموت، وفي الآية بيان لوظيفة ملك الموت وهي قطع صلة الإنسان بالدنيا إلى الأبد وقبض روحه، ومغادرتها الجسد الذي يصبح جثة هامدة، وفيه تذكير بحقيقة وهي أن حياة الإنسان رشحة من قوله تعالى[فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا]( ).
ولا ينتهي الأمر عند قبض الروح بل يصبح الإنسان من أهل العالم الآخر، ولا ينجو إلا من إستعد لساعة قبض الروح الحتمية، ومن أسرارها أنها قريبة من الإنسان في كل أيام حياته، ليس من ساعة مستثناة من إحتمال الموت فيها لذا فإن إجتيازها بالأمن من ملك الموت وأعوانه يستلزم الشكر لله عز وجل، لتكون أفراد الشكر من اللامتناهي.
وهو باب لدفع الموت وفيه منسأة في الأجل، وشاهد على بلوغ مرتبة التقوى، والخشية من النار، ذكر(أن إبليس قال: أي رب، أخرجتني من الجنة من أجل آدم، وإني لا أستطيعه إلا بسلطانك، قال: فإنك مسلط، قال: أي رب، زدني قال: لا يولد له ولد إلا ولك مثله، قال: أي رب زدني.
قال: أجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، قال آدم: أي رب إنك سلطته علي ولا أمتنع منه إلا بك، قال: لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من يد السوء، قال: أي رب، زدني قال: حسنة عشرا وأزيد، والسيئة واحدة، قال: أي رب زدني قال: باب التوبة مفتوح مادام الروح في الجسد، قال: أي رب زدني، قاليَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( ).
وقوله تعالى(الذي وكل بكم) بيان لحقيقة وهي أن ملك الموت مأمور من عند الله بقبض الأرواح فلا يقدر على نقل العباد من عالم الدنيا إلى البرزخ بقبض أرواحهم، ومن البرزخ إلى دار الجزاء في الجنة أو النار إلا الله عز وجل.
وهو الذي أبقى باب التوبة مفتوحاً حتى آخر لحظة من حياة الإنسان، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله تعالى يغفر لعبده أو يقبل توبة عبده ما لم يغرغر( ))( ).
إصطلاح بلاغي جديد (البيان بالأعم)
جاء القرآن بمدارس البلاغة والفصاحة لتكون إعجازاً متجدداً للقرآن، ووسيلة سماوية لإصلاح المسلمين والناس جميعاً لأمور الدين والدنيا وتهذيب الأخلاق، وترك الكدورات، وضروباً من البديع تبعث الحياة في لغة القرآن، قال تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
والبلاغة رشحة مباركة وعرض في سنخية الأوامر والنواهي والأحكام القرآنية مطلقاً لتكون في ماهيتها إعجازاً آخر، ويجتمع في هذه الأوامر والنواهي أمور:
الأول: مجيؤها بأحسن لغة تجذب الناس للعمل بمضامينها.
الثاني: البيان والوضوح المنبسط على كل آيات القرآن.
الثالث: أسمى وأبهى مصاديق البلاغة لتكون آيات القرآن منهلاً مباركاً لعلوم مستحدثة من البلاغة.
ويتجلى للعيان تخلف مدارس البلاغة عن سبر أغوار هذا العلم في ثنايا آيات القرآن، وبما يناسب القول بأن إعجاز القرآن في بلاغته، ولا تزال هذا المدارس في المراتب الأولى من سلم البلاغة القرآني الذي ليس له حد من طرف الكثرة وتعدد العلوم التي تؤكد نزوله من عند الله وتساهم في السياحة في كنوز المعارف التي تتضمنها آياته.
ولما جاءت الآية السابقة بالنهي عن أكل الربا وأخذ الزيادة على القرض بقوله تعالى(لا تأكلوا الربا) والحث على الخشية من الله، جاءت هذه الآية بإرادة المعنى الأعم من أكل الربا وبيان حقيقة وهي أن وظيفة المسلمين مجتمعين ومتفرقين لزوم السعي في الدنيا للسلامة والأمن من النار في الآخرة.
وتحتمل النسبة بين التنزه عن أكل الربا وبيان إتقاء النار وجوهاً:
الأول: التساوي، وأن إجتناب الربا واقية وأمان تام من النار.
الثاني: إجتناب الربا أحد أسباب النجاة من النار.
الثالث: إنتفاء الملازمة أو الصلة بين الأمرين.
والصحيح هوالثاني، لذا تعقب الإنذار من النار النهي المخصوص عن الربا وكأنه من عطف العام والخاص، ولبيان الوظيفة الأعم للمسلمين بإجتناب موارد دخول النار التي لا تنحصر بأكل الربا بل تشمل ركوب المعاصي الأخرى.
ومن منافع البيان بالأعم بعث الإحتراز في نفوس المسلمين من أسباب ولوج النار، وعدم الوقوف عند موضوع مخصوص للنهي، فالإنشغال بلزوم إجتناب الربا لم يمنعهم من اليقظة والحذر من المعاصي الأخرى، ولما جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء فإنه سبحانه رغّب في فعل الصالحات، وزجر عن السيئات مجتمعة ومتفرقة، ومنها وصول التبليغ وإقامة الحجة والبرهان على الناس جميعاً وإن تباينت مداركهم وهو برزخ دون الإفتتان بأهل البدع وفيه دفع لصيغ الشك التي يثيرها أهل الريب كما يتجلى في قوله تعالى[قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا]( ).
قوله تعالى(أعدت للكافرين)
في الآية بيان لعلة خلق النار، وأن وجودها حق، وهو شاهد بأن الله هو الحكيم الذي جعل الدنيا مزرعة الآخرة، وما يعمل الإنسان فيها يجده أمامه عاقبة وجزاء وليس من تساو أو تشابه في الكم والكيف بين الفعل والجزاء عقوبة وثواباً، فلذة في محرم لجزء من ساعة من ليل أو نهار عن جحود وإصرار يعقبها عذاب دائم، وفعل عبادي في دقائق، وصدقة قليلة تترتب عليهما سعادة أبدية دائمة.
وإخبار الآية عن خلق النار للكافرين من عمومات قوله تعالى(إني أعلم ما لا تعلمون) في رده تعالى على الملائكة حينما أنكروا جعل آدم خليفة في الأرض بما تفعله ذريته من الفساد وإراقة الدماء بغير حق.
ومن الآيات أن خلق النار ليس للمفسدين إنما للكافرين بلحاظ أن الكفر هو أصل الفساد وهو سبب التعدي والظلم والجور، ومع الإيمان يكون الصلاح والأمن، لذا فمن إعجاز القرآن وبيان رأفة الملائكة بالإنسان أنها إحتجت على الفساد في خلافة الإنسان في الأرض وليس الكفر كما ورد في التنزيل[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، وفيه مسائل:
الأولى: الدلالة على تعظيم الملائكة لمقام الربوبية.
الثانية: تنزه الملائكة عن ذكر الكفر والجحود.
الثالثة: رجاء توبة وإنابة الإنسان.
الرابعة: إذا كان الفساد قد إستلزم إحتجاج الملائكة , فكيف بالكفر والجحود.
الخامسة: بين الفساد والكفر عموم وخصوص مطلق , فالكفر من أفراد الفساد وأكثرها قبحاً.
فإن قلت قد يحدث قتل عند أهل الإيمان والجواب نعم، ولكن عقوبته في الدنيا، قال تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( )، وباب التوبة مفتوح، وقد تدفع العقوبة عن المؤمن بفضل من الله.
وصحيح أن النار أعدت للكافرين إلا أن الآيات الأخرى توسع في حكمها، ومن يستحق الدخول فيها كما في قوله تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
ويبين التدبر في الذين جاءهم الوعيد بالنار أن الأصل في أفعالهم هو الكفر والجحود، وأن المنافق مثلاً يخفي الكفر وإن أظهر الإيمان والله عز وجل[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( )، وفيه دعوة لإصلاح الإنسان سريرته، والتخلص من كدورات الريب والشك والظلمانية.
لقد تفضل الله عز وجل وجعل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ليتضمن بلحاظ قوله تعالى(أعدت للكافرين) أموراً:
الأول: تأكيد خلق النار، وأنها موجودة كنار موقدة محرقة وجاهزة لأصحابها الذين يعاقبون فبها .
الثاني: بيان عظيم قدرة الله عز وجل في خلق الجنة والنار.
الثالث: الإخبار عن حكمة الله في إعداد مادة وأصل الجزاء قبل الفعل، فالإنسان في الحياة الدنيا يهيئ المحل والوعاء والظرف عند الحاجة إليه، وقد خلق الله عز وجل فإنه خلق النار قبل آلاف أو ملايين السنين من الحاجة إليها , وفيه نكتة وهي أن تقدم خلقها من عمومات رحمة الله عز وجل بالناس، لأن الإخبار عن إعداد النار ووجودها الفعلي دعوة للإنزجار عن أسباب دخولها واللبث فيها، وكما تفضل والله سخّر السماوات والأرض والليل والنهار للناس ومعاشاتهم وعباداتهم.
فإنه سبحانه سخّر سبق وتقدم خلق النار زماناً للناس لبعث النفرة من الكفر، وإزدراء الكفار وإجتناب مخالطتهم إلا مع الحاجة والضرورة، قال تعالى[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( )، والكفار هم الظالمون لأنفسهم وغيرهم.
وكم من إنسان همّ بالمعصية تذكر النار فكف عن المعصية، ليكون سبق إعداد النار من اللطف الإلهي في تقريب الناس لفعل الصالحات، وجعل برزخ بينهم وبين السيئات.
وهناك سلطان من الحجة على الإنسان في فعله بالإخبار السماوي عن تقدم إعداد النار وأنها موجودة وبإنتظار أهلها من الكفار المارقين، ولو جاءت الآية بالقول (اتقوا النار التي سوف تعد للكافرين) لقال فريق من الناس إن هذا وعيد وتخويف يمحو الله أسبابه، وأنه سبحانه يعفو يوم القيامة عن الناس فتبقى النار بلا أهل وأصحاب، وفي التنزيل[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( )، ومن المحو إعداد وخلق النار في الآخرة .
ومنهم من قال في آية البحث أنها جاءت للتهديد والتخويف ولا يعني أن النار موجودة حقيقة، وهذا القول خلاف الظاهر والنص، إذ أن الكلام العربي يحمل على الحقيقة إلا مع القرينة على المجاز، وهي معدومة في المقام، وجاءت النصوص من السنة بأن النار موجودة.
(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهذه الآية
لقد تفضل الله عز وجل على المسلمين ببيان الأحكام التكليفية الخمسة ومصاديقها العملية، وآثارها، وثواب الطاعة فيها، وما يترتب على تركها من الإثم والعقاب، ليكون المسلمون الحجة على الناس، والمبلغين عن الله، والداعين إلى الإسلام.
فجاء الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكون مصاحباً للمسلم في حياته العبادية ومعاملاته يلقيه لغيره ويتلقاه برضا وقبول من أخيه المسلم، وهو سر ثبات الإيمان في النفوس، وإشراقة الصلاح بين الناس، وليس من تعيين لزمان ومكان الأمر بالمعروف والترتيب فيه معدوم.
فقد تأمر الزوجة زوجها وينهى الصغير الكبير، والعبد السيد، ويأتي الأمر من البعيد والخصم لأنه واجب مطلق على المسلمين لا موضوعية فيه للعداة والخصومة، ليكون الأمر والنهي وسيلة وصلة لأسباب المودة بين الناس، ومناسبة للتفقه في الدين، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وتتضمن الآية أعلاه ذكر علة تفضيل المسلمين، وأنهم أمة تواظب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه تأكيد مصاحبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المسلمين في جميع أجيالهم، لن يفارقهم، وهم لم ولن يتركوه لأن فيه دوام الحياة على الأرض.
وإذا كانت علة خلق النار هي إعدادها للكافرين، فإن علة خلق الناس هي عبادة الله، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، وتتقوم العبادة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما سبب لأمور:
الأول: تثبيت المسلمين في منازل الإيمان.
الثاني: سلامة المسلمين من الزلل والزيغ، وفي التنزيل[رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا]( ).
الثالث: توارث أجيال المسلمين لسنن الإيمان.
الرابع: محاربة الكفر والضلالة بالسيف واليد واللسان كل حسب مرتبته، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رأى منكم منكرا فلينكره بيده إن استطاع، فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه، فحسبه أن يعلم الله من قلبه إنه لذلك كاره)( ).
الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برهان عملي على تغشي الأرض بصبغة الإيمان.
السادس: فوز المسلمين بالثواب العظيم جزاء على قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يترتب عليه من الأثر في الواقع الخارجي سواء الأثر الذاتي أو عند المتلقي أو العرضي.
أما الذاتي فهو حرص المسلم على التقيد بما يأمر به، وإجتناب ما ينهى عنه، وجاء في التنزيل في ذم قوم من الأمم السابقة[أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ]( ).
وأما المتــلقي فهو الذي يتوجه إليه المسلم بالأمر المعروف والنهي عن المنكر، فيبــين له أن النــار حق وأنها مخلوقة قبل أن يولد، وقد هيأها الله عز وجل للكفار خاصة الذي يجحدون بالربوبية والتوحيد.
وأما العرضي فهو الذي يسمع ويرى الأمر والنهي وإن لم يكن مقصوداً بهما، وقد يكون إنتفاعه منهما أكثر من المتلقي، أو أنه يكون ناقلاً للأمر والنهي فينتفع الغير متحداً أو متعدداً من فعله.
ولقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرطاً تقومت به بيعة الأنصار في العقبة وفرضاً تولى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأهل بيته الجهاد في مسالكه ليبينوا لأجيال المسلمين بالبرهان العملي الحاجة إليه، ومنافعه العظيمة ولزوم الإقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سبل الجهاد في سبيل الله بالموعظة الحسنة.
(وبالإسناد عن جابر بن عبد الله قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وفي الموسم بمنى يقول من يؤوينى من ينصرني حيث ابلغ رسالة ربى وله الجنة
قال فقلنا حيث متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدمنا عليه في الموسم فوعدناه شعب العقبة فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين حتى توافينا
فقلنا يا رسول الله على ما نبايعك قال تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وان تقولوا في الله لا تخافون لومة لائم وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناء كم ولكم الجنة فقمنا إليه فبايعناه)( ).
وليس من قانون للرقابة العامة على المجتمع ويتولاها كل المجتمع في تأريخ الإنسانية مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن فضل الله على الناس أنه ليس خاصاً بالمسلمين بل جاء به الأنبياء جميعاً ولكن المسلمين توارثوا العمل بمضامينه، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
أي جاء ذات التكليف بالأمر والنهي إلى الأمم السابقة فلم يتعاهدوه، وإنفرد المسلمون بحمل لوائه، قال تعالى[إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً]( ).
ومن إعجاز القرآن أن كل آية فيه مادة وموضوع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها آية البحث التي تبعث على الصبر على الطاعات، والتحلي بالأخلاق الحميدة والصبر عن الشهوات، ليكون كل فرد منها واقية من النار، وشاهداً على التنزه عن الكفر.
ومن مواضيع النهي عن المنكر التي تخص الآية الزجر عن المعاصي التي هي سبب للآثام وتراكم الذنوب ودخول النار.
فإن قلت إن الفقهاء يقيدون النهي عن المنكر بغلبة الظن بإمتناع المنهي عن ذات الفعل القبيح والمكروه ، والجواب من وجوه:
الأول: هذا القيد غالبي، وليس من دليل صريح عليه من كتاب وسنة.
الثاني: منافع النهي عن المنكر أعم من الشخص المتلقي أو المستمع مطلقاً.
الثالث: لما كان الأمر والنهي واجباً ذاتياً على المكلفين فإن العمل به باب للثواب والأجر.
الرابع: لا يختص الأثر المترتب على النهي عن المنكر بالواقعة وذات الفعل المنهي عنه.
فقد تحصل توبة وإقلاع وترك غيره من المعاصي نتيجة هذا النهي، وهو من فضل الله عز وجل في تنمية ملكة النفرة من القبائح في النفوس، قال تعالى[وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ]( ).
وقيل من شرائط النهي عن المنكر أن لا يكون المنهي عنه قد حدث واقعاً، ولا أصل لهذا الدليل، لمجيء النهي عن ذات الفعل القبيح، ولإمكان التوبة والإنابة والإستغفار، وليتعظ الناس فيتجنبوا ما فيه الذم والتبكيت، وإلا فإن آية البحث تدعو في منطوقها ومفهومها المسلمين لنهي الكفار عن الكفر والصدود عن النبوة، وتدعوهم لترك ما يتلبسون به من الضلالة والجحود.
إصطلاح بلاغي جديد
التحذير المتعدد
وهو أن يأتي التنبيه والتحذير من فعل قبيح، مع ذم صاحبه ومرتكبه بالذات أو العرض، كما جاء في آية البحث بإخبار المسلمين بأن النار(أعدت للكافرين) وفيه منافع منها:
الأول: الثناء على متلقي التحذير، إذ تدل الآية في مفهومها على مدح المسلمين لإيمانهم وصلاحهم.
الثاني: تأديب المتلقي بإجتماع التحذير من ذات الفعل المذموم، ومن التشبه بفاعله، لذا فإن آية البحث أمرت المسلمين بالتوقي من النار، والحيطة والحذر من الذين أعدت لهم بصفة الكفر والجحود التي كانت السبب في هذا الإعداد.
الثالث: تأكيد التباين بين الذي يتوجه إليه التنبيه والإنذار وبين مرتكب الفعل المذموم وهو موضوع التحذير.
الرابع: يدل التحذير في مفهومه على سوء وقبح المنهي عنه، كما في آية البحث إذ أنها تدل على ظلم الكفار لأنفسهم، وعداوتهم لله عز وجل قال تعالى[ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ]( ).
الخامس: التفقه والتبصر في الأمور فإذا لم يلتفت الإنسان إلى التحذير الأول يأتيه التحذير الثاني، ومع قلة عدد كلمات الآية فقد تعدد فيها الإنذار، وهو على أقسام:
الأول:الوقاية والإحتراز من النار.
الثاني: وجوب إجتناب أسباب الهلكة والخسارة في الآخرة.
الثالث: التحذير من الكفر لأنه يؤدي إلى النار.
ومن بلاغة القرآن الإعجازية عدم وجود فاصلة بين أفراد الإنذار في الآية، وكل واحد منها عون للثاني، فمع أن موضوع الآية متحد فإن الإنذارات فيها متداخلة موضوعاً وحكماً، وفيه جذب سماوي للعمل بمضامين الآية وأداء المسلمين التكاليف بيسر وبأمان لأن العذاب الأخروي أُعدّ لغيرهم ممن يصر على الجحود بالربوبية , ومعجزات النبوة العقلية والحسية.
قانون إختصاص الكفار بالنار
لقد هبط آدم وحواء إلى الأرض عقب زلة الأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها، ولم يأت هذا الأكل بمبادرة وإختيار منهما، بل بإغواء من إبليس وهما لا يعلمان أن في الجنة من هو عدو لهما إذ قاسا حسن سمت الملائكة على سكنة وأهل الجنان مطلقاً، قال تعالى[فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ]( ).
وليس من برزخ بين حياة الرغد في الجنة والشقاء في الهبوط إلى الأرض , وكذا يوم القيامة فليس من برزخ بين الجنة والنار , وشرط الحياة في الأرض هو العبادة والصلاح.
وهي بلغة لدخول الجنة ومن أسباب إتخاذ الحياة وسيلة ومادة لدخول الجنة آية البحث إذ تتضمن الإنذار من الكفر، والإخبار عن قبحه وأنه طريق يؤدي إلى النار، والإنسان حريص بطبعه على إختيار الأمن والسلامة، وهذا الحرص يأتي من طريقين:
الأول: فطري ضروري.
الثاني: الإكتساب بنظر العقل والتدبر، وإدراك الحواس.
وقد حذّر الله بني آدم من الشيطان وأخبرهم أنه عدوهم، ونعته بالكفر بقوله تعالى[وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ].
وجاء الأنبياء بالحرب على الكفر والكافرين، وفي دعاء نوح ورد في التنزيل[رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا]( )، ودياراً أي يدور في الأرض، بذهب ويجيء فيعال من الدوران.
(وأخرج إسحق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن نوحاً عليه السلام كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته، يرون أنه قد مات ثم يخرج فيدعوهم، حتى إذا أيس من إيمان قومه جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا فقال: يا بني أنظر هذا الشيخ لا يغرنك.
قال: يا أبت أمكني من العصا، ثم أخذ العصا ثم قال: ضعني في الأرض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجه موضحة في رأسه وسالت الدماء، قال نوح عليه السلام: رب قد ترى ما يفعل بي عبادك، فإن يكن لك في عبادك حاجة فاهدهم، وإن يكن غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين.
فأوحى الله إليه وآيسه من إيمان قومه، وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن قال{وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون}( ) يعني لا تحزن عليهم {واصنع الفلك}
قال: يا رب وما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجري على وجه الماء، فأغرق أهل معصيتي وأطهر أرضي منهم قال: يا رب وأين الماء؟ قال: إني على ما أشاء قدير)( ).
وهل جاء الكفر للكافرين بالفطرة وأصل الخلقة أم بسوء الإكتساب , الجواب هو الثاني(عن عياض بن جمار عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال: خَلَقْتُ عِبَادِى حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِى مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا)( ).
ومع أن قريشاً أصروا على الكفر، ولاقى صنوف الأذى منهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه، وأكثرهم في بداية الدعوة من قريش نفسها، إلا أن النبي دعا لقريش، وسأل الله عز وجل لهم الهداية ودخول الإسلام.
ومن الآيات أن إستجابة دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الخصوص جاءت متعقبة للدعاء على نحو تدريجي فيأتي الأفراد من قريش مهاجرين إلى المدينة، ويدخل بعضهم الإسلام وهو في مكة ويخفي إسلامه إلى أن جاء فتح مكة سنة ثمان للهجرة فتحققت على نحو الموجبة الكلية الإستجابة لدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيهم، وعندما قتل أفراد سرية بعثها النبي بعض أولاد المشركين وجه لهم اللوم وأقام عليهم الحجة بلغة البيان.
(في حديث الأسود بن سريع قال بعث النبي صلى الله عليه و سلم سرية فأفضى بهم القتل إلى الذرية فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم ما حملكم على قتل الذرية قالوا يا رسول الله أليسوا أولاد المشركين ثم قام النبي صلى الله عليه و سلم خطيبا فقال إن كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه)( ).
ليحدث نزول آية البحث طمأنينة في قلوب المسلمين لحسن إختيارهم الإسلام، ونبذهم الكفر، وفيه دعوة لهم لحث الناس على النجاة من النار والعذاب الأليم، وتتجلى هذه النجاة حصراً بدخول الإسلام، لأن المراد من الكفر في الآية الكفر بالربوبية والجحود بمعجزات النبوة، والإصرار على عبادة الأوثان والتخلف عن أحكام الحلال والحرام , وعن علة الخلق وهي العبادة.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن معاوية بن قرة قال: كان الناس يتأولون هذه الآية {واتقوا النار التي أعدَّت للكافرين} اتقوا لا أعذبكم بذنوبكم في النار التي أعددتها للكافرين)( )، أي أن إعداد النار للكفار لم يمنع من تحذير المسلمين من شرها,والآية أعم من هذا المعنى وتتضمن في مفهومها الثناء على المسلمين.
التفسير
قوله تعالى[وَاتَّقُوا النَّارَ]
جاءت الآية معطوفة على ما سبقها وهي في سياق خطاب للمسلمين بأن يجتنبوا الربا وأكله المحرم، لتكون السلامة من النار على قسمين:
الأول: الفعل الإيجابي بإتيان الحسنات(وأخرج البزار وأبو يعلى عن أبي بكر الصديق قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعواد المنبر يقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإنها تقيم العوج ، وتدفع ميتة السوء، وتقع من الجائع موقعها من الشبعان)( ).
والظاهر تعلق الحديث أعلاه بالسلامة من النار في باب الإنفاق والصدقة بقصد القربة، ولبيان حقيقة وهي تعدد سبل الوقاية والنجاة من العذاب الأخروي ولابد من إتقاء النار بالإمتثال في باب العبادات والفرائض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , والإقرار بأن الجنة حق والنار حق.
الثاني: الفعل السلبي، بإجتناب السيئات والمعاصي، التي تؤدي إلى النار.
ويبين مجيء تحذير وإنذار المسلمين والمسلمات من النار بعد آية(لا تأكلوا الربا) على حرمته وأضراره في الدنيا والآخرة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أكل درهم الربا أشد من خمس وثلاثين زنية)( ).
ويدل حرف العطف في(وإتقوا) على أن التوقي من النار أعم في موضوعه وحكمه من أكل الربا، وفعل سيئة مخصوصة، وإذا كانت السيئات والذنوب محصورة في ماهيتها وعددها فإن صيغ وكيفية إتقاء النار من اللامتناهي وغير محصورة بحد مخصوص بالإضافة إلى فيض ولطف من الله عز وجل، وهو أن القليل من الإحسان يهدم ويمحو الكبير والمتعدد من الذنب والمعصية.
(وأخرج ابن حبان عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبد عابد من بني إسرائيل فعبد الله في صومعة ستين عاماً، فأمطرت الأرض فأخضرت، فأشرف الراهب من صومعته فقال: لو نزلت فذكرت الله فازددت خيراً، فنزل ومعه رغيف أو رغيفان.
فبينما هو في الأرض لقيته امرأة فلم يزل يكلمها وتكلمه حتى غشيها، ثم أغمي عليه، فنزل الغدير يستحم فجاء سائل فأومأ إليه أن يأخذ الرغيفين ثم مات، فوزنت عبادة ستين سنة بتلك الزنية فرجحت الزنية بحسناته، ثم وضع الرغيف أو الرغيفان مع حسناته فرجحت حسناته فغفر له)( ).
وفيه دعوة لإقتران العبادة بالإحتراز من ضدها، والسعي في فعل الصالحات ودلالة بأن رجحان الحسنات بفضل ولطف من الله ومضاعفة فعل الخير، وأجر الصالحات(وفي الصحيح: “لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط”)( ).
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، لملازمة الحاجة لعالم الإمكان وحاجات الإنسان أعم من أن تنحصر بالحياة الدنيا، بل هذه الدنيا تفتح أبواب الحاجة على الإنسان في أفراد العوالم الطولية، فهو في دأب مستمر لكسب القوت وطلب الأمن والسلامة في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة .
وجاءت آيات القرآن بالجهاد في سبيل الله لبيان حقيقة وهي أن المسلمين يمتازون بخصوصية وهي تحمل الأذى في النفس والمال من أجل إصلاح الآخرين وقضاء حوائجهم في الدنيا والآخرة، فيقاتل المسلمون قوماً ليدخلوا في الإسلام هم ومن خلفهم، فيكون نجاة لهم.
ومجيء قوله تعالى(وإتقوا النار) في نظم الخطاب للمسلمين دعوة لهم لمواصلة قتال الكفار لأنه أسمى طريق للوقاية من النار، وكذا إجتناب المعاملات الباطلة، والأفعال المحرمة.
لقد جاءت الآية بصيغة الجمع(وإتقوا) ليشمل الخطاب المسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، وليس من إستثناء في الخطاب لعدم وجود مخصص في البين، ليكون هذا العموم بشارة النجاة من النار لتوجهه إلى المؤمنين والمسلمين، إلى الأولياء والصالحين قال تعالى[فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وتحتمل السلامة من الخوف في الآية أعلاه وآيات أخرى مشابهة لها وجوهاً:
الأول: الأمن والسلامة من الخوف في الحياة الدنيا.
الثاني: الأمن والنجاة من الفزع في عالم البرزخ.
الثالث: السلامة في عالم الحساب ومواطن الآخرة المتعددة.
الرابع: السعادة في عالم الجزاء بدخول الجنة والأمن من النار، قال تعالى[وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ]( ).
والصحيح هو العموم، وشمول هذه العوالم بالأمن لوجوه:
الأول: أصالة الإطلاق.
الثاني: إنعدام وجود مقيد في البين.
الثالث: إذا أعطى الله عز وجل فإنه يعطي بالأوفى والأتم وهو الرؤوف الرحيم.
وجاءت الآية بصيغة الإجمال، والإتيان بالمسبَب-بالفتح- وإرادة الأسباب، أي أن الآية تحذر من الأفعال التي تؤدي إلى ولوج النار والتي جعلها القرآن والسنة ظاهرة بينة، والأصل بصريح الآية الكريمة هو الكفر والضلالة.
ويحتمل الأمر للمسلمين (وإتقوا النار) وجوهاً:
الأول: إنه خاص بالمسلمين، وكيفية صلاحهم، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ]( ).
الثاني: إرادة بعث المسلمين وأهل الكتاب على الحذر والحيطة من النار.
الثالث: الخطاب إنحلالي والمراد منه يجب على كل مسلم ومسلمة التوقي والحذر من النار.
الرابع: إرادة المسلمين والناس جميعاً.
الخامس: إتقاء المسلمين النار على نحو العموم المجموعي كأمة واحدة.
والصحيح هو الثالث والرابع والخامس.
وتبعث كل آية تذكر النار الفزع والخوف في النفوس لذا جاءت النصوص بالوقوف عندها وسؤال النجاة من حرها ولهيبها، وشدة العذاب فيها الذي ليس له حد، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: أوقِدَ عَلَى النَّارِ ألْف سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أوقِدَ عَلَيْهَا ألْفُ سَنَةٍ حَتَّى أبيضَّتْ، ثُمَّ أوقِدَ عَلَيْهَا ألْف سنَةٍ حَتَى اسْوَدَّتْ، فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ)( ).
وقيل أن النار لم تخلق للمؤمنين (ولكن خوفّهم الله بها زجراً وموعظة، كالأب البار المشفق على ولده يخوفه بالأسد والسيف، وهو لا يضربه بالسيف، ولا يلقيه إلى الأسد، فهذه الآية تلطف وشفقة على عباده)( ).
ولكنه قياس مع التباين وليس الفارق وحده، فليس في الآية تخويف بالإلقاء بالنار كالذي يتوعد بالأسد والسيف، بل تتضمن ذات الآية دعوة المسلمين لتعاهد إمتيازهم بأداء الفرائض , وببعث السكينة في نفوسهم بإخبارها بأن إعداد النار لأعدائهم.
وقد أبى الله عز وجل أن يجتمع المؤمنون مع الكفار في منازل الآخرة، قال تعالى[يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ]( )، بلحاظ التباين والتباعد بين محلي السعادة والشقاوة , ليكون هناك تواتر نقلي بين الأجيال على التسليم بخلق النار وإدراك العقول والحواس في الدنيا لحرها ولهيبها وأنها ليست معدومة بل هي مخلوقة وقريبة.
وذات النار هل تعلم أنها أعدت للكافرين، أم أنها مثل نار الدنيا جرم وجسم لطيف لا يدرك ولا يعقل , الجواب هو الأول، بدليل الآيات التي تفيد مخاطبة النار وإجابتها، قال تعالى[يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ]( ).
لذا فإن النار تعلم أنها أعدّت لأعداء الدين، وللجبابرة الكفار العاصين، (عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: لن يدخل الجنة عبد في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر
ولا يدخل النار عبد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. قلت: جعلت فداك إن الرجل ليلبس الثوب أو يركب الدابة فيكاد يعرف منه الكبر. قال: ليس بذاك إنما الكبر إنكار الحق، والإيمان الإقرار بالحق)( ).
ويخشى الناس الحريق ولهب النار ويخافون إتساعه وإنتشاره إذ أنها تبدأ صغيرة وتأخذ بالإنتشار كما يرى الناس في هذا الزمان حريق الغابات ونحوها وعجز الوسائل التقنية الحديث عن إطفائه بسرعة.
أما نار الآخرة فلا يخشى منها أهل الإيمان ولا تتجاوز حدها، ولا يصيب لهيبها غير الكفار وإن كان هذا الغير قريباً منها، فهي ذات عقل تعلم إلى من تتوجه وتجذب كعقاب.
وقد تقدم في تفسير قوله تعالى(إن منكم إلا واردها)( ) أن المؤمنين يردون النار فلا تؤذيهم لأنها غير مأمورة بعذابهم كما تقدم بيانه، وتلك آية في بديع صنع الله ومصداق من إعجاز آيات القرآن، وما فيها من الإشارات التي لا تخفى على أرباب العقول , قال تعالى[إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ) ليتخذ المؤمنون من هذه الذكرى بلغة للتبليغ ووسيلة لعمارة الأرض بمصاديق التقوى , وأسباب الهداية والصلاح بين الناس .
قانون أسباب دخول النار
تدل الآية على لزوم التوقي من الموبقات وأسباب الهلكة التي تدخل الإنسان النار، وجاءت بخصوص الكفر والجحود وأنه علة تهيئة وإعداد النار الأخروية.
وورد قوله تعالى(أعدت للكافرين) بصيغة الجمع مما يدل على علم الله عز وجل بوجود كفار بين بني آدم، ولو لم يكن هناك كفار فهل تكون النار مخلوقة , الجواب على وجهين:
الأول: لم تخلق لوجوه:
الأول: إنتفاء المعلول بإنتفاء علته.
الثاني: عدم وجود المقتضي.
الثالث: تأكيد رحمة الله في سنخية وموضوع خلق الأكوان.
الرابع: زجر الناس عن الفساد.
الخامس: بيان عظيم فضل الله بخلق الجنة ودخول المؤمنين فيها.
الثاني: إنها مخلوقة لوجوه:
الأول: إنها جزء من بديع صنع الله وعظيم قدرته في خلق المتضادين.
الثاني: إيجاد الموضوع والمحل أعم من وجود الحال فيه.
الثالث: عالم الإمكان أعم من المصداق الفعلي ولا يخلو ترجيح أحدهما من التكلف إذ أنها مخلوقة وأن في الناس من مات على الكفر بشهادة القرآن والوجدان , وبينت آيات القرآن حالهم يوم القيامة , قال تعالى[وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنْ الْعَذَابِ]( ).
فإن قلت إن الله عز وجل يجعل خلق النار تخويفاً ووعيداً وإنذاراً من الكفر، وهو لا يتعارض مع عدم دخول أحد فيها والجواب أن نص الآية الكريمة والآيات الأخرى والواقع العملي في كل زمان يؤكد وجود قوم كافرين.
ويحتمل سبق خلق النار وتقدمه على وجود الإنسان وجوهاً:
الأول: إنه من رحمة الله بالناس في الحياة الدنيا لما فيه من الزجر عن فعل القبائح، وهو من عمومات قوله تعالى[رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا]( ).
الثاني: فيه بيان لبديع صنع الله عز وجل، وعظيم قدرته.
الثالث: تأكيد زوال الدنيا، وأنها مزرعة للآخرة.
الرابع: بعث الفزع والخوف في قلوب الكفار، والمنع من إحتجاجهم يوم القيامة بأنهم لا يعلمون بعالم الجزاء وما ينتظرهم من العذاب الأليم على الكفر والجحود.
الخامس: بعث الناس للإيمان ودخول الإسلام، وفعل الصالحات خوفاً من النار وما فيها من شدة العذاب ورد عن الإمام علي عليه السلام إنه قال: ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعا في جنتك، لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك)( ).
ولا يعني هذا الحديث عدم جواز العبادة خوفاً من النار، ولكنه يبين كمال علة الإيمان وأسبابه، لذا جاء الحديث بصيغة المتكلم المفرد وذكرت الآية علة وموضوع خلق النار وهم الكافرون.
وقد وردت النصوص الخاصة بشدة عذاب الكفار في النار بما يبعث النفرة من القبائح والسيئات وهو من منافع سبق خلق النار، وليس من حصر لهذه النصوص وموضوعاتها، (عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فُلاَنَةَ تَذْكُرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِى جِيرَانَهاَ بِلِسَانِهَا قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ. قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ فُلاَنَةَ تَذْكُرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاَتِهَا وَأَنَّهَا تَصَدَّقُ باِلأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلاَ تُؤْذِى جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ)( ).
وفيه آية في لزوم إستحضار الجزاء والجنة والنار في عالم الأفعال اليومية، وأن الأمر لا يختص بالكفر والجحود بل يشمل المعاملات والصلات الإجتماعية لذا أوصى الله سبحانه ورسوله بالجار مطلقاً القريب والبعيد.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما زال جبرئيل عليه السلام يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)( )، لإستقراء نكتة كلامية من وجوه:
الأول: يوصي جبرئيل بما تكون فيه النجاة من النار وشدة العذاب.
الثاني: في وصيته والإمتثال لها المغفرة ونزول شآبيب الرحمة.
الثالث: الملازمة بين النبوة والأخلاق الحميدة، قال تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
الرابع: جاءت وصية جبرئيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته للمسلمين والمسلمات جميعاً بإعانة الجار وإكرامه، وإجتناب إيذائه والإضرار به.
الخامس: في علم الفقه أحكام خاصة للجوار سواء في البناء وإجتناب التعدي فيه، أو في السقي والكلأ والزراعة، والضابطة الكلية فيه قاعدة : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
وإذ جاءت الأخبار المتعددة في ذاتها وموضوعها ببيان أسباب دخول النار فإن الله عز وجل فتح باب العفو والمغفرة لأهل التوحيد، وورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال(إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته)( ).
وهل مصاديق الرحمة الإلهية في الآخرة خاصة بالمسلمين الجواب لا، فهي مطلقة وشاملة لبني آدم بدليل طمع إبليس وهو الذي أسس الكفر وأول من جحد، كما ورد في التنزيل[قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ]( ).
وجاءت آية البحث بالإخبار عن إعداد النار للكافرين ويحتمل وجوهاً:
الأول: الذي كفر بالله ولو طرفة عين ثم إستغفر وتاب.
الثاني: المرتد الذي يصر على إرتداده.
الثالث: المرتد الذي يتوب من إرتداده، ويصلح حاله.
الرابع: المؤمن الذي يفعل السيئات، ويخلط بينها وبين المعصية، قال تعالى[خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا]( ).
الخامس: الذي يموت مصراً على الكبائر أو الصغائر، ولم يتب إلى الله عز وجل.
السادس: الكافر الذي يغادر الدنيا من غير توبة وصلاح.
والصحيح هو السادس، ويكون الثاني والخامس في طوله، للزوم إقتران الإيمان بالعمل الصالح، والمبادرة إلى التوبة والإنابة.
لقد أراد الله عز وجل من خلق النار وبيان سببه وعلته، وذكر الذين يكونون أهلها وهم الكفار إدراك الناس لما يحيط بهم من الأخطار، وعظيم البلاء الذي يترشح عن الكفر والضلالة.
قانون إعداد النار مدد للمؤمنين
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار صراع بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، والهدى والضلالة، وظهور دولة للمؤمنين وضعف أخرى على الضد منها .
وتفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لجذب الناس إلى منازل الإيمان، ثم تفضل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة الناسخة وجعل الجنة مثوى المجاهدين، قال تعالى[فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ]( ).
أما الكفار فإنهم يضيّعون دنياهم وأخراهم، وهذا التضاد من أسباب نصر المسلمين وزحفهم على مواقع الكفر والضلالة، فبعد أن تكون صولة للكفار ينقلب الأمر وتكون الدولة للإسلام، فمثلاً أخرجت قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة قهراً، وما لبثوا حتى نزل قرآن[وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ]( ).
ليكون فيه بشارة النصر، وجاء فتح مكة آية في غلبة المؤمنين، وقيام دولة الإسلام وبقائها إلى يوم القيامة، وجاءت هذه الآية لتؤازر المسلمين في صبرهم وتقواهم، وهي ذاتها مادة للصبر إذ يهون الأذى حينما تعلم بخسارة وسوء عاقبة عدوك، قال تعالى[فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( ).
ليتجلى الإعجاز في مجيء الآية بصيغتين:
الأولى: لغة الأمر في تقوى الله والخشية منه.
الثانية: الفعل الماضي في إعداد وتهيئة النار، وفيه ترغيب بالإمتثال للأمر الإلهي(إتقوا الله)، وحجة على الكفار بأن العذاب الذي ينتظرهم أمر حتم , وليس من سبيل للنجاة منه إلا بالتوبة من الكفر، والتخلص من الجحود.
وفيه مدد إضافي للمسلمين لذا ترى الجماعات تدخل الإسلام دفعة واحدة، قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( )، فهذه الأفواج تنجو من النار، وتكتب السلامة لذراريها من أليم العقاب، ليكون من إعجاز نظم الآيات مجيء هذه الآية بذكر موضوع إعداد النار، بينما جاءت الآية التالية بذكر عرض الجنة وأنها تسع السماوات والأرض.
وليس من أمة يأتيها المدد والبشارة قبل أن تخلق بإعداد الجنة لها والنار لأعدائها، والمدد أثناء القتال بنزول الملائكة لهزيمة الكفار إلا أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى بخصوص معركة بدر[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )
ويأتي المدد للمسلمين على نحو متصل بنزول آيات القرآن والإنتفاع الأمثل منها في كل زمان، فمن إعجاز القرآن أن كل آية منه عون ومدد للمسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم، ووظائف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن خصائص آية البحث أنها تبعث السكينة في قلوب المسلمين فهي رسالة سماوية تبشر بسلامتهم من النار لأن الله عز وجل خلقها لعدوهم، وتدعو المسلمين لإنذار الكفار بالوعيد، وعدم الخشية منهم، قال تعالى[فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
قانون سبل النجاة من النار
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا(دار النجاة) وهي وعاء السلامة في ذاتها وغيرها وتلك خصوصية تنفرد بها الحياة الدنيا من بين أفراد العوالم الطولية إذ أنها دار العمل، والإمتحان، ومناسبة جني الحسنات وإكتناز الصالحات التي تكون واقية من العذاب الإبتدائي في عالم البرزخ، وحرزاً وواقية من دخول النار.
ومن خصائص الدنيا وما فيها من مصاديق الرحمة الإلهية تفضل الله سبحانه ببعث المسلمين خاصة والناس عامة إلى سبل النجاة في الدنيا والآخرة، وهدايتهم لما فيه صلاحهم ورشدهم.
وجاء القرآن والسنة النبوية ببيان سبل النجاة وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ أن القرآن والسنة قريبان من كل إنسان.
وعن أبي الدرداء قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ فِي جَوْفِ رَجُلٍ غُبَارًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانَ جَهَنَّمَ وَمَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَ اللَّهُ سَائِرَ جَسَدِهِ عَلَى النَّارِ
وَمَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ عَنْهُ النَّارَ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ لِلرَّاكِبِ الْمُسْتَعْجِلِ وَمَنْ جُرِحَ جِرَاحَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَتَمَ لَهُ بِخَاتَمِ الشُّهَدَاءِ لَهُ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْنُهَا مِثْلُ لَوْنِ الزَّعْفَرَانِ وَرِيحُهَا مِثْلُ رِيحِ الْمِسْكِ يَعْرِفُهُ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ يَقُولُونَ فُلَانٌ عَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ وَمَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)( ).
ويأتي الثواب للمسلم في عباداته وذكره ودعائه بما لم تستطع الأوهام إدراك مقداره ومنافعه، ومع هذا فهو في مضاعفة ونماء، ويأتيه الثواب في صِلاته الإجتماعية، والعادات المتوارثة عند عموم الناس، فمثلاً في كل زمان ومكان يعود الناس المريض , ولكن تلك العبادة لها خصوصية في الإسلام تتجلى بسنخيتها وما فيها من النفع للعائد والمعاد، وتوظيفها للدعاء.
وعن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام، سأل عنه، فإن كان غائبا دعا له، وإن كان شاهداً زاره
وإن كان مريضاً عاده، ففقد رجلاً من الأنصار في اليوم الثالث، فسأل عنه فقيل: يا رسول الله، تركناه مثل الفرخ، لا يدخل في رأسه شيء إلا خرج من دبره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: عودوا أخاكم.
قال: فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نعوده، وفي القوم أبو بكر ، وعمر، فلما دخلنا عليه إذا هو كما وصف لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف تجدك؟ قال: لا يدخل في رأسي شيء إلا خرج من دبري، قال: ومم ذاك؟
قال: يا رسول الله ، مررت بك وأنت تصلي المغرب، فصليت معك وأنت تقرأ هذه السورة( القارعة* ما القارعة)( ) إلى آخرها ( نار حامية) قال: فقلت: اللهم ما كان لي من ذنب أنت معذبي عليه في الآخرة، فعجل لي عقوبته في الدنيا، فنزل بي ما ترى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت، ألا سألت الله أن يؤتيك في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ويقيك عذاب النار؟
قال: فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بذلك، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فقام كأنما نشط من عقال)( ).
وقال ابن الجوزي هذا الحديث من الموضوعات لأن في طريقه كثير بن عباد وهو متروك , ولكن الحديث ورد بطرق أخرى عديدة على طوله, وما فيه من بيان لثواب عيادة المريض, ويخفف الامر أن الحديث جاء في المستحبات.
ويبين الحديث الثواب العظيم لعيادة المريض، والدعاء له، والإعتبار من حاله، والشكر لله عز وجل على نعمة العافية سواء كان شكراً قولياً أو فعلياً وفيه دلالة على الأجر والثواب في الأخلاق الحميدة وحسن العشرة، ومواساة المؤمنين،
وإذا كانت عيادة المؤمن المريض مناسبة وطريقاً للثواب في الدنيا والآخرة، فإن مبادرة المسلم إلى فعل الخيرات ونشر مفاهيم المودة والرأفة حسنات ومصاديق للمسارعة إلى المغفرة.
إن إستحضار الموت والتفكير فيما بعده من آيات الله من مصاديق اليقين، ووسيلة للإحتراز من النار، وإجتناب مقدماتها وتتضمن آية البحث بالذات والدلالة هذا التذكير لأن التوقي والخشية من النار في الدنيا، أما ذات النار فهي في الآخرة .
وذكر أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفر لونه، قد نحف جسمه و غارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول الله موقنا، فعجب رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله
وقال: إن لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟
فقال: إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم وكأني أنظر إلى أهل الجنة، يتنعمون في الجنة ويتعارفون وعلى الأرائك متكئون وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرحون وكأني الآن أسمع زفير النار، يدور في مسامعي .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه: هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان، ثم قال له: ألزم ما أنت عليه)( ).
تفسير قوله تعالى[أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]
إخبار الآية بأن النار أعدت للكافرين على نحو التعيين بشارة للمؤمنين بالأمن والسلامة من النار، فإن قيل إذن لماذا جاءت الآية بالأمر للمسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي(إتقوا النار).
الجواب من وجوه:
الأول: إنذار المسلمين من فعل المعاصي.
الثاني: هل يمكن القول بأن النسبة بين الذين يدخلون النار وبين الذين أعدت لهم عموم وخصوص مطلق، فالذين يدخلونها أعم وأكثر، إذ يدخلها الظالمون والمنافقون، قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( )،
الجواب إن النفاق شعبة من الكفر , ليكون من مصاديق آية البحث تحذير المسلمين والمسلمات من النفاق والرياء.
الثالث: آية البحث تذكرة وموعظة وعبرة للناس جميعاً، قال تعالى[طه *مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى *إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى]( ).
الرابع: إقامة الحجة على الكفار، فإذا كان المسلمون مع إيمانهم وأدائهم المتصل للفرائض والواجبات يجتهدون في الوقاية من النار، فإن الكفار يستحقون بكفرهم وضلالتهم النار.
الخامس: تقدير (إتقوا النار) إتقوا أصحاب النار وهم الكفار، وإحذروهم وإجتنبوا الإنصات لهم وإتخاذهم بطانة , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
ومن الآيات في عبادة المسلمين أنه ليس من نهار أو ليل إلا وفيه عبادة وفريضة ونسك، وهو شاهد على إنتفاء الغفلة عن المسلمين، وجاءت آية البحث لتأكيد هذا الإنتفاء، وبيان إرتقاء المسلمين في مراتب الفقاهة في أمور الدنيا والآخرة، ومعرفة سوء عاقبة الكفار بلبثهم الدائم في النار التي أعدّها الله عز وجل لهم.

قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] الآية 132
الإعراب واللغة
وأطيعوا: الواو حرف عطف، أطيعوا فعل أمر مبني على حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة، الواو: فاعل: اسم الجلالة: مفعول به منصوب بالفتحة.
الرسول: عطف على الله.
لعلكم ترحمون: لعل حرف مشبه بالفعل، والضمير الكاف إسمها.
ترحمون: فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع بثبوت النون، الواو: نائب فاعل وجملة ( ترحمون ) في محل خبر لعل.
وجملة(لعلكم ترحمون) تعليلية وللرجاء.
بحث نحوي
المشهور أن(لعل) تفيد الترجي، وقال الكسائي والأخفش بإفادتها التعليل كما في قوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ومن معاني(لعل) وجوه أخرى:
الأول: الإشفاق كما في قولك لعل السفر يطول , ويأتي الترجي في المحبوب والحسن، أما الإشفاق في الخشية من وقوع المكروه، وعن الزمخشري(لعل هي التوقع مرجو، أو مخوف).
الثاني: التعليل كما في قولك: إدرس لعلنا ننجح، وقال سيبويه والمشهور أنه يفيد الترجي أيضاً.
الثالث: الإستفهام، وبه قال الكوفيون وابن مالك، ولكن الآية تجمع بين الإستفهام في(وما يدريك) والرجاء في(لعل) ولم يرض البصريون بهذا المعنى، ولعل في الآية أعلاه عندهم ترج.
الرابع: إفادة(لعل) الشك، نقله النحاس عن الفراء , وهذا المعنى عند البصريين خطأ .
الخامس: أنها أمارة وإشارة على التمني، وبه قال الزمخشري وأستدل عليه بمغالطة فرعون كما ورد في التنزيل[لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ* أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى]( )، بالنصب، لأن الترجي أمر محتمل ومظنون، أما التمني فهو أمر موهوم في الجملة،
ولكن الإستدلال غير تام لأن متعلق(لعل) هو بلوغ الأسباب، والصعود في السماء ببناء الصرح، فأراد فرعون إيهام الناس بالإستدلال بما هو مرجو – وهو بناء الصرح – إلى ما هو ممتنع.
وفي لعل لغات منها: لعل، علّ، لعن، عن، لأن، عل، رعن، لغن، لعلت، وتأتي لعل حرف جر في لغة عقيل يقولون: لعل زيد قائم.

سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة على شعبتين:
الأولى: صلة هذه الآية بالآيات السابقة , وفيها وجوه:
الوجه الأول: صلة هذه الآية بالآية السابقة[وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: تأكيد إنعدام البرزخية بين الإيمان والكفر، وأن الذي يترك الكفر لا يبقى في منزلة بين المنزلتين , بل لابد من إمتثاله لأوامر الله عز وجل وما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( ).
الثانية: إبتدأت آية البحث بحرف العطف(الواو) في إشارة إلى الترابط والتداخل بينها وبين الآية السابقة، ليكون العطف بين آيات القرآن من أسرار القرآن لما فيه من الدلالات العقائدية وما يبعثه في النفوس من العمل بمضامينها.
الثالثة: تفيد واو العطف في(وأطيعوا) الغيرية والتعدد، أي أن طاعة الله ورسوله غير إتقاء النار والخشية منها، ويتجلى هذا التعدد بأمور مجتمعة ومتفرقة وهي:
الأول: الإيمان بالله إلهاً واحداً.
الثاني: التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله عز وجل.
الثالث: التنزه عن الكفر الظاهر والخفي، ولما نزل قوله تعالى[فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( )، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفيّ، وإيّاكم وشرك السرائر فإن الشرك أخفى في أُمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء. ومن صلى يرائي فقد أشرك
ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدّق يرائي فقد أشرك قال : فشقّ ذلك على القوم، فقال رسول الله: أولا أدلّكم على ما يُذهب عنكم صغير الشرك وكبيره؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال: قولوا: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)( ).
وفي هذا الحديث بيان لآية ورحمة إختص الله بها المسلمين إذ يدفع الشرك الخفي بالإستعاذة بالله واللجوء إليه تعالى، ترى ما هو الأثر المترتب على هذا الدعاء في المقام، فيه وجوه:
الأول: التنزه عن الرياء وأفراد الشرك الخفي.
الثاني: صيرورة ما جاء به المسلم من الصالحات خالصاً لوجه الله بفضل منه تعالى.
الثالث: تفقه المسلم في الدين، وإصلاحه لمرتبة ملكة التمييز بين الفعل العبادي الخالص لوجه الله , والفعل الذي يكون رياء , وإتيان الأول وإجتناب الثاني.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الحديث النبوي، ويدل عليها سعة رحمة الله، وعمومات قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الله عز وجل قال: أنا خير الشركاء، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه، وهو للذي أشرك)( ).
الرابعة: بيان فضل الله عز وجل على المسلمين في هدايتهم لسبل النجاة من النار والفوز بالجنة في آيتين متجاورتين , تتصف كل واحدة منهما بأمور:
الأول: قلة الكلمات.
الثاني: التشابه في عدد الكلمات، وهي خمس كلمات في كل واحدة منهما.
الثالث: كل آية منهما محكمة ظاهرة المعنى والدلالة لا تقبل التأويل المتعدد والإحتمالات المتباينة.
الخامسة: تأكيد التباين بين المسلمين والكفار، فلما أختتمت الآية السابقة بالإخبار بأن النار أعدت للكافرين، جاءت هذه الآية بالأمر للمسلمين بطاعة الله ورسوله، ترى لماذا لم تأت بالبشارة لهم بالفوز بالجنة.
والجواب من وجوه:
الأول: بعث المسلمين على إتيان العبادات وعمل الصالحات بشوق ورضا.
الثاني: بيان قانون ثابت وهو ترتب دخول الجنة على طاعة الله ورسوله كترتب المعلول على علته.
الثالث: لما جاءت الآية السابقة بخصوص إجتناب الجحود والمعاصي التي تسوق صاحبها إلى النار، جاءت هذه الآية بخصوص الأعمال التي تنزل بها شآبيب الرحمة على العبد.
الرابع: جاءت الآية التالية بالبشارة بدخول الجنة بالمبادرة إلى الخيرات.
السادسة: تضمنت خاتمة آية البحث الوعيد للكافرين بمادة العذاب الأليم التي تنتظرهم عند مغادرتهم الدنيا فإن قلت ليس في عالم البرزخ عذاب بالنار إنما هو في يوم الجزاء، والجواب نعم، ولكن النار قريبة من الكفار وهم في عالم البرزخ، قال تعالى في حال آل فرعون عندئذ[النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا]( ).
(وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة و العشي فإن كان من أهل الجنة فمن الجنة، و إن كان من أهل النار فمن النار يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)( ).
وجاء ذكر آل فرعون في الآية أعلاه من باب المثال لأنهم أصحاب كفر ظاهر بإدعاء فرعون الربوبية وتبعية قومه له،وإيذائهم لبني إسرائيل بألوان العذاب، وفي التنزيل حكاية عن فرعون[فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( )، ولم يذكر القرآن طاغوتاً آخر بهذا الوصف والكبرياء والجبروت.
السابعة: جاءت كل من الآيتين بصيغة جمع المخاطَب، مما يدل على حاجة الناس جميعاً إلى كل منهما، ولزوم التقيد بما فيهما من الأحكام والموعظة.
الثامنة: تدعو آية البحث إلى إستقراء أسباب ولوج النار، وضرورة إجتنابها، وتبعث آية السياق على العمل بسبل وصيغ اللبث الدائم في الجنة.
التاسعة: إبتداء آية السياق بحرف العطف (الواو) ودلالته على الغيرية والتعدد لا يمنعان من إرادة حقيقة وهي أن الوقاية من النار بطاعة الله ورسوله، وتلك آية في بديع صنع الله، وأنه سبحانه ما نهى عن شيء إلا وتفضل ببيان أسباب النجاة منه، والتنزه عنه.
الوجه الثاني: صلة هذه الآية بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً……]( )، وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله.
الثاني: لا تأكلوا الربا وأطيعوا الله والرسول) لبيان حقيقة أن الأوامر والنواهي لا تنتهي عند أكل الربا، بل تشمل أبواب العبادات والمعاملات.
الثالث: أطيعوا الله والرسول ولا تأكلوا الربا) ليكون من عطف الخاص على العام، فإن الله عز وجل نهى عن الربا، وجاءت الأحاديث النبوية بالزجر عنه.
الرابع: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا لعلكم ترحمون.
لأن ترك الربا باب لنزول شآبيب الرحمة، وطريق للكسب الحلال، وشيوع الرأفة بين الناس، وإنتشار القرض والإحسان بينهم.
الخامس: وأطيعوا الله والرسول وإتقوا الله) لبيان عظيم منزلة الربوبية، وأن كل مسلم ومسلمة متقيد بأحكام وآداب الخشية من الله، وهو سبحانه الذي قرن طاعة رسوله بطاعته.
السادس: وأطيعوا الله والرسول لعلكم تفلحون)ففي هذه الطاعة نجاة وبقاء وصلاح، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لأن تعاهد المسلمين لطاعة الله والرسول بقاء لهم في منازل الرفعة والشرف، وجذب للناس لسبل الهداية والرشاد.
السابع: وإتقوا الله لعلكم ترحمون) وفيه تأكيد لحقيقة وهي أن الخشية من الله باب لرحمته تعالى، وسبيل للهداية، وعصمة من أكل الربا وواقية من النار.
فمن إعجاز نظم الآيات إفادة الجمع بين آيتين من القرآن تحقيق مضامين الآية التي بينهما، ليكون من مصاديق قوله تعالى(وإتقوا النار)، تقوى الله وطاعته ورسوله.
الثانية: لقد أراد الله عز وجل للمسلمين والناس التنزه عن أكل الربا، فأمرهم بطاعته وطاعة رسوله إذ أن الربا محرم كتاباً وسنة.
الثالثة: تجمع الآيتان بين طاعة وتقوى الله وطاعة رسوله، والإمتناع عن الربا.
الرابعة: أختتمت آية البحث بقوله تعالى(لعلكم ترحمون) وآية السياق بقوله تعالى(لعلكم تفلحون).
الوجه الثالث: صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( )، وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: وأطيعوا الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
الثاني: وأطيعوا الله له ما في السموات وما في الأرض.
الثالث: يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء لعلكم ترحمون.
الرابع: والله غفور رحيم لعلكم ترحمون.
الثانية: تضمنت آية البحث الأمر بطاعة الله والرسول وبينت آية السياق سعة ملك الله عز وجل وأنه أهل لأن يطاع، فليس من شيء إلا وهو عائد له في ملكيته.
الثالثة: ذكرت آية السياق المغفرة والعذاب بمشيئة الله وقدرته، وأن الناس على قسمين أما أن تناله المغفرة والعفو، وأما الإقامة في النار، وجاءت آية البحث بالبشارة للمسلمين بالرحمة ليفيد الجمع بينهما أنهم المقصودون بالمغفرة والعفو في آية السياق، وفيه دعوة للناس جميعاً لدخول الإسلام.
الرابعة: لما أختتمت آية السياق بقوله تعالى(والله غفور رحيم) أختتمت آية البحث بقوله تعالى(لعلكم ترحمون).
الشعبة الثانية: صلة هذه الآية بالآيات التالية، وفيها وجوه:
الأول: صلة هذه الآية بالآية التالية[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ…..]( )، وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين وأطيعوا الله والرسول وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) لبيان حقيقة وهي لزوم عمل المسلم الدؤوب في طاعة الله بما يؤدي به إلى الفوز بالتوبة والمغفرة من الله.
الثانية: تحتمل النســبة بين طــاعة الله والرســول وبين المغفرة من الله عز وجل وجوهاً:
الأول: نسبة العموم والخصوص المطلق، فالمسارعة إلى المغفرة فرع طاعة الله والرسول.
الثاني: نسبة التساوي فطاعة الله والرسول هي ذاتها المسارعة إلى المغفرة، لإتحاد الموضوع بين الآيتين في تنقيح المناط وإرادة الإمتثال لأمر الله فيهما.
الثالث: نسبة العموم والخصوص من وجه، فبينهما مادة للتلاقي، وأخرى للإفتراق.
الرابع: التباين بين طاعة الله والرسول وبين المسارعة إلى المغفرة.
الخامس: التعدد والتباين الموضوعي والزماني بين الأمرين فتتعلق طاعة الله والرسول بالوظائف العبادية وأحكام المعاملات.
أما المغفرة فتشمل موضوع الآخرة، ودخول الجنة وبإستثناء الوجه الرابع أعلاه فإن الوجوه الأخرى كلها من مصاديق الآية الكريمة، ويدل عليه إبتداء آية السياق بحرف العطف(الواو).
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين بلوغ مراتب الثواب، والإرتقاء في فعل الخيرات المقرون بالإستغفار والتوبة إلى الله، (وأخرج عن سعيد بن جبير في قوله {وسارعوا} يقول: سارعوا بالأعمال الصالحة {إلى مغفرة من ربكم} قال: لذنوبكم)( ).
وعلى(قول ابن عباس في قوله تعالى(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) قال: سارعوا إلى الإسلام)( ).
وتكون النسبة العموم والخصوص المطلق لأن دخول الإسلام أعم في موضوعه، وهو أصل الأعمال الصالحة ومقدمة لها، بلحاظ شرط قصد القربة في قبول الصالحات ولا يتحقق هذا القصد إلا بالإسلام , قال تعالى[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ]( ).
الثالثة: لما أختتمت آية البحث بقوله تعالى(لعلكم ترحمون) إبتدأت هذه الآية بالأمر الإلهي للمسلمين الرحمة الإلهية في المقام هي الفوز بمرتبة الجنة واللبث الدائم فيها.
الرابعة: مضامين آية السياق ترغيب بالعمل بأحكام آية البحث، ودعوة للمسلمين للإجتهاد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طمعاً وشوقاً إلى الجنة .
وعن ابن عباس:تُقرن السموات السبع والأرضون السبع، كما تُقرن الثياب بعضها إلى بعض، فذاك عرض الجنة)( ).
الخامسة: ذكرت آية البــحث اسم الجــلالة، وجاءت آية السياق بذكره تعالى بصفة(ربكم) لبيان أن طاعة الله عز وجل والتسليم له بالربوبية المطلقة مجلبة للخير العظيم في الآخرة.
السادسة: بيان نسبة التساوي بين طاعة الله ورسوله وبين التقوى، فإذا أطاع الإنسان الله عز وجل والنبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يصدق عليه أنه متق وتكون الجنة مثوى له، قال تعالى[الم *ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، وتحتمل السرعة في قوله تعالى(وسارعوا) وجوهاً:
الأول: إرادة الحقيقة وسرعة النفير والمبادرة إلى الصالحات.
الثاني: إتيان الفرائض في أوقاتها .
الثالث: لزوم عدم التسويف والتباطئ العمدي .
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق المسارعة , قال تعالى[وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ]( ).
الثاني: صلة هذه الآية بقوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ…..]( )، وفيها مسائل:
الأولى: من مصاديق طاعة الله والرسول الإنفاق في السراء والضراء، فصحيح أن الآية جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن البعث على الإنفاق، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ]( ).
الثانية: الإنفاق في الشدة والرخاء دليل على حاجة الإنسان لطاعة الله ورسوله، وإتخاذ الإنفاق وسيلة لنماء المال، والنجاة في الآخرة.
الثالثة: من إعجاز القرآن أنه يأتي بالأوامر والنواهي، وبالآداب والسنن الأخلاقية الحميدة.
الرابعة: يبعث الجمع بين الآيتين المسلمين على العمل بمرضاة الله، والمسارعة في الخيرات، والإحسان للذات والغير.
الخامسة: آية السياق مرآة وتفسير لما في آية البحث من الأمر بطاعة الله والرسول، وبيان للأخلاق الحسنة التي يتصف بها المسلمون، ومنها الإنفاق في سبيل الله في حال الشدة والرخاء، وحبس الغيظ، وهل هذه الأخلاق مطلوبة بذاتها أم أنها وسيلة لتحقيق غايات حميدة.
الجواب لا تعارض بينهما، وكلاهما له حسن ذاتي وعرضي، لذا جاءت خاتمة البحث بقوله تعالى(لعلكم ترحمون).
السادسة: يمكن قراءة آية السياق بصيغة الخطاب ليكون تقدير الجمع بين آية البحث وبينها: وأطيعوا الله والرسول الذين تنفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس).
فتغير أول حرف من الفعل(ينفقون) لإرادة ذات المعنى وقصد المسلمين، وفيه دلالة على لغة البيان التي يتصف بها القرآن، وخلوه من الإبهام والإجمال.
فإن قلت إن قوله تعالى(الذين ينفقون) صفة للمتقين، والجواب إن طاعة الله ورسوله هي التقوى بأبهى مصاديقها.
السابعة: تحتمل صلة آية السياق بخاتمة آية البحث(لعلكم ترحمون) وجوهاً:
الأول: الإنفاق وكظم الغيظ والإحسان من رحمة الله عز وجل بالعبد، فمن يطع الله ورسوله يهديه لفعل هذه الصالحات.
الثاني: الإنفاق والمسارعة في الخيرات مقدمة وسبيل للفوز برحمة الله.
الثالث: جاءت آية السياق لبيان صفات المتقين الذين أعدّ الله عز وجل لهم الجنة، لتكون هذه الصفات وسيلة الفوز بالجنة التي عرضها السماوات والأرض.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الصلة بين الآيتين، ومفاهيم الرحمة التي يتفضل بها الله عز وجل.
الثامنة: أختتمت آية السياق بقوله تعالى(والله يحب المحسنين) لتكون الحياة الدنيا(دار الإحسان) .
إذ تتغشى رأفة الله الناس جميعاً، ويسعى المسلم للإحسان لنفسه والغير بطاعة الله ورسوله، والمبادرة إلى أداء العبادات في أوقاتها، والمسارعة إلى المغفرة، ويكون فعله هذا حجة على الكفار، وفي الذين تخلفوا عن التصديق بالنبوة وحالهم يوم القيامة، قال تعالى[وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً]( ).
فإن قلت قد ورد في الآية التالية لآية السياق إخبار عن ظلم المتقين لأنفسهم بقوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ]( ).
والجواب إن ذكرهم الله والمبادرة إلى الإستغفار من الإحسان لتكون مصاديق الإحسان على وجوه:
الأول: ما يأتي به المسلم إبتداء كما في آية السياق بالإنفاق في السراء والضراء.
الثاني: ما يكون بالعرض، وهو أثر مترشح عن العبادة والذكر وعمل الصالحات الذي هو من التوليديات وتتفرع عنه وجوه من الإحسان.
الثالث: ما يتعقب الخطأ والزلة وظلم النفس من الإنابة والتوبة , وفي توبة السحرة من قوم فرعون ورد في التنزيل[إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا]( ).
الوجه الثالث: صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ……]( )، وفيها مسائل:
الأولى: لقد جاءت الآية أعلاه بصيغة الغائب هي والآية السابقة، ولكن موضوعهما متصل بلغة الخطاب في قوله تعالى(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وبيان تعدد صفات المتقين الذي يخشون الله بالسر والعلانية وهم المسلمون.
الثانية: من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، إستحضار ذكر الله، والإستغفار من الذنوب، وعدم الإصرار على المعصية.
الثالثة : يفيد الجمع بين الآيتين تعاهد المسلمين لمنازل التقوى، وعدم طرو اليأس إلى نفوسهم.
فمن يفعل الفاحشة، ومن يظلم نفسه يدرك أن الله عز وجل[هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( )، فيبادر إلى التوبة، ويحرص على المواظبة على العبادات والفرائض، ويسعى إلى الفوز برحمة الله , ويستحضر سعة الجنة وأن الله عز وجل خصّ بها المتقين، قال تعالى[لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ).
الثالثة: بعث المسلمين على ذكر الله , ليكون هذا الذكر من مصاديق طاعة الله، قال تعالى[فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ]( )، كما أن طاعة الله ذكر له.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أطاع الله فقد ذكر الله وإنّ قلّت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن)( ).
الرابعة: لما جاءت الآية قبل السابقة بالإخبار عن تهيئة الجنة للمتقين جاءت هذه الآية والآية السابقة ببيان صفاتهم , وهي :
الأول: الإنفاق في حال السراء والسعة في المال والجاه.
الثاني: البذل والإنفاق في حال الشدة والعسر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار)( ).
الثالث: تحمل الأذى، والكف عن الإنتقام والثأر مع القدرة عليه , قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيماناً)( )،
وتستقرأ من الحديث مسائل:
الأولى: إن الله يحب إنتشار شآبيب الرحمة بين الناس.
الثانية: المسلمون هم أئمة الصبر وتحمل الأذى.
الثالثة: الثواب العظيم الذي يترتب على كظم الغيظ , وحبس أسباب الرد والإنتقام.
الرابع: العفو والصفح عن الآخرين ممن تصدر الإساءة منه، إن تجاوز المسلم عن إعتداء وإساءة غيره له باب للدعوة للإسلام، وتأديب وحث على الإستغفار، وتذكير بحلم الله عز وجل عن الناس , قال تعالى[وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ]( ).
الخامس: اللجوء إلى الله عند ظلم النفس مطلقاً أو فعل الفاحشة على نحو الخصوص، وهذا اللجوء على شعبتين:
الأولى: ذكر الله عز وجل.
الثانية: الإستغفار من الذنوب.
السادس: التنزه عن الإصرار على الذنب، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الإستغفار).
إعجاز الآية
يتفضل الله عز وجل الذي فيخاطب المسلمين والناس ويقول لهم(وأطيعوا الله) ترى لماذا لم يقل وأطيعونِ ورسولي) , والجواب من وجوه:
الأول: لقد تفضل الله بتذكيرهم بربوبيته وعظيم قدرته وسلطانه.
الثاني: نزل القرآن بلغة الخطاب إلا أنه يختلف عما يتخاطب به الملوك مع الرعية، أو الناس فيما بينهم، سواء بين المتساوي أم بين الأعلى والأدنى طرداً وعكساً.
الثالث: بيان وظيفة المكلفين بوجوب طاعة الله عز وجل فيما أمر ونهى.
الرابع: من إعجاز القرآن ورود لفظ(أطيعون) إحدى عشرة مرة، كلها على لسان الأنبياء، جاءت ثمانية منها في سورة الشعراء وحدها، منها على لسان نبي الله نوح عليه السلام[إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ *فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ]( ).
ولم تقل الآية(ورسولي) بل جاءت بذكر الرسول , وفيه وجوه:
الأول: لحاظ نظم الآية وأن ذكر الله عز وجل جاء باسم الجلالة، مما يدل على أن أعظم تسمية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي رسول الله لما فيها من إرادة معنى الواسطة بين الله وبين الناس.
لأن لفظ الرسول يدل على أطراف متعددة هي:
الأول: المرسِل الذي يبعث الرسول.
الثاني: الرسول نفسه.
الثالث: الجهة التي يرسل لها الرسول فلابد من وجود طرف مرسل إليه.
الرابع: موضوع ومادة الرسالة.
لذا فإن لفظ الرسول يفتح الباب لإستنباط علوم متعددة منه، وتدل الآية على أن الرسالة من الله تنفرد بخصوصية وهي أن عمل الرسول لا يقف عند التبليغ، بل يجب طاعته وليس من رسول في الدنيا تجب طاعته إلا الذين بعثهم الله عز وجل للناس.
والرسالة من بديع حكمة الله، والحجة القائمة على الناس جميعاً، قال تعالى[مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( )، وكما جاء الأمر بطاعة الله بصيغة العموم الإستغراقي، جاءت البشارة والأمل بنزول مصاديق الرحمة في أمور الدين والدنيا لأصالة الإطلاق.
ويمكن تسمية هذه الآية آية(وأطيعوا الله والرسول) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية،مع ورود لفظ(أطيعوا) فيه ست عشرة مرة، فإن قلت قد جاء قوله تعالى[قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ]( ).
والجواب وردت الآية أعلاه بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأمر المسلمين بطاعة الله ورسوله، أما آية البحث فجاءت بالأمر الإلهي إلى المسلمين بطاعته.
الآية سلاح
لقد جعل الله عز وجل الإنسان عالماً قائماً بذاته حيث إختيار الفعل والحركة والمحل, والقدرة على الإمتناع، وليكون هذا الإمتناع أمراً وجودياً لأنه من الإختيار.
فيمسك المسلم عن الأكل والشرب في أيام شهر رمضان فيكتب الله له أجر وثواب الصيام، ويتنزه عن الربا أكلاً أو تأكيلاً أو شهادة أو كتابة فيأتيه الثواب عليه ويسلم من اللعنة الواردة في المقام، فقد جاء عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “لعن الله آكل الربا وموكله، وشاهديه وكاتبه”)( ).
وطاعة الله والرسول مطلقة في الفعل وعدمه كل بحسبه وموضوعه وحكمه، ليكون الإختيار والإبتلاء مصاحبين للإنسان في نهاره وليله ذكراً كان أو أنثى، فيأتي الجزاء وهو الرحمة والمغفرة حالاً وآجلاً، ولتكون طاعة الله والرسول سلاحاً نافعاً في الدنيا وعالم البرزخ ويوم القيامة.
وليس من سلاح وواقية نافعة للإنسان أعظم وأحسن من طاعة الله والرسول وهي حصن وعصمة من المهالك , وواقية من الشبهات وأسباب الزلات وكذا رحمة الله في قوله تعالى(لعلكم ترحمون) فمع أنها نتيجة لطاعة الله والرسول إلا أنها أيضاً سلاح في النشأتين، وعون على الأمور الإبتلائية.
وفي حديث ضعيف بالإرسال عن الإمام موسى بن جعفر عن آبائه عن الحسين بن علي عليهم السلام في حديث طويل يتضمن الإحتجاج: إن يهوديا من يهود الشام وأحبارهم كان قد قرأ التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء عليهم السلام وعرف دلائلهم، جاء إلى مجلس فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وفيهم علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وأبو سعيد الجهني.
فقال: يا أمة محمد ما تركتم لنبي درجة، ولا لمرسل فضيلة، إلا أنحلتموها نبيكم، فهل تجيبوني عما أسألكم عنه؟ فكاع القوم عنه.
فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: نعم ما أعطى الله نبياً درجة، ولا مرسلا فضيلة إلا وقد جمعها لمحمد صلى الله عليه وآله وزاد محمداً على الأنبياء أضعافا مضاعفة.
فقال له اليهودي: فهل أنت مجيبي؟
قال له: نعم سأذكر لك اليوم من فضائل رسول الله صلى الله عليه وآله ما يقر الله به عين المؤمنين، ويكون فيه إزالة لشك الشاكين في فضائله صلى الله عليه وآله، إنه كان إذا ذكر لنفسه فضيلة قال:”ولا فخر” وأنا أذكر لك فضائله غير مزر بالأنبياء، ولا منتقص لهم، ولكن شكرا لله على ما أعطى محمدا صلى الله عليه وآله مثل ما أعطاهم، وما زاده الله وما فضله عليهم.
قال له اليهودي: إني أسألك فأعد له جوابا، قال له علي عليه السلام: هات، قال اليهودي: هذا آدم عليه السلام أسجد الله له ملائكته، فهل فعل لمحمد شيئا من هذا؟
فقال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، أسجد الله لآدم ملائكته فإن سجودهم له لم يكن ســجود طاعة، وإنهــم عبدوا آدم من دون الله عز وجل، ولكن اعترافا بالفضيلة، ورحمة من الله له
ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل من هذا، إن الله عز وجل صلى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها، وتعبد المؤمنين بالصلاة عليه فهذه زيادة له يا يهودي)( ).
إلى أن (قال اليهودي: فإن عيسى يزعمون أنه أحيى الموتى بإذن الله؟ قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد سبحت في يده تسع حصيات تسمع نغماتها في جمودها، ولا روح فيها لتمام حجة نبوته، ولقد كلمه الموتى من بعد موتهم، وإستغاثوه مما خافوا تبعته.
ولقد صلى بأصحابه ذات يوم فقال: ما هاهنا من بني النجار أحد وصاحبهم محتبس على باب الجنة بثلاثة دراهم لفلان اليهودي، وكان شهيدا، ولئن زعمت أن عيسى كلم الموتى
فلقد كان لمحمد ما هو أعجب من هذا: إن النبي لما نزل بالطايف وحاصر أهلها، بعثوا إليه بشاة مسلوخة مطلية بسم، فنطق الذراع منها فقالت: يا رسول الله لا تأكلني فإني مسمومة فلو كلمته البهيمة وهي حية لكانت من أعظم حجج الله على المنكرين لنبوته، فكيف وقد كلمته من بعد ذبح وسلخ وشي!
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يدعو بالشجرة فتجيبه، وتكلمه البهيمة، وتكلمه السباع، وتشهد له بالنبوة، وتحذرهم عصيانه، فهذا أكثر مما أعطي عيسى عليه السلام)( ).
وفي الحديث أمور:
الأول: تعداد معجزات حسية كثيرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: توثيق هذه المعجزات وإخبار الناس عنها مع إمضاء الصحابة الجالسين لها.
الثالث: التصديق بنبوة الأنبياء السابقين ومنهم عيسى عليه السلام، والشهادة على معجزاتهم وتأكيدها، وفيه بيان وتفسير عملي لقوله تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ]( ).
الرابع: دعوة الناس لإكرام الأنبياء جميعاً.

مفهوم الآية
تدل الآية بالدلالة التضمنية على أن الأوامر والنواهي الإلهية معلومة عند المسلمين، وهي بين أيديهم، والأصل أن الجماعة لا تقوم بطاعة أمر تجهله.
وتؤكد الآية حقيقة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء للمسلمين بالأمر والنهي في السنة النبوية، لذا فهي المصدر الثاني للتشريع، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وتتضمن الآية الإنذار والوعيد من مخالفة الأوامر الإلهية، ومعصية رسول الله فيما جاء به من عند الله، وهل تلزم الآية الناس على التفقه في الدين لمعرفة ما أمر الله به وما نهى عنه.
الجوب نعم، وتلك معجزة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن تبعث الناس على تلاوة القرآن والإصغاء له ومعرفة أحكام الشريعة، قال تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
وجاءت خاتمة الآية أعلاه كخاتمة آية البحث برجاء نزول رحمة الله والنهل منــها، وإذا كان المسلم مع طاعته لله عز وجل ينتظر الرحمة الإلهية على نحــو الرجاء فكيف بأهل الجحود والصدود.
وتدل الآية في مفهومها على النهي عن طاعة غير الله عز وجل ورسوله، لتكون واقية من المعصية، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)( ).
ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لأن من ذريته من يفسد في الأرض ويكثر القتل فيها، جاء رد الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فإلتجأ الملائكة إلى التقديس والتسبيح لمقام الربوبية، والإقرار بأنه الحكيم الذي لا يفعل إلا الأمر المتقن الذي لا يعلم حقيقة كنهه ومنافعه إلا هو سبحانه[قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا]( ).
ثم أفاء الله على الملائكة بشطر مما يعلم في ذات الخليفة ومعاني الصلاح عنده بأن تفضل وعلّم آدم الأسماء كلها على نحو دفعي، فعلّمها آدم بتحد وإعجاز حضوري تجلى للملائكة.
ليكون منها مجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآية البحث التي تتضمن الخطاب للناس جميعاً بطاعة الله ورسوله، لتقوم أمة عظيمة منهم هي أمة محمد بأمور:
الأول: الإمتثال لأمر الله في هذا الخطاب.
الثاني: تعاهد هذه الآية بالتلاوة والعمل.
الثالث: التنزه عن طاعة أعداء الله من الكفار والمشركين، ولتكون هذه الآية من أسباب تلقي أذى المشركين بالصبر مع ثبات في منازل التقوى وعدم الركون إليهم .
فقام المشركون بالزحف على المدينة المنورة بعد أن أعيتهم الحيلة وإستبد بهم الإستكبار فكانت عاقبتهم الخزي يوم بدر وما بعده من أيام الله التي أخزى بها الكفار وأصابت الخيبة من خلفهم , قال تعالى في خطاب للمسلمين[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
إفاضات الآية
مع أن طاعة الله والرسول أمر واجب على الناس إلا أن الآية جاءت بصيغة الأمر، وفيه وجوه:
الأول: تأكيد وجوب طاعة الله والرسول.
الثاني: تذكير المسلمين بهذا الوجوب.
الثالث: إقامة الحجة على الكفار والمشركين.
الرابع: منع التفريط والتهاون في طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: بيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله، وحاجة الناس إلى نبوته، ويدل إقتران طاعته بطاعة الله في الكتاب الجامع للأحكام الشرعية على تفضيله على الأنبياء السابقين، قال تعالى[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ]( ).
إن طاعة الله ورسوله أمر واجب على الناس , فهل مجيء الآية بصيغة الأمر الذي يحمل على الوجوب من تحصيل الحاصل.
الجواب لا، بل هو بيان وتأكيد لوجوب طاعة الله، وأصل هذا الوجوب ملازم لخلق الإنسان لأنه علة خلقه، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
فتفضل الله ببعثة الأنبياء وإنزال الكتب السماوية لبيان تفصيل سنن العبادة، ومنع الإيهام والجهالة والإجمال في المقام، ليأتي التكامل العبادي ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأمر الله في هذه الآية بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليستجيب المسلمون لأحكام الحلال والحرام في الكتاب والسنة.
وتعاهد ألفاظ ومعاني وتفسير القرآن، ويحرصوا على سلامته من التحريف رسماً وتلاوة وتأويلاً وعملاً، ويقوموا بضبط السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية والتدوينية.
وهو من الشواهد على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فإن قلت قد نال المسلمون المنزلة الرفيعة بنزول القرآن والسنة النبوية، ولم يكن عند الأمم السابقة من الموحدين مثلهما كي تكون هناك نوع مقارنة.
والجواب بلى كان عند الأمم السابقة كتب سماوية منزلة كالتوراة والإنجيل , وبعث الله فيهم أنبياء كثيرين، ومنهم رسل أولوا عزم مثل إبراهيم وموسى وعيسى , وإمتاز المسلمون بأن أجيالهم المتعاقبة تقيدت بأحكام الكتاب والسنة.
وإمتثلت لقوله تعالى(وأطيعوا الله والرسول) وهم يرجون رحمة الله في الدنيا والآخرة، إذ ذكرت الآية الرحمة على نحو الإطلاق والعموم، والله سبحانه يعطي بالأتم والأوفى، ومنها إعانتهم للتوفيق في مسالك طاعة الله والرسول، وإتيان الفرائض والعبادات، قال تعالى[فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
الآية لطف
تتجلى مصاديق اللطف الإلهي في الآية بلغة الخطاب بصيغة العموم الإستغراقي الشامل للمسلمين والمسلمات، وهو ضياء سماوي مصاحب لأجيالهم المتعاقبة ينير لهم دروب الهداية، ويفتح لهم آفاق المعرفة والكسب والتحصيل العلمي والأداء العملي للعبادات.
فلا غرابة أن تجدهم متقيدين بأحكام الفرائض بالكيفية التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:صلوا كما رأيتموني أصلي)( ).
ووجه النبي الخطاب في الحديث أعلاه إلى الصحابة , فعلم المسلمون بأجيالهم أنهم المقصودون بالخطاب , بإستقراء عمومه من مضامين آية البحث , فتعاهدوا تلك الكيفية المباركة في الصلاة وتوارثوها إمتثالاً لأمر الله عز وجل بلزوم طاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لتكون الصلاة مصداق إجتماع طاعة الله والرسول , وتلك آية في جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإصلاح حال المسلمين، وهو من عمومات اللطف الإلهي في قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ويدل الحديث في مفهومه على أن المسلم الذي في المشرق يدرك حقيقة وهي أن صلاته مثل صلاة الذي في المغرب، وتتجلى هذه الحقيقة في موسم الحج إذ يجتمع المسلمون من أرجاء الأرض المختلفة فيؤدون الصلاة جماعة يوم عرفة وفي مزدلفة إلى جانب الصلوات في البيت الحرام والمسجد النبوي.
وهو من الإعجاز والمنافع العقائدية في تشريع الحج كفريضة ومن عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، فالذين يحجون البيت الحرام من أصحاب المال والميسرة في الجملة, ويصاحب الحج الفهم والفقه، والتدبر بلحاظ قانون كلي من وجوه:
الأول: جمع المال، وتنمية الملكية.
الثاني: حفظ المال والمنع من ضياعه، قال تعالى[الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
الثالث: القدرة والإستطاعة على أداء الحج.
الرابع: الإمتثال لأمر الله بأداء فريضة الحج، والإنفاق فيه قربة إلى الله تعالى.
فمن خصائص المؤمن أنه يجد ويجتهد في تحصيل المال، ويحرص على جمعه ثم يقوم ببذله في طريق الحج بشوق ورغبة مع تعطيل العمل وأسباب الكسب مدة أداء الفريضة شاكراً لأنعم الله للتوفيق لأداء الحج ليؤدي مناسكه، ويقوم بأداء الصلاة كما أداها المسلمون في مهبط الوحي والرسالة في الأحقاب السالفة، التي تبدو في هذا الباب كأنها سنين قليلة متعاقبة للتشابه في الفعل وإستحضار المسلمين لكيفية صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد إجتهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان في صلاة يوم عرفة وعند مزدلفة إذ صلاها تامة وفرق بينها، وسرعان ما تُرك هذا الإجتهاد وعادوا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجمع والقصر بين صلاتي الظهر والعصر، وبين صلاتي المغرب والعشاء يومئذ.
فإن قلت الأمر أعلاه يتعلق بكفية الصلاة في يوم مخصوص وليس مطلقاً، والجواب إنه دليل على ضبط المسلمين لأفعال الصلاة مطلقاً وأن المسلمين يأتون بماهيتها بشرط شيء وهو موافقة أجزاءها لصلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الآيات أن الصلاة هي الفريضة الوحيدة التي فرضت في مكة، إذ جاء فرض الصيام والزكاة في السنة الثانية للهجرة.
لقد ورد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الآية بلفظ الرسول، وبين النبي والرسول عموم وخصوص مطلق، فكل رسول هو نبي وليس العكس , وتبين الآية حاجة الناس عموماً إلى رحمة الله، وأنها لا تأتي إلا بالسعي والكسب وطاعة الله ورسوله.
إن إختتام الآية بالترغيب برحمة الله المشروطة بطاعة الله والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جذب للناس لمنازل الهداية والإيمان، وبعث للشوق في النفوس لطاعة الله ورسوله.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بصيغة فعل الأمر، وهو إنحلالي ينبسط على عدد المسلمين، فما أن يبلغ المسلم أو المسلمة سن التكليف حتى يتوجه له الأمر من السماء بوجوب طاعة الله ورسوله، مما يدل على ظهور وتبيان الأوامر والنواهي الإلهية، والآية حجة بلزوم تعاهد السنة النبوية , وإخبار بأنها محفوظة عند المسلمين.
لقد جمعت الآية الكريمة بين طاعة الله والرسول، وفيه مسائل:
الأولى: بيان المنزلة العظيمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله عز وجل.
الثانية: التأكيد العملي لنعمة الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بجعل السنة النبوية فرع الوحي ومصداق التنزيل، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثالثة: لزوم عدم التفريط بالسنة النبوية، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري…. ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)( ).
وبعد الأمر بالإطاعة وتقييد الطاعة بأنها لله ورسوله جاءت النتيجة والعاقبة وبيان الثواب العظيم، وهو الفوز برحمة الله، ويحتمل قوله تعالى(لعلكم ترحمون) وجوهاً:
الأول: إرادة الرحمة في الحياة الدنيا بالهداية والرزق والصلاح والسعة والجاه، وليس من حصر لوجوه الرحمة الإلهية في الدنيا.
الثاني: نزول شآبيب الرحمة في عالم البرزخ على المطيعين لله ورسوله.
الثالث: رحمة الله عز وجل للمسلمين في مواطن يوم القيامة كالحوض والعبور على الصراط، وعند الحساب، قال تعالى[مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الرابع: الرحمة للمتقين في دخول الجنة واللبث الدائم فيها، وكل هذه الوجوه من مصاديق الآية الكريمة، وفضل وثواب من الله عز وجل على طاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التفسير الذاتي
وردت الآيات بخصوص طاعة الله عز وجل وإقتران طاعة رسوله بها قال تعالى[أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ]( )، وتكون إضافة ونسبة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله تفسيراً لمعنى(الرسول) التي وردت في هذه الآية بصيغة الإطلاق والعهد الذي يفيد التعيين والتبادر بإرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم يرد لفظ(أطيعوا الله) إلا ومعه ذكر الرسول بينما جاءت آية بالأمر بطاعة الرسول على نحو الإستقلال بقوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، وفيه أمور:
الأول: تتقوم طاعة الله عز وجل بأداء العبادات لأنها تكليف واجب على كل مسلم بأمر من الله عز وجل.
الثاني: طاعة الرسول محمد صلى الله وآله وسلم غير أداء العبادات.
الثالث: بيان موضوعية طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الفوز بالرحمة.
الرابعة: عدم إنقطاع التكاليف والواجبات بالعبادات بل جاءت السنة النبوية بواجبات ومستحبات ونواهي عديدة، تكون لها التوسعة في الأوامر والنواهي بأمر من الله عز وجل.
لقد جاءت آيات القرآن بالتحذير والإنذار من الجحود والصدود عن الأوامر والنواهي الإلهية التي تتضمنها ذات الآيات، والطاعة هي الإمتثال للأوامر، وإجتناب المنهي عنه , وقيام النبي بالتبليغ حجة في لزوم طاعة الله وطاعة النبي .
نعم جاءت المعجزة مع النبي تعضيداً لتبليغه، وشاهداً سماوياً على صدق نبوته، وإلزاماً للناس بتصديقه وإتباعه، وكانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذاتها معجزة حسية ظاهرة تدل على صدق نبوته فهو لم يأت إلا بأسباب الصلاح والرشاد.
وتستلزم طاعة الله معرفة الأوامر والنواهي الإلهية ومضامين آيات الأحكام في القرآن، ويملي وجوب طاعة الرسول على المسلمين الإحاطة بالسنة النبوية ولو على نحو الإجمال والإنصات لأقوال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتدارس سيرته وسنته وأفعاله المباركة التي هي جزء من الوحي, وفيه مسائل:
الأولى: تضفي هذه الجزئية نوع قدسية عليها.
الثانية: بعث الشوق في النفوس لمعرفة السنة والتدبر في مضامين أقوال وأفعال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: الحرص على محاكاة السنة النبوية الشريفة، قال تعالى[لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
ولما جاءت آية البحث بالأمر بطاعة الرسول، فإن آية أخرى أخبرت بوجود أمة تطيعه، وكذا كل رسول سابق لابد من وجود أنصار وأتباع يطيعونه، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ]( )، وقد إمتاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الأمة التي تطيعه أكبر وأعظم وخير الأمم.
وقد دعا الأنبياء السابقون قومهم إلى طاعتهم كما في نوح عليه السلام[إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ]( )، وكذا في أنبياء آخرين، بينما جاء الأمر بطاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الله عز وجل مقرونة بطاعته تعالى لبيان الملازمة بينهما.
وهي عنوان التكامل الذي تختص به الشريعة الإسلامية التي إتصفت بأن الإمامة فيها رسالة خاتم النبيين , وكتاب سماوي يتضمن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) , وجاءت بكنوز من السنة النبوية لمدة ثلاث وعشرين سنة مدة نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والله عز وجل يعلم بأن هذه السنّة ستبقى مصدراً للتشريع عند المسلمين، وبقاؤها هذا ليس على نحو الإختيار، بل بالوجوب والقطع الذي تدل عليه آية البحث.

من غايات الآية
وفيها مسائل:
الأولى: بيان حقيقة وهي أن الإسلام لا يقف عند النطق بالشهادتين فلابد من طاعة أوامر الله وكذا طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وإجتناب ما نهى الله سبحانهلاعنه وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
الثانية: تأكيد عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله، وبلوغه مرتبة لم يبلغها نبي آخر قبله بأمور خصه الله بها:
الأول: إقتران الأمر بطاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بطاعة الله تعالى.
الثاني: إستدامة طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة، لنسخ أحكام وأوامر القرآن لغيرها، وعدم طرو ناسخ عليها.
الثالث: إقامة الحجة على الناس بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: دعوة المسلمين والناس جميعاً إلى التفقه في الدين، ومعرفة أحكام الحلال والحرام.
وقوله تعالى(وأطيعوا الله) أي قوموا بتلاوة القرآن والتدبر في آياته لأنه كلام الله الذي يخاطب به الناس عامة والمسلمين خاصة , قال تعالى[وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ]( ).
الرابعة: تأكيد قانون ثابت وهو أن الناس مكلفون ماداموا في الحياة الدنيا لأن الخطاب في الآية الكريمة(وأطيعوا الله والرسول) متجدد في كل يوم.
لذا فإنه شامل للعبادات والمعاملات والأحكام إذ أن العبادات لا تستغرق معشار ساعات وحياة الإنسان فتكون عنده مندوحة في الوقت خارج وقت الصلاة والصيام والحج، فجاءت الآية لتخبر بلزوم طاعة الله في كل آن، والمدار على آيات القرآن وما فيها من الأوامر والنواهي.
وقد جاءت آية البحث في سياق الزجر عن أكل الربا قبل آيتين[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( ).
الخامسة: لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، وتلازمه الحاجة في أيام حياته، لتكون طاعة الله ورسوله من حاجاته، في الدنيا والآخرة، كما أنها مقدمة لقضاء حاجاته، وتيسير أموره.
وفيه دلالة على أن طاعة الله ورسوله رحمة بالناس جميعاً ونفع عام لهم، وخاص لكل فرد منهم، فإن قلت إن طاعة الله ورسوله تكليف وتستلزم جهداً ويقظة وفطنة , وقد يغفل الإنسان أحياناً عنها، والجواب من وجوه:
الأول: يتعاضد المسلمون في مسالك الطاعة بما يطرد الغفلة والجهالة عنهم , ويقيهم الكيد والمكر , وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثاني: يتعاهد المسلم التكاليف من حين بلوغه ، فتكون طاعة الله والتقيد بأداء الوظائف العبادية ملكة راسخة عنده.
الثالث: ما يفوت المسلم نسياناً معفو عنه بفضل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أُستكرهوا عليه)( ).
ومن غايات الآية والأمر الإلهي بطاعة الله ورسوله تنمية ملكة الذكاء وإتصاف المسلمين بالفطنة الدائمة.
السادسة: بعث المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وجعله ملازماً لهم في حياتهم اليومية، وهو مادة للتآزر بين المسلمين ومن عمومات قوله تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
السابعة: بيان الثواب الجزيل على طاعة الله بما فيه الترغيب التام بها، والحرص على إجتناب المعصية والتفريط في العبادات.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الرحمة والرضوان في الدنيا والآخرة، فهداهم إلى سبلها، وبيّن لهم طريق الوصول إليها وهو طاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن رحمة الله بالناس مجيء البيان بالكتاب السماوي الظاهر للناس عموماً , والباقي بين ظهرانيهم إلى يوم القيامة، وهو من كرم ولطف الله بالناس جميعاً، والحجة عليهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
التاسعة: وجوب سعي المسلمين للفوز برحمة الله في الدنيا والآخرة، فصحيح أن الآية جاءت بالأمر بطاعة الله ورسوله إلا أنها تتضمن أيضاً وجوب بذل الوسع للنهل من رحمة الله.
التفسير
في الآية دعوة للمسلمين وللناس جميعاً للتدبر من جهات :
الأول : بيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : إنتصار المسلمين في معركة بدر آية حسية جلية للتباين في الاسباب ومقدمات المعركة وتعطيل موضوعية رجحانها في نتائج المعركة .
الثالث : زجر الناس عن التعدي على المسلمين باستحضار نتائج معركة بدر ، فان قلت لم تنزجر قريش فزحفت في السنة التالية .
والجواب قد جاءت قريش بثلاث أضعاف عددها في معركة بدر وبأسلحة وعدة لم تشهد لها الجزيرة العربية مثيلاً فلحقها الخزي أيضاً بالانسحاب من ساحة المعركة قبل المسلمين .
الرابعة : حث المسلمين على إستحضار عدة بدر وقلتها عند الدخول في المعركة ، وعدم الخشية من كثرة الكفار وفي التنزيل [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( )
فمن اللطف الإلهي بالمسلمين أن يقترن العزم بحسن التوكل على الله .
قوله تعالى (وأطيعوا الله)
إبتدأت الآية بحرف العطف(الواو)وهو يحتمل أموراً:
الأول: تأكيد الإتصال والتداخل بين هذه الآية والآية السابقة.
الثاني: إتحاد موضوع هذه الآية والآيات السابقة.
الثالث: مجيء حرف العطف للدلالة على تعدد الموضوع، وإستقلال كل آية بأحكامها، ليتضمن حرف العطف الدلالة على كثرة وظائف المسلمين، ونزول الأوامر والنواهي متتابعة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وهو من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
لقد جاءت الآيتان السابقتان بالخطاب بصيغة الجمع بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]( )، (واتقوا النار) وفيه تأكيد للتكافل والتعاون بين المسلمين، وأن المطلوب منهم على وجوه:
الأول: إمتثال كل فرد من المسلمين للأوامر والنواهي الإلهية .
الثاني: تقيد المسلمين كأمة مجتمعة بالأحكام الشرعية التي جاءت في القرآن والسنة النبوية.
الثالث: إعانة المسلمين بعضهم بعضاً في الإمتثال للأوامر الإلهية،سواء في الواجبات العينية كالصلاة أو الكفائية كالأمر بالمعروف ,وتهيئة مقدمات وأسباب هذا الإمتثال للذات والغير المتحد والمتعدد.
فيأخذ المسلم بيد أخيه المسلم في سبل طاعة الله ورسوله، ويكون إماماً للجماعة القليلة والكثيرة من المسلمين في الصلاح والتقوى، ويعمل على جذب الناس لمنازل الإيمان، ويبعث في نفوسهم حب طاعة الله ورسوله، وإدراك أنها حق وواجب.
وقيل بأن هذه الآية والآية السابقة تتعلقان بحرمة الربا ولزوم إجتنابه، ولكن مضامين وأحكام كل من الآيتين أعم، ومن الشواهد على هذا العموم أمور:
الأول: إبتداء كل من هذه الآية والآية السابقة بحرف العطف الواو الذي يفيد التعدد.
وفيه آية في إعجاز القرآن بأن يأتي حرف واحد فيكون ضياء ينير دروب العلماء، وتأكيداً للفاصلة بين الآيات ولكن حرف العطف فاصلة لها دلالات عقائدية، وتترشح عنها علوم متعددة، وتكون برزخاً دون الإختلاف في التفسير والتأويل.
وبين قوله تعالى في الآية السابقة(واتقوا النار) وبين النهي عن الربا في الآية المتقدمة عليها عموم وخصوص مطلق، وبيان لحقيقة وهي أن المدار ليس على ترك الربا وحده بل يجب إجتناب كل ما يؤدي إلى العذاب في الآخرة.
ثم جاءت آية البحث ليكون بينها وبين الآية السابقة عموم وخصوص مطلق أيضاً، لأن طاعة الله والرسول أعم من إتقاء النار.
ويدل على هذا العموم خاتمة الآية(لعلكم ترحمون) وإطلاق هذه الرحمة زماناً وموضوعاً وحكماً، وفي علم الأصول قاعدة تقول الأمر بالشيء نهي عن ضده.
وهي وإن لم تكن كلية مطلقة إلا أن مصداقها العملي يتجلى في هذه الآية بأن الأمر بطاعة الله عز وجل نهي عن طاعة الطواغيت والجبابرة من أعداء الدين الذي يأمرون بالمعصية، وفي ذم المنافقين , وبيان قبح فعلهم ورد قوله تعالى[يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ]( ).
وصحيح أن آية البحث خطاب للمسلمين إلا أنها تبعث اليأس والقنوط في قلوب رؤساء الكفر والضلالة، وتجعلهم عاجزين عن تسخير الناس لأهوائهم.
وهذه الآية تأسيس لحياة إيمانية جديدة في الأرض تتقوم بوجود أمة رسالية تهدي الناس إلى سبل الصلاح، وتنبذ مفاهيم الكفر والضلالة لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار فضله ورحمته، فكل ما فيها موعظة وعبرة ودرس للأجيال المتعاقبة.
قانون(أطيعوا الله)
الطاعة: الإنقياد، وقال الأزهري: من العرب من يقول طاعَ له يَطُوعُ طَوْعاً فهو طائعٌ بمعنى أَطاعَ وطاعَ يَطاعُ لغة جيدة)( )، لقد نفخ الله عز وجل من روحه في الإنسان وأكرمه به غاية الإكرام، ومن رشحات هذا النفخ ميل الإنسان بالفطرة لطاعة الله.
فجاءت آية البحث بجعل هذا الميل أمراً واجباً، ومصاحباً للإنسان ما دامت الروح تجري في بدنه، وحينما خلق الله عز وجل آدم ونفخ فيه روحه ليجعله خليفة في الأرض لم يتركه وشأنه بل أمره بوظائف الخلافة، وتتجلى كاملة بطاعة الله بعد أن أهّله لها بأمور منها:
الأول: نعمة العقل في أصل الخلق والتكوين.
الثاني: بعث الأنبياء والرسل بأحكام الشريعة والبشارة والإنذار.
الثالث: نزول الكتب السماوية التي تكرم الإنسان بالأوامر والنواهي الإلهية.
الرابع: تذكير الآيات التي تحيط بالإنسان بلزوم عبادة الله والإنقياد لأوامره، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
وليس من حصر لأسباب بعث الإنسان إلى الإمتثال والإنقياد لأوامر الله، وكل آية من القرآن سبب وعلة قائمة بذاتها لطاعة الله، فصحيح أن آية البحث جاءت بالأمر الصريح بطاعة الله، إلا أن آيات القرآن الأخرى البالغة ستة آلاف ومائتان وخمس وثلاثون آية كلها تأمر بطاعة الله، ويتجلى فيها الأمر والبعث على التقوى وطاعة الله من جهات:
الأولى: منطوق الآية.
الثانية: مفهوم الآية.
الثالثة: صدر الآية.
الرابعة: وسط الآية.
الخامسة: آخر الآية.
السادسة: أسباب النزول.
السابعة: صلة الآية مع كل آية من آيات القرآن الأخرى ، وما يستنبط من هذه الصلة من الأحكام.
الثامنة: دلالات الآية ومضامينها القدسية.
التاسعة: تلاوة الآية والتسليم بأنها نازلة من عند الله وما يبعثه هذا التسليم في النفس من إدراك وجوب طاعة الله.
العاشرة: تفسير وتأويل الآية.
لقد أراد الله عز وجل من الناس طاعته لما فيه نفعهم وصلاحهم، وهو الغني الذي لا يحتاج إلى شيء، لأن الحاجة دليل الإمكان والنقص والتركيب، وهي أمور منزه عنها واجب الوجود الذي[لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ]( ).
فالله سبحانه يرى الإنسان ويعلم أفعاله، فتفضل وهداه إلى ما يجب عليه من العبادات والفرائض التي يحتاجها في الحياة الدنيا والآخرة، وفيه بيان لقانون ثابت في الأرض وهو ليس من شيء أفضل في الدنيا من طاعة الله وفيها البهجة والغبطة , وهل هذه البهجة من عمومات قوله تعالى في هذه الآية(لعلكم ترحمون) أم أن الرحمة أمر مستقل يأتي ثواباً وجزاء من عند الله.
الجواب كلا الأمرين صحيح , ليكون من منافع طاعة الله الصحة النفسية والسلامة من الآفات البدنية التي تترشح عن أمراض النفس، ورشحات هذه الطاعة مناسبة لحسن العشرة، ومقدمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعون للمسلم في أداء العبادات بشوق ورضا , لذا ذم الله عز وجل المنافقين بقوله تعالى[وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه تبعث على العمل بمضامين الآية الأخرى وعلى نحو متبادل، فآية البحث تدفع الناس عامة والمسلمين خاصة عن منازل النفاق، وتبين لهم في مفهومها قبحه وأضراره.
والآية أعلاه تجذبهم إلى مراتب الإيمان، وتبعثهم إلى طاعة الله، وتجعلهم يدركون الحاجة إلى إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد كاد النفاق أن يضر بالإسلام في أيامه الأولى، وبالذات في معركة أحد، إذ زحفت قريش بخيلها وخيلائها طلباً للثأر من هزيمتهم وقتل ساداتهم يوم بدر المبارك بعد أن قام رجال منهم بالتحريض على الإنتقام من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
(وقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّ مُحَمّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ ، وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ فَلَعَلّنَا نُدْرِكُ مِنْهُ ثَأْرَنَا بِمَنْ أَصَابَ مِنّا، فَفَعَلُوا)( ).
وخرج مع قريش بنو كنانة والأحابيش، وأخرج عدد من رؤسائهم معهم نساءهم كيلا يفروا، وقمن ببعث الحماسة في نفوسهم أثناء القتال بأبيات من الشعر، منها:
إنْ تُقْبِــــــــــــــــلُوا نُعَانِقْ … وَنَفْـــــــــــرِشُ النّمــــــــــَارِقْ
أَوْ تُدْبِـــــــــــــرُوا نُفَارِقْ … فِـــــــــرَاقَ غَيْــــــــــــــرَ وَامِقْ( )
وكن يحرضن على نحو القضية الشخصية أيضاً فهند بنت عتبة زوجة أبي سفيان كانت تقول لوحشي إذا مرت به أو مر بها(وَيْهَا أَبَا دَسْمَةَ اشْفِ وَاسْتَشْفِ وَكَانَ وَحْشِيّ يُكَنّى بِأَبِي دَسْمَةَ)( )، والإستغاثة بالعبد دليل الضعف والعجز إلى أن قام وحشي بقتل حمزة سيد الشهداء.
وكان عدد المشركين الزاحفين يوم أحد ثلاثة آلاف، وخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بألف للقائهم فأخذ رأس النفاق عبد الله ابن أبي سلول يخذل أفراد الجيش وهو يقول: عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ فَرَجَعَ بِمَنْ اتّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ وَالرّيْبِ)( ).
ويتبادر إلى الذهن أن الذين رجعوا معه قليل عددهم، ولكنهم كانوا ثلث الجيش أي أكثر من ثلاثمائة من أصل ألف، وليس من مدد يأتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الأرض، فلم تكن بلدة مؤمنة يعبد فيها المسلمون الله عز وجل جهاراً إلا المدينة المنورة.
وكانت إشراقات البشارة قد نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ثبات أصحابه معه في وجه النفاق بقوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
وفيه تأكيد لطاعتهم لله ورسوله وإستعدادهم للقتال، وإعراضهم عن دعوة المنافقين بالرجوع، وقد قام عبد الله بن عمرو بن حرام( ) بإتباع المنافقين وهو يحذرهم من خذلان النبي وقومهم عند مواجهتهم العدو، وفيه دلالة على ثبات المؤمنين في منازل الطاعة ولحوق الخزي للذين يمتنعون عن طاعة الله ورسوله, فجاء مصداق البشارة بنزول الملائكة مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين قال تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( ).
ولقد تناقص وإنحسر عدد وأثر المنافقين مع توالي أمور:
الأول: نزول آيات القرآن، وما فيها من الإعجاز.
الثاني: تكرر وتعاقب نصر المسلمين في ميادين القتال، قال تعالى[لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ]( ).
الثالث: نفاذ الإيمان إلى قلوب شطر من المنافقين ,وإظهارهم حسن الإسلام لتعاقب المعجزات , وإتضاح الوهن الفاضح على الكفار، وتجلي مصاديقه.
الرابع: الشواهد والدلالات التي تؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس: حصر عدد المنافقين وإنكشاف أمرهم، وإدراكهم مع تقادم الأيام القبح الذاتي والعرضي للنفاق، وأضراره العامة والخاصة، قال تعالى[يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ]( ).
السادس: نفرة المسلمين من المنافقين، والفعل الذي يفيد النفاق بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر، وتجعل هذه النفرة المنافق يدرك أن ثمن الإقامة على النفاق باهضاً، مع عدم الحاجة إليه فيهجره رغبة بصدق الإيمان.
السابع: فضل الله عز وجل في بعث المسلمين والمسلمات عموماً لإتيان العبادات بنية صادقة وقصد القربة إلى الله عز وجل، قال تعالى[وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
الثامن: ترغيب المسلمين بهجران أفراد النفاق مطلقاً , إذ جاءت الأوامر الإلهية للمسلمين بالإرتقاء في سبل المعرفة والتقيد بأحكام الشريعة على نحو الوجوب العيني كما في إقامة الصلاة وإتيان الزكاة وصيام شهر رمضان وحج بيت الله الحرام، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ).
ويحمل الأمر أعلاه على الوجوب بالإجماع، ويشمل المنافقين أيضاً لأنهم ينطقون بالشهادتين، فيصدق عليهم أنهم آمنوا بالله.
التاسع: مجيء الآية التالية بحث المسلمين إلى المسارعة إلى المغفرة، والسعي إلى الجنة مع الترغيب بها وبعث الشوق إليها ببيان سعتها بقوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( ).
لذا كان عدد المنافقين في نقصان مستمر، وهم إلى زوال وإنحسار على نحو متسارع.
لتكون الآيات التي تصف وتذم المنافقين على وجوه:
الأول: إنها شاهد على منافع الآية القرآنية.
الثاني: فيها مصداق تأريخي للإعجاز الغيري للقرآن بالتأثير في النفوس والمجتمعات بجذب الناس لمنازل الهداية والإيمان.
الثالث: الزجر عن النفاق وخذلان المؤمنين والركون للظالمين .
وتتجلى طاعة الرسول بأبهى معانيها في ميدان القتال للنصر والغلبة على الأعداء وكفاية أذاهم، والسلامة من شرور المنافقين وتثبيطهم العزائم، وفي معركة بدر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مناجاته ودعائه:
( اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فما زال يهتف ربه ماداً يديه حتى سقط رداؤه من منكبيه فأنزل الله تعالى إذ تستغيثون ربكم)( ).
ليقود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جيش المسلمين في المعركة، وتكون طاعته واجبة وجزء علة في تحقيق النصر والظفر على الأعداء، وسقوط عدد منهم أسرى بيد المسلمين، وعودة المجاهدين بالغنائم ليتولى النبي بنفسه توزيعها عليهم بالعدل، ويتلقون هذا التوزيع بالطاعة والرضا، وهو من عمومات قوله تعالى[أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ….]( )، (وأخرج عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فمن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)( ).
وكان العرب يتخذون من الصحراء سكناً لهم، ويتنقلون ويرحلون حسب مواطن الكلأ والغيث مما جعل كل واحد منهم مستقلاً غير منقاد لغيره، ويأنف من الإمارة، وإن أراد غيره منه الولاء والطاعة أعرض عن المكان الذي هو فيه، وتوارى عنه، فكان إجتماعهم تحت لواء رسول الله معجزة خاصة له وآية باقية في العالمين، إذ إمتثلوا لأمر الله بطاعته، والسر في المقام أنهم رأوا الحق والخير والآيات في طاعته، فواظبوا عليها.
وجاءت الآية أعلاه لدفع وهم بأن الطاعة لا تصلح إلا لشخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( )، بتقريب أن الإنقلاب أعم من الكفر والجحود، فجاءت الآية أعلاه من سورة النساء لبيان وجوب طاعة القادة والأئمة من بعده.
وقيل(إنهم الأمراء أنها نزلت في أمراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان السبب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية فيها عمار بن ياسر، وأميرها خالد بن الوليد، فقصدوا قوماً من العرب، فأتاهم نذير فهربوا تحت الليل، وجاء منهم رجل إلى عسكر خالد، فدخل إلى عمار فقال: يا أبا اليقظان، إن قومي قد فروا، وإني قد أسلمت، فإن كان ينفعني إسلامي بقيت، وإلا فررت
فقال له عمار: هو ينفعك، فأقم، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد سوى الرجل المذكور فأخده وأخذ ماله، فجاء عمار فقال: خل عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني، فقال خالد: وأنت تجير؟ فاستبّا وارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير، واستبّا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقال خالد: يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يسبني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا خالد لا تسب عماراً، فإنه من سب عماراً سبّه الله، ومن أبغض عماراً أبغضه الله، ومن لعن عماراً لعنه الله، فغضب عمار، فقام فذهب، فتبعه خالد حتى إعتذر إليه)( ).
والمدار في دلالات الآية على عموم المعنى وليس سبب النزول وحده.
قانون(رسائل النبي محمد(ص)
لقد بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على فترة من الرسل وفي وسط الجزيرة العربية، وبين قوم مشركين إعتادوا عبادة الأوثان إلا أن بقايا الحنيفية ظاهرة ومتداولة بينهم، إلى جانب وجود أهل الكتاب على أطرافها.
فاليهود في المدينة المنورة، والنصارى في نجران، وقريش تسافر كل سنة إلى الشام حيث الروم والنصارى، وإلى اليمن حيث حكم كسرى والمجوس، قال تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
وتكون طاعة الناس لملوك الدول العظمى آنذاك بحكم سلطانها وجبروتها، وكثرة جنودها، وحضورهم في الوقائع، فجاءت آية البحث بنقض هذه الطاعة، ودعوة الناس للعزوف والإعراض عن سلطان تلك الدول، وفيها إسقاط لهيبتها في النفوس وإعلان للحرب عليها، ولابد أن يكون الرد من تلك الدول قاسياً وذا صبغة إنتقامية.
ولكن الله عز وجل جعل حجباً بينهم، وبين رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأشغلهم عنها، مع أن الأفراد والجماعات كانوا يذهبون إلى هرقل وكسرى ويكتبون لهما الكتب يحثونهما على الإجهاز على النبوة والرسالة ويحركون مشاعر الكفار ويقولون أن النبي محمداً يسفه عقولكم، بل إن النبي نفسه قام بإرسال الرسائل إلى ملوك الأرض يدعوهم للإسلام.
ومن معجزات نبوته أنه لم يدعهم إلى الإسلام إلا بعد أن ثبت صرح الإسلام وصارت له دولة وحكم في المدينة المنورة، ولم ينتظر النبي محمد حتى يتم فتح مكة ويظهر على الجزيرة كلها.
وتلك آية تدل على صدق نبوته وأنه يفعل ما يأمره الله عز وجل وإلا ما هو شأن مدينة واحدة هي يثرب في الجزيرة أمام القوة الهائلة والتنظيم في الجيش والحياة العامة في حكم كل من قيصر وكسرى.
(عن عبد الله بن شداد قال: كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى صاحب الروم من محمد رسول الله إلى هرقل صاحب الروم ! إني أدعوك إلى الإسلام فإن أسلمت فلك ما للمسلمين وعليك ما عليهم فإن أبيت فتخلي عن الفلاحين فليسلموا أو يؤدوا الجزية فلما أتاه الكتاب قرأه فقام أخ له فقال: لا تقرأ هذا الكتاب بدأ بنفسه قبلك ولم يسمك ملكا وجعلك صاحب الروم
قال: كذبت أن يكون بدأ بنفسه فهو كتب إلي وإن كان سماني صاحب الروم ليس لهم صاحب غيري فجعل يقرأ الكتاب وهو يعرق جبينه من كرب الكتاب وفي شدة القر فقال: من يعرف هذا الرجل؟ فأرسل إلى أبي سفيان فقال: أتعرف هذا الرجل؟
فقال: نعم قال: ما نسبه فيكم ؟ قال: من أوسطنا نسبا قال: فأين داره من قريتكم؟ قالوا: في وسط قريتنا قال : هذه من آياته قال: هل يأتيكم منهم أحد ويأتيهم منكم أحد قلت: يأتيهم منا ولا يأتينا منهم قال: هل قاتلتموه؟ قال: نعم قال: فظهرتم عليهم أو ظهروا عليكم؟
قلت: بل ظهروا علينا قال: وهذه من آياته قال قلت ألا تسمع أنه يقول: سيظهر على الأرض كلها قال: إن كان هو ليظهرن على الأرض حتى يظهر على ما تحت قدمي , ولو علمت أنه هو لمشيت إليه حتى أقبل رأسه وأغسل قدميه
قال أبو سفيان: إنه لأول يوم رعبت من محمد قلت: هذا في سلطانه وملكه وحصونه يتحادر جبينه عرقا من كرب الصحيفة فما زلت مرعوبا من محمد حتى أسلمت.
وفي الرسالة{يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}( ) {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}( ) {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)( ).
وبعث النبي الوفود بالرسائل إلى الملوك، في سنة ستة للهجرة، وعددهم ستة، وبعث غيرهم فيما بعد ومنهم:
الأول: بعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى.
الثاني: دحية الكلبي إلى قيصر وهو هرقل، كما تقدم أعلاه , وذكر أن كتاب النبي لقيصر كان(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتّبع الهدى، أسلمْ تسلمْ، وأسلمْ يؤتِك الله أجرك مرّتين، وإن تولّيت فإن إثم الأكّارين عليك)( ).
الثالث: عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي.
(وقال الواقدي عن أشياخه: إن أول رسول بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمرو بن أمية إلى النجاشي، وكتب إليه كتابين يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، ويتلو عليه القرآن، فأخذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوضعه على عينيه.
ونزل عن سريره وجلس على الأرض متواضعاً ثم أسلم وشهد شهادة الحق، وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه آله وسلم بإجابته وتصديقه وإسلامه على يدي جعفر بن أبي طالب.
وفي الكتاب الآخر يأمره أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب)( ).
الرابع: العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى أخي عبد قيس والي البحرين وقيل أن إرساله كان سن ثمان)( )، ودعاه العلاء ومن معه بالبحرين إلى الإسلام أو الجزية، وصالح أهلها العلاء على الجزية من كل حالم دينار، لأنهم كانوا من اليهود والنصارى والمجوس(ولم يكن بالبحرين قتال إنما بعضهم أسلم وبعضهم صالح)( )، فأسلم المنذر بن ساوى
الخامس:أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاطب بن بلتعة إلى المقوقس القبطي صاحب الإسكندرية، وقبّل المقوقس الكتاب وأهدى للنبي أربع جوار، منهن ماريا أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقبل هديته: وقال: ضن الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه)( ).
السادس: سليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة، وكتب النبي مع سليط كتاباً يدعوه إلى الإسلام فقدم على هوذة(فأنزله وحباه، وقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكتب إليه وقال: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك، وأجاز سليط بن عمرو جائزة، وكساه أثواباً من نسج هجر.
فقدم بذلك كله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره عنه بما كان وما قال، وقرأ كتابه، وقال: ” لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت، باد وباد ما في يديه ” . فلما إنصرف رسول الله صلى الله عليه آله وسلم يوم الفتح جاءه جبريل عليه السلام، وأخبره أنه قد مات)( ) (كان هوذة بن علي الحنفي من الملوك العقلاء دخل على كسرى أبرويز فسأله: أي أولادك أحب إليك، قال: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يقدم، والمريض حتى يبرأ، فقال: ما غذاؤك؟ قال: الخبز، فقال كسرى: هذا عقل الخبز لا عقل اللبن والتمر. وكان من يأكل الخبز عندهم ممدوحاً)( ).
السابع: بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شجاعاً بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني , روى الواقدي عن أشياخه قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتاباً
قال شجاع: فأتيت إليه وهو بغوطة دمشق، وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لقيصر، وهو جاء من حمص إلى إيلياء، فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة، فقلت لحاجبه: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه، فقال: لا تصل إليه حيث يخرج يوم كذا وكذا، وجعل حاجبه – وكان رومياً – يسألني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يدعو إليه، فكنت أحدثه عن صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يدعو إليه، فيرق حتى يغلبه البكاء
ويقول: إني قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي بعينه، فأنا أؤمن به وأصدقه، وأخاف من الحارث أن يقتلني، وكان يكرمني ويحسن ضيافتي. وخرج الحارث يوماً فجلس ووضع التاج على رأسه، فأذن لي، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقرأه ثم رمى به، وقال: من ينتزع مني ملكي، أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئته. علي بالناس. فلم يزل يعرض حتى قام، وأمر بالخيول تنعل، ثم قال: أخبر صاحبك ما ترى.
وكتب إلى قيصر يخبره خبري وما عزم عليه، فكتب إليه قيصر ألا تسير إليه وأله عنه ووافني بإيلياء؛ فلما جاء جواب كتابه دعاني فقال: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ فقلت: غداً، فأمر لي بمائة مثقال ذهب، ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة
وقال: أقرئ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مني السلام، فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبرته فقال:”باد ملكه” ومات الحارث بن أبي شمر عام الفتح) ( ).
وأما النجاشي فإنه لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، آمن به واتبعه وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب وأرسل إليه إبنه في ستين من الحبشة فغرقوا في البحر .
وكانت أم حبيبة مهاجرة بالحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش، فتنصر وتوفي بالحبشة، فخطبها النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأجابت، وزوجها، وأصدقها النجاشي أربعمائة دينار، فلما سمع أبو سفيان تزويج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم حبيبة قال: ذاك الفحل لا يقدع أنفه( ))( ).
(وإما كسرى فجاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمزق الكتاب، وكان كتابه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى كرسى عظيم فارس، سلام على من اتّبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وإنّي أدعوك بدعاء الله، وإنّي رسول الله إلى النّاس كافّة لأُنذر (مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحقَّ القَوْلُ عَلى الكافرين)، فأسلمْ تسلمْ، وإن تولّيت فإنّ إثم المجوس عليك).
فلما قرأه شقه، قال: يكتب إلي بهذا وهو عبدي ! ثم كتب إلى باذان، وهو باليمن: أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به. فبعث باذان بابويه، وكان كاتباً حاسباً، ورجلاً آخر من الفرس يقال له خرخسره، وكتب معهما يأمره بالمسير معها إلى كسرى، وتقدم بابويه أن يأتيه بخبر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم
وسمعت قريش بذلك ففرحوا وقالوا: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك، كفيتم الرجل. فخرجا حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما وقال: ويلكما من أمركما بهذا ؟ قالا: ربنا، يعنيان الملك
فقال: لكن ربي أمرني أن أعفي لحيتي وأقص شاربي، فأعلماه بما قدما له وقالا: إن فعلت كتب بأذان فيك إلى كسرى، وإن أبيت فهو يهلكك ويهلك قومك. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ارجعا حتى تأتياني غداً
وأتى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الخبر من السماء: إن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله، فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبرهما بقتل كسرى وقال لهما: إن ديني وسلطاني سيبلغ ملك كسرى وينتهي منتهى الخف والحافر، وأمرهما أن يقولا لباذان: أسلم، فإن أسلم أقره على ما تحت يده وأملكه على قومه. ثم أعطى خرخسره منطقة ذهب وفضة أهداها له بعض الملوك.
وخرجا فقدما على بأذان وأخبراه الخبر، فقال: والله ما هذا كلام ملك وإني لأراه نبياً، ولننظرن فإن كان ما قال حقاً فإنه لنبي مرسل، وإن لم يكن فنرى فيه رأينا. فلم يلبث بأذان أن قدم عليه كتاب شيرويه يخبره بقتل كسرى وأنه قتله غضباً للفرس لما استحل من قتل أشرافهم، ويأمره بأخذ الطاعة له باليمن وبالكف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فلما أتاه كتاب شيرويه أسلم وأسلم معه أبناء من فارس. وكانت حمير تسمى خرخسره صاحب المعجزة، والمعجزة بلغة حمير المنطقة)( ).
وأما هوذة بن علي ملك اليمامة فلما أتاه سليط بن عمرو يدعوه إلى الإسلام، وكان نصرانياً، أرسل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفداً فيهم مجاعة بن مرارة والرجال بن عنفوة يقول له: إن جعل الأمر له من بعده أسلم وسار إليه نصره، وإلا قصد حربه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ولا كرامة، اللهم اكفنيه ! فمات بعد قليل.
وأما مجاعة والرجال فأسلما، وأقام الرجال عند رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى قرأ سورة البقرة وغيرها وتفقه وعاد إلى اليمامة فارتد وشهد أن رسول الله أشرك مسيلمة معه، فكانت فتنته أشد من فتنة مسيلمة)( ).
(لما قدمت وفود العرب على النبي صلى الله عليه وسلم، قام طهفة بن أبي زهير، فقال: يا رسول الله، أتيناك من غوري تهامة بأكوار الميس، ترمي بنا العيس، نستحلب الصبير، ونستخلب الخبير، ونستعضد البرير؛ ونستخيل الرهام، ونستجيل الجهام؛ من أرض غائلة النطاء، غليظة الوطاء؛ قد نشف المدهن، ويبس الجعئن؛ ومات العسلوج؛ وسقط الأملوج؛ وهلك الهدي، ومات الودي. برئنا يا رسول الله من الوثن والعنن، وما يحدث الزمن؛ لنا دعوة السلام، وشريعة الإسلام؛ ما طمى البحر وقام تعار؛ ولنا نعم همل أغفال، ما تبص ببلال؛ ووقير كثير الرسل قليل الرسل أصابتها سنية حمراء، مؤزلة ليس بها علل ولا نهل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك لهم في محضها ومحضها ومذقها، وابعث راعيها في الدثر، بيانع الثمر؛ وافجر له الثمد، وبارك له في المال والولد؛ من أقام الصلاة كان مسلماً، ومن أتى الزكاة كان محسناً، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصاً. لكم يا بني نهد، ودائع الشرك، ووضائع الملك؛ لا تلطط في الزكاة، ولا تلحد في الحياة، ولا تثاقل عن الصلاة ،وكتب معه كتاباً على بني نهد: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى بني نهد بن زيد: السلام على من آمن بالله ورسوله، لكم يا بني نهد في الوظيفة الفريضة، ولكم الفارض والفريش، وذو العنان الركوب، والفلو الضبيس، لا يمنع سرحكم، ولا يعضد طلحكم، ولا يحبس دركم، ما لم تضمروا الإمآق، وتأكلوا الرباق، من أقر بما في هذه الكتاب، فله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاء بالعهد والذمة، ومن أبى عليه فعليه الربوة)( ).
قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]
الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي ، لعطفه على نداء التشريف قبل آيتين [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ومع قلة كلمات الآية فانها تضمنت أمرين وأملا ، أما الأمران فهما :
الأول : وجوب طاعة الله بالتقيد بأحكام وسنن القرآن ، وفيه شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله ، وأنه كلامه الذي أنزله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ).
الثاني : وجوب طاعة النبي محمد في الأوامر والنواهي والتي ينطق بها عن الوحي ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]( ).
والبشارة والأمل بالرحمة من عند الله في الدنيا والآخرة جزء على طاعة الله والرسول .
وسيأتي مزيد كلام في الجزء الرابع والخمسين بعد المائتين@ , ومنه عنوان (تقدير لعلكم ترحمون) , وآيات في طاعة الرسول واقترانها بطاعة الله عز وجل .

قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]الآية 133
القراءة
(قرأ نافع وابن عامر “سارعوا” بلا واو، والباقون بالواو، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام بلا واو وفي مصاحف أهل العراق بالواو)( ).
الأعراب واللغة
الواو: حرف عطف، سارعوا: فعل أمر مبني على حذف النون، الواو: فاعل.
إلى مغفرة: جار ومجرور متعلقان بسارعوا.
من ربكم: جار ومجرور، متعلقان بمحذوف نعت لمغفرة، والضمير(كم) مضاف إليه.
وجنة: الواو: حرف عطف، جنة: اسم معطوف على مغفرة مجرور مثله، عرضها: عرض: مبتدأ مرفوع بالضمة، وهو مضاف، والضمير(الهاء) مضاف إليه.
السموات: خبر مرفوع على حذف مضاف، والأرض: الواو: حرف عطف، الأرض: معطوف على السموات مرفوع مثله.
أعدت للمتقين: أعدت: فعل ماض مبني للمجهول، التاء تاء التأنيث الساكنة، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هي، يعود للجنة.
للمتقين: اللام حرف جر، المتقين: اسم مجرور وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم، والجار والمجرور متعلقان بأعدت.
وأشكل على تفسير الطول بأنه ضد العرض، وأن العرض ضد الطول بالقول(وَهَذَا لَا يَصِحُّ التَّفْسِيرُ بِهِ لِوُقُوعِ الدَّوْرِ فِيهِ)( )، ولكنه لا يلزم الدور وفق الإصطلاح الفلسفي لأن المقصود منه توقف وجود كل من الطرفين على الآخر، نعم التعريف أعلاه غير تام ويلزم البيان لأن الطول أطول الإمتدادين للجسم أو السطح، والعرض هو الإمتداد الأقصر، وقيل(أنّ الطّول هو الإمتداد المفروض أوّلاً، وهو أوّل الأبعاد الجسميّة و العرض الامتداد المفروض ثانياً المقاطع للأوّل على زوايا قوائم وهو ثانيها )( ),
فطول الإنسان من رأسه إلى قدميه، وعرضه من يمينه إلى يساره، بتطبيق القاعدة أعلاه .
وجاءت الآية بالإعجاز لذكر عرض الجنة على نحو الخصوص للتسليم بأن طولها من اللامتناهي من باب الأولوية القطعية.
وحتى على فرض وصول الإنسان إلى معرفة أطوال الأرض والسماء وهو أمر ممتنع فإنه يعجز عن معرفة مساحة الجنة لأن القرآن ذكر إمتدادها الأقصر وهو العرض , وتخلف الناس أمس واليوم وغداً عن معرفته فكيف بالطول ومفاهيم السعة فيه , وهو من أسباب ترغيب الناس بطاعة الله ورسوله وبيان حقيقة وهي أن الوعد والكرم من الله أعم من أن تحيط به الخلائق، وهو من عمومات قوله تعالى الذي يردده المسلمون في كل يوم مرات عديدة وعلى نحو متكرر في ذات الركعة الواحدة من الصلاة في صفات الله[الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ).
ويأتي العَرْض-بكسر العين في اللغة بمعنى : الجسد ورائحته، ( وفي صفة أهل الجنة(إنما هو عَرَض يسيل من أعراضهم) أي من أجسادهم ).
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة وهي على شعبتين:
الأولى: صلة هذه الآية بالآيات السابقة, وفيها وجوه:
الأول: صلة هذه الآية بالآية السابقة[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
صلة(وأطيعوا الله) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إبتدأت آية البحث بالأمر الإلهي إلى المسلمين مما يدل على التداخل الموضوعي ووحدة السياق بين الآيتين، ومن منافعه نظم وتكامل الآيات في المقام أمور:
الأول: تأكيد المسؤوليات العظيمة للمسلمين، وأهليتهم لتلقي الأوامر على نحو متتابع، وهو من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثاني: تعدد فضل الله عز وجل على المسلمين بالرحمة التي أختتمت بها الآية السابقة، والمغفرة التي بدأت بها هذه الآية, وفيه بعث للسعي في مرضاة الله، والعمل بطاعته.
الثالث: بيان سعة الفضل الإلهي الذي يأتي لأهل الطاعة والإمتثال.
الرابع: لما جاءت الآية السابقة بذكر رحمة الله، وتغشيها للمسلمين والمسلمات على نحو الرجاء(لعلكم ترحمون) جاءت هذه الآية بالأمر بالمسارعة إلى المغفرة من الله، لأن الرحمة من عند الله، قال تعالى[يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
أما المسارعة إلى المغفرة فهي فعل ومبادرة من المسلمين لبلوغ مرتبة العفو والمغفرة التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل، ليكون من إعجاز الآية نيل المغفرة على نحو التطلع إلى فضل الله ورحمته، ولكن بمرتبة أقرب من الترجي في نيل الرحمة، قال تعالى[أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الخامس: ترى ما هي النسبة بين الرحمة المغفرة, فيها وجوه:
الأول: نسبة التساوي فالمغفرة هي ذات الرحمة.
الثاني: العموم والخصوص المطلق، إذ أن المغفرة من مصاديق الرحمة وفرع منها.
الثالث: العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
الرابع: التباين بين الرحمة والمغفرة.
الخامس: المغفرة مقدمة للرحمة الإلهية.
السادس : لا تأتي الرحمة قبل أن تسبقها المغفرة.
وبإستثناء الوجه الرابع والسادس ، فإن الوجوه الأخرى أعلاه صحيحة, فكل من الرحمة والمغفرة فضل ولطف من الله عز وجل, وأصل خلق الإنسان وبعث الروح فيه نعمة ورحمة، وتصيب رحمة الله البر الفاجر، وتنزل شآبيبها على الناس جميعاً، إلا أن المراد في الآية السابقة رحمة إضافية إلى جانب عمومات الرحمة التي تصيب الناس، وليس من حصر لكل من طرفي الرحمة أعلاه.
لذا فإن السعي لنيل الرحمة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، كلما كان السعي أكثر كانت أفراد الرحمة أعم وأوسع، قال تعالى[قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ]( ).
الثانية: تقدير الجمع بين الآيتين: وأطيعوا الله وسارعوا إلى مغفرة من ربكم)بإضافة واو عطف لبداية آية البحث بلحاظ النسبة بين الأمرين وهي العموم والخصوص المطلق، فطاعة الله أعم, وفيه نكتة وهي أن التكاليف والواجبات العبادية للمسلمين متعددة وكثيرة من وجوه:
الأول: يقوم المسلم بطاعة الله، ثم يسعى لنيل المغفرة.
الثاني: طاعة الله عز وجل ذاتها سعي للمغفرة، وطلب للعفو من عنده سبحانه, قال تعالى[إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]( ).
الثالث: طاعة الله تذكير ومقدمة لسؤال المغفرة، وكذا فإن طلب المغفرة مقدمة لطاعة الله.
الثالثة: ورد ذكر الله عز وجل في الآيتين، ففي الطاعة جاء ذكر اسم الجلالة ليكون الأمر بالطاعة بسيطاً جلياً واضحاً عند المسلمين، وفي سؤال المغفرة ذكر الله عز وجل بصفة الربوبية المطلقة للمسلمين والمسلمات جميعاً.
وفيه تأكيد لحاجة الناس لرحمة الله، وإذا كان المسلمون مدعوين للسعي الحثيث لنيل المغفرة، فكيف بغيرهم من أهل الملل والنحل, ولا تنال المغفرة إلا بالإسلام والإنقياد لأوامر الله عز وجل ونواهيه، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى(وأطيعوا الله والرسول).
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين قرب المغفرة من المسلمين بفضل من الله، ومنافع سؤال المغفرة كثيرة منها:
الأول: التفقه في الدين.
الثاني: الإقرار باليوم الآخر.
الثالث: التسليم بلزوم طاعة الله والرسول.
الرابع: نزول الفضل الإلهي على المسلمين مجتمعين ومتفرقين وليس من زمن أو مناسبة مخصوصة للإستغفار، فهو محبوب في طلب الرزق، ورجاء الفضل والزيادة من الله وفي الإستسقاء .
وبالإسناد عن الشفاء بنت خلف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إستغفروا ربكم إنه كان غفارا وحول رداءه)( )،
فكان النبي يكثر من الإستغفار في خطبة الإستسقاء ومطلقاً لتأديب المسلمين على الإكثار من الإستغفار، وإدراك حقيقة وهي الملازمة بين الإستغفار والرزق الكريم.
الخامسة: تأكيد الملازمة بين طاعة الله في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة بلحاظ أن الدنيا مزرعة للآخرة، وبيان حقيقة وهي أن الأمر بطاعة الله والرسول رحمة من الله، ودعوة للبث الدائم في الجنة، قال تعالى[وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ]( ).
السادسة: جاءت كل من الآيتين بلغة الأمر وصيغة الجمع(وأطيعوا) (سارعوا) ليخاطب بهما المسلمون على نحو العموم الإستغراقي المتجدد في كل زمان.
وفيه تعاهد للشريعة الإسلامية، وسلامة للتنزيل من التحريف لتجلي طاعة الله بالأحكام التي جاءت في القرآن، فيتوارث المسلمون تلاوة آيات القرآن والعمل بمضامينها إلى يوم القيامة، مع الرجوع إلى السنة النبوية لإستقراء البيان والتفسير والتفصيل للأحكام والسنن، وهو من مصاديق الجمع بين طاعة الله والرسول في آية السياق،
فكما يحتاج المسلمون تلاوة وحفظ آيات القرآن فإنهم يحتاجون العمل بالسنة النبوية وحفظها من الضياع.
السابعة: طاعة الله مقدمة وسبيل لدخول الجنة, وفي بيان عرضها وسعتها ترغيب للمسلمين بطاعة الله ورسوله، وتأكيد للمائز بينهم وبين غيرهم من أهل الملل والنحل.
فمن مصاديق هذا التأكيد مجيء المسارعة إلى المغفرة بعد طاعة الله ورسوله.
الثامنة: من إعجاز القرآن إجتماع الأمر بطاعة الله والبشارة بالثواب العظيم عليها, وفيه ترغيب بإتيان الفرائض والوجبات، وبعث للطمع بالثواب والجزاء الحسن الذي ينتظر المسلمين لطاعتهم لله ورسوله.
التاسعة: طاعة الله ورسوله شاهد التقوى, ومن يتق الله عز وجل يحرص على طاعته في السراء والضراء، والسر والعلانية، ومن إعجاز نظم الآيات أنها لم تأت بتخويف المسلمين من النار، بل جاءت بترغيبهم بالثواب العظيم الذي ينتظرهم , وما فيه من معاني اللطف والرأفة بهم .
صلة(والرسول) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إقتران طاعة الرسول بطاعة الله كما في الآية السابقة طريق لبلوغ مرتبة العفو والمغفرة من الله.
ومن الشواهد عليه أن تسمية(الرسول) جاءت بصفة الإطلاق والتعريف بالألف واللام الذي يفيد العهد وإرادة رسول مخصوص ومعلوم عند المسلمين هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الحصر والتعيين, وفيه إشارة إلى لزوم إتباعه ونصرته والصدور عن أوامره التي هي من أفراد الوحي وإن جاءت بالمرتبة الثانية بعد القرآن .
الثانية: بيان الحاجة لطاعة الرسول في نيل العفو والمغفرة.
ومن الآيات أن إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين نافع لهم في أمور الدين والدنيا، قال تعالى[وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا]( ).
الثالثة: طاعة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسارعة إلى المغفرة، ورجاء لبلوغ مراتب الرحمة والعفو من الله عز وجل، قال تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
الرابعة: يبعث قوله تعالى(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) على التفقه في الدين، والسعي لمعرفة سبل المغفرة، وكيفية إحرازها والفوز بها، وقد خفّف الله عز وجل عن المسلمين إذ بيّن لهم في الآية السابقة سبيل العفو والمغفرة وهو طاعة الله والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا التخفيف من رحمة الله بالمسلمين والناس جميعاً وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الخامسة: يفيد الجمع بين الآيتين الزجر عن الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالمغفرة لا تطلب إلا من الله عز وجل، ولم يأت الأمر بطاعة الرسول إلا بعد الأمر بطاعة الله عز وجل مما يدل على أن طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما هو رسول من الله، تفضل الله وأكرمه بالوحي والرسالة وسلامة المسلمين من الغلو بالنبوة من خصائص[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادسة: لقد جعل الله عز وجل السنة النبوية مصدراً للتشريع بعد القرآن إذ تتضمن التفسير والبيان والتأويل لآياته وأحكامه، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
السابعة: تفضل الله عز وجل بإقامة الحجة على الناس ببعث الأنبياء والرسل مبشرين بالجنة ومنذرين من العزوف عن طلب وسؤال المغفرة من الله قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: سارعوا إلى المغفرة بطاعة الله.
الثاني: سارعوا إلى المغفرة بطاعة الرسول.
الثالث: سارعوا إلى الجنة بطاعة الله.
الرابع: سارعوا إلى الجنة بطاعة الرسول.
الخامس: سارعوا إلى المغفرة بطاعة الله والرسول.
السادس: سارعوا إلى الجنة بطاعة الله والرسول .
وإذا كان الخطاب في الآيتين متوجهاً للمسلمين والمسلمات فما هو حال الكفار.
الجواب من وجوه:
الأول: حجب المغفرة عن الكفار.
الثاني: عجز الكفار عن بلوغ مرتبة المغفرة والعمل إلى الجنة.
الثالث: توجه الخطاب لمن يتوب من الكفر، ويدخل الإسلام، ويتخلى عن الضلالة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه فحال التلبس بالكفر برزخ دون الفوز بمرتبة العفو والمغفرة، وهذا التلبس أمر إختياري أراده الكافر لنفسه مع ما رزقه الله من العقل وتجلي الآيات الكونية ومعجزات الأنبياء، ومصاحبة القرآن للمسلمين والناس كمعجزة قرآنية متجددة، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
صلة(لعلكم ترحمون)بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم لعلكم ترحمون) لتأتي الرحمة من عند الله من وجوه:
الأول: العزم على المسارعة إلى المغفرة، وما فيه من النية الصادقة والتسليم بالعبودية والخضوع لله عز وجل.
الثاني: المبادرة إلى فعل الخيرات التي ينال معها المسلم العفو والمغفرة من الله.
الثالث: تعاهد ذكر الله، وإتخاذه وقاء وسلاحاً للإحتراز من المعاصي، ووسيلة لبلوغ مراتب العفو والمغفرة، قال تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( ).
الرابع: المسارعة إلى الإستغفار، والحرص على جعله متعقباً لفعل السيئة، وحتى لو جاء الإستغفار متأخراً عن المعصية فإن الله عز وجل يقبله ويرتضيه من العبد، كما يدل عليه قوله تعالى[وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
وتتجلى رحمة الله في الآية أعلاه بمجيء حرف العطف والتراخي(ثم)الذي يفيد تأخر الإستغفار زماناً عن فعل المعصية، فقد يرتكب العبد الذنب وهو مصر عليه، ولا يلتفت إلى ضرره وقبحه الذاتي والعرضي.
وقد يستمر ردحاً من الزمن على فعل المعاصي ثم يلجأ إلى التوبة فيكون الإستغفار متعقباً لآخر ذنب منه ومتأخراً عن الذنب الأول، فبرحمة من الله يأتي الإستغفار عليهم وما بينهما من الذنوب والمعاصي.
الثانية: من رحمة الله التوفيق للمسارعة إلى المغفرة، والهداية إلى السبل التي تجلب أسباب العفو والمغفرة، فمن إعجاز القرآن بيان قانون ثابت إلى يوم القيامة وهو أن طاعة الله والرسول سبيل للفوز برحمة الله.
ومن مصاديق رحمة الله بعث المسلمين على المسارعة في سبل العفو والمغفرة، لتكون طاعة الله ورسوله السبيل للفوز برحمة الله.
الثالثة: يحتاج الإنسان رحمة الله عز وجل في الدنيا والآخرة، فأصل خلق الإنسان رحمة من عند الله، ثم تفضل سبحانه وبوأه الخلافة في الأرض من بين الخلائق، قال تعالى[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ليأتي الفضل الإلهي المصاحب للخلافة ومنه آية البحث والسياق اللتان تؤكدان معاني الخلافة بالهداية إلى أسباب الرحمة والعفو والمغفرة وبيان مصداق عظيم للرحمة الإلهية وهو إستمرار رحمة الله بالمسلم في العوالم الطولية وهي:
الأول: عالم الذر وما قبل الخروج إلى الدنيا بالولادة.
الثاني: الحياة الدنيا التي هي دار الإبتلاء والإختبار والعمل.
الثالث: عالم البرزخ، ومدة البقاء في القبر.
الرابع: عالم النشور والخروج من القبور، قال تعالى[يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ]( ).
الخامس: عالم الحساب وتطاير الصحف.
السادس: مواطن يوم القيامة المتعددة، كالحوض والصراط.
السابع: عالم الجزاء إذ تتجلى رحمة الله بدخول الذي يطيع الله والرسول ويسعى بجد إلى المغفرة والإقامة في النعيم، قال تعالى[عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ]( ).
الرابعة: من رحمة الله بلوغ مرتبة التقوى والخشية منه سبحانه، قال تعالى[فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ]( ).
ومن رحمة الله أن جعل البشارة بالجنة ملازمة للتقوى، ومادة للترغيب بها، وطريق إلى بلوغ مراتبها، فمن نال مرتبة التقوى يمتلأ غبطة وسروراً بإخبار آية البحث عن الجنة وأنها(أعدت للمتقين) ومن تخلف عن منازل التقوى فإن آية البحث , تدعوه للسعي لبلوغها بالمسارعة إلى التوبة والإستغفار .
صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( )
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين: سارعوا إلى مغفرة من ربكم واتقوا النار التي أعدت للكافرين) لتكون المغفرة عنوان النجاة من النار وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: وجوب إتقاء النار.
الصغرى: نيل المغفرة سبيل الوقاية من النار.
النتيجة: وجوب نيل المغفرة.
إن قوله تعالى(سارعوا إلى مغفرة من ربكم) تأكيد على وجود المغفرة، وإمكان بلوغها، وكما أعدت النار للكفار، والجنة للمتقين، فإن المغفرة أعدت للمسلمين والناس جميعاً، وعلى كل واحد منهم بذل الوسع لبلوغ مرتبة المغفرة.
إن الله عز وجل لا يدعو إلى أمر أو شيء غير موجود، وظاهر الآية أن المغفرة قريبة من الناس، وبإمكانهم بلوغها ولكنها تستلزم التعجيل وسرعة الطلب.
وهل ينحصر سعي الإنسان للمغفرة بفعله.
الجواب لا، فقد يقترب من الفوز بالمغفرة بفعل غيره من الناس، سواء من ذويه وأفراد أسرته أو من غيرهم، قال تعالى[وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا]( ).
ليأتي الثواب للمسلم بأمره أهله بالصلاة وبأدائهم لها، ويحتمل ثواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوهاً:
الأول: ترتب الثواب على الأمر والنهي بمجرد صدورهما من المسلم.
الثاني: تقييد الثواب بقبول الطرف الآخر للأمر والنهي وعمله بهما.
الثالث: مجيء ثواب إضافي للذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إذا إمتثل الطرف الآخر وفعل الطاعة المأمور بها، وإجتنب المعصية المنهي عنها.
والصحيح هو الأول والثالث، ليكون الطرفان ممن يسارع إلى المغفرة، ويكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مصاديق هذه المسارعة وجني الصالحات التي تقرب العبد من فضل الله بالعفو والمغفرة.
وهو من أبواب الرحمة وأسباب المغفرة التي فتحها الله عز وجل للناس في الحياة الدنيا، ومن عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، ليكون من فضل الله على المسلمين والناس جميعاً تعدد أبواب المغفرة، وأسباب كسبها ونيلها.
الثانية: لما قال الله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] فإنه سبحانه هيئ سبل وأسباب المسارعة إلى المغفرة ليكون تعدد وكثرة وقرب هذه السبل من صيغ المسارعة.
الثالثة: حينما حذّر الله عز وجل المسلمين والناس من النار وشدة عذابها الذي ينتظر الكفار والجاحدين بالربوبية المطلقة لله عز وجل، فإنه سبحانه أرشد المسلمين إلى صيغ الوقاية من النار، وهداهم إلى كيفية السلامة منها فبعد قوله تعالى(واتقوا النار).
جاءت آية (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) متعقبة لها، تأكيداً لماهية الحياة الدنيا، وأنها(دار الأوامر والنواهي) الإلهية، ليس فيها من آمر إلا الله عز وجل، وأمره ونهيه وحدهما الباقيان ذاتاً في الدنيا، وأثراً وجزاءً في الدنيا والآخرة.
وقد فاز الإنسان بالنصيب الأوفر منها، وهذا الفوز من مصاديق خلافته في الأرض، وعمومات قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
أي أن الله عز وجل جعله خليفة ليتلقى الأمر بالمسارعة إلى المغفرة، والتحذير من الوقوع في النار، لذا إحتج الملائكة كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، فرد الله عز وجل عليهم بالحجة التامة والبرهان[قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل أنه يبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتخرج للناس أمة تتسابق في طلب المغفرة، وداعية إلى الله كل يوم وإلى يوم القيامة , وتتوقى من النار بأداء الفرائض والعبادات، وكل فرض واقية وحاجب قائم بذاته منها، ليكون التكليف بأداء خمس صلوات في اليوم من فضل الله عز وجل ، قال سبحانه[حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى]( ).
الرابعة: تتحد الآيتان في لغة الخطاب، إذ يتوجه للمسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي، وفيه إكرام لهم من وجوه:
الأول: أهلية المسلمين لتلقي خطاب التحذير من النار، والذي يدل بالدلالة التضمنية على إقرارهم بالنار وما فيها من العذاب، وأن المؤمنين والصالحين في مأمن منها، قال تعالى[مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ].
الثاني: إمتثال المسلمين للأمر بالمسارعة إلى المغفرة وطلب العفو، وهو من علم الله عز وجل الذي إحتج به على الملائكة في علة إختيار الإنسان للخلافة في الأرض.
الثالث: تعاهد المسلمين للأوامر والنواهي الواردة في آيات القرآن، وإتخاذهم هذا التعاهد مقدمة مادة للعمل بمضامينها.
الرابع: البشارة للمسلمين بالأمن من النار ببيان علة خلقها وأنها أعدت للكافرين على نحو التعيين.

صلة[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( )، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إتحاد لغة الخطاب في الآيتين بتوجهه إلى المسلمين والمسلمات الذين آمنوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتقدير الجمع بين الآيتين: يا أيها الذين آمنوا سارعوا إلى مغفرة من ربكم) وفيه شاهد على المنزلة العظيمة للمسلمين، وأهليتهم لتلقي الخطاب المتعدد من عند الله.
الثانية: جاءت آية السياق بالنهي عن الربا مطلقاً، وفي حال الإختيار والضرورة، قال تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
وصحيح أن النهي والحرمة يتعلقان بأكل الربا وأخذ المال الربوي والزيادة على القرض ولكن النهي أعم ويشمل أطراف الربا الأخرى بلحاظ أنه نوع مفاعلة بين طرفين.
ومن الإعجاز في السنة النبوية وبيانها للقرآن حديث اللعن الوارد بالذم للأطراف المتعددة المشاركة في المعاملة الربوية بما يشمل الذين يقومون بمقدمات العقد.
لتكون دلالات الآيات المعطوفة على خطاب(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا) من إعجاز نظم القرآن من وجوه:
الأول: إتقاء المسلمين النار بإجتنابهم أكل الربا.
وبين قوله تعالى(وإتقوا النار) والنهي عن الربا، عموم وخصوص مطلق، لأن إتقاء النار أعم في موضوعه، وهو مصاحب للمسلم والإنسان مطلقاً في باب العبادات والمعاملات والأحكام.
الثاني: لقد أعدّ الله عز وجل النار للكافرين الذين يجحدون بالربوبية، وبنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبالنهي عن الربا الوارد في القرآن، إن تنزه المسلمين عن الربا طاعة لله عز وجل، وشاهد على عصمتهم من الكفر الذي هو علة دخول النار.
الثالث: لقد أمر الله عز وجل ورسوله بالإمتناع عن الربا، ليفوز المسلمون بالتقيد بأحكام النهي عن الربا، وإجتناب أخذ الزيادة والنفع على القرض، ليكون إمتناعهم عن الربا دليلاً عملياً متجدداً على طاعتهم لله ورسوله.
الرابع: تأكيد الآيات التالية لآية الربا على حرمته، ولزوم إجتنابه إذ يبعث قوله تعالى(واتقوا النار)( )، النفرة في النفوس من أسباب ومقدمات دخول النار، ويحث قوله تعالى(وأطيعوا الله ورسوله)( )، المسلمين على التقيد بالأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة النبوية.
ومن الأوامر الخاصة في المقام إشاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن النواهي من جاء في حرمة أكل الربا.
الثالثة: لقد أراد الله عز وجل بقاء أحكام الخلافة في الأرض ومنها تنزه الناس عن أكل الربا، لما في هذا التنزه من إستدامة حسن العشرة بينهم وإن تباينت مشاربهم ومذاهبهم، ونشر مفاهيم التعاون بالقرض والإعانة ودفع الزكوات لمستحقيها، وإمهال المعسر، قال تعالى[وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ]( ).
وجاءت آية البحث لذات الأمور أعلاه لتجلي السعي والمسارعة إلى المغفرة بعمل الصالحات وإجتناب المعاصي.
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين أن ترك الربا حاجة للمسلمين مجتمعين ومتفرقين، إذ يحب عليهم المسارعة إلى المغفرة ونيل العفو من عند الله، وأكل الربا برزخ دون المغفرة وهو ذنب متجدد، قال تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( ).
بينما يدل قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ]( )، على ضرورة إجتناب الذنوب والمعاصي التي تتراكم تبعاتها على صاحبها، قال تعالى[لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ]( ).
الخامسة: إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض بسبب إسراف فريق من بني آدم بالقتل كما ورد في التنزيل حكاية عن الملائكة ساعة إخبار الله لهم بخلافة آدم[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
فجاء الرد من الله عز وجل عليهم بقوله[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فخر الملائكة ساجدين لله أمارة على الإقرار بعجزهم عن الإحاطة بعلمه تعالى وإن جعل الخليفة في الأرض من آيات الحكمة وبديع الصنع الذي يدل على ربوبيته وقدرته المطلقة.
وأن الخليفة في الأرض لا يترك وشأنه بل يصلح الله عز وجل حال الناس بما يجعلهم مؤهلين للخلافة , وتجلت إشراقات الحكمة الإلهية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديق وإتباع المسلمين لهم بأجيالهم المتعاقبة إذ يتعاهدهم الله بالحفظ في ذاتهم وفي أدائهم الفرائض، وهذا التعاهد من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومنه آية البحث وآية السياق لما فيهما من البعث على السلامة والأمن في الدنيا والآخرة، وإلتفات المسلمين لأنفسهم وأفعالهم، وتوارثهم لأحكام الشريعة كاملة.
السادسة: تبعث آية البحث والسياق مجتمعتين ومتفرقتين على الملازمة والتداخل بين عالم الدنيا والآخرة، وأن كل واحد منهما يؤثر في الآخر، وتكون له موضوعية في حال الإنسان فيه، فقوله تعالى(اتقوا النار) أمر عام في الدنيا والآخرة منطوقاً ومفهوماً، فمعنى الآية الكريمة إفعلوا الصالحات التي تقودكم إلى الجنة والنعيم الدائم، وإجتنبوا المعاصي التي تسوقكم إلى النار.
السابعة: ذكرت الآيتان الجنة والنار، وتلك آية في إعجاز نظم الآيات بأن تأتي آيتان متعاقبتان إحداهما تذكر النار، والأخرى تذكر الجنة، وفيه أمور:
الأول: التأكيد على لزوم إستحضار المسلمين لعالم الآخرة فيما يختارونه من الأفعال.
الثاني: تقريب المعقول بلغة المحسوس.
الثالث: من فضل الله على الناس أنه لم يكتف بذكر النار للدلالة في مفهومها وأسباب ولوجها وهي المعاصي , فتفضل بالترغيب بالجنة وأن الصالحات هي السبيل إلى دخولها، وجمع الله سبحانه بين الجنة والنار في الذكر للبيان، ومنع الجهالة والغرر عن الناس.
الرابع: في نظم الآيات تأديب للمسلمين وبعث لهم في مسالك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن كل آية من هذه الآيات مادة وموضوع للأمر والنهي.
الخامس: إجتمع ذكر الجنة والنار في آيات منها قوله تعالى[فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ]( ).
الثامنة: تقدير الجمع بين آية البحث وآية السياق على وجوه:
الأول: يا أيها الذين آمنوا سارعوا إلى مغفرة من ربكم.
الثاني: لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة , وسارعوا إلى مغفرة من ربكم
الثالث: اتقوا الله , وسارعوا إلى مغفرة من ربكم .
الرابع: سارعوا إلى مغفرة من ربكم لعلكم تفلحون.
التاسعة: من المسارعة إلى المغفرة التنزه عن الربا، وإرشاد الناس لإجتنابه، فهذا الإرشاد سعي إلى العفو والمغفرة من الله.
العاشرة: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وبلاء، ومن وجوه الإبتلاء فيها حب التملك عند الإنسان، وسعيه إلى جني الأرباح، والجمع السريع للأموال، فيتجه فريق من الناس إلى الربا لما فيه من الربح الكثير المضمون الذي يدل عليه قوله تعالى(أضعافاً مضاعفة) .
فجاءت كل من آية السياق والبحث لبعث النفرة في النفوس من هذه الأضعاف ومن الربح المضمون الذي يأتي من الربا، لأن العبد يكون بين خيارين وأمرين متضادين:
الأول: جمع الأموال بالباطل، قال تعالى[وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ]( ).
الثاني: المبادرة إلى العفو والمغفرة من الله، ويدرك الإنسان بما جعل الله عز وجل عنده من العقل والبصيرة والتدبر في الأمور أن الكسب حاجة، وأن إجتناب الربا ليس برزخاً دون جمع الأموال وكثرتها.
الحادية عشرة: قد وردت الأحاديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قبح الربا وذم صاحبه، وسوء عاقبته :
الأول: ورد في الخبر أن الربا من الكبائر، وعن عبيد بن عمير، عن أبيه أنه حدثه وكانت له صحبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال في حجة الوداع: ألا إن أولياء الله المصلون من يقيم الصلوات الخمس التي كتبت عليه، ويصوم رمضان، ويحتسب صومه يرى أنه عليه حق، ويعطي زكاة ماله يحتسبها ، ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها ثم إن رجلا سأله فقال : يا رسول الله، ما الكبائر؟
فقال: هو تسع: الشرك بالله، وقتل نفس مؤمن بغير حق، وفرار يوم الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا، ثم قال: لا يموت رجل لم يعمل هؤلاء الكبائر، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة إلا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبوابها مصاريع من ذهب)( ).
الثاني: الربا ثلاثة وسبعون بابًا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم)( ).
الثالث: عن أنس بن مالك، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المقيم على الربا كعابد وثن، والمقيم على الخمر كعابد وثن)( ).
الرابع: عن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَأْكُلُونَ فِيهِ الرِّبَا قَالَ قِيلَ لَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ قَالَ مَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ مِنْهُمْ نَالَهُ مِنْ غُبَارِهِ)( ).
لتكون هذه الأحاديث عوناً للمسلم في المسارعة إلى فعل الخيرات، وإجتناب المعاصي مطلقاً، إذ أن المسارعة إلى المغفرة أعم من أن تنحصر بإجتناب أكل الربا أو المعاصي عموماً.
وتلك آية من فضل الله عز وجل فحينما تفضل بالأمر بالمسارعة في الخيرات فإنه سبحانه جعل أبواب وسبل المغفرة من اللامتناهي، وإذ يتقيد موضوع الربا بكثرة الأموال عند آكله لأنه يتقوم بإقراض الآخرين المال لقاء ربح إضافي ومنافع خارجة عن أصل القرض ومقداره .
فإن المسارعة إلى الخيرات مطلقة غير مقيدة بأمر أو شرط مخصوص، لذا جاءت بصيغة الجمع(سارعوا).
الثانية عشرة: من خصائص فعل المعصية مجيء أوزارها على صاحبها ولا تشمل غيره، قال تعالى[كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ]( ).
أما المسارعة إلى المغفرة فإنها تأتي من المسلم الفرد فتشمل الجماعة، وتأتي من الجماعة وتشمل الأفراد متفرقين، سواء من ذاتها أو من خارج تلك الجماعة , وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
كما يتجلى في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلان الدعوة إلى الله , وإظهار معاني الصلاح والبر في القول والعمل، قال تعالى[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).

صلة(واتقوا الله) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: جاء في آية السياق قوله تعالى(واتقوا الله)وفي آية البحث( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وتحتمل النسبة بينهما وجوهاً:
الأول: التساوي وأن المسارعة إلى المغفرة هي التقوى.
الثاني: العموم والخصوص المطلق، وفيه شعبتان:
الأولى: التقوى أعم من المسارعة إلى المغفرة.
الثانية: المسارعة إلى المغفرة هي الأعم.
الثالث: العموم والخصوص من وجه، أي بينهما مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
الرابع: التباين والإختلاف بين التقوى والمسارعة إلى المغفرة في الماهية والموضوع.
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه، فمن مصاديق وأفراد التقوى المسارعة إلى الخيرات.
ومن إعجاز القرآن أن يجتمع العام والخاص في إصلاح المسلمين لأمور الدين والدنيا، فبالتقوى يحترز المسلم من أكل الربا، لتكون التقوى وما يترشح عنها من الأفعال الوجودية من الفعل أو عدمه من وجوه المسارعة إلى المغفرة من الله، بلحاظ أن ترك الربا أمر وجودي إذ أنه يتم بقصد ونية.
فإن قلت هذا في الذي عنده أموال كثيرة يقوم بإقراضها بما يجر عليه منفعة وربحاً ربوياً، وهو أمر لا يكون في ميسور كل مسلم، والجواب من وجوه:
الأول: إن الله عز وجل[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( )، ومن عمومات الآية أعلاه أن الله عز وجل يعلم نفرة هذا وذاك المسلم من أكل الربا وأنه لو صارت عنده أموال كثيرة فإنه لا يطلب بها الفائدة القرضية.
الثاني: من منافع التقوى أن الله عز وجل يرزق المسلم الفقير ثواب الإمتناع عن أكل الربا بتلاوته لآية السياق، ورضاه بما قسم الله عز وجل له.
الثالث: المسلم داعية إلى ترك الربا، لتكون هذه الدعوة شهادة له وحجة عليهم.
الثانية: المسارعة إلى المغفرة فعل مركب من أمرين:
الأول: ذات الفعل الذي يريد به العبد الفوز بالمغفرة.
الثاني: المسارعة والمبادرة، وعدم تضييع الفرص المؤاتية لأسباب المغفرة، ويستلزم هذا التعدد في ماهية الفعل إستحضار التقوى ، لتكون سلاحاً وعوناً وحرزاً ووقاء لذا فإن قوله تعالى(واتقوا الله) أمر عام في الأوامر والنواهي، والمسائل التي تخص الأفراد والجماعة والأمة .
الثالثة: المسارعة إلى المغفرة أعم من الفوز بها، إنما هي فعل وقصد، وعزم أما ذات المغفرة فهي فضل من الله عز وجل يمّن به على من يشاء من عباده، قال تعالى[يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ]( ).
لذا يكون تقدير الجمع بين الآيتين (سارعوا إلى مغفرة من ربكم لعلكم تفلحون)وفيه نكتة وهي أن السعي والمسارعة إلى المغفرة ينفع الإنسان في الحياة الدنيا، ويكون سبباً للسعادة فيها، والسلامة من الآفات ويدفع بها الله عز وجل الكثير من الآفات والأمراض وأسباب الضرر.
الرابعة: إن ذكر سعة الجنة وأن السموات والأرض عرضها ترغيب للمسلمين والناس بترك الربا، والتنزه عنه، لأنه مانع من دخول الجنة , فالربح الكثير من الربا قليل في خواتيم الأعمال.
الخامسة: من إعجاز القرآن موضوعية لغة الترغيب والأمل في الكف عن المعاصي وإجتنابها، فكما يبعث الشوق إلى الجنة إلى المسارعة إلى المغفرة فإنه يجعل العبد يحرص على التفقه في الدين ومعرفة ما يحول دون دخول الجنة فيجتنبه بقهر النفس الشهوية، وكأن آية السياق والبحث من عمومات قوله تعالى[وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ]( ).
السادسة: لقد جاءت آية البحث بأمور:
الأول: المسارعة إلى المغفرة.
الثاني: لا طلب للمغفرة إلا من عند الله.
الثالث: المسارعة والمبادرة إلى الجنة.
الرابع: بيان سعة الجنة وأن عرضها السموات والأرض .
وتدرك هذه الأمور بالتقوى وهي طريق ومقدمة للتقوى أيضاً لذا تقدمت آية السياق بأمر المسلمين والمسلمات جميعاً بتقوى الله ولزوم الخشية منه تعالى.
ومن إعجاز القرآن أن الأمر في الآية القرآنية لا ينحصر في موضوعاتها بل هو مطلق يشمل مسائل وأحكام العبادات والمعاملات، وتلك آية في تنمية ملكة التقوى والصلاح عند المسلمين فإن قلت قد تكون هناك قرينة مقالية أو حالية على
إرادة تقييد الأمر بخصوص موضوعات الآية.
الجواب هذه القرينة في حال وجودها ليست مانعاً من الإطلاق لتعدد المقاصد من الأمر القرآني، وتجدد موضوعات الإبتلاء في الحياة الدنيا، وتقارب البلدان، وتداخل الحضارات، وكثرة المشارب، وإنشطار المذاهب، وفيه دلالة على أمور:
الأول: حاجة أهل الأرض المستمرة والمتجددة إلى المسلمين بصفتهم، وتحتمل هذه الحاجة وجوهاً:
الأول: إنها من الكلي المشكك أي بمراتب متفاوتة قوة وضعفاً من طرف الناس للتباين بين حاجة الكتابي والكافر.
الثاني: إنها من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة.
الثالث: تعدد مواضيع وميادين حاجة الناس للمسلمين.
الرابع: قلة وإنحصار مواضيع حاجة الناس للمسلمين.
والصحيح هو الأول والثالث، وهو من مصاديق اسم التفضيل في[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، والإطلاق في الخروج للناس الشامل للميادين المختلفة , وفي هذا الخروج مسائل:
الأولى: فيه نصر للإسلام، وإعلاء لكلمة التوحيد, (قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا علي لأن يهدي الله على يديك نسمة خير مما طلعت عليه الشمس)( ).
الثانية: تثبيت وإستدامة صرح الإيمان, قال تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالثة: التذكير بلزوم اللجوء إلى المغفرة وطلب العفو من الله.
الثاني: إستدامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث: تعاهد المسلمين لمقامات(خير أمة) ولسنن خروجهم إلى الناس بالصلاح والتقوى، ومنه أمور:
الأول: مسارعة المسلمين إلى المغفرة، ومبادرتهم إلى فعل الخيرات.
الثاني: إستحضار المسلمين لعالم الحساب والجزاء في الآخرة، وإقرارهم بلزوم السعي إلى الفوز بالثواب العظيم في الجنة.
الثالث: إدراك حقيقة وهي أن الله عز وجل خصّ المتقين بالجنة وهو من الشواهد على إنفراده سبحانه بالمراتب السامية للشكر، والعلم المطلق بأفعال العباد , قال تعالى[وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا]( ).
وليس من شكر يتجلى بإعداد الثواب العظيم الأبدي المستديم كما في إعداد الجنة للمتقين، مع أن إتصاف العباد بحلية التقوى بفضل وفيض من الله عز وجل، ومن مصاديق هذا الفضل قوله تعالى(اتقوا الله) وإخبار آية البحث عن إعداد الجنة للمتقين.
الرابع: ترغيب الناس بفعل الصالحات، وتذكيرهم بعالم الآخرة والثواب، وهو من مصاديق خروج المسلمين للناس في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السابعة: يفيد الجمع بين الآيتين توجه الأمر للمسلمين والإخبار عما له من الجزاء العظيم، ليكون مدداً لهم للعمل بمضامين الأمر الإلهي، وهو من اللطف الإلهي في تقريب العباد عامة والمسلمين خاصة لفعل الصالحات، ومن عمومات قوله تعالى[اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ]( ).
فورد في آية السياق قوله تعالى(اتقوا الله) فجاء في آية البحث ذكر الثواب وإكرام المتقين بأن أعدّ الله عز وجل لهم الجنة وليس من شكر أعظم منه، إنه وعد متجدد ودائم وخطاب يشمل الموجود والمعدوم، ويبعث السكينة في نفوس المؤمنين لما ينتظرهم من الجزاء الحسن عند الموت وعالم ما بعده، والغبطة على حسن عاقبة آبائهم وإخوانهم من المؤمنين.
الثامنة: بيان الملازمة بين التقوى ودخول الجنة، وعدم إمكان الإنفكاك بينهما، فإن قلت قد تنخرم هذه القاعدة في مبادرة الكافر ومرتكب المعصية إلى التوبة ومسارعته إلى المغفرة لاسيما وأن آية البحث جاءت بواو العطف(وجنة) , والجواب من وجوه:
الأول: المبادرة إلى التوبة من التقوى والخشية من الله.
الثاني: التوبة مقدمة لفعل الصالحات.
الثالث: الشوق إلى الجنة علة وباعث للإنابة والتوبة.
الرابع: التوبة وسيلة للرزق الكريم، وسبيل للفلاح ونزول البركات في الدنيا، وفي نوح عليه السلام، وخطابه وندائه المتكرر إلى قومه، ورد في التنزيل[وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزيِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ]( ).
صلة(لعلكم تفلحون) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: المبادرة إلى طلب المغفرة سبيل إلى الفلاح.
الثانية: اللجوء إلى المغفرة والتوسل بمقام الربوبية رجاء العفو مفتاح للسعادة في الدنيا والآخرة.
الثالثة: طلب المغفرة إقرار بالتوحيد، والتسليم بأن الله عز وجل رب العالمين، وهو الذي يحاسب الناس على أعمالهم، قال تعالى[أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى]( ).
إن الإقرار بالوحدانية لله من مصاديق المسارعة للمغفرة، ومنها التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والحرص على إتبّاعه والإمتثال للأوامر الإلهية التي جاءت في القرآن الكريم، ومنها آية البحث التي تبعث على التوبة والصلاح.
وعن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: يقول الله عز وجل : يا بني آدم كلكم مذنب إلا من عفيت، فاستغفروني أغفر لكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت، فسلوني أعطكم، يا بنى آدم كلكم ضال إلا من هديت، فسلوني الهدى أهدكم
ومن استغفرني وعلم أني ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له ولا أبالي)( ).
الرابعة: المسارعة إلى المغفرة من مصاديق الفلاح في الدنيا لأنها هداية ورشاد وتوظيف للعقل في أمور الدين والدنيا.
الخامسة: المسارعة إلى المغفرة إستجارة بالله وإستعاذة به سبحانه من الفتنة والمعصية، ورجاء الفوز بالعفو عنه سبحانه، قال تعالى[وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ]( ).
السادسة: بتقوى الله وإجتناب الربا يفوز الإنسان بمقامات الفلاح، وأسماها دخول الجنة واللبث في النعيم الدائم.
ومن الآيات أن الفلاح الوارد في قوله تعالى(لعلكم تفلحون) شامل للدنيا والآخرة.
السابعة: من اللطف الإلهي بالناس الترغيب بالتقوى وفعل الصالحات ببيان الثواب العظيم الذي ينتظر صاحبها، ومنه آية البحث التي تتضمن كل كلمة منها لطفاً من الله وهي:
الأول: البعث للمسارعة إلى المغفرة، وما فيه من الإكرام للعبد وهدايته لسبل الصلاح، فأمر الله تعالى للمسلمين(سارعوا إلى مغفرة) لطف منه تعالى، وتوجيه وتأديب لهم في العبادات والمعاملات والصلات.
الثاني: إخبار الآية بأن الله عز وجل رب المسلمين وفيه ثناء على المسلمين لإقرارهم بأن الله عز وجل هو ربهم جميعاً, وعصمتهم من الشرك، وهل هذا الإقرار من المسارعة إلى المغفرة.
الجواب نعم، وتلك آية من فضل الله عز وجل على المسلمين لأن مسارعتهم في سبل المغفرة يتضمن الشهادة لهم بأنهم حملة راية التوحيد، وهي طريق لهدايتهم إلى تعاهد الفرائض واللجوء إلى الإستغفار.
الثالث: الحسن الذاتي والعرضي للمغفرة والعفو وإدراك العقل لمحبوبية المسارعة إليها، وما فيها من معاني النقاء والصفاء.
الرابع: بشارة الجنة، وإمكان الفوز باللبث الدائم فيها بما يفعله الإنسان في حياته الدنيا.
الخامس: بيان القرآن لسعة الجنة بما لا يستحضر في الوجود الذهني لولا هذا البيان، وإن إستطاع الإنسان مساحة الأرض ومعرفة أطوالها وأبعادها فإنه يبقى عاجزاً عن تحديد سعة وعرض السماء، مما يدل على تخلف الناس مجتمعين ومتفرقين عن معرفة بديع خلق الله، وسعة وكثرة مخلوقاته والتي هي في إزدياد مستمر قال تعالى[وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( ).
تتضمن الآية الإشارة إلى إرتقاء الإنسان لمعرفة مساحات من السماء وظهرت أماراته بما تقوم به الأقمار الصناعية من قياس دقيق للغلاف الجوي العلوي وتكوينه الكيمياوي والوصول إلى حقائق علمية عن إشعاع الشمس وثقب الأوزون وموصلة قوس الصعود في بلوغ كواكب أبعد من القمر، قال تعالى[ يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ]( ).
وفي العموم في لغة الخطاب في الآية أعلاه وتوجهه إلى الإنس مطلقاً شاهد على إعجاز القرآن لما فيها من الإشارة إلى أن الذين يقومون بالرحلات إلى الفضاء هم من أهل الكتاب وغيرهم، وإن إرتقى المسلمون إلى هذا العلم فإنهم أيضاً من الإنس.
ومن إعجاز القرآن ولغة الخطاب فيه أن مخاطبة الناس بلفظ الإنس لم يرد في القرآن إلا في آيتين , ويجمعهم الخطاب بالجن مع الترابط العقائدي بين الآيتين ودلالة كل واحدة منهما على إقامة الحجة على الناس إذ ورد قوله تعالى[ يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي]( ).
هل إتحاد الخطاب لإجتماعهم في علوم السماء والصعود فيها مع الجن أم لأن في الآية إخباراً متقدماً زماناً على صناعة إنسان بواسطة الإستنساخ ونحوه وإعداده خصيصاً للصعود للسماء، والتضحية به في مواطن الخطر المحتمل، الجواب إ+طنه الإثنان معاً
ومن الإعجاز في المقام أن آية البحث لم تذكر السماء بصفة الإنفراد، بل جاءت بصيغة الجمع(السموات) وفيه تأكيد لفضل الله، وعظيم قدرته، وسعة كرمه، وتخلف الناس عن معرفة فضل الله عز وجل عليهم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، فتكون المسارعة إلى المغفرة إقراراً وشكراً لله على النعم , ورجاء لإستدامتها.
الثامنة: يفيد الجمع بين الآيتين الترغيب بالتقوى، وبيان حاجة الإنسان إليها في الدنيا والآخرة، فمن خصائص الممكن ملازمة الحاجة له , وإذ تصاحب الحاجة المخلوقات بلحاظ وجودها فإن الإنسان يمتاز بالحاجة المطلقة في حال الحياة والموت.
وهو من مختصات الخلافة في الأرض، قال تعالى[وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( )، وعندما إحتجت الملائكة على جعل آدم عليه السلام خليفة في الأرض رد لله عز وجل عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فكان من علمه تعالى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومجيء القرآن بالأمر بالتقوى والخشية من الله، وإخبار المسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي بأنه تعالى أعدّ الجنة للمتقين.
وليس من حصر لمنافع هذا الإخبار، وهل هو خاص بالمسلمين بلحاظ أنه جاء في القرآن وضمن سياق الآيات التي تخاطب المسلمين على نحو التعيين، وإبتداء آية البحث بقوله تعالى(وسارعوا) وإرادة المسلمين والمسلمات في الخطاب.
الجواب لا، من وجوه:
الأول: تخبر الآية الكريمة عن حقيقة في ماهية الخلق، وعلة إعداد الجنة.
الثاني: تأكيد قانون ثابت سار في الحياة الدنيا والآخرة.
الثالث: ذكر الذين أعدّت لهم الجنة على نحو التعيين من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، لما فيها من جذب للناس لأسباب الهداية والرشاد، وإصلاح الذات لمقامات الخشية من الله.
الرابع: في هذا الإخبار تقريب للبشارة بصيغ الوعد والبيان، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
صلة(لعلكم تفلحون) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تقدير الجمع بين الآيتين على وجهين:
الأول: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم لعلكم تفلحون.
الثاني: لعلكم تفلحون بجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.
الثانية: تلتقي الآيتان بلحاظ لغة الخطاب بأمور:
الأول: توجه كل من الآيتين إلى المسلمين والمسلمات كافة.
الثاني: صيغة المدح والثناء والتشريف للمسلمين.
الثالث: الوعد بالجزاء العظيم للمسلمين في الدنيا والآخرة.
الخامس: التداخل الموضوعي بين الفلاح والتقوى.
الثانية: من الفلاح المسارعة إلى المغفرة، والسعي إلى سبل العفو من الله عز وجل، وهذه المسارعة باب للفلاح والتوفيق الإضافي.
فمن إعجاز آية البحث إفادتها معنى الإستدامة والتجدد في المسارعة إلى المغفرة، فحالما يفرغ المسلم من فعل يتضمن معنى المسارعة إلى المغفرة فإنه يأتي بآخر يفيد ذات المعنى والقصد، ليكون قوله تعالى(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) مباركاً، وفيضاً متجدداً يبعث على العمل للنجاة[يَوْمُ التَّغَابُنِ]( ).
إذ يستخف أهل الجنة بأهل النار الذين قادهم نقص عقولهم إلى إختيار الكفر، وما يترتب عليه من سوء العاقبة والتخلف عن اللجوء إلى المغفرة من عند الله، وفيه دلالة على أمر الله عز وجل للمسلمين بالمسارعة في مسالك المغفرة من الفلاح وأسباب البقاء.
فإن قلت إن القدر المتيقن من الفلاح هو ذات الفعل الذي يقوم به الفرد والجماعة.
والجواب في الأمر الإلهي للمسلمين بالمسارعة إلى المغفرة وجوه:
الأول: إنه رحمة تتغشى المسلمين بأجيالهم المتعاقبة، ومع الرحمة يأتي الفضل الإلهي.
الثاني: إكرام الله للمسلمين بهدايتهم إلى كنز العفو والمغفرة.
الثالث: فيه دعوة للمسلمين للتفقه في الدين , ومعرفة طرق المغفرة والسعي فيها.
الرابع: ذات الأمر بالمسارعة بعث للمسلمين لفعل الصالحات، قال تعالى[وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ]( ).
ومن أفراد الخيرات والصلاح المسارعة إلى العفو والمغفرة.
الخامس: بيان حاجة الناس إلى الله عز وجل في هدايتهم إلى سبل الرشاد، وما فيه نفعهم في النشأتين، قال تعالى[وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ]( ).
الثالثة: تقدير الجمع بين الآيتين: لعلكم تفلحون بجنة عرضها السموات والأرض).
لقد جعل الله عز وجل آدم سيداً في الأرض، قال تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وسخّر للإنسان مطلقاً كنوز الأرض وبركات السماء يتنعم بها في يومه وليلته.
ومن آيات الخلافة في الأرض أن بركاتها ومنافعها لا تنقطع بمغادرة الدنيا ولا بتغيير ماهية وحال الأرض بقوله تعالى[يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ]( )، فكما تتبدل الأرض في الآخرة فإن وظائف وأعمال وأحوال الناس تتبدل تبدلاً نوعياً عندالإنتقال القهري المؤقت إليها، فبعد التكليف والإختيار في العمل والقول في الدنيا يكون الحساب والجزاء في الآخرة، إذ يحتاج الإنسان الفلاح في الدنيا والآخرة،
وظاهر آية البحث أن الفلاح نعمة من عند الله، وينال باللطف الإلهي بتقريب المسلمين مجتمعين ومتفرقين إلى الفلاح.
لذا فإن معاني لفظ(لعل) في الآية الكريمة أعم من الرجاء، وتتضمن تهيئة مقدمات الفلاح، وإختيار أسباب بلوغ مراتب النجاة وإتيان الواجبات بلحاظ أنها مظهر لمرضاة الله، والفوز بالرحمة منه تعالى.
ومن الآيات أن المسلم يسعى في مقدمات الفلاح، وذات الفلاح مقدمة لدخول الجنة يوم القيامة، فهو ليس غاية تامة في ذاته، بل يكون وسيلة للنجاة والتوفيق في الدنيا والآخرة.
الرابعة: من أبهى معاني الفلاح بلوغ مرتبة التقوى، وهي مطلوبة بذاتها ومقدمة ووعاء لفعل الصالحات، وليس من جزاء للتقوى إلا الجنة يتفضل بها الله عز وجل على الذين إتخذوا التقوى سلاحاً ورداء وزينة ومصداقاً للصراط المستقيم في الدنيا, وفي التنزيل[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الخامسة: من خصائص التقوى إجتماع الأسباب والنتائج في ذات الفعل الذي يتصف بالخشية من الله عز وجل فيكون الفلاح والسلامة والبقاء بحسب آية السياق غاية لإجتناب الربا وأكل الفائدة على القرض بالباطل، وهو بحسب آية البحث سبب وعلة لدخول الجنة، مما يدل على أن التنزه عن الربا وسيلة لدخول الجنة، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الفلاح طريق إلى الجنة.
الصغرى: إجتناب الربا فلاح.
النتيجة: إجتناب الربا طريق إلى الجنة.
السادسة: صحيح أن التقوى ملكة تتغشى أفعال المسلم في الليل والنهار , وفي العبادات والمعاملات، إلا أن كل مصداق منها خطوة مباركة لدخول الجنة، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: أعدت الجنة للمتقين.
الصغرى: المسلمون الذين لا يأكلون الربا هم المتقون.
النتيجة: أعدت الجنة للمسلمين الذين لا يأكلون الربا.
ليكون النهي عن الربا الوارد في آية السياق من الأمر بالمسارعة إلى المغفرة الذي جاء في آية البحث.
بحث بلاغي عقائدي
من ضروب الإطناب(التعليل)ومن فائدته التقرير والبيان ومن خصائصه في القرآن أمور:
الأول: إقامة الحجة على الناس.
الثاني: بيان عظيم قدرة الله، وسعة سلطانه، قال تعالى[إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ]( ).
الثالث: تجلي فضل الله عز وجل على الناس.
الرابع: بيان أسباب جذب الناس إلى منازل الطاعة والصلاح.
الخامس: إصلاح المسلمين لمقامات[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بإتخاذ بيان علة الأحكام وأسرار الخلق، وفلسفة البعث والنشور مادة وسلاحاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السادس: التفقه في الدين، إذ يأتي التعليل على شعبتين:
الأولى: ذكر صفة ثابتة لبيانها وتأكيدها.
الثانية: بيان صفة غير معلومة أو لم تعرف بأنها علة، فيكون التعليل مناسبة لبيانها، ولا مانع من إجتماع الأمرين في المقام، لأن القرآن خطاب متوجه للمسلمين والناس جميعاً ليكون التعليل في الآية القرآنية إشراقة إعجاز، وشاهداً على مناسبة الآية الواحدة لإقامة الحجة، وجذب الناس للإيمان وترغيبهم بطاعة الله والرسول.
وجاء التعليل في آية البحث للثناء على المسلمين وفيه جزاء عاجل لهم، وإخبار عما ينتظرهم من الجزاء الأخروي وجعلهم في سياحة متصلة برحمة الله.
إن مدرسة(التعليل) البلاغية في القرآن من الشواهد على إعجازه وصدق نزول من عند الله عز وجل لما فيها من سبل الهداية والرشاد، وهي من عمومات قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
قانون(خصائص القراءة في الصلاة)
يمتاز القرآن بخصوصية من بين الكتب السماوية وهو أنه مدرسة جامعة لعلوم الدين والدنيا، ينهل منها المسلم من وجوه:
الأول: تلاوة آيات القرآن.
الثاني: التدبر في معاني ومضامين آيات القرآن.
الثالث: الإنصات إلى الذي يقرأ القرآن، قال تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا]( ).
الرابع: تلاوة القرآن في الصلاة على نحو الوجوب العيني وليس الكفائي، فلابد أن يقرأ كل مسلم ومسلمة آيات من القرآن خمس مرات في اليوم، في آية عبادية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً، وفيه وجوه:
الأول: إنه من أسرار وأسباب سلامة القرآن من التحريف، وعمومات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، بلحاظ كون الأمر الإلهي للمسلمين بإقامة الصلاة وجزئية القراءة منها من حفظ الله للقرآن، وهو من عموم قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فإقامة المسلمين للصلاة وتلاوتهم للقرآن من الشواهد على أمور:
الأول: المسلمون خير أمة.
الثاني: خروج المسلمين للناس بالقرآن وتلاوته.
الثالث: تعاهد المسلمين لمنزلة (خير أمة ) وخروجهم للناس بسلاح التقوى، ليكون هذا الخروج من مصاديق قوله تعالى(اتقوا الله) ومن سبل الفلاح والهداية في الدنيا والآخرة.
ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض، جاء الرد من الله عز وجل بالبرهان القاطع[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علم الله عز وجل عمارة المسلمين الأرض بتلاوة كلام الله خمس مرات في اليوم وبقراءة جديدة وإخفائية ليكتب الملائكة أنفسهم تلك التلاوة، قال تعالى[مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ).
ويرى الملائكة كيف أن المسلمين يتعاهدون ذات قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبالكيفية التي نزل بها جبرئيل وهو من كبار الملائكة.
ومن سعة كرم الله عز وجل إقتران الوعد بالجنة بالتكاليف في الدنيا، والتكرار اليومي لهذا الوعد على ألسنة المسلمين ووصوله إلى أسماعهم كل يوم وليلة عند تلاوتهم لآيات القرآن في الصلاة وخارج الصلاة.
ومن الإعجاز في التلاوة في الصلاة، وما لها من الدلالات أنها على قسمين:
الأول: التلاوة الجهرية للسور والآيات القرآنية، كما في صلاة الصبح والمغرب والعشاء.
الثاني: التلاوة الإخفاتية في صلاة الظهر والعصر.
وهذا التقسيم أعظم وأكبر من أن تحيط أوهام البشر بفلسفته وماهيته وغاياته الحميدة، مع إتحاد التلاوة , وهو باب لإستقراء وجوها منها وإستنباط المسائل والحكم .
إذ تقترن القراءة الجهرية بالتباشير الأولى للفجر , وفيه وجوه:
الأول: إبتداء المسلمين النهار بتلاوة القرآن.
الثاني: دعوة الملائكة للشهادة للمسلمين بحسن السمت وأنهم[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث: لقد رد الله عز وجل على الملائكة عندما إحتجوا على جعل خليفة في الأرض بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فمن علم الله تعالى إمتلاء الآفاق عند طلوع الفجر بتلاوة كلام الله, ليكزن أمناً وسبيلاً للرزق الكريم ودفع الشرور .
الرابع: إبتداء المسلمين نهارهم بالتلاوة الجهرية واقية من المعاصي، وإحتراز من إرتكاب السيئات.
الخامس: دعوة الناس جميعاً للإسلام، وهو من مصاديق خروج المسلمين للناس وإن صبغته هي التقوى والخوف من الله ورجاء رحمته.
السادس: في هذه التلاوة سعي من المسلمين لسبل الفلاح والرشاد.
السابع: توديع كل مسلم ومسلمة النهار وإستقبال الليل بالتلاوة الجهرية الواجبة في صلاة المغرب.
الثامن: تأتي صلاة الليل حيث السكون والظلام يتغشى الأرض ليصدح المسلم بتلاوة القرآن في قهر النفس الشهوية وتكون حرزاً وواقية من حرب الشياطين، قال تعالى[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا]( ).
ووجوب القراءة في كل صلاة يومية من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية لأنه تشريع وكيفية لحفظ القرآن لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
ومن خصائص هذا التشريع أن كل مسلم ومسلمة لهما موضوعية ويبذلان جهداً يومياً متصلاً فيه، وفي هذه التلاوة وثوابها أمور:
الأول: إنهما من الفلاح الذي أختتمت به آية السياق.
الثاني: التلاوة من أصدق مفاهيم وصيغ المسارعة إلى المغفرة.
الثالث: في التلاوة إقرار بأن القرآن نازل من عند الله، وأنه تعالى خالق ورب العالمين، وفيها تصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ]( ).
الرابع: التلاوة جزء من الصلاة وتسليم من المكلف بوجوب الصلاة عليه والمسارعة إلى المغفرة، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من علم أن الصلوة حق واجب أو مكتوب دخل الجنة)( ).
الرابع: في التلاوة وتعاهدها رجاء وسعي لدخول الجنة.
الخامس: تفضل الله بمضاعفة ثواب التلاوة، بما يكون عوناً للمسلمين والمسلمات في دخول الجنة.
ومن الإعجاز الغيري لتلاوة آية البحث أنها تبعث على السعي للفوز بالمغفرة وبلوغ مراتب اللبث الدائم في الجنة التي[مَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]( ).
فكلما يتلو أو يسمع المسلم ذكر الجنة والنعيم الدائم الذي أعدّه الله لأهل الورع والتقوى يبادر إلى فعل الصالحات، وتجتمع في الوجود الذهني عنده الوسيلة والغاية اللتان جمعتهما آية البحث، وتبعث كل منهما الشوق والسعي إلى الأخرى.
فالوسيلة هي التحلي بآداب وسنن التقوى، ومنها اللجوء إلى الإستغفار، والعصمة من الذنوب، والغاية هي الإقامة المستديمة في جنة النعيم، التي يجب أن يسعى إليها كل مكلف ومكلفة.
وهذا السعي قد يكون من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة في الدأب والجد لذا جاءت آية البحث بقوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] , وإن كان من الكلي المشكك والمراتب المتفاوتة فإن الله عز وجل يقبل القليل ويعطي الكثير.
وتلاوة القرآن في الصلاة من المسارعة اليومية إلى المغفرة على نحو الوجوب العيني، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، لأن هذه التلاوة صلاح وتهذيب للنفوس وحرز من الضلالة في الدنيا، وأمن من النار , وإمتثال لما ورد في الآيتين السابقتين[وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( )، وقوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الشعبة الثانية: صلة هذه الآية بالآيات المجاورة التالية، وفيها وجوه:
الأول: صلة هذه الآية بالآية التالية[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ…..]( )، وفيها مسائل:
الأولى: تجلي معاني الإعجاز في نظم الآيات بمصداق بيّن في ظاهر اللفظ وتداخل الآيات، فقد أختتمت آية البحث بقوله تعالى في وصف الجنة(أعدت للمتقين) وفيه وجوه:
الأول: الإخبار عن خلق الجنة، وما فيها من أسباب النعيم الدائم.
الثاني: بيان الغاية التي من أجلها أعدت الجنة، وهي أنها ثواب على التقوى.
الثالث: تأكيد عظيم منزلة المتقين والبشارة لهم بالخلود في الغبطة والسعادة، وعن أبي بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَخِيلٌ وَلَا خَبٌّ( ) وَلَا خَائِنٌ وَلَا سَيِّئُ الْمَلَكَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ الْمَمْلُوكُونَ إِذَا أَحْسَنُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَوَالِيهِمْ)( ).
وعنه أيضاً قال: قام فينا عام الأول فقال ألا أنه لم يقسم بين الناس شيء أفضل من المعافاة بعد اليقين ألا إن الصدق والبر في الجنة إلا إن الكذب والفجور في النار)( ).
لتكون السنة النبوية مرآة وبياناً للقرآن، وسبيل هداية للعمل بمضامينه القدسية، ومنها التحلي بمصاديق التقوى والصلاح مثل البر وفعل الصالحات وصدق الحديث، والإبتعاد عن الكذب والإفتراء وقول غير الحق، وتبعث السنة النبوية المسلم لبلوغ مراتب الجنة والسلامة والأمن من النار، قال تعالى[وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وفي الحديثين أعلاه شاهد بأن السنة النبوية عون متجدد لكل مسلم ومسلمة من وجوه:
الأول: العمل بمضامين آية البحث.
الثاني: بيان مصاديق المسارعة إلى المغفرة , وترغيب المسلمين بها.
الثالث: تفقه المسلمين بأمور الدين والدنيا.
الرابع: بعث الشوق في النفوس لعمل الصالحات وإكتساب الحسنات.
الثانية: تقدير الجمع بين الآيتين: الذين ينفقون في السراء والضراء سارعوا إلى مغفرة من ربكم) لبيان حقيقة وهي أن المسارعة إلى المغفرة أعم وأوسع موضوعاً وحكماً من الإنفاق.
الثالثة: لقد جاءت صفات المتقين الذين أُعدت لهم الجنة في آية البحث على نحو المتعدد، وبما يبعث على الإرتقاء في سبل المعرفة، والحرص على التحلي بالصفات الخلقية الحميدة التي تكون وسيلة وسبيلاً لبلوغ منازل الخلود في النعيم.
الرابعة: يفيد الجمع بين الآيتين إعانة المسلمين لإكتساب المعارف والعلوم، ودفع الجهالة والغرر عنهم، وبيان المائز بين المسلمين وغيرهم، بتحلي المسلمين بلباس ومصاديق التقوى, وتخلف الكفار عن معرفة وظائفهم العبادية، وفي التنزيل[قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ]( ).
ومن مصاديق التقوى بلحاظ آية السياق أمور:
الأول: الإنفاق في سبيل الله في حال اليسر والسعة في المال, والصحة في البدن.
الثاني: البذل والإنفاق في حال الشدة والعوز والعسر.
الثالث: تحمل الأذى، وتجرع الغيظ وترك الإنتقام، مع إختيار عدم رد الإساءة، قال تعالى[وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ]( ).
الرابع: العفو والتجاوز عن الإساءة التي تأتي من الآخرين، فإن قلت هل تتعارض هذه الصفات مع قوله تعالى[فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]( ).
الجواب لا، لتقييد الصفات الواردة في آية البحث بأنها من خصائص المتقين مما يدل على ثباتهم على الإيمان، وعدم تفريطهم بالواجبات، وأحكام الشريعة وصيغ الجهاد في سبيل الله.
ترى ما هي النسبة بين الصبر وكظم الغيظ.
الجواب هي العموم والخصوص المطلق، فالصبر أعم ولا ينحصر بالأمور الشخصية والفردية.
وفي الجمع بين آيات الصبر وكظم الغيظ أمور:
الأول: إنه شاهد على إرتقاء وتعاهد المسلمين لمنازل[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثاني: فيه تأكيد على حسن عشرة المسلمين مع الناس.
الثالث: إنه من أسباب جذب الناس لمنازل الإيمان.
الرابع: إنه من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الخامس: إستحضار المسلمين لذكر الله في الأمور العامة التي تستلزم الصبر، والأمور الآنية الخاصة التي يتجلى فيها حبس الغيظ، وعدم إظهار الحنق.
السادس: نشر مفاهيم الأمن بين الناس، بأن يكون المسلمون أئمة الصبر والسماحة وهو من مصاديق خروجهم للناس بلباس التقوى والصلاح.
السابع: كف أيدي الناس عن المسلمين، وإنصاتهم لآيات القرآن والتدبر في دلالاتها ومعانيها الإعجازية، وترغيبهم بالإسلام.
الثامن: تأكيد الأخلاق الحميدة التي يتصف بها المسلمون, وبيان حقيقة تقيدهم بآداب القرآن وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
الرابعة: جاءت آية البحث بلغة الخطاب وصيغة الجملة الإنشائية، وتعقبتها آية السياق بصيغة الجملة الخبرية وتلك آية في نظم الآيات بأن تتداخل الجملة الإنشائية والخبرية موضوعاً وحكماً.
أما الموضوع فمن وجوه:
الأول: الثناء على المسلمين بصفات التقوى بعث للسكينة في نفوسهم، وهو مقدمة لمسارعتهم في الخيرات.
الثاني: بيان اللطف الإلهي بالمسلمين , وتأكيد مسارعتهم في طلب المغفرة.
الثالث: تفقه المسلمين في الدين ومعرفة أحكام الجزاء، وموارد الأجر، قال تعالى في المؤمنين الذين يجاهدون في سبيله ولا يغادرون منازل الدعاء والإستغفار[فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ]( ).
الرابع: تأهيل المسلمين للفصل والتمييز بين السمت الحسن، والعادات المذمومة، وبعثهم على تعاهد الفعل الحسن، وإجتناب المكروه، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادس: معرفة المسلمين لأفراد من مصاديق التقوى , وتقيدهم بسننها وأحكامها.
أما الحكم فهو على وجوه:
الأول: بيان خصائص المتقين.
الثاني: إقامة الحجة على الناس في تعيين طريق الجنة، قال تعالى[قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الثالث: تأكيد قانون وحكم ثابت في عالم الحساب والجزاء وهو نجاة وفوز المؤمنين الذين ينفقون في حال الرخاء والشدة، والذين يحبسون أمارات الغضب ويقومون بالعفو عمن يسيء إليهم، وقيد الإيمان في المقام لما ورد في خاتمة آية البحث.
الرابع: الجمع بين الآيتين من عمومات قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، لما فيهما من السلامة في النشأتين، فلا غرابة أن تكون تلاوة الآية أعلاه واجبة على كل مسلم ومسلمة وجوب عين عدة مرات في الصلاة اليومية.
الخامسة: الجمع بين الآيتين ضياء ينير دروب السالكين، ويهدي إلى سبل الرشاد والأمن في النشأتين.
وفيه بيان لحقيقة وهي أن التقوى جهاد بالنفس والمال وفي حال الرخاء والشدة، فلا تنحصر موضوعات التقوى بحال السعة والأمن والعافية والقوة، وكذا فإن مصاديق التقوى لا تترك في حال السعة أو الضيق، وقد ذمّ الله قوماً بقوله تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ]( ).
وعن أبي سعيد الخدري في سبب نزول الآية أعلاه قال: أن يهوديا أسلم فأصابته مصائب فتشأم بالإسلام فأتى النبي صلى الله عليه وآله فقال: أقلني، فقال: إن الإسلام لا يقال، فنزلت)( ).
و(قالوا: نزلت في أعاريب قدموا المدينة، وكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهراً سرياً، وولدت امرأته غلاماً سوياً، وكثر ماله وماشيته قال: ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيراً، وإطمأن وإن كان الأمر بخلافه قال: ما أصبت إلا شراً، وإنقلب)( ).
السادسة: تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه:
الأول: سارعوا إلى الإنفاق في السراء والسعة.
الثاني: بادروا إلى البذل والعطاء في الضراء والشدة.
الثالث: سارعوا إلى حبس الغضب وهجران الإنفعال، وما يترشح عنه من أسباب البطش، قال تعالى[وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ]( ).
الرابع: سارعوا إلى العفو عن الناس.
الخامس: سارعوا إلى الإحسان إلى الناس.
ومن الآيات في المقام إختتام آية السياق بالإحسان لأنه أعم من مصاديق التقوى التي ذكرت قبله، وهو سور الموجبة الكلية لأفعال الخير والصلاح، وأسباب نشر المعروف.
وفيه دلالة بأن المسارعة إلى العفو والمغفرة والسعي إلى الجنة لا ينحصران بالوجوه والأسباب التي ذكرت في آية السياق بل فيها مندوحة وسعة، وذكر الإحسان مناسبة لتوظيف العقل للمبادرة في الصالحات كل بحسب شأنه، وبلحاظ مناسبة الحال والمقال، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ]( ).
السابعة: بيان حقيقة وهي أن المسارعة إلى المغفرة والإنفاق في سبيل الله وكظم الغيظ والعفو عن الناس أمور حسنة ذاتاً وعرضاً، وتلك آية في تعدد وسعة سبل الرشاد والتوفيق التي تقود المسلم إلى الجنة، وهو من عمومات رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً والمسلمين خاصة.
الثامنة: قد يظن فريق من الناس أن الوصول إلى الجنة أمر صعب مستصعب مع إنبعاث الشوق في النفس لبلوغ المقامات الكريمة فيها وترغيب آية البحث بها بنعتها بالجنة والحدائق الناضرة وبيان سعتها وعرضها.
فجاءت آية السياق بالمتعدد من أسباب دخولها، والإخبار عن قربها من المسلم مطلقاً، وعدم إختصاصها بأصحاب الأموال والقادرين على الإنفاق والبذل في سبيل الله، لأن كظم الغيظ والعفو عن المسيء لا يستلزم بذل المال، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ قيام كل مسلم بأفعال من مصاديق التقوى وإن تباينت أحوالهم من جهة الغنى والفقر، والصحة والمرض، والكبر والصغر، والذكورة والأنوثة.
التاسعة: هل المسارعة إلى المغفرة من الإحسان , الجواب نعم إذ يدل قوله تعالى(إن الله يحب المحسنين) بالدلالة التضمنية على أن الله عز وجل يحب الذين يسارعون إلى المغفرة لأن تلك المسارعة إحسان من وجوه:
الأول: إنها إحسان للذات، ونجاة للنفس من حر النار والإقامة الدائمة فيها.
الثاني: فيها إحسان للذرية لأن المسارعة إلى المغفرة وأسبابها ومقدماتها تركة كريمة، وسجية حميدة.
الثالث: المسارعة إلى المغفرة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: في المسارعة إلى المغفرة والسعي إلى الجنة أمن وسلامة للآخرين، فالذي يسعى إلى المغفرة يتجنب مواطن إيذاء الآخرين, ويكون فعله موعظة وعبرة وأسوة في موارد الصلاح.
العاشرة: ذكرت آية البحث أن طلب المغفرة من الله بقوله تعالى(من ربكم) وجاءت آية السياق بالهداية إلى عمل الصالحات في الله ولله، فكل من الإنفاق في سبيل الله، وكظم الغيظ رجاء لرحمة الله، والعفو عن الناس طمع في الفوز بالعفو والمغفرة منه تعالى , وجاء ذكر الجنة وسعتها للترغيب بأفراد ومضامين آية السياق , بالإضافة إلى الترغيب بالمغفرة ودخول الجنة .
الحادية عشرة: يحتمل بلوغ مرتبة التقوى بلحاظ الصفات التي ذكرتها آية السياق وجوهاً:
الأول: الجمع بين تلك الصفات، فلابد للمتقي من القيام بالإنفاق في السراء والضراء وحبس الإنفعال , والعفو عن السوء لإفادة الجمع من حرف العطف (الواو).
الثاني: كفاية بعض الصفات أعلاه.
الثالث: التحلي بهذه الصفات على نحو الموجبة الجزئية بأن ينفق مرة ويمسك أخرى، ويكظم غيظه أحياناً ويعفو عن المسيء في بعض الأحوال.
الرابع: الإجزاء بفرد وخصلة حميدة من هذه الخصال، وجاءت الآية لبعث المسلمين للعمل بمضامين آية السياق والسعي في موارد التقوى الأخرى التي ذكرت في آيات وسور القرآن.
الثانية عشرة: أراد الله عز جل للمسلمين أن يكونوا قادة الناس في سبل العفو، لترغيب أهل الكتاب والناس جميعاً بالصفح عن الذنوب، وتجلي صبغة الخلق الكريم في القول والعمل قال تعالى[وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وتدل الآية أعلاه على أن العفو عن الناس طريق مبارك للفوز بعفو الله، وهو مسارعة إلى مغفرته سبحانه.
الثالثة عشرة: إن البعث على المسارعة إلى المغفرة أمارة على قرب الحساب، ودنو عالم الجزاء من الإنسان، لذا فإن من صفات المتقين إدراك أمور:
الأول: خلق الجنة والنار.
الثاني: موت الإنسان بداية لعالم الحساب، وإنقطاع عمله في الدنيا، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا عن ثلاث ولد صالح يدعو له و صدقة جارية و علم به ينتفع بعد موته)( ).
صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ]( ).
وفيها مسائل:
الأولى: جاءت آية البحث بصيغة الجملة الإنشائية ولغة الخطاب بينما جاءت آية السياق بصيغة الجملة الشرطية وإختلاف النحويين بكونها جملة خبرية أو إنشائية لا يمنع من إستقلالها بماهية مستقلة في المعنى والدلالة , وتبين الآية جانباً من صفات المتقين الذين أعدت لهم الجنة، وفيه وجوه:
الأول: دعوة المسلمين للتنزه عن الفواحش والسيئات.
الثاني: بيان حقيقة وهي عدم إنحصار التقوى بفعل الصالحات, بل تشمل إجتناب القبائح والمعاصي.
الثالث: إنتفاء اليأس والقنوط عن المتقين، إذ أنهم في طمع دائم بالعفو والمغفرة من الله، قال تعالى[لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ).
الثانية: من إعجاز نظم آيات القرآن إبتداء آية السياق والآية السابقة لها بالاسم الموصول(الذين) , وفيه وجوه:
الأول: التفصيل في معرفة صفات أهل الورع والتقوى.
الثاني: إصلاح المسلمين لمراتب التقوى، والتقيد بآدابها في باب الأمر والنهي، فجاء قوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( )، في الأمر بالبذل والعطاء في سبيل الله، وإختيار العفو عن الناس.
وجاءت آية السياق بالزجر عن الفواحش والسيئات، والمبادرة إلى ذكر الله والإستغفار عند فعل الفاحشة.
الثالث: الجمع بين آية البحث والآيتين اللتين بعدها من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لإنفراد المسلمين بخصائص التقوى.
الرابع: من إعجاز نظم هذه الآيات أن فعل الصالحات من الإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس جاء على نحو الموجبة الكلية، وصيغة الجملة الخبرية، أما فعل السيئات الذي أشارت إليه آية السياق فجاء بلغة الشرط(إذا فعلوا) مما يدل على مصاحبة فعل الصالحات للمسلمين، وأن فعل الفاحشة قد يطرأ عليهم.
الصلة بين(والذين إذا فعلوا فاحشة) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: بيان قانون كلي وهو أن فعل الفاحشة لا يغلق طريق الجنة على المسلم، لأن الله عز وجل فتح له باب المغفرة، قال تعالى[وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
ظاهر الآية أعلاه حكم العموم في شمول العفو والمغفرة للناس جميعاً، نعم من أشد أنواع الظلم للنفس التخلف عن دخول الإسلام، لأن دخوله وظيفة كل مكلف ومكلفة، قال تعالى[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ]( ).
الثانية: تعدد مصاديق المسارعة إلى المغفرة، وحضورها حتى عند فعل السيئات بالتدارك والإستغفار.
الثالثة: بيان حقيقة وهي أن المتقين لا يمتلكون العصمة المطلقة، فقد يقعون في فخ المعاصي والسيئات، فيكون ذكر الله عز وجل سبباً لصلاحهم وهدايتهم.
الرابعة: بيان ماهية الإبتلاء في الحياة الدنيا، وأن طي صفحة الفواحش سريع ومتجدد بقيد ذكر الله والإستغفار.
وفيه شاهد على التخفيف واليسر في أحكام التكاليف، وفضل الله عز وجل على الناس في محو الذنوب والمعاصي , فقد يظن إنسان عند إرتكابه المعصية أن فعله للصالحات ذهب أدراج الرياح، وإن فعل السيئات ينسخ ما سلف من مسارعته في الخيرات، وسبل الوصول إلى الجنة.
فجاءت آية السياق لطرد هذا الظن، ودفع الوهم ببقاء أثر السيئات مع الإستغفار، وقد جاء الوعد الكريم من الله بالعفو عن الناس بلحاظ صفة العبودية، قال تعالى[وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ]( ).
الخامسة: تأكيد قانون كلي وهو أن فعل الفاحشة ليس برزخاً دون الفوز بالمغفرة من الله، نعم الإصرار عليها هو البرزخ والحاجز، لتكون كل من آية البحث والسياق دعوة سماوية للمسلمين والناس جميعاً لطلب العفو والمغفرة من الله.
السادسة: الجمع بين الآيتين مناسبة للتفقه في الدين، ومعرفة أحكام الحساب، وأسباب الجزاء، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
فمن مصاديق التفضيل في المقام أن المسلمين يبادرون إلى الإستغفار عند فعل السيئة، أما الكفار فإنهم يصرون على المعصية، وإن إستغفروا لا ينفعهم لأنه يتقوم بالتوبة والإسلام، قال تعالى[سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ]( ).
السابعة: يفيد الجمع بين الآيتين أموراً:
الأول: بعث النفرة في نفوس المسلمين والمسلمات من فعل السيئات.
الثاني: بيان التضاد والتناقض بين السعي إلى المغفرة وبين فعل المعاصي، وإرتكاب السيئات.
الثالث: تأكيد حقيقة وهي فعل السيئات حاجز دون دخول الجنة، ولكن هذا الحاجز متزلزل وغير ثابت، إذ يزول أثره بالإنابة والتوبة.
لقد جعل الله عز وجل آدم خليفة في الأرض بقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لتكون الحياة الدنيا دار الخلافة، ومن معانيها السعادة والغبطة وتسخير الموجودات للإنسان، وتفضل الله عز وجل وفتح له باب التوبة، ووعده بالعفو والمغفرة، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) , حينما رد الله عز وجل على الملائكة إذ إحتجوا على خلافة الإنسان بسبب فسقه وسفكه الدماء ونشره لأنواع الفساد، فكان من علم الله عز وجل أمور:
الأول: تقريب العباد من فعل الصالحات بمبادرتهم إلى التوبة والإنابة.
الثاني: نزول القرآن بكل من آية البحث والسياق، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الثالث: حث الناس على التوبة والإنابة.
الرابع: تأكيد عالم الجزاء وأن الدنيا مزرعة للآخرة، ولم تذكر هذه الآيات الوقوف بين يدي الله للحساب إلا أنها ذكرت الجزاء الحسن والثواب العظيم بالجنة التي تسع الناس جميعاً وفيها مندوحة وزيادة، وإذا كانت النار تشكو إلى الله الضيق كما ورد في التنزيل[يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ]( ).
فإن الجنة تتصف بأمور:
الأول: السعة والكبر، فليس من دار ومحل أوسع من الجنة.
وهو من الشواهد على أن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ]( )، في الدنيا والآخرة , وبيان لسعة مقامهم والقصور التي أعدها الله لهم يوم القيامة إذ أن عظم الجنة وإستيعابها السماوات والأرض تدل بالدلالة التضمنية على حسن مقام المؤمنين في ظلال وأشجار الجنة، قال تعالى[إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ]( ).
الثاني: حسن إستقبال الملائكة القائمين على الجنة للذين كتب الله لهم دخولها، وهو آية من بديع صنع الله في جعل آدم خليفة في الأرض بأن تكون عاقبة الصالحين من ذريته الخلود في النعيم، ليكون من عمومات قوله تعالى[وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، بيان الثواب العظيم لحسن السمت، وآداب الخلافة في الأرض بأن تكون عاقبتها الجنة.
الثالث: عدم غلق باب الجنة أمام المسلمين الذين يفعلون السيئات، ولكن الطريق إليه يكون بالواسطة وهي الإستغفار، ليكون الندب إلى الإستغفار في آية السياق فضلاً ورحمة من الله إدخرها للمسلمين خاصة، قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ]( ).
الرابع: تعدد أسباب وسبل دخول المسلمين الجنة بلحاظ كثرة وتعدد مصاديق التقوى، وشمولها لأبواب العبادات والمعاملات والأحكام.
الخامس: ذكر سعة الجنة في الآية باعث للناس لدخول الإسلام، وسبب لإجتهاد المسلمين في سبل الطاعات، والحرص على إجتناب السيئات بقوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ]( )، دعوة للمسلمين للنفرة من الفواحش، ومناسبة للتفقه في الدين بمعرفة مواطن ظلم النفس والإبتعاد عنها، وإدراك حقيقة وهي أن التنزه عن المعاصي سبيل إلى دخول الجنة من باب الأولوية القطعية.
فإذا كان الإستغفار من الذنوب بعد إرتكابها من مصاديق التقوى، وفيه دنو وإقتراب للجنة، فإن ترك المعاصي من خصائص المتقين ومسارعة إلى الله عز وجل.
الثانية: جاء ذكر أفعال المتقين في العمل الصالح على نحو الموجبة الكلية وصيغة الإطلاق الخالي من التقييد كما في قوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( ).
وجاء بعدها ذكر فعل الفاحشة بصيغة الجملة الشرطية وما تدل عليه من التعليق والإحتمال غير الأكيد، لبيان خصوصية يتصف بها المتقون وهي أن مكارم الأخلاق والخصال الحميدة ملكة ثابتة عندهم.
أما إرتكاب المعصية فهو أمر قد يطرأ على بعضهم عرضاً إذا غلبت عليه النفس الشهوية، ومال إلى الهوى، فيكون الإستغفار على وجوه:
الأول: إنه علاج من درن الذنوب والمعاصي، وهو الإستغفار الخاص عند الوقوع في المعصية.
الثاني: الإستغفار الوقائي، وهو حصن من الذنوب، وإحتراز من فعل الفواحش لذا جاءت آية السياق بصيغة الجملة الشرطية(إذا فعلوا فاحشة) والتقدير بلحاظ الإستغفار الوقائي أنهم يتوقون من فعل الفاحشة.
الثالث: إنه مقدمة لفعل الصالحات.
الرابع: الإستغفار بذاته عمل صالح وإن جاء باللسان، وإقتداء بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يستغفر في اليوم أكثر من سبعين مرة وهو الذي أثنى عليه الله بقوله تعالى[لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ]( ).
الخامس: الإستغفار حرز من الإفتتان، ودفع لشر الشيطان، ومجلبة لرضا الرحمن، وعن أبي سعيد الخدري قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ لِرَبِّهِ بِعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي بَنِي آدَمَ مَا دَامَتْ الْأَرْوَاحُ فِيهِمْ فَقَالَ اللَّهُ فَبِعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَبْرَحُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي)( ).
وأصل الغفر: وأَصل الغَفْرِ التغطية والستر غَفَرَ الله ذنوبه أَي سترها والغَفْر الغُفْرانُ وفي الحديث كان إذا خرج من الخَلاء قال غُفْرانَك الغُفْرانُ مصدرٌ وهو منصوب بإضمار أَطلُبُ.
وفي تخصيصه بذلك قولان أَحدهما التوبة من تقصيره في شكر النعم التي أَنعم بها عليه بإطعامه وهضمه وتسهيل مخرجه فلجأَ إِلى الاستغفار من التقصير وتَرْكِ الاستغفار من ذكر الله تعالى مدة لبثه على الخلاء فإِنه كان لا يترك ذكر اللّه بلسانه وقلبه إِلا عند قضاء الحاجة فكأَنه رأَى ذلك تقصيراً فتداركه بالاستغفار وقد غَفَرَه يَغْفِرُه غَفراً ستره وكل شيء سترته فقد غَفَرْته ومنه قيل للذي يكون تحت بيضة الحديد على الرأْس مِغْفَرٌ)( ).
ويكون الإستغفار على وجوه:
الأول: إنه باللسان، وقول العبد(أستغفر الله).
الثاني: الإستغفار بالفعل وعمل الصالحات.
الثالث: الإستغفار القولي والفعلي، وفي قوله تعالى حكاية من نوح[اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا]( )، قيل أنهم لم يؤمروا بأن يسألوه بالقول، بل بالقول والفعل، وأن الإستغفار باللسان من دون ذلك بالفعال فعل الكاذبين)( )، ولا دليل عليه فالله عز وجل هو الواسع الكريم .
فلا تعارض بين الوجوه أعلاه , وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال(سَيِّدُ الاِسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَليَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِى، اغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ.
قَالَ:مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِىَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)( )، وذكر معنى آخر للإستغفار في الآية أعلاه، وهو الرجوع عن الشرك.
والإستغفار أمر والتوبة أمر أعم ويحتاج إليهما العبد مجتمعين ومتفرقين، وورد حكاية عن نبي الله هود في التنزيل[وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا]( ).
التاسعة: من الكليات الخمسة التي تميز بين الأشياء الفصل وهو الذي يفصل بينها على نحو جلي، وظاهر، وجاءت كل من آية البحث والسياق للتمييز بين المسلمين وغيرهم، وللتأكيد بأن المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لأمور:
الأول: ضرورة إتصاف المسلمين بخصائص جلية ومانعة من التداخل.
الثاني: إحاطة الناس علماً بخروج المسلمين لهم، وتأهيلهم للتمييز بين المسلمين بإعتبارهم(خير أمة)وبين غيرهم، فينهلون من صيغ وسبل المعرفة التي أكرم الله عز وجل المسلمين ليكون هذا النهل من عمومات خروج المسلمين للناس في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وإفادته لمعنى إضافي وهو أن من مصاديق الخروج مجيء الناس إلى (خير أمة) ثم صدورهم عنها , ليكون المسلمون أحياناً دعاة صامتين، يرى الناس الخير والصلاح عندهم وفي فعلهم وعملهم , فيتبعونهم ويقتدون بهم.
الثالث: إقامة الحجة على الكفار الذين يعرضون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يقوم به المسلمون في باب العبادات والمعاملات والأحكام، ويعرضون عن بشارات المسلمين بالجنة وبيانهم العملي لطريقها وهو الإيمان والصلاح.
التاسعة: من إعجاز القرآن بقائه دستوراً للناس جميعاً إلى يوم القيامة، ومن خصائصه أنه غنىً للمسلمين والمسلمات في الدنيا والآخرة، وهو من عمومات قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً تلاحقه الحاجة ويلاحقها، إن لم تلح عليه فإنه يسعى إليها لأن تصوره الذهني ينتقل غالباً إلى ما هو أعم من متناول يده، كما في سعيه لطلب المال والجاه والشأن والزوج والأولاد والعمارة والذخائر، إلا في موضوع الآخرة وعالم الجزاء.
فقد جعل الله عز وجل الجنة أعظم وأكبر مما يتصوره الإنسان وما يطرأ على باله من النعم، ثم تفضل الله عز وجل وجعل الطريق إليها قريباً من الناس سهلاً على اللسان، ثقيلاً في الميزان وهو الإستغفار.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ أَمَانَيْنِ لأُمَّتِى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) إِذَا مَضَيْتُ تَرَكْتُ فِيهِمْ الاِسْتِغْفَارَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)( ).
وعن أنس بن مالك قال: شَقَّ عَلَى الْأَنْصَارِ النَّوَاضِحُ فَاجْتَمَعُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يُجْرِيَ لَهُمْ نَهْرًا سَيْحًا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْحَبًا بِالْأَنْصَارِ وَاللَّهِ لَا تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَيْتُكُمُوهُ وَلَا أَسْأَلُ اللَّهَ لَكُمْ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَانِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ اغْتَنِمُوهَا وَاطْلُبُوا الْمَغْفِرَةَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ لَنَا بِالْمَغْفِرَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ وَلِأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ)( ).
وفيه آية في تقوى الأنصار ومرتبة الفقاهة التي بلغوها وإدراكهم لموضوعية ومنافع إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم في الدنيا والآخرة.
العاشرة: جاءت آية البحث بالأمر بالمسارعة إلى المغفرة، وفيه نص صريح في ماهية وكيفية السعي في طلب المغفرة بالمبادرة إلى فعل الصالحات والسرعة في إتيان الفرائض، وكذا جاءت آية السياق بالمسارعة والمبادرة إلى ذكر الله والإستغفار حال صدور المعصية، وإرتكاب الفاحشة.
الحادية عشرة: بيان المائز بين المسلمين والكفار بأن يجتنب .المسلمون ظلم النفس، وإذا ما حصل هذا الظلم فإنهم يلجأون إلى الله عز وجل، ويسارعون في الإستغفار، ويذكرون عالم الحساب وما ينتظرهم من الجزاء، وتدل آية السياق على أن ظلم النفس أعم من الشرك بالله.
نعم ظلم المسلم لنفسه قد يحصل فسرعان ما يزول ذاتاً وموضوعاً بالكف عن المعصية، وبالتدارك بالإستغفار والإنابة، ومن ظلم النفس في المقام: قطع الرحم، وإرتكاب المعصية والذنب الصغير من غير إصرار عليه، قال تعالى في باب عدة المطلقة[وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ]( ).
قال ابن عباس: كان الرجل يطلق المرأة، فإذا قاربت إنقضاء العدة راجعها ضرارًا، لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها فتعتد، فإذا شارفت على إنقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة، فنهاهم الله عن ذلك، وتوعدهم عليه)( ).
ويدل في مفهومه على إنذار الكفار في ظلمهم لأنفسهم بالكفر وإنكار المعاد والإصرار على إرتكاب المعاصي.
الحادية عشرة: لقد عطفت آية السياق ظلم النفس على فعل الفاحشة ليكون من عطف العام على الخاص، ولتأكيد قبح فعل الفاحشة وأنه أمر ظاهر وبين، ويحتمل ظهوره وجهين:
الأول: إختصاص المتقين بمعرفة الفاحشة قبل وأثناء وبعد فعلها، وإدراك ما فيها من القبح الذاتي والعرضي.
الثاني: معرفة الناس جميعاً لماهية الفاحشة، والتضاد بينها وبين الحسنة والعمل الصالح.
والصحيح هو الثاني لأصالة الإطلاق، ولإقامة الحجة على الناس بسلاح العقل وثبوت معالم النبوة والتنزيل بين الناس والتي يحمل لواءها المسلمين إلى يوم القيامة، وهو من عمومات قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، بأن يدرك كل إنسان المائز بين الحسنة والسيئة، وتنفر نفسه من الفاحشة فتهديه كل من آية البحث والسياق إلى الإحتراز منها، وإلى الإستغفار عند وقوع الفاحشة.
ومن منافع آية البحث في المقام عصمة المسلمين من الإنغماس في المعصية والإصرار عليها، فمع إرتكابها يسعى المسلم في سبل الإستغفار بدأب وتنافس مع غيره من المسلمين، ويبادر إلى الصلوات ويحرص على أدائها في أوقاتها وفي المساجد، قال تعالى[خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ]( ).
الثانية عشرة: يفيد الجمع بين الآيتين الزجر عن الفاحشة وظلم النفس من وجوه:
الأول: تلقي المسلمين الأوامر من الله عز وجل، ومجيء هذه الأوامر إلى المسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي المتجدد مع كل جيل وطبقة منهم إلى يوم القيامة.
وليس من خطاب أعم وأوسع وأكثر بركة من الخطاب القرآني النازل من عند الله، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ تشريف وإكرام المسلمين جميعاً بخطاب متحد يبعث على التنزه عن الفواحش والسيئات، ويهديهم إلى المسارعة في فعل الخيرات، واللجوء إلى حصن الإستغفار عن ذنوب إرتكبوها أو إبتداء من غير ذنوب، لذا جاءت آية البحث بالأمر للمسارعة إلى أمرين:
الأول: المغفرة من عند الله.
الثاني: اللبث الدائم في الجنة .
وكل فرد منهما واقية من فعل الفاحشة وظلم النفس، وسلاح لمحو السيئات.
الثالثة عشرة: جاءت آية البحث بالنص الصريح على إختصاص المتقين بالجنة، وأنها جزاء عظيم ينتظرهم في عالم الآخرة وقبل أن يخلقوا، فإن قلت إذن لماذا إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل حكاية عنهم[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، وفيه وجوه :
الأول: إنحصار موضوع الإحتجاج بالحياة الدنيا.
الثاني: كلام الملائكة ليس إحتجاجاً، إنما هو توسل إلى الله عز وجل لصلاح جميع أهل الأرض، وجعلهم مؤهلين لدخول الجنة.
الثالث: قد لا يعلم الملائكة الذين إحتجوا بأن الجنة أعدت للمتقين، سواء علموا بوجودها أو لم يعلموا، قال تعالى[وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ]( ).
وسواء علم الملائكة بالجنة قبل خلقها أو بعده فإنهم لم يحتجوا على خلقها وأوانه وإعدادها للمتقين، ولم يقولوا أن أعمالاً صالحة قليلة بلحاظ طول الزمان كيف تخلد الإنسان في الجنة، بل تلقوها بالقبول، وورد بخصوص إستقبالهم للمتقين قوله تعالى[يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
ومن بديع صنع الله أنه خلق جنة عرضها السموات والأرض، وتبقى بإنتظار سكانها لآلاف السنين، وهل من منافع لهذا البقاء الجواب نعم، من وجوه:
الأول: بيان عظيم قدرة الله عز وجل.
الثاني: معرفة أهل السموات بالمنزلة العظيمة لأهل التقوى من الناس.
الثالث: بيان فلسفة الخلافة فكما تفضل الله عز وجل وشرّف الملائكة بأن جعلهم سكان سماواته، فإنه ينعم على الخلفاء في الأرض من أهل التقوى بالخلود في نعيم أعدّه الله لهم قبل أن يخلقوا.
الرابعة عشرة: تأكيد التضاد بين المسارعة إلى المغفرة وبين ظلم النفس وأن هذه المسارعة حرب على ظلم النفس، وسبيل للتخلص من تبعاته، إذ تدل آية السياق على ترتب الأثر والإثم على فعل الفاحشة وظلم النفس مطلقاً، قال تعالى[وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ]( ).
أي جلبوا على أنفسهم الضرر بإرتكاب المعصية، وبخسوا أنفسهم حقها بترك الواجب، وتضييع الثواب المترتب عليه وعلى فعل الصالحات مطلقاً.
لقد أرسل الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً وأعانهم الله عز وجل على الإمتثال لما جاء به من الأوامر والنواهي وتفضل وجعل باب التوبة مفتوحاً للإنسان مادام في الحياة الدنيا، وزاد على المسلمين من فضله بالترغيب بالإستغفار والمبادرة إلى فعل الصالحات.
الخامسة عشرة: لقد دلت آية السياق على القدر المتيقن من طريق التدارك والنجاة عند إرتكاب المعصية وهو ذكر الله، ومن وجوه هذا الذكر المبارك المسارعة إلى المغفرة، ليكون من إعجاز سياق الآيات أن الإستغفار من الله بقوله تعالى(من ربكم) وهل ذكر الجنة وإستحضار نعيمها وأهلها الذين أعدها الله لهم من ذكر الله الوارد في هذه الآية.
الجواب نعم بلحاظ أنه مقدمة وسبب لمعرفة أمور:
الأول: إن الله عز وجل هو الذي خلق الجنة.
الثاني: تفضل الله عز وجل بإعداد الجنة للمتقين على نحو التعيين.
الثالث: دخول الجنة لا يتحقق إلا بأمر ومشيئة من عند الله.
الرابع: ذكر الله والسعي لمرضاته طريق مبارك لدخول الجنة التي عرضها السموات والأرض.
السادسة عشرة: من خصائص خلافة الإنسان في الأرض الخضوع والخشوع لله عز وجل، والذي يتحقق بذكر الله في مواطن الندم المترتبة على فعل السيئة، التي تنتهي لذتها مع أوان فعلها، ولكن ما يترتب عليها من الآثام يبقى جاثماً على النفس، وحسرة وسبباً للكدورة المتجددة.
فجاءت آية السياق بالأمر بذكر الله حينئذ وآية البحث بالمسارعة إلى المغفرة والإخبار السماوي عن الجنة وسعتها لإزاحة تلك الآثام والكدورات.
ومن إعجاز آية السياق أنها تجعل المسلم يبدأ صفحة جديدة وإشراقة يوم عمل وقربة إلى الله من حين الإستغفار، وإظهار الندم والتوبة عن المعصية وعن الإمام جعفر الصادق عن آبائه عن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كفى بالندم توبة وقال عليه السلام : من سرته حسنته وسائته سيئته فهو مؤمن)( ).
السابعة عشرة: لم تقل آية السياق(والذين إذا فعلوا فواحش) بصيغة الجمع، بل ذكرت الفاحشة بصيغة المفرد ولغة التنكير وفيه وجوه:
الأول: قلة فعل الفواحش من قبل المسلمين.
الثاني: تعاون المسلمين في إصلاح الحال وتنزيه ونجاة فاعل السيئة منها ومن آثارها.
الثالث: الآية من الشواهد على قيام المسلمين والمسلمات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنافعه في المقام قبل وبعد الفاحشة، إذ أن قلة فعل المسلمين للفاحشة وظلم النفس شاهد على موضوعية سلاح الأمر والنهي في التوقي من الفواحش، والإحتراز من إرتكابها.
الثامنة عشرة: بينما جاءت آية البحث بصيغة الجملة الإنشائية، جاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية,
ومن أسرار هذا التباين مع إتحاد الموضوع وإرادة المسلمين على نحو الحصر والتعيين، وإن في علم الله عز وجل عند إعداد وخلق الجنة، أن المسلم أو المسلمة قد يرتكبان المعصية ويظلمان نفسيهما، فيذكران الله ويتوبان إليه، وأنه سبحانه يغفر لهما وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وفي رد الله عز وجل على الملائكة حينما قالوا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، إخبار للملائكة بأن ذكر الإنسان لله وإلتجائه للإستغفار يمحو آثار الفساد والإفساد بلطف من الله عز وجل بأن المعصية لا تضر مع أمور:
الأول: الإيمان والإقرار بالعبودية لله عز وجل.
الثاني: سؤال المغفرة من الله عز وجل والمسارعة إليها .
الثالث: إستحضار ذكر الله عز وجل عند فعل المعصية , وترك الإصرار عليها .
التاسعة عشرة: الجمع بين الآيتين مدرسة في العفو الإلهي، وبعث للمسلمين للنهل منها، وفي الخبر قال إبراهيم الخليل: يا كريم العفو، فقال: له جبريل عليه السلام، وتدري ما كريم العفو؟ قال: لا يا جبريل، قال: إن يعفو عن السيئة ويكتبها حسنة)( ).
ويمكن إستقراء هذا المعنى من الجمع بين الآيتين، وثبات صفة المتقين للمسلمين حتى في حال فعل الفاحشة لمبادرتهم للإستغفار، وعدم نسيانهم لذكر الله.
العشرون: بيان عظيم النفع في ذكر الله، وأنه سبيل لمحو الذنوب، وواقية من الإقامة عليها أو العودة لها، فإن قلت هل الإخبار عن تدارك التائب بذكر الله إغراء بالمعصية.
الجواب لا، من وجوه:
الأول: تسمية الفاحشة وظلم النفس سبب لبعث النفرة منهما، وحث للمسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسلامة من الوقوع في مستنقع الذنوب، قال تعالى[وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ]( ).
الثاني: جاءت الآية السابقة لآية السياق بالإخبار عن صفة التقوى , وما فيها من معاني الخشية من الله، والخوف من معصيته.
الثالث: بعث آية البحث المسلمين على السعي إلى الجنة بالعمل الصالح، والتنزه عن السيئات.
الرابع: مجيء السنة النبوية بحث المسلمين على سبل الهدى وزجرهم عن الفواحش.
(وعن عبد الله بن مسعود إن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)( ).
صلة(ذكروا الله فإستغفروا لذنوبهم) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إستحضار ذكر الله عند فعل الفاحشة لجوء إليه سبحانه، وفيه أمارة على معرفة المسلمين لسوء عاقبة فعل الفاحشة وظلم النفس، ليكون من صفات التقوى التي يختص بها المسلمون أمور:
الأول: الإستجارة بالله رجاء عفوه بذكره , قال تعالى[فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ]( )، وليس من حصر لوجوه ذكر المسلم لله، وذكر الله له، ويستقرأ الإطلاق والكثرة بلحاظ معاني ومضامين الذكر الواردة في القرآن وبيانها من السنة النبوية، فيأتي ذكر المسلم لله من جهات:
الأولى: المبادرة إلى الإستغفار وسؤال الله العفو.
الثانية: الشوق إلى الجنة، وإدراك حقيقة أنه لا يمكن دخولها إلا بأمر من الله عز وجل، قال تعالى[تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا]( ).
الثالثة: التردد والإنزجار عند الإقدام على فعل الفاحشة، وهو من إعجاز ذكر آية السياق لإرتكاب المسلم للفاحشة على سبيل الشرط(إذا فعلوا فاحشة) بأن تعرض للمسلم الفاحشة ويهم بها ولكنه ينصرف عنها لذكره لله، وما يبعثه هذا الذكر في النفس من الخشوع والخضوع والعفة, والطمع في بلوغ مرتبة اللبث الدائم في الجنة، فينجو من الفاحشة مرات عديدة، ولكنه قد يقع في شراك إحداها فيأتي الإستغفار عليها وعلى ما يترتب عليها من آثار وأوزار.
الرابعة: لجوء المسلم لذكر الله للنجاة والسلامة من ظلمه لنفسه.
الخامسة: تنزه المسلمين عن الإصرار على الذنب والفاحشة، لبيان حقيقة من جهات:
الأولى: التناقض والتضاد بين الإستغفار والإصرار على الفاحشة.
الثانية: اللطف الإلهي بالمسلمين بتقريبهم إلى منازل الإستغفار، ودفعهم عن حضيض السيئات ومن مصاديقه آية البحث وما فيها من الإخبار عن أمور:
الأول: الأمر الإلهي إلى المسلمين بالمبادرة إلى المغفرة , وتعدد صيغ هذه المبادرة.
الثاني: سعة الجنة وإستيعابها للسموات والأرض.
الثالث: إختصاص الجنة بأهل التقوى والخشية من الله.
الرابع: الملازمة بين نيل المغفرة والفوز بالجنة.
الخامس: الترغيب بالتقوى والصلاح بذكر عظيم الثواب على الخشية من الله عز وجل.
الثالثة: تنزه المسلمين عن الإصرار على الفاحشة، والذي يدل على أن نفرتهم من الفاحشة ملكة ثابتة ومتجددة، وأن حصول بعض الحالات الفردية النادرة من إرتكاب الذنب لا يضر بهذه القاعدة التي يدل عليها قوله تعالى(وهم يعلمون) الذي أختتمت به آية السياق.
الثانية: يفيد الجمع بين الآيتين أن ذكر الله مقدمة وسبب للمبادرة للإستغفار، فمن رشحات ذكر الله عز وجل الإقرار بالخطيئة وإدراك[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، بلحاظ وجوه تتعلق بالمقام وهي:
الأول: لا يقدر أحد من الخلائق على محو السيئات والذنوب إلا الله سبحانه.
الثاني: الإخبار عن قدرة الله على العفو والمغفرة ولا يقدر على هذا الإخبار والوفاء به إلا الله سبحانه لأنه يتضمن معنى العهد والوعد الكريم، قال تعالى[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا]( ).
الثالث: بقاء هذا الإخبار إلى يوم القيامة من غير تحريف أو تبديل، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الرابع: يقرب الله عز وجل الناس من منازل التوبة، ويجعل مرتكب الفاحشة في حال من الندم، وفي الحديث: إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله، يقلبها كيف يشاء ساعة كذا، وساعة كذا)( ).
وهذا البقاء من قدرة الله وسعة رحمته بالناس التي تجلت ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة: لقد أمرت آية البحث المسلمين بالمغفرة من ربهم، وجاءت آية السياق لتؤكد أنهم يذكرون الله بصفة الربوبية المطلقة، ويقرون بأنهم في حاجة مستديمة له في حال الشدة والرخاء، ويدل عليه ما ورد في الآية التالية لآية البحث[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( ).
ويدل الجمع بين الآيتين على تفقه المسلمين في الدين ومعرفتهم لمقامات الربوبية ولزوم اللجوء إلى الله عز وجل ليكون الإستغفار منزلة عظيمة فازت بها[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
بلحاظ تقوم الإستغفار بالإيمان بالله وعدم الشرك به تعالى , وصدوره من المسلم الذي لا يغير فعل الفاحشة من سنخية الإيمان التي والإنقياد لأمر الله التي يتصف بها، وعدم التغيير هذا من عمومات رحمة الله عز وجل بالمسلمين والناس جميعاً، وما فتح عليهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من سنن الإستغفار عند المعصية والبشارة بالعفو والمغفرة.
الرابعة: تكرر مادة(غفر) في الآيتين، وبينهما عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
الأول: لجوء المسلمين إلى الإستغفار.
الثاني: الإطلاق في الإستغفار في آية البحث في حال الصلاح والإستقامة وإحراز ملكة العدالة، وفي حال إقتراف الخطأ أو الذنب، بينما تضمنت آية السياق الإخبار والحث على الإستغفار إن إرتكب المسلم المعصية والذنب عرضاً.
الخامسة: جاءت كل من آية البحث والسياق بلغة الجمع وإرادة المسلمين والمسلمات جميعاً، وإن تباينت صيغة الخطاب فهي إنشائية في الأولى، وخبرية في الثانية إلا أنهما تدعوان مجتمعتين ومتفرقتين إلى رجاء العفو والرحمة من الله عز وجل، ليكون تعدد صيغ الخطاب زيادة في السعي في مرضاة الله، ومسارعة إلى المغفرة منه تعالى.
السادسة: من منافع ودلالات صيغة الجمع بين الآيتين أن الجماعة من المسلمين يدعون للفرد الواحد منهم الذي يفعل الفاحشة بالصلاح، ويستغفرون له الله عز وجل، قال تعالى[وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]( ).
وفي الآية أعلاه وجوه تدل على موضوعية الإستغفار، ولزوم إتخاذ الإنسان له سلاحاً، ومن خصائصه أنه سلاح وقائي وعلاجي في آن واحد، إذ تدل آية البحث على الأول، وتدل آية السياق على الثاني وعند وقوع الفاحشة.
وعن الإمام علي عليه السلام قال: أنه قال كان في الأرض أمانان من عذاب الله و قد رفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسكوا به) ( )، أي رفع أحدها بإنتقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى بعد أن كان بين ظهراني المسلمين , وليبقى الإستغفار أماناً للمسلمين ’ وحرزاً ووسيلة لدفع الضرر المتعقب للذنوب , وسلامة من ترتب العقاب العاجل والآجل .
وعن ابن عباس أن الآية أعلاه في أهل مكة: أنهم لو استغفروا لم يعذبوا و في ذلك استدعاء إلى الاستغفار)( ).
ويدل الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث على أمور:
الأول: إرتقاء المسلمين في مسالك المعرفة الإلهية، وحفظهم لسنن الشريعة.
الثاني: صيرورة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للناس جميعاً وحجة على الذين[الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا]( ).
الثالث: فيه شاهد على بداية عهد جديد بثبات المسلمين على الإيمان، وتعاهدهم للإستغفار فالفاحشة لا تلازم المسلم، وهو لا يصر على السيئة كبيرة كانت أو صغيرة، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السابعة: من منافع الإستغفار تنمية ملكة التواضع، ودفع الإستكبار وكسر العناد، إن التواضع سبيل لعشق التوبة والإقرار بالحاجة إلى رحمة الله في الدنيا والآخرة، والتسليم بلزوم اللجوء إلى كنز الإستغفار الذي جعل الله خزائنه قريبة من المسلمين , ليس بينهم وبينها برزخ .
إذ تدل آية البحث على إنعدام الحاجب بين المسلمين والمسارعة إلى المغفرة، ولا تكون تلك المسارعة معلقة على الإذن من الملائكة أو الأولياء أو السلاطين، فكل من آية البحث والسياق أمر من الله باللجوء إلى الإستغفار والذي يدل بالدلالة التضمنية على الإذن المطلق المتجدد من عند الله لكل مسلم ومسلمة وفي حال التقوى والصلاح وأسباب النجاة من الآثام.
وقيل(كما أنه يجب للوالي أن يسالم اعاديه إذا لم يقو عليهم كما قال الله تعالى:( وان لا تركن إليهم وان يسالمهم كما قال اللّه تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا كذلك يجب للعقل أن يسالم الأشرار من قوى النفس إذا عجز عنها وان لا يركن إليها [إذا قوى عليها])( )، ولكنه قياس مع الفارق، إذ تدل الآية أعلاه على التعدد , وإن المسلم يكون بين طرفين في الخارج بينهما تباين وتضاد، وكل طرف منهما أمة وجماعة.
أما ذات الإنسان فهو مكلف متحد تتوجه له الأوامر والنواهي، وقهر الهوى والإمتناع عن الشهوة لا يعني وجود أشرار في النفس أو الحاجة إلى السلم معهم.
فجاءت كل من آية البحث والسياق بإنعدام الوسائط بين العبد والتمسك بأغصان المغفرة التي جعلها الله عز وجل تصل إلى كل إنسان في الأرض وفي إقامته وظعنه.
قانون الفرق بين المغفرة والإستغفار
جاءت آية البحث بذكر المغفرة ولزوم المسارعة إليها، إذ يتجلى هذا اللزوم بالأمر في قوله تعالى(وسارعوا) الذي يدل على وجوب السعي إلى المغفرة والعفو من الله، وليس من حصر لمصاديق هذا السعي، ومن أهمها الإستغفار والقول(أستغفر الله)، ليكون الإستغفار مقدمة للمغفرة، وطريقاً إليها، وهو من عظيم رحمة الله عز وجل بالناس من وجوه:
الأول: يسر وسهولة طريق الإستغفار.
الثاني: قدرة كل إنسان على الإستغفار وعدم الحاجة إلى تهيئة أسباب ومقدمات له، لذا جاءت آية البحث بكفاية ذكر الله، ليكون علة للجوء إلى الإستغفار، وهو من عمومات قوله تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الثالث: مع سهولة الإستغفار فإنه تفقه في الدين بلحاظ معرفة أثره ونفعه اللامتناهي، وهو مقدمة للإرتقاء في سبل المعرفة.
الرابع: إجتماع ذكر الله والإستغفار عند العبد تنمية لملكة الإيمان الخاص والعام، أما الخاص فإن إستحضار ذكر الله مفتاح للعلوم، وواقية من الزلات في قادم الأيام، وأما العام فمن وجوه:
الأول: صلاح الفرد وحرصه على المواظبة على ذكر الله دعوة للناس للإقتداء به.
الثاني: التذكير بوجوب طاعة الله.
الثالث: إنه من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: فيه آية من عند الله بأن يقوم العبد بذكر الله والإستغفار فيكون على وجوه:
الأول: إنه مصداق شخصي للمسارعة إلى المغفرة.
الثاني: فيه بعث للناس للإستغفار واللجوء إلى سبل المغفرة.
الثالث: إنه إمتثال عملي لمضامين كل من آية البحث والسياق، فمن إعجاز القرآن وجود المصداق المتجدد لكل حكم فيه، سواء إستوعب الحكم الآية، أو أنه جاء شطراً من الآية القرآنية، فقد تأتي الآية القرآنية الواحدة بعدة أحكام سواء في موضوع متحد أو مواضيع متعددة، وعلى سبيل المثال لا الحصر آية الوضوء[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ………]( ), التي جاءت بأحكام كثيرة تتعلق بأفراد الوضوء وتعاقبها والموالاة بينها، وأحكام التيمم، وعلة تشريعه مع قاعدة كلية وهي(نفي الحرج في الدين) المستقرأة من آية الوضوء ذاتها[مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ]( )، وهي مسألة وقاعدة سيالة في أبواب الفقه من الطهارة إلى الديات يعتمدها فقهاء الإسلام طبقة بعد طبقة.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الفوز بالمغفرة من عنده، فقربهم إليها، وزينها في قلوبهم، وأمرهم على نحو الوجوب بالمسارعة إليها، ليكون هذا الأمر من مصاديق هذا التقريب، وأفراد اللطف الإلهي بالناس جميعاً، قال تعالى[اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ]( ).
فإن قلت جاءت كل من آية البحث والسياق خطاباً وموضوعاً لخصوص المسلمين والجواب نعم، إلا أن من خصائص خطابات القرآن ترتب الأثر العام على الخاص منه، لتكون في مسارعة المسلمين إلى سبل المغفرة وفي ميادينها رحمة ولطف بالناس جميعاً.
لقد جعل الله عز وجل الإستغفار بلغة يومية متجددة للفوز بمرضاته، والنجاة من سخطه وبطشه وأسباب الإبتلاء التي تترشح عن فعل الفاحشة والإقامة أو الإصرار عليها، لتكون الدنيا(دار الرجاء) إذ يرجو فيها الإنسان العفو والمغفرة من الله عز وجل، ويأمل محو الآثام التي تترتب على فعل السيئة،ترتب المعلول على علته .
فمع ما جاء به القرآن من الوعيد على فعل السيئات فإن الإستغفار طريق لغلق باب العقاب، وخروج صاحبه من التخويف والوعيد بالتخصيص.
ومن سعة رحمة الله عز وجل الإطلاق في موضوعات المغفرة، إذ تأتي بفضل من الله عز وجل على كل ذنب إرتكبه الذي يبادر إلى الإستغفار, قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا]( )، وفيه مسائل:
الأولى: الترغيب بالإستغفار، والحث عليه لما فيه من النفع العظيم.
الثانية: بيان المائز الذي يتصف به المسلمون من وجوه:
الأول: فتح باب الإستغفار للمسلمين وإستدامته إلى يوم القيامة فضلاً ورحمة من الله , ومن خصائصه ان الإنسان يغادر الدنيا ولكن الإستغفار له مستمر ومتصل بتركته الإيمانية , وإنتفاعه من غيره.
الثاني: ندب المسلمين إلى الإستغفار بآيات قرآنية، ومنها آيتا البحث والسياق.
الثالث: المسلمون أئمة وقادة في سبل الإستغفار، وهم حجة على الناس في هذا الباب، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الثالثة: تأكيد عظيم قدرة الله عز وجل وسعة رحمته، وفي الآية أعلاه مصداق من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رده سبحانه على الملائكة حينما[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، أمور:
الأول: مجيء المغفرة على الفساد في الأرض، وسفك الدماء كأنهما لم يحصلا.
الثاني: عدم إنحصار فعل الإنسان بالدنيا بالفساد وسفك الدماء، بل يأتي بما هو ضده من عمل الصالحات وفعل الخيرات.
الثالث: إن الله عز وجل يرزق الإنسان سلاح الإستغفار، ويهديه إلى سبل التوبة والصلاح.
ويمكن القول أن النسبة بين المغفرة والإستغفار هي العموم والخصوص المطلق، إذ أن المغفرة أعم من وجوه:
الأول: تنزل المغفرة إبتداء من عند الله عز وجل.
الثاني: تتعقب المغفرة من الله قيام العبد بالإستغفار.
الثالث: المغفرة رحمة وخير محض، تأتي على الذنب، وإبتداءً من دون ذنب.
الرابع: من خصائص الإنسان ملازمة الحاجة له، ومن أعظم مصاديقها المغفرة من الله في الدنيا والآخرة.
الخامسة: المغفرة من مصاديق الثواب الذي يتفضل به الله على الذين يعملون الصالحات (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صام رمضان، وعرف حدوده، وحفظ مما ينبغي أن يحفظ منه، كفر ما قبله)( ).
صلة[وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ]، بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: تأكيد رحمة الله بالناس.
الثانية: إنحصار غفران الذنوب والعفو عن المعاصي بالله عز وجل.
الثالثة: المنع من الغلو بالملائكة والأنبياء والأئمة والأولياء، إذ أنهم لا يقدرون مجتمعين ومتفرقين على محو ذنوب أحد من الناس، وإن تفضل الله وأذن لهم بالشفاعة.
الرابعة: غفران الذنوب من الممكنات، وهو قريب من الناس لعمومات قوله تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الخامسة: إخبار آية السياق عن مغفرة الله للذنوب من مقدمات قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
السادسة: يفيد الجمع بين الآيتين بعث المسلمين للجوء إلى الله للعفو عن ذنوبهم، وستر عيوبهم، والتجاوز عن سيئاتهم.
السابعة: بيان تفقه المسلمين في الدين، ودعوة الناس للإقتباس والتعلم منهم، إذ تأمرهم آية البحث بالمسارعة إلى المغفرة، وتقييدها بأنها من الله عز وجل , وجاءت آية السياق بتأكيد هذا التقييد، ليكون الجمع بين الآيتين مدرسة في المعرفة الإلهية.
(حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَهُ مَرَّةً قَالَ عَبْدُ الرَّازِقِ وَأَكْثَرُ ذَاكَ يَقُولُ أَخْبَرَنِي مَنْ شَهِدَ عَلِيًّا حِينَ رَكِبَ فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}
ثُمَّ حَمِدَ ثَلَاثًا وَكَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ ثُمَّ ضَحِكَ قَالَ فَقِيلَ مَا يُضْحِكُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ آله وَسَلَّمَ فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُ وَقَالَ مِثْلَ مَا قُلْتُ ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْنَا مَا يُضْحِكُكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَالَ الْعَبْدُ أَوْ قَالَ عَجِبْتُ لِلْعَبْدِ إِذَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا هُوَ)( ).
وفيه دلالة على أن السنة النبوية بيان للقرآن، وترغيب بما فيه من الأوامر والأحكام.
الثامنة: طرد اليأس والقنوط من نفوس الناس , خصوصاً الذين يرتكبون الذنوب والمعاصي، قال تعالى[وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ]( ).
التاسعة: تخبر آيتا البحث والسياق مجتمعتين ومتفرقتين عن إمكان الفوز بالعفو والمغفرة ومحو آثار الذنوب بفضل من الله عز وجل.
العاشرة: تجلي معاني الرحمة الإلهية في كل من آية البحث والسياق بإجتماع أمور:
الأول: مغفرة الذنوب بيد الله عز وجل.
الثاني: دعوة المسلمين للمسارعة إلى العفو والمغفرة.
الثالث: الوعد الكريم من الله عز وجل بمغفرة الذنوب.
الحادية عشرة: لماّ أمرت آية البحث المسلمين بالمسارعة إلى المغفرة جاءت آية السياق بتنزيه المسلمين عن الإصرار على فعل المعصية، لأن هذا الإصرار برزخ دون تلك المسارعة.
الثانية عشرة: بيان الملازمة بين المغفرة وبين دخول الجنة، وفيه ترغيب إضافي بالمغفرة، وإدراك للحاجة إليها في الآخرة.
الثالثة عشرة: تأكيد التضاد بين السعي إلى الجنة والإصرار على الذنوب والمعاصي، فمن يريد الجنة ويشتاق إليها فعليه التخلي عن الإقامة على الذنوب، والإمتناع عن العودة إلى فعل المعصية , وإن كان الإصرار عليها أعم من تركها , فمن مصاديق الإصرار في المقام الظن بصحة الفعل وعدم الندم على المعصية .
وقد جاءت السنة النبوية بمصاديق من السبل التي تؤدي إلى الجنة، ومصاديق من الأسباب التي تحجب الإنسان عن الوصول إليها، عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا”)( ).
الرابعة عشرة: ذكرت آية البحث جانباً من سعة الجنة، ومن الإعجاز أن الآية ذكرت عرضها ولم تذكر طولها لما يدل عليه مفهوم الآية بلحاظ أن الطول أعظم وأطول من العرض، وفيه ترغيب بالسعي إلى الجنة، والصدور عن القرآن والســنة لمعرفة مصــاديق التـــقوى، وكيـــفية إخــلاص العبادة لله عز وجل، وإتخاذ التقوى وسيلة إلى الجنة، وذريعة لنيل رحمة الله في الدنيا والآخرة.
ومن خصائص التقوى أن صاحبها في أمن وسلام في الدنيا والآخرة، ليكون من الإعجاز في خلق الإنسان وأحكام الحلال والحرام، أن ثمار ومنافع الفعل الذي يدخل الإنسان الجنة متعددة وكثيرة في الحياة الدنيا أيضاً، وفيه عون له لتعاهد مصاديق التقوى.
فمن صفات الإنسان دبيب الملل وطرو النسيان عنده، ويقبل على الفعل الحسن بشوق ورغبة , وقد يبدأ هذا الشوق بالنقصان والتآكل لتزاحم أمور وحاجات الدنيا معه، فتراه يقلل من هذا الفعل الحسن أو يهجره مع بقاء إدراكه لحسنه الذاتي والعرضي , لذا جاءت آية البحث بالإخبار بأن التقوى هي الطريق الوحيد إلى الجنة التي يسعى إليها كل مؤمن.
وجاءت آية السياق بالوعد الكريم بمغفرة الله لذنوب العبد إذا إستغفر لأن هذا الإستغفار من التقوى، فمن اللطف الإلهي أن الله لم يشترط على الإنسان التلبس الطويل والمتكرر بأفراد التقوى كي يصدق عليه أنه متق وتغفر له ذنوبه، بل تأتي المغفرة مع قول العبد(أستغفر الله) لأن هذا القول بذاته تقوى وخشية من الله عز وجل، وفيه برزخ دون تسرب الملل إلى نفس العبد.
ومن الآيات تلاوة المسلمين لكل من آية البحث والسياق عدة مرات في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني الشامل للذكر والأنثى منهم، لتذكيرهم بلزوم الإستعداد لدخول الجنة بالتقوى وللمنع من طرو النسيان عليهم في الرجوع إلى الله والوقوف بين يديه للحساب، قال تعالى[إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الخامسة عشرة: جاءت كل من آية البحث والسياق بصيغة الإطلاق التي تدل على سعة رحمة الله , وعظيم كرمه وأنه سبحانه يعطي بالأوفى والأتم، فليس من تقييد للمغفرة التي وردت في آية البحث , ليكون من مفاهيم الإطلاق في المقام تسابق المسلمين في سبل المغفرة , وإظهارهم تعاهد التقوى , والسعي المتصل والمتجدد نحو المغفرة.
وجاءت آية السياق بصيغة الإطلاق والعموم(ومن يغفر الذنوب إلا الله) وقد يحصي الناس والملائكة عدداً وشطراً من ذنوب العباد , ولكن إحصاءها جميعاً لا يقدر عليه إلا الله، وكذا مغفرة الذنوب فلا تستطيع الخلائق مغفرة الذنب صغيراً أو كبيراً.
ولكن الله عز وجل يغفرها جميعاً مع العلم بها وإحصائها قبل غفرانها وبعده، قال تعالى[وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ]( ).
صلة(وهم يعلمون) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: من دلالات الجمع بين الآيتين إرتقاء المسلمين في سلم المعرفة الإلهية بأمور:
الأول: سعي المسلمين والمسلمات الحثيث نحو المغفرة، وتعاونهم للفوز بالإقامة الدائمة في النعيم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الثاني: يدل قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] على أن المسلمين يعلمون بوظائفهم العبادية، وأنهم يدركون لزوم المبادرة إلى نهج طريق التوبة والمغفرة، وليس من أمة أكرمها الله عز وجل بالدعوة إلى المسارعة إلى المغفرة مثل المسلمين والمسلمات.
الثالث: يستلزم السعي إلى الجنة المعرفة وقصد القربة إلى الله، والتمييز بين الحلال والحرام، وإتيان الصالحات، وإجتناب السيئات، وهي أمور تترشح عن العلم وحسن الإختيار، قال تعالى في خطاب للمسلمين[وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
الرابع: أخبرت آية البحث عن إعداد الجنة للمتقين على نحو التعيين، والتقوى مرتبة تنال بالعلم والتحصيل، وأهم مصاديق العلم في المقام إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتدبر في معجزاته، والتسليم بنزول القرآن من عند الله، وترشح هذا العلم بمصاديق عملية بالخشية من الله في باب العبادات والمعاملات.
ومن الآيات في التكاليف أنها تجعل المسلم في حال متصلة من التقوى، ففي أداء الصلاة اليومية أمور:
الأول: إنه من أبهى مصاديق التقوى والخشية من الله.
الثاني: إنه برزخ دون الإبتعاد عن منازل التقوى.
الثالث: أداء الصلاة شاهد على العلم ومعرفة المسلم لواجباته.
الرابع: فيه تنزه عن الإصرار على الذنوب.
الخامس: إتيان الصلاة اليومية مقدمة لأفعال الصلاح الأخرى، واجبات كانت أو مندوبات.
السادس: أداء الصلاة من عمومات قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] والصلاة مناسبة للإستغفار ومحو الذنوب , وكل فعل من أفعال الصلاة نوع إستغفار قولي أو فعلي.
السابع: يردد كل مسلم في صلاته اليومية قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، ومن مصاديقه إقامة الصلاة والمسارعة في المغفرة , وإجتناب الإصرار على الذنوب والمعاصي.
الثامن: لما أخبرت آية البحث بأن الجنة عرضها السموات والأرض، صار المسلمون يعلمون هذه الحقيقة لقانون ثابت وهو تلقيهم ما ينزل من القرآن بأنه حق وصدق فيسعون مجتمعين ومتفرقين لدخول الجنة بسؤال العفو والمغفرة من عند الله، والإستقامة في طريق الهداية والرشاد.
لقد بينت آية البحث حقيقة وهي أن المسلمين يعلمون بخلق الجنة وعلته، وأن الله عز وجل تفضل بإعدادها للمتقين من الأجيال المتعاقبة من أيام أبينا آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة , ليكون المسلمون هم أكثر أهلها بلحاظ إنحصار التقوى بالتصديق بنزول القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد بعثته.
(وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ” ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)( ).
التاسع: يفيد الجمع بين الآيتين بيان فلسفة الأوامر والنواهي في القرآن من وجوه:
الأول: إنها مدرسة لتفقه المسلمين في الدين.
الثاني: إنفراد المسلمين بالإمتثال لما في القرآن من الأوامر والنواهي، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث: نيل المسلمين مرتبة العلم وما تدل عليه من السمو والرفعة، ومن خصائصها تلقي الأوامر والنواهي القرآنية بالإمتثال الحسن، قال تعالى[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الثالث: صلة هذه الآية بقوله تعالى[أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ).
صلة(أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم) بهذه الآية
وفيها مسائل:
الأولى: إتحاد موضوع الآيتين من وجوه:
الأول: إرادة المسلمين والمسلمات في الآيتين، مع أن آية البحث جاءت بصيغة الخطاب، وآية السياق بلغة الغائب واسم الإشارة.
الثاني: موضوع المغفرة والعفو.
الثالث: صدور العفو من الله عز وجل، وهو رب العالمين.
الثانية: لقد بينت آية البحث سعة الجنة بما لا يخطر على أوهام البشر،ويفوق عالم التصور والخيال،وجاءت هذه الآية لتبين ماهية الجنة وما فيها من النعم بالإخبار عن جريان الأنهار من تحتها، وتحتمل الأنهار وجوهاً:
الأول: إنها جزء من الجنان ونعيمها.
الثاني:الأنهار يوم القيامة خلق مستقل عن الجنة , وهي نعمة إضافية تابعة للجنان.
الثالث:البرزخية بين الجزئية والإستقلال بأن تكون الأنهار تابعة للجنة وملحقة بها.
والصحيح هو الأول إذ أن الأنهار جزء من الجنة، فكما أن في الجنة قصوراً وحوراً عيناً، وأشجار الثمار، فان فيها أنهاراً جارية، قال تعالى[مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى] ( ).
ويتجلى الإعجاز في الآية أعلاه بذكر أنواع الأنهار، وماهية الشراب الذي يجري فيها وأنها لا تنحصر بأنهار الماء وشربه، وورد لفظ(الأنهار) في الآية أعلاه أربع مرات، ومن القليل النادر ورود لفظ مخصوص في آية واحدة أربع مرات، لتأكيد عظيم فضل الله، وسعة رحمته، وترغيب الناس بالإستغفار والعمل الصالح وإتخاذها سبيلاً لدخول الجنة .
إن الشوق للمتعدد من الجنان والأنهار يزيد الإنسان تقى، فلا غرابة بإنقطاع واد البنات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول العرب الإسلام، ونزول حرمة الوأد من السماء وجهاد النبي في إجتثاثه من الأرض، قال تعالى[وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( ).
ويحتمل جريان الأنهار في دار النعيم وجوهاً.
الأول: إرادة جريان الماء إذ أن الأنهار أوعية لها،وفي التنزيل حكاية عن فرعون[قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي]( ).
الثاني: جريان ذات الأنهار بلحاظ حمل الكلام على الظاهر.
الثالث:المعنى الأعم وهو جريان الماء , وانتقال الأنهار أيضاً.
والصحيح هو الثالث لوجوه:
الأول:أصالة الإطلاق وعدم وجوه مقيد في البين.
الثاني: بيان بديع صنع الله وعظيم فضله على المتقين.
الثالث: إتصاف دار الثواب بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، قال تعالى[وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ] ( ).
الثالثة:ذكرت آية البحث إعداد الجنة للمتقين، وأن الله عز وجل خلقها للذين يخشونه ويطيعون أوامره، وجاءت آية السياق بالتفصيل وبيان خصائص الجنان وإستدامة إقامة المؤمنين فيها، لدفع وهم، وتأكيد أنها ليست كأيام الدنيا التي تتصف بالزوال والإنقضاء، فالجنة نعيم دائم، والمؤمنون خالدون فيها، فلا موت بعدها، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يُؤْتَ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَبْشًا أَمْلَحَ فَيُقَالُ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَطَّلِعُونَ خَائِفِينَ مُشْفِقِينَ قَالَ يَقُولُونَ نَعَمْ قَالَ ثُمَّ يُنَادَى أَهْلُ النَّارِ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ قَالَ فَيُذْبَحُ ثُمَّ يُقَالُ خُلُودٌ فِي الْجَنَّةِ وَخُلُودٌ فِي النَّارِ( ).
الرابعة: أختتمت آية البحث بالإخبار عن تفضل الله بخلق الجنة منزلاً ومقاماً كريماً لأهل الإيمان والتقوى بقوله تعالى[أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] وأختتمت آية السياق ببيان علة هذا الإكرام والتشريف وأنه جزاء لهم على صلاحهم وإحسانهم لقوله تعالى[وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ]( ).
الخامسة:خاتمة آية السياق ترغيب للمسلمين بالمسارعة إلى المغفرة وحث لهم على التقوى، قال تعالى في وصف القرآن[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
لينبسط موضوع الهدى في القرآن على كل آياته ، فكل آية منه هدىً مستقل، وهدىً بلحاظ إجتماعها مع غيرها فقوله تعالى[َنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ] ثناء من الله عز وجل على نفسه لعظيم فضله على المسلمين وإرشاد وإعداد الجنة والوعد بلبثهم الدائم فيها لسعيهم في سبل الطاعات، والإمتثال لأوامره تعالى، وبعث لهم لإستدامة السعي الحثيث في مسالك المغفرة.
قانون تعقب البشارة للأمر الإلهي
من رحمة الله عز وجل بالمسلمين أنه أمرهم بالمسارعة إلى المغفرة في آية البحث، وجاءت آية السياق لتخبر بأن المغفرة جزاء لهم على طاعتهم لله عز وجل، وإنفاقهم في سبيل الله في حال الرخاء والشدة، ولجوئهم إلى الله عند فعل الفاحشة أو ظلمهم لأنفسهم، ليكون من إعجاز القرآن في الجمع بين هاتين الآيتين تعقب البشارة للأمر الإلهي، وهو عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، من وجوه:
الأول: إمتلاء نفوس المسلمين بالسكينة.
الثاني: بعث المسلمين للمسارعة إلى المغفرة رجاء الفوز بالجزاء.
الثالث: الإخبار عن عالم الجزاء والثواب، ومقامات المؤمنين فيه
الرابع: تأكيد المائز بين المسلمين وغيرهم بأن المسلمين يتنعمون بالبشارة والغبطة في الحياة الدنيا، ويحرصون على الإستقامة والرشاد رجاء الجزاء الكريم من عند الله عز وجل.
الخامس: ترغيب الناس بدخول الإسلام، وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد بعث الله عز وجل الأنبياء بالآيات الحسية التي تدل على صدق نبوتهم، كما في آية السفينة في نبوة نوح، وآية الناقة في نبوة صالح، وآية العصا بالنسبة لنبوة موسى، والمتعدد من الآيات الحسية التي جاء بها عيسى عليه السلام، كما في قوله تعالى[أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ]( ).
وعيسى عليه السلام هو آخر الأنبياء الذين سبقوا بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكأن هذا التعدد في معجزاته شاهد على فضل الله عز وجل على الناس بالزيادة والكثرة في معجزات النبي اللاحق بالنسبة للنبي السابق، وإن كانت معجزات الأنبياء السابقين توليدية ومتعددة أيضاً.
ثم تفضل الله عز وجل بمعجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية وهي القرآن، لتكون من اللامتناهي في أفرادها لما فيها من الكثرة والتجدد، ومنها الإعجاز في الصلة بين آيات القرآن الذي تتجلى شذرات منه في تفسيرنا هذا، وبيان الصلة بين الأمر والبشارة في آيات القرآن.
فجاءت آية بالأمر بالمسارعة إلى المغفرة، ثم تعقبتها آية الجزاء والثواب بالجنة، نعم لم يأت هذا الجزاء مجرداً بل جاء على نحو التعليق على التحلي بصفات التقوى، وسيماء الصلاح والإخلاص في عبادة الله.
وتتعدد وجوه ومصاديق البشارة التي تتعقب الأمر الإلهي والتكليف وهي على قسمين:
الأول: البشارة الدنيوية التي تكون ثواباً عاجلاً، ومدداً في الدنيا، (بالإسناد عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَقَالَ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ فَانْطَلِقْ مَعِي فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ
قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمْ اللَّهُ مِنْهُ أَقْبَلَتْ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ أَوَّلُهَا آخِرَهَا الْآخِرَةُ شَرٌّ مِنْ الْأُولَى قَالَ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ وَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَالْجَنَّةِ
قَالَ قُلْتُ بِأَبِي وَأُمِّي فَخُذْ مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ لَقَدْ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَالْجَنَّةَ ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَبُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي قَضَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ حِينَ أَصْبَحَ)( ).
ويدل الحديث على الندب للإستغفار للموتى من المؤمنين وأنهم يسمعونه وينتفعون منه.
الثاني: البشارة الأخروية، وما يتعلق بحال المؤمن المستجيب لأمر الله في مواطن الآخرة إبتداء من عالم البرزخ إلى عرصات الحساب إلى الخلود في النعيم , ليكون الإنتقال بينها من الغرق بفضل الله, ومن عمومات قوله تعالى[مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
ويحتمل الأمر الإلهي والتكليف ذاته وجوهاً:
الأول: إنه مقدمة وسبيل رشاد وهداية للثواب، وهو من عمومات قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الثاني: ذات الأمر الإلهي بشارة ورحمة.
الثالث: المعنى الأعم الشامل للوجهين أعلاه.
والصحيح هو الأخير، إذ أن الأمر الإلهي بشارة الثواب من جهات:
الأولى: لا يأمر الله بشيء إلا وجعل ثوابه حاضراً.
الثانية: التكاليف رحمة من الله، وباب للثواب , ومن عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثالثة: الأمر الإلهي للمسلمين إكرام وتشريف لهم، وكل إكرام من الله هو بشارة ونعمة متجددة وكذا كل بشارة من الله هي إكرام، ليكون من آيات الله تعقب البشارة للأمر الإلهي.
لذا فمن خصائص الحياة الدنيا أنها(دار البشارة) وأن التكاليف في طول البشارة وجزء من سنخيتها , ومن الدلائل أنك ترى المؤمنين يؤدونها بشوق ورغبة ورضا فلا غرابة أن تبدأ فريضة الصلاة في كل مرة بقوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، فتفضل الله عز وجل وأمده بأسباب قضاء الحاجة وجعل الأسباب قريبة منه، لتكون مدداً وعوناً له، ومنها البشارات العظيمة على التكاليف اليسيرة، والجزاء الكريم على النطق بكلمات الإستغفار، وما فيها من الدلالة على اللجوء إلى الله عز وجل.
لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو المعصوم من الخطأ يكثر من الإستغفار ويواظب عليه، وبالإسناد عن ابن عمر قال: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَسَمِعْتُهُ اسْتَغْفَرَ مِائَةَ مَرَّةٍ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ أَوْ إِنَّكَ تَوَّابٌ غَفُورٌ)( ).
ليكون إستغفار النبي وكثرته سياحة في عالم الملكوت وتأديباً وإرشاداً للمسلمين، وأمارة على لزوم مبادرتهم للإستغفار من باب الأولوية لحاجتهم المتجددة للإستغفار، والإقتداء بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
إعجاز الآية
إبتدأت الآية بحرف العطف الواو لتأكيد إتصال وتعدد الأوامر المتوجهة إلى المسلمين، مع إختصاص آية البحث من بين هذه الآيات بأمور:
الأول:البعث على المسارعة والمبادرة إلى الإستغفار، والسعي لطلب العفو والمغفرة من الله.
الثاني:الثناء على المسلمين لتقيدهم بآداب العبودية، والإقرار بالتوحيد لقوله تعالى[مِنْ رَبِّكُمْ].
الثالث:الوعد الكريم بالجنة والنعيم الدائم.
الرابع:بيان سعة الجنة وإستيعابها للسموات والأرض.
الخامس:تعيين الذين أعدت لهم الجنة، وهم أهل الإيمان والتقوى.
ومع أن الآية جاءت بصيغة الجمع(وسارعوا)إلا أن كل مسلم يدرك أموراً:
الأول: المبادرة على نحو الإنفراد والإستقلال لسبل المغفرة.
الثاني:الإشتراك في سعي الجماعة والأمة لنيل المغفرة والفضل من الله عز وجل، وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ أن الفرد الواحد من المسلمين أمة في الصلاح والمبادرة إلى فعل الخيرات , وفي إبراهيم عليه السلام ورد قوله تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ]( ).
الثالث:الإقتباس من الجماعة وإعانتها في موارد الصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويمكن أن نسمي هذه الآية آية (وسارعوا) ولم يرد لفظ (سارعوا) في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة.
ويدل الأمر الإلهي إلى المسلمين بالمسارعة إلى المغفرة على قدرتهم عليها، وصلاحهم للجوء إلى الإستغفار، وتفضل الله عز وجل بتقريبهم إلى منازل الإستغفار ومصاديق الإمتثال لما في هذه الآية من الأمر التوليدي المتجدد في ذاته ومصاديق الإمتثال له .
ومن إعجاز الآية أن آخرها من مصاديق هذا اللطف لإخباره عن سعة الجنة التي تنتظر المسلمين الذين يسارعون بالإستغفار، ويرتدون لباس التقوى ز
ومن إعجازها تقديم الإسراع إلى المغفرة وعطف المسارعة إلى الجنة عليه، لبيان حقيقة وهي أن السعي إلى الجنة , ويشمل الحياة الدنيا والآخرة، وهو مقدمة للخلود في النعيم.
وفي إختصاص المسلمين بالأمر الإلهي(سارعوا) وموضوع المسارعة وتعدده، وشموله للمغفرة والمسارعة إلى الجنة الواسعة سبيل هداية وصلاح، وآية في نبذ البطئ والتسويف في عمل الصالحات.
ومع أن التأني والتوئدة محمودة في السلوك وأمور الدنيا كما يقال(إتأد في مشيته أي إقتصد ), وإتئد في الأمر أي تدبر وتثبت , فإن هذه الآية تنهى في مفهومها عن التوئدة والتسويف في أمور الدين والإستعداد للآخرة، ليكون الأمر بالمسارعة في الآية منطوقاً وموضوعاً ومفهوماً نعمة إختص الله عز وجل بهاالمسلمين، وإنفرادهم بالمسارعة إلى المغفرة من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الآية سلاح
ورود حرف العطف(الواو) في بداية الآية الكريمة تأكيد لتعدد المدد الإلهي الذي أنعم الله عز وجل به على المسلمين في باب الأوامر والنواهي، فالآية هداية إلى سبل النجاة في النشأتين، ويتلو كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، ليكون من مصاديقه المسارعة إلى المغفرة لما فيها بالذات والموضوع من أسباب الهداية والتوفيق إلى الفلاح والرشاد، ولأنها سلاح للعبور على الصراط في الآخرة، وهل تبديل السموات والأرض يوكم القيامة كما يدل عليه قوله تعالى[يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ]( )، صيرورتها جنة ومثوىً للمتقين؟
الجواب لا، لأن الجنة مخلوقة قبل خلق آدم.
وسأل زرارة الإمام جعفر الصادق عليه السلام:ماتقول ياسيدي في القضاء والقدر؟ قال: أقول: ان الله تبارك وتعالى اذا جمع العباد يوم القيامة سألهم عما عهد اليهم ولم يسألهم عما قضى عليهم( ).
وفي الحديث دعوة للمسلمين لإجتناب الجدل والخلاف وتأسيس المذاهب وأسباب الفرقة في أمور كلامية ليست إبتلائية.
ومما عهد الله عز وجل به للناس المبادرة إلى الإستغفار , وسؤال العفو من الله عز وجل، والسعي إلى الجنة بالعمل الصالح المتصل والدائم وهو المستقرأ من معنى المسارعة في الآية الكريمة .
ولمفهوم السلاح في المقام معان متعددة منها:
الأول :الوقاية والأمن.
الثاني :الكسب والإستعانة بالسلاح لجلب النفع ودفع المفسدة.
الثالث: أسباب وسبل الإمتثال لأوامر الله عز وجل، وإجتناب نواهيه.
الرابع:الإحتراز من أهل الشك والريب.
فجاء أمر المسارعة إلى المغفرة في الآية ليجعل المسلمين ينقطعون إلى الله عز وجل، ويولون الإستغفار أولوية في حياتهم اليومية، ولايلتفتون إلى إستهزاء أهل الضلالة وجدالهم وصيغ المغالطة التي يأتون بها، لأن الآية برهان عقلي قاطع وإستقراء كامل بلزوم اللجوء إلى الإستغفار، قال تعالى[وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا]( ).
ويمكن تقسيم إتخاذ الآية سلاحاً بلحاظ الذات والغير إلى أقسام:
الأول: السلاح الذاتي،بأن يستعين المسلم بالآية وما فيها من الأوامر والنواهي، لما فيه مصلحته ونفعه في النشأتين، وليس من حصر لتلك المنافع وهي من اللامتناهي، ومن عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثاني:سلاح الأخوة الإيمانية، بأن ينتفع المسلم من الآية القرآنية لما فيه خير أهله وذويه وأصحابه والمؤمنين في دويرته، التي تكون من الكلي المشكك بلحاظ منزلته ومقامه وتأثيره فيهم وجذبهم إلى سبل الصلاح، وصدّهم عن مسالك المعصية والردى.
الثالث:السلاح الغيري لجعل الآية القرآنية وتلاوتها والعمل بمضامينها ضياء لهداية الناس وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وهذا التقسيم إستقرائي وإلا فان هذه الأقسام متداخلة في الأثر المترتب عليها، وكل فرد منها يشع بأنواره على موضوعات ومصاديق الآخر، وهو من خصائص الآية القرآنية كحجة عقلية متجددة في نفعها إلى يوم القيامة.
مفهوم الآية
إبتدأت الآية بالخطاب إلى المسلمين بلغة الإكرام والإرشاد إلى سبل الصلاح وفيه مسائل:
الأولى: إن الله عز وجل يحب المسلمين ويصلحهم لما فيه خيرهم ونفعهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى[تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ* هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
فمن الإعجاز في آية البحث أنها هدى وبعث للإستغفار، وبشارة جلية لتعقب الإخبار عن إعداد الجنة للمتقين الأمر بالمسارعة إلى الإستغفار، ومن خصال المسلمين الحميدة ملازمة الإستغفار، واللجوء إليه عند فعل الفاحشة، ومطلقاً من غير إرتكاب المعصية والفاحشة.
الثانية:التعريض والذم للكفار لحرمانهم أنفسهم من نعمة الإستغفار والمسارعة إليه، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
ومن إعجاز القرآن إقتران الرحمة بهذا التعريض،إذ أن الآية تدعوهم للمبادرة إلى التوبة والإنابة، والإنتفاع من نعمة الأمر الإلهي الوارد في هذه الآية الذي يبعث على الإستغفار، وسؤال محو الذنوب،وستر الآثام.
الثالثة:تعيين وظيفة المسلمين والمسلمات العامة والخاصة بالتوجه إلى الله عز وجل بالإستغفار والتوبة، وسؤال العفو والفضل،وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بأن يتفضل الله عز وجل ببيان وتعيين وظيفتهم العبادية.
الرابعة:كما أعدّ الله عز وجل الجنة للمتقين، وخلقها قبل خلق آدم عليه السلام، فانه سبحانه جعل المغفرة حاضرة وقريبة من المسلمين , وهو ظاهر قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ] بلحاظ أن المغفرة هدف جلي يمكن السعي والوصول إليه.
الخامسة:أهلية وصلاح المسلمين لمرتبة المسارعة إلى المغفرة، وهي إرتقاء في سلّم المعرفة الإلهية، وهل هذا الإرتقاء ذاتي يتعلق بقدرات المسلمين، أم بفضل ولطف من الله عز وجل.
الجواب هو الثاني فمن لطفه تعالى تقريب العباد إلى منازل الطاعة، وإعانتهم لأدائها، ومنه هذه الآية التي ترشدهم إلى المغفرة، لإتخاذها بلغة لدخول الجنة، والفوز بالثواب العظيم في الآخرة.
السادسة:بعث المسلمين للسعي الحثيث إلى الجنة، وفي بيان الوسيلة وهي السعي، والغاية وهي الجنة وجوه:
الأول: يكون السعي إلى الجنة في الحياة الدنيا، إذ لاعمل في الآخرة، أما الجنة فهي دار الجزاء.
الثاني:السعي تكليف وعمل وبذل الوسع، أما الجنة فهي ثواب محض.
الثالث: السعي أمر مؤقت، ولا يستوعب كل أوقات العبد في الدنيا، فقد ينشغل بالكسب للمعاش أو يخلد إلى الراحة أو يلهو في غير محرم، أما الثواب فهو أمر منبسط على كل آنات اللبث في الجنة.
الرابع: لابد من نهاية وأجل للسعي بلحاظ أن وعاءه الزماني هو الحياة الدنيا التي هي إلى زوال، أما الآخرة فانها دار البقاء والخلود، قال تعالى[وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ] ( ).
الخامس: في السعي وعمل الصالحات نوع إختيار، أما الإقامة الدائمة في الجنة فهي فضل وثواب من عند الله عز وجل.
السابعة:إستحضار ذكر الجنة وتلاوة آية البحث تنمية لملكة الزهد، وباب للقناعة والصلاح، وعصمة من الإفتتان بالدنيا وزينتها، وعن عبدالله بن مسعود قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نام على حصير فقام وقد أثر في جنبه ، فقلنا يا رسول الله : لو اتخذنا لك؟ فقال : ما لي وللدنيا ، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها( ).
الثامنة: وفي بيان الآية لسعة الجنة وإستغراقها للسموات والأرض أمور:
الأول: إنه شاهد إعجازي على بديع صنع الله.
الثاني: تأكيد فضل الله على المؤمنين في الدنيا والآخرة ومنه الإخبار في الدنيا عما أعدّ الله عز وجل للمؤمنين في عالم الجزاء من الجنة الواسعة.
الثالث: سعة الجنة وشمولها للسماوات والأرض دليل على عدم حصول الخلاف والنزاع بين أهلها في السكن، قال تعالى[وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ]( ).
الرابع: بعث الشوق في نفوس المسلمين لدخولها.
الخامس: إنه برزخ دون اليأس والقنوط وأسباب القصور وترك العمل.
السادس: التبليغ والإنذار للكفار من تضييع فرصة الحياة الدنيا، ومناسبتها لإحراز دخول الجنة.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين السياحة في رحاب الجنة في الدنيا، وترشح الصلاح والتقوى على جوارحهم وأفعالهم عند تلاوة آية البحث، وما فيها من ترغيب بعالم مابعد الموت، وتنمية ملكة الصبر عندهم عن الزخرف وأسباب الغفلة ، فيما قبله.
وعن أنس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشي إذا استقبله شاب من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كيف أصبحت يا حارثة قال أصبحت مؤمناً بالله حقاً فقال له انظر ما تقول فإن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك
فقال يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا أي أدبرت وهربت فأسهرت ليلى وأظمأت نهاري فكاني بعرش ربي بارزاً وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها فقال له أبصرت فالزم عبد نور الله الإيمان في قلبه، قال رسول ادع الله لي بالشهادة فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم بدر شهيداً فجاءت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله قد علمت منزلة حارثة منى فإن يكن في الجنة أصبر وأن لم يكن في الجنة ترى ما أصنع فقال أوهبلت أجنة هي أنها جنان وأن ابنك أصاب الفردوس الأعلى فرجعت وهي تضحك وتقول بخ بخ يا حارثة( ).
التاسعة:تأكيد قاعدة منع الجهالة والضرر في عالم الجزاء والثواب بتعيين أهل الجنان، الذين أعدها الله عز وجل لهم على نحو الخصوص، بقوله تعالى[أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] لتكون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم برزخاً دون طمع الكفار برحمة الله في الآخرة، ومانعاً من قيامهم بالتدليس على الناس، والتسويف بالتوبة، وليكون إخبار القرآن عن سعة الجنة تأسيساً لمدرسة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتخذ من إعداد الجنة لأهل التقوى، والنار لأهل الكفر والضلالة منهاجاً لتقويم سلوك الناس، وإصلاحهم لطاعة الله رجاء الثواب العظيم،والأمن والسلامة من العذاب الأليم.
إفاضات الآية
لقد جعل الله الحياة الدنيا(دار الكرامة)لمن آمن به وصدق بأنبيائه، ومن مصاديق الكرامة مصاحبة البشارة للمؤمنين، بحسن العاقبة والثواب العظيم، وليس من حصر لمنافع هذه البشارة في الحياة الدنيا على المؤمن والناس جميعاً .
فصحيح أنها خاصة بالمؤمنين إلا أن غيرهم ينتفع منها بالعرض والأثر المترتب عليها والذي يتجلى بالسكينة والصلاح في عمل المؤمن وسعي المسلمين باليد والمال واللسان لجذب الناس لمنازل الهداية، ليفيض الخير وتتنامى البركة في الأرض بالبشارة التي يخص الله عز وجل بها المؤمنين، وهو من عمومات رحمة الله عز وجل بالناس في الدنيا، وسبل هدايتهم، وأسباب الحجة والبرهان عليهم بأن جعل البشارة قريبة منهم مجتمعين ومتفرقين .
وعن الإمام علي عليه السلام قال: ألا أخبركم بالفقيه كل الفقه ؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله ، ولم يؤمنهم من مكر الله ، ولم يرخص لهم في معاصي الله( ).
لتكون آية البحث أصل الفقه ومنبع العلم، والنور الذي يشع على القلوب فيلامس شغافها.
ومن أسرار البشارة بعلة إعداد الجنة،وتعيين أهلها وهم المتقون، إتخاذها بلغة لتحصيل هذه المرتبة والثبات والإقامة الدائمة فيها لحين مغادرة الدنيا، أي أنها سبب للتوبة والإنابة، وباعث للحرص على البقاء في منازل التقوى، وإدراك حقيقة وهي الملازمة بين هذا البقاء وتوالي أفراد الرحمة الإلهية، فكما يواظب المسلمون على المسارعة للمغفرة ومقامات الخلود في النعيم فان شآبيب الرحمة تتسارع إليهم كماً وكيفاً وجهة وأسباباً.
بالإسناد عن جندب قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته( ) ، ثم عقلها، فصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلق عقالها، ثم ركبها ، ثم نادى : اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقولون أهو أضل أم بعيره ؟ ألم تسمعوا ما قال قالوا: بلى، فقال : لقد حظر رحمة واسعة ، إن الله خلق مائة رحمة ، فأنزل رحمة تعاطف بها الخلائق جنها وإنسها وبهائمها، وعنده تسعة وتسعون رحمة ( ).
لقد دعى الله عز وجل المسلمين إلى المسارعة إلى المغفرة مما يدل على أنها كنز حاضر، وقرينة متجددة، ليس بين المسلمين وبينها حجاب.
ويفيد قوله تعالى[وَسَارِعُوا] وجوهاً:
الأول: مبادرة المسلم إلى الإستغفار.
الثاني: مسارعة المسلمين مجتمعين إلى المغفرة.
الثالث:إستغفار ودعاء المسلم لأخيه المسلم في السر والعلانية وحال حضوره وغيابه، إذ أن هذا الإستغفار على وجهين:
الأول: إستغفار الحي للحي.
الثاني:إستغفار الحي للميت.
الرابع:إستغفار المتعدد والجماعة من المسلمين للفرد الواحد منهم.
الخامس:إستغفار المتحد للمتعدد من المسلمين.
وتتجلى منافع وآثار هذا التعدد والتداخل في وجوه الإستغفار بحسن سمت المسلمين وسعيهم إلى اللبث الدائم في الجنان،بلحاظ أن إحراز المغفرة نوع طريقية له.
الآية لطف
جاءت الآية بخمسة أمور كل واحد منها لطف قائم بذاته، وهي:
الأول: الخطاب والأمر الإلهي للمسلمين في أول الآية الكريمة.
الثاني:موضوع الأمر الإلهي وهو المسارعة والمبادرة العامة والخاصة، والتسابق إلى المغفرة.
الثالث:جعل المغفرة من الله غاية يسعى إليها المسلمون جماعة وأفراداً.
الرابع:السعي والمسارعة إلى الجنة والإقامة في النعيم.
الخامس:إعداد الجنة لخصوص أهل التقوى.
ومن اللطف الإلهي في الآية إجتماع هذه الأطراف الأربعة متداخلة على نحو الإتحاد والتعدد، بلحاظ إجتماع كل طرف مع الآخر منها مجتمعة ومتفرقة، فيكون مجموع مصاديق اللطف فيها عشرين فرداً،إلى جانب اللطف في ذات الآية وتلاوتها كسور للموجبة الكلية لمضامينها القدسية وما فيه من بعث الشوق في النفوس للجنة، والغبطة والسعادة عند السعي إليها،والمثابرة والجد المتصل لتحصيل البلغة إليها .
وفي علم الأصول مسألة وهي أن السعي لمقدمة الواجب ليس بواجب، كما في تحصيل الإستطاعة لأداء فريضة الحج لقوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( )، فلا يجب السعي لتحصيل الزاد والراحلة والمال الكافي لأداء الحج، ولكن إن حصلت الإستطاعة وجب الحج، أما بالنسبة للمغفرة والسعي إلى الجنة فان الأمر مختلف أو قل إن القادة الأصولية أعلاه متخلفة عن ماهية الأوامر الإلهية وسنن علم الكلام، فلابد من بذل الوسع لتحصيل مقدمات الدخول إلى الجنة، فذات المقدمات قد تستلزم بلغة أيضاً ينبغي إحرازها والسعي الدؤوب إليها، وتحصيل مقدمة مقدمات المغفرة ودخول الجنة من عمومات المسارعة الواردة في الآية الكريمة .
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بفعل الأمر[وَسَارِعُوا] لتتعلق به مسألتان:
الأولى: المغفرة من الله.
الثانية:الفوز بالجنة.
ولو قالت الآية(سارع) لإنصرف الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو المتبادر، ولم تقل الآية(قل سارعوا) أي الأمر للمسلمين بالمسارعة إلى المغفرة بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما في قوله تعالى في الآية السابقة[قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ]( ).
بل جاءت الآية بخطاب مباشر إلى المسلمين والمسلمات، وفيه شاهد باستدامة إمامة القرآن للمسلمين، وأن إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى لم ولن يغير من ماهية ومراتب الخطاب القرآني في الأوامر والنواهي، ولأن الأمر جاء بالمسارعة إلى المغفرة فان الأمر المباشر للمسلمين والمسلمات من سنخية هذه المسارعة، فما أن يبلغ المسلم أو المسلمة سن التكليف حتى يأتيه الأمر بالمسارعة سريعاً من غير إبطاء أو توان أو تأخير.
ومن إعجاز الآية أن الأمر عام للمسلمين جميعاً مع أن الغاية واحدة وهي المغفرة، وفيه أمارة على إتحاد المسلمين وتشابه سعيهم، وتآزرهم في المسارعة إلى المغفرة، وإقتباس بعضهم من بعض صيغ المسارعة وتوارثهم لها من غير تعارض بين الإقتباس والتوارث في المقام، فيكون على صور:
الأولى: إقتباس الكبير من مثله.
الثانية:أخذ وإقتباس الصغير من الكبير.
الثالثة:تعلم المرأة من الرجل،زوجة أو أختاً نسبية أو بنتاً،أو أختاً في الإيمان، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
الرابعة:تعلم الرجل من المرأة، أماً كانت أو أختاً أو زوجة أو بنتاً.
الخامسة:إقتباس الكبير من الصغير، بلحاظ أن الكبر والصغر في المقام من الأمور النسبية التي تكون على مراتب متفاوتة.
السادسة: وراثة المسارعة إلى المغفرة، وتلقيها تركة من المورت كالأب أو الأم، خصوصاً وأن مغادرة الميت لأهله مناسبة للموعظة، وتذكير بالآخرة، والحاجة إلى السعي إلى الجنة.
وتتجلى صيغة الجمع ولغة العموم بواو الجماعة في[وَسَارِعُوا] وليس من إستثناء متصل أو منفصل في المقام،مما يدل على إنحلال الخطاب في الآية بعدد المسلمين والمسلمات جميعاً وإلى يوم القيامة، وجاء لفظ(المغفرة) بصيغة الفرد لبيان الماهية والجنس وأنها كنز لاينفد، تنهل منه أجيال المسلمين في الدنيا.
وقيدت الآية المغفرة بأنها من الله عز وجل وبصفة الربوبية لبيان أن المغفرة رحمة مزجاة من الله عز وجل، ولإرشاد المسلمين لسبل المغفرة بالإقرار والتسليم بأن المغفرة تأتي لهم بصفة العبودية لله عز وجل، وصدور المغفرة من عند الله شاهد على أنها فضل ونعمة منه تعالى.
لقد جمعت الآية بين المغفرة والجنة في المسارعة إليهما معاً، وفيه وجوه:
الأول:إستقلال كل فرد منهما بمسارعة خاصة،إنما الإتحاد في الماهية وذات المسارعة.
الثاني:إجتماع المغفرة والجنة بفرد واحد من المسارعة، وان تعددت مصاديقه وكيفيته.
الثالث:الترتيب بين المسارعة إلى المغفرة والمسارعة إلى الجنة، بتقديم الأولى.
والصحيح هو الثاني، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط , والتداخل في الغاية، ولأن المغفرة طريق إلى الجنة،وموضوع لدخولها،ترى لماذا قدمت الآية المغفرة، الجواب من وجوه:
الأول:حاجة المسلم والإنسان مطلقاً للمغفرة ومحو الذنوب،فان قلت إذا كان كل إنسان يحتاج المغفرة فلماذا خص الله المسلمين بالذات بالمسارعة إلى المغفرة، والجواب من وجوه:
الأول:الأمر الإلهي بالمسارعة إلى المغفرة رحمة مزجاة فاز بها الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لذا جاءت آية البحث معطوفة على قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] ( ).
الثاني:من خصائص أهل الإيمان المسارعة إلى المغفرة، فجاءت الآية مدداً وعوناً لهم للقيام بوظائهم العبادية.
الثالث:الأمر للمسلمين بالمسارعة إلى المغفرة دعوة للناس جميعاً للإقتداء بهم، وإقتفاء أثرهم.
الرابع:منهج وسيرة المسلمين بالمبادرة إلى المغفرة، وتعاهد سبلها بالإلحاح بالدعاء،والمواظبة على الإستغفار، وإتباع سبل التقوى، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] ( ).
الثاني: ترتب سؤال المغفرة على الذنب وإرتكاب المعصية للفوز بفضل الله في محو الذنوب والمعاصي، وقد يستغفر العبد لذنب مخصوص فيغفره وغيره الله، ويزيده من فضله.
الثالث:تعجيل المغفرة باب لنزول الرحمة من الله، وسبيل للرزق الكريم، ودفع للبرزخ والحاجب عن الفضل الإلهي على العبد، وفي التنزيل [وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا] ( ).
الرابع:المغفرة طريق وشرط لدخول الجنة، فلا يدخلها عبد دون الفوز بالمغفرة من الله عز وجل.
الخامس: الجنة من عالم الآخرة، ويحتاج العبد دخولها حينئذ، أما المغفرة فالحاجة إليها في الدنيا والآخرة.
السادس:نيل مرتبة المغفرة على السكينة والطمأنينة في النفس، وهي مناسبة مستديمة للتدبر في الخلق، وضرورة عبادة الله.
السابع:الفوز بالمغفرة أمن من عذاب البرزخ وأهوال عالم القبر، ومتقدم في زمانه على مواطن الحساب والجزاء في الجنة أو النار.
الثامن:بلوغ مرتبة المغفرة،والفوز بمحو الذنوب شاهد على زيادة الإيمان، وسبب للإجتهاد في طاعة الله.
ولأن أمر المسارعة إلى المغفرة متجدد يطل باشراقته على كل جيل وطبقة من المسلمين، ويدعو الناس جميعاً للإسلام،ولأن عدد أهل الأرض في نماء متصل ويتضاعف في سنوات معدودات ومنه عدد المسلمين فجاء ذكر سعة الجنة وأنها كعرض السموات والأرض لبيان إستيعابها لكل الأجيال من المؤمنين ومن أيام أبينا آدم، وفيه منع لأهل الشك والريب من المغالطة في المقام والإستهزاء، كما لو قالوا بأن الجنة تمتلأ، قال تعالى[إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ]( ).
ليكون من معاني الآية أعلاه الإخبار بأن الجنة تسع المؤمنين الموجود منهم والمعدوم، وأنها من اللامتناهي في سعتها ومساحتها.
ومن إعجاز الآية الرد المتقدم في زمانه وموضوعه للمغالطة وأسباب الريب، لتكون عوناً ومدداً للمسلمين في مواجهة الكفار، ودفع إستخفافهم ومحاولاتهم صد المسلمين عن العبادة وأداء التكاليف، لقد جاءت هذه الآيات بالنهي عن الربا ولزوم الإمتناع عن أكل الأضعاف المضاعفة، وأمرت المسلمين بتقوى الله وطاعته ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإجتناب الموبقات التي تؤدي بالإنسان إلى النار.
وأختتمت آية البحث بالإخبار عن إعداد الجنة للمتقين لتكون معاني التقوى بلحاظ هذه الآيات المعطوف بعضها على بعض، والتي إبتدأت بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا] ( )، على وجوه:
الأول:تعاهد مرتبة الإيمان، وإظهار مصاديقها في ميادين العمل.
الثاني:إجتناب الربا، والتنزه عن المال الحرام وإن كان كثيراً.
الثالث:تقوى الله والخشية منه في السر والعلانية لقوله تعالى في الآية أعلاه[وَاتَّقُوا اللَّهَ].
الرابع:سعي المسلمين لنيل الفلاح، وإدراكهم لحقيقة وهي أن التقوى بلغة وطريق للوصول إلى الجنة، والبقاء الدائم في نعيمها.
الخامس:توقي المسلمين من النار، والخشية من السبل التي تؤدي إليها.
السادس:تفقه المسلمين في المعارف الإلهية بادراك العدل الإلهي بإعداد النار للكفار على نحو التعيين.
السابع:جمعت هذه الآية والآيتان السابقتان بين تقوى الله وإتقاء النار، وإكرام المتقين بإعداد الجنة لهم.
الثامن:طاعة الله عز وجل والإمتثال لأوامره.
التاسع:طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من عند الله، بلحاظ أن هذه الطاعة من رشحات التصديق بنبوته , قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
العاشر: المسارعة إلى المغفرة.
الحادي عشر:إعانة المؤمنين والناس لولوج باب الإستغفار،ومعرفة سبل التوبة والترغيب فيها، وإزالة الموانع التي تحول دون بلوغها.
الثاني عشر:الإقرار بالعالم الآخر ودار الجزاء، والتضاد والتباين فيها بحسب الأعمال في الدنيا.
الثالث عشر:السعي في مسالك التقوى للفوز باللبث الدائم في النعيم.
التفسير الذاتي
قد تقدم في باب إعجاز الآية إنحصار ورود لفظ(سارعوا) في القرآن بهذه الآية الكريمة، لبيان حقيقة وهي أن التوئدة والتأني ليس أمراً محموداً في كل حال، فلا بد من المسارعة إلى المغفرة والإلتجاء إلى الله عز وجل ورحمته، والتمسك بأغصان شجرة المغفرة المتدلية على الأرض والقريبة من كل إنسان .
وفي قوله تعالى(سارعوا) حجة لما فيه من الموعدة والدعوة للمغفرة، فقد يخشى الإنسان سؤال الأعلى منه من رئيس ونحوه ويأخذه الحياء، أو يتجنب الزجر والتوبيخ ولا أقل الإعراض والتجاهل.
وجاءت الآية لترغيب الناس جميعاً بالإستغفار والتأكيد العملي لقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، لما في القرآن من دعوة الناس جميعاً إلى ولوج أبواب المغفرة من غير إبطاء أو توان , وفي الثناء على الذين يبادرون إلى فعل الصالحات مع التسليم برجوعهم إلى الله ورد قوله تعالى[أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ]( ).
وتحتمل النسبة بين الآية أعلاه وآية البحث وجوهاً:
الأول: العموم والخصوص المطلق، وأن المسارعة إلى المغفرة فرد من الخيرات.
الثاني: التساوي والإتحاد في الموضوع، فالمسارعة إلى المغفرة هي ذاتها مسارعة إلى الخيرات.
الثالث: المبادرة إلى فعل الخيرات، والتسابق في الصالحات نوع طريقية ومقدمة للفوز بالمغفرة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق ورشحات الجمع بين الآيتين، وفيه دعوة لبذل الوسع في مرضاة الله، وعدم الإبطاء أو التواني عن أداء الواجبات في أوقاتها.
ولقد حثّ الله المسلمين للمسارعة في الخيرات، ورغبّهم بطلب المغفرة بالذات والمقدمات التي تؤدي إليها، بينما ترى الكفار يسارعون إلى فعل السيئات ويصرون على الباطل والمنكر، قال تعالى[وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ]( ).
ويبين الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث سعة فضل الله عز وجل على المسلمين والناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من وجوه:
الأول: بيان قبح السعي في موارد الكفر، وما يترتب عليه من الإثم.
الثاني: قبح مبادرة الكفار إلى السيئات، وولوجهم أبواب الضلالة من غير ترو أو تدبر، بينما جاءت آية البحث بدعوة المسلمين وبصيغة الأمر إلى الإنابة وسؤال المغفرة من عند الله.
الثالث: المسلمون أسوة للناس في سبل الصلاح، والدعوة إلى التوبة.
الرابع: تأكيد حاجة الناس إلى القرآن، وعمل المسلمين بمضامين آياته، وفيه حجة على الكفار، فوجود أمة مؤمنة تسعى إلى المغفرة حرب على الكفار في مسارعتهم في الضلالة وأسباب الغواية، وبرزخ دون إفتتان الناس بهم.
الخامس: بيان التباين والتضاد في الغايات بين المسلمين والكفار، مع إتحاد سنخية صيغة المسارعة.
السادس: تأكيد ظلم الكفار لأنفسهم بأمور:
الأول: إختيار الكفر والضلالة، قال تعالى[وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
الثاني: المسارعة إلى الكفر.
الثالث: ترك الكفار وظائفهم العبادية وما يمليه العقل عليهم.
الرابع: إعراض الكفار عن التنزيل ومعجزات النبوة.
ومن رحمة الله عز وجل بالناس دلالة آية البحث على جذب الكفار إلى منازل الهداية والإيمان من جهات:
الأولى: الحسن الذاتي للإستغفار، والمبادرة إلى التوبة، وعدم الإبطاء فيها.
الثانية: تعاهد المسلمين للواجبات العبادية، وإقامتهم على فعل الصالحات دعوة متجددة للناس للإقتداء بهم، وترغيب للكفار بالإسلام.
فيتلو المسلمون آيات القرآن ويؤدون مناسكهم فيترتب عليه أثر مبارك وندبة بيضاء في قلوب الناس جميعاً تكون قابلة للإتساع وطرد الكدورة وأسباب العناد عنهم، وهذا الترتب من مصاديق خروج المسلمين للناس في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالثة: إطلاق فتح باب المغفرة، وشموله للناس جميعاً، وعدم إستثناء أحد أو طائفة منه، فهناك ملازمة بين المغفرة والحياة في الدنيا، لا تستلزم من العبد إلا اللجوء إليها باللسان، وقد تأتي المغفرة من عند الله إبتداء بالتجاوز عن السيئات والإمهال، والإتيان بالآيات التي تقرب العبد إلى الطاعة وتصرفه عن المعصية، قال تعالى[وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ]( ).
لقد ورد لفظ(أعدّت) أربع مرات في القرآن، إثنتين في إعداد النار للكافرين( )، وإثنتين في إعداد الجنة للمؤمنين، إحداهما آية البحث والأخرى في سورة الحديد.
ليكون في الجمع بين هذه الآيات أمور:
الأول: التساوي في عدد الآيات التي تخبر عن إعداد الجنة، وإعداد النار، وسبق وجودهما لعالم الدنيا، وعمارة الإنسان للأرض ليكون من خصائص خلافة الإنسان بقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، أمور:
الأول: إعداد الثواب على العمل الصالح قبل خلق الإنسان.
الثاني: تهيئة العقاب على المعصية.
الثالث: صبغة الخلود والدوام لفردي الجزاء من الثواب والعقاب.
الرابع: إخبار الإنسان مطلقاً براً وفاجراً بأن كلاً من دار الثواب والعقاب مخلوقة ومهيأة قبل خلقه.
الخامس: إن الله عز وجل هو الذي أعدّ الجنة والنار وتعاهد ويتعاهد بقائهما, ولا يستطيع غيره إعداد جزء يسير منهما.
السادس: دعوة الناس للإيمان، وحثهم على المسارعة إلى المغفرة لأنها طريق إلى الجنة وسبيل للوقاية من النار.
السابع: الملازمة بين الإيمان، والثواب، والملازمة بين الكفر والعذاب، (عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ كُنْتُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَكْذِيبًا بِالشَّفَاعَةِ حَتَّى لَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ كُلَّ آيَةٍ ذَكَرَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا خُلُودُ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ يَا طَلْقُ أَتُرَاكَ أَقْرَأَ لِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي وَأَعْلَمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتُّضِعْتُ لَهُ.
فَقُلْتُ لَا وَاللَّهِ بَلْ أَنْتَ أَقْرَأُ لِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي وَأَعْلَمُ بِسُنَّتِهِ مِنِّي قَالَ فَإِنَّ الَّذِي قَرَأْتَ أَهْلُهَا هُمْ الْمُشْرِكُونَ وَلَكِنْ قَوْمٌ أَصَابُوا ذُنُوبًا فَعُذِّبُوا بِهَا ثُمَّ أُخْرِجُوا صُمَّتَا وَأَهْوَى بِيَدَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَنَحْنُ نَقْرَأُ مَا تَقْرَأُ)( ).
الثاني: منع الجهالة والغرر عن الناس بتفضل الله بذكر الذين أعدّ الله لهم الجنة، والذين أعدّ الله لهم النار والتباين بينهما بلغة البيان لتكون كل آية فيها مدداً وعوناً للناس جميعاً، سواء في صيغتها أو موضوعها أو حكمها.
الثالث: الإتحاد اللفظي والموضوعي بخصوص الذين أعدّ لهم الله النار وهم(الكافرون) بينما جاء ذكر الذين أعدّ الله لهم الجنة بالتعدد اللفظي والإتحاد الموضوعي ففي حين نعتتهم آية البحث بالتقوى بقوله تعالى(أعدت للمتقين) ورد في سورة الحديد قوله تعالى[أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ]( ).
أي أن الذين آمنوا بالله ورسله هم المتقون، وفيه دلالة على أن الخطاب في آيات البحث[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]( )، المراد منه الخطاب للمتقين، وأن البشارة للمتقين بأن الجنة أعدت لهم إخبار بأنها أعدت للذين آمنوا بالله ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، التي تتصف بوجوب التصديق بالرسالات السماوية على نحو العموم المجموعي والإستغراقي.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى: تأديب المسلمين للإمتثال للأوامر الإلهية.
الثانية: مجيء الأوامر التوكيدية لإتيان الفرائض، فتارة تأتي الأوامر بأدائها مباشرة بصيغة النص كما في قوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، وتلك آية في مصاديق وأفراد اللطف الإلهي بالمسلمين بتقريبهم إلى منازل الطاعة والإمتثال بتعدد الأوامر الإلهية في ذات الماهية من الواجبات.
الثالثة: بعث المسلمين والمسلمات إلى سبل المغفرة من غير إبطاء أو تأخير وإنطباق المسارعة على مصاديق الواجبات والمستحبات، سواء الأفراد الإرتباطية منها أو غير الإرتباطية.
الرابعة: إنتفاء الإستثناء في أمر المسارعة لتكون واجباً مطلقاً غير مقيد أو مشروط فالمسارعة إلى المغفرة مطلوبة بذاتها، ومن كل مسلم ومسلمة.
الخامسة: إقامة الحجة على الناس في لزوم الإسراع إلى المغفرة، فإذا كان المسلمون مع إيمانهم بالله ورسوله مأمورين بالإستغفار والمسارعة إليه وإتيان الأعمال الصالحة التي تؤدي إلى المغفرة، وتكون نوع طريقية إلى الفوز بمرضاة الله، فمن باب الأولوية القطعية وجوب مسارعة غيرهم من الناس إلى المغفرة.
السادسة: إمتلاء نفس المسلم والمسلمة بالعز والفخر لأن الله عز وجل يتوجه لهما بالخطاب التشريفي الذي يتضمن إرادة قربهما من رحمته، والنهل من ينابيع العفو الإلهي، قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( )، بتقريب أن دخول الإسلام والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إحسان محض.
السابعة: بيان الفضل الإلهي في تعدد الغايات الحميدة للفعل العبادي الواحد , فيقوم المسلم بالأعمال الصالحة ليفوز بالمغفرة وتكتب له الجنة فآية البحث من شواهد على فتح أبواب الفضل الإلهي على المسلمين.
الثامنة: بيان سعة رحمة الله، وإقترانها بالإخبار عن عظيم قدرته وسلطانه بالترغيب بالجنة , والإخبار عن سعتها وإستيعابها للسماوات والأرض.
التاسعة: بعث اليأس والقنوط في نفوس الكفار وزجرهم عن إيذاء المؤمنين، ودعوتهم لدخول الإسلام بإختتام الآية بإختصاص المتقين بالجنة الواسعة.
العاشرة: ترغيب المسلمين بالصبر في جنب الله والجهاد في سبيله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حباً له تعالى، وسبباً إلى اللبث الدائم في النعيم.
بحث أصولي
إختلف الأصوليون في صيغة الأمر، وهل تدل على المرة أو التكرار سواء فسرت بالفرد والأفراد، أو الدفعة والدفعات، التي تأتي على نحو متكرر على أقوال ثلاثة:
الأول: كفاية الإمتثال للأمر مرة واحدة.
الثاني: لابد من التكرار.
الثالث: التوقف في وضع الأمر للمرة أو التكرار، وعليه جماعة من الأصوليين لإنعدام الدلالة اللفظية على أحدهما.
وقيل: البحث عن المرة والتكرار مما لا طائل تحته كالبحث عن الفور والتراخي، فإن الأمر يصلح لكل منهما، ومن دون أن يكون له دلالة عظيمة على أحدهما)( ).
والتعليل أعلاه غير تام، وليس علة كاملة للقول بأن البحث فيه أمر زائد، وتتجلى موضوعيته في الأوامر القرآنية، إذ أن الأمر الواحد منها متجدد سواء كان الواجب مؤقتاً مرهوناً بزمان مخصوص أو مطلقاً لا موضوعية للزمان أو المكان في حصول المصلحة منه.
وإستدل القائل بكفاية المرة الواحدة بالإجزاء بفرد من الطبيعة المأمور بها، وأن الأمر الواحد لا يقتضي إلا إمتثالاً واحداً كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسارعة إلى المغفرة كما في آية البحث.
وسبب هذا التوقف عند بعضهم هو النظر للأمر بذاته مجرداً، وعدم الرجوع إلى القرآن وماهية الأوامر فيه، وكيف أن الواحد منها أمر متجدد في كل آن وزمان بحث يكون بحث المرة والتكرار متخلفاً عن الأوامر القرآنية فقوله تعالى(سارعوا) أمر إنحلالي متكثر من وجوه:
الأول: هذا الأمر بعدد المسلمين والمسلمات، فكل مسلم ومسلمة يتوجه لهما الأمر الإلهي(سارعوا).
الثاني: توجه المتعدد من الأوامر (سارعوا) إلى كل مسلم في آنات الزمان في الليل والنهار.
الثالث: تعدد وكثرة المواضيع وأفراد البلغة التي تؤدي إلى المغفرة.
الرابع: كثرة مصاديق المغفرة، وهي على وجوه منها:
الأول: ما يكون باللسان كالإستغفار.
الثاني: الذي يتجلى بالفعل وعمل الجوارح، ومن إتيان الفرائض.
الثالث: الواجب العيني الذي يتوجه الخطاب فيه لكل مسلم ومسلمة كالصلاة اليومية.
الرابع: الواجب الكفائي كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإشاعة الإحسان.
الخامس: بذل المال والإنفاق في سبيل الله، لذا جاء في الآية التالية في بيان صفة المتقين الذين أعدّ الله لهم الجنة قوله تعالى[الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( ).
نعم قد يستقرأ التعدد والتكرار من آيات القرآن الأخرى والسنة النبوية، كما في قوله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ]( )، ومجيء البيان والتفصيل في قوله تعالى[أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( )، ثم جاءت السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية للبيان والتأكيد , وإقترن بها التكرار اليومي المتجدد للصلاة، وهو لا يدل على إفادة التكرار من القرينة بل هو من أصل الأمر والصيغة لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً، ولأن السنة بيان للقرآن، وهي المصدر الثاني للتشريع.
فقوله تعالى(سارعوا) يفيد إرادة التكرار منه خصوصاً وأن إعتبار الجماعة في موضوع المسارعة يفيد التسابق بين المسلمين في سبل المغفرة، ويتجلى هذا المعنى بقوله تعالى[سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، ليفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث.
ليكون معنى المسارعة في الآية على وجهين:
الأول: المسارعة الشخصية المجردة من التنافس في ذات موضوع المسارعة.
الثاني: المسارعة ضمن التسابق والتنافس , وسعي المؤمن ضمن الجماعة لفعل الخيرات، ورجاء الفوز بالمغفرة من عند الله، وهو من أسرار مجيء الآية بصيغة الجمع(وسارعوا) للتعدد في ذات المسارعة من وجوه:
الأول: مسارعة الفرد.
الثاني: مسارعة الجماعة.
الثالث: حث الفرد الجماعةَ للمسارعة إلى المغفرة.
الرابع: أمر الجماعة للفرد الواحد منها للسعي الحثيث إلى المغفرة.
الخامس: المسارعة بمعنى الدفعات المتعاقبة في سبل المغفرة.
وهل يشترط قصد القربة إلى الله في المسارعة إلى المغفرة.
الجواب نعم، وهذا الشرط فرد يتقوم به سؤال العفو والغفران , وهو جزء منها يتجلى بالقصد إلى المغفرة من وجوه:
الأول: إدراك المسلمين بأن المغفرة حاجة شخصية لكل واحد منهم، وحاجة لهم كأمة في الدنيا والآخرة، فهذا الإدراك والتسليم بالفقر والفاقة إلى العفو من الله سبيل للنجاة.
وجاء رجــل إلى ســـفيان بن عيينة(فقــال له: روي عــن النـبي صــلى الله عليه و آله أنه قال: إن العــبد إذا أذنب ذنبا، ثم علــم أن الله عز وجل يطلع عليه، غفر له. فقال ابن عيينة هذا كتاب الله عز و جل قال الله تعالى(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ« فإذا كان الظن هو المردي كان ضده هو المنجي)( ).
بحث عرفاني
تتجــلى عن الأمر الإلهي(سارعوا إلى مغفرة) رشحات أخلاقية وآداب في الصــلاح والتقوى تنفع المسلمين في أمور دينه ودنياه، لقد أراد الله عز وجل للناس حسن العشرة والتراحم فيما بينهم، فجاء الأمر بالمسارعة إلى المغفرة لأمور:
الأول: كف الفرد والجماعة أيديهم عن الناس وإنشغالهم بالإستغفار، وهو الأمر الذي يبدو واضحاً بعدم إجتماع الضدين فمن يسعى إلى الإستغفار ويسلك سبله يتجنب ضده وما فيه تراكم أوزار الذنوب.
الثاني: مد يد العون والمساعدة للآخرين رجاء المغفرة والعفو من الله عز وجل إذ أن المغفرة تطلب بالذات وقول(إستغفر الله) بالعبادة والتقرب إلى الله، وتطلب بنشر معاني الرحمة والرأفة، ومصاديق الأخوة بين الناس بما فيه تثبيت مفاهيم الإيمان في الأرض، قال تعالى[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
الثالث: تأكيد حقيقة وهي أن الناس على سفر، وأن الدنيا دار متاع، فكما تتسارع بهم الأيام والليالي إلى دار القرار، فيجب أن يسارعوا بالتقوى وإعداد الزاد والمتاع ليوم الحساب، قال تعالى[خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
الرابع: مصاحبة الخشوع للمسلم في حياته الدنيا، للملازمة بينه وبين السعي في سبل المغفرة.
لقد جاء قوله تعالى(وسارعوا إلى مغفرة) لإرتقاء المسلمين في سبل المعرفة بتلاوة هذه الآية، وإدراك وجوب الإستغفار، والإحتراز من فعل السيئات، وليتحرر المسلم من رق الشهوات، والشرور الجسمانية، والكدورات الظلمانية التي يتركها إرتكاب السيئة.
ولا يعلم أحد من الخلائق المنافع العظيمة لهذه الآية وتلاوتها ومضامينها , وما تؤدي إليه من التخلي عن الرذائل، والتحلي بالفضائل إلا الله , وفيها دعوة للإستعداد للإستغفار وتهيئة مقدماته والإكثار من ذكر الله عز وجل.
التفسير
قوله تعالى[وَسَارِعُوا]
إبتدأت الآية الكريمة بحرف العطف(الواو) للدلالة على إتصالها بالآية أو الآيات السابقة موضوعاً , من غير أن يتزاحم أو يتعارض هذا الإتصال بإستقلال الآية في الموضوع والحكم، وهو من أسرار تقسيم القرآن إلى آيات وسور، فكل آية علم قائم بذاته، ويتداخل مع ما في الآيات الأخرى من العلوم والإفاضات سواء آيات ذات السورة أم آيات السور الأخرى، ويدل إبتداء الآية بالعطف على الآيات السابقة على أمور:
الأول: إرادة المسلمين والمسلمات في الخطاب الوارد في الآية، والذي يتضمن وجوب المسارعة إلى المغفرة.
الثاني: هذه الآية والآيتان السابقتان متصلات ومعطوفات على قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]( ).
الثالث: تعقب الأمر للنهي في آيات القرآن مع البيان والوضوح، ليكون الفصل بينهما , وتقسيم القرآن إلى آيات من مصاديق هذا البيان
الرابع: تأكيد تعدد التكاليف والوظائف العبادية التي يجب أن يقوم بها المسلمون، فمع مجيء الآية السابقة بالأمر بطاعة الله ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءت هذه الآية بإضافة أمر وهو المسارعة إلى المغفرة، وتحتمل هذه المسارعة وجوهاً:
الأول: كفاية الإمتثال مرة واحدة.
الثاني: تجدد الإمتثال في كل حين.
الثالث: المسارعة لحين نيل المغفرة والفوز بها.
والصحيح هو الثاني فكما يتكرر الأمر في أداء الصلاة اليومية على نحو متعدد خمس مرات، وصيام شهر رمضان ثلاثين يوماً في السنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوه يتكرر الأمر بالمسارعة إلى المغفرة مع الفارق بينهما إذ تؤدى الصلاة في أوقات مخصوصة من اليوم والليلة ويجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند طرو أسبابهما , وإنعدام الموانع كالضرر على النفس والعرض والمال.
أما المسارعة إلى المغفرة فهي واجب مطلق غير مقيد بزمان أو فعل مخصوص، ومع أن الفعل العبادي إستغفار عملي وسعي لبلوغ مراتب الإقامة في الجنة، فقد يأتي الأمر بالإستغفار مقروناً به كما في أداء مناسك الحج إذ إقترن الأمر الإلهي بالإستغفار بأدائها، قال تعالى[ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ]( ).
وفي الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث شاهد على إرادة الإستغفار في كل الأحوال ولزوم الإتيان به مستقلاً ومنضماً إلى الواجب والمندوب من الأفعال إلى جانب الحاجة إليه عند فعل السيئة وإرتكاب المعصية , كما سيأتي بعد آيتين في وصف المتقين الذي أعدّ الله لهم الجنة الواسعة بقوله تعالى[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ]( ).
لبيــان ضــرورة اللـــجوء إلى المسكنة والخشوع في حضرة الربوبية , والإستجارة بالإستغفار، وتقديــم ذكــر الله عز وجل، وبيان حقيقة وهي تعلق الإستغفار من الذنوب بذكر الله وسؤال رضوانه.
لقد تضمنت الآية السابقة الأمر بطاعة الله والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رجاء نزول رحمة الله عز وجل بالمسلمين، ثم أعقبتها هذه الآية بلزوم المسارعة إلى المغفرة، وفي تعدد الأوامر المتوجه للمسلمين شاهد على حسن سمتهم وأنهم(خير أمة).
ففي تلقي المسلمين المتعدد والمتعاقب من الأوامر أمور:
الأول: إكرام المسلمين ، والثناء عليهم.
الثاني: بيان المائز الذي يتصف به المسلمون بتلقي الأوامر الإلهية بالقبول والإمتثال.
الثالث: تعاهد المسلمين للأوامر والنواهي الإلهية المتعددة التي جاءت في القرآن، ومع أن آيات القرآن معدودة وهي ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية فإن الأوامر الإلهية التي تتضمنها الآيات والواردة في السنة النبوية أكثر من أن تحصى خصوصاً مع لحاظ الأوامر التي تأتي بصيغة الجملة الخبرية، كما في قوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
الرابع: يقترن بالأوامر الإلهية التحذير والنهي عن تركها , والإعراض عنها، قال تعالى[فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ]( ).
الخامس: لقد ورد الذم من الله عز وجل لإبليس لإمتناعه عن الإستجابة الفعلية لأمر الله بالسجود لآدم عليه السلام , قال تعالى[قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ]( ).
(وقد يشكل عليه بان نواميس السماء لها خصوصية تختلف عن نواميس وأحكام الأرض، ولكن حقيقة الأمر متحدة لحجية ظواهر الألفاظ، ولأن الآيات نزلت مبينة، وجاءت لإفهام بني آدم والمسلمين ولإعتبارها أصلاً لإشتقاق القواعد الكلية لعلم الكلام والأصول وغيرهما)( ).
لقد تجلت شدة الطلب وعدم جواز الترك بقوله تعالى(وسارعوا إلى مغفرة) من جهات:
الأولى: الحث على المبادرة وعدم التواني أو الإبطاء , والمستقرأة من لفظ(سارعوا).
الثانية: صيغة الجمع في أمر المسارعة وإرادة المسلمين على نحو العموم الإستغراقي.
الثالثة: من رحمة الله عدم إدراك العبد لبلوغ الغاية ، وهي المغفرة، فهي ليست غاية مكانية أو مقرونة بزمان مخصوص، لذا يجب عليه أن يجتهد لمرضاة الله والإلحاح بسؤال العفو والمغفرة , لأن الإلحاح من مصاديق المسارعة الواردة في الآية الكريمة.
وذكرت الآية المغفرة بصيغة الإطلاق مع تقييدها بأنها من عند الله عز وجل وفيه آية في التوحيد، ومنع الغلو من الدبيب إلى المسلمين، إذ تخبر الآية عن إنحصار المغفرة بالله عز وجل، فهو الذي يمنحها ويرزقها , ويتفضل بها على المسلمين والناس ، وفيه وجوه:
الأول: عدم تحقيق المغفرة للمسلمين إلا بمسارعتهم إليها.
الثاني: قد تأتي المغفرة بفضل من الله , وإن لم يسارع لها المسلمون, ولكن المسارعة إليها تجعلها قريبة منهم.
الثالث: التفصيل فتارة تأتي المغفرة فضلاً من الله، وأخرى لابد من الإستغفار وسعي المسلمين بثبات إلى المغفرة، وترشد الآية المسلمين إلى كنز المغفرة والعفو عند الله.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، فإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فالأمر بالمسارعة لا يعني عدم مجيء المغفرة فضلاً من الله، وعقب إتيان المسلم فعلاً عبادياً.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين إستحضار يوم القيامة في واقعهم اليومي، بالبشارة بالجنة، وبالإنذار والتخويف العام للناس جميعاً كما في قوله تعالى[وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ]( ).
فمع أن الآية أعلاه تتعلق بالمعاملات والبيع والشراء فإنها تذكير بالآخرة وبيان للصلة والتداخل بين النشأتين , وفيها تأكيد للحاجة إلى الإستغفار ورجاء للعفو والمغفرة من الله عز وجل.
وجاء أول آية البحث تذكيراً بآخرها، وكذا العكس أي أن آخرها تذكير وبعث للعمل بمضمون أولها، وهو من إعجاز القرآن وأسرار آياته، وهما – أي أول وآخر الآية – مجتمعين ومتفرقين موعظة وسبيل هدى ورشاد للمسلمين، قال تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
جاءت آية البحث بلغة الخطاب الشامل للمسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي من حين نزولها وإلى يوم القيامة، وهذا الإستيعاب المطلق لأفراد الزمان الطولية في الحياة الدنيا أمارة على سلامة القرآن من التحريف والنقص والتغيير، من وجوه:
الأول: بعث المسلمين على الإسراع إلى المغفرة مما يدل على أنها كنز وخير محض يستلزم السعي السريع إليه.
الثاني: إرادة عدم التواني أو الإبطاء لنيل المغفرة، والسعي إليها.
الثالث: يدل الأمر بالإسراع إلى المغفرة بالدلالة الإلتزامية على الوعد الكريم بفوز أي مسلم يسعى إليها بنيلها والتوفيق إلى منازل العفو والمغفرة من عند الله.
الرابع: تفقه المسلمين في الدين من جهات:
الأولى: تلقي الخطاب القرآني بالقبول والتصديق.
الثانية: إمتثال المسلمين للأمر الإلهي بالسعي الحثيث للمغفرة والعفو من عند الله تعالى , وهو من عمومات قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، لما في هذا السعي من دعوة للناس جميعاً للإقتداء بالمسلمين والتسليم بالحاجة العامة والشخصية للمغفرة والعفو من الله .
فمن إعجاز آية البحث مجيؤها بصيغة العموم الشاملة للمسلمين والمسلمات جميعاً العالِم منهم وغير العالم.
فإذا كان كل مسلم ومسلمة يحتاجان المغفرة والعفو من الله فمن باب الأولوية القطعية إحتياج غيرهم لها، وهذه المغفرة تتقوم موضوعاً وحكماً بدخول الإسلام، وإخلاص النية وقصد القربة، قال تعالى[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
الثالثة: إصلاح المسلمين لمراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن الأمر في المقام أمور:
الأول: حث المسلمين بعضهم بعضاً للمسارعة إلى المغفرة من الله، وإدراك أنها من خصائص الربوبية المطلقة.
الثاني: مؤازرة المسلمين للمسلم في سعيه إلى المغفرة.
الثالث: دعوة المسلمين الناس لطلب العفو والمغفرة من الله، وبيان السبل التي توصل إلى المغفرة وفق الكتاب والسنة.
الرابع: تآزر المسلمين في النهي عن الإصرار على الذنب، والإبتعاد عن سنن المغفرة لذا جاء بعد آيتين الثناء على المسلمين ومبادرتهم إلى الإستغفار بقوله تعالى[وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
الثالثة: تعاهد المسلمين لآيات القرآن، وقيامهم بوظيفة توارثها رسماً ونصاً وتلاوة وتأويلاً.
الرابعة: تلاوة المسلمين لآيات وسور القرآن في الصلاة اليومية مدرسة في حفظ وسلامة القرآن من التحريف، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
فقد أمر الله عز وجل المسلمين والمسلمات بتلاوة القرآن في الصلاة على نحو الوجوب العيني لتكون هذه التلاوة حفظاً لآيات القرآن من الضياع، وبرزخاً دون نسيانها وما يترشح عنه من طرو التحريف والتبديل.
فمن بديع صنع الله في حفظ القرآن أنه لم ينحصر بتدوين المصاحف وكتابة وإستنساخ المسلمين لها، أو حصر التلاوة بفريق من العلماء وعند الحاجة لها، بل جعل الله تلاوة القرآن واجباً عينياً يومياً على كل مسلم ومسلمة بلغا سن التكليف ليكون مناسبة متجددة لتفقه المسلمين في الدين، وثباتهم مع تقادم وتعاقب الأجيال في منزلة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن الآيات التي يتلوها المسلمون في الصلاة آية البحث , وما فيها من الأمر بالمبادرة إلى المغفرة من الله، الذي يدل في مفهومه على التنجيز وليس التعليق، وهو المستقرأ من قوله تعالى(وسارعوا) والذي يفيد الفورية في السعي إلى المغفرة، وطلبها من الله عز وجل وتجدد أفراد تلك المسارعة.
وقد يرجئ العبد الإستغفار والتوبة لظنه بطول بقائه في الحياة الدنيا، وركوناً منه إلى صحته وشبابه، أو إنشغالاً بأمور الدنيا ومباهجها، أو خشية تعقب التوبة بالعودة إلى مستنقع المعصية والرذيلة، فجاءت الآية لطفاً بالمسلمين بأمرهم بالمسارعة فوراً ومن دون إبطاء إلى مقامات التوبة والإنابة , وإنذاراً مركباً للكفار , إذ أنها تتضمن في مفهومها الإخبار عن إحتمال زيارة الموت للمسلم في أي لحظة من حياته.
ومن الآيات أن الشواهد على هذا القانون ظاهرة وجلية لكل إنسان إذ يفاجئ بموت قريب أو صديق بأتم الصحة وفي سن الشباب، ويقول: قبل قليل كنت معه، وغيره يقول الآن إتصل بي وسألني حاجة كذا , وهكذا ليكون قولهم هذا تجديداً للعبرة والموعظة، وتذكيراً بلزوم المسارعة إلى المغفرة وبياناً للمفاجئة بحضور ملك الموت من غير إستئذان أو إمهال في مغادرة العبد الدنيا , بأمر الله , قال تعالى[حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ]( ).
وتجلى هذا المعنى بصورة أشد وأكثر وأبلغ بموت الفجأة وحوادث المركبات السريعة في هذا الزمان , إلى جانب نقل وسائل الإعلام لأخبار الزلال والكوارث والحوادث، فتكون درساً بليغاً للناس.
وفي الصحيح عن الإمام محمد الباقر قال: إذا ظهر الربا من بعدي ظهر موت الفجأة، وإذا طففت المكاييل أخذهم الله بالسنين والنقص، و إذا منعوا الزكاة منعت الأرض بركاتها من الزرع والثمار والمعادن كلها، وإذا جاروا في الحكم تعاونوا على الإثم والعدوان، وإذا نقضوا العهد سلط الله عليهم شرارهم، ثم يدعو خيارهم فلا يستجاب لهم)( ).
وتتضمن الآية الحث على التدبر في الموت وعالم ما بعده، ولزوم إدراك حقيقة وهي الحاجة إلى الإستغفار والمسارعة إليه وهو من عمومات قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
وجاءت الآية بأطراف في موضوع المغفرة وهي:
الأول: لجوء المسلمين والمسلمات إلى المغفرة.
الثاني: كيفية الفزع إلى المسارعة للإستغفار وإصلاح الذات للمغفرة.
الثالث: غاية المسارعة وهي المغفرة من الله عز وجل.
وفي الآية مسألتان:
الأولى: إنعدام البرزخ بين المسلم والمغفرة، فالواسطة هي المسارعة وهي فعل إختياري من قبل المسلم، فإذا بادر المسلم إلى المغفرة فلا يجد حاجزاً دونها.
الثانية: إنتفاء الشرط والقيد بخصوص المسارعة للتوبة , فهي لا تستلزم من المسلم مقدمات ولا تكون المسارعة معلقة على أمور لابد من تحصيلها.
فإن قلت إنه من الشواهد على إكرام الله سبحانه للمسلمين فلماذا خصهم بنعمة المغفرة , والله عز وجل هو الواسع الكريم, وفي التنزيل[رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا]( ).
والجواب إن الطريق إلى المغفرة سالكة لكل الناس، ليس بينهم وبينها حاجب , ولكنها تتقوم بالإسلام، ودخوله أسمى معاني المسارعة لما فيه من الإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية , قال تعالى[قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ]( ).
ليبدأوا عند دخولهم الإسلام رحلة المسارعة إلى المغفرة بالسياحة في عالم الفرائض والعبادات، وإستحضار سعة الجنة وتعدد مصاديق النعيم في الآخرة.
وهل المسارعة إلى المغفرة نوع طريقية لها، أم أن ذات المسارعة نوع طاعة مستقلة قائمة بذاتها، الجواب لا تعارض بين الأمرين لأن هذه المسارعة الحميدة في النشأتين , وعند أهل السماء والأرض عمل جاء تعيينه والأمر به من عند الله عز وجل .
وهو شاهد على إتصاف المسلمين برسم العبودية، وسيماء الخضوع لله، وإعتبارهم الخروج عنه أمر قبيح وإدراكهم لإستحقاق العقاب عليه، فليس من واسطة وبرزخ بين نيل الثواب ونزول العقاب.
فأما إلى الجنة وإما إلى النار، وإذ ظهرت في علم الأصول مسألة الأخبار الظنية، والخلاف في حجية خبر الواحد، وقطعية الروايات من عدمها، واللجوء إلى القواعد الأصولية، فإن القرآن قطعي الصدور والدلالة لأن آيات وأحكام القرآن باقية إلى يوم القيامة , وتتصف في كل الأزمنة بخلوها من الترديد , وفيها طرد للوهم والشك .
فقوله تعالى(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) يتضمن البيان والوضوح والنص الخالي من الإجمال من وجوه:
الأول: الملازمة بين الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين تلقي الأمر بالمسارعة إلى المغفرة.
الثاني: بعث المسلمين للتعاون والتعاضد في المسارعة إلى المغفرة، وإعتبارها في صلاتهم وعند إجتماعهم في المساجد وفي الأسواق وغيرها، يكون مناسبة لتجديد الإمتثال لأوامر الله ونواهيه.
ومن مصاديق [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ] وصيغة الجمع فيها، إستغفار المسلم لأخيه في الشهادتين بحضوره وفي غيبته، وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا تلاقيتم فتلاقوا بالتسليم و التصافح، و إذا تفرقتم فتفرقوا بالاستغفار( ).
أي أن أحدهم يستغفر للآخر، لتأكيد موضوعية الإستغفار والتذكير به، ويحث المسلمون بعضهم بعضاَ على المبادرة إليه، ويكون أمراً متعارفاً حاضراً بينهم , وفيه آية بأن تأتي فيوضات العفو والمغفرة للمسلم بسؤال غيره، ومن يقوم بالإستغفار لغيره يفوز بأمور:
الأول:قيامه بالإستغفار لنفسه.
الثاني:إنتفاعه من إستغفار غيره له.
الثالث:الإمتثال لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجعل الإستغفار موضوع الإفتراق وهو من مصاديق قوله تعالى[خِتَامُهُ مِسْكٌ]( )، فخير المجالس واللقاء ماكانت خاتمته الإستغفار.
الرابع:ترشح أسباب المغفرة على المسلم لقيامه بالإستغفار لأخيه، أو للجماعة التي يفارقها.
وعلى فرض أن المسلم ليس عنده ذنب ومعصية، أو أنه إطمأن للإستغفار لما بدر منه من الذنب، وبدأ صفحة جديدة في حياته تتصف بالتقوى والعصمة من الذنوب فهل تجب عليه المسارعة إلى المغفرة أم أن الآية وردت لخصوص الذين يسألون العفو عما إقترفوه من المعاصي.
الجواب هو الأول، لأن الخطاب في الآية شامل للمسلمين والمسلمات جميعاً، بالإضافة إلى أن منافع الإستغفار أعم من أن تنحصر بصاحبه والذي يلجأ إليه، فمن يستغفر الله ينتفع من إستغفاره والداه وأخوانه( )، والمسلمون .
وعن الإصبغ بن نباتة قال : كنت مع علي بن أبي طالب عليه السّلام فمر بالمقابر: السلام على أهل لا إله إلاّ الله من أهل لا إله إلاّ الله، يا أهل لا إله إلاّ الله كيف وجدتم كلمة لا إله إلاّ الله ؟ يا لا إله إلاّ الله بحق لا إله إلاّ الله اغفرلمن قال : لا إله إلاّ الله ، واحشرنا في زمرة من قال : لا إله إلاّ الله.
وفي كلمة التوحيد أعلاه قال علي عليه السلام: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: من قالها إذا مر بالمقابر غفر له ذنوبه خمسين سنة، فقالوا : يا رسول الله من لم يكن له ذنوب خمسين سنة ؟ قال : لوالديه واخوانه ولعامة المسلمين( ).
ليكون قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] رحمة من عند الله بالمسلمين الموجود والمعدوم، ومن يمتثل لأمر الله عز وجل في الآية أعلاه في حياته يترك مسارعته إلى المغفرة تركة لأبنائه وذريته ليأتيه الثواب من إنتهاجهم سنة الإستغفار، ومبادرتهم إلى سؤال العفو.
وجاءت الآية بسؤال المغفرة من الله بقوله تعالى[مِنْ رَبِّكُمْ] والرب هو المالك،وهو السيد المطاع، والرب المدبر، قال لَبيد بن رَبيعة:
وأهْلَكْنَ يَوْماً رَبَّ كِنْدةَ وابْنَهُ … ورَبَّ مَعَدٍّ بينَ خَبْتٍ وعَرْعَرٍ( ).
أي سيد كندة، ويقال برب الدار، أي مالكها، وإذا ورد لفظ(الرب) مطلقاً فالمراد الله عز وجل وهو رب العالمين.
ومن الآيات أن لفظ الرب بالتخصيص وبالإضافة وإرادة الملكية للعين إختص في لغة الخطاب بين الناس، ولم يبق إلا إرادة عنوان الإلوهية في معنى وإصطلاح الربوبية، وجاءت الآيات بالعموم والإطلاق في ربوبية الله للخلائق بقوله كما في قوله تعالى[يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
وجاء قوله تعالى[رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ]( )، [رَبُّ الْعَرْشِ]( )، لتأكيد الربوبية المطلقة والقدرة التدبيرية لعالم التكوين لله عز وجل وبيان إختصاصه وحده بالعفو والمغفرة فلا تستطيع الخلائق وإن إجتمعت غفران ذنب واحد، فان قلت جاءت النصوص الصحيحة بالشفاعة.
بالإسناد عن جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فضلت على من كان قبلي بخمس خصال : أرسلت إلى الناس كافة الأحمر والأسود ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، ونصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي ، وقيل لي : سل تعطه ، فأخرت شفاعتي لأمتي يوم القيامة( ).
والجواب الشفاعة طريق مبارك لبلوغ المغفرة، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )، بأن يتولى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإستغفار والشفاعة للمذنبين من المسلمين وهو من مصاديق قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ].
فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسارع للمغفرة لأمته , والأمة ترجو شفاعته والمغفرة بواسطته، وتتعاهد الوظائف العبادية التي جاء بها ويرجى بعضهم الشفاعة لبعض.
فإذا قيل إنما الشفاعة مخصوصة للمسلمين بينما جاءت الآية أعلاه بالإخبار بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، والجواب من وجوه:
الأول: الرحمة الإلهية في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعم من موضوع المغفرة، فقد جاء للناس بالشريعة السمحاء وأسباب دوام الحياة على الأرض ونشر مفاهيم الصلاح، قال تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
الثاني: من فلسفة الإخبار عن شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ترغيب الناس بها والطمع بالفوز بها، وهو أمر لا يدرك إلا بدخول الإسلام لقوله تعالى[وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى]( )، وجاءت السنة ببيان وتفسير الآية أعلاه.
الثالث: كل مسلم داعية إلى الله بإتباعه نهج وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويتولى تذكير الناس بحاجتهم في النشأتين إلى مغفرة الله رب العالمين لذنوبهم , ويتجلى هذا التذكير بحسن سمت المسلم وإظهاره طاعة الله وأدائه الواجبات، وقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكثرة أتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الداعين إلى الله دليل على أنه رحمة للعالمين، وشاهد على تفضيله على الأنبياء السابقين، وعدد أتباعه صلى الله عليه وآله وسلم من اللامتناهي لأن الإسلام هو الديانة الباقية إلى يوم القيامة.
وهل من مصاديق الرحمة في الآية أعلاه تكاثر ومضاعفة أعداد المسلمين بسرعة بالمقارنة مع غيرهم من الأمم , وهل هذه السرعة من عمومات قوله تعالى(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) .
الجواب نعم فإن كثرة المسلمين مناسبة لعمارة الأرض بذكر الله، وتعاهد الفرائض والعبادات وحفظ القرآن من التحريف والتغيير، وإستدامة التعاون بين المسلمين، وقال النبي صلى الله عليه وآله: تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم)( )( ).
إن قوله تعالى(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) بالإضافة وتأكيد أن الله عز وجل هو رب المسلمين والمسلمات لا يعني الحصر بل هو تعالى(رب العالمين) وجاء هذا التخصيص والإضافة لوجوه:
الأول: بعث المسلمين إلى المبادرة إلى الإستغفار.
الثاني: التذكير بالربوبية المطلقة لله عز وجل، ودعوة المسلمين لإستحضار ذكر الله عز وجل.
الثالث: تأكيد رحمة الله عز وجل بالمسلمين، فمن مصاديق الربوبية الرحمة بالناس عامة في الدنيا، وبالمؤمنين في الآخرة، فجاء قوله تعالى(ربكم) بشارة للمسلمين برحمته تعالى بهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى[فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ] ( ).
الرابع: بيان المائز بين المسلمين وغيرهم، بأن تكون المغفرة خاصة بالمسلمين، وهم الذين يردد كل واحد منهم يومياً على نحو الوجوب العيني قوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
ليكون هذا الحمد من مصاديق المسارعة إلى المغفرة، إذ أن آية البحث وما فيها من الأمر الشامل للمسلمين جميعاً على نحو العموم الإستغراقي من فضل الله عز وجل على المسلمين، ويلزم الثناء عليه تعالى على نعمة الندب إلى المغفرة وبصيغ المبادرة والتسابق إليها.
لقد جاء الخطاب بالمسارعة إلى الجنة خاصاً بالمسلمين على نحو الحصر والتعيين، ويحتمل وجوهاً:
الأول: إختصاص المسلمين بالأمر بالمسارعة إلى الجنة.
الثاني:إعتبار قاعدة إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، وهناك سبل وأوامر إلهية متوجهة للناس من غير المسلمين بالمسارعة إلى الجنة.
الثالث:توجه الخطاب في الآية إلى أهل الملل والنحل بواسطة المسلمين، فمن أراد السعي والمسارعة إلى الجنة فعليه اللحاق بالمسلمين وإصلاح الذات لإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والصحيح هو الأول والثالث،فلا موضوعية للقاعدة أعلاه، لأن الأهلية للمسارعة إلى المغفرة من الله مقيدة بشرط الإسلام الذي يفتقر إليه الكفار، وهو من أسرار مجئ الآية بالخطاب إلى المسلمين على نحو الخصوص والتعيين التشريفي , وأمر الآية بسؤال المغفرة[مِنْ رَبِّكُمْ] أي لما خصكم الله عز وجل به من المعرفة والتسليم لمقام الربوبية، والإنقياد لأوامر الله عز وجل ,
فلما إمتثل المسلمون للفرائض والواجبات، جاءت هذه الآية، وكأنها شكر من الله عز وجل للمسلمين على حسن طاعتهم , وهو من عمومات قوله تعالى[وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ]( ).
ترى ماهو أثر المسارعة إلى المغفرة بالمسارعة إلى الجنة وبالعكس، الجواب على وجوه:
الأول: تأكيد التكامل في الإسلام، والتداخل في أحكام الشريعة لتكون هذه المسارعة من عمومات قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
الثاني:ترشح النفع العظيم عن الإمتثال إلى أوامر الحلال والحرام في القرآن والسنة.
الثالث: إقرار المسلمين بالعالم الآخر والجزاء فيه، ولزوم السعي لمحو الذنوب والسيئات.
الرابع: إدراك المسلم للزوم عدم الوقوف عند الإستغفار، فلابد من مواصلة السعي في الصالحات، والإجتهاد في مسالك الطاعة رجاء دخول الجنة.
الخامس : بيان رحمة الله بالمسلمين بتداخل الأوامر وتعدد أفراد الثواب على كل واحد منها وعليها مجتمعة
وهل يدخل الجنة من لم يغفر الله له، الجواب لا، وهذا المعنى لايتعارض مع النصوص التي وردت بخصوص رجحان كفة الحسنات على السيئات يوم القيامة .
فورد عن عبد الله بن سلمة عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يا علي ألا أعلمك كلمات إذا أنت قلتهن غفر الله لك مع أنه مغفور لك تقول لا إله إلا الله الحليم الكريم لا إله إلا هو العلي العظيم سبحان الله رب السماوات ورب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين( ).
وهل يصح السعي إلى الجنة وقصدها وحدها، من غير سعي إلى المغفرة، الجواب لا، للتداخل بين الأمرين، ولأن المغفرة طريق إلى بلوغ الجنة، والمسارعة للمغفرة وإلى الجنة مما إذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا إجتمعا، وهذا التداخل بينهما من أسرار مجيئهما معاً في الآية الكريمة.
وفي الجمع بينهما مسائل:
الأولى: إنه وسيلة لتفقه المسلمين في الدين.
الثانية: الإرتقاء العام للمسلمين في المعارف الإلهية.
الثالثة: صيرورة السعي إلى المغفرة وإلى الجنة ملكة ثابتة ومتوارثة عند المسلمين، ويترشح منها الخير والبركة والغبطة في الدنيا، والسعادة في الآخرة.
الرابعة: بيان النعم الإلهية التي تتجلى في ثنايا الأوامر والنواهي الإلهية، قال تعالى[وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ]( ).
وقيل ليس المراد بالعرض البعد الهندسي المقابل للطول، إنما المراد هو السعة، وقال امرؤ القيس :
بلاد عريضة وأرض أريضة … مدافع غيث في فضاءٍ عريِض( ).
أي مواطن غيث وكلأ واسعة وكبيرة.
إنما أراد الله عز وجل بيان المعقول بلغة المحسوس، وتأكيد حقيقة وهي أن حواس وعقول الناس متخلفة عن معرفة بديع خلق الله عز وجل وأن الجنة مع عظمها وطول وإستدامة عمرها مخلوقة للمتقين وفيها نوع إكرام وتفضيل لهم بأن يكون ثوابهم مهيئ لهم قبل أن يخلق آدم أبو البشر.
في إصطلاح علم المنطق
التعريف بيان وذكر لتفصيل المعُرف بما يجعله واضحاً وجلياً لدى المخاطب، نعم لا يصل التعرف إلى معرفة كنه الشيء، ولكنه يبين حده الجامع المانع، الجامع لأفراده، المانع من دخول غيرها معها، وهناك وجوه كثيرة للتعرف نذكرها على نحو الإيجاز:
الأول: الحد التام، وهو التعريف الذي يشمل الجنس القريب والفصل القريب كما لو قلت: الفرس حيوان صاهل.
الثاني: الحد الناقص: كما لو جاء التعريف بالفصل القريب، والجنس البعيد، كما لو قلت: حديد متحرك.
الثالث: الرسم التام: وهو التعريف بأمرين:
الأول: الصفة الذاتية التي تجمع المعرفة مع غيره.
الثاني: الصفة الخاصة التي تفصل المعرف عن غيره من تلك الأنواع التي تجتمع معه في الصفة الذاتية، كما لو عرفّت النخلة بأنها شجرة ثمرها التمر، إذ أن عنوان الشجر عام، ولكن حمل الرطب والتمر أو خاص بالنخلة.
الرابع: الرسم الناقص: الذي يأتي بذكر شطر من خصائص الشيء، وصفته الذاتية الذاتية الجامعة له مع غيره، كما لو قلت البستان أشجار كثيرة، لأن كثرة الأشجار لا تفصل البستان عن غيره قرب أشجار كثيرة متقاربة ولكنها ليست بستاناً وحائطاً مستقلاً أو يقال الإنسان ضاحك فلا تبين في هذا التعريف خصائص الإنسان الذاتية، خصوصاً وأن الضحك عرض.
الخامس: التعريف بالمثال: كما لو ذكرت شخصاً معيناً في تعريف الإنسان، وقلت الإنسان مثل محمد وحسن، أوتكتفي بالإشارة والدلالة على فرد من الناس.
السادس: التعريف بالمرادف كما لو قلت الفقيه العالم.
وورث بنو آدم علم التعريف منذ خلق آدم قال تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، فإن قلت إن التعريف أعم من الاسم وأن المراد منه الوضوح وبيان المسمى، فالجواب كان تعليم الله عز وجل لآدم تأسيساً لمدرسة التعريف , وفضلاً على الناس جميعاً.
ومن خصائصها ألا يكون التعريف أخص وأضيق من المعُرف ولا يكون أوسع وأعم منه لأن الأول (أي الأخص) لا يكون جامعاً لأفراد أو جنس أو شخص المعُرف، والثاني أي التعريف بالأعم لا يكون مانعاً من دخول غيرها معها.
ومن خصائص التعريف خلوه من الكلمات المبهمة التي تحتاج إلى تعريف آخر، ولا يكون بالضدية كما لو قلت النهار ليس بليل.
وقد توارث الفلاسفة من أيام الإغريق والفلسفة اليونانية تعريف الإنسان بأنه(حيوان ناطق) وقيل أن إتباع العلماء المسلمين لهم بإرادة معنى المعارف والعلوم من تعريف الإنسان بالفصل القريب(الناطق) أنه المعارف والعلوم وليس النطق والتحدث وحدهما.
ولا دليل على هذا التفصيل والتأويل، فقد جاءوا بذات الألفاظ التي قالها أرسطو مع الإشكال بأن منطقه صوري وقيل أن أرسطو قال بأن النطق هو أداة العقل أو أداة العلم.
وأصل إصطلاح(المنطق) هو ترجمة لكلمة الآلة والأداة التي إستخدمها أرسطو للدلالة على المنطق، وهو آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر، وقال أرسطو إن التعريف بالجنس والفصل هو التعريف الجامع المانع كتعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق فهو ينطبق على الناس جميعاً، ويكون مانعاً من دخول غيرهم في هذا التعريف ولكن هذا التعريف ناقص من وجوه:
الأول: ما أكــرم الله عز وجل به الإنســان.
الثاني: أنه خــال من معــاني الشــكر لله عــز وجل على التباين بين الإنسان والحيوان.
الثالث: ليس النطق وحده يفصل بين الإنسان والحيوان وإن أريد بالنطق المعنى الأعم ودلالاته، فصحيح أن الإنسان يلتقي مع الحيوان بأن كلاً منهما جسم ذو نفس حساس متحرك بالإرادة ولكن المائز للإنسان في الماهية وكما الحقيقة فجسم الإنسان يختلف تماماً عن الحيوان، وكذا النفس والحواس والحركة والإرادة وهي أمور شرّف الله عز وجل بها الإنسان، وأصلحه للخلافة بقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
الرابع: صحيح أن النطق فصل قريب للإنسان عن الحيوان، ولكن ليس من موضوعية لشرط تعريف الإنسان بلحاظ ما يفصله عن الحيوانات.
الخامس: الأصل في التعريف النظر للإنسان بذاته وليس ما يجمعه مع الحيوان من الجنسية والماهية والتي لم تثبت عند التحقيق لأن الإنسان خلق من الطين ونفخ الله فيه من روحه، قال تعالى[إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ *فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ]( ).
فلا ضرورة في تعريف الإنسان بالحيوان، وتركه أولى.
ويمكن تعريفه مثلاً : بأنه جسم مخلوق عاقل ناطق , للدلالة على أن العقل ليس صفة ذاتية تجمعه مع سائر الحيوانات وتحتاج صفة خاصة تفصل المعدن عن غيره بل هو أمر إختص الله عز وجل الإنسان إكراماً وتشريفاً , ويمتاز من بين الخلائق بتلقي الأمر الإلهي بالمسارعة إلى المغفرة والسعي الدؤوب إلى الجنة والثواب العظيم .
وإن عرفت الإنسان بأنه(العبد المأمور بالمسارعة إلى المغفرة) لصح التعريف أو(المخلوق الذي ينتظره الجزاء الأخروي لصح) أو(الذي دنياه إبتلاء وإختيار).أو الذي يعمر الأرض بالعبادة ).
لأن الجزاء عام يشمل الثواب والعقاب، ولأن الإنسان ينفرد بالإبتلاء في الدنيا، والجزاء في الآخرة، ومن فضل الله على الإنسان كثرة أفراد الفصل والصفات القريبة التي تفصله عن غيره من الخلائق، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( ).
ومن إعجاز القرآن أن لفظ الحيوان لم يرد فيه إلا بمعنى الحياة المستديمة، والخلود في الآخرة، بقوله تعالى[وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ]( )، لابد من مشروع إسلامي للمصطلحات في العلوم المختلفة يلحظ فيه الكتاب والسنة، ويكون المصطلح عنواناً للشكر لله ودعوة إليه، وبياناً لعظيم فضله وإحسانه سبحانه.
وتقييده بالجسم لخروج الملائكة من التعريف , ولبيان أنه ممكن جاء من العدم، وأنه يحتاج لرحمة الله عز وجل في وجوده، وفي ذكر العقل على نحو الخصوص بيان فضل الله عز وجل في تمييز الإنسان.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أول ما خلق الله تعالى العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر)( ).
علم المناسبة(سارعوا)
وردت مادة(سرع) في القرآن وأكثرها في الثناء على الله وبيان عظيم قدرته، وسرعة جزائه، كما في قوله تعالى[وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]( )، الذي تكرر في القرآن ثمان مرات، وقوله تعالى[إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، وفيه آية في إنذار الكفار، وتحذيرهم من نزول العقاب بهم في الدنيا، وهذا الإنذار رحمة من الله عز وجل بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأجيال بني آدم المتعاقبة.
فلا غرابة أن يبقى القرآن سالماً من التحريف والتبديل إلى يوم فعصمته من التغيير والمحو، وإمتناعه عن المحو والحذف إنما هو رحمة متصلة ومستديمة للناس جميعاً، وفيوضات قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، فالغايات الحميدة من حفظ القرآن أكثر من أن تحصى، ومنها إستمرار لغة البشارة والإنذار في الأرض، وتجدد الأوامر والنواهي القرآنية.
ومن إعجاز القرآن أن كل أمر فيه يتضمن البشارة والإنذار، البشارة في حال الإمتثال له، والإنذار من الإعراض والعزوف عنه، ليكون من أسرار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضيله على الأنبياء السابقين.
ولم يرد لفظ(سارعوا) في القرآن إلا في هذه الآية، وجاء بلغة الأمر، وصيغة الجمع، وفيه آية في إكرام المسلمين بخصهم من بين أهل الأرض بالحث والترغيب بالمغفرة، والإخبار بلزوم المبادرة إليها، وهل في الآية دلالة على إعانة الله للمسلمين في الإمتثال لمضامينها، الجواب نعم، لتكون ذات الآية مدداً سماويا للعمل بأحكامها وسننها، ومن مصاديق المدد في المقام أمور:
الأول: بعث الشوق في النفوس للمغفرة والعفو من الله.
الثاني: الشعور باللذة الإيمانية عند اللجوء إلى الإستغفار، أو فعل ما فيه العفو والمغفرة.
الثالث: تدبر المسلم والجماعة من المسلمين في سبل المغفرة، وكيفية ولوجها.
الرابع: الدعوة العامة للمسارعة إلى المغفرة، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( )، وتبين الآية أعلاه وجوب الأمر والنهي أعلاه وأنهما فرض على الكفاية وليس فرض عين على كل مسلم.
أما المسارعة إلى المغفرة فهي واجب من وجوه:
الأول: واجب عيني على كل مسلم أن يسارع في سبل المغفرة.
الثاني: الواجب النوعي العام على المسلمين على نحو العموم المجموعي كأمة متحدة، والعموم الإستغراقي كأفراد يآزر ويعاضد أحدهم الآخر في المسارعة إلى المغفرة (عن أبى موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه)( ).
الثالث: الواجب الكفائي على المسلم بحث أخيه المسلم للمسارعة إلى المغفرة، وقد يكون الواجب في المقام عينياً بحسب الحال والمقال.
وجاء قوله تعالى(يسارعون) ســـبع مرات في القرآن ثلاثة منها في الثناء على المؤمنين بقــوله تعــالى[يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ]( )، لقد أراد الله عز وجل للمسلمين التسابق في الخيرات، ويتجلى بالإكثار منها، والمبادرة الشخصية والعامة لها.
وجاء قوله تعالى أعلاه في الثناء على الأنبياء كما في زكريا في قوله تعالى[وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ]( ) وجوه:
الأول: أنها كانت لا تلد، فولدت له يحيى.
الثاني: كان في لسانها طول أي إصلاحها للعشرة، وجعلها ذات خلق حسن مع زوجها النبي وطول اللسان كتاية عن البذاء.
وكلاهما عن ابن عباس( ).
الثالث: رد شبابها إليها.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وإن كان الثابت منها هو الأول لأن إصلاح المرأة للإنجاب هو الغاية والمطلوب الأتم في الزواج ولفضل الله في إستجابة دعاء زكريا وتحقيق البشارة بولادة يحيى عليه السلام لقوله تعالى[نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى]( ).
ومن إعجاز الآية أعلاه إخبارها عن ولادة يحيى، ثم عطف إصلاح الزوجة عليه، مما يدل على تعدد مصاديق هذا الإصلاح وأنه حاجة لتعاهد حضانة وتربية النبي يحيى، وإعانة زكريا في أداء وظائف النبوة، خصوصاً وأن المرأة قد يسيء خلقها عندما يصبح عندها أولاد.
وإذ كان الأنبياء يسارعون في الخيرات وعمل الصالحات فهل الأمر للمسلمين بالمسارعة إلى المغفرة وأسبابها من عمومات وراثة المسلمين لهم، الجواب نعم، ليتولى المسلمون عمارة الأرض بالصلاح وإمامة الناس في سبل الإستغفار.
وورد لفظ يسارعون في بيان قبح فعل الكفار، قال تعالى[وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ]( ) في ذم الكفار والمنافقين والذين يحكمون بغير ما أنزل الله، وتعدت المسارعة في الآية أعلاه بحرف الظرفية(في)لبيان إستدامة تلبسهم بالكفر، وأنه سابق ومعروف عندهم، وفيه ثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بأنهم يعلمون الكفار، ويحذرون منهم، وجاءت الآية لبعث الصبر والسكينة في نفوس المسلمين والإخبار عن شدة عذاب الكفار.
وقد يتساءل المسلم لماذا لا يؤمن الكفار، والآيات الكونية ظاهرة ودالة على وجوب التوحيد، فجاءت الآية لوجوه:
الأول: مواساة المسلمين.
الثاني: إخبار المسلمين بما ينتظر الكفار من العذاب.
الثالث: بيان التباين بين المسلمين والكفار.
الرابع:إقامة الحجة على الكفار.
الخامس: ترغيب الناس بالثواب العظيم الذي ينتظر أهل التوبة والصلاح.
فجاء التعدي في آية البحث بحرف الجر(إلى) بقوله تعالى(وسارعوا إلى مغفرة) لبيان أن المغفرة والجنة هي الغاية التي يسعى إليها المسلمون، وهي منتهى سعيهم في الحياة الدنيا.
ووردت مادة(سرع) في الإخبار عن سرعة الجزاء من عند الله في حال الثواب والعقاب، قال تعالى[أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ]( ), لبيان أن الحكم بيد الله عز وجل يوم القيامة، وإنتفاء التدبير والروية بحكمه تعالى، وللإخبار بأن كل شيء حاضر عنده تعالى مستجيب له، وأنه سبحانه يعجل الفصل بين العباد، والآية من الشواهد على عظيم قدرة الله عز وجل للملازمة بين القدرة والحكم وتعجيله.
ويدل قوله تعالى(وسارعوا) على أمور:
الأول: الإنسان مخير في الحياة الدنيا.
الثاني: تقريب الله عز وجل المسلمين إلى فعل الطاعات، وهدايتهم إلى سبل الرشاد.
الثالث: بيان حقيقة وهي أن الدنيا مزرعة للآخرة.
وورد ذات معنى آية البحث في قوله تعالى[سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ]( )، فبدل قوله تعالى(سارعوا) ورد(سابقوا)، والنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق إذ أن السابقة أعم لأن فيها تسارع للأقران، وكأن المؤمنين في فعلهم للخيرات ومبادرتهم لطلب المغفرة كالمتسابقين في المضمار , وفيه مادة للمحاكاة والإستدامة في فعل الخيرات.
وفي إختصاص المسلمين بالمسارعة الذي يتجلى بحصر الخطاب بهم في قوله تعالى(سارعوا) شاهد على إنفرادهم من بين أهل الملل والنحل بالتسابق في سبل المغفرة ليشارك كل فرد من المسلمين بالمسارعة، وتكون هذه المشاركة باعثاً على التنافس في سبل الصلاح.
ويفيد الجمع بين الآيتين أموراً:
الأول: كل مسلم مدعو للمسارعة في سبل المغفرة.
الثاني: بعث المسلمين للتنافس والتسابق في طلب المغفرة، قال تعالى[وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ]( ).
الثالث: التعدد في صنوف المبادرة إلى المغفرة، فمرة يسارع المسلم بنفسه، وأخرى يتسابق مع غيره من المؤمنين، من غير أن يشاركهم غيرهم في هذا السباق المبارك , وفيه مسألتان:
الأولى: هل سنخية التسابق من المسارعة، وأمر مستقل قائم بذاته من جهة الثواب , الجواب نعم لما فيه من الإمامة في الخيرات.
الثانية: هل حث المسلم لأخيه المسلم للمبادرة إلى المغفرة من المسارعة إليها، أم أن القدر المتيقن منها السعي الشخصي للمغفرة كقول المكلف(أستغفر الله) وأدائه الفرائض.
الجواب هو الأول، فإن هذا الحث من مصاديق المسارعة إلى المغفرة، وأفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بحث إجتماعي
تضمنت الآية الكريمة الأمر بالمسارعة مع تعيين الغاية، والسرعة نقيض البطئ، وكلاهما من عوارض الأجسام، وأفراد الحركة، وفيهما تبدل للمحل مع التباين في الزمان والتقدم والتأخر، فالسرعة قطع للمسافة الطويلة في وقت قصير، أما البطئ فهو قطع للمسافة القليلة بوقت طويل أو هو كيفية تتضمن المانع من السير، وقلة الحركة إلى الجهة المخصوصة.
وجاءت المسارعة في الآية الكريمة بالمعنى الأعم من الجسمية، فتشمل الإعتقاد والقول , والتسابق في ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وعن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
يا أيها الناس مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم، وقبل أن تستغفروه فلا يغفر لكم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرب أجلاً، وإن الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم، ثم عمهم البلاء)( ).
لتكون نوع ملازمة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين تعقب المغفرة للإستغفار، وليس من سرعة أعم في موضوعها مثل التي وردت في هذه الآية من جهة المصاديق والتوالي والتعاقب، وكثرة المسلمين والمسلمات الذين يبادرون إلى الإسراع إلى المغفرة، فصحيح أن المسارعة أعم من موضوعية المفاعلة بين أطرافها، ولكنها تترشح عن مقدمات من المبادرة، والمسارعة إليها ليكون المسلم في سباق مع الزمن والحوادث لتجديد الفوز بالمغفرة.
وهل المراد من قوله تعالى(وسارعوا) الحقيقة أم المجاز، الجواب هو الأول سواء كانت المسارعة بالبدن أو المال، وفيه آية في وضوح وتجلي الأوامر الإلهية بما يكون برزخاً دون الترديد وأسباب الجدل، ومغالطة أهل الجحود.
وأطلق إصطلاح(التوافق الإجتماعي)على المفاهيم الأربع(التعاون، التنافس، الصراع، المصالحة) .
وجاء قوله تعالى(وسارعوا إلى مغفرة) لبعث التعاون والتنافس بين المسلمين , والحيلولة دون الصراع وأسباب الخصومة بينهم، فالكل يسير بإتجاه واحد مع الحرص النوعي عندهم على لزوم عدم الإبطاء، ومن المتعارف في الجمع الكثير المسرع التزاحم والإرتطام والتباين , ويضاف إليها عندما تكون الغاية واحدة التدافع وحصول أضرار بينهم.
أما مسارعة المسلمين جميعاً إلى الغاية المتحدة وهي المغفرة، فلا ينتج عنها إلا التيسير والمحاكاة والرجاء، وتنمية ملكة المحبة وبين المسلمين، قال تعالى[فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ]( ).
والمعروف أن طول الأمل مذموم، وفيه نسيان للآخرة وأهوال الحساب إلا الأمل بذات الآخرة فإنه محمود لما فيه من إستحضار لعالم الجزاء والإستعداد له، وأبهى مصاديق هذا الإستعداد المواظبة على الإستغفار، ليكون الأمل والغاية هي المغفرة، ودخول الجنة الأمر الذي يترشح عنه الخصال الحسنة من الزهد والصبر والسعي في دروب الخير التي توصل إلى المحبوب.
لذا يمكن تسمية الدنيا(دار الأمل الأخروي) إذ يصاحب الأمل فيها المؤمن رجاء دخول الجنة، وهل هذا الأمل من مصاديق قوله تعالى(وسارعوا إلى مغفرة) أم أنه نعت لحال، وكيفية نفسانية لا مبرز خارجي لها في عالم الفعل وأن المدار على السعي للمغفرة.
الجواب هو الأول فهذا الأمل من المسارعة إلى المغفرة، وقنديل يضيء سبيل السالكين، وبرزخ دون غلبة النفس الشهوية، وإتباع الهوى، والصدود عن الحق.
فإن قلت وردت نصوص كثيرة في ذم الأمل وطوله، والجواب إنها خاصة بالأمل والطمع في الدنيا، لذا قيدنا الإصطلاح أعلاه بالأمل الأخروي، وعن أبي سعيد الخدري قال: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غرز عودا بين يديه وآخر إلى جنبه وآخر بعده, فقال أتدرون ما هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال هذا الإنسان فيتعاطى الأمل فيختلجه الأجل دون الأمل)( ).
ووردت بعض الأخبار بأن الأمل رحمة من الله بأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وموضوع الأمل الذي تقصده وترجوه أعم ويراد منه السعادة في دار المقام.
بحث أصولي إصطلاح جديد في علم الأصول(الفورية المستديمة)
يأتي الأمر من الأعلى إلى الأدنى لطرد العدم بتحقق مسمى الوجود أو الوجود الساري الذي لا يتحصل إلا بأفراد كثيرة، وأختلف في إرادة الفور لالاىرررؤؤءؤئءئئؤبزللامتكةكلاكلاروؤ0020ئ
الأول: إرادة الفورية من الأمر، وأستدل عليه بأن السيد إذا قال لعبده إسقني، فأخر العبد السقي من غير عذر، عدّ عاصياً، وذلك معلوم في العرف)( )، وأجيب بأن الفورية تعرف هنا بالقرينة، ولأن هذا المثل كثيراً ما يتردد في كتب وحلقات علم الأصول نورد ما يأتي:
الأول: الدليل لا يكون بالمثال، لطرو الإحتمال عليه .
الثاني : التباين الموضوعي والحكمي بين المثال أعلاه وبين الأوامر الشرعية , والتكاليف الخمسة.
الثالث : الأوامر الإلهية أعم وذات مضامين قدسية ودلالات سامية، وتتعلق بعالم الأفعال والجزاء.
الرابع : تعدد مضامين الأوامر الإلهية ومراتب الفورية فيها.
الخامس : التباين والتضاد في ماهية الأمر، فالقدر المتيقن من أمر السيد لعبده أو ولده كفاية الإمتثال إلى المتحد، أما الأمر من الله عز وجل بقوله تعالى(وسارعوا) فالمراد منه المتعدد والمتجدد لكل مكلف لتكون أفراد هذا الأمر من اللامتناهي بلحاظ عدد المسلمين وبلحاظ كثرة أسباب المغفرة.
ويترتب القول على الفورية الإثم عند الإبطاء والتأخير، أما القول بالتراخي في الإمتثال فيفيد رفع الحرج والإثم عند إتيان الفعل المأمور به في الزمان الثاني أو ما بعده.
الثاني: عدم دلالة الأمر على الفور، وأن صيغة الأمر أعم، ولا تدل على الفور والتراخي.
الثالث: صيغة الأمر مشتركة بين الفور وجواز التراخي لأنها طلب للماهية , وأيهما تحقق فقد حصل الإمتثال.
ولم يصرح أحد بإرادة التراخي من الأمر، وفي الكفاية قال: بعد نفي دلالة صيغة الأمر على الفورية ولا على التراخي(نعم قضية إطلاقها جواز التراخي، والدليل عليه تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها، بلا دلالة على تقييدها بأحدها، فلابد في التقييد من دلالة أخرى، كما أدعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية.
وفيه منع، ضرورة أن سياق آية (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) وكذا آية (فآستبقوا الخيرات) إنما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والإستباق إلى الخير، من دون إستتباع تركهما للغضب والشر، ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعاً للغضب والشر، كان البعث بالتحذير عنهما أنسب، كما لا يخفى)( ).
ويرد عليه أمور:
الأول: تتضمن آية البحث والتي إستدل بها أعلاه في مفهومها الوعيد على الصدود عن النبوة وعن ترك المسارعة.
الثاني: جاءت الآية في سياق بعث المسلمين لما فيه خير الدنيا والآخرة.
الثالث: الآية بشارة وإكرام.
وتتضمن آية البحث النص الصريح بالفورية والمسارعة، ولكن هذه الفورية غير التي يبحث عنها في علم الأصول، ويمكن أن نطلق عليها إصطلاح(الفورية المستديمة).
فالتقسيم إلى الفورية والتراخي تقسيم إستقرائي من العلماء , وهو قاصر ومتخلف عن علوم القرآن، وأحكام إستنباط المسائل والقواعد الأصولية من خزائنه، إذ تتضمن الآية إرادة الجمع بين الفورية والتراخي، بمعنى أن المقصود من التراخي ليس التعليق أو الفورية، بل الجمع بينهما بإتيان الفعل بأفراد الزمان كلها وبمرتبة واحدة، لتكون صبغة عمل المسلم على وجوه :
الأول: قهر للنفس الشهوية والغضبية.
الثاني: الإحتراز من المعصية وعدم تضييع فرصة للإستغفار.
الثالث: الحرص على إستثمار كل آنات الزمان للإمتثال لأمر الله بالمسارعة، ليكون المسلم في سباق مع نفسه ومع آنات الزمان في المسارعة إلى المغفرة وطلب الجنة.
الرابع:العصمة من الإفتتان بمفاهيم الكفر والضلالة وأسباب الغواية التي تكون حاجباً دون المسارعة إلى المغفرة، قال تعالى[وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ]( ).
ومن الأصوليين من إستدل على إقتضاء الأمر فورية الإمتثال بآية البحث , ولكن الفورية مستقرأة من لفظ (سارعوا) الذي هو ضد الإبطاء والتسويف.
قوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]
كما إبتدأت آية البحث بحرف العطف(الواو) لإرادة عطف موضوعها ولغة الخطاب فيها على الآيات الثلاثة السابقة، وكما جاء حرف العطف (الواو) في وسط قوله تعالى قبل ثلاث آيات [وَاتَّقُوا اللَّهَ] لإضافة الأمر بالتقوى إلى النهي عن أكل الربا , جاء حرف العطف في آية البحث لإضافة الأمر بالمسارعة إلى الجنة للأمر بالمسارعة إلى المغفرة ليجتمع أمران في الآية تكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق إذ أن السعي الحثيث إلى الجنة أعم من المسارعة إلى المغفرة.
فقد تتعلق المغفرة بسؤال محو ما سلف من الذنوب والخطايا، بينما تشمل المسارعة إلى الجنة أداء الوظائف العبادية وإتيان الصالحات، وفعل المستحبات، والتصدي للواجبات الكفائية رجاء رحمة الله، فان قلت هذه الوجوه من المسارعة إلى المغفرة أيضاً.
الجواب نعم لفضل الله عز وجل على المسلمين وترتب الثواب بالذات والعرض على العمل الصالح ليكون من غايات الجمع بين المسارعة إلى المغفرة والجنة في هذه الآية وجوه:
الأول: ترغيب المسلمين بالعمل الصالح لتعدد غاياته.
الثاني: تأكيد فضل الله عز وجل , وأنه يعطي الكثير المتعدد على الفعل القليل المتحد.
الثالث: الشهادة للمسلمين بأنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بإمتثالهم للأمر الذي يتضمن التعدد من وجوه التكليف , وإقامة الحجة على الناس بأسباب تفضيل المسلمين.
الرابع: بيان الإتصال والتداخل بين عالم الدنيا والآخرة وترتب الجزاء على الفعل ترتب المعلول على علته، وهل من أثر للمسارعة في هذا الترتب بمعنى أن المسارعة إلى المغفرة هل يكون مقابلها السرعة في العفو والمغفرة.
الجواب إنه بلحاظ قانون كلي وهو إقتران الوعد الكريم من الله مع كل أمر نازل إلى المؤمنين، وتلك آية في إكرام الإنسان، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
السادس: طرد الكبر والغرور والغفلة عن المسلمين، فلا يقول واحد منهم أنه متنزه عن الذنوب ولا يحتاج السعي إلى المغفرة سواء جاء هذا القول بإرادة الإستدامة والحال الثابت أو الإستغفار للسالف من الذنوب بلحاظ نصوص تتضمن ترتب المغفرة على الفعل العبادي , كما في قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لا يسبغ عبد الوضوء إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)( ).
إذ تتضمن الآية في دلالاتها لزوم المواظبة المتصلة في السعي إلى المغفرة والجنة ومن دلالات الآية وجوه:
الأول: الجنة مخلوقة الآن.
الثاني: الجنة لم تخلق إلى الآن للتبادر الذهني بأن الجنة في الآخرة, والقدر المتيقن من المسارعة هي العمل الصالح في الحياة الدنيا.
الثالث: الآية أجنبية عن موضوع أوان خلق الجنة.
والصحيح هو الأول، لإخبار الآية عن المسارعة إلى أمر موجود وقريب يستطيع الإنسان أن يصل إليه، فالله عز وجل يأمر المسلمين بالمسارعة إلى أمر موجود سبق إعداده خلقَهم.
وإذ كانت الجنة موجودة وعرضها كعرض السماء والأرض فأين هي الآن.
الجواب إن قصور الأذهان عن إدراك وتصور مكانها آية في بديع صنع الله، وفيه ترغيب إضافي للمسلمين والناس جميعاً للسعي الحثيث إليها بالتحلي بالتقوى والخشية من الله عز وجل.
ويبقى هذا القصور مصاحباً للإنسان حتى مع بلوغ المركبات الفضائية وصور الأقمار الصناعية عوالم مجهولة في هذه الأزمنة إذ أن قوله تعالى(أعدت للمتقين) والآيات الأخرى تدل على أن الجنة من عالم الآخرة وأنها خاصة بالمؤمنين.
وذكر(كانت الجنة عرضها كعرض السماء و الأرض فأين تكون النار فجوابه أنه روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن ذلك فقال سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل و هذه معارضة فيها إسقاط المسألة لأن القادر على أن يذهب بالليل حيث شاء قادر على أن يخلق النهار)( )، (وقيل أن السائل هو رسول هرقل عظيم الروم)( ).
ويناقش هذا الحديث من جهتي الرواية والدراية، فلم يذكر له سند صحيح أو ضعيف، أما الدراية فهناك تباين بين المشبه والمشبه به، وهو أمر تتنزه عنه السنة النبوية مع كثرة أحاديثها ومواضيعها، إذ أن الجنة والنهار متعاقبان أحدهما يخلف الآخر، ويتعلقان بطلوع الشمس وغيابها.
أما الجنة والنار فإنهما موجودان في زمان واحد، وخلقهما بالذات، بعمومات قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، وهما باقيان إلى يوم القيامة.
وقال الشريف الرضي: وروي في حديث آخر: أن المشركين سألوه صلى الله عليه وآله عن مكان هذه الجنة إذا كانت عرضها كعرض السموات والأرض فأنزل الله تعالى[أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ] ( ).
فإن قلت هل في موضوع النزول أعلاه دلالة على أن الجنة تحل محل السموات والأرض يوم القيامة لصيغة المضارع ( أن يخلق ) ، وقال تعالى[يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ]( ) .
والجواب لا , وموضوع الآية أعم في دلالته من هذا المعنى , وكذا صيغة المضارع لأن الآية في مقام الإحتجاج والبرهان .
ولقد أراد الله عز وجل عظيم قدرته والمدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الرد على المسألة، وإقامة البرهان والحجة على الناس , والإشارة إلى التعدد , وأن الجنة والنار غير السماوات والأرض.
وظاهر آية البحث وأخبار الإسراء تفيد أن الجنة والنار مخلوقتان.
ولو دار الأمر بين خلق البدل وتناوب المخلوقات والأجرام العظيمة على المحل الواحد , وبين الجمع بين المخلوقات في الزمن الواحد وتعدد المحل , فالصحيح هو الثاني لعظيم قدرة الله , قال تعالى[مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ]( ).
علم المناسبة
ورد لفظ(عرضها) مرتين في القرآن، فإلى جانب هذه الآية ورد في قوله تعالى[سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ]( )، وقد تقدم بيان النسبة بين(سارعوا) و(سابقوا) أما الصلة بين قوله تعالى(عرضها السموات والأرض) و(عرضها كعرض السماء والأرض) ففيها مسائل:
الأولى: ورد لفظ(عرضها) مرة واحدة في آية البحث، بينما جاء في الآية أعلاه قوله تعالى(عرضها كعرض) وظاهر آية البحث نسبة التساوي بين عرض الجنة وعرض السموات والأرض، سواء كان المراد من لفظ (عرض) السعة أو البعد الأقصر مقابل الطول , ولكن هذه النسبة شبهة بدوية مدفوعة بورود حرف التشبيه (الكاف) في الآية أعلاه بقوله تعالى(عرضها كعرض السماء والأرض) ولابد من الجمع بين الآيتين في باب التفسير والتأويل لوحدة الموضوع , ولمجيء النصوص بالإخبار عن كون الجنة مخلوقة .
والجمع بين الآيتين حاكم , وفيه دليل على التعدد والغيرية، لأن المشبه غير المشبه به، فالجنة غير السموات والأرض، ويؤكده رجحان كون الجنة والنار مخلوقتين الآن , وقيل(هذا التشبيه تمثيل للعباد بما يعقلون ويقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض)( ).
وهو صحيح ولكن معاني ودلالات التشبيه في المقام أعظم وأكثر من جهات:
الأولى: بيان عظيم قدرة الله وأنه سبحانه لا تستعصي عليه مسألة.
الثانية: الإخبار عن بديع صنع الله وكثرة مخلوقاته، وأن غير المحسوسة منها أعظم وأكبر من المحسوسة بلحاظ أمور ثلاثة:
الأول: سعة الجنة لعظم السموات والأرض.
الثاني: عجز الإنسان عن الإحاطة بالسموات والأرض عدداً وسعة وآفاقاً.
الثالث: جاء التشبيه بين الجنة وبين السماء والأرض، ولم تذكر النار، وهي موجودة الآن تنتظر الكفار، قال تعالى بخصوص الذين يجحدون دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتوحيد وعبادة الله، وشكره على النعم[يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ]( ).
وجاءت آيات القرآن بالوعيد للكافرين، والإخبار بأن الله عز وجل أعدّ لهم النار.
الثالثة: عطف الجنة على السعي إلى المغفرة، وفيه نكتة عقائدية من وجوه:
الأول: المغفرة طريق دخول الجنة وليس العكس.
الثاني: يفيد مفهوم الآية أن المسلمين هم الذين يعلمون سبل الهداية والحاجة للتقوى ومنافعها في النشأتين , قال تعالى[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الثالث: تقديم التخلية من الذنوب على التحلية بالإستقرار في الجنة.
الرابعة: يدل كل من لفظ(سارعوا) و(سابقوا) على أن المغفرة قريبة من المسلمين، ومن دلائل القرب أمر الله عز وجل المسلمين بالسعي الحثيث إليها، وعدم الغفلة عنها.
وإذ أختتمت آية البحث بالإخبار عن إعداد الجنة للمتقين أختتمت آية تشبيه الجنة بقوله تعالى[أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ]( ).
ويتجلى في الجمع بين الآيتين مصداق بهي من إعجاز القرآن لأن آية البحث وعد كريم، وإخبار عن إختصاص المتقين بالجنة، ولدفع وهم وخشية المسلم من الحرمان من الجنة بظن أنه لم يبلغ درجة المتقين، ولمنع نعت بعض المسلمين من نعت آخرين منهم بأنهم ليسوا من المتقين، فلا يدخلون الجنة.
جاءت الآية أعلاه بياناً وتفصيلاً لخصال المتقين الذين أعدّ الله لهم الجنة وأنهم الذين صدّقوا ببعثة الأنبياء على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، وفيه مسألتان:
الأولى: إرادة المسلمين في كل زمان، فتشمل الآية الذين صدّقوا ببعثة رسول زمانهم، كالذي آمنوا بنبوة نوح، والذين إتبعوا إبراهيم، قال تعالى[إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا]( ).
وحينما يتفضل الله عز وجل ببعث نبي فلابد لأتباع النبي السابق من تصديقه، كي يكون من الذين يؤمنون بالأنبياء والرسل الذين أعدت لهم الجنة، كما في الآية أعلاه من سورة الحديد بقوله تعالى[أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ]( )، لذا كان من شرائط النبوة مجيء النبي بالمعجزات الخارقة للعادة المقرونة بالتحدي التي تدل على صدق نبوته , وتكون حجة على الناس بلزوم إتباعه.
ومن اللطف الإلهي أن تلك المعجزات ملائمة لحال الزمان، والأمور الإبتلائية والتي يوليها الناس العناية، كما في ناقة صالح التي خرجت من الصخرة بعد طلب قومه.
وذكر أن عدد الذين آمنوا بصالح من قومه أربعة آلاف، خرج بهم إلى موضع حضرموت، فمات فيه فسمي الموضع بهذا الاسم ، وقيل توفى بمكة، ولبث في قومه عشرين سنة.
وروي عن جابر بن عبد الله قال: لمّا مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : لا يدخلن أحدّكم القرية ولا تشربوا من مائهم ولا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلاّ أن تكونوا باكين خائفين فإن لم تكونوا فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم.
ثمّ قال: أمّا بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية، فبعث الله عزّ وجلّ لهم الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج , فتشرب ماءهم يوماً فيردها وراءهم مرتقى الفصيل حين إرتقى في الغار فعتوا عن أمر ربّهم وعقروها فأهلك الله مَنْ (تحت) أديم السماء منهم إلاّ رجلاً واحداً كان في حرم الله.
قيل : من هو؟ قال: أبو رغال، فلمّا خرج أصابه ما أصاب قومه (فدفن ههنا) ودُفن معه غصن من ذهب وأراهم قبر أبي رغال فول القوم فابتدروه بأسيافهم وبحثوا عليه فاستخرجوا ذلك الغصن، ثمّ قبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه وأسرع السير حتّى جاز الوادي)( ).
وقيل تكون ناقة صالح وكبش إسماعيل وكلب أهل الكتاب وحمار بلعم في الجنة.
ومعجزة سليمان الريح قال تعالى[الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً] ( )، ومعجزة موسى عليه السلام العصا وغيرها، ومعجزات عيسى عليه متعددة، كما ورد في التنزيل حكاية عن عيسى في خطابه لبني إسرائيل[قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ]( )، ومن معجزات عيسى نزول المائدة.
وإنفرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجمع بين المعجزات العقلية والحسية , وفيه حث لأتباع الأنبياء السابقين للمسارعة إلى التصديق بنبوته بلحظ البرهان المترشح عن تعدد ماهية المعجزة وإستدامة المعجزة العقلية وهي القرآن وآياته التي تطل على الناس كل يوم، ومنها آية البحث التي تدعوهم إلى المسارعة إلى المغفرة وإلى الجنة، وتعني في المقام لزوم مبادرتهم للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
المسألة الثانية: إرادة المسلمين الذين صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حين بعثته في مكة وإلى يوم القيامة وهو الذين ينفردون به من بين أهل هذه الأزمنة بالتصديق بالرسل على نحو العموم المجموعي.
الجهة الخامسة: جاء ذكر السماء في آية البحث باسم الجنس(عرضها السماء والأرض) وجاء ذكرها في سورة الحديد بصيغة الجمع (كعرض السموات والأرض).
ويدل الجمع بين الآيتين على إرادة السموات السبع والأرضين السبع.
وعن عتبة بن عبد السلمي، يقول: قام أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما فاكهة الجنة ؟ قال : فيها شجرة تدعى طوبى، فقال : أي شجرنا تشبه ، قال : ليس تشبه شجرا من شجر أرضك ، ولكن أتيت الشام، قال : لا يا رسول الله، قال : وإنها شجرة بالشام تدعى الجميزة تشتد على ساق ، ثم ينشر أعلاها، قال : ما عظم أصلها ؟ قال : لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتاها هرما ( )، بدليل تشبيه الجنة الوارد في قوله تعالى[عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ] .
ولا يعلم هذا الحيز والموضع الذي هو محل للجنة إلا الله عز وجل , وفيه آية في تخلف الأوهام عن الإحاطة بعظيم خلق الله، ليكون هذا التخلف والتصور مناسبة للتسليم بالربوبية المطلقة لله وإظهار أسمى معاني الخشوع والخضوع له سبحانه، والمسارعة في سبل الصلاح، وإتخاذها بلغة مباركة إلى الجنة والنعيم السرمدي ,.
عن ابن عباس قال : تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله، فإن بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور، وهو فوق ذلك( ).
هل الجنة والنار مخلوقتان
الجنة والنار محل ثواب الله وعذاب يوم القيامة، والجنة – بالفتح – هي البستان من النخل والشجر واصلها من الستر لكثرة نعيمها وتكاثف أوراقها والتفاف أغصانها.
والأقوى أن الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن وهو المختار وقول أكثر المتكلمين وعلماء المسلمين، وقال الأقل بأنهما لم يخلقا بعد.
ومن أهم وجوه الإستدلال على خلقهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل الجنة ورأى النار حين عرج به إلى السماء، وهو دليل على خلقهما ، واختلف المعتزلة فيما بينهم في موضوع خلق الجنة والنار، وجرياً على عادة العلماء والباحثين في ذكر الأقوال المختلفة في كونهما مخلوقتين أم لا، قام السيد الشريف الرضي المتوفي سنة 406 بذكر أدلة الفريقين واختار القول بعدم خلقهما والقائل بخلقهما إحتج بآيات منها قوله تعالى [ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ]( ) [ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ]( ) [ يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ]( ).
ويمكن أن يناقش هذا الإستدلال مع أننا نقول بخلقهما، فصيغة الماضي أعم من أثبات المدعى، فقد يراد منها القطع والحكم والإخبار، وفي جنة آدم ورد قول عن الإمام الصادق عليه السلام أنها من جنات الدنيا، والقائل بأنها ليست مخلوقة احتج بآيات منها قوله تعالى [ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ]( ) فلو كانت الجنة مخلوقة الآن لوجب هلاكها، وأجيب أن المراد دوام المأكول بالنوع والمراد من الهلاك الخروج من الإنتفاع أو أنه يتعلق بأفراد عالم الدنيا، ويمكن ان نضيف للجواب وجهاً آخر وهو خروج الجنة والنار بالتخصص من موضوع الآية، فالمراد من الهلاك هلاك الخلائق الحية من الملائكة والناس والجن ونحوها.
وربما يستدل على خلقهما ووجودهما فعلاً بقوله تعالى [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ]( ) وهو إستدلال لطيف، ورد بان المراد هي النار البرزخية وانه لا يصح الإستدلال بها، أقول: هذا التقسيم للجنة وللنار أي جنة أخروية وبرزخية وكذا بالنسبة للنار وان كان استقرائياً , يحتاج إلى دليل، وهو مفقود في المقام، بل إن الآية تظهر لنا وظائف أخرى للنار غير التي تكون يوم القيامة، فتعدد العنوان والوظيفة وزمانها لا يعني تعدد المعنون.
والآية حجة في خلق النار وإبطال للقول بان خلق الجنة والنار الآن عبث , فلهما وظائف عديدة قبل يوم الحساب، وحتى مع عدم الوظيفة، فلا عبث في فعله تعالى لأنه حكيم منزه عن اللهو والعبث والقبيح، وأستدل على إرادة البرزخية بقوله تعالى في الآية [ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ]( )، وانه لا يصح لنا الإستدلال بلفظ الجنة والنار على الإطلاق بل لابد من إمعان النظر ليعلم ما هو المراد منها، وما ورد في ذيل الآية لا يدل على تقسيم النار ووجود النار البرزخية في مقابل النار في الآخــرة، إنما يبين مراتــب العذاب وتحقق دخول الكفار والنار يوم القيامة، أي هناك وظائف برزخية للنار وليست ناراً برزخية.
وقد ورد عن ابن عباس انه قال: قدم يهوديان فسألا أمير المؤمنين عليه السلام فقالا: اين تكون الجنة؟ وأين تكون النار؟ قال: اما الجنة ففي السماء، واما النار ففي الأرض قالا: فما السبعة؟ قال: سبعة ابواب النار متطابقات، قال: فما الثمانية؟ قال: ثمانية ابواب الجنة، والخبر ضعيف لأن راويه عكرمة( ) وقيل أنه يكذب على عبد الله بن عباس.
ويمكن النظر للحديث وفق قاعدة التسامح بأدلة السنن بالإضافة لما ورد بطرق أخرى وأخبار عديدة عن أهل البيت تفيد خلقهما ذكرها المجلسي في بحار الأنوار في باب: الجنة ونعيمها من كتاب العدل والمعاد.
وقال: (واما مكانهما فقد عرفت ان الأخبار تدل على ان الجنة فوق السماوات السبع، والنار في الأرض السابعة وعليه اكثر المسلمين)، ولعل نسبة هذا القول لأكثر المسلمين بلحاظ موضعهما لم تثبت.
ان الجنة والنار خلق وعالم مستقل من خلق الله عز وجل ينظر الى موضوع مكانهما وفق الكبرى الكلية وهي انه تعالى لا تستعصي عليه مسألة , ان حديث الإسراء دليل وبرهان على خلقهما ووجودهما.
عن الهــروي قال: (قلت للرضـا عليه السلام: يا ابن رسول الله اخبرني عن الجنة والنار أهما اليوم مخلوقتــان؟ فقال: نعــم، وان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد دخل الجنـة ورأى النــار لما عرج به إلى الســماء……..) الحديث( ).
ويلاحظ في الحديــث الإستدلال بخبر المعــراج في خلق الجنـــة والنار، وفيه دعوة للإنتفاع من معجزة الإســـراء في البرهان، والإستشهاد به موضوعاً وحكماً على مسائل كلامية مهمة.
واســتدل عقلاً على عدم خلقهمـا بأن خلقهمــا قبل يوم الجــزاء عبث لا يليق بالحكيم كما في شرح المقاصد ونعته بالعبث نوع تجرأ، ويمكن أن يناقش من وجوه:
الأول: المخلوقات أعم من أن تنحصر وظائفها الفعلية بزمان معين فقوله تعالى [ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ]( ) يدل على وجود وظائف للنار في عالم البرزخ كما تقدم.
الثاني: من وظائفهما دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجنة واطلاعه على النار في المعراج.
الثالث: قوة التأثير والانفعال في آيات البشارة بالجنة والتخويف من النار.
الرابع: الأحكام والإعتبارات المتعلقة بالملائكة ووظائفهم الخاصة بأهل الأرض.
الخامس: عالم الخلق أعم من أن تحيط به وبالتداخل بين عناصره عقول البشر، كما أن الله سبحانه لا يًسئل عما يفعل لمقام الربوبية ولأنه الحكيم، ويمتنع القبيح عليه سبحانه.
السادس: روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنم بألف عام فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يقبضوا على من قبضوا بالنواصي والأقدام)( ).
السابع: خلق الجنة والنار حاجة للناس وإنذار وحجة، فالناس إذا علموا بخلق الجنة والنار يكونون أكثر سعياً واجتهاداً للوصول إلى الجنة واشد حذراً وخشية من دخول النار.
الثامن: في حديث الإسراء ورد الإخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوجود من يعذب في النار أوان الإسراء.
التاسع: ليس من مانع من إعداد الثواب والعقاب قبل الإستحقاق، كتهيئة الهدية للمتسابقين، أو إحضار الجعالة للعامل، أو آلة العقاب للمذنب.
العاشر: خلق الجنة يفيد القطع بيوم القيامة , وحتمية الحساب وفيه منع للتردد والشك والريب.
الحادي عشر: تعتبر النصوص في المقام تبياناً وتفسيراً واخباراً يترشح عنها العلم بخلقهما فلا معنى للتأويل وفق العقل الذي يتخلف عن إدراك فلسفة الخلق وأسرار الموجودات والحكمة الإلهية في المخلوقات أو المعارف في الإرادة التكوينية والتشريعية.
الثاني عشر: يساهم الإخبار عن خلق الجنة والنار في الصلاح والإصلاح والموعظة والإعتبار وترسيخ أحكام الدين وتهذيب النفوس وصلاح الأخلاق وتعاهد القيم.
وفي الخبر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن جبرئيل قال: اطلعت في النار فرأيت وادياً في جهنم يغلي فقلت: يا مالك لمن هذا؟ فقال لثلاثة: المحتكرين، والمدمنين الخمر، والقوادين)( ).
لذا تتضمن أحكام الشريعة تؤكد على حرمة كل واحدة من هذه الثلاثة.
والإحتكار: حبس الطعام إنتظاراً به الغلاء مع حاجة الناس له حرام، ويتحقق الإحتكار في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والدهن وما يحتاج إليه الناس من الطعام ولو كان هناك طعام غير هذه الخمسة يحتاج إليه الناس عرفاً فتشمله أدلة الإحتكار، كما في بعض البلدان يكون الغذاء الرئيسي فيها الرز أو الذرة ونحوها، والمحتكر يجبر من قبل الحاكم على البيع، ولا يعين له السعر، بل يكفي أخراج بضاعته إلى السوق وله أن يبيع بما شاء، نعم لو أجحف يجبر على تخفيض السعر من دون تسعير عليه، ويصدق عنوان الإحتكار في الخصب بمرور أربعين يوماً على حاجة الناس للطعام مع وجوده عند المحتكر، أما في الشدة والغلاء فبثلاثة أيام، وقد تختلف المدة بحسب الحاجة فتكون في مراتب القحط والابتلاء ساعات معدودات.
وقد جاءت الأخبار بالنهي عن الإحتكار .
وبذل أولوا الأمر وأهل الحل والعقد في العالم الإسلامي الوسع في الحد منه وإجتناب مقدماته، وعن علي عليه السلام في كتابه إلى مالك الأشتر: فامنع من الإحتكار فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منع منه.
الثالث عشر: الذين رآهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعذبون في النار كما في بعض الأخبار, فيه عدة وجوه محتملة:
الأول: إنهم من المسلمين.
الثاني: من الملل الأخرى والأمم السابقة.
الثالث: المراد الكفار الذين يصرون على المعاصي، فيعذبون بكفرهم وبمعاصيهم، قال تعالى[وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا]( ).
الرابع: إنهم من الأجناس السابقة لخلق آدم للخبر الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام: (إن الله عز وجل خلق ألف ألف آدم)( ).
الخامس: إنهم منهم جميعاً أي من الوجوه الثلاثة المتقدمة.
السادس: أنه من عذاب البرزخ وليس من عذاب النار الذي يكون بعد النشور والحساب يوم القيامة.
السابع: انه على التمثيل أي انه يحصل للأجسام المثالية التي تتلبس فيها الأرواح قبل النشور وعودتها إلى الأجسام الأصلية.
الأقوى هو الثاني والثالث والخامس وانه من عذاب البرزخ جاء للإعتبار والإتعاظ ولتمامية مدرسة الإسراء والمعراج وتحصيل غاياتها وأنهم ليسوا من المسلمين بل من الأمم السابقة من ذرية آدم.
وجاءت آية البحث وقوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ….]( )، واقية للمسلمين من عذاب البرزخ من جهات:
الأولى: التصديق بالآية وبنزولها من عند الله على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية: التلاوة الواجبة للآيات في الصلاة , أو قراءتها خارج الصلاة.
الثالثة: الإنصات للآية الكريمة.
الرابعة: الإمتثال لمضامين الآية بالسعي والمسابقة إلى المغفرة.
الخامسة: رجاء المسلم دخول الجنة بالعمل الصالح أو بشفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو بفضل الله عز وجل، وإكرامه تعالى للمسلمين الذين يتعاهدون كلمة التوحيد , قال تعالى[وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ]( ).
ومن يغفر له الله عز وجل ذنوبه ينجيه ويدفع ويرفع عنه عذاب البرزخ.
بحث نحوي
تأتي أل التعريف على وجوه:
الأول: آل العهدية: وتكون على أقسام وهي العهد الذكري كقوله تعالى[كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ] ( )، وأل العهد العلمي أو الذهني، وهي التي يتبادر فيها المراد من التعريف لرسوخه في الذهن، وتقدم العلم به نحو قوله تعالى[إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ]( ).
والعهد الحضوري التي التي يكون فيها موضوع التعريف موجوداً وحاضراً في الواقع الخارجي , كما في قوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]( ).
وأستدل على أل النائبة عن الإضافة بقوله تعالى[وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى]( )، بأن المراد من لفظ الهوى هواها، ولكن الآية أعم فالهوى أمر وفتنة قائمة بذاتها تجذب النفس الأمارة بالسوء.
وتشمل الآية أعلاه زجر المؤمن نفسه عن إتباع هوى غيره , وتحذيره من أهل الغواية ليكون هذا الزجر من مصاديق المسارعة إلى المغفرة والجنة الواسعة.
الثاني: أل الجنسية: وهي على شعب ثلاث:
الأولى: التي تأتي لبيان الحقيقة، والتي لا تنوب عنها كلمة (كل) مثل(الماء ممتنع عن التنجس) فإذا كان الماء أقل من كر( )، فانه ينجس بالملاقاة.
الثانية: التي تفيد إستغراق أفراد الجنس مثل(الرسول صاحب معجزة) فلا يخرج من هذا العموم بالتخصص أو التخصيص أحد الرسل.
الثالثة:اللام التي تفيد إستغراق الجنس على نحو المجاز والمبالغة كما لو قلت(العرب كرام).
وتقسيم لام التعريف إلى لام العهد والإستغراق تقسيم إستقرائي إستقرأه النحويون بمتابعة اللفظ والمعنى والعلقة بينهما.
ولكن ألفاظ القرآن أعم من تقسيمات علماء الإختصاص سواء في اللغة أو النحو أو الأصول أو البلاغة وغيرها.
بدليل لام التعريف في(السماء)في آية البحث التي تفيد معنى العهد وأنها السماء المعروفة والمعهودة عند الناس , وتفيد الإستغراق لأفراد جنس السموات السبع كلها , كما ورد بيانه في قوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]( ).
قوله تعالى[أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]
تتضمن الآية الإخبار الموضوعي والحكم والبشارة والوعد والإنذار، إذ تخبر الآية عن موضوع خلق الجنة، لبيان بديع صنع الله، وأن هناك عوالم مخلوقة لا تدركها أوهام البشر في الواقع الخارجي إلا يوم القيامة.
وفيه إعجاز للقرآن بالإخبار عن أمر لا تصل إليه العقول، ولا الحواس ولو بلحاظ العلوم التقنية المكتسبة.
أما الحكم ففي الآية تأكيد لتشريف المسلمين، وعظيم مقامهم عند الله عز وجل وأن هذه النعم محجوبة عن الكفار، ومنها نعمة الإخبار عن الجنة وسعتها وعرضها لأن الآية قيدت إختصاصها وأهلها وأنهم المتقون على نحو الحصر والتعيين، وفيه بعث للمسلمين لتعاهد الفرائض والعمل الصالح وأن بين التقوى ودخول الجنة ملازمة، والتفكيك بينهما من الممتنع.
وأما البشارة فان الآية تتضمن البشارة المتعددة للمسلمين والمسلمات من جهات:
الأولى: إمكان المغفرة من الله عز وجل، وأنها تنتظر المسلمين.
الثانية:لزوم مسارعة المسلمين لسبل المغفرة.
الثالثة:وجود عالم الثواب على نحو الحتم والقطع، وهو ليس أمراً مبهماً، بل معروفاً جلياً في ماهيته وسنخيته وهو جنة واسعة ليس لأبعادها ولا ثمارها من حد، قال تعالى[وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ] ( ).
وفي مسألة البشارة في الآية دلالة على حسن سمت المسلمين وتفقههم في الدين، لأن موضوعها وعد يلقونه في الآخرة فآمنوا وصدّقوا وحرصوا ويحرصون على المسارعة إليها.
ومن خصائص المسارعة أنها تطوي المسافات، وتقرب البعيد، ولكن الذي يسارع إليه المسلمون في عالم غير الدنيا، فلم يدب إليهم اليأس أو الشك أوالقنوط، بل هم مستمرون على المسارعة إلى الجنة، تلك المسارعة التي تتجلى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والفرائض الأخرى والتحلي بسنن التقوى، وهذا الإستمرار من فضل الله عز وجل على المسلمين، ومن أٍسباب هدايتهم إلى منازل التقوى , وفي التنزيل[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ).
أما الوعد فهو ظاهر في منطوق الآية، وهو من إعجاز القرآن بأن يتضمن الأمر الواجب بالمسارعة الوعد الكريم بالجزاء العظيم وفيه شاهد على سعة رحمة الله بالمؤمنين وأنه تعالى لطيف بهم يقربهم إلى العمل الصالح، ويدفعهم عن أسباب الزلل والضلالة .
فلما أغوى إبليس آدم وحواء في الجنة، وجعلهما يأكلان من الشجرة التي نهاهما الله عز وجل عنها كما في قوله تعالى[فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ] ( )، تفضل الله عز وجل وعصم المؤمنين من إغواء شياطين الإنس والجن بالأمر بالمسارعة إلى الجنة، وبيان سعتها، وما في هذا البيان من الوعد الكريم، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في رد الله عز وجل على الملائكة حينما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض، ليكون من علم الله عز وجل بلحاظ هذه الآية أمور:
الأول: بيان حقيقة وهي أن سعي وعمل الإنسان من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وأن مرتبة السعي إلى الجنة لم يترك الخيار فيها للإنسان، بل جاءت الآية بتعيينها بالسعي السريع المتصل الذي لا يتخلله إبطاء أو فتور أو كسل.
الثاني: علم الله عز وجل بتجلي المسارعة إلى المغفرة والجنة في أفعال المسلمين بإقامتهم للصلاة اليومية، وأدائهم للفرائض العبادية الأخرى.
وأما الإنذار فيدل عليه مفهوم الآية وهو متوجه إلى الكفار من وجوه:
الأول: بيان التباين في الآخرة بين المتقين والجاحدين في الآخرة.
الثاني: الوعيد بأن الجزاء في الآخرة مرآة لعالم الأفعال في الحياة الدنيا.
الثالث: بعث الحسرة والندامة في نفوس الكفار، وتدخل الآية الكريمة والوعيد للمسلمين فيها النفرة في النفوس مطلقاً من اللذات المحرمة، فيأتيها الكافر وهو غير راض عن نفسه، أما المسلم فإنه يزداد تنزهاً عنها.
وهل في الآية إنذار للمسلمين , الجواب لا، صحيح أنها تحذر من التخلف عن مراتب التقوى وأداء الوظائف العبادية، ولكنه لا يرقى إلى مرتبة الإنذار والوعيد ليس على القول بعدم إجتماع الضدين من البشارة والإنذار .
فهذه القاعدة متخلفة عن علوم القرآن أصلاً قبل ان تصل النوبة إلى التعدد الجهتي في دلالة الآية والتي تخرم هذه القاعدة , وتجعل الفرد الذي يتضمن الوعد في جهته غير الفرد الذي يتضمن الإنذار , ولكن الآية إكرام للمسلمين وإرشاد لهم ومن القوانين في المقام إقتران اللطف والمدد من الله بالأمر بما يقرب ويساعد المسلمين على الإمتثال للأمر والإنتفاع الأمثل منه .
وتحتمل الآية في موضوعها والمقصود من المتقين وجوهاً:
الأول: إرادة المسلمين الذين صدّقوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من زمن الصحابة وإلى يوم القيامة على التعيين والإختصاص.
الثاني: المراد هم المتقون في الأزمنة قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث: المقصود المتقون في جميع الأزمنة منذ خلق آدم وهبوطه الأرض.
والصحيح هو الثالث لإطلاق الآية ولعظيم فضل الله ولقوله تعالى[قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
والفارق بين الوجه الأول والأخير صغروي , لأن الأنبياء والمسلمين من الأمم السابقة يؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهي البشارة الخالدة في كل الأزمنة، وسر دوام الحياة، والصراط المستقيم الذي يؤدي إلى الجنة واللبث الدائم في النعيم[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
(بالإسناد عن عرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : إني عبد الله و خاتم النبيين و أبي( ) منجدل( ) في طينته ,وسأخبركم عن ذلك أنا دعوة أبي إبراهيم و بشارة عيسى و رؤيا أمي آمنة التي رأت , وكذلك أمهات النبيين يرين و أن أم رسول الله صلى الله عليه و سلم رأت حين وضعته له نورا أضاءت لها قصور الشام ثم تلا: يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn