المقدمـــــــــــة
الحمد لله فاطر السموات والأرض ، الذي له ملك السموات وما فيهن وما بينهن ، الحمد لله الذي جعل ملكها له وللخلائق كلها ملك تصرف مغلق ، وحاجاتها إليه في كل لحظة وآن من من آنات الزمان .
الحمد لله الذي أحاط بكل شئ علماً ، يعلم الموجود والمعدوم وما كان وما يكون .
الحمد لله الذي لا يعجزه إنس ولا جان من الأولين والآخرين وأقام عليهم الحجة في الليل والنهار .
الحمد لله اللطيف الذي يقرب الناس إلى طاعته ويقرب أسباب الطاعة إليهم ، ويبعدهم عن المعصيةة، ويبعدها عنهم ، كما ورد في قصة يوسف عليه السلام [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ) إذ تتضمن هذه الآية الإخبار عن تفضل الله بالبرهان لينج يوسف من الهم بالمعصية ، كما أن الله أمر السوء والفحشاء بالإنصراف عنه ، فلم تقل الآية وصرفنا ه عن السوء والفحشاء ، إنما قالت [لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ] لبيان استجابة ذات الأفعال لله عز وجل ، وهو مناسبة للمسلمين والمسلمات للدعاء لصرف السوء والقبائح عنهم ، ومن العصمة إمتناع المعصية .
الحمد لله بعدد ما سبح له ملائكة السماء والخلائق كلها مما نعلم تسبيحهم ومما لا نعلم تسبيحهم .
الحمد لله الذي أحصى كل شئ عدداً ، وجعل الخلائق كلها محتاجة إليه فرزقها من خزائنه التي لا تنفد ، ودانت له بالعربية المطلقة .
الحمد لله الذي أنزل القرآن [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ] ( ).
الحمد لله آناء الليل وأطراف النهار وفي سابق الزمان وما يأتي من السنين والأحقاب ، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ) ونسأل الله عز وجل أن يداول معها حمدنا وشكرنا له سبحانه وأن يكون حاضراً في كل زمان .
إذ نرجو أن يستمر شكرنا لله عز وجل بعد الممات ، فصحيح أن الإنسان أذ غادر الدنيا قامت قيامته وصار في عالم البرزخ الذي هو جزء من عالم الآخرة ، إلا أنه بالنسبة لأفراد الزمان مصاحب لأيام الحياة الدنيا ، فمن خصائص عالم البرزخ وجود أمم من الناس أحياء لم يزجوا من الدنيا ولم يدخلوا في عالم البرزخ متسأله تعالى لأن يكتب لنا الحمد والثناء بعددهم وبعد الحمد لله له يكون كل يوم وإلى يوم قيام الساعة ، وأن يتفضل ويجعل وجود هذا التفسير بين ظهرانيهم . حمداً منا له سبحانه على هذه النعمة العظيمة بالسياحة في عالم الذكر والتنزيل وعذوبة الألفاظ ، وعظمة المقاصد السامية وأسباب الهداية والصلاح للناس جميعاً .
الحمد لله في السراء وتوالي النعماء وصرف البلاء ، ومحو الأذى والضر ر ، والحمد لله في حال الصحة والمرض ، والرخاء والشدة .
الحمد لله الغفور الرحيم الذي يتفضل بالعفو والمغفرة وتوالي شأبيب الرحمة الظاهرة والخفية ليتجلى للإنسان يوم القيامة مصاديق عظيمة من رحمة الله عز وجل عليه في الدنيا ، قال تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] ( ).
وهل هذا التجلي من مصاديق رحة الله في الدنيا أم رحمته في الآخرة ، وحسب الحديث الوارد عن ( رسول الله {صلى الله عليه وسلم} : إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وأخّر تسعة وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة) ( ).
المختار أن هذا التجلي وكشف مصاديق رحمة الله عز وجل في الدنيا على العبد من مصاديق الرحمة في الدنيا وهو من رحمة الله في الآخرة .
الحمد لله الذي لا يقدر على إحصاء نعمه على أي إنسان إلا هو سبحانه , فلو اجتمعت الخلائق لإحصاء نعمه على الفرد الواحد من أهل الدنيا لعجزوا عن إحصائها لانها متتالية ومتداخلة , وشطر منها من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه , ومن مصاديق قوله تعالى [قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ]( ).
إذ يترتب على جهل الخلائق بأمر البعث أفراد من النعم على الناس عند البعث , ليكون من معاني قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ) أي وان تعدوا نعمة الله عز وجل قبل وبعد البعث على الفرد أو الجماعة لا تحصوها .
ومن خصائص عالم البرزخ أنه مناسبة لمضاعفة الحسنات وقبول الصدقة والعمل الصالح للحي ومجئ الثواب للميت سواء كان العمل الصالح لذات الفرد الحي أو هدية للميت , وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : (إِذَا مَاتَ الإِنسانُ انقطع عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاِتٍ : إِلاَّ مِنْ صَدَقَةَ جَارِيَةٍ ، أَوْ علْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ” فهذا دعاءُ الولدِ يصلُ إِلى والده ، وينتفعُ به ، وكذلك أمره عليه السلام بالسَّلاَمِ على أهْلِ القُبُورِ والدعاءِ لهمْ ما ذاك إِلا لكونِ ذلك الدعاءِ لهُمْ والسلام عليهمْ ، يصلُ إليهم ويأتيهم ، والله أعلم ، وروي عنه عليه السلام؛ أنه قال : ” لكون الميِّتُ في قَبْرِهِ كالغَرِيقِ يَنْتَظرُ دَعْوَةً تَلْحَقُهُ من ابْنِهِ أَو أَخِيهِ أو صَدِيقِهِ ، فَإِذَا لَحِقَتْهُ ، كَانَتْ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدَّنْيا وَمَا فِيهَا)( ).
الحمد لله على النعم التي استحضِرها وعلى النعم التي غابت عن خلدي وهي أضعاف مضاعفة مما أعلم بها , وما شكرت الله عز وجل عليها منها أقل بكثير مما فاتني الشكر عليها , فأسأله تعالى العفو وأن يحسبني شاكراَ له في السر والعلانية , وعلى كل نعمة ظاهرة وباطنة , الحمد لله على نعمة العقل والتمييز , والصبر في الكتابة والدرس والتدريس , والهداية إلى الفتوى بفضل منه تعالى فقد نشأنا على تلاوة [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) سبع عشرة مرة في اليوم , لتكون هذه الآية حرزا مصاحبا .
ومن فضل الله عز وجل الإستجابة وتوالي النعم على كل عبد من عباده , وكل من واظب على هذه التلاوة في الصلاة قربة إليه سبحانه.
ومن بديع صنع الله عز وجلوعظيم قدرته أن النعم التي تأتي لأي شخص , تختلف كماَ وكيفاَ عن النعم التي تأتي لغيره , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ] ( ).
وجاء العلم الحديث ليثبت أن لكل إنسان بصمة ( )خاصة به وهي نعمة عليه لا يعلمها إلا الله سبحانه .
الحمد لله الذي يحب ان يسمع العباد يشكرونه ، وإن تخلفوا عن الشكر فانه لا يؤاخذهم ولا يتركهم وشأنهم ، قال تعالى [أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى] ( ) إنما يتفضل الله بتذكريهم بلزوم شكره بتوالي ضروب النعم عليهم ، وتأتي النعمة لذات الإنسان فينتفع منها ، أو تأتي لغيره فيتعظ منها ، لتكون النعمة من فرائد قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) .
ومن مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ) الإنتفاع العام من النعمة التي يتفضل بها الله وأن كانت على نحو القضية الشخصية من وجوه :
الأول : إنتفاع المنعَم عليه .
الثاني : إنتفاع القريب والبعيد عنه .
الثالث : النعمة طريق وضياء للهدى والأمر بالمعروف وزاجر عن المنكر .
الرابع : إتخاذ النعمة موضوعاً للشكر لله عز وجل .
الخامس : إنتفاع الحي من النعم الظاهرة والباطنة .
السادس : إنتفاع الميت من النعمة ، وهو من مصاديق حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ( ).
وكل فرد من الأفراد الثلاثة أعلاه لا يتيسر للإنسان إلا بفضل من الله ، وفيه بعث على الصدقة والزكاة والخمس والعلم النافع ، واستحباب الزواج وطلب الولد والعناية بتربيته ، وتبعث آيات القرآن والسنة النبوية تبعث على هذه الأفراد الثلاثة ، وترغّب فيها ، وجاء الحديث أعلاه للسعي لبقائها بعد موت الإنسان كسبب لجني الصالحات .
الحمد لله الحليم الحكيم الذي يتجاوز عن السيئات ويعفو عن الخطيئات ولا يحبس عن الناس فضله وإحسانه بسبب إرتكابهم الذنوب ولا يحجبهم عن مسالك الرشاد ، ولا يعجل لهم العقاب في ذات الوقت الذي يعجل فيه الثواب للمؤمنين على فعل الصالحات .
ترى ماذا بالنسبة للذين [خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا] ( ) الجواب إنه سبحانه يرزق الإنسان على العمل الصالح ولا يعجل العقوبة والإنتقام على فعل المعصية فان قلت قد يكون هذا سبباً للتمادي في المعصية ، الجواب يستبقي الناس في الدنيا ثم البرزخ إلى بعث بعد الموت ويوم موعود وحضور الأعمال كلها بين يديه .
وفي التنزيل [اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا] ( ) .
الحمد لله الذي يصفح عن العصاة ويمهلهم ويمدّ في أعمارهم لعلهم يستغفرون الله ، فيمحو عنهم السيئات وهو الذي لا يعجزه شئ.
الحمد لله الذي يعلم بنية العبد بفعل معصية فيصرفها عنه ، ويدفعه بلطف عنها ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا] ( ).
فمن مصاديق ذكر اسم الحليم في الآية أعلاه أنه لو شاء لترك مقدمات المعصية ، تجتمع وتكتمل ولكنه سبحانه يقطعها ويزجرها .
الحمد لله رب العرش العظيم الذي يسمع كل صوت ، ويهب ويرزق بغير حساب ، وكتب لكل إنسان رزقه ، وعنده فضل غير الذي كتبه له من خزائنه التي لا تنفد .
الحمد لله أقصى مبلغ الحمد حباً له سبحانه ، واقراراً بربويته المطلقة ، ورجاء توالي إحسانه علينا وعلى المسلمين والناس جميعاً ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] ( ).
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار التراحم والتواد بين الناس بصلة النسب والمصاهرة ، والمعاملات ، وإخراج الحقوق الشرعية من الزكاة ونحوها ، وفرض الصلاة عبادة يومية يؤديها الرجال والنساء في وقت واحد لتنزل البركة على أهل الأرض ، وتخرج الأرض خزائنها ، ويمدّ الله عز وجل الناس بأسباب التمكين لتحقيق الغايات الحميدة ، وتيسير أسبابها ومقدماتها التي لا يحيط بها علماً ولا يقدر عليها إلا الله عز وجل ، لتدرك الملائكة والخلائق عظيم فضل الله على الناس مجتمعين ومتفرقين ، وعلى أهل الإيمان خاصة الذين هم أوتاد الأرض .
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمدرسة الكمالات الأخلاقية , والجذب إلى منازل الهدى والرشاد , وبيان أنها طريق اللبث الدائم في الجنان , وفيه كف للأذى , وعصمة لجوارح المؤمنين من ضروب الإرهاب , والإضرار بالذات والغير .
و(عن الحارث الأعور ، عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات ، ومن أشفق من النار لها عن الشهوات ، ومن ترقب الموت لها عن اللذات ، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب)( ).
وهناك تنافر بين الخيرات التي هي السبيل إلى الجنة وبين الإرهاب .
وقد أنعم الله عز وجل علينا بصدور هذا الجزء من (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) وهو الجزء الثالث بعد المائتين في إشراقة علمية ، وثورة قرآنية تبين قانوناً مصاحباً لأيام الحياة الدنيا وهو أن علوم القرآن من اللامحدود ، وتحث العلماء في هذا الجيل والأجيال اللاحقة على استخراج ذخائره .
وسيأتي في الجزء التالي قراءة في معنى البركة في قوله تعالى [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ] ( ) ولم يرد لفظ [لِيَدَّبَّرُوا] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وتضمن هذا الجزء موضوعات متعددة ووردعدد منها بخصوص قانون التضاد بين القرآن والإرهاب ، وبيان مسألة وهي أن الإسلام دين الرحمة والتسامح والعفو ونبذ الإرهاب الشخصي والنوعي ، وجاء القرآن والسنة بحرمة القتل والتفجير وسفك الدماء وإخافة الناس سواء في المدن أو السبل .
ومن القوانين التي يتضمنها هذا الجزء :
الأول : قانون من أدعية القرآن الكريم .
الثاني :قانون البشارة أكثر من الإنذار .
الثالث : قانون الأعتكاف .
الرابع : قانون الإحتراز المتعدد من وباء كورونا .
الخامس : قانون الدعاء سلاح في صد الوباء .
السادس : قانون التعاون لدفع الوباء .
السابع : قانون ارجاء الكتابة .
الثامن: قانون دفاع القرآن عن نفسه .
التاسع : قانون مقدمات لم يغزُ النبي (ص) أحداً .
العاشر : قانون الصبر فضيلة .
الحادي عشر : قانون الرد على شروط قريش سلام .
الثاني عشر : قانون وجوب دفن المسلم .
الثالث عشر : قانون الجوار في الإسلام .
الرابع عشر : قانون التضاد بين السنة النبوية والإرهاب .
هذا إلى جانب البحوث الفقهية والأصولية والمنطقية والنحوية من رشحات ذخائر القرآن ، وكنوز تفسيره .
وفي التنزيل [وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ] ( ).
حرر في
الثاني عشر من شهر رمضان 1441
6/5/2020
بحث منطقي
الدلالة لغة وقرآناً ومنطقاً
الدلالة في اللغة مصدر دله على الطريق يدله دلالة ، أي أرشده وهداه وسدده إليه.
والدليل : ما يستدل به ، وما يتوصل به إلى معرفة أمر ، ومنها دلالة الألفاظ على المعاني ، ودلالة الرموز , وحدود الحرم المكي , وإشارات المرور والكتابة .
وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ) ويسمى هذا العلم : علم الدلالة , وعلم المعنى ، والدلاليات والأول هو الأشهر .
ويدرس علم الدلالة معاني الكلمات والجمل والإرشادات وهو الرابط بين اللفظ والمعنى سواء كان متعلق اللفظ حقيقة أو مجازاً ، وعلم الدلالة مصاحب للإنسان ، ونطرح هنا مسألة وهي نشوء علم الدلالة في الجنة قبل أن يهبط آدم إلى الأرض لقوله تعالى [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( ).
والدلالة نوع مفاعلة بين :
الأول : الدال، الذي يدل على الطريق ، وقد لا يكون صادقاً في ارشاده وهو فرد نادر كما في ابليس وإغوائه لآدم [قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى] ( ).
فيبين لنا القرآن قانوناً وهو ليس كل دلالة تفيد الإرشاد والسداد ، فقد تكون مكراً وخبثاً .
لبيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الكفار عجزوا عن إغوائه ، وقد أرادوا منعه من تبليغ الرسالة وراودوا أبا طالب عدة مرات ليمنعه حتى أنهم عرضوا عليه أن يعطوه عمارة بن الوليد بن المغيرة أجمل فتيان قريش على أن يسلم لهم النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم .
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ قُرَيْشًا حِينَ عَرَفُوا أَنّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ أَبَى خِذْلَانَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَإِسْلَامَهُ وَإِجْمَاعَهُ لِفِرَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ وَعَدَاوَتِهِمْ مَشَوْا إلَيْهِ بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، قَالُوا لَهُ – فِيمَا بَلَغَنِي – :
يَا أَبَا طَالِبٍ هَذَا عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنْهَدُ( ) فَتًى فِي قُرَيْشٍ وَأَجْمَلُهُ فَخُذْهُ فَلَك عَقْلُهُ وَنَصْرُهُ وَاِتّخِذْهُ وَلَدًا فَهُوَ لَك ، وَأَسْلِمْ إلَيْنَا ابْنَ أَخِيك هَذَا ، وَفَرّقَ جَمَاعَةَ قَوْمِك ، وَسَفّهَ أَحْلَامَهُمْ فَنَقْتُلُهُ فَإِنّمَا هُوَ رَجُلٌ بِرَجُلِ .
فَقَالَ وَاَللّهِ لَبِئْسَ مَا تَسُومُونَنِي أَتُعْطُونَنِي ابْنَكُمْ أَغْذُوهُ لَكُمْ وَأُعْطِيكُمْ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ هَذَا وَاَللّهِ مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا .
قَالَ فَقَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ : وَاَللّهِ يَا أَبَا طَالِبٍ لَقَدْ أَنْصَفَك قَوْمُك ، وَجَهَدُوا عَلَى التّخَلّصِ مِمّا تَكْرَهُهُ فَمَا أَرَاك تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا .
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِلْمُطْعِمِ : وَاَللّهِ مَا أَنْصَفُونِي ، وَلَكِنّك قَدْ أَجْمَعْت خِذْلَانِي وَمُظَاهَرَةَ الْقَوْمِ عَلَيّ فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك أَوْ كَمَا قَالَ .
قَالَ فَحَقِبَ الْأَمْرُ وَحَمِيَتْ الْحَرْبُ , وَتَنَابَذَ الْقَوْمُ وَبَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا .
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ عِنْدَ ذَلِكَ – يُعَرّضُ بِالْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ – وَيَعُمّ مَنْ خَذَلَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَمَنْ عَادَاهُ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ ، وَيَذْكُرُ مَا سَأَلُوهُ وَمَا تَبَاعَدَ مِنْ أَمْرِهِمْ
أَلَا قُلْ لِعَمْرِو وَالْوَلِيدِ وَمُطْعِمٍ … أَلَا لَيْتَ حَظّي مِنْ حِيَاطَتِكُمْ بَكْرُ
مِنْ الْخُورِ حَبْحَابٌ كَثِيرٌ رُغَاؤُهُ … يُرَشّ عَلَى السّاقَيْنِ مِنْ بَوْلِهِ قَطْرُ
تَخَلّفَ خَلْفَ الْوِرْدِ لَيْسَ بِلَاحِقِ … إذَا مَا عَلَا الْفَيْفَاءَ قِيلَ لَهُ وَبْرُ
أَرَى أَخَوَيْنَا مِنْ أَبِينَا وَأُمّنَا … إذَا سُئِلَا قَالَا : إلَى غَيْرِنَا الْأَمْرُ
بَلَى لَهُمَا أَمْرٌ وَلَكِنْ تَجَرْجُمَا … كَمَا جَرْجَمَتْ مِنْ رَأْسِ ذِي عَلَقَ صَخْرُ
أَخُصّ خُصُوصًا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا … هُمَا نَبَذَانَا مِثْلَ مَا يُنْبَذُ الْجَمْرُ
هُمَا أَغْمَزَا لِلْقَوْمِ فِي أَخَوَيْهِمَا … فَقَدْ أَصْبَحَا مِنْهُمْ أَكُفّهُمَا صِفْرُ
وَتَيْمٌ وَمَخْزُومٌ وَزُهْرَةُ مِنْهُمْ … وَكَانُوا لَنَا مَوْلًى إذَا بُغِيَ النّصْرُ
فَوَاَللّهِ لَا تَنْفَكّ مِنّا عَدَاوَةٌ … لَا مِنْهُمْ مَا كَانَ مِنْ نَسْلِنَا شَفْرُ
فَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُهُمْ وَعُقُولُهُمْ … وَكَانُوا كَجَفْرِ بِئْسَ مَا صَنَعَتْ جَفْرُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتَيْنِ أَقْذَعَ فِيهِمَا .
وَذَكَرَ قَوْلَ الْمَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي طَالِبٍ هَذَا عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنْهَدُ فَتًى فِي قُرَيْشٍ ، وَأَجْمَلُهُ فَخُذْهُ مَكَانَ ابْنِ أَخِيك . أَنْهَدُ . أَيْ أَقْوَى وَأَجْلَدُ وَيُقَالُ فَرَسٌ نَهْدٌ لِلّذِي يَتَقَدّمُ الْخَيْلَ وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ التّقَدّمُ وَمِنْهُ يُقَالُ نَهَدَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ أَيْ بَرَزَ قُدُمًا .
وَعُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ هَذَا الْمَذْكُورُ هُوَ الّذِي أَرْسَلَتْهُ قُرَيْشٌ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَسُحِرَ هُنَاكَ وَجُنّ.
وَذَكَرُوا أَنّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ أَنْ يَأْخُذَ عُمَارَةَ بَدَلًا مِنْ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ : أَرَأَيْتُمْ نَاقَةً تَحِنّ إلَى غَيْرِ فَصِيلِهَا وَتَرْأَمُهُ لَا أُعْطِيكُمْ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ أَبَدًا ، وَآخُذُ ابْنَكُمْ أَكْفُلُهُ وَأَغْذُوهُ) ( ).
الثاني : البلغة وهي الإمارة أو العلامة التي هي وسيلة الدلالة ،وهي على شعبتين :
الأولى : لفظية .
الثانية : غير لفظية كالإشارة والخط والنقش ، وفي التنزيل [فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا] ( ).
وتأتي الدلالة عن قصد ،وهو الأكثر ، وقد تأتي من غير قصد ، كما في قوله تعالى [فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ] ( ) .
الثالث : المدلول : أو المدلول عليه ، وهو الشئ والأمر الذي يعلم به بواسطة الدلالة كالنار إذ يدل عليها الدخان ،والشهر ويدل عليه الهلال , وسمي الشهر لشهرته بالهلال , وبخصوص هلال شهر رمضان قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
الرابع : موضوع الدلالة هو رضاعة موسى عليه السلام إذ امتنع عن قبول المرضعات ،فحينما [وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا] ( ) خشية وحزناً على موسى بعثت أخته خلفه فأخذت تتحسس فعلمت أن جواري الملكة يبحثن عن مرضعة له , قالت[هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ] ( ) .
فامسكوا بها وقالوا لها أنت تعلمين أهل هذا الرضيع ، فأخبرينا فأنكرت , وقالت إنما أعرف أسرة تحب الملكة وتسعى لمساعدتها مشوا معها إلى أم موسى فارتضع منها .
الخامس : المدلول عليه ، وهو الشخص أو الطرف الآخر الذي تقع عليه الدلالة .
وفي قوله تعالى [فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ] ( ) فالدال هي أخت موسى ، والبلغة الإشارة وتعيين البيت.
والمدلول عليه أهل بيت أم موسى .
والمدلول له هم آل فرعون.
وهل يمكن أن يرد لفظ قرآني جامع لأقسام الدلالة الثلاثة المطابقة والتضمن والإلتزام ، الجواب نعم ، فقوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ) والمراد كل القرآن بالدلالة المطابقية ، والآية والسورة منه بالدلالة التضمنية ، ومعنى ودلالة ومفهوم الآية بالدلالة الإلتزامية .
وتقسم الدلالة الوضعية إلى ثلاثة أقسام:
الأول : الدلالة المطابقية ، وهي دلالة اللفظ على تمام المعنى الذي وضع له ، كدلالة لفظ السورة لجميع آياتها .
ومن المطابقية : دلالة النكاح على العقد والوطئ في قوله تعالى [فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ] ( ).
ولا تصل النوبة إلى هذا الإستدلال لظاهر الآية ولورود النص عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله حتى يذوق عسيلتها الثاني كما ذاقها الأول :
(عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثاً فتزوجت بعده رجلاً ، فطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته ) ( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في المطلقة التطليقة الثالثة قال : (فهي التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره وتذوق عسيلته ويذوق عسيلتها) ( ).
الثاني : الدلالة التضمنية ، وهي دلالة اللفظ على جزء المعنى الذي وضع له ، كدالة لفظ الركعة للركعة الكاملة من الصلاة والتي تتضمن :
أولاً : القيام .
ثانياً : القراءة .
ثالثاً : الركوع .
رابعاً : القيام من الركوع ، إذ يجب أن يؤتى السجود عن قيام .
خامساً : السجدتان .
سادساً : التسبيح .
الثالث : الدلالة الإلتزامية ، وهي التي يؤتى فيها بلفظ ملازم للمعنى على أن يكون السامع عالماً بالملازمة والصلة بين اللفظ والمعنى الآخر المقصود كدلالة ذكر الإحراق على النار .
ويمكن أن نضيف قسيماً رابعاً وهو : الدلالة الأعم والواسعة بأن يكون اللفظ أعم من المعنى ، مثلاً كما في قوله تعالى [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ) .
فالمراد هنا هو صلاة الصبح ، ولا يقرأ فيها القرآن كله إنما تقرأ الفاتحة وسورة ، وكذا بالنسبة للفجر ، فانه يستوعب ما بين الطلوعين نحو ساعة ونصف بينما تستغرق صلاة الصبح نحو خمس دقائق منه .
لبيان أن مضامين القرآن القدسية أعم من التقسيمات الاستقرائية سواء في علم النحو أو الأصول أو الكلام أو المنطق وغيرها .
قانون من أدعية القرآن الكريم
لقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (الدعاء مخ العبادة) ( )والتنزيل مدرسة الدعاء ، وفيه كنوز التوسل والتضرع إلى الله عز وجل ، وابتدأ القرآن بسورة الفاتحة وهي دعاء وثناء على الله عز وجل ومنه قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
ومن الدعاء في سورة البقرة [رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ] ( )ورد هذا الدعاء على لسان إبراهيم وإسماعيل عند رفعهما قواعد البيت الحرام لبيان الإقرار بأن السعي والبذل في سبيل الله إنما هو بفضل ولطف ومدد منه تعالى .
وهل يختص هذا الدعاء بابراهيم وإسماعيل عليهما السلام أو بذات السنخية العبادية من الفعل العبادي ، الجواب هو الثاني .
(عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أفطر قال : اللهم لك صمنا ، وعلى رزقك أفطرنا ، فتقبل منا أنك أنت السميع العليم .
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن الأعمش . أنه قرأ { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان ربنا تقبل منا })( ). ومن الأدعية المباركة التي جاءت باللجوء إلى الله ، والتوسل له بالتقرب إليه بالإقرار بالربوبية المطلقة له سبحانه لتبقى أدعية القرآن تأديبا وإرثا للمسلمين وخزائن للإنتفاع العام لهم ولغيرهم .
ولقد احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) خاصة وأن هذه الخلافة تستمر لمئات السنين , ويكون للناس مدتها التصرف بخيرات وذخائر الأرض والأنهار والبحار والجبال , والدواب بينما يفسد الإنسان فيها ويسفك الدماء , فجاء الجواب من عند الله عز وجل[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) لأن الدماء واقية من إشاعة الفساد ومن إستمرار الإرهاب أو ميل النفوس له .
ونأول كلام الملائكة ولأول مرة بأنه شفقة ورحمة بالناس , ورجاء تنزههم عن الفساد وسفك الدماء , كما أن قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) استجابة من الله عز وجل للملائكة بأن الفساد لا يطغى في الأرض , وأن القتل وسفك الدماء لن يستمر , وهذه الإستجابة على نحو الموجبة الجزئية , ومنها أن الله عز وجل فتح للناس باب الدعاء ليتم فضله عليهم , وينجو من يدعو الله عز وجل من الفساد , ويصرف عنه الضرر .
ومن أدعية القرآن :
الأولى : رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ) .
الثانية : رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ( ).
الثالثة : رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ( ) .
الرابعة : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ( ) .
الخامسة : رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( ) .
لبيان الذخائر والكنوز الكامنة في هذه الآية وحاجة وإنتفاع المسلمين الأمثل من مضامينها القدسية ، وفي حديث الإسراء قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فتقدمت وجبرئيل على أثري حتّى انتهى بي إلى حجاب فراس الذهب فحرك الحجاب. فقال : من ذا؟
قال : أنا جبرئيل ومعي محمّد. قال الملك : الله أكبر فأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملني وخلف جبرئيل فقلت له : إلى أين؟
قال : يا محمّد ومامنا إلاّ له مقام معلوم إن هذا منتهى الخلائق،
وإنما أذن لي في الدنو إلى الحجاب لاحترامك ولجلالك.
قال : فإنطلق بي الملك أسرع من طرفة عين إلى حجاب اللؤلؤ فحرك الحجاب. قال الملك : من وراء الحجاب : من هذا؟
قال : أنا صاحب فراس الذهب وهذا محمّد رسول العرب معي.
فقال الملك : الله اكبر وأخرج يده من تحت الحجاب فأحتملني حتّى وضعني بين يديه فلم أزل كذلك من حجاب إلى حجاب حتّى جاوزوا بي سبعين حجاباً غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام وما بين الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام،
ثمّ دلّى لي رفرف أخضر يغلب ضوءه ضوء الشمس فألتمع بصري ووضعت على ذلك الرفرف ثمّ إحتملني حتّى وصلني إلى العرش فلما رأيت العرش إتضح كل شيء عند العرش فقربني الله إلى سند العرش , وتدلى لي قطرة من العرش فوقف على لساني فماذاق الذائقون شيئاً قط أحلى منها فأنباني الله عزّ وجلّ بها نبأ الأولين والآخرين وأطلق الله لساني بعد ما كلّ من هيبة الرحمن،
فقلت : التحيات لله والصلوات الطيبات. فقال الله تعالى : سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته،
فقلت : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين،
فقال : يا محمّد هل تعلم فيم اختصم الملأ الأعلى؟
فقلت : أنت أعلم يارب بذلك وبكل شيء وأنت علام الغيوب. قال : اختلفوا في الدرجات والحسنات،
فهل تدري يا محمّد ما الدرجات وما الحسنات ؟
قلت : أنت أعلم يارب. قال : الدرجات إسباغ الوضوء في المكروهات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وإنتظار الصلوات بعد الصلاة والحسنات إفشاء السلم وإطعام الطعام والتهجد بالليل والناس نيام .
ثمّ قال : يا محمّد آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه؟
قلت : نعم أي رب. قال : ومن؟
قلت : والمؤمنين {كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَاكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}( ) كما فرقت اليهود والنصارى. فقال : ماذا قالوا؟
قلت : قالوا : سمعنا قولك وأطعنا أمرك. قال : صدقت فسل تعط. قال : فقلت : {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}( ) قال : قد غفرت لك ولأمتك سل تعطه؟
قلت : {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}( ) قال : قد فعلت ذلك بك وبأمتك. قلت ربنا {وَاعْفُ عَنَّا} من الخسف {وَاغْفِرْ لَنَآ} من القذف {وَارْحَمْنَآ} من المسخ {أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}( ) قال : قد فعلت ذلك لك ولأُمتك،
ثمّ قيل : لي سل.
فقلت : يارب إنك إتخذت إبراهيم خليلاً،
وكلمت موسى تكليماً،
ورفعت إدريس مكاناً علياً،
وآتيت سليمان ملكاً عظيماً،
وآتيت داود زبوراً،
فمالي يارب؟
قال ربي : يا محمّد اتخذتك خليلي كما اتخذت إبراهيم خليلاً وكلمتك كما كلمت موسى تكليماً وأعطيتك فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة وكانا من كنوز العرش ولم أعطها نبياً قبلك،
وأرسلتك إلى أهل الأرض جميعاً أبيضهم وأسودهم وإنسهم وجنّهم ولم أرسل إلى جماعتهم نبياً قبلك وجعلت الارض كلها برّها وبحرها طهوراً ومسجداً لك ولأمتك وأطعمتك وأمتك الفيء ولم أطعمه أمة قبلهم ونصرتك بالرعب على عدوك مسيرة شهر،
وأنزلت عليك سيد الكتب كلها ومهيمناً عليها قرآناً فرقناه ورفعت لك ذكرك فتذكر كلما ذكرت في شرائع ديني،
وأعطيتك مكان التوراة المثاني , ومكان الانجيل المبين , ومكان الزبور الحواميم .
وفضلتك بالمفصّل وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك وجعلت أمتك [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) وجعلتهم أمة وسطاً وجعلتهم الأولين وهم الآخرون فخذ ما أتيتك وكن من الشاكرين) ( ).
السادسة :رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ( ) .
السابعة : رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( ) .
الثامنة : رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ( ) .
اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ) .
التاسعة : رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ( ) .
العاشرة : ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( ) .
الحادية عشرة :رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ( ) .
الثانية عشرة : رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( ) .
الثالثة عشرة : رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ( ).
الرابعة عشرة : رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( )
الخامسة عشرة : رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ( )
السادسة عشرة : رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ) .
السابعة عشرة : رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ) .
الثامنة عشرة :وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ( ) .
التاسعة عشرة : رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ( ) .
العشرون :عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ( ) * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( )
الحادية والعشرون : رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ( ) .
الثانية والعشرون : رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ( ).
الثالثة والعشرون : رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ( ) .
الرابعة والعشرون : رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا( ) .
الخامسة والعشرون : رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ( ) .
السادسة والعشرون : رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ) .
السابعة والعشرون : رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ( ) .
الثامنة والعشرون : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ) .
التاسعة والعشرون : رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( ) .
الثلاثون : رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( ) .
الوصايا العشر في التوراة
وهي مجموعة قوانين تضبط العقيدة والعمل موجهة إلى موسى عليه السلام وهي على وجهين :
الأول : الوصايا التي تنظم الصلة مع الله عز وجل وهي الأربعة الأولى أدناه .
الثاني : الوصايا التي تبين السلوك والآداب والصلات العامة وهي الستة الأخيرة أدناه .
وهذه الوصايا هي :
الأولى : لا يكن لك آلهة أخرى أمامي( ).
الثانية : (لا تصنع لك تمثالا منحوتا و لا صورة ما مما في السماء من فوق و ما في الارض من تحت و ما في الماء من تحت الارض.
لا تسجد لهن ولا تعبدهن لاني انا الرب الهك اله غيور افتقد ذنوب الاباء في الابناء في الجيل الثالث و الرابع من مبغضي) ( ).
وتنهى هذه الوصية عن صنع تمثال للنبي أو غيره يقدس ويعبد من دون الله , ولوصنع مثل هذا التمثال فلا يسجد له ولا يتخذ إلهاً , لدلالة (لا تسجد لهن) على فرض صناعة هذه التماثيل أو الصور وهي أمر واقع , وتتضمن هذه الوصية الوعيد للذين كفروا , والوعد الكريم للذي يتعاهد العمل بأحكام الشريعة.
ومن الإعجاز في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ) أنها تخاطب الذين سألوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتي بقربان تأكله النار بأنهم قتلوا أنبياء جاءوا بذات آية قربان النار مع أنه ليس من نبي في زمانهم غير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , لبيان مسألة وهي أن بعض آباءهم في الأجيال السابقة قد قاموا بقتل الأنبياء أو أنهم ليسوا آباءهم ولكن ذات النهج من إنكار النبوة يجمع بينهم .
وهل يحتمل أن قوما سألوا بعض الأنبياء آية البرهان ثم قتلوه مع مجيئه بذات الآية , الجواب نعم .
الثالثة : لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا لإن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلا( ), وهل تدل هذه الوصية على لزوم تقديس لفظ الجلالة , وإكرام مقام الربوبية , واجتناب اليمين الكاذبة والإفتراء على الله عز وجل , الجواب نعم .
وجاءت آية البحث لتحذر من إدعاء عهد القربان بين الله عز وجل وبين الناس , فيما يخص كل رسول .
الرابعة :اذكر يوم السبت لتقدسه( ).
ووالضمير الهاء في لتقدسه يعود لله عز وجل .
وهذه الوصية تحث على العمل في أيام الأسبوع عدا السبت الذي يكون يوم تعطيل لقصد العبادة , وبالتعيين بأنها عبادة لله عز وجل لمنع الشرك والضلالة .
الخامسة : أكرم أباك وأمك لكي تطول ايامك على الارض التي يعطيك الرب الهك( ) وهذه الوصية في الآداب والصلات العامة وجاءت لتأكيد بر الوالدين .
ومن إعجاز القرآن تعدد الآيات التي توجب إكرام الوالدين والعناية بهما واجتناب إيذائهما , قال تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ]( ).
وقال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا]( ).
إلى جانب الأحاديث النبوية الكثيرة في بر الوالدين حتى جعلته مقدماَ على الدفاع بلحاظ أن الأخير واجب كفائي .
السادسة : لا تقتل( ).
وتنهى هذه الوصية عن القتل مطلقاً , سواء كان من ذات ملة بني إسرائيل أم من غيرها , وجاء القرآن بالنهي والقتل , وحكم القصاص , قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ) وبالإخبار عن قتل قابيل بن آدم لأخيه هابيل , ليجعل الله عز وجل هذه الواقعة سبباً لتشريع حرمة القتل على بني إسرائيل , قال تعالى [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا]( ).
السابعة : لا تزن( ).
لبيان حرمة الزنا والجماع خارج عقد الزوجية , ولا تختص هذه الوصايا بالرجال بل تشمل النساء أيضاً .
الثامنة : لا تسرق( ).
لمنع التعدي على أموال الآخرين غلبة وخلسة , وجاء الإسلام بحق التملك لكل إنسان , مع حرمة السرقة مطلقاً وترتب العقوبة عليها , قال تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاًمِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
و(عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وآلهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَلَا أُخْبِرُكُمْ مَنْ الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)( ).
ومع أن الأحكام تأتي بصيغة التذكير , ويراد منها عموم المكلفين ذكوراً وأناثاً إلا أن آية السرقة ذكرت السارق السارقة على نحو التعيين , لبيان أن عقوبة السرقة شاملة للرجال والمرأة , وفيه زجر للنساء عن السرقة خاصة وأنهن يدخلن البيوت ويطلعن على الأسرار , ومخابئ المال والحاجات .
التاسعة : لا تشهد على قريبك شهادة زور( ).
للمنع من شهادة الزور , ونزلت آيات متعددة من القرآن تتضمن النهي عن شهادة الزور , قال تعالى [فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ]( ).
[وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا]( ).
و(عن أبي بكرة قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟
قلنا : بلى يا رسول الله .
قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وكان متكئاً فجلس فقال : ألا وقول الزور.
ألا وشهادة الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت)( ).
وجاء الإسلام بحرمة شهادة الزور مطلقاً سواء على القريب أو البعيد , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
العاشرة : لا تشته بيت قريبك , لا تشته امراة قريبك و لا عبده و لا امته و لا ثوره و لا حماره و لا شيئا مما لقريبك( ).
لمنع الرغبة النفسية بما يملك الغير , فقد تؤدي هذه الرغبة إلى البطش أو الغلبة أو السرقة والغدر , وتنمي الحسد في النفس .
وقيدته الوصية بالقريب ولا تنحصر وصايا وأحكام التوراة بهذه الوصايا العشرة فمثلاً ورد فيها بيان قبح الخمر والمسكر .
وفي سفر الأمثال (اعطوا مسكرا لهالك و خمرا لمري النفس) ( ).
, وذات الأمر ورد في الإنجيل .
ففي سفر هوشع : الزنى و الخمر و السلافة( ) تخلب القلب( ).
(وعن ابن عمرو .
أنه سئل عن الخمر فقال : سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال : هي أكبر الكبائر ، وأم الفواحش ، من شرب الخمر ترك الصلاة ، ووقع على أمه وخالته وعمته)( ).
(الخمر مستهزئة المسكر عجاج و من يترنح بهما فليس بحكيم) ( ).
وورد ذم الخمر والتحذير منه في نصوص كثيرة من التوراة .
ووردت في الإنجيل وصايا تحذر من الخمر , وتبين مساوئه منها :
- إن كان أحد سكيراً , (لا تخالطوا و لا تؤاكلوا مثل هذا)( ).
- (و لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح) ( ).
- (لانه يجب ان يكون الاسقف بلا لوم كوكيل الله غير معجب بنفسه و لا غضوب و لا مدمن الخمر و لا ضراب و لا طامع في الربح القبيح
- بل مضيفا للغرباء محبا للخير متعقلا بارا ورعا ضابطا لنفسه
- ملازما للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم لكي يكون قادرا ان يعظ بالتعليم الصحيح و يوبخ المناقضين) ( ).
وجاءت آية من القرآن بذات المضمون إذ قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ] ( ).
إلا أن الجمع بين آيات القرآن الخاصة بالخمر تفيد النهي عنه وحرمته , وبه جاءت السنة النبوية الشريفة .
ومن مصاديق تأريخ الأديان ووجوه الإتفاق فيها قوله تعالى [مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ]( ) .
قانون البشارة أكثر من الإنذار
من خصائص الكتب السماوية تضمنها للبشارة والإنذار , وليس من نبي إلا وجاء بهما مجتمعين ومتفرقين , قال تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ) .
وتحتمل المقارنة بينهما من جهة الكم وجوهاً :
الأول : التساوي بين البشارة والإنذار اللذين جاء بهما الأنبياء .
الثاني : آيات البشارة أكثر من آيات الإنذار .
الثالث : آيات الإنذار أكثر من آيات البشارة .
الرابع : التباين والتفصيل , فمن الرسل من كانت البشارة أكثر في رسالته , ومنهم من تساوى الطرفان فيها , ومنهم من كانت آيات الإنذار هي الأكثر .
ونجد الإجابة في القرآن لوجوه :
الأول : عمومات قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( ).
الثاني : تقديم البشارة على الإنذار في الإخبار عن رسالة الأنبياء , قال تعالى [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا] ( ).
الثالث : إخبار القرآن عن كون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مبشراً ونذيراً, قال تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
الرابع : رحمة الله عز وجل بالتلطف والتيسير للناس , وتقديم البشارة وكثرة آياتها خاصة بعد الهجرة إلى المدينة .
الخامس : شمول البشارات من القرآن لأمور الدين والدنيا .
السادس : ترغيب الناس بالإيمان , وتحمل التكاليف العبادية .
السابع : من آيات البشارة بيان منافع الإستغفار , والدعاء , ومنع اليأس من الدبيب إلى نفوس المؤمنين , قال تعالى [وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزيِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ]( ).
الثامن : إبتلاء الذين لم ينصتوا إلى آيات الإنذار .
وفي قوله تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ]( ).
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها)( ) أي لم يتفكر بها , ولم يتعظ منها .
التاسع : بيان الحاجة إلى إحصاء الآيات التي تبشر بالجنة وذكر نعيمها , والآيات التي تنذر من النار وشدة عذابها .
العاشر : لقد جعل الله عز وجل القرآن سالماً من التحريف والزيادة والنقيصة , وهو بين أيدي العلماء والباحثين والناس جميعاً , وبالإمكان احصاء كل من :
الأولى : آيات البشارة .
الثانية : الآيات الجامعة للبشارة والإنذار , ويدخل فيها أيضاً بيان رجحان كفة البشارة أو الرجحان في ذات الآية الكريمة , وفي التنزيل [وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ]( ).
الثالثة : آيات الإنذار والزجر والتخويف .
النسبة بين الفيء والنفل والغنيمة
الفئ لغة هو الزيادة ، ومنه صلاة النافلة ، وفي الإصطلاح هو الذي أخذه المسلمون من مال الكفار المحاربين ولكن من غير قتال ، قال تعالى [مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ) وقال المطلبي (وأمّا الفيء فإنّه كان يقسّم على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على خمسة وعشرين سهماً : أربعة أخماسها،
وهي عشرون سهماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل بها ما شاء ويحكم فيها ما أراد، والخمس الباقي يقسّم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة.) ( ).
وهو المنقول عن الشافعي أي يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم واحد وعشرون سهماً من مجموع خمسة وعشرين سهماً ، كما نقلها عنه الشيخ الطوسي في الخلاف .
وأما الغنيمة فهي ما أخذ من الكفار المحاربين بالقوة والقتال ، وهي على شعبتين :
الأولى : ما تكون في القتال والدفاع كما في معركة بدر ، وفي معركة حنين في شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة الموافق سنة(630)ميلادية ، وحنين واد يبعد عن مكة (27) كم من جهة عرفات، جاءت غنائم كثيرة يومئذ ، وهي أربعة وعشرون ألف بعير وأكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية فضّة إذ أن مالك بن عوف رئيس هوازن حارب الله ورسوله واضله الله إذ سار بعشرين ألف رجل .
ولم يتعظ من معجزة فتح مكة ، وحمل معه النساء والصبيان والأموال والأنعام ، وكان عدد المسلمين اثني عشر ألف رجل ومنهم مسلموا الفتح [والمؤلفة قلوبهم] فانتصر المسلمون بمدد من عند الله ، فوقع في السبي ستة آلاف من النساء والذراري ، أعادهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم , مما يدل على أنه وأصحابه لا يطمعون بالمال والجواري .
وتقسم الغنائم إلى خمسة أقسام أربعة للمقاتلين ، وواحد يقسم ستة أسهم ثلاثة للإمام وثلاثة لأيتام ومساكين وابناء سبيل آل محمد .
الثانية : ما يستفيده الإنسان من أرباح التجارات والمكاسب والصنايع ، (واستدل بقوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) عام في جميع ذلك، فمن خصصه فعليه الدلالة) ( ).
فانها تخمس فاربعة أخماسها للمقاتلين والخمس الباقي لبيت مال المسلمين [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وقال مالك أن القسمة في أمر الغنيمة مفوض أمرها إلى الإمام حسب مصلحة الأمة ، وقال الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما أن حصة بيت المال من الغنيمة هو خمس الخمس وهو سهم المصالح ، اي يكون بنسبة 4% من المجموع ، أما الباقي فهو على ما جاء في سورة الأنفال [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) .
وسهم ذي القربى هم بنو هاشم وبنو المطلب ، وذكر اسم الله بقوله تعالى [فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ] تبركاً ، أما الحنفية فقالوا بان القسمة تكون على ثلاثة أسهم :
الأول : سهم اليتامى .
الثاني : سهم المساكين .
الثالث : سهم أبناء السبيل .
وان اسم الله ذكر للبركة ، أما سهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد سقط بعد موته ، لأنه يأخذ بصفة الرسالة وليس بصفة الإمامة ، وكذا سهم ذوي القربى فانهم كانوا يأخذونه أيام النبوة بنصرتهم للرسول وبعد وفاته بالنفر فانقطعت النصرة ، ولم يرد اسم الله للبركة وحدها .
وفي رواية أبي العالية : كان رسول الله يجعل سهم الله للكعبة (عن عطاء في قوله [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ] ( )قال خمس الله وخمس رسوله واحد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحمل منه , ويعطي منه , ويضعه حيث شاء ويصنع به ما شاء) ( ).
ولم ينقطع سهم الرسول وسهم ذوي القربى ، فسهم الله بما فيه تعظيم الشعائر ، ومنها قوله تعالى [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا] ( ) .
وفي روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام أن الخمس يقسم على ستة أسهم بحسب الآية الكريمة ، ويكون سهم الله وسهم رسوله وذي القربى للإمام بلحاظ العنوان يضعه حيث يشاء وفق المصلحة ، أما الأسهم الثلاثة الأخرى فهي لإيتام ومساكين وأبناء سبيل بني هاشم وبني المطلب .
وقد ورد في كتب وعهود النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على أن الخمس من الغنائم التي هي بمعنى مكاسب (عن يزيد بن الشخير قال بينا أنا مع مطرف بالمربد إذ دخل رجل معه قطعة أديم فقال كتب لي هذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فهل أحد منكم يقرأ قلت أنا أقرأ فإذا فيها من محمد لبني زهير بن أقيس أنهم إن شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وفارقوا المشركين , وأدوا الخمس من غنائمهم , وسهم النبي وصفيه , فإنهم آمنون بأمان الله ورسوله) ( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (في الركاز الخمس) ( ).
ولابد من الرجوع إلى كتب اللغة ومعنى الغنيمة فيها وإلى السيرة : ويقال غنم الشئ أي فاز به وربحه ، وهو عكس غرم ، لذا قيل الغُنم بالغُرم أي الذي يفوز بالمغنم يتحمل ما فيه من غرم .
وغنم في الحرب أي ظفر بمال عدوه ، والغنائم : جمع غنيمة، ومنها ما استولى عليه من أموال الكفار والمحاربين قهراً حين القتال (كانت العرب إذا غزت أخذ رئيسُهم رُبْعَ الغنيمةِ، وقَسَمَ بينهم ما بقي. قال:
لك المِرباعُ منها والصّفايا … وحُكْمُكَ والنَّشيطةُ والفُضولُ) ( ).
وفي القرآن سورة باسم سورة الأنفال ونزلت في المدينة ، وعدد آياتها ست وسبعون آية مع البسملة ، إذ جاء بعدها قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) وعدد حروفها مع البسملة (6318) حرفاً ، ومن دون البسملة (5299) حرفاً ووقع الخلاف في عدد كلماتها وحروفها على أقوال متعددة .
وورد لفظ (الأنفال ) في القرآن مرتين ، في أول آية من سورة الأنفال وكأنه يشير إلى أن مسألة الأنفال مؤقتة ولن تستمر إذ تسود أحكام الشريعة والصلح والوئام بين الناس، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ).
وسورة الأنفال هي الثامنة حسب ترتيب نظم المصحف ، أما من جهة أوان النزول فهي الثانية نزولاً في المدينة بعد سورة البقرة ، وقيل الثالثة أي بعد سورة البقرة وآل عمران ، إذ نزلت بعد معركة بدر ، وانتصار المسلمين فيها ، لذا تسمى سورة الأنفال سورة بدر .
(عن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم بدر قتل أخي عمير ، وقتلت سعيد بن العاصي وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيعة .
فأتيت به النبي فقال: اذهب فاطرحه في القبض .
فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي ، فما جاوزت إلا يسيراً حتى نزلت سورة الأنفال .
فقال لي رسول الله : اذهب فخذ سيفك) ( ) .
وكان أخو سعد بن أبي وقاص الآخر وهو عتبة بن أبي وقاص مع جيش المشركين يوم معركة أحد وهو الذي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجرح شفته (ومن ثم لم يولد له ولد من نسله فيبلغ الحنث، إلا وهو أبخر( ) أو أهشَمُ، أي: مكسور الثنايا من أصلها يعرف ذلك في عقبه) ( ).
(عن معمر عن الزهري عن عثمان الجزري عن مقسم أن عتبة لما كسر رباعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا عليه ألا يحول عليه الحول حتى يموت كافراً فما حال عليه الحول حتى مات كافراً إلى النار ثم أورده من وجه آخر عن سعيد بن المسيب نحوه) ( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: كل مال لا مولى له ولا ورثة فهو من أهل هذه الآية ” يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول “( ). وفى رواية ابن سنان قال عليه السلام: هي القرية قد جلى أهلها وهلكوا، فخرجت فهي لله وللرسول.
وقال: هي كل أرض جلى أهلها من غير أن يحمل عليهم خيل ولاركاب، فهي نفل لله وللرسول.
وفي رواية: (ومنها البحرين لم يوجف بخيل ولاركاب) ( ).
والنسبة بينها على وجوه :
الأول : النسبة بين الفئ والنفل ، وهي على شعبتين :
الأولى : نسبة العموم والخصوص المطلق ، كما إذا نفل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد أصحابه من الفئ .
الثانية : نسبة التباين ، كما إذا نفل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدهم من مال من غير الفيء .
والمختار التفصيل بين الأنفال التي تأتي للمسلمين والنفل الذي يعطيه وينفله النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ترغيباً وتحريضاَ ، واستجابة لسؤال وجزاء ونحوه .
وهل هذه النفل من عمومات الوحي ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) والأنفال التي ذكرت في القرآن هي التي تأتي للمسلمين ، أما النفل الذي يعطيه النبي والإمام والخليفة والحاكم فهو أمر آخر قد يكون من الأنفال أو لا يكون منها .
الثاني : النسبة بين الغنيمة والنفل هي ذات شعبتي النسبة بين الفيء والنفل أعلاه .
الثالث : النسبة بين الفئ والغنيمة هي : العموم والخصوص من وجه , فهناك مادة للإلتقاء وهي ورود كل من الفيء والغنيمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , أما مادة الإفتراق فهي التباين الموضوعي بينهما .
الرابع : النسبة بين الأنفال والغنيمة ، المختار نسبة العموم والخصوص المطلق فالغنيمة أعم .
الخامس : النسبة بين الأنفال والنفل ، على شعبتين :
الأولى : العموم والخصوص المطلق ، فالنفل فرع الأنفال وشعبة منه .
الثانية : نسبة التباين ، فقد يكون النفل والهبة التي يعطيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست من الأنفال .
السادس : النسبة بين الأنفال والفيء هي العموم والخصوص المطلق ، فالفيء شعبة من الأنفال ، فقد تأتي الأنفال عن دفاع وقتال ، أما الفيء فهو الذي يأتي من غير قتال.
و(عن بعض ولد محمد بن أَبي سلمة قال: بَقِيت بقيةٌ من أَهل خَيْبَر تحصّنوا فسأَلوا رسول صلى الله عليه وآله وسلم أَن يَحْقِنَ دمَاءَهم ويسيرهم، ففعل، فسمع. بذلك أَهل فَدَك، فنزلوا على مثل ذلك، فكانت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم خالصة، لأنه لم يُوجِف عليها بخيل ولا ركاب) ( ).
وقد يضاف النفل لبعض أصحابه بعد تقسيم الغنيمة ليكون زيادة على سهمه من الغنيمة وقد ينفل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض أصحابه من مال بيده أو يقطعه ارضاً أو يقترض ويهب ، ولكن حينما يرد لفظ (الأنفال) في الإصطلاح القرآني وقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ] ( ) فانه يحتمل وجوهاً :
الأول : ما شذ من الكفار وصار إلى المؤمنين وأخذ بغير حرب مثل الفرس والبعير ، فتكون الأنفال هي نفسها الفيء , وقوله تعالى [وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ] ( ).
الثاني : المراد من الأنفال الخمس ، وبه قال مالك .
الثالث : المراد به خمس الخمس .
الرابع : المقصود به الغنيمة كلها ، ونسب إلى ابن عباس ومجاهد .
الخامس : المراد الذي يعطى للسرايا والأفراد زيادة على قسمهم مع بقية الجيش لما ورد في أسباب النزول عن سعد بن أبي وقاص (وقال أبو (أُميّة) مالك بن ربيعة : أصبت سيف ابن زيد يوم بدر وكان السيف يُدعى المرزبان .
فلمّا نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس أن يردّوا ما في أيديهم من النفل فأقبلت به وألقيته في النفل وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يمنع شيئاً يسأله , فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي , فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاه إيّاه) ( ).
(عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية إلى نجد فبلغت سهمانهم اثنى عشر بعيرا ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعيرا بعيرا.) ( ).
ويحتمل النفل وجوهاً :
الأول : يعطي الإمام النفل لمن يشاء من رأس الغنيمة قبل القسمة وقبل إخراج الخمس .
الثاني : يعطى النفل من الأربعة أخماس .
الثالث : النفل من الخمس الذي ورد في قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) .
ومن إعجاز القرآن بيان آية الأنفال [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) لقوانين متعددة مع قلة كلماتها وهي :
الأول : قانون توجه المسلمين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال وهم يعلمون أنه لا يجيبهم إلا عن الوحي .
ويدل سؤالهم لهم بخصوص الغنيمة أنهم لم يأخذوا منها .
وهو شاهد على انتفاء الطمع وحب الدنيا عندهم ، وأنهم مستعدون لقبول أي حكم ، لذا جاءت آيات القرآن والسنة النبوية بالتحذير من الغلول ، قال تعالى وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
الثاني : قانون لزوم تنزيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الغل والأخذ من المكاسب وإخفاء بعض الأنفال ، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] ( ).
وورد في الآية أعلاه عن ابن عباس قال (وما كان لنبي أن يغل”، قال: كان ذلك في قطيفة حمراء فقدت في غزوة بدر، فقال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:”فلعل النبي أخذها”! فأنزل الله عز وجل:”وما كان لنبي أن يغُل”)( ).
الثالث : قانون الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إجتناب الغل والسرقة والأخذ من الغنائم والأنفال من غير إذن ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
الرابع : قانون تفضل الله عز وجل بالإجابة على أسئلة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وصيرورة هذه الإجابة قانوناً يحكم عمل أجيالهم المتعاقبة إلى يوم القيامة ، وهل هذه الإجابة من مصاديق ما أتى به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ) الجواب نعم .
الخامس : قانون البيان والتعيين في الأنفال ، بأنها لله والرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه منع للخلاف والخصومة وتنزيه من الطمع.
السادس : قانون الرضا بحكم الله عز وجل في باب الأموال وقسمتها.
السابع : قانون تقديم التقوى على الغنائم ، والكسب عند الخروج في الكتائب والسرايا ، ومقدمات هذا الخروج لقوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ] وإذ تكون الغنائم محصورة في وقائع محددة ، وباشخاص الذين يخرجون في الكتائب فان التقوى حاجة ملازمة لكل مسلم ، وإذ يسقط القتال عن المرأة فان التقوى لا تسقط عنها ، لذا فان قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ] الوارد في آية البحث شامل للمسلمين والمسلمات ، وفيه زجر لعيال الصحابي من الطمع في الغنائم .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ] البعث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
الثامن : قانون وجوب طاعة الله عز وجل وطاع رسوله ، ولم تذكر الآية اسم الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن القرينة القولية ونظم الآية يدلان على إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخصوص ، لورود فعل الأمر [أطيعوا ] الذي يلزم الحال والإستدامة ،وليس من رسول أيام نزول القرآن إلا الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل يختص موضوع الطاعة في الآية بخصوص الأنفال ومقدماتها وجمعها وتوزيعها ، الجواب لا ، فالآية أعم لأصالة الإطلاق ، نعم منه الإستعداد للتهيئ لطاعة الرسول فيما يهبه من الأنفال وما يعيده منها ، ومن مجموع الغنائم للذين أخذت منهم ، أو منحها إلى المؤلفة قلوبهم ،وإلى المنافقين ، ويتجلى مصداق الإمتثال لطاعة الله ورسوله في معركة حنين في آية الصدقات بقبول المسلمين بها , قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ) إذ أعطى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعدد من المؤلفة قلوبهم , كل واحد منهم مائة ناقة .
وتحتمل النسبة بين الغنائم والأنفال وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي وأن الغنائم هي نفسها الأنفال .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الغنائم أعم من الأنفال .
الثانية : الأنفال أعم من الغنائم .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، وأن هناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الرابع : نسبة التباين والإختلاف بينهما .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثاني أعلاه ، وان الأنفال أعم فتشمل الغنائم وما يأتي من طرف المشركين وغيره (والنَفَلُ بالتحريك: الغنيمةُ، والجمع الأنفالُ. قال لبيد:
إنَّ تَقْوى رَبِّنا خيرُ نَفَلْ
تقول منه: نَفَّلْتُكَ تنفيلاً، أي أعطيتك نَفَلاً. والتَنَفُّلُ: التَطَوُّعُ. والنَفَلُ أيضاً: نَبْتٌ. ويقال لثلاثِ ليالٍ من الشهر: نُفَلٌ، وهي بعد الغُرَرِ. والنَوْفَلُ: البحرُ. والنَوْفَلُ أيضاً: الرجل الكثير العطاءِ) ( ) .
والمراد من الغل الخيانة في الغنيمة .
ومن موضوع نزول الآية أعلاه أن المسلمين يوم أٌحد انشغلوا بالنهب والغارة ، وترك الرماة مواضعهم طمعاً بالغنيمة وخشية فواتها ، وظنوا أن الذي يأخذ شيئاً يملكه ، ولا تقع القسمة في الغنائم ، فنزلت الآية .
(روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : لأَعرِفَنّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يَأْتِي عَلَى عُنقِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ ، فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ : لاَ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله شَيْئاً) ( ).
وهناك وجوه :
الأول : تفضل الله عز وجل بالإجابة عن سؤال المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الأنفال ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : سؤال المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه شاهد على تفقههم في الدين ، وإرادة إجتناب الخلاف والخصومة بينهم ، وقيل كانت الأنفال (حراماً على من كان قبلهم، فأحلها الله لهم.
وقيل أيضا: إنه صلى الله عليه وسلم نَفَّل في السَّرايا، فكرهوا ذلك.
والتأويل : كما أخرجك ربُّك من بيتك بالحقّ وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون، كذلك تُنَفّل من رأيت وإن كرهوا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم جعل لكل من أتى بأسير شيئاً؛ فقال بعض أصحابه: يبقى آخر الناس بغير شيء.).( ).
الثانية : سماع الله عز وجل لسؤال المسلمين وتلطفه بتوثيقه في القرآن ، ليكون من الإعجاز التذكير بقانون : سماع الله عز وجل لكل قول وكلام يصدر من الناس مجتمعين ومتفرقين ، وأنه سبحانه يجعل الذين يشتركون في قول مخصوص في نظم واحد ، وإن كانوا متفرقين في المنتديات ومحال سكناهم وأيامهم في الحياة الدنيا ، وفي التنزيل [وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] ( ).
الثالثة : إجابة الله عز وجل عن سؤال المسلمين الذي يوجهونه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : نزول الجواب من عند الله بآية قرآنية ، وليس بحديث قدسي أو وحي نبوي عام .
الثاني : الـتأكيد السماوي لقانون مجئ الأنفال والغنائم والمكاسب للمسلمين ، وهو من مصاديق التفسير الذاتي للقرآن إذ أن وقوع الأنفال بأيدي المسلمين من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
وهل في الآية بشارة ومجئ أنفال وغنائم أخرى بأيدي المسلمين .
الجواب نعم ، ترى لماذا لم تقل الآية : يسألونك عن الغنائم .
الجواب تبين الآية رحمة الله بالمسلمين والناس وأن المقصود هو الزيادة في المكاسب مطلقاً في حال الحرب والسلم ، وليبقى موضوع وحكم الآية نافذاً إلى يوم القيامة ، وفيه دعوة للسلم ونبذ الحرب والقتال ، وإخبار بأن الزيادة في الرزق لا تأتي من ذات الغنائم ، إنما تأتي من عند الله عز وجل .
الثالث : تفضل الله عز وجل بالإخبار عن قانون وهو أن الأنفال له سبحانه ولرسوله وليس للمقاتلين والذين يستولون عليها ، أو يجدونها ، وآية الأنفال محكمة وليست منسوخة ، وعن مجاهد وعكرمة (قالا : كانت الأنفال لله والرسول حتى نسخها آية الخمس { واعلموا أنما غنمتم من شيء }( ) الآية .) ( ).
ولا دليل على النسخ بالإضافة إلى التباين الموضوعي بين عموم الأنفال وخصوص الخمس .
(عن أبي أمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال؟ فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أخلاقنا ، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين عن بَرَاء ، يقول : عن سواء .
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشهدت معه بدراً ، فالتقى الناس فهزم الله العدوّ.
فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمون يقتلون .
واكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه .
وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يصيب العدوّ منه غرة .
حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب . وقال الذين خرجوا في طلب العدوّ : لستم بأحق بها منا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم . وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرة واشتغلنا به .
فنزلت { يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم }( ) .
فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أغار في أرض العدوّ نفل الربع .
أي يهب الربع للحث على الصبر والتحريض والترغيب بالبذل والمجاهدة ، ومنه ما ورد (عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من فعل كذا فله كذا وكذا من النفل”. قال: فتقدم الفتيان، ولزم المشيخةُ الراياتِ، فلم يبرحوا.
فلما فُتح عليهم، قالت المشيخة: كنا ردءًا لكم، فلو انهزمتم انحزتم إلينا، لا تذهبوا بالمغنم دوننا! فأبى الفتيان .
وقالوا: جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنا! فأنزل الله: “يسألونك عن الأنفال قل الأنفال) ( )) ( ).
ليكون في نزول آية [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ) مسائل :
الأولى : درء الفتنة بين المسلمين في الميدان .
الثانية : منع الإنشغال بالغنائم , ومهاجمة العدو للمسلمين .
الثالثة : إنقطاع المسلمين للشكر لله عز وجل .
الرابعة : بيان قانون وهو حاجة المسلمين إلى الوحي والتنزيل لإستدامة الوفاق ومفاهيم الأخوة بينهم , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
الخامسة : بعث الرضا في نفوس المسلمين , ومنع الكدورة أو الغضاضة بينهم , ويدل عليه خاتمة الآية [وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ]( ).
السادسة : تأكيد قانون وهو أن الأهم هو التقوى والخشية من الله عز وجل لقوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ) .
وهل الشكر لله عز وجل على نعمة النصر في معركة بدر من هذه التقوى أم أنه أمر مستقل , الجواب هو الأول , لذا ورد الأمر بتقوى الله عز وجل بالفاء (فَاتَّقُوا اللَّهَ) والتي تفيد الترتيب والتعقيب , وفي الصناعة النحوية هي رابطة لجواب بشرط مقدر.
وهل يمكن استقراء قانون في المقام وهو أن القرآن ناسخ للسنة في المقام أم أن القرآن أمضى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، المختار ان الآية نزلت لبيان حكم ، إذ قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتقسيم الغنائم بين المهاجرين والأنصار الذين حضروا المعركة بالسوية خاصة وأن النصر يومئذ كان من عند الله سبحانه , لقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
وإذا أقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم راجعاً وكل الناس نفل الثلث ، وكان يكره الأنفال ويقول : ليرد قويُّ المسلمين على ضعيفهم) ( ).
الخامس : من منافع آية الأنفال منع المسلمين من الإنشغال بالغنائم وترك الدفاع كما حصل في معركة أحد ، إذ أن هذا الإنشغال يؤدي إلى تمكين العدو منهم .
ومن منافعها منع الفرقة والخلاف بين المسلمين سواء الذين يشتركون في القتال أو معهم غيرهم.
(عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قتل قتيلاً فله كذا ، ومن جاء بأسير فله كذا . فجاء أبو اليسر بن عمرو الأنصاري بأسيرين ، فقال : يا رسول الله إنك قد وعدتنا .
فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله إنك إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو ، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك أن يأتوك من ورائك ، فتشاجروا فنزل القرآن { يسئلونك عن الأنفال }( ) وكان أصحاب عبد الله يقرأونها { يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فيما تشاجرتم به } .
فسلموا الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونزل القرآن { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه }( ) إلى آخر الآية) ( ).
(عن القاسم بن محمد قال : سمعت رجلاً يسأل ابن عباس عن الأنفال؟ فقال : الفرس من النفل ، والسلب من النفل ، فأعاد المسئلة فقال ابن عباس : ذلك أيضاً ، ثم قال الرجل : الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي؟ .
فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه.
فقال ابن عباس : هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر . وفي لفظ : فقال : ما أحوجك إلى من يضربك كما فعل عمر بصبيغ العراقي ، وكان عمر ضربه حتى سالت الدماء على عقبيه) ( )( ).
وذكرت لسعيد بن المسيب أربعة أقوال في الأنفال وهي :
الأول : ما كانوا ينفلون إلا الخمس .
الثاني : لا ينفل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا من الخمس .
وبين الوجهين أعلاه عموم وخصوص مطلق ، فالثاني أخص لمقام (من) في (من الخمس) ودلالتها على التبعيض .
الثالث : يعطى النفل من خمس الخمس من سهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبه قال الشافعي .
الرابع: لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار ان النسبة بين الأنفال التي ورد ذكرها في القرآن وبين النفل الذي يهبه ويعطيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي العموم والخصوص المطلق , وليس التساوي في الموضوع .
والمراد من النفل في المقام الزيادة والهبة والعطية ، سواء كان بعد أو قبل القسمة ، وزائداً على السهام أو منفصلاً عنها ولا صلة له بها ، فقد ينفل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غنائم معركة لمن لم يشترك فيها أو للمؤلفة قلوبهم كما في غنائم معركة حنين .
(ولما فرغ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من رد سبايا هوازن ركب واتبعه الناس يقولون: يا رسول الله اقسم علينا فيئنا، حتى ألجؤه إلى شجرة، فاختطف رداؤه.
فقال: ردوا علي ردائي أيها الناس، فوالله لو كان لي عدد شجر تهامة نعمٌ لقسمتها عليكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً. ثم رفع وبرة من سنام بعير.
وقال: ليس لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس وهو مردود عليكم. ثم أعطى المؤلفة قلوبهم، وكانوا من أشراف الناس، يتألفهم على الإسلام، فأعطى مائة بعير لكل من :
الأول: أبو سفيان( ) .
الثاني : معاوية بن أبي سفيان .
الثالث : يزيد بن أبي سفيان .
الرابع : حكيم بن حزام.
الخامس: العلاء بن جارية الثقفي.
السادس : الحارث بن هشام.
السابع : صفوان بن أمية.
الثامن : سهيل بن عمرو.
التاسع :حويطب بن عبد العزى.
العاشر : عيينة بن حصن.
الحادي عشر : الأقرع بن حابس.
الثاني عشر : قيس بن عدي .
الثالث عشر : أسيد بن جارية .
الرابع عشر : مالك بن عوف النضري، كل واحد منهم مائة بعير ولابد أنه أعطى مالك بن عوف فيما بعد .
وأعطى دون المائة رجالاً، منهم:
الأول : مخرمة بن نوفل الزهري .
الثاني : عمير بن وهب.
الثالث : هشام بن عمرو.
الرابع : سعيد بن يربوع.
وأعطى العباس بن مرداس أباعر، فسخطها وقال:
كانت نهاباً تلافيتها … بكرّي على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا … إذا هجع النّاس لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبي … د بين عيينة والأقرع
وقد كنت في الحرب ذا تدرإٍ … فلم أعط شيئاً ولم أمنع
إلاّ أفائل أعطيتها … عديد قوائمها الأربع
وما كان حصنٌ ولا حابسٌ … يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرءٍ منهما … ومن تضع اليوم لا يرفع
فأعطاه حتى رضي.
وقال رجل من الصحابة: يا رسول الله أعطيت عيينة والأقرع وتركت جعيل بن سراقة. فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: ومن يعدل إذا لم أعدل ؟
فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله ؟
فقال: دعوه، ستكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية ينظر في النصل فلا يوجد شيء، ثم في القدح فلا يوجد شيء ثم في الفوق فلا يوجد شيء سبق الفرث الدم .
وقيل: إن هذا القول إنما كان في مال بعث به علي عليه السلام من اليمن إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فقسمه بين جماعة، منهم: عيينة والأقرع وزيد الخيل.) ( ) .
ثم أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن ثابت باحصاء الناس وإحصاء الغنائم (ثم فضها على الناس فكانت سهمانهم لكل رجل أربعا من الابل أو أربعين شاة فان كان فارسا أخذ اثنى عشر بعيرا أو عشرين ومائة شاة وإن كان معه أكثر من فرس واحد لم يسهم له) ( ).
السادس : وجوب الخشية من الله وعدم جعل الغنيمة غاية في القتال ومقدماته لقوله تعالى في آية الأنفال [فَاتَّقُوا اللَّهَ] ( )لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج في كتائب حول المدينة ، ويمر على قرى من المشركين فلا يتعرض هو وأصحابه إلى أموالهم وإبلهم وغنمهم .
إنما قد تتفق فريضة الصلاة اليومية في مدخل القرية ونحوه ، فيؤذن بلال أو غيره ويقيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الصلاة ، وهي دعوة عبادية للإسلام والسلم وهو من أسرار الأمر المتكرر في القرآن [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ) ومن عمومات قوله تعالى [وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] ( ) .
وفي إقامة الصلاة في السفر بعث للنفرة من الشرك والضلالة سواء في النفوس أو المجتمعات .
ومن تقوى الله في المقام التنزه عن السرقة والنهب والإستيلاء على ملك الغير ، ولا يعلم نفع هذه الآيات في تهذيب الأخلاق ونشر الأمن والأمان بين الناس إلا الله عز وجل .
فمن إعجاز القرآن أن آية واحدة منه تكون سبباً متجدداً كل يوم وإلى يوم القيامة لإصلاح الأسواق والمجتمعات .
وتتعاقب الدول والملوك على الأرض ، وكل واحد منهم في بقعة مخصوصة لأجل محدود ، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ) ومن الملوك من يعمل بطاعة الله ، ومنهم من يظلم نفسه وغيره ، أما الآية القرآنية فهي رحمة متجددة ، ودعوة للصلاح ونبذ العنف ، وسبب للعدل والأمن واستدامة الممالك ، وتتصف في المقام بأمور :
أولاً : تلاوة آيات القرآن من قبل كل مسلم ومسلمة خمس مرات في اليوم في الصلاة .
ثانياً : تلاوة الآية القرآنية في مشارق الأرض ومغاربها , وتتعدد الحدود بين الدول وتنشطر هذه الدول لتتضاعف أطوال الحدود الدولية ، ولكن الآية القرآنية لا تعرف الحدود ، لتكون تلاوتها بأوقات عبادية مخصوصة من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ثالثاً : كل آية قرآنية قانون أو قوانين متعددة .
ربعاً : تنفذ الآية القرآنية إلى شغاف القلوب .
خامساً : العمل بأحكام التنزيل سبب لطول العمر وإدامة الملك .
في علم الصرف
من الإعجاز في لغة القرآن قوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ) ويحتمل الخطاب في خاتمة الآية أعلاه في الجهة التي يتوجه إليها وجوهاً :
الأول : أهل مكة والمدينة .
الثاني : العرب وحدهم , لأن القرآن نزل بلغتهم .
الثالث : المسلمون والمسلمات مع إختلاف ألسنتهم .
الرابع : إرادة الناس جميعاً .
المختار هو الأخير , لأصالة العموم , لذا ورد النداء [يَاأَيُّهَا النَّاسُ]عشرين مرة في القرآن منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا] ( ) وفيه دعوة للناس جميعاً لإستنباط المسائل والقوانين من القرآن ، وتنقسم علوم اللغة العربية إلى قسمين :
الأول : علم النحو , وهو الذي يختص بتكوين الجملة وموقع إعراب الكلمة ، وتبدل حال إعرابها بحسب موقعها من الجملة ، وسمي علم النحو لقول الإمام علي عليه السلام بعد ما علم أبي الأسود الدؤلي الاسم والفعل والحرف وضروباً من قواعد العربية : أنح هذا النحو.
أخذ من انتحاه إذا قصده .
والنحو لغة الطريق والجهد والقصد ، لإرادة لحوق من ليس من أهل العربية بأهلها في النطق بها واتقان قواعد الفصاحة ، ولمنع اللحن فيها .
الثاني : علم الصرف : وهو العلم الذي يبحث في التغيير الذي يطرأ على بنية الكلمة المفردة ،واشتقاقها وإملائها , وانقسم علماء النحو في أصل الإشتقاق إلى قسمين :
الأول : أصل المشتقات في اللغة العربية هو الفعل ، وعليه مدرسة الكوفة ، لأن المصدر يأتي بعد الفعل .
الثاني : أصل المشتقات هو المصدر الذي يدل على الحدث ، إنما الفعل يقترن بزمن , وعليه مدرسة البصرة .
واللغة العربية لغة اشتقاقية بتعدد الفروع من اللفظ الأصل والذي يسمى (الجذر) ، والجذر بفتح الجيم وكسرها ، والفتح هو الأفصح هو أصل الشئ والجذر اللغوي هو الوحدة الأصل لكل كلمة , ويكون أساساً لتصنيف وترتيب الكلمات في المعاجم كما في معجم لسان العرب مثلاً ، وقد يكون الجذر ثلاثياً وهو الأكثر مثل : كتب , ويشتق منه كاتب ، ومكتوب ، وكتب ، ومكتبة ومثلا الجذر اللغوي لكلمات :
الكلمة جذرها
مسجد س ،ج ،د
رمضان ر ، م، ض
كسوف ك ،س، ف
قربان ق ، ر، ب
مدرسة د ،ر ،س
سفرجل س ، ف ، ر، ج ، ل
وقد يكون رباعياً مثل (زلزل ) وجعفر أو خماسياً وهو الأقل ولا يكون إلا في الأسماء مثل سفرجل وقد يطلق على الجذر المادة اللغوية ، أو المادة المعجمية ، وقد يكون الجذر أحياناً مسألة نظرية غير مستعملة انما تـأتي للبيان ومن غير حركات .
فترى الكلمة في العربية يتغير رسمها وتصاريف حروفها وحركات الأصل من جهات :
الأولى :الزيادة في حروف الكلمة .
الثانية : النقيصة في حروف الكلمة ، وهناك كلمات تتألف في الظاهر من حرفين ، ولكنها ترجع في النحو إلى جذر ثلاثي حذفت منها حروف اللين (الواو ، الياء ) .
مثل أب فان جذره : ء ،ب .
ومثل : يد : وجذرها ي ، د ، و .
الثالثة : التغيير في حركات الكلمة حسب الميزان الصرفي ، وهو مقياس نظري لوزن الكلمة متوارث في علم النحو والصرف بأن يرمز فيه بالفاء عن الأصل الأول للكلمة ، والعين عن الأصل الثاني , واللام عن الأصل الثالث مثلاً : ذهب على وزن : فَعَلَ مثلاً:
فَعَلَ : فعل ماض مبني للمعلوم .
فُعِل : فعل ماض مبني للمجهول .
فِعْل : اسم .
وتفيد الزيادة على الجذر اللغوي الزيادة في المعنى , وتسمى الدلالة الصرفية ، وتدل زيادة المباني على زيادة المعاني ، وقد تكون نوادر مخالفة لهذه القاعدة مثل، كتاب : وجمع التكسير : كُتب .
وحوراء مفرد والجمع حور , وهو أقل في عدد حروفه من المفرد ، وفي التنزيل [وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ] ( ) ولما في آية البحث إذ ورد لفظ[رُسُلٌ] لإفادة الجمع ، بينما المفرد رسول يتألف من أربعة حروف ، ومن إعجاز قوله تعالى الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
ورود المفرد (رسول) والجمع (رسل) فيها مع قلة كلماتها .
وورد في الآية التالية لها بصيغة الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ] ( )والتقدير : فان كذبوك يا رسول الله فقد كذب رسل من قبلك ) .
وورد في القرآن لفظ [رُسُلُ اللَّهِ] ( ) مرة واحدة , ويتحد موضوعها وشروط المعاندين فيها مع الآية أعلاه ، قال تعالى [وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ] ( ).
وقد يكون جمع التكسير بذات عدد حروف المفرد مثل مسطرة ومساطر وهو جمع تكسير وهو اسم يدل على أكثر من اثنين ، ويتغير بناء مفرده بالزيادة أو النقص , أو تغيير الحركات أو الزيادة والتغيير أو النقص والتغيير .
ومن صيغ جمع التكسير (أفعلِه ) وهو جمع قلة مثل أهلَه ، جمع هلال ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ] ( ) وأذلة جمع ذليل ، قال تعالى [أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
وصيغ (فُعال )(فُعالى)(فعالة) (فَعَل ) (فَعيل) (فِعل) (فعّل)(فيْعَله)(فَعال)(فُعْلل).
أما جمع المذكر السالم فهو اسم يدل على أكثر من اثنين بزيادة واو ونون في آخره في حال الرفع ، وياء ونون في حالتي النصب والجر من غير أن تتغير صورة المفرد فيه .
والمشتقات في اللغة العربية سبعة وهي :
الأول : اسم الفاعل ، وهو الذي تدل صيغته على فعل الفعل والحدوث .
ويشتق من الفعل الثلاثي على وزن فاعل بزيادة ألف بعد أول حرف منه مثل : حاكم ، صالح ، جائر ، قاض ، قائل .
ويكون من غير الفعل الثلاثي على وزن مضارعه المعلوم بابدال حرف المضارعة ميماً مضمومة وكسر ما قبل آخره مثل : مُختار ، مُستغفر .
وهناك أسماء أفعال للمبالغة عديدة منها وزن فَعيل مثل رحيم في قوله تعالى [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( )ومثل فعّال ، وفي التنزيل [فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ] ( ) .
الثاني : اسم المفعول ، وهو الاسم الذي يدل على من وقع عليه الفعل ، ويكون من الثلاثي على وزن (مفعول ) مثل موعود ، كما في قوله تعالى [وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ] ( ) .
ولم يرد لفظ [الْمَوْعُودِ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ويصاغ اسم المفعول من غير الثلاثي على وزن الفعل المضارع المبني للمجهول بابدال حرف المضارعة الأول ميماً مضمومة ، وفتح ما قبل الآخر .
ويعمل اسم الفاعل عمل فعله , فيرفع الفاعل ويأتي اسم الفاعل مقترناً بـ (أل) مثل ، الصائم رمضان مثاب , وتقديرها الذي يصوم رمضان مثاب .
ورمضان : مفعول به منصوب بالفتحة لاسم الفاعل (الصائم) ويسمى المفعول به الذي يتصل به اسم الفاعل : معمول اسم الفاعل .
الثالث : الصفة المشبهة باسم الفاعل ، وهو الاسم الذي يدل على الذي يوصف بالفعل على وجه الثبوت مثل : جابر ، كريم ، لطيف ، ويأتي على وزن (فَعِل )إذ دل على كيفية نفسانية كالفرح والحزن مثل :طرِب طربة ، فرح فرحة .
ويأتي على وزن (أفعل) إذ دلّ على هيئة حسنة في الخلق ، أو عيب مثل : أصلع ، أعرج ، أجلح ، والمؤنث لهذه الصيغة (فَعلاء ) مثل عرجاء ، حوراء .
(قال قيس بن الخطيم يصف جارية:
حوراء جيداء يستضاء بها … كأنها خوط بانةٍ قصف) ( ).
وإذا كان الفعل لازماً فتأتي صفته في الغالب على فعيل مثل : رحم : رحيم ، كرم: كريم .
وقد تأتي بأوزان أخرى مثل شجاع ، شهم .
وللصفة المشبهة صيغ متعددة ، وقد تأتي على وزن اسم فاعل مثل : سالم البدن .
أو على وزن اسم المفعول مثل : محمود العواقب ، وتدل الصفة المشبهة على الثبوت والدوام مثل قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) بينما يدل اسم الفاعل واسم المفعول على التجدد والحدوث ، وقال ابن مالك :
(صِفَةٌ اسْتُحْسِنَ جَرُّ فَاعِلِ مَعْنَىً بِهَا المُشْبِهَةُ اسْمَ الفَاعِلِ) ( ).
أي يجر فاعل الصفة المشبهة لأنها تضاف إليه .
الرابع : اسم التفضيل :وهو اسم يشير إلى اشتراك فردين في صفة مخصوصة ، وقد زاد أحدهما على الآخر في ذات الصفة كما في لفظ [خَيْرٌ] في قوله تعالى [لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ) ولفظ [أَكْثَرُ] و[َأَعَزُّ] في قوله تعالى [أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا] ( ).
وقد يأتي اسم التفضيل بمعنى اسم الفاعل ، فلا يقصد منه تفضيل مثل [اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ]( ) وقال تعالى [وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى]( ) .
ويلزم اسم التفضيل حالة واحدة هي الإفراد والتذكير والتنكير ، فلا يطابق موصوفه مثل ( الخيرات أسرع ثواباً) ولا يتقدم معمول اسم التفضيل عليه .
الخامس : اسم الزمان واسم المكان : اسم الزمان هو اسم مشتق من حروف الفعل ليدل على زمان حدوث الفعل، أما اسم المكان فهو مشتق للدلالة على مكان وموضع وقوع الفعل .
ويكون اسم الزمان على وزن ( مَفعَل ) إذا كان الفعل معتل الآخر ، وكان الفعل الثلاثي صحيح الآخر ، ومضارعه مفتوح العين أو مضمومها مثل :
الفعل الماضي الفعل لمضارع الاسم الميزان الصرفي
ركض يركض مركَض مَفعَل فعل ثلاثي صحيح مضموم العين في المضارع
بدأ يبدأ مبدَأ مَفعَل الفعل ثلاثي صحيح مفتوح العين في المضارع
نزل ينزل منزِل مفعِل الفعل ثلاثي صحيح مكسور العين في المضارع
سكن يسكِن مسكَن مفعَل الفعل ثلاثي صحيح مكسور العين في المضارع
سعى يسعى مسعَى مفعَل الفعل ثلاثي معتل الآخر
وجد يجد موجِد مفعِل الفعل ثلاثي مثال
ويصاغ اسم الزمان واسم المكان من الفعل غير الثلاثي على وزن الفعل المضارع مع إبدال حرف المضارعة ميما مضمومة وفتح ما قبل الآخر كاسم المفعول والمصدر الميمي .
مثل استقر ، يستقر ، مُستقر ، كما ورد في قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( ) وقد تلحق تاء التأنيث أسماء الزمان والمكان سماعاً نحو مدرسة مزرعة ، مكتبة ، محبرة ،مأسدة( ) ، مرمَلة ( )، معنبة( ) .
السادس : صيغة المبالغة وهي أسماء تشتق من الأفعال للدلالة على اسم الفاعل على نحو المبالغة ، ولها أوزان كثيرة مثل ، فعّال ، يفعال ، فعول، فعيل .
منها قوله تعالى [إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ] ( )وعلّام في قوله تعالى [إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ] ( ) وقوله تعالى [وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ] ( ) وحلاف ، هماز ، مناع ، كلها من صيغ المبالغة على وزن فعال .
وحلاّف كثير الحلفان ، وهماز كثير الغمز على الناس , ومناع كثير منع الخير على الناس .
السابع : اسم الآلة : وهو الاسم المشتق من المصدر الثلاثي للدلالة على الأداة التي حصل الفعل بواسطتها ، وله أوزان ثلاثة ، مِفعال مثل مفتاح ، مفعل مثل منجل ، يفعَلة مثل مسبحة , وفعالة مثل حمالة .
ومن الإعجاز في نزول القرآن باللغة العربية بيانها وجمالها سواء في حال الإيجاز غير المخل , أو الإطناب غير الممل , وقدنزل القرآن باللغة العربية فصار المؤمنون والمؤمنات منشغلين بتجلي معاني النحو والصرف في آياته , ودلالات مضامينها القدسية , مع عدم الإلتفات إلى الإرهاب أو البحث عن دروبه , والتنزه عن صيرورته حاجزا عن التمتع بأسرار بيان العربية , وجوامع الكلم التي جاءت في الحديث النبوي والتي تدعو إلى الرحمة والتراحم .
قانون الإعتكاف
الإعتكاف لغة : الإحتباس , ولزوم الشئ , وحبس النفس عليه (عَكَفَهُ أي حبسه ووقفه، يعكُفُهُ ويعكِفُهُ عَكْفاً. ومنه قوله تعالى: ” والهَدْيَ مَعْكوفاً ” . ويقال: ما عَكَفَكَ عن كذا. ومنه الاعتِكافُ في المسجد، وهو الاحتباس .
وعَكَفَ على الشيء يَعْكُفُ ويَعْكِفُ عُكوفاً، أي أقبل عليه مواظباً. وعَكَفوا حول الشيء : استداروا . يقال: عَكَفَ الجوهرُ في النظْم) ( ).
أما في الإصطلاح فالإعتكاف هو اللبث في المسجد بنية التقرب إلى الله تعالى .
والإعتكاف سنة ، وعليه إجماع علماء الإسلام ويدل عليه قوله تعالى [وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ] ( ).
وقد ورد ذكر الإعتكاف في الأمر من الله عز وجل إلى إبراهيم واسماعيل ، قال تعالى [وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : اعتكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان في الشهر الأول ثم العشر في الثانية في العشر الوسطى ثم اعتكف في الثالثة في العشر الأواخر ثم لم يزل يعتكف في العشرة الأواخر .
والحكمة في تشريع الإعتكاف من وجوه :
الأول : التفرغ لعبادة الله .
الثاني : الإبتعاد عن مشاغل الدنيا .
الثالث : تلاوة آيات القرآن وتعاهد حفظه وسلامته من التحريف والزيادة والنقصان .
الرابع : الإنقطاع عن الناس لاجتناب الغيبة والنميمة والسلامة من الأذى والإيذاء .
الخامس : الإجتهاد في الدعاء ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
السادس : أداء صلاة الفريضة في أوقاتها ، وتعاهد النوافل اليومية .
السابع : استحباب الصيام مع الإعتكاف في غير رمضان .
وقال الإمامية والمالكية بشرط الصيام في الإعتكاف ، وهو مشهور الحنفية .
ولا يرى الشافعي وأحمد بن حنبل شرطية الصيام ، وذهب بعض الشافعية إلى وجوبه ، وكذا في رواية عن أحمد بن حنبل ، وكل من الصوم والإعتكاف عبادتان منفصلتان .
وبشرط الصيام عند الإعتكاف قال الإمام علي عليه السلام وابن عباس وابن عمر وعائشة ، وقالت : لا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع .
واعتكف النبي صلى الله عليه وآله وسلم (مَرّةً فِي الْعَشْرِ الْأَوّلِ ثُمّ الْأَوْسَطِ ثُمّ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمّ تَبَيّنَ لَهُ أَنّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ فَدَاوَمَ عَلَى اعْتِكَافِهِ حَتّى لَحِقَ بِرَبّهِ عَزّ وَجَلّ .
وَكَانَ يَأْمُرُ بِخِبَاءٍ فَيُضْرَبُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ يَخْلُو فِيهِ بِرَبّهِ عَزّ وَجَلّ . وَكَانَ إذَا أَرَادَ الِاعْتِكَافَ صَلّى الْفَجْرَ ثُمّ دَخَلَهُ فَأَمَرَ بِهِ مَرّةً فَضُرِبَ فَأَمَرَ أَزْوَاجَهُ بِأَخْبِيَتِهِنّ فَضُرِبَتْ فَلَمّا صَلّى الْفَجْرَ نَظَرَ فَرَأَى تِلْكَ الْأَخْبِيَةَ فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوّضَ ، وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأَوّلِ مِنْ شَوّالٍ .
وَكَانَ يَعْتَكِفُ كُلّ سَنَةٍ عَشَرَةَ أَيّامٍ فَلَمّا كَانَ فِي الْعَامِ الّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا .
وَكَانَ يُعَارِضُهُ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ كُلّ سَنَةٍ مَرّةً فَلَمّا كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ أَيْضًا فِي كُلّ سَنَةٍ مَرّةً فَعَرَضَ عَلَيْهِ تِلْكَ السّنَةِ مَرّتَيْنِ . وَكَانَ إذَا اعْتَكَفَ دَخَلَ قُبّتَهُ وَحْدَهُ وَكَانَ لَا يَدْخُلُ بَيْتَهُ فِي حَالِ اعْتِكَافِهِ إلّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بَيْتِ عَائِشَةَ فَتُرَجّلُهُ وَتَغْسِلُهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ .
وَكَانَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ . فَإِذَا قَامَتْ تَذْهَبُ قَامَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا ، وَلَمْ يُبَاشِرْ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ لَا بِقُبْلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا .
وَكَانَ إذَا اعْتَكَفَ طُرِحَ لَهُ فِرَاشُهُ وَوُضِعَ لَهُ سَرِيرُهُ فِي مُعْتَكَفِهِ ، وَكَانَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ مَرّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ عَلَى طَرِيقِهِ فَلَا يَعْرُجْ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلْ عَنْهُ .
وَاعْتَكَفَ مَرّةً فِي قُبّةٍ تُرْكِيّةٍ ، وَجَعَلَ عَلَى سُدّتِهَا حَصِيرًا ، كُلّ اتّخَاذِ الْمُعْتَكِفِ مَوْضِعَ عِشْرَةٍ وَمَجْلَبَةٍ لِلزّائِرِينَ وَأَخْذِهِمْ بِأَطْرَافِ الْأَحَادِيثِ بَيْنَهُمْ فَهَذَا لَوْنٌ وَالِاعْتِكَافُ النّبَوِيّ لَوْنٌ) ( ).
وكان الاعتكاف عبادة معروفة ويأتيه المؤمنون والنساك، وان قلّ في هذا الزمان الالتفات اليه واتخاذه وسيلة للتقرب واعلاناً لصدق العبودية والاخلاص فيها والانقطاع الى الله. وعن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اعتكاف عشر في شهر رمضان تعدل حجتين وعمرتين”.
(مسألة 1) يصح الإعتكاف في كل وقت يصح فيه الصوم وخير اوقاته شهر رمضان وافضله العشر الأواخر منه.
(مسألة 2) الإعتكاف مستحب وقد يأتيه الوجوب بالعرض كما لو وجب بنذر او عهد او يمين او شرط في ضمن عقد او اجارة ونحوها.
(مسألة 3) الإعتكاف المندوب يجوز قطعه في اليومين الأوليين منه , ومع تمامهما يجب الثالث.
(مسألة 4) يعتبر في الإعتكاف الواحد وحدة المسجد.
(مسألة 5) قبرا مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ليسا من مسجد الكوفة.
(مسألة 6) لا فرق في وجوب كون الإعتكاف في المسجد الجامع بين الرجل والمرأة، فليس لها الإعتكاف في المكان الذي اعدته للصلاة في بيتها ولا في مسجد القبيلة والمحلة.
(مسألة 7) يجوز للمعتكف الخروج من المسجد لإقامة الشهادة او لحضور الجماعة او لتشييع جنازة، وكذا في سائر الضرورات العرفية او الأمور الشرعية الواجبة الراجحة.
(مسألة 8) يجوز الإتيان بالإعتكاف عن النفس وعن الميت نيابة.
شرائط صحة الإعتكاف
الأول : الإسلام.
الثاني : العقل.
الثالث : نية القربة.
الرابع : الصوم فلا يصح بدونه.
(مسألة 9) يجوز ان يكون الإعتكاف اكثر من ثلاثة ايام ولكن لو اعتكف خمسة ايام وجب السادس، واليوم من طلوع الفجر الى غياب الشمس وذهاب الحمرة المشرقية فلا يشترط ادخال الليلة الأولى ولا الرابعة في اعتكاف ثلاثة ايام، نعم تدخل الليلتان المتوسطتان.
(مسألة 10) يشترط ان يكون في المسجد الجامع في البلدة، والأولى ان يكون في المساجد الأربعة المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومسجد الكوفة ومسجد البصرة.
(مسألة 11) يشــترط اســتدامة اللبث في المســجد، فلا يجوز الخروج لغير الحاجة والضرورة، الا ان يكون ناسياً او مكرهاً او مضطراً او لغسل الجنابة ونحوه.
(مسألة 12) الأقوى عدم جــواز النيابة عن اكــثر من واحــد في اعتكاف واحد، نعم يجوز ذلك بعنوان اهداء الثواب فيصح اهداؤه الى متعددين احياء وامواتاً.
(مسألة 13) لا يشترط في صوم الإعتكاف ان يكون لأجل الإعتكاف بل يعتبر فيه صرف الطبيعة وكل صوم صحيح، فيجوز ان يكون المعتكف صائماً استئجاراً او واجباً من جهة النذر ونحوه.
أحكام الاعتكاف
(مسألة 14) يحرم على المعتكف أمور منها :
الأول: مباشرة النساء بالجماع او باللمس والتقبيل بشهوة، ولا فرق فيه بين المعتكف والمعتكفة .
الثاني: شم الطيب مع القصد والتلذذ لا ما يكون عرضاً، ويجوز ازالة الشعر ولبس المخيط اثناء الاعتكاف.
الثالث: البيع والشراء , ولا بأس بالانشغال بالأمور الدنيوية من المباحات حتى مزاولة الخياطة والنساجة ونحوها، ولو باع او اشترى حال الاعتكاف لم يبطل بيعه او شراؤه.
الرابع: المماراة أي المجادلة على امر دنيوي او ديني بقصد الغلبة واظهار الفضيلة، ولا بأس بما كان لإظهار الحق وما يعتبر من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يجوز الخوض في المباح والنظر في اسباب المعاش.
(مسألة 15) ما يفسد الصوم في النهار يفسد الاعتكاف لأن الصوم شرط في صحة الاعتكاف كما تقدم.
(مسألة 16) لو صدر منه احد المحرمات المذكورة سهواً فالظاهر عدم بطلان اعتكافه.
(مسألة 17) لو افسد الاعتكاف الواجب بالجماع ولو ليلاً وجبت الكفارة، والاقوى عدم وجوبها في سائر المحرمات الاخرى.
(مسألة 18) كفارة افساد الإعتكاف ككفارة افطار يوم من شهر رمضان ولو كان الإعتكاف واجباً , وكان في شهر رمضان وافسده بالجماع في النهار فعليه كفارتان احداهما للإعتكاف , والثانية للإفطار في نهار رمضان. قانون الإحتراز المتعدد من وباء كورونا
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في الدعاء : اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سئ الأسقام .
وكان يأمر بغسل اليدين قبل الأكل وبعده , وهذا الأمر شائع ومتوارث عند أجيال المسلمين ويحرصون عليه في كل زمان بلحاظ أنه سنة نبوية .
كما نهى عن التنفس في الإناء أو النفخ فيه .
(عن أبي المثنى الجهني أنه قال كنت عند مروان بن الحكم فدخل عليه أبو سعيد الخدري فقال له مروان سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن النفخ في الشراب قال أبو سعيد نعم قال له رجل يا رسول الله إني لا أروى من نفس واحد , قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأبن القدح عن فيك ثم تنفس قال فإني أرى القذاة فيه قال فأهرقها( ).
(عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا عطس غطى وجهه بيده أو بثوبه وغض بها صوته) ( ).
(وعن ابي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه ، فإن الشيطان يدخل) ( ).
وقد جاءت الأحايث النبوية بالحجر الصحي والعزل الصحي , وعن سعد بن مالك , وخزيمة بن ثابت وأسامة بن زيد قالوا , (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِنَّ هَذَا الطَّاعُونَ رِجْزٌ أَوْ بَقِيَّةٌ مِنْ عَذَابٍ عُذِّبَ بِهِ قَوْمٌ قَبْلَكُمْ فَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فِي أَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ) ( ) .
أي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تحدث ابتداءَ عن الطاعون وغلق المدن بسببه وهو من أهم الأمور منها النظافة المستديمة , وقلة الإختلاط , وترك العناق , والإجتهاد بالدعاء , وأدعية التحصين قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
وهذا الدعاء فرع ما تتصف به الحياة الدنيا وأنها دار إمتحان واختبار وابتلاء , وهو دعوة للتوبة والذكر ومناسبة للإستغفار .
ومن جنود الله عز وجل في المقام الدعاء والتحصين والإحتراز والتعاون واتباع النصائح والإرشادات الصحية , والوقاية من هذا المرض وعلاجه من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ).
ويعتمد إنتشار الفيروسات على عوامل منها سلوك الناس مثلما يعتمد على البيئة , ولابد من إجتناب إنتقال العدوى .
والإحتضار هو سوق الروح واخراجها من البدن اعاننا الله عز وجل عليه وسمي الإحتضار لوجوه :
الأول : حضور ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب عند الميت .
الثاني : حضور لأهل الأقارب .
الثالث : حضور المؤمنين .
الرابع : حضور ذات الميت , قال تعالى [إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ]( ) مما يدل على أن الموت أمر وجودي .
الخامس : حضور ما مرّ عليه في حياته وهو مناسبة للإستغفار .
السادس : استحضار العقل في إعداد الوصية .
ويجب على من يحضر عند المسلمين توسده توجيهه إلى القبلة بوضعه مستلقياَ على ظهره , ويستقبل بباطن قدميه القبلة , بحيث لو جلس كان وجهه إلى القبلة , وتوجيهه إلى القبلة واجب كفائي لا ينحصر بوليد بل يجب على من بوليه , وهل أكثر في الولي
ولو استطاع المحتضر أن يكون على هيئة الاستقبال فعليه أن يفعله , ومع عدمه فالأقرب إلى القبلة.
يستحب تلقين الميت الشهادتين وسائر الإعتقادات الحقة على وجه يفهم ويستطيع تردديدها مع قدرته على التروي .
كما يستحب تلقينه كلمات الفرج وهي لا إله الله الحليم الكريم , لا إله إلا الله العلي العظيم سبحان الله رب السموات والأرض ورب العرش الكريم والحمد لله .
ويستحب قراءة سورة يس , والصافات لتعجيل راحته وآية الكرسي وغيرها ليودع الحياة بالقرآن .
ومما يستحب بعد السورة تطبيق فمه وشد فكيه ومد يديه إلى جنبه , ومد رجليه , وتغطيته بثوب .
وإعلام المؤمنين ليحضروا جنازته وتشييعه , والتعجيل في دفنه فلا ينتظران به الليل لو مات في النهار , ولا في النهار إن مات في الليل إلا مع وجود راجح شرعي .
ويجب كفاية غسل كل مسلم يقر بالشهادتين.
ويكون غسل الميت ثلاث أغسال مرتبة :
الأول : ماء السدر .
الثاني : ماء الكافور .
الثالث : ماء القراح الذي لا يخالطه سدر أو كافور كما لو أخذ من الإسالة مباشرةَ , وعليه النص والإجماع .
وكل غسل مثل غسل الجنابة من جهة الترتيب , الرأس والرقبة وبعدها الطرف الأيمن ثم بعده الأيسر كما مبين في رسالتنا العلمية الحجة ص140 وما بعدها والمسجلة برقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد برقم 345 لسنة 2001 أي قبل نحو عشرين سنة وهي جزءان في العبادات وثلاثة في المعاملات .
وعند تعذر الترتيب يجزي الإرتماس , أي رمس الميت في الماء , وإذا تعذر الماء أو الغسل أو كان هنا وهناك وباء ونحوه يمنع من الغسل يجزي التيمم إذ ييمم الميت ثلاث تيممات بدل الأغسال الثلاثة وبنية الترتيب .
ويشترط قصد القربة بغسل الميت أو تيممه , فالموت بسبب كورونا لا يمنع من الدفن .
وندعو إلى جمع الأبحاث والنتائج من الجامعات والمختبرات بما يفيد الخروج بلقاح عاجل .
ومن غايات ووظائف مجلس الأمن المحافظة على السلم والأمن الدوليين .
والتخطيط لمواجهة الأخطار التي تهدد السلام .
ومن ميثاق الأمم المتحدة العمل كجهة مرجعية وتنسيق أعمال الأمم ويتعهد الأعضاء في الأمم المتحدة بقبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها ، ولو بخصوص كورونا باجتماع عبر دائرة تلفزيونية مغلقة ، والحوار الإفتراضي لدرء المخاوف من انتشار وباء كورونا الذي هو مرض معد بسبب فيروس لم يعرفه الناس والمؤسسات الطبية من قبل ويصيب الجهاز التنفسي .
مع إ ستخدام الخيارات المتاحة والتحديث المتجدد للبيانات ودراسة النتائج طرداً وعكساً ، وفيه تنمية لقدرات العلماء , وأرجو أن تكون مساحة مناسبة لعلماء الطب والفيروسات في الجوائز العالمية مثل جائزة نوبل .
قانون الدعاء سلاح ضد الوباء
قال تعالى [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا]( ).
الدعاء : لغةَ هو النداء , ويأتي بمعنى الإستغاثة .
لقد فتح الله عز وجل باب الدعاء , ودعا الناس إليه بابلغ إسلوب وأطيب كلام , وأبهى ترغيب , قال تعالى [وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
وحث الله عز وجل المؤمنين والناس عليه , وجعله سلاحاَ مصاحباَ لأيام الحياة الدنيا , وكنزاَ للدنيا , وذخيرةَ في الآخرة , وهو وسيلة لتحقيق الأماني وبلغة للآمال , ومنه أدعية القرآن وهي كثيرة , وقد أفردت لها باباَ في هذا الجزء .
والدعاء تضرع وتوسل إلى الله تعالى , وهو حبل ممدود بين الإنسان وعالم الملكوت , والدعاء نور للإنسان في الدنيا والآخرة , والصحيفة السجادية من غرر علوم آل محمد عليهم السلام الصحيفة السجادية , وسميت زبور آل محمد.
وصدر لي بخصوصها خمسة أجزاء بعنوان بحوث في الصحيفة السجادية , ورقم الإيداع بعضها في دار الكتب والوثائق ببغداد 236 في 1995 .
ومنها دعاؤه في المهمات , ودعاؤه عند المرض , ودعاؤه عند الشدة , ودعاؤه في الرهبة .
ومن خصائص وتعاهد المؤمنين لللدعاء أنه ينفي الغلو , ويدرأ عن المسلمين الظن السئ , وهو شاهد على أهلية الإنسان للخلافة في الأرض , وهو مدرسة في الكمالات الأخلاقية , وتأديب من معالم الذل والخضوع لله عز وجل .
ويبعث الدعاء الشوق في النفوس إلى المعشوق , إلى الواحد الأحد , وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : (اتخذني الله عبدا قبل أن يتخذني نبيا)( ).
والدعاء من رشحات مدرسة القرآن , وليس من أمة إلا وتتخذ الدعاء وسيلة وبلغة وسلاحاَ , وقد حلّ هذا الزمان بلاء عام وداء جامح مما يستلزم التوجه العام من أهل الأرض إلى الله تعالى , وهذا التوجه لا يتعارض مع أسباب الوقاية واتباع التعليمات التي تصدرها الجهات الصحية, ليقرب الدعاء أوان اكتشاف العلاج , ويصرف الشدة من البلاء , ويمكن القول أن الدعاء جزء علة للوقوع والحدث , والدعاء إمام للعمل , وتحصين له وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ), ليكون من معاني قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) أن الله عز وجل يمحو طول مدة المرض ويصرفه عن الذين يجتهدون بالدعاء والجد في العمل , وعن الناس ببركة دعائهم .
(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أعطى أربعاً أعطي أربعاً ، وتفسير ذلك في كتاب الله من أعطي الذكر ذكره الله لأن الله يقول { اذكروني أذكركم }( )، ومن أعطي الدعاء أعطي الإِجابة لأن الله يقول { ادعوني أستجب لكم }( )، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة لأن الله يقول { لئن شكرتم لأزيدنكم }( )، ومن أعطي الاستغفار أعطي المغفرة لأن الله يقول {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً}( ))( ).
ويبعث الدعاء السكينة في النفس , فهو من مصاديق قوله تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
ولم يرد لفظ (بذكر الله) إلا في الآية أعلاه وجاء فيها مرتين , وهل الدعاء عبادة , الجواب نعم .
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :الدعاء مخ العبادة)( ) إذ يتوجه العبد من مقام الفقر والذل والفاقة والرجاء إلى مقام الربوبية مع التسليم بأن مقاليد الامور كلها بيد الله عز وجل .
ومن خصائص الدعاء استدامة النعم وزيادتها لأنه مصداق للشكر , قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ) وقال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وليس من حصر للنعم الإلهية ومنها ما ورد في الحديث , (عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ , وقال عروة بن محمد : كنّا مع وهب بن منبه فرأينا رجلا أصمّ أعمى مقعداً مجذوماً مصاباً فقلنا : هل بقي على هذا شيءٌ من النعيم؟
قال : نعم ، أعظمه بشبعه ما يأكل ويشرب ويسهل عليه إذا خرج لذلك)( ) مغبون فيهما كثير من الناس , ومعنى مغبون أي مخدوع , وذو خسران فيهما .
وعن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , الأمن والعافية .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام بخصوص آداب الدعاء قال : إنما هي المدحة ثم الثناء , ثم الإقرار بالذنب ثم المسألة , ثم قال : إنه والله ما خرج عبد من ذنب إلا بالإقرار .
ومن الآيات في خلافة الإنسان في الأرض أن الدنيا دار عمل من غير حساب , وأما الآخرة فهي دار حساب غير عمل , ومع هذا فإن ألسنة أهل الجنة تلهج بالحمد لله , ففي كل موطن من مواطن يوم القيامة يكون كلام المؤمنين الثناء والحمد لله مع التسليم بربوبيته المطلقة , وهذا الحمد شاهد على سلامتهم من الخوف والرعب والفزع , وهو من مصاديق قوله تعالى [الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ * يَاعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ]( ).
(إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ليس شيء أكرم على الله من الدعاء أخرجه الترمذي . وله عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الدعاء مخ العبادة وله عن ابن عمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من فتح له باب من الدعاء فتحت له أبواب الرحمة وما سئل الله شيئاً أحب إليه من أن يسأل العافية وإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل وله عن سلمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال : لا يرد القضاء إلاّ الدعاء ولا يزيد في العمر إلاّ البر وله عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من لم يسأل الله يغضب عليه ( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يستجاب لأحدكم ما لم يعجل بقوله قد دعوت فلم يستجب لي ولمسلم قال : لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطعية رحم ما لم يستعجل قيل : يا رسول الله ما الاستعجال؟
قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم يستجب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء قوله يستحسر أي يستنكف عن السؤال وأصله من حسر الطرف إذا كلَّ وضعف , وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له زاد البخاري ارزقني إن شئت ليعزم مسألته فإنه يفعل ما يشاء لا مكره له قوله ليعزم المسألة أي لا تكن في دعائك ربك متردداً بل أعزم وجد في المسألة .
عن فضالة بن عبيد قال : سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً يدعو في صلاته فلم يصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره : إذا صلّى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم ليدع بما شاء) ( ).
قانون التعاون لدفع الوباء
قال تعالى[وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
لقد أراد إبراهيم الرد على المشركين الذين يزعمون أن الأصنام هي تعطيهم وتمنحهم وبها يبرءون من الأمراض , ولم يقل (وإذا أمرضتني) إنما يمرض الإنسان بالأسباب الخاصة والعامة , وتأتي الوقاية والشفاء بفضل من الله ومنها الأسباب وجهود العلماء, قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ) , ليصرف الله عز وجل البلاء الأشد , واللهث وراء الدنيا , ويمنع من ظهور الأحقاد والمكر الخبيث , قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ) .
والإيمان والعمل الصالح يحجب ويدفع البلاء , قال تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
وهو لايتعارض مع لزوم اتباع التعليمات الصحية , والوقاية من الأمراض والهروب من مقدماتها مع المبادرة إلى أخذ العلاج اللازم , إذ أن إرتقاء الطب في هذا الزمان رحمة للناس لابد من الإنتفاع منها الإنتفاع الأمثل , وهل هذا الإرتقاء من رشحات الدعاء وتلاوة القرآن والتراتيل في المساجد والكنائس الجواب نعم .
لقد أسند إبراهيم المرض إلى نفسه وبدنه , أما الشفاء فهو من الله عز وجل , ويحتمل الشفاء هنا وجوهاً :
الأول : الشفاء بالمعجزة .
الثاني : الشفاء بالأسباب .
الثالث : الشفاء بالجامع المشترك من المعجزة والأسباب .
, المختار هو الثالث , نعم المرض كفارة للذنوب , وإذا أنعم الله عز وجل على أهل الأرض بنعمة فإنه أكرم من أن يرفعها ليكون الشفاء بأمور مجتمعة :
الأول : الوقاية .
الثاني : الدعاء .
الثالث : العلاج .
(وعن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استفتح الصلاة كبر ، ثم يقول : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ، وما أنا من المشركين( ) ، إن صلاتي ، ونسكي ، ومحياي ، ومماتي لله رب العالمين( ) ، لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين( ) ، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ، أنت ربي ، وأنا عبدك ، ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ذنوبي جميعا ، لا يغفر الذنوب إلا أنت ، لبيك( ) وسعديك( )، والخير كله في يديك ، والشر ليس إليك ، أنا بك وإليك ، تباركت وتعاليت ، أستغفرك وأتوب إليك)( ).
و(عن أبي سعيد الخدري، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الدنيا حُلْوَة خَضِرَة وإن الله مُسْتَخْلِفكم فيها لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) ( ).
وفي الدعاء واقية من حال الهلع والخوف , وفيه سكينة الإحتراز من المرض واتباع النصائح الصحية وانشغال العالم بداء كورونا.
ومرض كورونا وباء طارئ وبلاء , والإحتراز منه واتباع النصائح الطبية والبلدية ومنع الإختلاط في الأماكن العامة واجب شرعي وأخلاقي , خاصة مع أعلان منظمة الصحة العالمية قبل ساعات بأن هذا الوباء جائحة , وقد انشغل العالم كله بهذا الجسم المجهري الجماد للتوقي والعلاج , وهو أمر حسن من رشحات زمان العولمة ومن عمومات قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ).
وأسأل الله عز وجل أن يشافي جميع المرضى , وأن يدفع وباء كورونا وغيره عن المسلمين وأهل الأرض جميعاً , وأسأله تعالى أن يخفف عنا وطأة المرض بعد محاصرته من قبل الحكومات والمؤسسات والشعوب , ولابد من اتباع الإرشادات الصحية والحرص على النظافة المستديمة .
لقد وصف فيروس كورونا بالجائحة أي الوباء الذي إنتشر عبر دول العالم , وعدد المصابين في تزايد .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما خلق الله عز وجل داء إلا وخلق له دواء إلا السامة , أي الموت ,(وقال صلى الله عليه وآله : الذي أنزل الداء أنزل الشفاء) ( ).
وفيه دعوة لعلماء الأبدان بالإجتماع والتعاون وتبادل الخبرات لأي مرض , وايجاد علاج لكل داء , وبذل نشاط إستثنائي في البحث عن دواء ووقاية من داء كورونا الذي ستقطف ثماره خلال بضعة أشهر إن شاء الله حجة على الدول والمؤسسات الصحية , والعلماء بلزوم إيجاد دواء للأمراض المستعصية مثل السرطان والإيدز .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فر من المجذوم فرارك من الاسد) ( ) ورواه البخاري .
ومن الفرار في المقام إجراءات العزل الصحي أو المنزلي وحرص الإنسان على إجتناب الذي فيه مرض معد .
والمجذوم هو الذي ينزل به الجذم , والإسم الجُذام ( ) .
والجذام مرض جلدي شديد العدوى , وداء يعترض في الرأس ويشوه الوجه واليدين والرجلين , ومعه يسقط اللحم والجذام وهو غير البرص , وفي عيسى عليه السلام وورد قوله تعالى (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ) ( ).
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من رجل قرأ القرآن فنسيه، إلا لقي الله يوم يلقاه وهو أجذم) ( ) .
ومعنى نسيه أي ترك العمل به , وامتنع عن تلاوته , والمراد من أجذم أي مقطوع اليد عن الأخذ من خير الآخرة , يقال جُذمت اليد جذماً من باب تعب أي قطعت , فالذي فيه داء الجذام فهو الذي قطعت يده , ويقال للمرأة المقطوعة اليد : جذماء .
(وفي لسان العرب لابن منظور : في حديث عليّ عليه السلام , مَنْ نَكَثَ بَيْعَتَه لَقِي الله وهو أَجْذم) ( ).
و(عن ابن عباس قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تديموا النظر إلى المجذمين , وإن كلمتموهم فليكن بينكم وبينهم حجاب قيد رمح) ( ).
وحمل هذا القول على أنه يخشى أن يديم النظر بالمجذوم فيكتئب المجذوم , ولكن معنى ودلالة الحديث أعم , إذ يشمل التوجه إلى الدعاء والشكر لله على العافية , والتوقي من الأمراض النفسية , وهو من الإعجاز الغيري للسنة النبوية .
( The Islamic scholar al-Tai is having a lecture about being patient and pleasing to find a solution or a medication that would protect us from this virus and further viruses that might occur and it will be fast and easy and he will name it the armour for humanity similar to the protective missile so life will be more enjoyable).
صلة الآية (181)قانون إرجاء الكتابة
الإرجاء : لغة التأخير , والأمل , والرجاء , وقد يهمز فيقال أرجأت الأمر , أو لا يهمز , فيقال أرجيته أي أخرته , وفي التنزيل [وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ]( ) وقوله تعالى [قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ]( ) أي أمهلهما وأخر البت بأمرهما .
وقد ظهرت فرقة تسمى المرجئة إذ يعرفون الإيمان بأنه إقرار بالقلب وتصديق باللسان وأن المعصية وإرتكاب الذنوب لا يضر به , وأشهر من قال به الجهم بن صفوان , وأن الإيمان لايزيد أو ينقص بالأفعال .
وقولهم هذا مخالف لأصول الدين , فللعمل موضوعية في الإيمان كماً وكيفاً واستدامة , والإيمان إعتقاد بالقلب وقول باللسان , وعمل بالجوارح , وهذا العمل يكون مرآة للإيمان وشاهداً عليه , قال تعالى [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
(وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الإيمان بضع وسبعون باباً،
أدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وأعلاها شهادة أن لا إله إلاّ الله)( ).
(وعن يزيد بن عبد الله قال : كنا بالمِرْبَد إذ دخل رجل معه قطعة أديم ، فقرأناها فإذا فيها : من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش، إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأديتم الخمس من المغنم، وسهم النبي وسهم الصّفي ، أنتم آمنون بأمان الله ورسوله
. فقلنا : من كتب لك هذا؟
فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
وذكر أن سبب تكّون طائفة المرجئة الإختلاف ببعض الصحابة والمعارك التي وقعت في الإسلام .
ويقال المرجئة بإرجاء الحساب إلى يوم القيامة , أما هذا القانون فهو خاص بإرجاء كتابة الملائكة الذنب على العبد لعله يستغفر أو يتوب , وهل يدل هذا القانون على بطلان قول المرجئة , الجواب نعم لقوله تعالى [سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا]( ).
الذي ورد في قوله تعالى ( 181) إذ تدل الواو على أن الإمهال قصير وقليل .
ويتجلى قانون إرجاء كتاب الذنوب بما ورد (عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها ، وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال صاحب اليمين أمسك فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات ، فإن استغفر الله منها لم يكتب عليه شيئاً ، وإن لم يستغفر الله كتب عليه سيئة واحدة)( ) ملكان في النهار , ملكان في الليل فيكون المجموع أربعة رقباء على كل إنسان .
و(عن أبي أُمامة.
قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم :كاتب الحسنات على يمين الرجل،
وكاتب السيّئات على يسار الرجل.
وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيّئات.
فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة.
قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعلّه يسبِّح أو يستغفر)( ).
وهذان الحديثان بيان وتفسير لقوله تعالى [عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ]( ).
فمع أن الله عز وجل [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ) فقد جعل الملائكة يرقبون بني آدم ويكتبون أعمالهم , وهذه الكتابة ورجحان كفة العمل الصالح عند المؤمنين من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وتدل آية البحث على إنقطاع الإرجاء بخصوص قتل الأنبياء وأن الله عز وجل قد كتب الإثم على الذين قتلوهم , وهو سبحانه يؤاخذهم على هذا القتل.
وتبين آية السياق مسألة وهي أن الله عز وجل يمهل الذين كفروا حتى في كتابة ذنوبهم ومعاصيهم من وجوه :
الأول :من رحمة الله عز وجل بالناس في الدنيا إرجاء كتابة الذنوب والمعاصي .
الثاني : ترغيب الناس بالتوبة , وتقريبهم إليها , وهل آية البحث والسياق تقريب للناس إلى منازل الهدى , الجواب نعم .
الثالث : إزاحة مفاهيم الباطل عن المجتمعات , وبعث النفرة في النفوس من القول الذي يتضمن الجحود والصدود .
الرابع : إقامة الحجة على الذين كفروا في الدنيا والآخرة , وهل يدل ذكر يوم القيامة على وجوب المبادرة للعمل الصالح , الجواب نعم .
و(قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اغتنم خمساً قبل خمس ، شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل مماتك ، وغناك قبل فقرك)( ).
ولا تأتي نعمة تأخير كتابة الذنب مجردة , فمن فضل الله عز وجل أنه ينزل النعمة مع نعم مساندة متعددة لها , ترّغب وتساعد على العمل بها , وتمنع من العزوف عنها .
ومن هذه النعمة العامة تلاوة كل مسلم ومسلمة للقرآن خمس مرات في كل يوم ليسمع عامة الناس قانون الإرجاء وينتفعوا منه .
وهل قانون إرجاء كتابة الذنوب وعد وعهد من الله عز وجل , الجواب نعم , وهو لطف تفضل به على الناس المؤمن والكافر , والذكر والأنثى , فليس من إنسان إلا ويحتاج هذا القانون فإن قلت حتى النبي والمعصوم , الجواب نعم , إذ يحتاجه النبي في أمته , قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا]( ).
و(عن وهب بن منبه قال : أوحى الله تعالى إلى شعيب إني باعث نبياً أمياً أفتح به آذاناً صماً ، وقلوباً غلفاً ، وأعيناً عمياً ، مولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام ، عبدي المتوكل المصطفى المرفوع الحبيب المتحبب المختار .
لا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح رحيماً بالمؤمنين ، يبكي للبهيمة المثقلة ويبكي لليتيم في حجر الأرملة ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا متزين بالفحش ، ولا قوّال للخنا( )، يمر إلى جنب السراج لم يطفئه من سكينته .
ولو يمشي على القصب الرعراع يعني اليابس لم يسمع من تحت قدميه .
أبعثه مبشراً ونذيراً( ), أسدده لكل جميل وأهب له كل خلق كريم( )، أجعل السكينة لباسه ، والبرَّ شعاره ، والمغفرة والمعروف حليته ، والحق شريعته ، والهدى إمامه ، والإِسلام ملته ، واًحمد( ) اسمه ، أهدي به من بعد الضلالة .
وأعلم به بعد الجهالة .
وأرفع به بعد الخمالة ، وأسمي به بعد النكرة ، وأكثر به بعد القلة ، وأغنى به بعد العيلة ، وأجمع به بعد الفرقة ، وأؤلف به بين قلوب ، وأهواء متشتتة وأمم مختلفة ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس ، آمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ، وتوحيداً لي وإيماناً بي وإخلاصاً لي وتصديقاً لما جاءت به رسلي ، وهم رعاة الشمس .
طوبى لتلك القلوب والوجوه والأرواح التي أخلصت لي ، أُلهمهم التسبيح والتكبير والتمجيد والتوحيد في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم ،
ويصفُّون في مساجدهم كما تصف الملائكة حول عرشي ، هم أوليائي وأنصاري ، أنتقم بهم من أعدائي عبدة الأوثان ، يصلون لي قياماً وقعوداً وسجوداً ، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي ألوفاً ، ويقاتلون في سبيلي صفوفاً وزحوفاً ، اختم بكتبهم الكتب ، وشريعتهم الشرائع ، وبدينهم الأديان ، من أدركهم فلم يؤمن بكتابهم ويدخل في دينهم وشريعتهم فليس مني وهو مني بريء .
واجعلهم أفضل الأمم ، واجعلهم أمة وسطاء شهداء على الناس وتكونوا شهداء على الناس.
إذا عضبوا هللوني ، وإذا قبضوا كبَّروني ، وإذا تنازعوا سبَّحوني ، يطهرون الوجوه والأطراف ، ويشدون الثياب إلى الأنصاف ، ويهللون على التلال والأشراف ، قربانهم دماؤهم ، وأناجيلهم صدورهم .
رهبان بالليل ليوث بالنهار ، مناديهم في جو السماء ، لهم دوي كدوي النحل.
طوبى لمن كان معهم وعلى دينهم ومناهجهم وشريعتهم ، ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم .
وأخرج البيهقي في الدلائل عن وهب بن منبه قال : إن الله أوحى في الزبور : يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد صادقاً نبياً لا أغضب عليه أبداً ولا يعصيني أبداً ، وقد غفرت له أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر،قال تعالى [لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا] ( )، وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء ، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل ، حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء ، وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا لي لكل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم ( ).
وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم ، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم ، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم .
يا داود إني فضَّلت محمداً وأمته على الأمم ، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم .
لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان( ) ، وكل ذنب ركبوه على غير عمد إذا استغفروني منه غفرته ، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم عجلته لهم أضعافاً مضاعفة ، ولهم عندي أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك .
وأعطيتهم على المصائب في البلايا إذا صبروا وقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
فإن دعوني استجبت لهم ، فإما أن يروه عاجلاً وإما أن أصرف عنهم سوءاً وإما أن أؤخره لهم في الآخرة .
يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقاً بها فهو معي في جنتي وكرامتي .
وقد كذب محمداً وكذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صباً ، وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره من قبره ، ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار)( ).
ويمكن تسمية الحياة الدنيا (دار إرجاء كتابة الذنب) وهي نعمة عظمى تصاحب الناس في كل زمان , ولكن هل تشمل كل ذنب فقد ذكرت آية البحث قتل جماعة من الناس عدداً من الأنبياء فهل ترجأ كتابة مثل هذا الذنب , المختار لا , لشدة الذنب الكبير , والإضرار العام بالناس وعقائدهم , والتعدي على الذين أرسلهم الله عز وجل رحمة للناس , ولا يتعارض هذا الإختيار مع تسمية الحياة الدنيا دار الإرجاء , فما من عام إلا وقد خص .
وتجلى قانون الإرجاء حتى في قتل ناقة صالح إذ روي في الخبر أن صالحاً ندب قومه لطلب فصيل الناقة عسى أن ينصرف عنهم العذاب , بمعنى أنه كانت عندهم آيات :
الأولى : بعثة النبي صالح عليه السلام .
الثانية : آية الناقة ونسبتها إلى الله عز وجل , كما ورد في التنزيل [وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
الثالثة : آية فصيل الناقة .
والآية الحسية الثانية والثالثة أعلاه فرع بعثة النبي صالح عليه السلام , لأن معجزته هي الناقة .
لقد حذّر صالح عليه السلام قومه بأن عقر الناقة سبب لنزول العذاب بهم , وأنهم سيعقرونها , فاستعاذوا بالله عز وجل , وأظهروا التنزه عن هذا الفعل إذ أدركوا أنها معجزة فلم تخلق في رحم , وكانوا يخصصون لها يوماً في ورد الماء , لتعطي لهم الحليب , وبما يكفيهم جميعاً .
فقال لهم صالح : يوشك أن يولد فيكم من يقوم بعقرها , وصفته (أحمر أزرق أشقر)( ) فقاموا بالإحتراز , وجعلوا الشرطة مع القوابل مخافة أن يولد المولود يدخلون ويفحصون هيئته , وإذا كانت هذه صفته قتل , وكان في المدينة شيخان شريفان لهما جاه وشأن , فتزوج ابن أحدهما ببنت الآخر , فولد لهما (قدار) على الصفة التي ذكرها النبي صالح عليه السلام , فأراد الشرطة قتله , ولكن جداه منعاه إلى أن شبّ وكبر فقام بعقر الناقة بالسيف في عراقيبها ,(وقيل بالسهم في ضرعها) ( ).
وعن (جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل الحجر( ) قام فخطب الناس .
فقال : يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم عن الآيات ، فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث إليهم آية فبعث الله إليهم الناقة ، فكانت ترد من هذا الفج( ) فتشرب ماءهم يوم وردها ، ويحتلبون من لبنها مثل الذي كانوا يأخذون من مائها يوم غبها وتصدر من هذا الفج ، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام ، وكان وعداً من الله غير مكذوب ، ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان منهم تحت مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلاً كان في حرم الله ، فمنعه حرم الله من عذاب الله .
فقيل : يا رسول الله من هو؟
قال : أبو رغال . فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه) ( ).
ولما قام قدار بعقر الناقة هرب فصيلها صاعداً إلى جبل يقال له القارة , فرغا ثلاثاً , فقال : يا صالح , هذا ميعاد ثلاثة أيام للعذاب , وهو بيان لقوله تعالى [فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ] ( ).
لقد أمرهم النبي صالح بالتدارك بطلب الفصيل عسى أن يصلوا إليه قبل رغائه فيندفع عنهم العذاب , فسعوا للصعود إليه في الجبل , فارتفع الجبل في السماء .
و(عن ابن عباس : لو صعدتم على القارة لرأيتم عظام الفصيل) ( ).
وتتعلق هذه الواقعة برجاء النبي صالح إرجاء العذاب وليس إرجاء كتابة الذنب وحده ولم يتم أي الإرجائين , أو تم إرجاء كتابتها وإمهالهم ولكنهم إزدادوا عتوا , للزوم السعي والعمل ولبيان قانون أن الله عز وجل قد ينزل العذاب بالفرد والجماعة والطائفة , وقد يعجله , فلا يجوز التمادي في الذنوب والإقامة على المعاصي , ولا تأخير التوبة .
ولكن شاء الله عز وجل أن ينزل بهم العذاب لأنهم تعدوا حدوده , وأجهزوا على الآية , وهي الناقة , مع الجحود برسالة صالح عليه السلام .
ويتفضل الله عز وجل ويحول بين الإنسان وفعل المعصية , ويدفعه عن إرتكاب الذنب , وكل آية من القرآن من مصاديق هذا الدفع , ومنه آية البحث , ومن وجوه تقديرها :
الأول : يا أيها الناس لا تقولوا [إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الثاني : يا أيها الناس لا تشترطوا على الرسول , وتوجدوا العوائق أمام الإيمان .
الثالث : يا أيها الذين تشترطون القربان إن الناس يدخلون الإسلام جماعات , ولا يلتفتون إلى شرطكم , قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( ) وستبقى معجزات النبوة براهين ساطعة , وآيات القرآن بينات جلية تدعو إلى الهدى والصلاح , وفي التنزيل [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
و(عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لن يستكمل مؤمن إيمانه حتى يكون هواه تبعاً لما جئتكم به) ( ).
شهب من قصص الأنبياء
ذكرت بعض الآيات قتل الأنبياء , والمراد بعض الأنبياء وعدد منهم إذ أن شطراً منهم مات على الفراش كما في إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وهارون وموسى , وقد مات هارون قبل موسى عليه السلام .
(إذ أوحى الله عز وجل إلى موسى : أني متوفِّ هارون , فأت به جبل كذا وكذا)( ).
أي مع أن هارون نبي من الأنبياء لم يخبر بموضع موته , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ] ( ) وانطلق موسى وهارون نحو الجبل , فإذا هما بشجرة لم يروا شجر مثلها , وكأنها من شجر الجنة نزلت لإستقبال هارون .
وإذا هما بينت وغرفة قد بني فيها سرير عليه فرش وفيرة , وتنبعث منه ريح طيبة وعطر جميل , فلما نظر هارون إلى السرير وهيئته أعجبته , وقال : ياموسى إني أحب أن أنام على هذا السرير .
قال : فنم عليه .
وهل كان موسى عليه السلام يعلم أن هذه النوبة هي الأخيرة لهارون الأقرب لا.
فقال هارون (إنّي أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب عليّ.
قال له موسى : لا.
أنا أكفيك رب هذا البيت فنم.
قال : يا موسى بل نم معي فإن جاء رب البيت غضب عليّ وعليك جميعاً) ( ) .
فمع أن موسى عليه السلام نبي رسول وبيده آية العصا ذات الشواهد الخارقة , ومعه هارون وهو نبي فإنهما تحرجا من النوم على سرير مجهول المالك وخشي هارون أن يغضب عليهما المالك إن حضر .
فنام موسى مع هارون , فأخذ هارون الموت , فلما أحس بالإحتضار , قال ياموسى خذ عيني , وطلب إغماض عينيه واستقبال الدخول في عالم البرزخ من غير ملل أو ضجر .
فلما توفاه الله عز وجل نزل موسى من السرير وغادر البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير الذي مات عليه هارون .
فعاد موسى عليه السلام حزيناً إلى بني إسرائيل ليس معه أخوه هارون النبي الذي جعله الله عز وجل له عونا وشدّ به عضده , قال تعالى [سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ] ( ).
وفيه نكتة عقائدية وهي أن الله عز وجل قد فتح لموسى عليه السلام , وجعله قادراً على التبليغ والأمر والنهي بالحق من غير وجود هارون , وأن الله عز وجل قد تفضل عليه بأولياء وأنصار من بني إسرائيل , وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ] ( ) ونظر بنو إسرائيل إلى موسى وحده , فسألوه عن هارون فأخبرهم بأن الله عز وجل قد توفاه ولكنهم (قالوا : إنّ موسى قتل هارون وحسده حبّ بني إسرائيل له .
فقال موسى : ويحكم فإنّ أخي أُمر ولن أقتله) ( ).
وتلك مصيبة ثانية لموسى عليه السلام فبعد فقده لأخيه هارون النبي وجه له عدد من رجال قومه الإتهام بأنه الذي قتله , لشدة حبهم لهارون لذا حينما أوذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر الأذى الذي أصاب موسى عليه السلام .
و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: لا يبلِّغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا ، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا [سليم الصدر] .
وذكر في معناه (أَيْ مِنْ مَسَاوِيكُمْ جُمْلَة حَالِيَّة .
قَالَ اِبْن الْمَلَك : وَالْمَعْنَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَتَمَنَّى أَنْ يَخْرُج مِنْ الدُّنْيَا وَقَلْبه رَاضٍ عَنْ أَصْحَابه مِنْ غَيْر سَخَط عَلَى أَحَد مِنْهُمْ ، وَهَذَا تَعْلِيم لِلْأُمَّةِ أَوْ مِنْ مُقْتَضَيَات الْبَشَرِيَّة) ( ).
ولكن القدر المتيقن هو خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اليومي من بيته إلى أصحابه فلم يقل (حتى أخرج منكم)
وفي التنزيل [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) ( ).
فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مالٌ فقسمه، قال: فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه: والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة.
قال: فَتَثَبَّتُ حتى سمعت ما قالا ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقلت : يا رسول الله ، إنك قلت لنا : لا يبلغني أحد عن أصحابي شيئا ، وإني مررت بفلان وفلان ، وهما يقولان كذا وكذا.
فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشَقَّ عليه.
ثم قال : دعنا منك، لقد أوذي موسى بأكثر من هذا ، فصبر) ( ).
أي أن ابن مسعود لم يتحمل ما قالا وإن ابلغهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم النقل والإخبار , ولكن النبي صلى الله عله وآله وسلم لم يحضرهما ويسألهما ويقوم بتوبيخهما , وهو العادل الذي يقسم المال بالوحي , قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) . وهل ترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمحاسبتهما من الوحي , الجواب نعم , ليتعلم الأمراء والعلماء منه دروساً في الصبر وكظيم الغيظ . قال تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ). لبيان قانون وهو أن الأذى يصاحب النبي حتى بعد إزاحة الظالم وهلاكه , لقانون عام وهو أن الدنيا دار إمتحان وابتلاء وأن الأنبياء يتحملون الأذى , ويتلقونه بالصبر لتنمية ملكة الصبر عند المؤمنين , وبقائه سلاحاً لمواجهة آفات ومصائب الدنيا . لقد اتهم عدد من بني إسرائيل موسى عليه السلام بقتل هارون , وهل كان لقتله رجلاً من آل فرعون قبل فراره من فرعون وملئه موضوعية بهذا الإتهام لا يبعد هذا , فحينما بلغ موسى أشده وصار رجلاَ , أخذ آل فرعون يهابونه , ويمتنعون عن ظلم الأفراد من بني إسرائيل ولا يسوقونهم إلى سخرة خاصة وأن موسى عليه السلام قد تربّى وعاش في بيت آل فرعون , بنصيحة من امرأة فرعون بعد أن القى الله عز وجل حب موسى الرضيع في قلبها وكأنه ابنها , فحينما أمر الله عز وجل أم موسى بأن تلقي موسى في نهر النيل وسوس الشيطان لها وصارت تحدث نفسها ما فعلت بابني ؟ ليتني تركته عندي حتى يذبح فأكفنه وأدفنه , وأطمئن عليه فهو خير من إلقائه إلى حيتان البحر , وكان ماء النهر قد أخذ الصندوق الذي كان فيه موسى , وكانوا يظنون أن نصرة موسى لبني إسرائيل إنما سبب كون مرضعته هي أمه أم موسى , ولم يعلموا أنه ابنها حقيقة , كما ورد في التنزيل [إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى] ( ). وهذا الإرجاع معجزة حسية لموسى وهو في المهد قبل أن يبلغ ويصير نبياً وهو مقدمة لكلام عيسى عليه السلام في المهد , ليتلقى بنو إسرائيل نبوته بالتصديق , وفي التنزيل [وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ]( ). إلى أن وصل به موضعاً كانت جواري امرأة فرعون يستقين الماء منه , فليس من أنابيب ومضخات تسحب الماء , وكان من عادتهم أن الجواري تسقي الماء للعيال , فلا يدخل الرجل السقاء على العائلة والنسوة . فإن قلت قد كان يوسف عليه السلام عند امرأة العزيز وفي بيتها , الجواب يختلف الأمر بالنسبة لفرعون فهو الملك والسلطان , ويتقيدون بنظام دقيق بالنسبة للعوائل , ثم أن يوسف عليه السلام , كان فتى في داخل بيت العزيز يتولى بعض شؤون المنزل , لذا استغربت النسوة فعلها ومراودتها , كما ورد في التنزيل [وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ). وتدل الآية أعلاه على براءة يوسف وأنه لم يهم بها , وهو من مصاديق التفسير الذاتي للقرآن , فالآية أعلاه تفسير وبيان لقوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( ). وورد (عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن قول الله تعالى لموسى عليه السلام : { وفتناك فتوناً }( ) فسألت عن الفتون ما هو؟ فقال : استأنف النهار يا ابن جبير ، فإن لها حديثاً طويلاً ، فلما أصبحت غدوت على ابن عباس ، لأتنجز ما وعدني من حديث الفتون . فقال : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله عز وجل وعد إبراهيم عليه السلام ,من أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً . فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك ما يشكون فيه ، ولقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب ، فلما هلك قالوا : ليس هذا كان وعد الله إبراهيم . قال فرعون : فكيف ترون؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم ، على أن يبعث رجالاً , معه الشفار , يطوفون في بني إسرائيل : فلا يجدون مولوداً إلا ذبحوه ، ففعلوا فلما رأوا أن الكبار يموتون بآجالهم ، وإن الصغار يذبحون . قالوا : يوشك أن يفنىٍ بنو إسرائيل ، فتصيروا تباشروا الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر ، فتقل أبناؤهم. ودعوا عاماً لا تقتلوا منهم أحداً ، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار؛ فإنهم لن يكثروا فتخافون مكاثرتهم إياكم ، ولن يفنوا بمن تقتلون فتحتاجون إليهم ، فاجمعوا أمرهم على ذلك ، فحتى لو خرج في بني إسرائيل قائد وزعيم فليس هم من الكثرة بحيث يهددون ملك فرعون , وقيل أن فرعون مع تقادم السنين ونسيان هذه الرؤيا , وعدم تجلي مصداق لتأويلها خفف الذبح في بني إسرائيل . إذ أنه رآى في المنام كأن ناراً أقبلت من بيت المقدس واحاطت بيوت مصر فأحرقت القبط على نحو الحصر , وتركت بني إسرائيل , عندئذ دعا فرعون السحرة والكهنة والزجرة وهم الذين يزجرون الطير , وكانت في مصر أيام الفراعنة مكاتب خاصة لتأويل الرؤيا , ولمن يريد أن يرى رؤيا مخصوصة فسألهم فرعون عن تأويل رؤياه (فقالوا له : يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه يعنون بيت المقدس رجل يكون على وجهه هلاك مصر . فأمر بني إسرائيل أن لا يولد لهم ولد إلا ذبحوه ، ولا يولد لهم جارية إلا تركت . وقال للقبط : انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجاً فادخلوهم ، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة ، فجعلوا بني إسرائيل في أعمال غلمانهم ، وادخلوا غلمانهم . فذلك حين يقول { إن فرعون علا في الأرض }( ) يقول : تجبر في الأرض { وجعل أهلها شيعاً }( ) يعني بني إسرائيل { يستضعف طائفة منهم }( ) حين جعلهم في الأعمال القذرة) ( ) . فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية آمنة ، حتى إذا كان في قابل حملت بموسى ، فوقع في قلبها الهم والحزن ، فذلك من الفتون يا ابن جبير ، لما دخل عليه في بطن أمه ما يراد به . فأوحى الله إليها : أن : { لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين}( ). لقد رأت جواري امرأة فرعون التابوت , فأخذنه فهممن أن يفتحن بابه . فقال بعضهن لبعض : إن في هذا لمالاً ، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه ، فحملنه بهيئته لم يحركن منه شيئاً ، حتى دفعنه إليها ، فلما فتحته رأت فيه الغلام ، فألقي عليها محبة لم تلق منها على أحد من البشر قط ، { وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً }( ) من ذكر كل شيء ، إلا من ذكر موسى ، فلما سمع الذباحون بأمره ، أقبلوا إلى امرأة فرعون بشفارهم يريدون أن يذبحوه ، وذلك من الفتون يا ابن جبير . فقالت للذباحين : إن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل ، وإني آتي فرعون فأستوهبه منه ، فإن وهبه لي فقد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه لم ألمكم) ( ). لقد ذكرت امرأة فرعون في القرآن مرتين : الأولى : بخصوص رضاعة وحضانة موسى عليه السلام , كما في قوله تعالى , [وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ] ( ). الثانية : إيمان وجهاد زوجة فرعون بقوله تعالى [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] ( ). فهل هي ذات المرأة أم أنهما اثنتان , خاصة وأن فرعون اسم لملك مصر مطلقاً , كما يطلق اسم قيصر على ملك الروم , وكسرى على ملك فارس . والمختار أنها واحدة , وهي أسيا بنت مزاحم إذ أن فرعون علم بأنها اتبعت دين موسى عليه السلام , فقام فرعون بربط يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها بالشمس والحر , وتحملت الأذى والألم , وتوجهت إلى الله عز وجل بالدعاء وبسؤال الجنة . وهل أراد فرعون الإنتقام منها لأنها شفعت لموسى عليه السلام وحالت دون قتله , الأقرب نعم . و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أفضل نساء العالمين خديجة ، وفاطمة ، ومريم ، وآسية امرأة فرعون . وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله اصطفى على نساء العالمين أربعاً : آسية بنت مزاحم ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم) ( ) والحديث أعلاه متواتر , وورد بألفاظ متعددة ومتقاربة في كتب المسلمين . وعن ابن عباس في حديث (قال : وكان فرعون قد تزوّج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسيا بنت مزاحم ، فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت : وكيف يسعني أن أصبر على ما أتى فرعون وأنا مسلمة وهو كافر ، فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريباً منها فقالت : يا فرعون أنت شرّ الخلق وأخبثه عمدت إلى الماشطة فقتلتها ، فقال : فلعلّ بك الجنون الذي كان بها. قالت : ما بي من جنون ، وإن إلهي وإلهها وإلهكَ وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له فمزّق عليها وضربها وأرسل إلى أبويها فدعاهما فقال لهما الأمر ، بأنّ الجنون الذي كان بالماشطة أصابها فقالت : أعوذ بالله من ذلك ، إنّي أشهد أنّ ربّي وربّك وربّ السماوات والأرض واحد لا شريك له ، فقال أبوها : يا آسية ألست خير نساء العماليق وزوجك إله العماليق؟ قالت : أعوذ بالله من ذلك إن كان ما تقول حقّاً ، فقولا له : يتوّجني تاجاً يكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله ، فقال لهم فرعون : أخرجا عنّي فمدّها بين أربعة أوتاد يعذّبها ، وفتح الله سبحانه لها باباً إلى الجنّة ليهوّن عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت : {رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} ( ) يعني من جماع فرعون {وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ( ) يعني من فرعون وشيعته، فقبض الله سبحانه روحها وأسكنها الجنّة.) ( ) . لبيان قانون ترشح إفاضات النبوة على الذين حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا من أصرّ على الكفر , كما في أبي لهب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وكذا بالنسبة لفرعون الذي أجاب بجفاء حينما التمست منه امرأته الإبقاء على موسى وقالت [قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ]( ) فقال فرعون يكون لك وأملي فلا حاجة لي فيه. و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَوْ أَقَرَّ فِرْعَونُ بِأَنَّهُ يَكُونُ لَهُ قُرَّةُ عَيْنٍ كَمَا أَقَرَّت امْرَأَتُهُ لَهَدَاهُ اللَّهُ بِهِ كَمَا هَدَاهَا وََلَكِنَّ اللَّهَ حَرَمَهُ ذلِكَ) ( ). ولو اهتدى فرعون لبقي في ملكه وسلطان عرشه ونجا وجيشه من الغرق في البحر الأحمر . فإن قيل لو لم يخرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل ويتعقبهم فرعون وجنوده لما ضرب موسى البحر بعصاه وتجلت معجزة تتلقاها أجيال المؤمنين في كل زمان بالقبول والتصديق , والجواب إن الله عز وجل واسع كريم . وقد يتبدل سبب حصول المعجزة , ويكون نعمة بدل الإبتلاء , قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ). لقد أمر الله عز وجل الناس باتباع الأنبياء , والعمل وفق نهجهم بطاعة الله عز وجل , قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] ( ). وهل يمكن القول بإفادة المعنى العام بإتباع الأنبياء من الخطاب الخاص برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ). الجواب نعم , ففي كل زمان من الأزمنة السابقة يتوجه ذات الخطاب العام من الله عز وجل إلى الناس , ومن وجوه تقديره : الأول : (وما آتاكم نوح فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) ولو أطاعه قومه لما وقع الطوفان . الثاني : وما آتاكم إبراهيم فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا , لذا أخبر الله عز وجل عن إستجابة الناس لإبراهيم في دعوته إلى حج البيت الحرام [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ). الثالث : (وما آتاكم موسى فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). إذ بعث الله عز وجل موسى عليه السلام لفرعون لهدايته , وتركه إدعاء الربوبية للملازمة بين هذا الإدعاء وبين الهلاك , وصدح صوت موسى بين آل فرعون لندبهم إلى التوبة , وعدم الإنقياد لفرعون بدعواه هذه . وجرت معجزة العصا على يد موسى بجذب الناس إلى للإيمان , وآمن ذات السحرة الذين كان فرعون يعتمدهم , والناس يتبعونهم . و (عن ابن إسحاق قال: أوحى الله إليه: أن ألق ما في يمينك! فألقى عصاه من يده ، فاستعرضَت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم ، وهي حيات في عين فرعون وأعين الناس تسعى ، فجعلت تلقفها، تبتلعها ، حية حية ، حتى ما يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوه. ثم أخذها موسى ، فإذا هى عصاه في يده كما كانت ، ووقع السحرة سجدًا قالوا (آمنا برب العالمين رب موسى وهارون)( ). لو كان هذا سحرا ما غلبنا! . حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية ، عن هشام الدستوائي قال ، حدثنا القاسم بن أبي بزة . قال : أوحى الله إليه : أن ألق عصاك! فألقى عصاه ، فاذا هي ثعبان فاغرٌ فاه ، فابتلع حبالهم وعصيهم. فألقي السحرة عند ذلك سجّدًا ، فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنارَ وثوابَ أهلهما) ( ). واختلف في عدد السحرة على وجوه : الأول : (جمع فرعون سبعين ألف ساحر، فألقوا سبعين ألف حبل ، وسبعين ألف عصا ، فألقى موسى عصاه ، فإذا هي ثعبان مبين فاغر به فاه ، فابتلع حبالهم وعصيهم( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا ) ( ) عند ذلك، فما رفعوا رءوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلهما) ( ). الثاني : (وقال السُّدِّي : كانوا بضعة وثلاثون ألف رجل , ليس رجل منهم إلا ومعه حبل وعصا) ( ). الثالث : (قال محمد بن إسحاق : صَفّ خمسة عشر ألف ساحر ، مع كل ساحر حباله وعصيه ، وخرج موسى، عليه السلام ، معه أخوه يتكئ على عصاه ، حتى أتى الجمع ، وفرعون في مجلسه مع أشراف أهل مملكته. ثم قال السحرة: { يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى( ) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ) ( ). الرابع : كانوا تسعمائة , ثلاثمائة من العريش , وثلاثمائة من فيوم , وثلاثمائة من الاسكندرية( ). وفي الخبر أدناه عن الإمام الصادق عليه السلام أنهم ثمانون وأن فرعون حينما رآى الآيات تترى على يد موسى أراد أن يؤمن , ولكن وزيره هامان أشار عليه بالإمتناع . (عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : لما بعث الله موسى إلى فرعون أتى بابه , فاستأذن عليه ولم يؤذن له، فضرب بعصاه الباب فاصطكت الابواب مفتحة. ثم دخل على فرعون فاخبره أنه رسول من رب العالمين، وسأله أن يرسل معه بني إسرائيل. فقال له فرعون كما حكى الله: (ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت)( ).
أي قتلت الرجل وأنت من الكافرين , يعني كفرت نعمتي ، فقال موسى كما
حكى الله: (فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم) ( ) إلى قوله : أن عبدت بني
إسرائيل.
فقال فرعون : (وما رب العالمين) ( ) وإنما سأله عن كيفية الله .
فقال موسى : رب السموات والارض وما بينهما إن كنتم مؤمنين فقال فرعون متعجبا لاصحابه : (ألا تستمعون أسأله) ( ) عن الكيفية فيجيبني عن الخلق !
فقال موسى 🙁 رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ) ( ).
ثم قال لموسى: (لئن اتخذت إلها غيري لاجعلنك من المسجونين) ( ).
قال موسى: (أو لو جئتك بشئ مبين)( ) قال فرعون : (فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين)( ).
فلم يبق أحد من جلساء فرعون إلا هرب ودخل فرعون من الرعب ما لم يملك نفسه.
فقال فرعون: يا موسى انشدك الله والرضاع إلا ما كففتها عني ، فكفها ، ثم (نزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين)( ).
فلما أخذ موسى العصا رجعت إلى فرعون نفسه وهم بتصديقه فقام إليه هامان فقال له : بينما أنت إله تعبد إذ صرت تابعا لعبد ؟ !
ثم قال : فرعون للملأ الذي حوله : (إن هذا لساحر عليم * يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون)( ) إلى قوله : (اٍلميقات يوم معلوم) ( ).
وكان فرعون وهامان قد تعلما السحر وإنما غلبا الناس بالسحر ، وادعى فرعون الربوبية بالسحر، فلما أصبح بعث في المدائن حاشرين ، مدائن مصر كلها، وجمعوا ألف ساحر، واختاروا من الالف مائة ومن المائة ثمانين.
فقال السحرة لفرعون : قد علمت أنه ليس في الدنيا أسحر منا ، فان غلبنا موسى فما يكون لنا عندك ؟
قال : (إنكم إذا لمن المقربين عندي)( )، اشارككم في ملكي ، قالوا: فإن غلبنا موسى وأبطل سحرنا علمنا أن ما جاء به ليس من قبل السحر ولا من قبل الحيلة، آمنا به وصدقناه .
فقال فرعون : إن غلبكم موسى صدقته أنا أيضا معكم ، ولكن (أجمعوا كيدكم)( ) أي حيلتكم.
قال : وكان موعدهم يوم عيد لهم. فلما ارتفع النهار من ذلك اليوم، وجمع فرعون الخلق والسحرة، وكانت له قبة طولها في السماء ثمانون ذراعا ، وقد كانت لبست الحديد الفولاذ( ) , وكانت إذا وقعت الشمس عليها لم يقدر أحد أن ينظر إليها من لمع الحديد ووهج الشمس ، وجاء فرعون وهامان وقعدا عليها ينظران، وأقبل موسى ينظر إلى السماء.
فقالت السحرة لفرعون : إنا نرى رجلا ينظر إلى السماء ولم يبلغ سحرنا السماء ، وضمنت السحرة من في الارض .
فقالوا لموسى : (إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين) ( )، (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون)( ) (فألقوا حبالهم وعصيهم)( )
فأقبلت تضطرب مثل الحيات وهاجت .
وقالوا : (بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون)( ) (فأوجس في نفسه خيفة موسى)( ).
فنودي : (لا تخف إنك أنت الاعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى)( ).
فألقى موسى العصا فذابت في الارض مثل الرصاص ثم طلع رأسها وفتحت فاها و وضعت شدقها العليا على رأس قبلة فرعون .
ثم دارت والتقمت عصي السحرة وحبالها وغلب كلهم وانهزم الناس حين رأوها وعظمها وهولها مما لم تر العين ولا وصف الواصفون مثله قبل، فقتل في الهزيمة من وطئ الناس بعضهم بعضا عشرة آلاف رجل وامرأة وصبي ودارت على قبة فرعون.
قال : فأحدث فرعون وهامان في ثيابهما وشاب رأسيهما وغشي عليهما من الفزع. ومرّ موسى في الهزيمة مع الناس فناداه الله (خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الاولى)( ), ( ).
فرجع موسى ولف على يده عباءة كانت عليه ثم أدخل يده في فمها فإذا هي عصا كما كانت، وكان كما قال الله: (فالقي السحرة ساجدين)( ) لما رأوا ذلك (قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى وهارون) ( ) فغضب فرعون عند ذلك غضبا شديدا و(قال: آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم)( ) يعني موسى (الذي علمكم السحر فسوف تعلمون * لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لاصلبنكم أجمعين)( ).
فقالوا له كما حكى الله عزوجل : (لا ضير إنا إلى ربنا لمنقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين)( ).
فحبس فرعون من آمن بموسى في السجن حتى أنزل الله عليهم الطوفان والجراد
والقمل والضفادع والدم فأطلق عنهم) ( ).
وفيه شاهد على أن الرسل لا يسعون للقتال , إنما يأتون بالمعجزة والبينة التي تدل على صدق دعوتهم إلى الله عز وجل , ولزوم التصديق بهم .
ومع كثرة الجنود والسلاح عند فرعون فقد قلّ شأنه عند نفسه وقومه حينما ألقى موسى عليه السلام عصاه , وأدرك الناس كذب فرعون [فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( ).
ومن مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) إمتناع استدامة إستكبار وعتو الإنسان , فلابد أن يُقهر ويأتيه الخزي والذل ثم يغيّبه الموت , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ) وفي واقعة يوم الزينة( ) شاهد على قانون وهو تنزه الأنبياء عن الإرهاب والبطش ومقدمات القتال والتعدي , إذ دخل موسى عليه السلام على فرعون بلباس رث ليس معه إلا عصاه , وقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مهاجراَ وليس معه سلاح واكتفى برفقة أحد أصحابه معه , ولو أراد لأخرج عددا من الصحابة معه يذبون عنه ويحرسونه , إنما طلب من نحو ثمانين منهم الهجرة إلى الحبشة وعدد آخر إلى المدينة قبل أن يخرج هو بنفسه , وفي التنزيل [إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا]( ) .
ولم يكن معه سيف للقتال عند الهجرة , ولكن كانت المعجزات تصاحبه في الطريق بما يدفع الأذى عنه , ويكون الناس الذين مرّ عليهم , أو الذين لحقوا به طمعاَ في جعل وجائزة قريش شهوداَ عليها , وفيه ترغيب لهم ولغيرهم بالإسلام , وهل كان مبيت الإمام علي عليه السلام في فراش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونجاته من القتل بعد إحاطة رجال قريش به , وإجهازهم عليه بسيوفهم , معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم , وهي من الشواهد على التضاد بين الإسلام والإرهاب .
ولقد أعرض عيسى عليه السلام عن الظالمين , وسئل من قبل أصحابه يوما أن ينزل عليهم مائدة من السماء فيها من لذيذ الطعام , ما لم يكن عند أهل الأرض , ليأكلوا ألذ وأطيب مما يأكله الملوك ولو لمرة واحدة , وقالوا : [قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ]( ) .
(عن كعب قال : لما رأى عيسى قلة من اتبعه وكثرة من كذبه ، شكا ذلك إلى الله .
فأوحى الله إليه { إني متوفيك ورافعك إليَّ }( ) وإني سأبعثك على الأعور الدجال فتقتله ، ثم تعيش بعد ذلك أربعاً وعشرين سنة ، ثم أميتك ميتة الحي .
قال كعب : وذلك تصديق حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال : كيف تهلك أمة أنا في أوّلها وعيسى في آخرها؟)( )..
وتبين الآيتان أعلاه قانونا وهو أن أصحاب النبي ينقلون إلى الناس معجزاته الحسية والدلائل التي تؤكد صدق رسالته , وهو حجة على الذين سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية القربان , كما في قوله تعالى[الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
إذ كان الأولى بهم ان يتصلوا بالصحابة ويسألوا عن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وإن كانت معجزاته تمتاز بأنها على قسمين :
الأول : المعجزات العقلية , وكل آية قرآنية معجزة عقلية , باقية طرية إلى يوم القيامة .
الثاني : المعجزات الحسية وهي كثيرة , ويمكن تقسيمها إلى شعب :
الأولى : المعجزات التي في مكة من أيام البعثة النبوية إلى حين هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة , ومنها إنشقاق القمر , قال تعالى [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ]( ).
ومنها آية الإسراء والمعراج , وطوي المسافات البعيدة بشطر من ليلة واحدة , والخبر المتواتر بحنين الجذع الذي كان يخطب عليه جزعاً وحسرة لفراق النبي صلى الله عليه وآله وسلم له .
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم (إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن)( ).
وهل نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ليلة الهجرة من معجزاته الحسية , الجواب نعم , وهي من أعظم المعجزات , إذ أنها تتويج لجهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في مكة , ومقدمة ونوع طريق لنزول آيات الأحكام , ومطلق السور المدنية , فصحيح أن عددها أقل من عدد السور المكية ولكن كلماتها أكثر لطول الآيات المدنية .
مرفق الجدول الآتي , وذكر أن عدد كلمات القرآن هو (77437) وعدد حروف القرآن هو (323670) حرفاً .
ت اسم السورة عدد الآيات مكية أو مدنية عدد الكلمات بدون البسملة عدد الكلمات مع البسملة عدد الحروف
1 سورة لفاتحة
7 مدنية 29 139
2 سورة البقرة
286 مدنية 6144 25613
3 سورة آل عمران
200 مدنية 3503 14605
4 سورة النساء
176 مدنية 3712 15937
5 سورة المائدة
120 مدنية 2837 11892
6 سورة الأنعام
165 مكية 3055 12418
7 سورة الأعراف
206 مكية 3344 14071
8 سورة الأنفال
75 مدنية 1243 5299
9 سورة التوبة
129 مدنية 2506 10873
10 سورة يونس
109 مدنية 1841 7425
11 سورة هود
123 مكية 1947 7633
12 سورة يوسف
111 مكية 1795 7125
13 سورة الرعد
43 مدنية 854 3450
14 سورة إبراهيم
52 مكية 831 3461
15 سورة الحجر
99 مكية 658 2797
16 سورة النحل
128 مكية 1845 7642
17 سورة الإسراء
111 مكية 1559 6480
18 سورة الكهف
110 مكية 1583 6425
19 سورة مريم
98 مكية 972 3835
20 سورة طه
135 مكية 1354 5288
21 سورة الأنبياء
112 مكية 1174 4925
22 سورة الحج
78 مدنية 1279 5196
23 سورة المؤمنون
118 مكية 1051 4354
24 سورة النّور
64 مدنية 1317 5596
25 سورة الفرقان
77 مكية 896 3786
26 سورة الشعراء
227 مكية 1322 5517
27 سورة النّمل
93 مكية 1165 4679
28 سورة القصص
88 مكية 1441 5791
29 سورة العنكبوت
69 مكية 982 4200
30 سورة الرّوم
60 مكية 818 3388
31 سورة لقمان
34 مكية 550 2121
32 سورة السجدة
30 مكية 374 1523
33 سورة الأحزاب
73 مدنية 1303 5618
34 سورة سبأ
54 مكية 884 3510
35 سورة فاطر
45 مدنية 780 3159
36 سورة يس
83 مكية 733 2988
37 سورة الصافات
182 مكية 865 3790
38 سورة ص
88 مكية 735 2991
39 سورة الزمر
75 مكية 1177 4741
40 سورة غافر
85 مكية 1228 4984
41 سورة فصّلت
54 مدنية 796 3282
42 سورة الشورى
53 مكية 860 3431
43 سورة الزخرف
89 مكية 837 3508
44 سورة الدّخان
59 مكية 346 1439
45 سورة الجاثية
37 مكية 488 2014
46 سورة الأحقاف
35 مكية 646 2602
47 سورة محمد
38 مدنية 542 2360
48 سورة الفتح
29 مدنية 560 2456
49 سورة الحجرات
18 مدنية 353 1493
50 سورة ق
45 مكية 373 1473
51 سورة الذاريات
60 مكية 360 1510
52 سورة الطور
49 مكية 312 1293
53 سورة النجم
62 مكية 359 1405
54 سورة القمر
55 مكية 342 1438
55 سورة الرحمن
78 مدنية 352 1585
56 سورة الواقعة
96 مكية 379 1692
57 سورة الحديد
29 مدنية 575 2475
58 سورة المجادلة
22 مدنية 475 1991
59 سورة الحشر
24 مدنية 447 1913
60 سورة الممتحنة
13 مدنية 352 1519
61 سورة الصف
14 مدنية 226 936
62 سورة الجمعة
11 مدنية 177 749
63 سورة المنافقون
11 مدنية 180 780
64 سورة التغابن
18 مدنية 242 1066
65 سورة الطلاق
12 مدنية 279 1170
66 سورة التحريم
12 مدنية 254 1067
67 سورة الملك
30 مكية 337 1316
68 سورة ن
52 مكية 301 1258
69 سورة الحاقة
52 مكية 261 1107
70 سورة المعارج
44 مكية 217 947
71 سورة نوح
28 مكية 227 947
72 سورة الجن
28 مكية 286 1089
73 سورة المزّمّل
20 مكية 200 840
74 سورة المدّثر
56 مكية 256 1015
75 سورة القيامة
40 مكية 164 664
76 سورة الإنسان
31 مدنية 243 1065
77 سورة المرسلات
50 مكية 181 815
78 سورة النبأ
40 مكية 174 766
79 سورة النازعات
46 مكية 179 762
80 سورة عبس
42 مكية 133 538
81 سورة التكوير
29 مكية 104 425
82 سورة الإنفطار
19 مكية 81 326
83 سورة المطفّفين
36 مكية 169 740
84 سورة الإنشقاق
25 مكية 108 436
85 سورة البروج
22 مكية 109 459
86 سورة الطارق
17 مكية 61 249
87 سورة الأعلى
19 مكية 72 293
88 سورة الغاشية
26 مكية 92 378
89 سورة الفجر
30 مكية 139 573
90 سورة البلد
20 مكية 82 335
91 سورة الشمس
15 مكية 54 249
92 سورة الليل
21 مكية 71 312
93 سورة الضحى
11 مكية 40 164
94 سورة الشرح
8 مكية 27 102
95 سورة التين
8 مكية 34 156
96 سورة العلق
19 مكية 72 281
97 سورة القدر
5 مكية 30 112
98 سورة البينة
8 مدنية 94 394
99 سورة الزلزلة
8 مدنية 36 156
100 سورة العاديات
11 مكية 40 164
101 سورة القارعة
11 مكية 36 158
102 سورة التكاثر
8 مكية 28 122
103 سورة العصر
3 مكية 14 70
104 سورة الهمزة
9 مكية 33 133
105 سورة الفيل
5 مكية 23 96
106 سورة قريش
4 مكية 17 73
107 سورة الماعون
7 مكية 25 112
108 سورة الكوثر
3 مكية 10 42
109 سورة الكافرون
6 مكية 27 95
110 سورة النصر
3 مدنية 19 79
111 سورة المسد
5 مكية 29 81
112 سورة الإخلاص
4 مكية 15 47
113 سورة الفلق
5 مكية 23 71
114 سورة النّاس
6 مكية 20 80
الثانية : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة وصبيحة الهجرة إلى المدينة , والآيات التي نزلت فيها وهي على أقسام :
أولاً : الآيات التي نزلت قبل الهجرة وتشير إليها قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
ثانياً : الآيات التي نزلت ليلة الهجرة وصبيحتها .
ثالثاً : الآيات التي تتعلق بليلة الهجرة , وفضل الله عز وجل في نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وفي قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] ( ) عن ابن عباس أنها نزلت في الإمام علي عليه السلام ليلة الهجرة( ).
الثالثة : الآيات التي نزلت في طريق الهجرة منها قوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة نجاته من المشركين مع أنهم جعلوا جعلاً بمقدار ديته وهو مائة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً , فخرج الأفراد من أهل مكة يتبعون الأثر , ولم يكن اتباعه أمراً عسيراً آنذاك لوجود القافة , فحال يرون القدم أو أثرها في موضع فإنهم يتبعون هذا الأثر حتى في الأرض الصلبة مادام فيها قليل من الغبار والقافة أسر مخصوصة تتوارث هذا العمل بفطنة .
وعندما افتقدت قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , صباح ليلة الهجرة , أرسلت على القائف( ) وأروه أثر قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي ترجمة كرز بن علقمة (قال ابن سعد : هو الذي قفا أثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر، فانتهى إلى باب الغار .
فقال : هنا انقطع الأثر .
قال : وهو الذي نظر إلى قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال : هذه القدم من تلك القدم التي في المقام ، يعني قدم إبراهيم عليه السلام)( ).
وقد تقدم الكلام عن معجزات طريق الهجرة وقصة أم معبد وكيف درّ ضرع الشاة التي كانت لا تستطيع الحركة والخروج إلى المرعى من شدة الجوع والهزال والضعف .
والمقصود في المقام هو هل تصلح معجزات طريق الهجرة للإحتجاج على أولئك الذين سألوا معجزة القربان , ومن الحجة في المقام سبق معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لطريق الهجرة , أو تعدد معجزات طريق الهجرة .
واتصال وتجدد معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة بعد الهجرة إليها حجة , ومنه بروك ناقته في موضع المسجد بعد أن تركت وشأنها لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (خَلّوا سَبِيلَهَا فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ)( ).
ليكون تعيين موضوع المسجد النبوي آية من عند الله عز وجل , وكذا إنشائه وإقامة الصلاة فيه خمس مرات في اليوم بإمامة رسول الله عز وجل , مع إرتقائه المنبر , واستقباله الوفود في المسجد من غير حاجب أو وزراء , مع أن المشركين يبعثون من يريد إغتياله , لتكون سلامته من محاولات الإغتيال المتعددة داخل المدينة , وفي كتائب الدفاع معجزات أخرى.
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد : أنه (أصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حتى وقعت على وجنته فردّها رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} مكانها فعادت كأحسن ما كانت) ( ).
لقد أراد الله عز وجل بآية البحث دعوة الناس للتدبر بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حيث منّ وفضل الله عز وجل بها , وليس من حيث رغائب الأفراد والجماعات .
الرابعة : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية في المدينة , وهي متعددة وكثيرة , ومنها آية البحث التي تذكر قوم طائفة اشترطوا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أجل إسلامهم تقريب قربان إلى الله عز وجل , وأن تنزل نار من السماء فتأتي عليه وتلتهمه وتحرقه , ومن البينات في المقام وجوه :
الأول : توالي المعجزات على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يشترطوا القربان .
الثاني : مجئ الآيات والمعجزات أثناء اشتراط الآيات والمعجزات .
الثالث : تجلي المعجزات أثناء الإحتجاج من الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : نزول آية نار القربان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد على شرط طائفة القربان للإيمان .
معجزات آدم عليه السلام
تلازم المعجزة النبوة , وفاز آدم بمعجزات متعددة , وقيل ليس لآدم معجزة لعدم وجود كفار في زمانه , ولا دليل على هذا القول إذ تدل آية البحث على أن الرسل يأتون بالبينات والدلائل الباهرة التي تؤكد صدق نبوتهم , وقد فاز آدم بنعمة عظمى , وهي أن معجزاته على أقسام منها :
الأول : تفضل الله عز وجل بخلق آدم من غير أب ولا أم , فلم يولد في آدم في رحم .
قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ) أي جعل فيه الروح بأمره .
وقد يأتي زمن الإستنساخ , وتكوين الإنسان في انبوب خاص خارج الرحم , وهو لا يتعارض مع المعجزة لأن وقوعه بالعلم والتحصيل .
الثاني : تفضل الله عز وجل بالنفخ في آدم من روحه , وهذا النفخ من مصاديق خلافته في الأرض .
الثالث : إقامة آدم في الجنة برهة من الوقت , (عن ابن عباس قال : خلق الله آدم من أديم الأرض يوم الجمعة بعد العصر فسماه آدم ، ثم عهد إليه فنسي فسماه الإِنسان.
قال ابن عباس : فتالله ما غابت الشّمس من ذلك اليوم حتى أهبط من الجنة إلى الأرض)( ).
و(عن الحسن البصري قال : لبث آدم في الجنة ساعة من نهار . تلك الساعة مائة وثلاثون سنة من أيام الدنيا)( ).
الرابع : تكليم الله عز وجل لآدم قبلاً من غير واسطة ملك.
قال تعالى [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ]( ).
الخامس : أمر الله عز وجل لآدم بتعليم الملائكة الأسماء .
السادس : التوفيق والفلاح لآدم بالإمتثال لأمر الله عز وجل بتعليم الملائكة الأسماء .
السابع : طول عمر آدم إذ عاش تسعمائة وستين سنة .
وكأن طول العمر هذا مواساة من عند الله عز وجل لآدم عليه السلام لهبوطه من الجنة باغواء من إبليس , ولما خلق الله عز وجل آدم مسح ظهره وأخرج منه ذريته كلهم .
فإن قيل يكفي مقدار ظهره هذا العدد من المليارات من الناس ذكوراً وأناثاً وان كان هذا الذر دقيقاً .
الجواب نعم , وقد اثبتت العلوم الحديثة إنشطار الذرة إلى جزيئات كثيرة , وكان يعتقد أن الذرة هي أصغر جسم , غير قابل للإنقسام وحتى اسمها بالإنكليزية (ATOM) مأخوذ من الكتب اللاتينية أتوموس ومعناها لا ين-قسم وعليه علم الكيمياء , ولكن القرآن أشار إلى أمرين :
الأول : وزن الذرة , وقد ورد لفظ (ذرة) في القرآن ست مرات , كلها بصيغة مثقال ذرة لبيان اقتران الوزن بالذرة , ويكتب العلماء عن الذرة , ويذكرون وزنها , وفي هذا الزمان تقع المقارنة بين الوزن الذري والكتلة الذرية والرقم الذري .
**والذرة : في الإصطلاح العلمي هي نواة يحيط بها عدد من الالكترونات يتساوى مع الرقم الذري للعنصر , ولذرات كل عنصر وزن خاص يختلف عن وزن العنصر الآخر , فذرات الأوكسجين تختلف عن ذرات غيره .
والإيدروجين أخف العناصر يليه الهيليوم , وهكذا لبيان بديع صنع الله عز وجل , ولزوم الإنتفاع من الإكتشافات العلمية لخدمة الإنسانية , والتنعم بالطيبات , وصيرورة الإقرار بالعبودية لله طريقا ومادة لدوام ومضاعفة النعم .
الثاني : إنشطار الذرة وانها تتألف من أجزاء كما في قوله تعالى [فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ]( ).
إذ يفيد حرف الجر في (من مثقال ذرة) التبعيض , كما تؤكد الآية ما هو أصغر من جزء الذرة بقوله تعالى [وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ]( ).
وكان علماء الكلام يشيرون إلى الجسم المتناهي في الصغر باسم (الجوهر الفرد)
وقد اكتشفت في هذا الزمان أجسام أصغر من الذرة مثل الالكترون , والبروتون , والنيوترون , ومنها ما يتكون من كواركات أصغر منها , وتتألف هذه الكواركات من أوتار صغيرة جداَ اطلق عليها في الفيزياء النظرية اسم (نظرية الاوتار الفائقة) , وكلها تدخل في الإصطلاح القرآني للذرة .
قانون حياة أبي المطلب مقدمة لبعثة النبي ص
لقد ولد النبي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف صلى الله عليه وآله وسلم في مكة عام الفيل , وأمه آمنة بنت وهب والتي توفيت نحو سنة 47 ق. الهجرة (577)م ودفنت بالأبواء موضع بين مكة والمدينة .
ليتولى تربيته جده عبد المطلب واسمه شيبة الحمد لأنه ولد وفي رأسه شيبة , والذي ولد نحو سنة (480)م وقد مرض عبد الله أبو النبي في طريق عودته في قافلة تجارية إلى غزة في الشام فعزم على البقاء عند أخواله بني النجار في المدينة لحين الشفاء واللحوق بالقافلة إلى مكة , فمكث شهراً توفى بعده وعمره خمس وعشرون سنة ودفن في دار تسمى ( دار النابغة الجعدي ) .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بطن أمه وقيل كان عمره شهرين , ولما بلغ نعيه مكة رثته آمنة وقالت :
عفى جانب البطحاء من ابن هاشمٍ …وجاور لحداً خارجاً في الغماغم
دعته المنايا دعوةً فأجابها … وما تركت في النّاس مثل ابن هاشم
عشيّة راحوا يحملون سريره … تعاوره أصحابه في التّزاحم
فإن تك غالته المنايا وريبها … فقد كان معطاءً كثير التّراحم ( ).
وكان قد عاش عند أخواله بني النجار في المدينة يثرب, واسم أمه سلمى بنت عمرو النجارية الخزرجية , ثم أرجعه عمه المطلب بن عبد مناف إلى مكة .
وعن (محمد بن أبي بكر الأنصاري عن مشايخ الأنصار قالوا تزوج هاشم بن عبد مناف امرأة من بني عدي بن النجار ذات شرف تشرط على من خطبها المقام بدار قومها فتزوجت بهاشم فولدت له شيبة الحمد فربي في اخواله مكرما فبينا هو يناضل( ) فتيان الأنصار إذ أصاب خصله( ) .
فقال أنا ابن هاشم .
وسمعه رجل مجتاز فلما قدم مكة قال لعمه المطلب بن عبد مناف قد مررت بدار بني قيلة فرأيت فتى من صفته ومن صفته يناضل فتيانهم فاعتزى إلى أخيك وما ينبغي ترك مثله في الغربة .
فرحل المطلب حتى ورد المدينة فأراده على الرحلة .
فقال ذاك إلى الوالدة فلم يزل بها حتى أذنت له وأقبل به قد أردفه فإذا لقيه اللاقي وقال من هذا يا مطلب .
قال عبد لي فسمي عبدالمطلب .
فلما قدم مكة وقفه على ملك أبيه وسلمه إليه فعرض له نوفل بن عبد مناف في ركح( ), له فاغتصبه إياه فمشى عبدالمطلب إلى رجالات قومه فسألهم النصرة على عمه فقالوا لسنا بداخلين بينك وبين عمك فلما رآى ذلك كتب إلى أخواله يصف لهم حال نوفل وكتب في كتابه …
أبلغ بني النجار إن جئتهم … إني منهم وابنهم والخميس
رأيتهم قوما إذا جئتهم … هووا لقائي وأحبوا حسيس
فإن عمي نوفلا قد أبى … إلا التي يغضي عليها الخسيس
قال فخرج أبو أسعد بن عدس النجاري في ثمانين راكبا حتى أتى الأبطح وبلغ عبدالمطلب فخرج يتلقاه فقال : المنزل يا خال.
فقال أما حتى ألقى نوفلا فلا .
قال تركته جالسا في الحجر في مشايخ قريش فأقبل حتى وقف على رأسه ثم استل سيفه ثم قال ورب هذه البنية لتردن على ابن أختنا ركحه أو لأملأن منك السيف .
قال فإني ورب هذه البنية( ),أرد ركحه فأشهد عليه من حضر ثم قال المنزل يا ابن أختي فأقام عنده ثلاثا واعتمر .
وأنشأ عبدالمطلب يقول :
تأبى مازن وبنو عدي … ودينار بن تيم اللات ضيمي
وساده مالك حتى تناهى … ونكب بعد نوفل عن حريمي
بهم رد الإله علي ركحي … وكانوا في التنسب دون قومي) ( ).
والمختار كان عبد المطلب حنيفياَ موحداَ , وكذا شجرة آباء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي تفسير قوله تعالى [وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ] ( ).
ورد (عن ابن عباس قال : سألت رسول الله صلى الله وآله عليه وسلم فقلت : بأبى أنت وأمي أين كنت وآدم في الجنة؟
فتبسم حتى بدت نواجذه( ) .
ثم قال إني كنت في صلبه ، وهبط إلى الأرض وأنا في صلبه ، وركبت السفينة في صلب أبي نوح ، وقذفت في النار في صلب أبي إبراهيم ، ولم يلتق أبواي قط على سفاح ، لم يزل الله ينقلني من الإِصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفى مهذباً لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما .
قد أخذ الله بالنبوّة ميثاقي ، وبالإِسلام هداني ، وبين في التوراة والإِنجيل ذكري ، وبين كل شيء من صفتي في شرق الأرض وغربها ، وعلمني كتابه ، ورقي بي في سمائه ، وشق لي من أسمائه فذو العرش محمود وأنا محمد ووعدني أن يحبوني بالحوض ، وأعطاني الكوثر . وأنا أول شافع ، وأول مشفع ، ثم أخرجني في خير قرون أمتي ، وأمتي الحمادون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) ( ).
ولا يتعارض هذا المعنى مع تفسير الآية بأن يراه الله عز وجل مع المصلين في القيام والركوع والسجود .
وأعاد عبد المطلب حفر بئر زمزم وكانت مطوية ، واستخرج منها غزالتين من الذهب , وعظم قدره , ثم ارتفعت منزلته عند العرب في عام الفيل لرباطة جأشه وإحتجاجه على أبرهة الذي زحف من اليمن بجيشه ليهدم البيت الحرام , وعندما علمت قريش بقدومه وجيوشه داخلهم الخوف والفزع .
فقال لهم عبد المطلب : يا معشر قريش إنه لا يصل إلى هدم البيت , لأن للبيت رباَ يحميه .
ثم جاء مقدم خيل أبرهة , وأشرفوا على مكة , واستاقوا إبلاَ لقريش فيها أربعمائة ناقة لعبد المطلب ، ومما يدل على كثرة الإبل التي عند قريش واستخدامها في التجارة بين مكة والشام , ومكة واليمن وغيرها من الأمصار ، وهذه الكثرة شاهد على الوفرة والسعة في العيش عند قريش ، وأهل مكة عام ، وفيه دعوة لهم للتقوى وتعاهد البيت الحرام وعمارته ، وهو من مضامين قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ *إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ*الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( ).
وتمر الأيام ويبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً إلى الناس من جوار البيت الحرام , لتسخر تجارة وإبل قريش في الدعوة إلى الله , وذكر معجزات النبي صلى الله عليه وآله وتكون قريش رسلاً يسافرون لها لأغراض التجارة ، وفي الطريق إليها ، ومن عادة الناس عدم التعرض إلى قوافل قريش ، وفي الطريق إلى مكة ، وكان الناس محتاجين إلى تجارة قريش خاصة مع إنقطاع طريق الحرير للحرب بين الدولة الفارسية والدولة الرومانية في فترات منقطعة منها أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن قريشا لم يشكروا الله على هذه النعمة إنما سخروا هذه الوفرة من الإبل والأموال في محاربة النبوة والتنزيل والصحابة فابتلاهم الله بالمحق والنقص في الأنفس والأموال ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
وفي حديث ابن عباس (فركب عبد المطلب وجماعة من أشراف قريش وتوجهوا إلى أبرهة ودخلوا عليه , ولما رآى أبرهة هيئته ووقار عبد المطلب أكرمه , وسأله ما الذي أتى بك ؟
قال عبد المطلب : إبل لي استاقت بعض جيشك .
فاستغرب أبرهة واستخف به , وصغر في عينه , وقال للترجمان قل له : لقد عظمت أولاَ في عيني , فلما تكلمت انحطت رتبتك عندي , فعلم عبد المطلب بمعنى وسبب كلامه ولكنه لم يتعجل إنما سأله : ولم ذاك ؟
قال أبرهة لقد علمت أني جئت بالجيوش هذه لهدم البيت وهو عزك وعز آبائك , وظننت أنك تسألني الإمتناع عن هدمه وإذا أنت تكتفي بطلب إعادة إبلك لك .
فقال عبد المطلب كلمته المشهورة (أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه، فشأنك وإياه) ( ) ثم أمر أبرهة برد إبل عبد المطلب عليه .
وسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أتذكر موت عبد المطلب؟ قال : نعم أنا يومئذٍ ابن ثماني سنين؛ قالت أم أيمن: رأيت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يومئذ يبكي خلف سرير عبد المطلب.
وعن هشام بن محمد بن السائب عن أبيه قال: مات عبد المطلب بن هاشم قبل الفجار وهو ابن عشرين ومائة سنة) ( ).
وكان أبرهة من قواد ملك الحبشة ولكنه حكم اليمن بعد أن ملكها (ذو نؤاس ) الذي قام بقتل النصارى في اليمن حينما رآى انتشار النصرانية فيه ، وحفر خندقاً في الأرض وخيرهم بين ترك دينهم وبين الإلقاء في الخندق ، فبلغت الأخبار والشكوى القيصر قسطنطين الذي لم يشأ غزو اليمن لبعد المسافة .
وخشية عطش وجوع جيوشه في صحراء جزيرة العرب ، فكتب إلى ملك الحبشة لنصرة نصارى اليمن .
فقام ملك الحبشة ببعث جيش عظيم بقيادة أرباط فاستولى على اليمن وحكمها ، ثم نشب الخلاف بينه وبين أبرهة الذي تغلب عليه ورآى أهل اليمن كيف يحجون إلى البيت الحرام في مكة .
وبلغت أبرهة أخبار البشارة ببعثة نبي آخر زمان في مكة واستنتج من الجمع بين حج أهل اليمن والأمصار والقرى إلى مكة ، وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيها ميل الناس إليه مثلما مال أهل اليمن إلى النصرانية ، عندئذ قام ببناء كنيسة عظيمة في صنعاء ودعا الناس إلى حجها ، وسار إلى مكة لهدم البيت الحرام ، وهذا المسير من الإرهاب , وخلا ف قواعد السلم المجتمعي .
فاستأصل الله عز وجل ملكه وأهلكهم ، قال سبحانه [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ* تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ] ( ).
ومن خصائص الإرهاب أنه ظاهرة لا تستمر طويلاً ، ولكن يصيب الناس منها الأذى والضرر , ويبعث على النفرة العامة ويثير الضغائن .
لقد كانت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة تحولاً وانعطافة كبيرة في كيفية التبليغ ، وفي تبدل أحوال الناس في الجزيرة تبدلاً تاماً من وجوه :
الأول : الإنتقال من الشرك إلى الإيمان ، وفيه نبذ للإرهاب لأن الإيمان حاجز ومانع عن الإرهاب ، فبدل الإقتتال القبلي ، وحال السلب والنهب ، تجلت معاني الرأفة والرحمة بين الناس لسيادة قانون [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) والأداء اليومي للصلاة على نحو العموم الإستغراقي .
الثاني : استئصال العادات المذمومة في المعاملات مثل الربا والغدر والخديعة ، وكان العرب يتعاهدون الكرم ويحمون الجوار , ولكنه على نحو الموجبة الجزئية بحيث ينال الشخص الكريم وحامي الجوار الشهرة كما في حاتِم الطائي .
الثالث :صيروة الدعوة إلى التوحيد علنية من غير خشية من الذين كفروا , وهو من عمومات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ) .
فإن قيل نزلت هذه الآية في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة , وفي بيعة الغدير , والجواب لا مانع من وجود مصاديق للآية القرآنية سابقة لنزولها أو متأخرة عنها , كما أن آيات التبليغ والإجتهاد فيه متعددة منها ما كان في مكة قبل الهجرة , كما في قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ).
الرابع : إنقطاع الغزو والنهب والسلب في الجزيرة , وكاد هذا الغزو أن يأتي على العرب , ويستأصلهم , ويصبح أكثرهم بين مقتول ومسبي , وطريد حتى انتشر بينهم وأد البنات وقتلها عند الولادة .
وهل هذا الوأد من الإرهاب , الجواب نعم , فهو تهديد للوجود الإنساني , ونظم المجتمعات , وخلاف أصل خلافة الإنسان لآدم إذ نزل آدم وحواء إلى الأرض مرة واحدة , قال تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
ومن الهدى الذي تذكره الآية أعلاه [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( ) لما فيها من الزجر والنهي عن قتل البنت والأولاد مطلقاَ , قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا] ( ).
إذ تسأل الموؤدة يوم القيامة بأي ذنب قُتِلت : فتقول لا ذنب لي , وفيه توبيخ لقاتلها , ومقدمة لسؤاله وعقابه .
و(عن ابن عباس وكان يقرأ : وإذا الموءودة سألت .
قال قتادة : يقتل أحدهما بنته ويغذو كلبه ، فأبى الله سبحانه ذلك عليهم)( ).
ومن إعجاز القرآن الغيري أن آية واحدة منه تنسخ وتقطع عادة مذمومة تأتي على نصف النساء , فتقتلهن من حين الولادة أو عند بلوغ بضع سنوات , وفيه دعوة للنساء للشكر لله عز وجل على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن , وبقاء آياته بفضل من الله عز وجل سالمة من التغيير والتحريف إلى يوم القيامة .
قانون دفاع القرآن عن نفسه
لقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه أشد الأذى في مكة قبل الهجرة , وهل كان نزول آيات القرآن وما فيها من التخويف والتقريع للذين كفروا سبباً لهذا الأذى ، الجواب نعم ، وإن كانت هذه الآيات رحمة وإنذاراَ ودعوة للتوبة ، ولكن رؤساء قريش أبوا إلا العناد والكفر , ويمكن القول بقانون من جهات :
الأولى : قانون دفاع آيات البشارة عن آيات الإنذار .
الثانية : قانون دفاع آيات الإنذار والتي تتكلم عن الآخرة عن آيات البشارة .
الثالثة : قانون دفاع آيات البشارة عن آية البشارة .
الرابعة : قانون دفاع آيات الإنذار عن آية الإنذار .
الخامسة : دفاع الآيات التي تجمع بين الوعد والوعيد عن نفسها وعن آيات البشارة والإنذار كما في قوله تعالى [مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن لفظ (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) ورد ثلاث مرات في القرآن , اثنتين منها في الوعد لأهل الجنة , وواحدة تتضمن الوعد والوعيد بقوله تعالى [إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ]( ).
ومن مصاديق الحجة في القرآن على الناس أن خطابات الوعيد لا تخاطب رؤساء قريش على نحو التعيين ولا تذكرهم بالاسماء , إنما هي عامة وباقية في كل زمان , وكأن كفار قريش يدافعون عن الكفار في الأجيال اللاحقة .
كما تذكر كل من آية الآيتان الجاحدين بقتل اسلافهم عدداً من الأنبياء بقوله تعالى [لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ]( ) وقوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
فانعم الله عز وجل عليهم بالهجرة إلى المدينة بعد هجرة طائفة من الصحابة إلى الحبشة .
وعن(الزبير بن العوام قال : هاجر خالد بن حِزَام إلى أرض الحبشة، فنهشته حية في الطريق فمات، فنزلت فيه: { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } ( ).
قال الزبير : فكنت أتوقعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة، فما أحزنني شيء حزن وفاته حين بلغني؛ لأنه قَلّ أحد ممن هاجر من قريش إلا معه بعض أهله، أو ذوي رحمه، ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى، ولا أرجو غيره.)( ).
والآية مدنية , ولعل المراد المعنى الأعم حتى الهجرة السابقة لنزولها .
و(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : خَرَجَ ضَمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ .
فَنَزَلَتْ : وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ( )) ( ).
وفي المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها تغير الحال وبنيت المساجد للصلاة والذكر , قال تعالى [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ]( ).
ولكن الهجرة وإقامة صرح الإيمان في المدينة لم تقطع أذى المشركين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , بل صار هذا الأذى متعدداً .
فبعد أن كان أذى المشركين في مكة على نحو القضية الشخصية المتعددة , وبالإستهزاء والتكذيب والتخويف صاروا يجهزون الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , وهذا التحول من الشواهد على صدق نبوته , ودفع الله عز وجل شدة البلاء عنه , وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
ثم جاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أذى آخر من بعض الأفراد والجماعات , وظهر رأس النفاق خاصة بعد نصر المسلمين في معركة بدر إذ صار جماعة يظهرون الإيمان في ذات الوقت الذي يبطنون فيه الكفر والضلالة , ومنهم من يقف مع المسلمين في صلاتهم , ومنهم من يخرج معهم في سرايا الدفاع .
ليفتضح أمره بالشك والريب الذي يظهره , ونزلت سورة كاملة باسم (سورة المنافقون) بالإضافة إلى ذكر المنافقين في سور أخرى من القرآن منها قوله تعالى [يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ * الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ]( ).
وذكرت المنافقات في الآيات أعلاه مرتين من مجموع ذكرها خمس مرات في القرآن , ومن إعجاز القرآن عدم ذكر (المنافقات) في سورة المنافقين لأنها توثق مجئ المنافقين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتظاهرهم بالإيمان , ودعوة الصحابة لهم ليستغفر لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وذكرها لقبيح فعل المنافقين في كتائب وسرايا الإسلام , كما أن مضامين سورة المنافقين شاملة للرجال والنساء منهم , وورد التذكير لغلبة المذكر , ولأن شطرا من آياتها نزلت بخصوص كتيبة بني المصطلق .
بالإضافة إلى قانون وهو إرادة المذكر والمؤنث في الخطاب القرآني وتقدير قوله تعالى [سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ]( ).
يكون تقديره أيضا : (سواء عليهن استغفرت لهن أم لم تستغفر لهن لن يغفر الله لهن)
ولكن القرآن فضحهم بذات الفعل والنعت القبيح , ولم يذكرهم بالأسماء وهو من اللطف الإلهي بالذين نطقوا بكلمة التوحيد ووقفوا بين يدي الله عز وجل للصلاة , بينما ذم القرآن أبا لهب لإجهاره بالكفر , مع أنه عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصنو أبيه إذ أن النبي محمداً بن عبد الله بن عبد المطلب , وأبو لهب اسمه عبد العزى بن عبد المطلب .
وكان أبو لهب شديداً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويكثر من إيذائه والإجهار بالإستهزاء به وإنكار نبوته , وكانت إبنتا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تزوجتا من ولدي أبي لهب , إذ كانت رقية زوجة لعتبة بن أبي لهب , وأختها أم كلثوم زوجة لعتيبة( ) بن أبي لهب.
(فلما نزلت[تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ) قال لهما أبو لهب : فارقا ابنتي محمد.
وقال أبو لهب: رأسي من رأسيكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد.
ففارقاهما وتزوج عثمان رقية , وهاجرت معه إلى الحبشة وولدت هناك ابنه عبد الله وبلغ ست سنين فنقر عينه ديك فتورم وجهه ومرض ومات)( ).
وأيهما اشد أذى قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أم الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة من الجدال ووضع الشروط لغرض صدود الناس عنه ، المختار هو الأول .
فأذى قريش أشد ، وفي بدايات الدعوة ، وكانوا يريدون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووأد الرسالة ، أما إمتناع طائفة عن الإنفاق في سبيل الله كما مبين في قوله تعالى [لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ]( ).
وسخريتهم من بعض آيات القرآن وكذا بالنسبة للجدال والمغالطة ووضع الشروط للتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو أخف في وطأته .
ومن الشواهد على سطوع ضياء الرسالة ، وتبيان أحكام الشريعة للناس جميعاً نزول آيات القرآن للدفاع عن التنزيل والنبوة وأحكام الشريعة لبيان قانون وهو أن القرآن يدافع عن نفسه .
قانون مقدمات لم يغز النبي ص أحداً
لما كان الله عز وجل هو الذي يرد على الذين يجادلون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويحالون تكذيبه ، ويبتلي الكفار الذين يجهزون الجيوش لمحاربته كما في معركة بدراً وأحد والخندق فانه وأصحابه لا يحتاجون إلى الغزو ، ولا يسعون إليه ،وهو من عمومات قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
لقد أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بجدال الناس عامة بالأفضل والأحسن ، قال تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ) أن الله عز وجل هو الذي ينزل مادة الجدال ويعلمه كيفيته ومسائله فيغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا ، وتبقى هذه المسائل ثروة عظمى بيد المسلمين , وتكون وسيلة لتثبيت الإيمان في قلوب المسلمين ، وحرزاً من دبيب الوهن أو الحيرة والشك إلى القلوب .
وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : وجادلهم بما علّمك الله .
الثاني : وجادلهم بآيات القرآن .
الثالث : وجادلهم وأنت [لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
بلحاظ تعدد معاني الباء في الآية أعلاه منها الإستعانة والمعية والسببية وغيرها .
ويأتي البيان بقانون في الجدال بالأحسن غنى عن الغزو .
الرابع : وجادلهم بالتي هي أحسن ، ليبقى مضمون الآية وما فيها من الأمر إلى يوم القيامة ، يعمل به المسلمون فتعم الأخلاق الحميدة وموضوعية الدليل في المجتمعات.
وهل هذا الجدال من مصاديق أول آية أنزلت من القرآن ، وهي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( ) الجواب نعم ، فمن القراءة الجدال الحسن ، وكذا العكس .
فمن الجدال الحسن القراءة والتلاوة وتعلم الأحكام الشرعية من غير أن يلزم الدور بينها ، وهو من السعة والمندوحة في الرسالة السماوية وأنها تنفرد بعلوم وذخائر غير موجودة في غيرها ، وهو من الشواهد على نزول القرآن من عند الله سبحانه .
الخامس : وجادلهم بالتي هي أحسن لإجتناب الحرب والقتال وسفك الدماء ، وعندما احتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ذكّرهم الله بعظيم سلطانه وسعة علمه ، وإحاطته دونهم بالغيب إذ قال [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالطواف بالبيت الحرام , وفيه مسائل :
الأولى : هذا الطواف آية ومعجزة حسية وعقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل ساعة وإلى يوم القيامة أما كونها حسية , فلظهورها للعيان , وجاء زمان الفضائيات ليطلع الناس في مشارق ومغارب الأرض على هذه الآية العبادية البعيدة عن العنف والإيذاء كل يوم , وأما كونها عقلية فلتعاهد أجيال المسلمين في كل زمان لذات المناسك التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
(وعن جابر الأنصاري قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرمي على راحلته)( ).
الثانية : تعاهد المسلمين لإتخاذ المسجد الحرام قبلة خمس مرات في اليوم والليلة من مصاديق قوله تعالى [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ] ( ) فالمراد من حرف الجر (في) في الآية أعلاه أعم من الظرفية , ويشمل توجه المسلمين له في صلاتهم على نحو الوجوب العيني , وذبائحهم ونحوها مما يشترط أو يستحب فيه الإستقبال .
الثالثة : الشوق إلى البيت الحرام الذي يملأ قلوب المسلمين فالذي يحج البيت يشتاق إلى العودة إليه , وهو من مصاديق قوله تعالى [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]( ).
عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أنزل الله عز وجل آية فيها (يا أيها الذين آمنوا) إلا وعلي رأسها وأميرها)( ).
وقد ورد النداء التشريفي (يا أيها الذين آمنوا) تسعاً وثمانين مرة , وفيه بيان للأحكام والبشارة والإنذار , ومنه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ) .
وفي قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
روي السيوطي عن ابن عباس قال : (سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه.
قال : سأل بحق محمد ، وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، إلا تبت علي فتاب عليه.
وأخرج الخطيب في أماليه وابن عساكر بسند فيه مجاهيل عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
قال : إن آدم لما أكل من الشجرة أوحى الله إليه : اهبط من جواري .
وعزتي لا يجاورني من عصاني . فهبط إلى الأرض مسوداً ، فبكت الأرض وضجت .
فأوحى الله : يا آدم صم لي اليوم يوم ثلاثة عشر . فصامه فأصبح ثلثه أبيض ، ثم أوحى الله إليه : صم لي هذا اليوم يوم أربعة عشر .
فصامه فأصبح ثلثاه أبيض ، ثم أوحى الله إليه صم لي هذا اليوم يوم خمسة عشر. فصامه فأصبح كله أبيض , فسميت أيام البيض)( ).
وعن ابن عباس في قوله تعالى [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ]( ) أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام (وهما أول من صلى وركع , وعمل بأعمال البر)( ).
ولم يذكر ابن عباس خديجة لأنه كان في ذكر الرجال خاصة , وأسلمت في نزول يوم بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(وروى إسماعيل بن أياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف .
قال : كنت أمرءاً تاجراً فقدمت مكة أيام الحج فنزلت على العباس بن عبد المطلب وكان العباس لي صديقاً وكان يختلف إلى اليمن يشتري القطن فيبيعه أيام الموسم ، فبينما أنا والعباس بمنى إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فلبث مستقبلها.
حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب وركع الغلام والمرأة فخرّ الشاب ساجداً فسجدا معه فرفع الغلام والمرأة.
فقلت : يا عباس أمرٌ عظيم فقال : أمرٌ عظيم.
فقلت : ويحك ما هذا؟
فقال : هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله تعالى بعثه رسولا وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه ، وهذا الغلام ابن أخي علي بن أبي طالب،
وهذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمد قد تابعاه على دينه ، ما على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء.
قال عبد الله ( ) الكندي بعدما رسخ الإسلام في قلبه : ليتني كنت رابعاً)( ).
قال الإمام علي عليه السلام : فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة.
ونزلت نحو ثمانين آية نزلت في الإمام علي عليه السلام , وهناك آية من القرآن لم يعمل بها إلا الإمام علي عليه السلام حتى نسخت وهو قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً]( ).
قال (كان عندي دينار , والدينار مثقال ذهب عيار ثماني عشرة حبة فبعته بعشر دراهم (أي ليس صرفاً إنما بيعاً) .
فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدمت بين يدي درهماً , ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات }( ))( ).
ولد الإمام علي عليه السلام يوم الجمعة في الثالث عشر من شهر رجب في جوف الكعبة الشريفة , بعد عام الفيل بثلاثين سنة , وخرجت أمه فاطمة بنت أسد تحمله , وذهب البشير إلى أبي طالب , فأقبل وأهل بيته مسرعين , وكانت بيوت قريش تحيط بالكعبة والمطاف , وتقدم من بينهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فضمه إلى صدره , وحمله إلى أبي طالب , وانقدح في ذهن أبي طالب تسميته علياً , وأقام وليمة لبركة المولود.
(عن البراء بن عازب قال : لما نزلت هذه الآية { وأنذر عشيرتك الأقربين }( ) جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً ، منهم العشرة يأكلون المسنة ، ويشربون العس ، وامر علياً برجل شاة صنعها لهم ثم قربها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخذ منها بضعة فاكل منها ، ثم تتبع بها جوانب القصعة ثم قال ادنوا بسم الله : فدنا القوم عشرة . . عشرة .
فأكلوا حتى صدروا ، ثم دعا بقعب من لبن فجرع جرعة فناولهم فقال : اشربوا بسم الله .
فشربوا حتى رووا عن آخرهم ، فقطع كلامهم رجل فقال لهم : ما سحركم مثل هذا الرجل ، فاسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ فلم يتكلم)( ).
قانون الصبر فضيلة
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
من أسماء الله الصبور ومعناه أنه سبحانه لا يعجل المذنبين بذنوبهم وفضحهم والإنتقام منهم ، أما الحليم فهو الصفوح الذي لا ينتقم مع القدرة على الإنتقام ، والصبور الذي لا تحمله العجلة على المنازلة إلى الفعل قبل أوانه .
وقد يقف الإنسان عند اسم الصبور لأن التبادر إلى الذهن من معنى الصبر هو حبس النفس على الأذى أو الإمتناع عن إتباع الشهوة ، والصبر في الإصطلاح مقاومة النفس للهوى لئلا تنصاع للذات ، وهو فضيلة وأمر محمود في كل زمان ، وإرتقاء للنفس ، وطريق للسعادة إذا كان في مرضاة الله .
وقد ورد في السنة النبوية ما يشير إلى معنى الصبر في صفات الله عز وجل (عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله . إنهم يجعلون له ولداً ، ويشركون به , وهو يرزقهم ويعافيهم) ( ).
والقدر المتيقن من الحديث تقريب المدركات العقلية بالمحسوسات .
وعن (ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، فإما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد ، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً) ( ).
ولم يرد في هذه الأحاديث اسم الصبور ، إنما استقرئ منها .
نعم جاء (عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لما عرج بإبراهيم رأى رجلا يفجر بامرأة فدعا عليه ، فأهلك ، ثم رأى عبدا على معصية فدعا عليه ، فأوحى الله إليه : يا إبراهيم إنه من عبدني فإن قصره مني خصال ثلاث : إما أن يتوب فأتوب عليه ، وإما أن يستغفرني فأغفر له ، وإما أن يخرج من صلبه من يعبدني . يا إبراهيم ، أما علمت أن من أسمائي أني أنا الصبور ، لم يرو هذا الحديث عن محمد بن المنكدر إلا علي بن أبي علي ، تفرد به : ابن أبي فديك) ( ).
وقد ورد في رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الأسماء الحسنى وذكر الصبور في آخر الأسماء (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً ، من أحصاها دخل الجنة ، إنه وتر يحب الوتر ، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارىء ، المصور ، الغفّار ، القهّار ، الوهّاب ، الرزّاق ، الفتّاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدىء ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، البر ، التوّاب ، المنتقم ، العفو ، الرؤوف ، مالك ، الملك ، ذو الجلال والإِكرام ، الوالي ، المتعال ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور) ( ).
ولم يرد في رواية الإمام الصادق عليه السلام حينما سئل بخصوص الأسماء الحسنى التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة ، فقال (هي في القرآن ، ففي الفاتحة خمسة أسماء . يا ألله ، يا رب ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا مالك . وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسماً : يا محيط ، يا قدير ، يا عليم ، يا حكيم ، يا علي ، يا عظيم ، يا تواب ، يا بصير ، يا ولي ، يا واسع ، يا كافي ، يا رؤوف ، يا بديع ، يا شاكر ، يا واحد ، يا سميع ، يا قابض ، يا باسط ، يا حي ، يا قيوم ، يا غني ، يا حميد ، يا غفور ، يا حليم ، يا إله ، يا قريب ، يا مجيب ، يا عزيز ، يا نصير ، يا قوي ، يا شديد ، يا سريع ، يا خبير . وفي آل عمران : يا وهَّاب ، يا قائم ، يا صادق ، يا باعث ، يا منعم ، يا متفضل . وفي النساء : يا رقيب ، يا حسيب ، يا شهيد ، يا مقيت ، يا وكيل ، يا علي ، يا كبير . وفي الأنعام : يا فاطر ، يا قاهر ، يا لطيف ، يا برهان . وفي الأعراف : يا محيي ، يا مميت . وفي الأنفال : يا نعم المولى ، يا نعم النصير . وفي هود : يا حفيظ ، يا مجيد ، يا ودود ، يا فعال لما يريد . وفي الرعد : يا كبير ، يا متعال . وفي إبراهيم : يا منَّان ، يا وارث . وفي الحجر : يا خلاق . وفي مريم : يا فرد . وفي طه : يا غفّار . وفي قد أفلح : يا كريم . وفي النور : يا حق ، يا مبين . وفي الفرقان : يا هادي . وفي سبأ : يا فتَّاح . وفي الزمر : يا عالم . وفي غافر : يا غافر ، يا قابل التوبة ، يا ذا الطول ، يا رفيع . وفي الذاريات : يا رزاق ، يا ذا القوة ، يا متين . وفي الطور : يا بر . وفي اقتربت : يا مليك ، يا مقتدر . وفي الرحمن : يا ذا الجلال والإِكرام ، يا رب المشرقين ، يا رب المغربين ، يا باقي ، يا مهيمن . وفي الحديد : يا أول ، يا آخر ، يا ظاهر ، يا باطن . وفي الحشر : يا ملك ، يا قدوس ، يا سلام ، يا مؤمن ، يا مهيمن ، يا عزيز ، يا جبار ، يا متكبر ، يا خالق ، يا بارىء ، يا مصوّر .
وفي البروج : يا مبدىء ، يا معيد . وفي الفجر : يا وتر . وفي الإِخلاص : يا أحد ، يا صمد .) ( ).
لبيان مسألة وهي أن أقوال أئمة أهل البيت من مصاديق حديث الثقلين .
( وعن الإمام علي عليه السلام : الصبر صبران ، صبر على ما تكره ، وصبر مما تحب ، وقال عليه السلام : لا يعدم الصبور الظفر، وإن طال به الزمان) ( ) .
ويتباين صبر الله عز وجل عن صبر الناس ، فهو سبحانه لا يلحقه أذى أو حزن أو نقص بالصبر والحلم ، وهو سبحانه ذو قدرة مطلقة ، ولا يخاف الفوت .
ويمكن تسمية الحياة الدنيا ( دار الصبر ) وتوجه مسائل الصبر الإنسان كل ساعة في أيام حياته ، وهو من ضروب الإبتلاء فيها .
وكان رسول الله والإمام في الصبر ، وكذا الرسل والأنبياء والأئمة عليه ، قال تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ]( ).
والصبر أمر وجودي وليس عدمياً ، ويفيد كف النفس عما تحب ومنعها من الإنسياب والتمادي في اللا معقول .
ومن وجوه الصبر :
الأول : الصبر على العباد ، وهو فناء في جنب الله ، ويمكن القول أن الصبر مختصر علم الأخلاق ، فكل محاسن الأخلاق وأسباب الرحمة تجتمع في الصبر ، إذ أن علم الأخلاق يبحث في إصلاح النفس الإنسانية وتهذيبها من الشوائب والرذائل .
ويحتاج الرجل والمرأة الصبر في البيت والعمل والمعاملات والصِلات الإجتماعية ، والشريعة ضابطة للسلوك والأحكام ، لذا فمن اسماء شهر رمضان والذي يطل علينا هلاله بعد أيام قليلة أنه الصبر ، ومن معاني الآية من سورة البقرة التي ذكرتها في أول البحث .
ولما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان قال هو الصبر والسماحة ، والصبر تطهير للنفس وتنزيه للجوارح ، وتحمل المكاره في جنب الله ، وعدم الأسى على المنافع التي يفقدها الإنسان بسبب إيمانه وطاعته لله عز وجل .
وكل عبادة هي صبر ، ويمكن إنشاء قوانين من جهات :
الأولى : قانون الصبر في العبادات البدنية .
الثانية : قانون الصبر في العبادات المالية .
الثالثة : قانون الصبر في العبادات البدنية المالية .
ومن أسماء الله الصبور .
ويمكن تسمية الحياة الدنيا دار الصبر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في الصبر .
والصبر أمر وجودي وليس عدميا , والنسبة بين الصبر والصيام عموم وخصوص مطلق ، ومن أسماء شهر رمضان .
وفيه تهذيب للنفس من الرذائل .
الصبر في العبادات في المعاملات توجه الإنسان سائل الصبر في كل ايام حياته .
قانون الصبر في العبادات البدنية .
قانون الصبر في العبادات .
الصبر الثابت
الصبر الطارئ بلحاظ موضوعخ كما في وباء كورونا .
أرجو من قادة الدول ورجال السياسة وعلماء الأبدان والمختبرات في الجامعات العالمية اختراع مصل أو دواء يكون واقية وعلاجا عاجلاً لكل وباء طارئ أو فيروس سواء يتلقاه الإنسان عند ولادته بحسب الكيفية أو حال ظهور الوباء ، وهو من مصاديق وإفاضات قوله تعالى إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) قال تعالى [وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ] ( ) وفي عيسى عليه السلام ورد قوله تعالى [وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ) والإنتفاع من العلاجات واللدراسات الطبية والمختبرية السابقة وجعلها مباحة ومتاحة لجميع الباحثين .
قانون الرد على شروط قريش سلام
لقد أنزل الله عز وجل القرآن ليصغي له الناس , وينهلوا من علومه , ويتبعوا أحكامه , فقد نزلت أكثر من ستة آلاف ومائتي آية , وكل واحدة منها معجزة بذاتها , ويترشح إعجاز إضافي عنها , ومن صلتها مع آيات القرآن الأخرى , فلا يحق لطائفة وجماعة أن يخاطبوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بشروط خاصة بهم للتصديق برسالته , ومما طلبته قريش من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمور :
الأول : تسيير وابعاد الجبال التي تحيط بمكة لتتسع المدينة والوادي , ويتخلصون من وطأة إحاطة الجبال بمدينة مكة , ومجئ السيول منها , ولم يطلبوا إزالتها لعله للعلم بالحكمة الإلهية من وجود الجبال في الأرض ومنافعها .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رؤية الجبال التي تحيط بمكة تتهاوى في هذا الزمان لتشيد بدلها العمارات الشاهقة , وتكون مسكناً للحجاج والمعتمرين , ومجاوري البيت الحرام في آية إعجازية ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : لقد سألوا جريان أنهار في مكة مثل التي في الشام والعراق , وجاء هذا الزمان لتدخل أنابيب الماء الصافي بيوت مكة , وتسقي مزارعها بماء كالنهر , مع نقص ظاهر في مياه أنهار العراق والشام .
الثالث : تناجى المشركون بشرط بعث الآباء الموتى , فمن أخبار النبوة التي جاء بها القرآن أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى كما في التنزيل [وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ]( ) .
ثم اشترطوا بعث أشخاص ذوي شأن على نحو التعيين من قبورهم مثل قصي بن كلاب ليسألوهم عن صدق بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فإذا شاء الله عز وجل وأخرج بعض الموتى من قبورهم معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانهم لا يؤمنون حتى يسألوا هؤلاء الموتى عن صدق نبوته بلحاظ أنهم يأتون من عالم الآخرة والخلود .
الرابع : تفجير ينابيع وعيون وأنهار غير منقطعة من أرض مكة , وفي التنزيل [وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعًا* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا* أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً]( ).
والينبوع هو الماء الغزير الذي ينبع من الأرض , قال تعالى [فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ]( ) ويجري على سطحها من غير انقطاع , إذ كانت قريش تذهب إلى الشام في التجارة وترى معالمها والينابيع التي تحيط بدمشق .
فجاء الجواب من عند الله [قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً]( ).
وذات الجواب ينطبق على سؤال القربان الذي تذكره آية البحث , إنما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاَ إلى الناس بمعجزات وشواهد باهرة من عند الله عز وجل .
الخامس : لقد سألوا نزول ملك من السماء يصاحب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويصدقه فيما نزل عليه ويلبسه التيجان .
و(عن محمد بن كعب القرظي والكلبي : قالت قريش : يا محمد تخبرنا بأن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فتنفجر منه اثنتا عشرة عيناً ، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى ، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا من الآيات حتى نصدقك.
قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : أي شيء تحبون أن آتيكم به؟
قالوا : تجعل لنا الصفا ذهباً , وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل، وأرنا الملائكة يشهدون لك أو ائتنا باللّه والملائكة قبيلاً.
فقال رسول اللّه {صلى الله عليه وآله وسلم} :لئن فعلت بعض ما تقولون تصدقوني قالوا : نعم واللّه لئن فعلت نتبعك أجمعين.
وسأل المسلمون رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا،
فقام رسول اللّه {صلى الله عليه وآله وسلم} يدعو اللّه أن يجعل الصفا ذهباً، فجاء جبرئيل عليه السلام فقال له : إن شئت أصبح ذهباً ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم فإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم.
فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : بل يتوب تائبهم فأنزل اللّه تعالى {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}( ) يعني أوكد ما قدروا عليه من الايمان وحدها)( ).
السادس : بناء قصور من ذهب وفضة و(عن ابن عبّاس أن عتبة وشيبة إبني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحرث وأبا البحتري بن هشام ، والاسود بن المطلب وزمعة ابن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيهاً ومنبهاً إبني الحجاج إجتمعوا أو من إجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة.
فقال بعضهم لبعض : إبعثوا إلى محمّد وكلموه وخاصموه حتّى تعذروا فيه،
فبُعث إليه أن أشراف قومك قد إجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} سريعاً وهو (يظن بأنه) بدا لهم في أمره بداءً ، وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم.
فقالوا : يا محمّد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء وعنّت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلاّ وقد جئته فيما بيننا (وبينك) .
وإن كنت إنما جئت بهذا الحدث تطلب به مالاً حظنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالاً .
وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا ،
وإن كان هذا الذي يأتيك به رأي قد غلب عليك فكانوا يسمون من الجن من يأتي الأنسان بالخير والشر فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتّى نبرئك منه أو نعذر فيك.
فقال رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} : ما بي ما تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم أطلب به أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل عليَّ كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فأن تقبلوا مني ما جئتكم فهو حظكم في الدنيا والآخرة وأن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم.
فقالوا : يا محمّد وإن كنت غير قابل منا ماعرضنا عليك فقد علمت إنه ليس من الناس أحد أضيق بلاداً ولا أقل مالاً ولا أشد عيشاً منا ، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليُسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا .
وليكن ممن يبعث لنا فيهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخاً صدوقاً فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولاً كما تقول.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة .
وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم.
قالوا : فإن لم تفعل هذا فخذ لنفسك فسل ربك أن يبعث ملكاً يصدقك وسله فيجعل لك تيجان وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك فإذن نراك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :(ما أنا بفاعل) ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بُعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً)( ) .
السابع : زراعة أرض مكة والحرم بالأشجار المثمرة والحبوب والإستغناء عن المشقة في جلب الحنطة والشعير من اليمامة أو من الشام , ودفع الأموال إلى تجارها .
ولم يعلموا أن الله عز وجل جعل البيت الحرام في أرض جرداء وبين الجبال وفي طقس حار ليختبر العباد ولو شاء لجعله في أجمل بقاع الأرض , ثم تعاهد المسلمون حج البيت فتفضل الله عز وجل بجعل أرض الحرم جنة , وأخرجت الأرض كنوزها من النفط والمعادن .
الثامن : أظهرت قريش سخطها من إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الله عز وجل , فسألوا أن ينزل عليه كِسَفاً( ) وقعت من السماء , كما ورد التنزيل [وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً]( ) وفي قوله تعالى [وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ).
(قيلَ هو الحارثُ بنِ النعمانِ الفهريُّ وذلكَ أنَّه لما بلغَهُ قولُ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم في عليَ عليه السلام من كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ قالَ اللهمَّ إنْ كانَ ما يقولُ محمدٌ حقاً فأمطرْ علينا حجارةً من السماءِ ، فما لبثَ حَتَّى رماهُ الله تعالَى بحجرٍ فوقعَ على دماغِهِ فخرجَ من أسفلِهِ فهلكَ من ساعتِهِ)( ).
و(عن ابن عباس في قوله { كذب أصحاب الأيكة المرسلين } قال : كانوا أصحاب غيضة بين ساحل البحر إلى مدين ، وقد أهلكوا فيما يأتون .
وكان أصحاب الأيكة مع ما كانوا فيه من الشرك استنوا سنة أصحاب مدين .
فقال لهم شعيب { إني لكم رسول أمين }( )، { فاتقوا الله وأطيعون }( )، { وما أسألكم } على ما أدعوكم عليه أجراً في العاجل في أموالكم { إن أجري إلا على رب العالمين }( )، { واتقوا الذي خلقكم والجبلة }( ) يعني وخلق الجبلة { الأولين } يعني القرون الأولين الذين أهلكوا بالمعاصي ولا تهلكوا مثلهم { قالوا إنما أنت من المسحرين }( ) يعني من المخلوقين { وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين }( )، { فأسقط علينا كسفاً من السماء }( ) يعني قطعاً من السماء { فأخذهم عذاب يوم الظلة }( ) أرسل الله عليهم سموماً من جهنم ، فأطاف بهم سبعة أيام حتى انضجهم الحر ، فحميت بيوتهم ، وغلت مياههم في الآبار والعيون ، فخرجوا من منازلهم ومحلتهم هاربين والسموم معهم ، فسلط الله عليهم الشمس من فوق رؤوسهم فتغشتهم حتى تقلقلت فيها جماجمهم ، وسلط الله عليهم الرمضاء من تحت أرجلهم حتى تساقطت لحوم أرجلهم ، ثم أنشأت لهم ظلة كالسحابة السوداء .
فلما رأوها ابتدروها يستغيثون بظلها حتى إذا كانوا تحتها جميعاً؛ أطبقت عليهم فهلكوا ونجَّى الله شعيباً والذين آمنوا به)( ).
التاسع : لقد سألت قريش وأمثالهم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يحضر سلّماً يصعد فيه إلى السماء ولا ينزل إلا ومعه كتاب فيه قرطاس .
(وجاء النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا : يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند اللّه ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند اللّه وأنك رسول فأنزل اللّه عز وجل فلو نزلنا عليك كتاباً {فِى قِرْطَاسٍ}( ))( ).
وفي التنزيل[وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ).
أي لو نزلت صحيفة من السماء مكتوب فيها كلام من عند الله عز وجل ولمسوا وتحسسوا هذه الصحيفة وأدركوا أنها ليست من الورق والكاغد الذي يستعمله أهل الدنيا لما آمن الذين كفروا بل إدعوا أنه سحر مبين , وخدعة كبيرة .
ومن إعجاز الآية أعلاه حصر تكذيب الذين كفروا بالآية الحسية دون عامة الناس.
فالنسبة بين واو الجماعة في (فلمسوه) وبين الذين كفروا في الآية أعلاه هي العموم والخصوص المطلق , فهناك من يؤمن بالآية الحسية, ويتبع النبي , ولكن الذين أصروا على الإقامة في مستنقع الكفر لا يؤمنون وإن جاء لهم بالآية والشرط الذي جعلوه مقدمة لإسلامهم أو لتصديقهم بالنبوة , وهو من معاني وعمومات الرط الشخصي في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
قراءة في علم التفسير
الحمد لله الذي جعل علوم القرآن والمسائل المستنبطة منه من اللامتناهي ، ومن إعجاز القرآن أن علم التفسير صاحبه من حين نزوله , فكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من فسّر القرآن بسنته القولية والفعلية لتكون الإمام في التفسير والتأويل .
وفيها منع من القول بالرأي والإجتهاد المخالف للنص .
بالإضافة إلى كون القرآن يفسّر ذاته , إذ تجد لكل آية منه تفسيراَ في آيات أخرى , كما يستقرأ تأويل لها بالجمع بينها وبين آيات قرآنية أخرى , وهو من مصاديق قوله تعالى [قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ *يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
وعلم التفسير من العلوم الشرعية الأساسية إذ أن القرآن هو المصدر الأول لمادة الفقه وعلم الأصول حين أجمع المسلمون على ثلاثة :
الأول : الكتاب .
الثاني : السنة :
الثالث : الإجماع .
وينمي علم التفسير ملكة القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، ويمنع من الخطأ والزيغ .
ولآن علم النفسير يبحث في مراد الله عز وجل من آيات القرآن ، وهو علم لا يستطيع الناس الإحاطة به كما أنه متجدد بلحاظ الوقائع والأحداث .
وقد تفضل الله سبحانه وجعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) فهو هدى لكل صلاح ، وفيه الترغيب والترهيب , ولعلم التفسير موضوعية في ضبط الأحكام ، وهو من أشرف العلوم في الدنيا من جهات :
الأولى: القرآن كلام الله المعجز , الموحى به إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة الملك جبرئيل عليه السلام , المنقول بالتواتر , المكتوب بين دفتي المصحف ، المتعبد بتلاوته .
وكل سورة تبدأ بالبسملة ، وتعرف نهايتها ببسملة التي تليها إلا بالنسبة سورة الفاتحة فليس من بسملة قبلها ، وكذا بالنسبة لسورة الناس التي ليس من سورة بعدها ، فالقرآن من جهة النظم يبدأ بسورة الفاتحة ويختم بسورة الناس ليس فيه زيادة , ولم يطرأ عليه النقصان , قال تعالى [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
الثانية : بيان القرآن لكل شئ من علوم الدنيا وأحوال الناس في الآخرة ، قال تعالى [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ] ( ).
الثالث : بناء صرح الإيمان بالقرآن وعلومه .
الرابع : بيان الأحكام الشرعية في القرآن .
الخامس : حاجة الناس للقرآن وآياته ، وقد أفردت باباً في تفسير آيات من القرآن اسمه (الحاجة إلى آية البحث ) .
السادس : الأجر والثواب في تلاوة القرآن وهو باب للرزق الكريم (عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله عز وجل، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عِصْمَة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، لا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد، فاتلوه، فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول لكم (الم) حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر) ( ).
السابع : لما قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )تفضل الله وأنزل القرآن وهو دستور العبادة .
وأول من فسر القرآن هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وهل هذه الأولوية والسبق من إعجاز القرآن ، الجواب نعم ,
وقد قام أهل البيت والصحابة بتفسير القرآن ، وقد يتحصل الإجماع على أن أكثرهم علماَ وتفسيراً للقرآن هو الإمام علي عليه السلام ، إذ ورد عن الصحابي أبي الطفيل أنه قال : شهدت عليا عليه السلام وهو يخطب ويقول سلوني في كتاب الله عز وجل ما من آية إلا وأنا أعلم أنزلت بالليل أم بالنهار فقيل له : ما[وَالذَّارِيَاتِ] ( ).
قال : الرياح .
قال : [فَالْحَامِلاَتِ وِقْرًا] ( ).
قال : السحاب .
قال : فما [فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا] ( ) قال السفن تجري بالتيسير على الماء .
[فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا] ( )، قال الملائكة.
كما قال : سلوني عن طرق السماء فاني أعلم بها من طرق الأرض( ).
ومن أكثر الموضوعات كتابة في تأريخ الإسلام هو الفقه والتفسير وهما مدار الأعلمية ، وليس من حصر لكتب التفسير وعلومه وذخائره وقد أنعم الله عز وجل علينا بعلوم مستحدثة في مناهج التفسير , وطرق الإستنباط من الآية الكريمة .
ومن مناهج التفسير :
الأول : تفسير القرآن بالقرآن , وهو الذي سميناه (التفسير الذاتي)
الثاني : تفسير القرآن بالسنة( ).
الثالث : تفسير القرآن بالسنة النبوية وأقوال الأئمة والمأثور .
الرابع : تفسير القرآن بما نقل عن الصحابة والتابعين .
وهل من فرق بينهما الجواب نعم , فتفسير الصحابة أقرب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأغلبه مرفوع إليه صلى الله عليه وآله وسلم ومقتبس من سنته وسيرته المباركة , مع استحضار الصحابة لأسباب النزول .
وصحيح أن المدار على معنى الآية وليس أسباب النزول وحدها , ولكن لأسباب النزول موضوعية في بيان وتفسير الآية القرآنية .
الخامس : التفسير بالرأي وهو تفسير القرآن حسب نظر وأجتهاد المفسر بلحاظ التقيد بعلم اللغة والنحو والصرف وأسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ ، والمجمل والمبين والمحكم والمتشابه ونحوه .
السادس : التفسير اللغوي بالعناية بمفردات القرآن ، وكل كلمة منه فريدة وعلم النحو والصرف ، وعلم البلاغة والبيان والبديع وما فيها من فرائد الإعجاز .
الرابع : تفسير آيات الأحكام ، قال تعالى [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْ] ( ) وقد سألني أ . د السيد حسن الحكيم رئيس جامعة الكوفة السابق ومجددها عن الحد الذي يصله تفسيري للقرآن معالم الإيمان في تفسير القرآن إذ أنه يكتب بخصوص إحصاء ودراسة الموسوعات العلمية .
فأقول أن هذا السِفر الخالد والبحر الزاخر المبارك بفضل الله لا يقف عند حد من جهة الكم والكيف لأن مناهجه تستلزم إكماله من العلماء في الأجيال اللاحقة من جهات متعددة منها:
الأول : يختص كل جزء وبحدود ثلاثمائة صفحة بتفسير آية واحدة من القرآن ، وعدد آيات القرآن ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية , وبعض الآيات ورد تفسيرها بأكثر من جزء مثل :
ستة أجزاء في صلة الآية 110 [كنتم خير أمة اخرجت للناس] بالآيات المجاورة .
الأجزاء 84-85-86-87-88-93
ستة أجزاء بتفسير الآية 153 والآية 154 من سورة آل عمران وهو قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]
وقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]
الأجزاء 122-123-124-125-126-127
سبعة أجزاء بتفسير نداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وهي الأجزاء 131-132-134-136-137-138-139
تفسير الآية 169 من سورة آل عمران بجزئين وهما الأجزاء 152-153
أربعة أجزاء في مفاهيم قرآنية الأجزاء 5-6-19-20
أربعة أجزاء بتفسر الآية 130 من سورة آل عمران وحدها [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] الأجزاء 89-90-91-92
ثلاث أجزاء بتفسير الآية 135 من سورة آل عمران وهو قوله تعالى [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ]. الأجزاء 96-97-98
خمسة أجزاء تتعلق بتفسير الآية 138 من سورة آل عمران [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] الأجزاء 101-102-103-104-105
عشرون جزء في قانون لم يغز النبي (ص) أحداً الأجزاء 159-160-161-163-164-165-166-167-169-171-172-173-175-176-177-178-182-185-188-192
ستة أجزاء في قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب الأجزاء 179-180-183-191-194-195
وأدعو أن تترجم هذه الأجزاء إلى اللغات العالمية المتعددة , لتكون مرآة لدعوة القرآن للسلم المجتمعي والتعاون بين الحكومات والشعوب ، والذي تجلى بمواجهة وباء كورونا وأسأل الله عز وجل أن يمن على أهل الأرض بانجلائها وشفاء جميع المرضى مع الشكر لجميع الطواقم الطبية العاملة في أنحاء المعمورة ، وقال تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ] ( ).
وجوب دفن المسلم
قال تعالى [فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ] ( ).
لقد أكرم الله عز وجل جنس البشر , إذ جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) ولا يختص هذا الإكرام بأيام الحياة الدنيا بل يشمل عالم ما بعد الموت , ومن أسرار قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ) ترى مبادرة الأحياء إلى دفن الميت وحرصهم على كيفية مناسبة لهذا الدفن , ولا يختص هذا الحرص بأهل ملة دون أخرى , ولا زمان دون زمان , ولا عبرة بالقليل من عادات بعض الأقوام , إذ تبين الآية أعلاه الملازمة بين الدفن وأول حادث قتل وموت في الأرض , وأن الدفن إيحاء من عند الله عز وجل بواسطة الغرابين .
إذ بعث الله عز وجل غراباَ وصار يحفر في الأرض , ليريه أي أن الله عز وجل هو الذي يري قابيل , وقيل الغراب والمختار الأول , وهو من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض , كيف يواري , أي كيف يستر سوأة أخيه أي جسده , السوأة مما يستقبح أن يرى فبعث الله عز وجل غرابين فاقتتلا , فقتل أحدهما الآخر , فحفر له بمنقاره ورجليه , ثم ألقاه في الحفرة وغطاه في التراب .
فأصبح من النادمين , أي على قتله .
إذ حمله على ظهره في جراب لستة أشهر وقيل سنة حتى صارت السباع تتبعه من رائحة الميت النتنه , واسود وجه قابيل وكان أبيض , ويرى أبويه منه , إذ سألوا آدم : أين أخوك هابيل .
قال : ما كنت عليه وكيلاَ .
فقال : بل قتلته , فلذلك أسود جسدك , وتبرأ منه , ومكث بعد ذلك مائة سنة لم يضحك , تتلمذ على يد الغراب .
وقيل إن الغراب الذي بحث في الأرض إنما هو ملك على صورة غراب ولو ورد نص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعصوم بهذا المعنى يكون مقبولاَ لكن أصالة الظاهر هي أنه غراب .
لقد قربا ولدا آدم قربانين أحدهما وهو هابيل قرب كبشاَ أبيض وهو صاحب غنم.
أما الآخر وهو قابيل تقرب بصبرة قليلة من الزرع , فتقبل الله عز وجل الكبش ولم يتقبل الزرع .
وعن ابن عباس أن هذا الكبش هو الذي ذبحه إبراهيم عليه السلام , فداء لإبنه , فرحه الله عز وجل في الجنة , قال تعالى [وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ] ( ).
ونطرح هذه مسألة جديدة وهي هل من صلة بين قربان ابني آدم وبين اشتراط نفر من الناس على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انهم لا يؤمنون حتى يأتيهم بقربان تأكله النار , الجواب لا دليل عليه , وإن كانت مسألة القربان معلومة عند أهل ملة التوحيد .
والظاهر (إجماع المسلمين على جواز نقل الميت قبل الدفن وهو المختار، وعن الصادق عليه السلام : من دُفن في الحرم أمن من الفزع الأكبر، فقلت له من بر الناس وفاجرهم، قال : من بر الناس وفاجرهم، وفيه دلالة على استحباب نقل الميت مع وجود الراجح , ومنه النقل إلى المشاهد المشرفة بالذات والإلحاق.
وقال الحنابلة : يجوز نقل الميت إلى غير بلده مع الحاجة، ومع عدم الحاجة فهو مكروه، وعند الحنفية جواز نقل الميت إلى مسافة ميل أو ميلين , ويكره نقله على ما زاد على هذه المسافة، وعند الشافعية قولان أحدهما بحرمة نقل الميت من بلد موته إلى بلد آخر، وإن أمن تغيره، وعلة كراهة أو حرمة تأخير دفنه ورود النصوص بتعجيله، وإجتناب تعريضه للهتك بعد موته .
وعند المالكية يجوز نقل الميت قبل الدفن وبعده إذ لم يكن فيه هتك للميت أو أذى أو إخلال بحرمته.
ومات سعد بن أبي وقاص في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة وحمل إلى المدينة، ودفن بالبقيع( ).
وقصر سعد بالعقيق من النعم التي ذكرتها الآية [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) إذ ورد عنه قال: ولقد كنا نضارب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما لنا طعام نأكله إلا ورق الحبلة وهذا السمر( )، حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط.
ومن موارد جواز نبش قبر المسلم إذا كان مدفوناً في مقبرة الكفار أو دفن مع كافر، نعم الدفن في المقابر في عموم الدول لا يصدق عليه أنه في مدافن كفار لأن عنوانها عام بلحاظ دفن الموتى مطلقاً.
ويجوز النقل إلى المشاهد المشرفة مع الوصية ومع عدمها، هذا إذا كان قبل الدفن، أما بعد الدفن فلا يصح النبش لمن لم يوص بالنقل، إلى جانب قاعدة نفي الحرج في بالدين والأصل هو حرمة نبش قبر الميت لأنه فرع حرمة الميت إلا لوجود مصلحة راجحة أو دفع مفسدة، فان قلت هناك تزاحم بين الأمر بتعجيل دفن الميت وبين نقله إلى المشاهد المشرفة، والمراد من التزاحم هو وجود الملاك في كلا الدليلين ولكن يتعذر على المكلف الجمع بينهما بخلاف التعارض الذي ينتفي معه الملاك في أحد الدليلين , ومن المرجحات الأهمية والأولوية التي تترشح عن الدليل الشرعي من الكتاب والسنة والإجماع، ومنهم من الحق بها الشهرة العملية والفتوائية.
كالتزاحم بين صلاة الآيات وصلاة الفريضة قبل انتهاء وقتها، فتقدم الفريضة، لأنها أهم ملاكاً، وكذا بالنسبة لانقاذ النفس المحترمة وإتيان صلاة الفريضة في وقتها، فيقدم إنقاذ النفس، وكذا إطفاء الحريق ونحوه , ونشكر فقهاء عموم المسلمين على الصدور عن القرآن أولاً ثم الصدور والرجوع إلى السنة النبوية وقول المعصوم عند الإفتاء في المسائل المستحدثة , وقوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، حجة على العلماء على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي وفي النشأتين)
ومن وجوه الحكمة في الدفن أمور :
الأول : سلامة الأحياء من الأمراض التي تتولد عن عدم دفن جثث الموتى , وفيه شاهد على فضل الله عز وجل بتعاهد خلافة الإنسان في الأرض واستدامتها .
الثاني : إكرام الإنسان بعد موته , وعدم إنتهاك حرمته .
الثالث : منع استقذار جيفة الإنسان .
الرابع : إستدامة حلاوة الحياة الدنيا في عيون أهلها , وعدم دبيب الكآبة والأمراض النفسية من رؤية الموتى , وتفسخ أعضاءهم , وأكل الحيوانات والسباع لها , وتجمع الحشرات والهوام عليها , وصيرورتها بؤرة للعدوى والأمراض المستحدثة والضرر العام والخاص .
الخامس : إجتناب التعيير بجيفة الميت , أو الشماتة به .
ويستحب أن يكون القبر واسعاَ , إذ ورد عن (جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد : احفروا ، وأعمقوا ، وأوسعوا ، وأحسنوا ، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد ، وقدموا أكثرهم قرآنا) ( ).
و (عن عمران بن حصين قال : بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم سرية قال : فحمل رجل على رجل من المشركين فلما غشيه بالرمح.
قال : إني مسلم ، فقتله قال : ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله ، إني قد أحدثت فاستغفر لي قال : وما أحدثت ؟ قال : إني حملت على رجل من المشركين .
فلما غشيته بالرمح قال : إني مسلم . فظننت أنه متعوذ ، فقتلته قال : فهلا شققت عن قلبه حتى يستبين لك ؟
فقال : ويستبين لي يا رسول الله ؟ قال : فقد قال لك بلسانه فلم تصدق على ما في قلبه قال : فلم يلبث الرجل أن مات فدفناه ، فأصبح على وجه الأرض قال : فقلنا : عدو نبشه قال : فأمرنا غلماننا وموالينا فحرسوه ، فأصبح على وجه الأرض .
قال : فقلنا : اغفلوا عنه فحرسناه فأصبح على وجه الأرض قال : فأتينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأخبرناه قال : إنها لتقبل من هو شر منه ولكن الله أحب أن يعظم الذنب . ثم قال : اذهبوا إلى سفح هذا الجبل ، فانضدوا عليه من الحجارة)( ).
وقيل يستحب أن يكون عدد الدافنين وتراً , وكذا عدد الغاسلين , لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم دفنه الإمام علي عليه السلام والعباس بن عبد المطلب , والفضل بن العباس , وفي رواية البيهقي الإمام علي والعباس وأسامة : وفي أخرى الإمام علي عليه السلام والفضل وقُثم بن العباس .
إذ موت الإنسان وتغسيله وموته مناسبة للإتعاظ ووسيلة لرقة القلب , والإمتناع عن الإضرار بالغير , والإرهاب وإزهاق الأرواح , وفي دفنه نوع مواساة وسكينة لذويه ومحبيه .
قانون الجوار في الإسلام
من عادة العرب التفاخر بالذي يذب عمن يلوذ بجواره كما في قصة مدلج بن سويد الطائي (عن الكلبي أنه خلا ذات يوم في خيمته فإذا هو بقوم من طيء، ومعهم أوعيتهم، فقال : ما خطبكم؟ .
قالوا : جراد وقع بفنائك ، فجئنا لنأخذه ، فركب فرسه وأخذ رمحه .
وقال : والله لا يتعرض له أحد منكم إلا قتلته أيكون في جواري ثم تريدون أخذه! ولم يزل يحرسه حتى حميت عليه الشمس فطار. فقال: شأنكم الآن به فقد تحول عن جواري.) ( ).
لقد جاء الإسلام بالأخلاق الحميدة في الحل والترحال , قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) ليكون بعث الإسلام على الأخلاق الحميدة حجة في تنزه النبوة وأحكام الإسلام عن الإرهاب مقدماته ، لقد جاء القرآن بالزجر عن الإرهاب ومنه آية البحث التي تتضمن الرد على المغالطة لإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإحتجاج من عند الله عز وجل ، ورده هذا الإنكار بتنزيل باق بين الناس إلى يوم القيامة ، ويتلى كل يوم ، ويتدبر في معانيه ومضامينه كل من :
الأول : التالي للآية .
الثاني : السامع للآية .
الثالث : الذي يستحضر في الوجود الذهني الآية الكريمة .
الرابع : الذي يطلع على تفسير هذه الآية .
الخامس : مناسبة معرفة بيان وموضوع هذه الآية .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحمي الجوار ، ويقبل شفاعة المجير, ويؤمن الذي يستجير به وإن كان مشركاً , قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ]( ) .
وهناك شواهد تدل على إجارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمستضعف وصاحب الحق في مكة قبل الهجرة , مع أنه كان يتلقى الأذى الشديد من قريش يومئذ.
(عن ابن إسحق قال: حدثني عبد الملك بن أبي سفيان الثقفي قال: قدم رجل من إراش بإبل له مكة، فابتاعها منه أبو جهل بن هشام فمطله بأثمانها، وأقبل الإراشي حتى وقف على نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس في ناحية المسجد فقال: يا معشر قريش من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام فإني غريب ابن سبيل، وقد غلبني على حقي، وأنا غريب ابن سبيل؟ .
فقال أهل المجلس: ترى ذلك الرجل – وهم يهزؤون به، إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لما يعلمون بينه وبين أبي جهل من العداوة – إذهب إليه فهو يؤديك عليه، فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال: يا عبد الله إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله، وأنا غريب إبن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه، يأخذ لي حقي منه فأشاروا لي إليك، فخذ لي حقي منه، رحمك الله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنطلق إليه، وقام معه، فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم: إتبعه فانظر ماذا يصنع، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى جاءه، فضرب عليه بابه.
فقال: من هذا؟ .
فقال: محمد فاخرج إلي، فخرج إليه وما في وجهه رائحة، قد امتقع لونه، فقال له: أعط هذا الرجل حقه، فقال: نعم، لا يبرح حتى أعطيه الذي له، فدخل .
فخرج إليه بحقه فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال للإراشي: الحق بشأنك فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيراً فقد أخذ الذي لي، وجاء الرجل الذي بعثوا معه، فقالوا له: ويحك ماذا رأيت؟ .
فقال: عجباً من العجب، والله إلا أن ضرب عليه بابه فخرج وما معه روحه فقال: أعط هذا الرجل حقه، قال: نعم لا يبرح حتى أخرج إليه حقه، فدخل فأخرج إليه حقه فأعطاه إياه؛ ثم لم يلبث أن جاء أبو جهل فقالوا له: ويلك ما لك فو الله ما رأينا مثل ما صنعت؟؟ .
قال: ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب على بابي وسمعت صوته فملئت رعباً ثم خرجت إليه وإن فوق رأسي لفحل من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيايه لفحل قط، والله لو أبيت لأكلني) ( ).
وعن أم هانئ أخت الإمام علي عليه السلام قالت (لما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأعلى مكة فر إليَّ رجلين من أحمائي من بني مخزوم ، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي .
قالت : فدخل عليّ علي بن أبي طالب أخي فقال : والله لأقتلنهما ، فأغلقت عليهما باب بيتي ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو بأعلى مكة ، فوجدته يغتسل من جفنة وإن فيها لأثر العجين ، وفاطمة ابنته تستره بثوبه فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به ، ثم صلى ثمان ركعات الضحى .
ثم انصرف إليّ فقال مرحباً وأهلاً بأم هانىء ما جاء بك؟
فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي بن أبي طالب.
فقال : قد أجرنا من أجرت وأمنّا من أمنت فلا نقتلهما.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لما اطمأن الناس حتى جاء البيت فطاف به سبعاً على راحلته يستلم الركن بمحجن ( ) في يده فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة ، وأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها ، ثم وقف على باب الكعبة وقد( ) استكف( ) له الناس في المسجد فقال :
لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده.
ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهي تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت، وسقاية الحاج .
ألا قتل الخطأ شبه العمد بالسوط ، والعصا ، ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها ( ).
يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم وآدم من تراب ، ثم تلا هذه الآية : [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى] ( ) الآية.
ثم قال يا معشر قريش ما ترون إني فاعل فيكم .
قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم قال فاذهبوا فأنتم الطلقاء ، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد ، وكان الله أمكنه منهم عنوة فبذلك سموا أهل مكة الطلقاء) ( ).
وأنشأ الإسلام قوانين حسن الجوار في البيوت والمساكن سواء في المدينة أو القرية ، قال تعالى [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا]( ).
ووردت نصوص عديدة في السنة النبوية عن حسن الجوار ، وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع) ( ).
كما ورد عن أنس (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : ( ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به ) ( ).
وفي إبتلاء أيوب عليه السلام , ذكر انه ابتلي بلاء اختبار وثواب من غير ذنب يعاقب عليه .
وهناك قول ثان وهو عوقب على ذنب , وفي هذا الذنب (قولان :
أحدهما : أنه دخل على بعض الجبابرة فرأى منكراً فسكت عنه .
الثاني : أنه ذبح شاة فأكلها وجاره جائع لم يطعمه) ( ).
إن العناية بالجار والإحسان إليه إماتة للإرهاب في دويرة الإنسان , وإشاعة للأمن والمودة بين الناس لبيان قانون وهو أن الإسلام يصلح الإنسان في معاملاته اليومية وداخل بيته بما يمنع من الحسد والبغضاء , ومقدمات العداوة والشماتة .
وعندما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة لم يكن يخرج في كتيبة أو سرية , إنما كان يتلقى أذى قريش بالصبر والتحمل من غير أن يتعارض هذا الصبر مع قيامه بأمور جهادية تتعلق برسالته وهي :
الأول : الإخبار عن كونه رسولاً من عند الله عز وجل .
الثاني : الدعوة إلى التوحيد .
الثالث : نبذ الأصنام وعبادتها , والنهي عن تقديسها واللجوء إليها والتوسل بها .
الرابع : تلاوة آيات التخويف والوعيد للذين كفروا، قال تعالى[أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ]( ).
الخامس : أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في المسجد الحرام , ولم يكن المسجد يومئذ كبيراَ متسعاَ بل كان المطاف صغيراَ تحيط به بيوت قريش , لبيان مسألة وهي إطلاع قريش رجالاً ونساءً على النبي حال صلاته اليومية .
فمن لم يره قائماَ في صلاة الظهر يراه في صلاة العصر , أو يسمعه في صلاة المغرب والعشاء أو الفجر وهو يتلو القرآن خاصة مع حال السكينة والصفاء عند الفجر، لتكون تلاوة النبي صلى الله عليه وآله في المسجد الحرام وسماع أهل مكة لها من مصاديق قوله تعالى[وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ) ودعوة سلمية يومية للإيمان .
وروى (هشام بن عروة عن أبيه قال : أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبدالله ابن مسعود ، وذلك أن أصحاب رسول الله اجتمعوا فقالوا : ما سمعت قريش القرآن يجهر به، فمن رجل يسمعهم ؟
فقال ابن مسعود : أنا .
فقالوا : إنّا نخشى عليك منهم , وإنّما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه.
فقال : دعوني فإنّ الله سيمنعني ، ثم قام عند المقام فقال : بسم الله الرَّحْمن الرحيم،
[الرَّحْمن علم القرآن ] ( )، رافعاً بها صوته، وقريش في أنديتها فتأمّلوا وقالوا : ما يقول ابن أُم عبد؟
ثم قاموا إليه فجعلوا يضربونه وهو يقرأ حتى يبلغ منها ما شاء،
ثم انصرف إلى أصحابه، وقد أثّروا في وجهه .
فقالوا : هذا الذي خشينا عليك.) ( ).
وهذا الخبر لا يتعارض مع تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن في الصلاة وقبل أن يتلوه عبد الله بن مسعود , إنما كانت قريش تتجنب الإيذاء البدني المتكرر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال تعالى [أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ] ( ) ولكنهم عزموا على قتله فهاجر صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة , لتبقى هذه الآيات والسور تتلى في مكة وهو ميراث وثروة في بلد اختص بتركها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الناس .
ومن فضل الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجد السور والآيات المكية قد وصلت إلى المدينة قبله وقبل هجرته إليها ، إذ كان المسلمون فيها يتلون القرآن في صلاتهم ، ويتخذونها حجة وبرهاناً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكانت سبباً بدخول طائفة من أهل المدينة الإسلام غير أصحاب بيعة العقبة الأولى والثانية ، وبرزخاً دون محاربة طائفة أخرى من أهلها للنبوة والتنزيل ، والمهاجرين الذين كان عددهم يطرّد في المدينة .
ومن المعجزات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم وقوع خصومات بينهم وبين أهلها .
وليس من أحد يهاجر أو يغادر بلدته ويترك خلفه هذه الثروة العقائدية والبركة التي تنير دروب السالكين , وتدعو إلى السلم المجتمعي , وتمنع من الإرهاب والبطش , ولكن الذين كفروا ساءهم ما يرون من تقويض صرح الشرك وإندحار مفاهيم الضلالة التي ورثوها عن آبائهم .
وهناك نوع ملازمة في الجاهلية بين مفاهيم الضلالة وبين الإرهاب والغزو والسبي , والعزوف عن ذكر الله عز وجل فنزل القرآن بالحرب عليها وإستئصالها، وسمّى الله شريعة محمد الإسلام، وأمته المسلمين ليتخذوا السلم جلبابا , ويتنزهوا عن الظلم والإرهاب .
ومن الإعجاز أن تسمية أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين تمت قبل بعثته[مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ]( )، إذ أمر الله عز وجل المسلمين بالشهادة على الناس وإقامة الفرائض مما يدل في مفهومه على الإمتناع عن الإرهاب والظلم .
وتناجى عامة الآوس والخزرج في المدينة لحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه وعن المهاجرين .
ولا يختص حفظ الجوار بالعرب وديارهم , إنما هو خلق حسن تتصف به كثير من الأمم , وهو من الرحمة أسباب استدامة الملل والشأن , إذ أنه من مصاديق التراحم بين الناس , وإيواء الغريب , والذب عن المستضعف في ملل الله عز وجل .
وقد انتفع المسلمون مما عند الأمم الاخرى من حسن الجوار , فعندما اشتد أذى قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , وقتل بعضهم تحت التعذيب كما في قتل أبي جهل سمية بنت خياط , أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة , وعن أم سلمة قالت (لما فتن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة، أشار عليهم أن يحلقوا بأرض الحبشة، وقال : إن بها ملكاً لا تظلم الناس ببلاده، فاخرجوا إليه، فخرجوا أرسالاً.
قالت : فلما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار من النجاشي، فأمنا على وعبدنا ربنا لا نؤذي
ديننا، وعبدنا ربنا نؤذي) ( ).
وكان جوار النجاشي للمسلمين إجارة وحفظاَ لهم في دينهم وأنفسهم, إذ صارت الحبشة لهم ملاذاَ .
وسلامة الصحابة في الهجرة إلى الحبشة من معجزات السنة النبوية الغيرية , فقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه بالهجرة , وهو من الذاتي من إعجازها الغيري في وجوه منها :
الأول : استجابة الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة مع شدة وطأة مفارقة الأهل ومكة , والذهاب إلى المجهول , ومخاطر الطريق آنذاك , وإن كانت مخاطر الطريق في كل زمان ومكان , ولكنها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة شدة وضعفاَ.
لذا من معاني تسمية السفر أن الإنسان يسفر بوجهه , ويكون مكشوفاَ بالسفر , وقد غادر بيته وأهله ومحلته.
الثاني : إجارة النجاشي للمسلمين الأوائل , وجعلهم آمنين في بلاده , وإمتناعه عن تسليمهم لوفد قريش , فهذه الإجارة من محاسن أخلاق الملوك , وهي في ذات الوقت معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , إذ أشار على أصحابه بالهجرة , وتعيين جهتها .
الثالث : لقد احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
وموضوع الإحتجاج هو فساد الإنسان وسفكه للدماء , فكان أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة من مصاديق فضل الله عز وجل في إحتجاجه على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) لما في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة من أسباب سلامة الدين , ومنع الفساد , والحيلولة دون سفك الدماء , خاصة دماء المؤمنين بعد أن قام المشركون بقتل عدد من المسلمين تحت التعذيب , والتهديد والوعيد بقتل آخرين , وبعد تقييد عدد من الشباب المسلم بالسلاسل في بيوتهم .
لقد كانت هجرة الصحابة إلى الحبشة مع بعد المسافة مانعاَ من تمادي قريش في الفساد , وإجتناباَ لأذاهم , وهي من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) لأن الهجرة سلامة للمسلمين في دينهم وأبدانهم , وأشد الضرر ما يكون على الدين والبدن في آن واحد .
وهي من عمومات قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) ولكن بمعنى آخر , فالمتبادر من القاعدة , وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المقام أن المسلم لا يضر نفسه ولا يضر غيره .
ومن معاني الهجرة إلى الحبشة أن المسلم يجتنب الإضرار بالآخرين له وللمسلمين .
الرابع : من إعجاز السنة الغيري في هجرة الحبشة التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين بقوا في مكة , ومناجاة قريش باجتناب التمادي في إيذائهم , فإن قلت قد ترغب قريش بهجرتهم , والجواب لا , بدليل أنهم أرسلوا رجالاَ في طلب المهاجرين حالما سمعوا بمغادرتهم مكة .
(وروى الواقدي أن خروجهم إليها في رجب سنة خمس من البعثة و أن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا و أربع نسوة و أنهم انتهوا إلى البحر ما بين ماش و راكب فاستأجروا سفينة بنصف دينار إلى الحبشة وهم : عثمان بن عفان و امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم و أبو حذيفة بن عتبة و امرأته سهلة بنت سهيل و الزبير بن العوام و مصعب بن عمير و عبد الرحمن بن عوف و أبو سلمة بن عبد الأسد و امرأته أم سلمة بنت أبي أمية و عثمان بن مظعون و عامر بن ربيعة العنزى و امرأته ليلى بنت أبى حثمة و أبو سبرة بن أبي رهم و حاطب بن عمرو و سهيل بن بيضاء و عبد الله بن مسعود) ( ) والأرجح أن عدد الرجال اثنا عشر .
لقد وصلوا إلى ميناء الشعيبة القريبة من جدة مشياَ , ووجدوا سفينتين تريدان السير إلى الحبشة فاستأجروا واحدة منهما بنصف دينار , ولم يتأخروا في الميناء , وبعد أن غادروا وصل رجال قريش يريدون إرجاعهم إلى مكة فلم يجدوهم .
الخامس : لقد صدرت لنا ستة أجزاء من التفسير خاصة بقانون
(التضاد بين القرآن والإرهاب) ( ).
ويمكن استحداث علم وقانون (التضاد بين السنة النبوية والإرهاب) وتأليف مجلدات خاصة به , وينقسم هذا القانون إلى أقسام , منها :
الأول : التضاد بين السنة القولية والإرهاب .
الثاني : التضاد بين السنة الفعلية والإرهاب .
الثالث : التضاد بين الإعجاز الغيري للسنة القولية والإرهاب .
الرابع : التضاد بين الإعجاز الغيري للسنة الفعلية والإرهاب [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
وقد أنشأنا قوانين :
الأول : قانون الإعجاز الذاتي للآية القرآنية .
الثاني : قانون الإعجاز الغيري للآية القرآنية .
الثالث : قانون الإعجاز الذاتي للسنة القولية .
الرابع : قانون الإعجاز الغيري للسنة القولية .
الخامس : قانون الإعجاز الذاتي للسنة الفعلية .
السادس : قانون الإعجاز الغيري للسنة الفعلية .
ولم يذكر لفظ [بدر] في القرآن إلا في آية واحدة مع موضوعية المعركة في تأريخ الإسلام ، ولكن آيات متعددة تتعلق بذات المعركة ومقدماتها وأسبابها ونتائجها وأثرها إلى يوم القيامة .
فمن قانون إعجاز السنة الذاتي إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء عشية وصباح يوم بدر .
ومنه خروجه إلى معركة بدر من غير سلاح ، ومنه أنه لم يبدأ القتال وأمر أصحابه أن لا يبدأوا القتال ، ومنه تقديم أهل البيت للقتال.
وهل لهذا التقديم معنى وإعجاز غيري , الجواب نعم .
وكذا قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمن الإعجاز الغيري حينما تقدم ثلاثة من المشركين في ميدان المعركة للقتال إذ ( خرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة ودعوا إلى المبارزة، فخرج إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة كلهم من الأنصار فقالوا: من أنتم ؟ .
قالوا: من الأنصار. فقالوا: أكفاء كرام، وما لنا بكم من حاجة، ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: قم يا حمزة، قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا علي، فقاموا ودنا بعضهم من بعض، فبارز عبيدة بن الحارث بن المطلب، وكان أمير القوم، عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد .
فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما قد أثبت صاحبه، وكر حمزة وعي على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة إلى أصحابه، وقد قطعت رجله، فلما أتوا به النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ألست شهيداً يا رسول الله ؟ قال: بلى. قال: لو رآني أبو طالب لعلم أننا أحق منه بقوله:
ونسلمه حتى نصرّع حوله … ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ثم مات، وتزاحف القوم ودنا بعضهم من بعض، وأبو جهل يقول: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لم نعرف فأحنه الغداة، فكان هو المستفتح على نفسه.) ( ).
لقد احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وعلم الله سبحانه أعظم من أن يحيط به غيره , قال تعالى { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } ( ).
قال القرطبي (العلم هنا بمعنى المعلوم أي ولا يحيطون بشيء من معلوماته وهذا كقول الخضر لموسى عليه السلام حين نقر العصفور في البحر : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر) ( ).
ولكن علم الله لم ينقص بعلم الخضر وموسى والملائكة ، والأولى أن يقول ما إطلاعي وأطلاعك إلا أن يراد علم الغيب الخاص بالله عز وجل.
ودعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السنة القولية والفعلية معاً .
وتقسيم السنة إلى سنة قولية وفعلية تقسيم استقرائي للبيان والتوضيح فالدعاء قول وفعل ، فكان النبي يوم بدر متوجهاً إلى الله بكل جوارحه ومستقبلاً القبلة بمقاديم بدنه مع أنه السهام والرماح تترى كالمطر من قبل المشركين إذ كان عددهم نحو ألف وعدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر ، ومن عادة المقاتلين التوجه بالسهام إلى الرئيس والقائد ، خاصة وأن قريشاً تريد قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان نزول الملائكة معجزة عقلية وفعلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفضل من الله عز وجل ، فهو سبحانه الذي أمر الملائكة بالنزول لنصرة النبي .
وسنؤسس قوانين أخرى وتصدر كتب وأجزاء من تفسيرنا بخصوصها إن شاء الله وهي :
الأول : التضاد بين السنة القولية والإرهاب .
الثاني : التضاد بين السنة الفعلية والإرهاب .
الثالث : التضاد بين السنةالتدوينية والإرهاب .
الرابع : التضاد بين السنة الدفاعية والإرهاب .
الخامس : التضاد بين السنة التقريرية والإرهاب .
الفرق بين السنة والعام والحول والحجة
وهو مما إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت إجتمعت , ومع هذا فهناك فروق دقيقة بينها ، وقد تطلق السنة على أيام الشدة والأذى والجدب بخلاف العام الذي يدل على الخصب والرخاء ، وستدل عليه بآيات منها قوله تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ] ( ).
ووردت هذه الآية في سورة العنكبوت مع أن هناك سورة خاصة باسم سورة نوح والتي يقارب عدد حروفها عمر نوح المذكور في الآية أعلاه .
فبتفريغ النص يتبين أن عدد وحروف سورة نوح هو تسعمائة وتسعة وعشرون حرفاَ , كما عن أبي عمرو الدّاني , ومنهم أوصل عدد حروفها إلى ( 947 ) حرفا .
وتكرر حرف (الحاء) ثلاث مرات فقط في اسم نوح ولم يأت بالكلمات الأخرى من السورة .
وليس من وجود في الواقع للخمسين عاماَ , إنما مقدار مدة بقائه هو تسعمائة وخمسين سنة فقط , لبيان مسألة وهي شدة الأذى الذي لاقاه نوح من قومه مدة إقامته بينهم وأنه لم ير منهم عام خير وسعادة ، ومع هذا كان يجتهد في الدعوة إلى الله ، وفي التنزيل [وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا] ( ).
ومن الآيات أن سورة نوح تدرس في العلم الإسلامي في المدارس ويسهل حفظها وتلاوتها (وأخرج الحاكم عن ابن عباس رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله يدعو نوحاً وقومه يوم القيامة أول الناس ، فيقول : ماذا أجبتم نوحاً فيقولون : ما دعانا وما بلغنا وما نصحنا ولا أمرنا ولا نهانا ، فيقول نوح : دعوتهم يا رب دعاء فاشياً في الأولين والآخرين ، أمة بعد أمة ، حتى انتهى إلى خاتم النبيين أحمد فانتسخه وقرأه وآمن به وصدقه ، فيقول للملائكة : ادعوا أحمد وأمته ، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمته يسعى نورهم بين أيديهم ، فيقول نوح لمحمد وأمته : هل تعلمون أني بلغت قومي الرسالة ، واجتهدت لهم بالنصيحة ، وجهدت أن استنقذهم من النار سراً وجهراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً .
فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمته : فإنا نشهد بما نشدتنا أنك في جميع ما قلت من الصادقين ، فيقول نوح : وأنى علمت هذا أنت وأمتك ونحن أول الأمم وأنتم آخر الأمم؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه } حتى ختم السورة ، فإذا ختمها قالت أمته : نشهد أن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم ، فيقول الله عند ذلك : { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } ( )) ( ) .
وشهادة أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذه من الدلائل على الحاجة إلى تلاوة المسلمين اليومية لآيات القرآن في الدنيا والآخرة وأنها تنفع حتى الأنبياء السابقين فلم يقل شطر من الآية أنهم لا يعملون بالأمر ، ويدل العام على الخصب كما في قوله تعالى [ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ] ( ) .
ولابد من دلالات لذكر ألف سنة في الآية منها بيان فضل الله عز وجل على نوح في طول عمره ، وذكر أن هذه المدة من السنين هي مدة نبوته ودعوته إلى ربه وأن آدم عمّر ألفين وأربعمائة سنة .
وتقدير الآية :ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم نبياً رسولاً ألف سنة إلا خمسين عاماً ، وفي رواية عن ابن عباس بعث وعمره أربعون سنة ، الخمسون سنة التي تذكرها الآية من حال السعادة وعدم الأذى التس عاشها نوحاً لم يبعث بعد فلم يتلقى الأذى فيها .
وتقدير النص العددي حقيقة على وجوه :
الأول : عاش نوح في قومه ألفين وأربعمائة سنة .
الثاني : مدة نبوة نوح تسعمائة وخمسمائة سنة لاقى فيها الأذى ، وكانت نبوته سبباً للخصب .
الثالث : مدة لبث آدم قبل النبوة هي ألف وأربعمائة وخمسون عاماً .
الرابع : أيام بقاء نوح بعد الطوفان .
وكثير من العلماء من حصر عمر نوح بما ورد في القرآن وهو تسعمائة وخمسون سنة ، ووردت سورة كاملة باسم (سورة نوح) وفي الآية مغايرة بين تمييز المستثنى منه ،وهو(ألف) وتمييزه سنة , وبين تمييز المستثنى (خمسين) وتمييزه عام ، والإستثناء برفع التوهم .
(وروى أبو صالح ، عن ابن عباس : أن نوحاً أُوحي إليه ، وهو ابن أربعمائة وثمانين سنة ، فدعا قومه مائة وعشرين سنة ، وركب السفينة وهو ابن ستمائة سنة ، ومكث بعد هلاك قومه ثلاثمائة وخمسين سنة . فذلك ألف سنة إلا خمسين عاماً ، وذكر عن وهب بن منبه ، قال : أوحى الله تعالى إلى نوح وهو ابن تسعمائة ، ودعا قومه خمسين سنة . فلما هلك قومه عاش بعدهم خمسين سنة ، فتمام عمره ألف وخمسون) ( ).
(وروي عن ابن عباس أن نوحاً بعث ابن أربعين سنة ، قال ابن الكلبي : بعد آدم بثمانمائة سنة ، وجاء بتحريم البنات والأخوات والأمهات والخالات والعمات .
وقال وهب بن منبه بعث نوح وهو ابن أربعمائة سنة ، وقيل بعث ابن ثلاثمائة سنة ، وقيل ابن خمسين سنة ، وروي أنه عمر بعد الغرق ستين سنة ، وروي أن الطوفان كان سنة ألف وستمائة من عمره صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
[ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ] ( ) إذ ورد لفظ العام لحال الغيث وكثرة الريع بخلاف سني المجاعة وفي هذا العام انفراج للهم، قال تعالى [قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ] ( ) .
وقد ورد لفظ السنة في القرآن بصيغة المفرد سبع مرات ، اثنتي عشرة مرة , وورد لفظ [عَامٌ] سبع مرات
واجتمع اللفظان في القرآن في آية واحدة بقوله تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ] ( ).
والآي أعلاه برقم أربعة عشر من سورة العنكبوت وأن لفظ السنة لافادة تكذيب الكفار لنوح وإيذائهم له (وروى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير أنّه كان يحدّث الأحاديث وكانوا يبطشون به،
يعني قوم نوح فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال : ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون،
حتى إذا تمادوا في المعصية وعظمت في الأرض منهم الخطيئة وتطاولوا عليه،
وتطاول عليه وعليهم الشأن واشتد عليه منهم البلاء،
وانتظر البخل بعد البخل،
فلا يأتي قرن إلاّ كان أخبث من الذي قبله حتى إذا كان الآخر منهم ليقول : قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنوناً لا يقبلون منه شيئاً،
حتى شكا ذلك من أمرهم إلى الله عزّ وجل فقال : رب إنّي دعوت قومي ليلا ونهاراً،
حتى قال : ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً إلى آخر القصة،)( ).
ولم يثبت هذا المعنى بالدقة إذ قد يسمى عام الشدة والضراء كما في عام الرمادة عند المجاعة سنة 18 للهجرة .
وقيل ليس هناك من فرق بين هذه الالفاظ في معانيها : السنة ، العام الحول ، إنما الفرق في مواردها في القرآن لحكمة لفظية كيلا يتكرر اللفظ في القرآن مرتين ، وما فيه من أسباب الملل ويصير ثقيلاً على اللسان.
ونضيف أن التباين اللفظي يبعث الشوق في النفس على التلاوة ، ويسهل حفظ الآيات ، والتمييز بينها ، ولكن هذا المعنى لا يتعارض مع التباين الدقيق في المعنى ، وهذا التباين من إعجاز القرآن , وعجز العلماء عن الوصول إلى تأويل تام بخصوصه .
ومن الفرق بين السنة والعام أن السنة من يوم إلى الذي مثله من السنة الثانية سواء ابتدأ بالصيف أو الخريف أو الشتاء أوالربيع .
أما العام فايضاً من يوم إلى مثله من العام التالي ولكن بشرط أن يكون به صيف كامل ، وشتاء كامل ، ويدخل فيه أيضاً الخريف والربيع .
أي أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، فكل عام هو سنة ، وليس العكس .
ويظهر الفرق في بعض المسائل الفقهية مثلاً الضيف يمهل عاماً كاملاً وليس سنة ، فقد تتحسن حاله في الصيف أو الشتاء .
والحول لغة هو السنة إنقلاب الشمس في مطالعها من حال الشئ حولاً.
والحول في الشرع هو معنى سنة قمرية على المال بعد بلوغه نصاباً فتجب فيه الزكاة.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ) .
والحجة هي السنة مشتقة من اسم الحج لأنه يأتي كل سنة ، لتنمية العناية بالحج والشوق إليه , ولأنه معلوم عند الناس , قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]. ( ).
وفي قصة شعيب وموسى عليهما السلام قال [عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ] ( ) أي أزوجك ابنتي على أن تخدمني ثمانية أعوام أي أن أوان الحج هو رأس السنة ، وفيه تعظيم لشعائر الله.
وسنين : جمع تكسير ، وقد يلحق بجمع المذكر السالم مثل (عزين) و(عضين) وسنوات : جمع تكسير وورد في القرآن لفظ [سنين] تسع مرات ، وفي الإنكليزية تسمى السنة (year) وفي الفارسية (سال) بينما تتعدد تسميتها في العربية وكل اسم له دلالة بعد عامهم هذا .
فلسفة الصيام
قال تعالى [كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ] ( ).
الحمد لله الذي جعل الصيام يقترن بأداء نزول القرآن ليكون مناسبة تتجدد كل سنة لأشق العبادات لبيان صدق العبودية , وتهذيب الأخلاق مثلما أكرم الله المسلمين بنزول القرآن في هذا الشهر ، ونزل القرآن على مدى ثلاث وعشرين سنة على نحو النجوم ، ولكن أول نزوله كان في شهر رمضان ، وقيل أنه نزل إلى السماء الدنيا كاملاً في شهر رمضان ، وشهر رمضان شعار إسلامي وعنوان التقوى ، ورمز الطاعة لله عز وجل ووسيلة للصلاح يتزين نهاره بالصيام فيكون بهيجاً مع الجوع والعطش ، وتترشح بهجته بالأكل والشرب وعموم المفطرات في الليل ، قال تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] .
والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، إذ ورد قوله تعالى [هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ). ويتلقى العالم كله شهر رمضان بالتفاؤل ورجاء البركة فيه وترشح أسباب الرحمة , ورفع بلاء الأوبئة والفاقة ببركة صيام المسلمين كما أن الصيام حرب على الإرهاب , ودعوة للمسلمين وغيرهم للتنزه عنه ، فليس فيه ظلم أو تعدي , إنما هو زاجر عن الظلم , لما فيه من صيام الجوارح .
ويتطلع المسلمون في ليلة الشك إلى السماء لرؤية آية كونية وهي إطلالة الهلال ، وهذا اليوم هو الجمعة الرابع والعشرون من شهر نيسان سنة 2020 ميلادية .
وقد ذكرت في الإمساكية التي اصدرتها قبل خمسة عشر يوماً أنه سيكون الأول من شهر رمضان عند أكثر الدول العربية ، ولم تثبت عندي الرؤية ويكون غدا يوم السبت أول الشهر ، وأتوقع أن يكون يوم الأول من شوال هو يوم الأحد 24/5/2020 كما مبين في الإمساكية التي صدرت منا في شبكة التواصل ووزعت بالطباعة الورقية .
والمدار على الرؤية الشرعية ، شاهدين عدلين .
والصيام عبادة ملاكها الصبر وضبط النفس وتحريرها من اتباع الشهوات والميل إلى اللذات ، وفيه تقوية للإيمان .
ويستوي فيها الغني والفقير , ويعلم الغني حال الفقير لذا تستحب الصدقة فيه ويدرك الغني انه ليس بمقدوره تناول المباحات إلا باذن الله ، وهو مناسبة للرأفة والرحمة بين الناس .
وهو عبادة بدنية وأخلاقية ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) فيه خشوع وذلة واستحضار لفقر الآخرة ، وهو باب مبارك لإستحقاق الثواب في الآخرة .
عن (عن سهل بن سعد . أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : للجنة ثمانية أبواب ، فيها باب يسمى الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة ، لا يدخل معهم أحد غيرهم يقال : أين الصائمون؟ فيدخلون منه ، فإذا دخل آخرهم أغلق ، فلم يدخل منه أحد زاد ابن خزيمة , ومن دخل منه شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً) ( ).
والصوم لغة مصدر , وهو مطلق الإمساك وفي الإصطلاح الإمتناع عن الأكل والشرب وسائر المفطرات طيلة نهار الصوم ، قال تعالى [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] ( ).
بحث أصولي : الأمر بين الفور والتراخي
مسائل علم الأصول هي كل ما يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي , أو ما ينتهي إليه في مقام العمل , أما موضوع الفقه فهو عمل المكلف وفعل الأحكام التكليفية الخمسة ، وما فيها من الأوامر والنواهي .
واصطلاح علم الأصول مركب من لفظين : أصول , والفقه ، أي أدلة الفقه والتكليف ، فعلم الأصول الأدلة الشرعية التي يستند إليها علم الفقه وتستنبط منها أحكامه .
فهو علم يبين قواعد استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها الصحيحة , فهو منهاج الإستدلال , وصنفه الإجتهاد وهو يبحث في الأدلة بصفتها الإجمالية .
ومن مباحث علم الأصول اللفظية كل من :
الأول : مبحث الأمر والنهي .
الثاني : مبحث إجتماع الأمر والنهي .
الثالث : إرادة المرة أو التكرار من الأمر .
الرابع : إرادة الفورية أو التراخي من الأمر .
أصل الفور المبادرة والقصد إلى الشئ .
والفور : العجلة والإسراع , أما في الإصطلاح فهو وجوب الإمتثال والأداء في أول أوقات الإمكان , أما التراخي فهو الإبطاء.
وهل هي من المبادئ التصديقية أم من مبادئ الأحكام التي أضيفت لعلم الأصول ، ويلزم النهي الفورية في إجتناب المنهي عنه ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) .
ولم يرد لفظ فاجتنبوا في القرآن إلا في الآية أعلاه .
ومنهم من جعل الأوامر ليست من مباحث الأصول بناء على ما وضع كضابطة كلية للمسألة الأصولية وهي وقوع نتيجة البحث كبرى لقياس ينتج حكماَ كلياَ فرعياَ .
وجاء العنوان أعلاه : الأمر بين الفور والتراخي على شعبتين :
الأولى : هل المقصود من الأمر إرادة الفور أو التراخي من الأمر .
الثانية : إرادة الإمتثال للأمر , وهل يجب على الفور حال نزول الأمر أم يجوز أو يلزم التراخي .
فمثلاَ في علم الرجال والتحقيق بسنخية ومرتبة الخبر هل هو صحيح أو موثق أو حسن أو ضعيف فهو ليس من المسائل الأصولية بل يقع صغرى في مقدماتها .
ومثلاَ حجية خبر الثقة هي قاعدة كلية عقلاَ وشرعاَ وعرفاَ .
فاذا ضممناها إلى صغرى مثل : خبر فلان الثقة من الصحابة لأنتجت حكماَ فرعياَ كلياَ .
مثل ( خذوا عني مناسككم ) ( ) قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فإن النتيجة هي إذا أدى الحاج مناسك الحج مثل التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكون صحيحة ومجزية إن شاء الله .
ومثلاَ في حجية الكتاب فقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ]( ).
فتدل آية الموضوع على أنه مقدمة للصلاة وكذا حجية السنة وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا صلاة إلا بطهور) ( ) فإذا صلى المسلم صلاة بغير وضوء أو تيمم أو غسل جنابة فعليه إعادة الصلاة .
وهناك فرق بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية مبين في كتابنا (مصطلحات فقهية) الصادر قبل نحو ثلاثين سنة .
ومن الفارق بين الأصول العملية والقواعد الفقهية إن الرجوع إلى الأصول العملية لا يكون إلا بعد العجز عن الدليل الإجتهادي .
وفي حكم الفورية أو التراخي أقوال :
الأول : إفادة الأمر على الفور , كما في سارعوا بقوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الثاني : لا تدل صيغة الأوامر على الفور أو التراخي , فينظر إلى المأمور به هل هو مشروط بوقت , ويفوت أداؤه بفوات زمن التكليف والأداء , أم أنه غير مقيد بوقت فيجزي متى ما أتي به كما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وإن كانت بعض ضروب الأمر والنهي تستلزم الفورية أو أن عوارض وعنوان ثانوي يستلزم التراخي كالتقية وإرادة سلامة النفس والعرض.
الثالث : قال الغزالي أن مدعي الفور متحكم (وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَنْقُلَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ قَوْلَهُمْ : افْعَلْ لِلْبِدَارِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى نَقْلِ ذَلِكَ لَا تَوَاتُرًا ، وَلَا آحَادًا)( ).
الرابع : عدم دلالة صيغة الأمر على الفور أو التراخي .
الخامس : إفادة الأمر المطلق التراخي إذا كان خالياَ من القرائن التي تدل على الفور أو التراخي للسعة في الأحكام وعظيم فضل الله عز وجل في المندوحة .
ولابد من الرجوع للقرآن خاصة وأنه أهم الأدلة في موضوع علم الأصول من الكتاب السنة والإجماع .
لذا فإن الرجوع إلى الأصول العملية لا يكون إلا بعد العجز عن الدليل الإجتهادي , والمختار أن الأمر يدل على الفورية الأقرب فالأقرب, إلا أن يدل دليل أو أمارة أو قرينة على التراخي , ومن الدلائل قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ) إذ تفيد الفاء في الآية الفورية والتعجيل , ومنها قوله تعالى [َيايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ]( ).
و(عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال : لما أنزل الله ” وأنذر عشيرتك الاقربين “( ). أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى : ” يا صباحاه “.
فاجتمع الناس إليه بين رجل يجئ إليه وبين رجل يبعث رسوله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” يا بني عبد المطلب، يا بنى فهر، يا بنى كعب، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني ؟ ” قالوا : نعم ! قال : ” فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد “.
فقال أبو لهب ، لعنه الله: تبا لك سائر اليوم ! أما دعوتنا إلا لهذا.
وأنزل الله عز وجل ” تبت يدا أبى لهب وتب( ))( ).
ليتخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جبل الصفا موضعاَ للإنذار وليدغدغ( ) اسم الصفا والمروة شغاف القلوب , وتميل لهما النفوس , ويشتاق لهما كل مؤمن ومؤمنة , ويكون حجة عليهم وليعود المسلمون إلى مكة فاتحين ويسعون كل يوم بين الصفا والمروة سواء في موسم الحج أو عند أداء مناسك العمرة في أيام السنة الأخرى .
و( روى الضحاك عن ابن عباس . قال : جاءت أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : أرنا آية حتى نؤمن بها.
فسأل ربه، فأراهم القمر قد انشق بجزئين، أحدهما على الصفا والآخر على المروة، قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب.فقالوا: هذا سحر مفترى) ( ).
قال ابن هشام (وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين افتتح مكة ودخلها قام على الصفا يدعو وقد أحدقت به الانصار فقالوا فيما بينهم: أترون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها ؟ فلما فرغ من دعائه قال: ” ماذا قلتم ؟ “
قالوا: لا شئ يا رسول الله.
فلم يزل بهم حتى أخبروه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” معاذ الله ! المحيا محياكم والممات مماتكم) ( ).
دلالة الأمر على المرة أو التكرار
يأتي الأمر لغة على وجوه :
الأول : الأمر : الفعل .
الثاني : الأمر : الشأن , ويجمع على أمور .
الثالث : الأمر بمعنى النماء والزيادة .
وفي أمثال العرب (مَنْ قَلَّ ذَلَّ ومَنْ أمِرَ فَلّ ” وإنَّ ماله لأمِرٌ وعَهْدِي به وهو زَمِرٌ . والأمِرُ ككَتِفٍ : الرجلُ المُبَارَكُ يُقْبِلُ عليه المالُ . وامرأَةٌ أمِرَةٌ : مُبَاركةٌ على بَعْلها وكلُّه من الكَثْرَة . وعن ابن بُزُرْجَ : رجلٌ أمِرٌ وامرأَةٌ أمِرَةٌ إذا كانا مَيْمُونَيْنِ) ( ).
والأمرة هنا الغلبة والكثرة تأتي بمعنى كثرة الولد , والحاشية والأموال والجاه .
(وتقول: أمِرَ بنو فلان أمَرَةً أي كثُروا وولدَتْ نَعَمُهُم. قال لبيد:
إنْ يُغْبَطُوا يَهْبِطُوا وإنْ أَمِرُوا *** يَوْماً يصيروا للهُلْكِ والنَّفَدِ) ( ).
الرابع : الأمر وهو صدور قول ونحوه للإتيان بفعل , وهو ضد النهي , ويجمع على أوامر .
الخامس : الأمر بمعنى الدين , كما في قوله تعالى [حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ]( ) أي دين الله عز وجل , وقوله تعالى [فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ]( ).
السادس : الرأي .
ونطرح مسألة وهي : الجمع بين المرة والتكرار , وبين الفورية والتراخي , وفيه وجوه :
الأول : التكرار الواجب كما في صيام شهر رمضان كل سنة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
الثاني : التكرار الواجب والمستحب .
الثالث : التكرار المستحب .
الرابع : التكرار المستحب ثم الواجب .
الخامس : المرة الواجبة والتكرار المستحب كما في الحج في قوله تعالى [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
السادس : المرة المؤقتة بزمان مخصوص والتكرار .
السابع: المرة الفورية , والتكرار المطلق والمشروط .
كما في الحج [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
الثامن : الفوري المكرر مثل الصيام [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ) فكلما هل هلال شهر رمضان وجب فوراَ الصيام في اليوم التالي .
وهل المراد فرد واحد أو عدة أفراد ’ الأصل هو الأول كما في فريضة الحج ويستفاد الثاني من القرائن .
ولم نعلم كفاية المرة الواحدة بالحج إلا بالسنة النبوية , وبيان كيف أنها تخفيف , وقيل إن طبيعة مقدمات الحكمة تقتضي كون المراد من المادة صرف الطبيعة إلا مع القرينة كما لو كان المراد الطبيعة السارية.
وقيل الأصل في الأوامر الإجزاء بالمرة إلا أن يثبت الخلاف وهو المختار.
وهو لا يتعارض مع تقسيم الواجب إلى الواجب المؤقت والواجب غير المؤقت.
وقد ينطبق فعل على هذه الوجوه مثل : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وفي إرادة المرة أو التكرار من صبغة الأمر أقوال :
الأول : عدم دلالة صيغة الأمر وهيئتها ومادتها على المرة أو التكرر , أي أنها تدل على صرف طبيعة الطلب .
الثاني : الإكتفاء بالمرة الواحدة واستدل في حال الإطلاق بمثال أنه لو طلب من الإنسان إتيان فعل اجزأه مرة واحدة .
الثالث : إنه يقتضي المرة الواحدة لفظاَ .
الرابع : لا يمكن تحصيل الأمر بأقل من مرة واحدة .
الخامس : إدراك التكرار مرة في العمر مع الإمكان .
السادس : قيل إنها للمرة , وتحتمل التكرار , روي عن الشافعي .
السابع : التوقف والمراد منه لا ندري أوضع للمرة أو التكرار أو للمطلق أي المرة والتكرار سوء بالمادة أو الهيئة .
فلا يدرى مراد المتكلم للإشتراك بينهما .
يراد من المرة والتكرار معنيان :
الأول : الدفعة أو الدفعات .
الثاني : الفرد والأفراد .
وبينهما عموم وخصوص مطلق فالدفعة أعم من الفرد .
وقد تتحقق الدفعة بفرد واحد أو عدة أفراد في الحال أو على نحو التعاقب .
وذكر أنه (خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : إن الله كتب عليكم الحج فقام عكاشة بن محصن ويروى سراقة بن مالك فقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟
فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ” ويحك وما يؤمنك أن أقول :
نعم ؟ والله ولو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم كفرتم ، فاتركوني
ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه)( ).
مادة وهيئة الأمر
مادة الأمر هي حروف وكلمات الأمر , فمادة الأمر ليست مادة هيئة كل أمر وطلب مثل صلِ , إنهض , اكتب إنما مادة ذات كلمة الأمر وهي الحروف التي يتألف منها الأمر : ألف , ميم , راء.
وهيئة الأمر وتسمى أيضاَ صيغة الأمر , كل صيغة تفيد الطلب الأمري مع أي مادة كانت فصيغة الأمر مثل :
الأول : فعل الأمر , وصيغة افعل , وهو الأصل في صيغة الأمر مثل بلغ في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ).
وقال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ).
وقوله تعالى [إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ]( ).
فصيغة الأمر هي فعل الأمر اغسلوا , امسحوا .
الثاني : الفعل المضارع المقترن بلام الأمر.
مثل [وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ]( ).
الثالث : صيغة الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر ، كما في قوله تعالى [فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ] ( ) .
الرابع : اسم فعل الأمر , كما في قوله تعالى و[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ] ( ) فعل أمر بمعنى الزموا مبني ، وكما في قول الشاعر (عمرو بن الإطنابة:
و قولي كلما جشأت و جاشت مكانك تحمدي أو تستر يحي. ) ( ).
إذ يخاطب الشاعر نفسه ، وجزم الفعل (تحمدي ) بالطلب (مكانك ) وهو اسم فعل أمر بمعنى اتبني .
الخامس : المصدر النائب عن فعله ، ويؤدي معنى الفعل ، فلا يجوز أن يجتمع هذا المصدر مع الفعل لأنه بديل ونائب عنه ، وهو يعمل عمل الفعل فيأخذ فاعلاً إذا كان الفعل لازماً ، ويأخذ فاعلاً ومفعولاً إذا كان فعله متعدياً ، ومنه قوله تعالى [فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ]( ).
ولا يفيد الأمر المطلق الإختصاص بالمرة أو التكرار ، فالقدر المتيقن منه طلب الفعل الذي لا يحصل بأقل من المرة الواحدة مع إحتمال التكرار.
ومسألة المرة والتكرار , مبحث أصولي يؤثر بالفروع المتصلة به , من جهة كون الأمر :
الأول : الأمر المطلق .
الثاني : الأمر المكرر أي أن التكرار بذات الأمر , وليس بذات الفعل فيؤثر الحكم على المسائل الفقهية المتعلقة به .
والنسبة بين مسألة الإجزاء ، ومسألة المرة والتكرار هي العموم والخصوص المطلق , إذ أن مسألة الإجزاء كبروية , أما مسألة المرة والتكرار فصغروية , فقد يقع الإجزاء بالمرة الواحدة ، وقد لا يقع حتى مع التكرار .
والمختار هو كفاية صرف الطبيعة من الأمر التي تتحقق بفرد واحد , فتجزي المرة الواحدة إلا مع الدليل أو القرينة على التكرار .
ونطرح هنا مسألة وهي مواطن الخلاف الأصولي بالمرة والتكرار في الأحكام الشرعية من الوجوب والإستحباب والإباحة والكراهة والحرمة كما في وجوب الحج مرة واحدة في العمر ، مع استظهار الإطلاق في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) والصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلما ذكر .
وذهب صاحب الكفاية إلى القول أن صيغة الأمر مطلقاَ لا دلالة لها على المرة أو التكرار , وأن المنصرف منها ليس إلا طلب إيجاد المأمور بها فلا دلالة على أحدهما لا بهيئتها ولا بمادتها .
وقد حققناه في بحثنا الخارج الأصولي سنة 1999 ميلادية في النجف الأشرف , وهو مطبوع في تقريرات بحثنا الخارج (معراج الأصول) .
و النزاع في دلالة الصيغة من جهة الوضع ، وقد يكون من جهة الإطلاق لإفادته الوجوب .
وقيل لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب لإنسباقه عند اطلاقه، فصيغة الأمر لا تدل على ارادة الإمتثال مرة واحدة ، او اتيان الفعل عدة مرات سواء بلحاظ المادة أو الهيئة، والمراد من المادة في المقام المصدر المجرد عن اللام والتنوين كما في قولك “صل صلاة”.)
اما المعنى فهو اعم ويتعلق بايجاد المأمور به في الخارج، ومفاد الهيئة هو الحكم المجعول ومتعلقها المأمور به ، وقيل الأولى ان يكون البحث من جهة الإمتثال وان كان المعنى واحداً بلحاظ الجهة، فالمتبادر من الصيغة على ما ذهب اليه صاحب الكفاية طلب ايجاد ذات الفعل في المأمور به في الخارج من غير تقييد بالمرة او التعدد، وذكرت في المقام اقوال:
الأول : افادة الصيغة التكرار الى الأبد.
الثاني : افادة التكرار بالتعدد القليل الذي يعني اكثر من مرة كما في المرتين او الثلاث.
الثالث : تفيد الصيغة المرة الواحدة.
الرابع : اشتراك الصيغة بين المرة والتكرار.
الخامس : التوقف وعدم الميل الى احد القولين.
السادس : عدم افادة الصيغة لأحدهما، وهذا القول هو الذي مال اليه صاحب الكفاية لأن هيئتها موضوعة لإفادة نسبة الطلب الى المخاطب، اما مادتها لا بشرط فلا تدل على المرة أو التكرار.
ويمكن الإستشهاد بالأمر بالصلاة على النبي وآله عند ذكر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل تكفي المرة الواحدة اذا ذكر عدة مرات في مجلس واحد او لابد من الصلاة عليه في كل مرة يذكر بها في المجلس المتحد او المتعدد وأصالة الإطلاق تقتضي الأخير.
ان الإتفاق على ان المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل الا على الماهية المجردة ، ولا موضوعية له في النزاع في المرة والتكرار، ولأنهما خارجان عن الماهية التي لا تتعدى في مفهومها ذاتها، ولعدم ثبوت الملازمة بين المصدر وبين مادة الصيغة، ولا اتحاد بينهما، ولعدم الدليل على افادة كل منهما ذات المعنى.
فاذا كان المصدر لا يدل على المرة والتكرار فلا يعني هذا ان المادة لا تدل عليهما.
واستدل صاحب الفصول بان النزاع حاصل في الهيئة ، وليس المادة بوجوه:
الأول : نص جماعة من العلماء عليه.
الثاني : تحرير الأكثر للنزاع في الصيغة، وهو يعني ان النزاع في الهيئة لأن الصيغة عبارة عن الهيئة.
الثالث : ان السكاكي حكى اتفاق العلماء، بان المادة وهي المصدر المجرد عن اللام والتنوين ، لا تدل الا على الماهية المجردة ، والمرة والتكرار خارجان عن الماهية.
أما بالنسبة للأول فلا يصلح للحجة لوجود قول يعارضه، والأصل في المقام التعارض بالإضافة الى عدم ثبوت حجية بعض الأقوال في المقام اصلاً لأن الأمر يستلزم الدليل العقلي او الشرعي.
اما الثاني فان الصيغة أعم من ارادة الهيئة بالإضافة الى ان محل تحرير النزاع قد تكون فيه نوع مسامحة، فهو يحرر بأدنى ملابسة ، ويكفي الإتحاد الجهتي مع موضوع النزاع.
ومادة الأمر من المشتقات ، وهي موضوعة للفعل الذي يقوم به الفاعل مجرداً عن أي إعتبار خاص يتعلق بالفاعل، ولم توضع هذه المادة والهيئة بمجموعهما لا للمرة ولا للتكرار, فتدل الهيئة على البحث والتحريك للحدث.
والمرة يكفي لها صرف الوجود ليسقط الوجوب ، بينما يستلزم التكرار الوجود الساري ، وتعدد ايجاد الطبيعة، وهذا التعدد لا يستظهر من صيغة الأمر، بل من تركيب القضية الكلية وتعدد مصاديقها في الخارج كما في قوله تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ) وكما في قولك “صم رمضان” فتعدد ايام الصيام ليس من صيغة الأمر بل من تعدد الأفراد غير الإرتباطية لأيام الصوم ولتعدد الحكم بتعدد الموضوع ، فكل يوم يقع عليه الأمر بالصوم ،
بينما تكون المرة الواحدة مستقرأة من القضية الجزئية والمتحدة التي لا تقبل التجزئة والتعدد كما في قولك “صل الظهر” فيحصل الإمتثال بأداء صلاة الظهر لذلك اليوم ، لأن الأمر بمادته لا يدل الا على ذات الحدث، والهيئة لصرف النسبة الطلبية.
وصيغة الأمر متعلقة بذات الحدث ، وخطاب من الأعلى الى الأدنى يراد منه صدور الفعل من المخاطِب من غير ان يتضمن الإتحاد او التعدد سواء في مادته او هيئته ولا يتضمن إفادة صرف الطبيعة والإكتفاء بمرة واحدة، وطرو العدم بتحقق مسمى الوجود.
ولا الوجود الساري الذي لا يتحقق الإمتثال به الا بافراد عديدة فمادة الأمر تتعلق بذات وماهية الحدث ، أما هيئته فتدل على النسبة الطلبية.
والمراد من الفورية هي الإمتثال على الفور ومن غير تأخير او ابطاء او تسويف أوان الإمكان، أما التراخي فهو جواز الإبطاء والتأخر في الإمتثال عن قصد، وصيغة الأمر لا تتضمن أحدهما.
واستدل الطرفان بأدلة بادر المعاصرون إلى ابطالها وتفنيدها ، فالقائلون بالتكرار استدلوا بتكرار الصلاة كل يوم مع ان الأمر في القرآن ورد باقامة الصلاة من غير تفصيل أو أمر زائد عليه ، ولكن التكرار جاء من السنة التي هي بيان للقرآن.
والمصدر الثاني للتشريع سواء السنة القولية او الفعلية او التقريرية، وللقاعدة الكلية المستقرأة من القرآن والسنة وهي ان خطابات الفرائض متعددة ومتجددة ، فلا تؤدى مرة واحدة الا ما ورد به الدليل كالحج الواجب ، وحتى الواجب فان استحبابه للمكلف يتجدد كل سنة، فموضوعنا الدلالة اللفظية للأمر، ولم يدل على التكرار، والنقاش يظهر في قولك (اكرم العالم) ، فهل يفيد تكرار الإكرام مع اختلاف آنات الزمان والأحوال ام تجزي المرة الواحدة.
أما قول صاحب الكفاية (بان قضية اطلاقها تدل على جواز التراخي) فلا دليل عليه على نحو الاطلاق والعموم، فيمكن القول ان اطلاق الصيغة يدل على الفورية باعتبار ان الفورية أمر بسيط لا يحتاج الى مؤونة زائدة ، والتراخي يستلزم تلك المؤونة، وقد يفيد الإطلاق التبادر والمبادرة الى الفعل لذا فان تعريف المصدر المجرد عن اللام والنون لا يدل إلا على الماهية على ما حكاه السكاكي أجنبي عن المقام لأنه تعريف خاص بالصناعة النحوية .
والمراد منه الماهية المجردة من الخصوصيات، ولا صلة له بالمرة والتكرار حسب الإصطلاح الأصولي.
ووقع الخلاف بين مدرسة الكوفة والبصرة النحويتين، فالأولى قالت ان الأصل هو الفعل ثم اشتقت منه سائر المشتقات ، أما الأخرى فقالت ان المصدر هو الأصل وهو المشهور بين النحويين ، ولكن القدر المتيقن منه هو أصل الوضع الشخصي ثم تفرعه وانشطاره بحسب اللحاظ ، وهذا المبحث بعيد عن المبحث الأصولي من المرة والتكرار , ولعل السكاكي حينما عرف المصدر لم يلتفت الى إرادة المرة والتكرار.
وللمرة والتكرار معنيان :
الأول : المراد من المرة هي الإمتثال لمرة واحدة , والإكتفاء بفرد واحد من الطبيعة المأمور بها ، اما التكرار فهو تعاقب الأفراد من ذات الفعل.
فيتحصل الأجزاء عند القائل بالمرة الواحدة باتيان فرد واحد من الطبيعة المأمور بها .
اما التكرار فهو عدم تحقق الإمتثال الا بالإتيان بافراد متعددة من الطبيعة سواء على نحو طولي او عرضي.
الثاني : المراد من المرة الدفعة سواء تحققت بمركب وافراد متعددة او بفرد واحد، فالمدار على الإندفاع لتحصيله في الخارج بامتثال متحد وان تعددت أفراده ، كما لو كان المكلف مأموراً بغسل الوجه مرة واحدة في الوضوء ، فسواء تحققت المرة بغرفة واحدة او غرفتين فانها تحتسب غسلة واحدة .
والمراد من التكرار هو الإنبعاث لإتيان الفعل بعد الإنبعاث فالأمر باكرام العالم يتحصل بالإكرام بعد الإكرام سواء اتحد الموضوع والحال ونوع الإكرام ام اختلف وان حصل الإكرام الأول بعدة افراد من الإكرام.
وقيل بتعلق الخلاف في المعنيين معاً ، أي انه بنفي دلالة الصيغة على المرة او التكرار مطلقاً، اما ما أرده من الإشكال الذي وصفه بالوهم تضعيفاً له ومفاده اختصاص الخلاف بالأول، وارادة الفرد من الأمر .
تقديم زكاة الفطر أيام كورونا
الزكاة : ركن من أركان الدين , وذكر لفظ (الزكاة) في القرآن ثلاثين مرة , وذكرت مشتقاتها أكثر من ثمانين مرة .
وقال تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى]( ).
وزكاة الفطر واجبة كتاباَ وسنة وإجماعاَ عند علماء الإسلام , وهو المراد من قوله تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى] ( ).
وعليها يتوقف قبول صلاة العيد , ولكن يجوز أن يكون نزول الحكم سابقاَ للعمل به بسنة أو أكثر , فالسورة مكية وآياتها قصيرة ولم يكن هناك فرض زكاة ولا صلاة عيد , أو زكاة الأموال , وفيها تزكية للنفوس , لأوانه خاصة وأن موضوع الآية أعم .
ومن معاني الآية أنها توطئة وتهيئة للأذهان لحكم الزكاة , وبشارة نصر الإسلام , وسيادة أحكامه , كما في سورة البلد فهي مكية , ونزل فيها قوله تعالى [وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ] ( ).
وكذا نزول في مكة , قوله تعالى [سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ] ( ).
و(عن كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يأمر بزكاة الفطر قبل أن يصلي صلاة العيد ويتلو هذه الآية { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى }( ) وفي لفظ قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن زكاة الفطر قال : { قد أفلح من تزكى }( ) .
فقال : هي زكاة الفطر.
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى }( ) .
ثم يقسم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلى يوم الفطر) ( ) وهو لا يتعارض مع المعنى الأعم أعلاه .
إذ ورد عن (جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : في قوله : { قد أفلح من تزكى }( ) قال : من شهد أن لا إله إلا الله , وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله.
{ وذكر اسم ربه فصلى }( ) قال : هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بمواقيتها) ( ).
و(عن الإمام علي عليه السلام أنه التصدق بصدقة الفطر وقال : لا أبالي أن لا أجد في كتابي غيرها ، لقوله ( قد أفلح من تزكى ) ( ) أي أعطى زكاة الفطر ، فتوجه إلى المصلى ، فصلى صلاة العيد ، وذكر اسم ربه فكبر تكبيرة الإفتتاح وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح ، وعلى أنها ليست من الصلاة لأن الصلاة معطوفة عليها) ( ).
ولا دليل على الفصل والإحتجاج إنما التكبيرة جزء من الصلاة وبها تفتتح .
(وفي الفقيه: سئل الصادق عليه السلام عن قوله الله عزوجل ( قد أفلح من تزكى)( ).
قال: من أخرج الفطرة.
فقيل له: (وذكر اسم ربه فصلى) ( ) قال : خرج إلى الجبانة فصلى) ( ).
ومعنى الآية : [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى] ( ) أي من ماله , (عن سعيد بن جبير { قد أفلح من تزكى }( ) يعني من ماله) ( ).
[قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى] أي تطهر من الشرك( ).
[قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى]عن عكرمة أي قال لا إله إلا الله( ) .
[قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى] أي من تطهر عن الشرك بالإيمان , قاله ابن عباس ( ).
[قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى] ( ) أي زكاة المال كلها .
قد أفلح أي انتفع من الخير وسلم ونجى وبارك الله عز وجل في رزقه , ورضي عنه .
(وروى نافع: كان ابن عمر إذا صلى الغداة -يعني من يوم العيد – قال : يا نافع أَخْرَجت الصدقة؟
فإن قلت : نعم ، مضى إلى المصلى، وإن قلت: لا قال: فالآن فأخْرِجْ ، فإنما نزلت هذه الآية في هذا (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) ( ) وهو قول أبي العالية وابن سيرين.) ( ).
وورد (عن ابن عمر قال : فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو انثى من المسلمين .
وأخرج أبو داود وابن ماجة والدارقطني والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : فرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة الفطر طهرة للصيام من اللغو والرفث وطعمة للمساكين ، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات .
وأخرج مالك والشافعي وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارقطني عن أبي سعيد الخدري قال : كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زكاة الفطر عن كل صغير وكبير حر أو مملوك صاعاً من طعام ، أو صاعاً من أقط ، أو صاعاً من شعير ، أو صاعاً من تمر ، أو صاعاً من زبيب) ( ) .
وزكاة الفطر أو زكاة الفطرة هي التي تُخرج بعد إنقضاء صيام شهر رمضان لأن الفطر سببها , وهي واجبة كتاباَ وسنة وإجماعاَ , وتسمى بزكاة الأبدان وزكاة الخلقة , وفيها تمام الصوم , ويدل عليه قوله تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى] ( ).
ومقدار زكاة الفطر صاع من البُر , أوصاع من الشعير أو التمر ومن القوت الغالب عند أهل البلد , على الذكر والانثى والكبير والصغير .
وقد بينته في الجزء الثاني من رسالتي العلمية (الحجة) ( ).
ولو ولد للرجل مولود قبل هلال شوال بدقيقة فعليه زكاة فطره ,والصاع هو مقدار ثلاثة كيلو غرام , وقيل كيلوين ونصف , والخلاف صغروي , فهو أربعة أمداد , ومقدار المد ثلاثة أرباع الكيلو غرام تقريباَ وهو ملئ كفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المباركتين.
وتخرج هذه الزكاة من القوت الغالب عند أهل البلد , , وافضلها التمر لأنه أدام.
ويجوز إعطاؤه نقداَ للفقير والمسكين , بقصد القربة , ويجوز تقديمها عن أوانها بعنوان القرض للفقير , خاصة في أيام كورونا , والحجر الصحي ولا يجب إخباره بأنها زكاة فطر وهي غير زكاة المال وبينهما عموم وخصوص مطلق .
فزكاة الفطر تجب على كل مكلف عنه , وعن أفراد عائلته , وان لم يكن عنده زائد على مؤونته , أما زكاة المال فتجب عند تحقق النصاب , وذات النسبة بينها وبين الخمس , وقد يكون إنسان مستحقاً للخمس ولكن تجب عليه دفع زكاة الفطرة عن نفسه , وعن عياله , وقد يجب على الإنسان الزكاة والخمس , وزكاة الفطر , ويجب عليه الخمس وزكاة الفطر أو يجب عليه زكاة الفطر وحدها , وتسقط زكاة الفطر عن الفقير.
(عن أيوب قال : لا أعلمه إلا عن عكرمة أن عمر قال لما نزلت( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ) ( ) جعلت أقول: أيّ جمع يهزم؟
فلما كان يوم بدر رأيت النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم يثب في الدرع ويقول 🙁 سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) ( ))( ).
وعكرمة بن عبد الله البربري المدني من التابعين , وهو مولى لإبن عباس ولد سنة (25) للهجرة وتوفى سنة (105) وعمره ثمانون سنة .
وكانت وفاة عمر بن الخطاب سنة (23) للهجرة , أي قبل ولادة عكرمة ولم ينسب عكرمة الخبر إلى ابن عباس .
و(عن الإمام علي عليه السلام : أدوا فطرتكم فانها سنة نبيكم، وفريضة واجبة من ربكم) ( ).
ومن شرائطها امتلاك الإنسان قوت سنته بالفعل أو القوة , ومنه الموظف .
وأوانها ادراك ليلة العيد الأول من شوال .
اقتراح فضائية عالمية للسجون والسجناء
ورد حكاية عن يوسف عليه السلام في التنزيل ,[قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ]( ) ولم يرد لفظ يدعونني في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وورد لفظ (كيدهن) ثلاث مرات في القرآن , كلها في سورة يوسف بخصوص مكر امرأة العزيز والنسوة ليوسف عليه السلام ليدل على تنزه المؤمنات عن المكر والخبث .
كما ورد لفظ (كيدكن) مرتين في القرآن وفي آية واحدة من سورة يوسف وهو قوله تعالى [فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ]( ) بلغة الخطاب وقد تقدم في محاضرة سابقة لنا بيان أن الكيد قد يصاحب الشرك وأن المؤمنات منزهات عنه , وموضوعنا هنا هو اقتراح تخصيص مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة فضائية خاصة بالسجون وتأريخها وأحوال السجناء حول العالم , وسبل اصلاحها , واتعاظ الناس منها , وفيه محاربة للإرهاب .
ويوسف هو نبي ابن أنبياء فهو يوسف ابن النبي يعقوب ابن النبي إسحاق ابن أبي الأنبياء إبراهيم عليهم السلام .
وذكر يوسف في القرآن ستاً وعشرين مرة , منها أربع وعشرون مرة في سورة يوسف والتي إختصت بقصته , وهي السورة الوحيدة التي إختصت بقصة نبي من الأنبياء في أغلب آياتها , ومرة واحدة في سورة الأنعام بقوله تعالى [وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ]( ), وأخرى في سورة غافر [وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها تتضمن أسماء عدد من الأنبياء , والترتيب الزماني في بعثتهم , وقال يوسف [قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ] ( ), فاختار النجاة من الفتنة .
وهل يدعو المؤمن عند الضيق واحتمال زجه في فتنة بهذا الدعاء الجواب لا , لأن الله عز وجل واسع كريم , وقد دعوت به فأصابني أذى شديد .
وقال تعالى [وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
ولم يرد لفظ فتيان في القرآن إلا في الآية أعلاه .
لقد برزت مع زمان العولمة والتواصل الإجتماعي ظواهر مستحدثة وهي موضوعية وأثر الشباب في الواقع اليومي , ولزوم الإلتفات إليهم والعناية بحاجاتهم ومستلزمات إرتقائهم , والتخفيف عنهم , وقد تهرم وتشيخ بعض المؤسسات العامة لأنها تحصر جهودها على إجتماعات دورية للحكومات تنفق فيها الأموال الطائلة التي يرى الشباب أنها من الكلي الطبيعي وأن لهم سهماً فيها لم ينالوه .
والسجون عالم مرير وخاص , وفيه شماتة الأعداء , ويمثل السجناء شريحة من المجتمع , ولأن العالم يتجه بجد وجهد لمحاربة الإرهاب فإن معالجة أحوال السجون من هذه المحاربة في جانب منها , لذا اقترح فضائية خاصة بالسجناء تابعة لمنظمة الأمم المتحدة , وقد يكون هذا الإقتراح فرع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان , ويكون لهذه الفضائية منهاج أخلاقي للإصلاح والإتعاظ والتقيد بالقوانين النافذة واحترامها , ومحاربة الإرهاب والجريمة , وبيان شدة أذى السجن ليتجنب الناس أسبابه ومقدماته , وتعرض في هذه الفضائية لقاءات مع رجال القانون والقضاء والشرطة , وحوارات مع عدد من السجناء بما فيه النفع العام , وفق القوانين والضوابط التي يضعها المشرفون على القناة , ومنهم علماء نفس واجتماع, إلى جانب ذكر تراجم بعض الشخصيات التأريخية , والأفلام النافعة , وشرائط السجن العامة , والدراسة المقارنة بين السجون وتأهيل واصلاح السجناء وتزويد السجون بمكتبة وورشات عمل , وفرص تعليم وتأهيل , ورعاية طبية .
وعناية الفضائية بالنساء , والحث على إجتنابهن السجن وأسبابه , وارشادهن إلى لزوم تأديب الأولاد بالنفرة من الإرهاب .
لقد كان سجن يوسف عليه السلام مناسبة لنجاة أهل مصر من المجاعة والهلاك , ومع أنهم حبسوه سبع سنين فقد إجتهد بالمحافظة على كيان الدولة والنظام العام وحفظ النفوس , أيام المجاعة , إذ قام بتأويل رؤيا الملك [وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ]( ).
وعجز الملأ والعلماء الذين عند الملك عن تأويل رؤياه , وقام يوسف عليه السلام بتأويلها [قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ]( ) .
ليطلب يوسف عليه السلام منصب الوزارة وتنظيم شؤون الدولة , ويتولاه لنجاة وهداية الناس , وهو من أسباب كثرة بني إسرائيل في مصر , وخروج ومغادرة ستمائة ألف منهم مع موسى عليه السلام .
وتتناول هذه الفضائية تاريخ السجون وقصصها في الأمم والأجيال السالفة وشدة الأذى الذي يلاقيه السجين ، ووجوه الفرق أو الإلتقاء في معاملة السجين والأسير ، وقصص الملوك والعظماء الذين تعرضوا للسجن وحياتهم بعد السجن .
وقرارات العفو العامة والخاصة في التأريخ ومحاسنها وسلبياتها واستحضار قوله تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ( ) وليس في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي سجن وقيل أول ما أنشئ السجن في الإسلام أيام عمر بن الخطاب .
وتعتني هذه الفضائية بأنظمة الأمم المتحدة والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، وتبين مصاديق العدالة الإنتقالية سواء المنهاج القضائي والقانون الدولي أو غير القضائي وغاياتها في السلم المجتمعي وتعويض الضحايا والمتضررين من انتهاكات حقوق الإنسان مع السعي لعدم تكرار تلك الإنتهاكات , وتنمية ثقافة المسؤولية الجنائية عند المسؤول كبيرا كان أو صغيراً ، وإدراك عدم الإفلات من العقاب عند إرتكاب جريمة وفق القانون , ودورات تدريبية لهم ولحراس السجون .
وتساعد هذه الفضائيات في إنحسار التعذيب في السجون ومدة التحقيق ، وتسعى لتتمكن من الوصول إلى السجناء وسماع شكواهم وإقتراحاتهم ، ولا تكون هذه الفضائية هيئة رقابة أو رصد ، إنما هي ذات صبغة إنسانية تتعاون مع الحكومات والمسؤولين والسجناء لكشف الحقيقة بما يهدف لمنع الإرهاب ومقدماته ، ولرفع لظلم ، فهو قبيح عقلاً وشرعاً .
شرط البلوغ في الإجتهاد
البلوغ شرط في التكليف الشخصي , وحديث الرفع يشمل غير البالغ , فمن باب الأولوية أن يكون شرطاَ في التكليف النوعي والإفتاء , للإحتراز من المسامحة في الإفتاء , والزيغ والخطأ ونحوه .
والأصل هو إشتراط البلوغ في المقلَد للأولوية القطعية إذ أن المرجعية فوق التكليف الشخصي بمراتب كثيرة , وهو منصب أمانة وعهد ومسؤولية عامة , قال تعالى [فَاسْأَلُوا الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ) وقال تعالى [وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
ويشترط البلوغ في الأمور الشخصية إلى جانب العقل والإختبار والرشد .
نعم تصح وصية الصبي إذا بلغ عشراَ في وجوه الخير والمعروف , وصلة الرحم أي بالأمور الشخصية وعلى نحو التقييد وبالأمر الواقعي الموجود .
أما عدم ذكر البلوغ كشرط لمرجع التقليد من قبل عدد من الفقهاء , فالظاهر أنه للتسالم عليه , كما في شرط الحرية , وسلامة العقل والفقاهة , وكونه مؤمناً , وطهارة المولد والرجولة فهي شروط وإن لم تذكر بعضها بالذات , ولوجودها في ثنايا الفتاوى ومسائل الرسائل العلمية وقد ذكرت في رسالتي العلمية (الحجة) الجزء الأول والمسجلة برقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد برقم 345 لسنة 2001.
(المسألة 1) يجب على المكلف أن يختار لإحراز الواقع في عباداته ومعاملاته احد الطرق الثلاث
الأول : الإجتهاد .
الثاني : التقليد .
الثالث : الإحتياط .
وقيّد المكلف أي ليس للصبي أن يختار الإحتياط لإنه ليس مكلفاَ فمن باب الأولوية تخلفه عن مرتبة الإجتهاد .
ومن مسائل رسالتنا العملية الحجة :
(المسألة 41) يشترط في المجتهد المقلَد الإسلام , والبلوغ , والعقل , والإيمان , والعدالة , والحياة فلا يجوز تقليد الميت ابتداء , والذكورة , والحرية , وطهارة المولد , وان لا يقل ضبطه عن المتعارف , وان لا يكون مقبلاَ على الدنيا مواظباَ في تحصيلها , وفي الخبر : من كان من الفقهاء صائناَ لنفسه حافظاَ لدينه مخالفاَ لهواه مطيعاَ لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه , وهذا الخبر وما شابهه يدل على أن التقليد ليس جديداَ بل أن اسس تشريعية موجودة منذ أيام المعصوم وعدم إفراده بالذكر من بعض الفقهاء المتقدمين أو المتأخرين لا يعني أنهم أهملوه أو لم يقولوا به إذ أن السكوت أعم من الفتوى بالخلاف .
(المسألة 42) إذا ادعى مجتهد أو أحد العلماء أنه أعلم من المجتهد الميت فلا تكفي تلك الدعوى في العدول إليه , فلابد من إحراز ذلك وفق الطرق الشرعية والحجة المعتبرة , وإن كان معذوراَ فيما يعتقده .
(المسألة 43) يجوز التشاور بين الفقهاء لدراسة الفتوى ومقدماتها ومدركها وموضوعها , ولكن المدار على فتوى الأعلم .
(المسألة 44) مع إحتمال الأعلمية في اثنين أو أكثر من المجتهدين أو العلم بانهم متساوون يتخير المكلف في العمل بفتوى أي منهم , والأقوى جواز التبعيض في المسائل كما لو قلّد احدهم في أحكام العبادات , وقلّد
الآخر في المعاملات .
(المسألة 45) للمكلف في زمان الفحص عن المجتهد أو عن الأعلم أن يختار أيا من المجتهدين المردد بينهم , وله البقاء على الميت إلا أن يعلم علماَ إجمالياَ أن بين المجتهدين الأحياء من هو أعلم منه , وله أن يحتاط في أعماله.
أما مسألة إتيان يحيى الحكم صبياَ كما في قوله تعالى [وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا]( ) فهو معجزة نبوية خاصة , وآية من عند الله عز وجل .
فقد (ورد عن ابن عباس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يحيى أعطي الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين) ( ).
والحكم فوق الإسلام درجة , (عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى (يا يحيى خذالكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا) ( ).
قال : ومن ذلك الحكم أنه كان صبيا فقال له الصبيان : هلم نلعب، فقال : أوه والله ما للعب خلقنا، وإنما خلقنا للجد لامر عظيم) ( ).
و(في الصحيح عن يزيد الكناسي قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) أكان عيسى بن مريم حين تكلم في المهد حجة لله على أهله زمانه ؟
فقال : كان يومئذ نبيا حجة لله غير مرسل , أما تسمع لقوله حين
قال: ” إني عبد الله آتاني الكتاب , وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حياً , قلت: فكان يومئذ حجة الله على زكريا في تلك الحال وهو في المهد ؟
فقال : كان عيسى في تلك الحال آية للناس ورحمة من الله لمريم حين تكلم فعبر عنها , وكان نبيا حجة على من سمع كلامه في تلك الحال ثم صمت فلم يتكلم حتى مضت له سنتان ، وكان زكريا الحجة لله على الناس بعد صمت عيسى بسنتين .
ثم مات زكريا فورثه ابنه يحيى الكتاب والحكمة وهو صبي صغير، أما تسمع لقوله عزوجل: ” يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا ” ( )
فلما بلغ عيسى (عليه السلام) سبع سنين تكلم بالنبوة والرسالة حين أوحى الله تعالى إليه، فكان عيسى الحجة على يحيى وعلى الناس أجمعين إلى آخر الخبر)( ).
والسعي لمعرفة الحكم الشرعي بخصوص الأفعال والوقائع حاجة لكل مسلم ومسلمة ، ولابد من الرجوع إلى مرجعية تقتبس الأحكام في مستحدثات المسائل .
وتستند في الفتوى إلى الكتاب والسنة , وتقليد الأعلم مع الإمكان .
واليوم وبفضل وسائط الأعلام وشبكات التواصل الإجتماعي صار الناس على بينة أكثر من الأمور ، ومعرفة المجتهد والأعلم أكثر وضوحاً ، فليست هي بالشهرة وبذل الأموال والحاشية ، ورب شهرة لا أصل لها ، ولا بأس بالسن والعمر ، إنما المدار على كثرة التأليف والتدريس الذي يدل على الإجتهاد من رحم المؤسسة العلمية واستنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية وإحاطة بالمدارك ، والمدار فيه على التفسير والفقه .
و(عن زيد بن أرقم , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) ( ).
المرجع لابد أن يكون فقيهاً مجتهداً عدلاً يدرك الوقائع والأحداث من حوله.
ليكون تقليده مبرئاً للذمة , وبلغ مرتبة من العلم واستنباط الأحكام الشرعية تؤهله للمرجعية .
قانون الضروريات الخمس
ما ورد في علم المنطق بخصوص الكليات الخمس وهي : الجنس والفصل والنوع والخاصة والعرض العام , وفي علم الأصول باب اسمه الضروريات الخمس , وهذا في الإصطلاح ذكره ابو حامد الغزالي الطوسي الشافعي (450-505) هجرية والذي أطلق عليه لقب (حجة الإسلام) إنما كان يذكر لفظ المصلحة .
والمراد من الضروريات هي التي يحتاج إليها الناس للإستدامة الحياة والعمل بأحكام الشريعة , وهي من أسباب النجاة في النشأتين وهي :
الأول : الدين (عن ابن عباس قال : لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة ، قال لأصحابه : تفرقوا عني ، فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ، ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل ، فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض ، فالحقوا بي . فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت ، فأصبحوا بمكة فأخذهم المشركون وأبو جهل ، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى ، فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه ، فإذا ألبسوها إياه قال : أحد . . أحد . . وأما خباب ، فجعلوا يجرونه في الشوك ، وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقيةً ، وأما الجارية ، فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قلبها حتى قتلها ، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار ، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم ، واشتد على عمار الذي كان تكلم به . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت : أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا؟ قال : لا . قال : وأنزل الله { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان }( ) ) ( ).
الثاني : حفظ النفس : لقد أكرم الله عز وجل الناس بحفظ النفوس واستدامة حياة الإنسان إلى أن يأتي أجله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فيدفع الله عز وجل عن الإنسان البلاء ومقدمات الفتن ، وأسباب الضرر في البدن ، ويمنع من زهوق الروح قبل أوانه ، وفي التنزيل [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ] ( ) .
فصحيح أن حفظ النفس ضرورة , ولكنها نعمة حاضرة في كل دقيقة من حياة الإنسان ، ومنها نعمة الشهيق والزفير .
ومن حفظ النفس قوانين النكاح والتكاثر وفق الشريعة ، وحرمة السفاح ، ومنها إيصال الطعام والشراب إلى الإنسان بما يبقيه على قيد الحياة ، وجاء الإسلام بحرمة القذف والسب والشتم .
وقد أخبر القرآن عن قانون حرمة القتل قبل أن يهبط آدم إلى الأرض كما في سؤال الملائكة الإنكاري [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
ونزل القرآن بحكم القصاص لحفظ النفوس ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ).
الثالث : حفظ العقل .لقد أنعم الله عز وجل على الناس بنعمة العقل ، وهو من أسمى النعم في الدنيا ، ومن الآيات تساوي الناس بهذه النعمة لتقودهم إلى الإيمان وفعل الصالحات ، وتدفعهم عن السيئات ، وتطرد عنهم الغفلة ، ويكون العقل الحجة على الإنسان يوم القيامة ، وبه يتباهى المؤمنون يومئذ ، إذ سخروا للفصائل سبل الآخرة والنجاة فيها ، حيث يظهر الكفار حسرتهم وندمهم ، وفي التنزيل حكاية عن أهل النار [وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ] ( ).
وكأنهم أفاقوا والتفتوا إلى نعم الفعل وتعطيلهم لها .
الرابع : حفظ النسل والتكاثر من الغرائز عند الإنسان والحيوان ، وهو معجزة في الخلائق لا يقدر عليها إلا الله عز وجل ، وهو من عمومات الوحي الذي ورد في قوله تعالى [وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ] ( ) فهذا الإتخاذ وسيلة لحفظ النسل .
ومن باب الأولوية أن تجد الإنسان يجتهد وفق الشريعة وقواعد النكاح التي هي أصل متوارث عند كل الأمم وأهل الملل المختلفة ، كما يتجلى في إنكار النسوة لفعل امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام ونعتها بأنها في ضلال وإثم ، إذ ورد في التنزيل [وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ) .
والمراد من حفظ النسل هو تعاهد سلامة النسب ، والأخلاق الحميدة وإجتناب إختلاط المياه ، ومن الإعجاز في الشرائع السماوية تأكيدها على حرمة الزنا ، لتكون هذه الحرمة واقية وحرز في حفظ النسل والأنساب ، قال تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً] ( ) وجاء الكتاب والسنة النبوية بالحث على الزواج وحفظ الفرج ، والتنزه عن الفواحش ، قال تعالى [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ] ( ) .
عن عبد الله بن مسعود قال ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شبابا لا نجد شيئا فقال يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه اغض للصبر واحصن للفرج ومن لم يستطع منكم الباءة فعليه بالصوم فانه له وجاء) ( ).
الخامس : المال ، وهو ما يملكه الفرد أو الجماعة من النقود أو العروض أو العقار أو التجارة أو الحيوان ، ويحرص الإنسان على حفظ ماله .
وحكى القالي عن ثعلب : أن أقل المال عند العرب ما تجب فيه الزكاة وما نقص عن ذلك لا يقع عليه اسم المال ) ( ) ولا دليل على هذا الحصر ، إنما يصدق المال على كل تملك معتد به بالإضافة إلى أن هناك أنواعاً من المال لا تجب فيها الزكاة .
ومن وسائل حفظ المال إخراج حق الله منه ، وفيه تزكية لذات المال وحفظ للنفس ، وشفاء من الدرن .
قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا]( ).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (داووا مرضاكم بالصدقة ).
وقال الغزالي (أَمَّا الْمَصْلَحَةُ فَهِيَ عِبَارَةٌ فِي الْأَصْلِ عَنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ ، وَلَسْنَا نَعْنِي بِهِ ذَلِكَ ، فَإِنَّ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ مَقَاصِدُ الْخَلْقِ وَصَلَاحُ الْخَلْقِ فِي تَحْصِيلِ مَقَاصِدِهِمْ ، لَكِنَّا نَعْنِي بِالْمَصْلَحَةِ الْمُحَافَظَةَ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ وَمَقْصُودُ الشَّرْعِ مِنْ الْخَلْقِ خَمْسَةٌ : وَهُوَ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَنَفْسَهُمْ وَعَقْلَهُمْ وَنَسْلَهُمْ وَمَالَهُمْ ، فَكُلُّ مَا يَتَضَمَّنُ حِفْظَ هَذِهِ الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ فَهُوَ مَصْلَحَةٌ ، وَكُلُّ مَا يُفَوِّتُ هَذِهِ الْأُصُولَ فَهُوَ مَفْسَدَةٌ وَدَفْعُهَا مَصْلَحَةٌ .
وَإِذَا أَطْلَقْنَا الْمَعْنَى الْمُخَيَّلَ وَالْمُنَاسِبَ فِي كِتَابِ الْقِيَاسِ أَرَدْنَا بِهِ هَذَا الْجِنْسَ .
وَهَذِهِ الْأُصُولُ الْخَمْسَةُ حِفْظُهَا وَاقِعٌ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورَاتِ ، فَهِيَ أَقْوَى الْمَرَاتِبِ فِي الْمَصَالِحِ) ( ).
والإجماع على أن مرتبة الدين هي المقدمة ثم مرتبة النفس ثم العقل ثم النسل ثم المال ، وأن وقع الإختلاف في الأربعة الأخيرة لكن الإجماع على تقدم ضرورة الدين .
وقيل لا يتحقق حفظ النفس إلا بالقصاص فصار واجباً لأنه وسيلة للواجب وإجتماع الناس على التفريط بهذا الواجب اثم للجميع وأن كان واجباً على نحو الكفاية , ولا ينحصر حفظ النفس بالقصاص .
وحفظ الدين يسترخص له النفس والمال ، وحفظ النفس يسترخص له المال .
وحصر الضروريات بهذه الخمسة اجتهاد واستقراء من الغزالي ومن تبعه , ويدخل في الدين إقامة الصلاة وإتيان الزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت الحرام , وتلاوة القرآن وتعاهد آياته , ولا يتعلق الأمر بالإرتداد وحده.
وقال الغزالي (وَتَحْرِيمُ تَفْوِيتِ هَذِهِالْأُصُولِ الْخَمْسَةِ وَالزَّجْرِ عَنْهَا يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا تَشْتَمِلَ عَلَيْهِ مِلَّةٌ مِنْ الْمِلَلِ وَشَرِيعَةٌ مِنْ الشَّرَائِعِ الَّتِي أُرِيد بِهَا إصْلَاحُ الْخَلْقِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَخْتَلِفْ الشَّرَائِعُ فِي تَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ)( ).
ومنهم من أضاف للضروريات الخمس مقصد سادس وهو الفرض , ومنهم من أضاف حفظ الدولة , وحفظ الأمن وهي داخلة في الضروريات الخمس .
واختلف في ترتيب الضروريات , وبعضهم لم يرتبها ولكنهم أكدوا على مسألة في هذه الضروريات وهي الحدود والعقوبات , كحد الإرتداد بالنسبة للدين وحد القصاص بالنسبة لضرورة النفس , وحد شرب المسكر بالنسبة لضرورة العقل , وحد الزنا لحفظ النسب , وحد قطع اليد لحفظ المال , قال تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاًمِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ) .
ولكن يتم حفظ كل ضرورة من هذه الضرورات بما هو أعم من الحد والعقوبة خاصة في هذا الزمان , ومن سبل حفظها التقوى والصبر والإحتجاج والتعاون بين المسلمين , قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ) والأمر بالمعروف والتهي عن المنكر.
ومن حفظ الدين إجتناب الإرهاب والقتل العشوائي , إذ يدل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) على مسألة وهي بقاء الدين رحمة للناس , كما أن بقاءه بصيغ الرحمة والتراحم والإقتداء بالسنة النبوية.
وهل الضروريات الخمسة متساوية في المرتبة أم بينها تفاوت الجواب هو الثاني , فحفظ الدين مقدم , ولا تتعارض معه التقية .
ثم حفظ النفس , إذ يبذل المال من أجلها , وتفتدى به , كما أن حفظ العرض يفتدى بالمال .
وهل ترتيبها وفق المقاصد أو وفق المصالح والحالات الآتية , المختار هو الثاني .
وقيل (لكل حادث حديث، وربما أغنت المداراة عن المباراة)( ).
وحفظ الدين هو علة خلق الإنسان قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
وهل يعني هذا أن عمل الإنسان في الدنيا العبادة وحدها , يتجلى الجواب بقلة الوقت الذي تستغرقه الوظائف العبادية في الإسلام .
وأنها لا تأخذ إلا جزء يسيرا من وقت الإنسان مع أن الله عز وجل يقول [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
نعم حتى أعمال المعاملات فإنها في طول العبادات , لما فيها من السعي في مرضاة الله عز وجل , وبالإمكان النية بإتيانها بقصد القربة , كما يكون الإختيار والعمل في المعاملات بالخشية من الله عز وجل وإتيان الحلال وإجتناب الحرام , وفي التنزيل [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ).
لقد جعل الله عز وجل ملة التوحيد مصاحبة للإنسان , وجزءَ من فطرته , قال تعالى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
وبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لأكمال أحكام الشريعة السماوية وثباتها في الأرض وتوارث الناس لها إلى قيام الساعة .
و(عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وأجملها وترك فيها موضع هذه اللبنة لم يضعها ، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ، ويقولون : لو تم موضع هذه اللبنة ، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة) ( ).
لقد أكرم الله عز وجل الإنسان , وجعله [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وفق معاني الخلافة في المقام , ودفع القتل وأسباب الضرر عن الإنسان فالله عز وجل يحفظ الخليفة ويذب عنه .
وتفضل الله عز وجل بالأحكام الشرعية التي تحفظ الإنسان في نفسه وتدفع عنه الهلكة , قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ] ( ).
كما أنعم الله عز وجل على الإنسان بالرزق والأكل والشرب وأجرى الأنهار في الأرض , ودجعل السماء تغدق على الناس بالأمطار , فيأتي السحاب بشارة وبعثاَ على الدعاء لسؤال المطر .
موضوعية العلو في الأمر
هل يلزم العلو في الأمر بصدروه من العالي إلى الداني أم يصدق الأمر إذا صدر من المساوي وكذا من الأدنى إلأى الأعلى ، ولعل هناك تداخلاً بين (معاني اللفظ ومادة الأمر، وبين اصل الإشتقاق والوضع، فمسألة الإشتراك اللفظي او المعنوي، او الحقيقة والمجاز ليس لها اعتبار كبير في المراد من اللفظ بل تتعلق بالمادة التي تدل على الحدث، اما الهيئة فتعني الدلالة على نسبة المادة الى الفاعل، وفي الماضي تدل على تحقق الحدوث، اما في الفعل المضارع فتدل على التلبس به في الحال او المستقبل.
ولا تصل النوبة الى الأصول العملية في موارد التعارض بل ان التعارض غير موجود في القرآن بين معاني اللفظ والأمر، فقد يستعمل اللفظ بارادة المعنى المتعدد منه من غير تعارض بينها، وبحسب التفسير والتأويل أي ان ذات اللفظ يستعمل في عدة معان، ويثبت التعدد او الإتحاد في المعنى بحسب تفسير الآية وتأويلها وسياقها.
فمثلاً قوله تعالى[وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ] ليس لإرادة الفعل من لفظ (الأمر) وحده، إنما هو أعم وقد يراد منه شأن فرعون، والأمر أي الطلب وأوامر فرعون التي يصدرها في قتل المسلمين واستحياء نسائهم
وجمع الجيوش للحاق بموسى عليه السلام وقومه، كما ذكر انه أمر بذبح شاة , وقال لا آكل كبدها الا ويجتمع عندي ألف ألف مقاتل أي مليون .
وأيضاً الفعل العجيب كما في حكمه ومسألة موته غرقاً، وشأنه ايضاً وادعاؤه الربوبية وابتلاء وامتحان واستدراج فرعون بالملك، ويمكن ان يراد من الأمر الحادثة لكثرة الحوادث التي تدل على جهل وجحود وضلالة فرعون واعراضه عن الرسول والآيات التي جاء بها ودخوله وقومه النار خصوصاًَ.
وان لفظ (أمر) في الآية يحتمل تعدد المعاني والمفاهيم منه بحسب القرائن , قال تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ].
ان مباحث الأصول تستلزم الفقه في علوم القرآن وعدم تطبيق النظريات المستقرأة من العلوم العقلية والتي لم تثبت كليتها واطلاقها على علوم القرآن، والاصل ان تكون علوم القرآن مصدراً للأصول، فعمومات قاعدة انتفاء التعارض في القرآن، تشمل الفقه والأصول وغيرهما.
وبعد بيان المعاني المتعددة للفظ الأمر جاءت الجهة الثانية لبيان اعتبار العلو في الأمر وفيه وجوه:
الأول : اعتبار العلو: أي يشترط في الأمر ان يكون من العالي الى الداني.
الثاني : عدم اعتبار العلو: فيصح الأمر اذا جاء الطلب من المساوي او من الداني الى العالي.
الثالث : إنه حقيقة في الأول أعلاه، وفي الثاني مجاز ويحتاج الى مؤونة زائدة وعناية.
الرابع : موضوعية الإستعلاء في الأمر، فلابد للعالي في الأمر من اظهار هيئة الإستعلاء سواء بصيغة الأمر، او بالقرائن، او بالتشديد، والتوكيد، والتهديد ونحوها، فالعالي اذا اصدر امراً خالياً من الإستعلاء، فانه لا يتعدى الطلب والسؤال فلا يكون امراً على هذا المبنى.
الخامس : عدم اعتبار الإستعلاء فيكون الطلب من العالي الى الداني امراً وان كان مستخفضاً لجناحه، ومجيء أمره بصيغة الرجاء والتوسل والحث والترغيب، فالمعتبر في الأمر هو منزلة ومقام العالي دون التفات الى إستعلائه واستدل عليه بالعرف والوجدان.
السادس : إعتبار الإستعلاء احياناً، وعدم اعتباره احياناً اخرى بحسب القرائن والأمارات، فالعالي قد يأتي بطلب وهو لا يقصد الأمر وان كان عالياً كما هو بين الناس , لأن العلو من الأمور المتزلزلة غير الثابتة وقد يأمر مستخفضاً لجناحه، ولم يعتبر الإستعلاء ولكن القرائن تفيد الأمر لكفاية العلو.
السابع : إعتبار أحد الأمرين، اما العلو او الإستعلاء، اما جانب العلو فبين، وهو اعتبار العلو واقعاً، اما الإستعلاء فيعتبر بمفرده، كما لو طلب المساوي من مثله ولكن بصيغة الإستعلاء، وكذا بالنسبة للداني من العالي، فالعلو مفقود , ولكن الإستعلاء قد يكون موجوداً بخصوص ذات الأمر وصيغته وكيفيته.
وقيل لا يصدق عليه أمر لموضوعية العلو في الأمر، لأن العقلاء لا يرضون للداني ان يأمر العالي، ويقبحون منه استعلاءه لمنافاته للواقع والعرف والوجدان.
الثامن : أحد الأمرين العلو او الإستعلاء على نحو التخيير وليس التعيين، ولا تخلو العبارة من مسامحة، إذ أن المراد عدم كفاية الإستعلاء حصراً لصحة سلب الأمر عن طلب المستعلي غير العالي، وإن مدار الأمر على العلو، اما الإستعلاء فهو فرع العلو وليس امراً مستقلاً ذا موضوعية في عناوين الأمر.
ثم ان العقلاء يذمون الطالب الأدنى اذا وجه امراً الى العالي بصيغة الإستعلاء ويوبخونه بالقول لِمَ تأمره؟ او ليس لك ان تأمره لأن العلو من شرائط الأمر عقلاً وشرعاً وعرفاً.
وإن الأدنى ليس له ان يوجه الأمر لمن هو اعلى منه، وسيرة العقلاء والظواهر حجتان، فلا اعتبار بالإستعلاء ان صدر من الداني والسافل الى الأعلى منه بل انه يكون محل توبيخ وتقبيح واستهجان من العقلاء، وقد لا يصدق عليه حينئذ انه استعلاء الا على نحو المجاز والعناية الزائدة.
وكأنه من اللغو العملي، فلا يصح القول بكفاية الإستعلاء لثبوت الأمر حقيقة، والإستعلاء وحده اذا كان صادراً من الأدنى الى الأعلى فلا يصدق عليه انه امر على نحو الحقيقة).
اسم رمضان
قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، وقال تعالى[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا]( ).
ورمضان اسم علم مذكر , وهو اسم الشهر التاسع من الأشهر العربية القمرية وهي:
الأول : شهر محرم لأنه يحرم القتال فيه وكان يسمى في الجاهلية مؤتمر .
الثاني : شهر صفر لأن البيوت تصير فيه صفراَ بسبب الغزو وكان اسمه في الجاهلية ناجر.
الثالث : شهر ربيع الأول لأنه صادف أيام الربيع .
الرابع : شهر ربيع الثاني أو الآخر .
الخامس : شهر جمادى الأول لدخول موسم الشتاء وجماد الماء فيه .
السادس : شهر جمادى الآخرة .
السابع : شهر رجب ومعناه المعظم لأن العرب كانت تعظمه .
الثامن : شهر شعبان لأن العرب تشعبت فيه بعد شهر رجب الذي هو من الأهر الحرم .
التاسع : شهر رمضان , من الفعل رمض أيام شدة الحر .
العاشر : شهر شوال لأن الإبل تشول أذنابها طلباَ للإخصاب فيه .
الحادي عشر : شهر ذي القعدة لأن العرب تقعد فيه عن القتال لأنه من الأشهر الحرم .
الثاني عشر : شهر ذي الحجة وهو الشهر الأخير من السنة، وتسميته نسبة إلى فريضة الحج التي يؤديها العرب من أيام إبراهيم عليه السلام وإن كانت مفروضة من أيام آدم عليه السلام , قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
ويعتمد هذا الحساب التقويم القمري أي دوران القمر حول الأرض اثنتي عشرة مرة , وعدد أيام السنة القمرية 355 يوماَ , بينما عدد أيام السنة الشمسية 365 أو 366 يوماَ .
ويعرف حساب الشهر القمري من مقدار ضوء القمر , إذ يبدأ هلالاً ثم يصير في منتصف الشهر بدراَ ثم يبدأ بالتناقص والتأخر في إطلالته إلى أن يصل درجة المحاق.
وقد ذكرت لفظ الأشهر والشهور في القرآن بما يضبط معه الناس الحساب إلى يوم القيامة إلى جانب حضوره في المعاملات مثل عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها , وفي عدة الرضاع قال تعالى [وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا]( ).
وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) بتقريب أن الله عز وجل يجعل للناس أنظمة زمانية وحساباً يساعد في صلاح أمورهم ومعاشاتهم.
ويمنع أسباب الخصومة والخلاف بينهم , وهل في أنظمة حساب الأيام والأسابيع والأشهر وضبطها زاجر عن الإرهاب والقتل وسفك الدماء الجواب نعم , مثلما هي باعث على الصلاح والتقوى .
ويدل عليه أن تعيين [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
وقد ورد لفظ (شهر) بصيغة المفرد في القرآن اثنتي عشرة مرة , في الآية أعلاه دلالة أن الله عز وجل سوف يخلق آدم ويجعل ذريته تنتشر في الأرض وتعمرها من حين خلق السموات والأرض , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ]( ) وقد ذكرت الشهور في القرآن على وجوه:
الأول : مجموع أشهر السنة , وهي اثنتا عشر شهراَ.
الثاني : الأشهر الحرم بالصفة وليس بالاسم , قال تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) إذ نزلت الآية أعلاه في شهر شوال من السنة التاسعة للهجرة أي بعد فتح مكة بأكثر من سنة , وبعد كتيبة تبوك والقدر المتيقن من الآية هي خصوص الأشهر الحرم في تلك السنة وهي:
أولاَ : شهر محرم .
ثانياَ : شهر ذي القعدة .
ثالثاَ : شهر ذي الحجة .
إذ تأتي ثلاثة شهور من الأشهر الحرم متصلة سردا بالتتابع الزماني وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم , بينما يكون شهر رجب منفصلاَ عنها .
(عن أبي بكرة : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب في حجته فقال : ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً : منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو القعدة، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان) ( ).
وقال تعالى[فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]( ) أي بالعدوان والقتال وإرتكاب الذنوب والمعاصي , وكما يضاعف فيها العقاب على فعل المعصية فإنه يضاعف فيها الثواب على فعل الحسنة .
وقيل أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] ( ) ولكن المراد من القتل في ذات السنة وحدها , والآية خاصة بالمشركين الكفار من قريش ونحوهم وليس أهل الكتاب , خاصة وأنه كان من اليهود في المدينة المنورة حتى في يوم مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
الثالث : أشهر الحج , قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ]( ) وأشهر الحج هي : شوال , وذو القعدة , وذو الحجة .
وبين الأشهر الحرم وأشهر الحج عموم وخصوص من وجه فمادة الإلتقاء هي شهر ذي القعدة وشهر ذي الحجة , كل منهما من الأشهر الحرم وأشهر الحج .
أما مادة الإفتراق فإن شهر شوال من أشهر الحج , وليس من الأشهر الحرم , وكذا فإن شهر محرم ورجب من الأشهر الحرم وليس من أشهر الحج .
ومن الإعجاز في إلتقاء وتداخل أشهر الحج بالأشهر الحرم في شهري ذي القعدة وذي الحجة قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالطواف في أسواق العرب في الموسم للتبليغ والنداء بكلمة التوحيد إذ كان ينادي يا أيها الناس قولوا لا إله الله تفلحوا .
و (عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدّادٍ قَالَ حَدّثَنِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ طَارِقُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ . قَالَ إنّي لَقَائِمٌ بِسُوقِ الْمَجَازِ إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ عَلَيْهِ يَا أَيّهَا النّاسُ قُولُوا : لَا إلَهَ إلّا اللّه تُفْلِحُوا وَرَجُلٌ يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ يَقُولُ يَا أَيّهَا النّاسُ لَا تُصَدّقُوهُ فَإِنّهُ كَذّابٌ فَقُلْتُ مَنْ هَذَا ؟
فَقَالُوا : هَذَا غُلَامٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الّذِي يَزْعُمُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ قَالَ قُلْتُ مَنْ هَذَا الّذِي يَفْعَلُ بِهِ هَذَا ؟
قَالُوا : هَذَا عَمّهُ عَبْدُ الْعُزّى قَالَ فَلَمّا أَسْلَمَ النّاسُ وَهَاجَرُوا خَرَجْنَا مِنْ الرّبَذَةِ نُرِيدُ الْمَدِينَةَ نَمْتَارُ مِنْ تَمْرِهَا فَلَمّا دَنَوْنَا مِنْ حِيطَانِهَا وَنَخْلِهَا قُلْنَا : لَوْ نَزَلْنَا فَلَبِسْنَا ثِيَابًا غَيْرَ هَذِهِ فَإِذَا رَجُلٌ فِي طِمْرَيْنِ لَهُ فَسَلّمَ وَقَالَ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلَ الْقَوْمُ ؟
قُلْنَا : مِنْ الرّبَذَةِ . قَالَ وَأَيْنَ تُرِيدُونَ ؟
قُلْنَا : نُرِيدُ هَذِهِ الْمَدِينَةَ قَالَ مَا حَاجَتُكُمْ فِيهَا؟
قُلْنَا : نَمْتَارُ مِنْ تَمْرِهَا . قَالَ وَمَعَنَا ظَعِينَةٌ لَنَا وَمَعَنَا جَمَلٌ أَحْمَرُ مَخْطُومٌ فَقَالَ أَتُبِيعُونَ جَمَلَكُمْ هَذَا ؟
قَالُوا : نَعَمْ بِكَذَا وَكَذَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ قَالَ فَمَا اسْتَوْضَعْنَا مِمّا قُلْنَا شَيْئًا فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَانْطَلَقَ فَلَمّا تَوَارَى عَنّا بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ وَنَخْلِهَا قُلْنَا : مَا صَنَعْنَا وَاَللّهِ مَا بِعْنَا جَمَلَنَا مِمّنْ نَعْرِفُ وَلَا أَخَذْنَا لَهُ ثَمَنًا قَالَ تَقُولُ الْمَرْأَةُ الّتِي مَعَنَا : وَاَللّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا كَأَنّ وَجْهَهُ شِقّةُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ أَنَا ضَامِنَةٌ لِثَمَنِ جَمَلِكُمْ .
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ قَالَتْ الظّعِينَةُ فَلَا تَلَاوَمُوا فَلَقَدْ رَأَيْتُ وَجْهَ رَجُلٍ لَا يَغْدِرُ بِكُمْ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ مِنْ وَجْهِهِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ فَقَالَ أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَيْكُمْ هَذَا تَمْرُكُمْ فَكُلُوا وَاشْبَعُوا وَاكْتَالُوا وَاسْتَوْفُوا فَأَكَلْنَا حَتّى شَبِعْنَا وَاكْتَلْنَا وَاسْتَوْفَيْنَا.
ثُمّ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النّاسَ فَأَدْرَكْنَا مَنْ خُطْبَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ تَصَدّقُوا فَإِنّ الصّدَقَةَ خَيْرٌ لَكُمْ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السّفْلَى أُمّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاك وَأَدْنَاكَ أَدْنَاكَ”
إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ أَوْ قَالَ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ لَنَا فِي هَؤُلَاءِ دِمَاءٌ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَقَالَ ” إنّ أُمّا لَا تَجْنِي عَلَى وَلَدٍ ” ثَلَاثَ مَرّاتٍ)( ).
ومعنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إن أماً لا تجني على ولد التأكيد بأن الجناية لا تلحق إلا بصاحبها، ومع أن الولد فرع الأم فإنه لا يؤاخذ بجناية أمه، وهو مستقرأ من قوله تعالى[ٍ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( ).
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن أخذ الثأر من هذا الوفد، وورد النهي بصيغة النفي والمثال.
وفي رواية عن مسامع بن شداد عن طارق المحاربي إن الرجل من الأنصار، قال(يا رسول الله هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع الذين قتلوا فلانا في الجاهلية فخذ لنا بثأرنا فرفع رسول الله صلى الله عليه و سلم يديه حتى رأيت بياض إبطيه فقال : لا تجني أم علي ولد لا تجني أم علي ولد)( ).
لتكون رؤية هذا الوفد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبباً لنجاتهم من القتل والبطش وهو من الشواهد على إستتباب الأمن في الجزيرة وتثبيته إلى يوم القيامة، لما في الحديث من الزجر عن الثأر من غير الجاني مطلقاً، وهو من مصاديق قوله تعالى[أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الرابع : ذكر شهر رمضان في القرآن , بقوله تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ومن إعجاز القرآن أنه لم يرد فيه اسم شهر مخصوص إلا شهر رمضان, وفيه إكرام لهذا الشهر , وتأكيد على موضوعيته , وليبقى اسمه يذكره المسلمون كل يوم إلى يوم القيامة , وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة خمس مرات في اليوم .
ويعتمد حساب التقويم القمري دوارن القمر حول الأرض اثنتي عشرة مرة .
ويعرف حساب الشهر القمري من مقدار ضوء القمر ، إذ يبدأ هلالاً ثم يصير في منتصف الشهر بدراً ثم يبدأ بالتناقص والتأخر في إطلالته إلى أن يصل درجة المحاق ، وهناك حساب آخر وهو الشمس .
وقد ذكر لفظ الشهر والشهور في القرآن ، بما يضبط معه الناس العبادات والمعاملات إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) بتقريب أن الله عز وجل يجعل للناس أنظمة زمانية وحسابا يساعد في صلاح أمورهم ومعاشاتهم.
ورمضان مصدر على وزن (فعلان) وهو غير منصرف للعلمية وزيادة الألف والنون ، والمراد من الاسم غير المنصرف الذي لا تظهر عليه حركة الجر والتنوين، أما الاسم المنصرف فهو الذي يتغير آخره بتغير العوامل الداخلة عليه .
وأصل تسميته على وجوه :
الأول : مأخوذ من الرمض وهو شدة الحر ( ).
إذ صادف أوان تخصيص أسماء لشهور السنة القمرية عند العرب أن كان شهر رمضان في وقت القيظ وشدة الحر ، وحلوله في حر الأرض والحجارة .
يقال رمض الإنسان رمضاً : إذا مضى على الرمضاء ، واحترقت قدماه من شدة الحر.
(الرَّمَضُ: حَرَّ الحِجَارة من شدَّةِ الحَرِّ، والاسْمُ الرَّمْضَاءُ. ورَمِضَ الإنسانُ يَرْمَضُ: مَشى على الرَّمْضَاء. وأرْضٌ رَمِضَةُ الحِجَارة. وشَهْرُ رَمَضَانَ مَأْخُوذٌ منه) ( ).
الثاني : مأخوذ من رمض الصائم يرمض ، إذا حر جوفه من شدة العطش ) ( ) ويقال ارتمض الرجل من كذا : أي اشتد عليه وأقلقه
الثالث : مأخوذ من قول القائل رمضت النصل رمضاً أي جعلته بين حجرين ثم دققته ليرق ، إذ كانت العرب ترمض أسلحتها في شهر رمضان للإنتفاع منها في شهر شوال وقبل حلول الأشهر الحرم المتتالية وهي :
أولاً : شهر ذي القعدة .
ثانياً : شهر ذي الحجة .
ثالثاً : شهر محرم .
الرابع : اسم رمضان مشتق من (الرَّمَضُ: مَطَرٌ يكونُ قَبْلَ الخَرِيْفِ) ( ).
وكانت العرب تقسم فصول السنة إلى أربعة فصول :
أولاً : ربيع الماء والأمطار ، وهو الذي يسبق الشتاء ، ويسمى في هذا الزمان الخريف لأن الثمار تخرف فيه أي تقطع.
ثانياً: الشتاء وهو موسم البرد من كل سنة يقال (يوم شاتٍ، وليلة شاتية، وشتونا بمكان كذا، وهو مشتانا، وأشتوا: دخلوا في الشتاء، وهذا وقت الشتاء والمشتاة. قال طرفة:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
وشتوة باردة، ومكان شتوي. قال ذو الرمة:
كأن الندى الشتوي يرفض ماؤه … على أشنب الأنياب متسق الثغر) ( ).
ثالثاً : فصل الربيع ، وهو ربيع النبات ، وفيه يعتدل المناخ ويغطي العشب الأرض ، وتكون السماء صافية ، وهو وقت الخصب والأزهار .
رابعاً : فصل الصيف ، وفيه تنضج الثمار ، إذ أن فاكهة الصيف من ألذ الفاكهة ، مثل العنب والبطيخ والرقي (والبِطِّيخُ الشَّامِيُّ الذي تُسَمِّيهِ أهلُ العِراقِ: الرَّقِّيِّ، والفُرْسُ: الهِنْديَّ) ( )، والرمان، والتفاح .
والصيف فصل تخزين الثمار لرخص أسعارها بكثرة المعروض منها ، وتكون فيه ساعات النهار أكثر من ساعات الليل ، فيكون مناسبة للعمل ، ويتصف بشدة الحر ، ومن عظيم الثواب أن يأتي شهر رمضان في فصل الصيف ، ونحن الآن في أواخر الربيع ، وتزحف بنا السنوات القادمة ليكون الصيام في الشتاء ، وكل منها له نفعه وثوابه .
وذكر أن فريضة الصيام نزلت في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة، ولكن لم يثبت ان المسلمين يوم بدر كانوا صائمين أو أنهم أفطروا من أجل المعركة التي وقعت في اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة.
والصيام ركن من أركان الإسلام وضرورة من ضرورات الدين لا يجوز إنكارها .
ومن مصاديق قوله تعالى [قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ] ( ) فما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد جاء به الرسل السابقون وفيه منع من التثاقل في فريضة الصيام ، فالصيام سنة الأنبياء السابقين وأممهم ، وهو سبيل الرحمة للمسلمين والناس جميعاً , وواقية من الإرهاب والإرهاب المقابل , وتبادل الكراهية .
ونسأل الله عز وجل أن يكون هذا الشهر مناسبة لنشر الأمن ولإكتشاف لقاح وعلاج لمرض الكورونا لعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وجاءت فريضة الصوم في أربع آيات من القرآن وبينها آية تتعلق بالدعاء، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
وقد خص العرب شهري ربيع الأول وربيع الثاني وشهر رمضان باضافة اسم شهر بينما تذكر الأشهر التسعة الأخرى مجردة من غير اسم شهر .
وقال تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ]( ).
وبين الفجر الكاذب والصادق خمسة عشرة دقيقة إلى عشرين دقيقة , أو أكثر فيتبين طلوع الفجر المعترض ويطمئن لدخوله .
والخيط : السلك , والخيط الأبيض بتأثير الفجر المعترض في الأفق وبداياته .
الخيط الأسود : بقايا غبش الليل .
الفجر : شق عمود الصبح يظهره الله عز وجل لينتشر في الأفق ليصل ادبار الليل وظلمته , واطلالة يوم جديد .
وسمي فجراَ لإنشقاق الظلمة عن الضياء وأصله المفارقة , قال تعالى [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ) .
من الفجر : (من) للتبعيض والبيان والتفسير .
وعن عدي بن حاتم قال : عمدت إلى عقالين ابيض وأسود وجعلتهما تحت وسادتي فكنت أقوم الليل فانظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض والأسود , فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته فضحك وقال : إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل .
وأول ما نزلت الآية ليس فيها التقييد من الفجر .
(عن البراء بن عازب قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإِفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي ، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً ، فكان يومه ذاك يعمل في أرضه ، فلما حضر الإِفطار أتى امرأته فقال : هل عندك طعام؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام ، وجاءت امرأته فلما رأته نائماً قالت : خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية { أحل لكم ليلة الصيام الرفث } إلى قوله { من الفجر } ففرحوا بها فرحاً شديداً( )
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنها نزلت في خوات بن جبير الأنصاري , قال تعالى [إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ) .
وقال تعالى[أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ]( ).
والفجر الكاذب اشبه بذنب الثعلب ويكون على نحو عمودي .
ويسمى في الإصطلاح العلمي : الفجر البروجي , وسمي البروجي لأنه يدور مدار البروج .
ويكون في فصل الربيع أوضح من فصول السنة الأخرى , وبينهما نحو خمس عشرة دقيقة إلى عشرين دقيقة .
قانون نية الصوم
الصيام شعار اسلامي تملأ أنواره القلوب ويشع ضياءً وبهاءً على ربوع الأرض في شهر رمضان فيملأ النفوس بالطمأنينة ويبعث على السكينة والرضا، وهو من مصاديق قوله تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
ويكون سبباً للرزق الكريم ومناسبة للعفو والمغفرة ، وفيه تقوية لملكة الإرادة والغلبة على النفس الشهوية ، وقهر للغريزة والنفس الغضبية، وهو جزء علة في قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وكما أن آدم أول من عمّر الأرض فانه أول نبي وأول من صلى وصام (الصيام في الإصطلاح الامساك عن المفطرات بقصد القربة من طلوع الفجر الى مغيب الشمس، وينقسم الى الواجب، والمندوب، والمكروه أي قليل الثواب، والمحظور.
الواجب منه ثمانية:
الأول : صوم شهر رمضان وهو اهمها واصل تشريعه.
الثاني : صوم القضاء.
الثالث : صوم الكفارة على كثرتها.
الرابع :صوم بدل الهدي في الحج.
الخامس : صوم النذر والعهد واليمين.
السادس : صوم الإجارة ونحوها كالشروط في ضمن العقد.
السابع : صوم اليوم الثالث من ايام الإعتكاف.
الثامن : صوم الولد الأكبر عن ابيه.).
ترى ما هي الصلة بين كل من :
الأول : فريضة الصيام وقانون لم يغز النبي ص أحداً .
الثاني : ما هي الصلة بين فريضة الصيام وقانون التضاد بين القرآن والإرهاب .
الثالث : ما هي الصلة بين صيام الكفارة والنذر والعهد واليمين ، والصيام بدل الهدي في الحج بقوله تعالى [فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ).
والجواب على نحو الإجمال على وجوه :
الأول : الصيام حرب على الإرهاب إذ يبين للناس أن المسلم مشغول في نفسه يستعد كل يوم إلى آخرته خاصة وهو يدرك قانوناً وهو كلما إنقضى يوم من الدنيا تقرب معّه إلى الآخرة , ولقاء الله يوماً.
ومن خصائص الدنيا وقوانينها الثابتة أن اليوم الذي يمر على الإنسان لا يعود أبداً ، ولكن الله عز وجل فتح له باب التدارك والإقامة والتوبة في اليوم التالي ، وجعله مناسبة لإكتناز الصالحات .
وفي خطاب وأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَقُلْ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ] ( ) أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتكلم على لسانه ولسان أجيال المسلمين إلى يوم القيامة بأنهم عاملون في أداء الفرائض العبادية ويتحلون بالصبر، وفي التنزيل[قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
ويتحلون بالصبر ويستبشرون بالإمساك عن الأكل والشرب والغذاء المباح ،وفيه شاهد على انتفاء الطمع في الغنائم وأموال الناس ، وهناك قاعدة فقهية مستقرأ من قول (إن الناس مسلطون على أموالهم) ( ).
وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتعلق بالعدالة والأخلاق الحميدة فهو لم يقل المسلمون مسلطون على أموالهم ، ولم يقل المؤمنون مسلطون على أموالهم ، إنما ذكر عموم الناس من المسلمين وأهل الكتاب والكفار ومشركي قريش ، وفيه تأديب للمسلمين وبيان لحرمة النهب والسرقة أو استحلال أخذ المال غيلة من غير المسلم تحت أي عنوان .
وفيه زاجر عن الإرهاب لأن الحديث يدل على استقلال الناس في شأنهم وأموالهم ، وهذا الحديث بغض النظر عن سنده وصحته مستقرأ من آيات منها [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
ويجب في الصوم القصد إليه مع قصد القربة والإخلاص كسائر العبادات ، وتحتمل كيفية نيه الصام وجوهاً :
الأول : التلفظ بنية الصوم .
الثاني : وجوب الإخطار سواء التفصيلي أو الإلتفات أو الإجمالي الإرتكازي ..
الثالث : كفاية الداعي وحضورها في البال على نحو التفصيل والإمتثال .
والمختار الثالث , وقيل الجهر بنية الصوم بدعة ، ولا تصل النوبة إلى البدعة في المقام يكفي القول أنها لا تجب .
فيكفي أن ينوي الصائم يوم غد ، ومثلاً إذا سئل في النهار قال أني صائم .
ولا يتعارض هذا المعنى مع الحديث القدسي عن ابي سعيد الخدري (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يقول الله تعالى : الصوم لي وأنا أجزي به ، وللصائم فرحتان . إذا أفطر فرح ، وإذا لقي ربه فجازاه فرح ، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك) ( ) .
والصوم عبادة فيشمله قانون لا تصح العبادة إلا بالنية لقوله تعالى [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] ( ) ويتجلى الإخلاص بالنية بقصد القربة والسلامة من الرياء .
وعن ( عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول انما الاعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله والى رسوله فهجرته إلى الله والى رسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) ( ).
وتفيد (إنما) الحصر .
وماهية النية القصد إلى إيقاع الفعل العبادي وفق شروطه مع التقرب إلى الله فيه ، ولم يرد في الشرع لفظ مخصوص للنية ، إنما هو استقراء العلماء في المقدمات والبيان ومنع الخلط والفواضل في الفعل العبادي .
وتأتي النية للفعل الذي تعلق أمر الشارع به مع ملاحظة قصد القربة .
ما هو قصد القربة ؟
ولا بد أن تسبق النية الفعل المنوي أو تكون مقارنة له , لذا يؤتى بها في الليل حتى لا يقع جزء من صيام النهار خالياً عن النية على نحو القطع .
وحكى عن السيد المرتضى أن وقت النية في الصيام الواجب من قبل طلوع الفجر إلى الزوال, وحمل على قوت التضييق ، ومنهم من قال بتبييت النية قبل طلوع الفجر وإستحضارها عند أول جزء من النهار ، نعم لو نسي النية في الليل جددها قبل زوال الشمس ، أي قبل الظهر ، والمراد من الزوال ، زوال الشمس عن كبد السماء ، وورد في الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) ( ).
ولو نوى في قلبه ، أصوم غداً من رمضان لوجوبه قربة إلى الله تعالى ، ولو لم يحدث في نفسه هذا القول ولكنه عزم إجمالاً على الصوم أجزأه .
وتدخل النية في تعريف الصوم في الإصطلاح بأنه الكف عن المفطرات مع النية ، لتكون هذه النية من مصاديق صيغة الأمر الوجودي في الصيام .
وهل في نية الصيام بذاتها ثواب ، الجواب نعم لأنها إقرار بالعبودية وعزم على أداء الفرائض .
و(عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: أوحى الله عزوجل إلى داود: ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيته، ثم تكيده السماوات والارض ومن فيهن إلا جعلت له المخرج من بينهن، وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماوات من يديه وأسخت الارض من تحته ولم ابال بأي واد هلك) ( ).
وهل النية ركن في الصيام أم شرط فيه .
والمختار يجوز في شهر رمضان النية لكل يوم على حدة ويجوز الإجتزاء بنية واحدة للشهر كله ، وبه قال المالكية .
ويدل عليه جمع شهر رمضان في آية الصيام بقوله تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
فتكفي مصاحبة النية رؤية هلال رمضان ، وهذا الإستدلال بالآية مستحدث هنا , والحمد لله , وفيه ترغيب ودعوة للفقهاء بالرجوع إلى القرآن عند الإستدلال والإطلاع على تفسير الآية قبل الإستدلال بها .
قانون أوان الأمساك
لقد ورد ذكر الفجر في آيات متعددة من القرآن , منها قوله تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
فدلوك الشمس زوالها عن كبد السماء عند الظهيرة ، والبلاغ عن صلاة الظهر والعصر ، وهل فيه دلالة على جواز الجمع بين الصلاتين ، أم لا بد من دليل آخر من السنة .
الجواب لا تعارض بين الأمرين .
أما غسق الليل فهو ظلمته وإشارة إلى صلاة المغرب والعشاء .
وعن ابن عباس قال (جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا أَرَادَ إِلَى ذَلِكَ قَالَ أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ ) ( ).
والمراد من الفجر صلاة الصبح , وتلاوة القرآن بين الطلوعين إذ تبين الآية أعلاه أوقات الصلوات اليومية وصيغة الفريضة فيها ، وتشهد ملائكة الليل والنهار على صلاة الصبح ، إذ تصعد ملائكة الليل وتنزل ملائكة النهار .
ومنهم في هذا الزمان من قال يجوز الجمع بين الصلوات من غير عذر واستدل بقوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ) ، ولكن المراد من موقوتا أي واجباً مفروضاً وهو الوارد عن ابن عباس( ).
(يعني مؤقتة في أوقاتها ونجومها ، كلما مضى نجم جاء نجم ، وهو قول ابن مسعود) ( ) .
وفي قوله تعالى [فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ] ( ) قيل المراد بالتسبيح هنا الصلاة ، ولكن لفظ الصلاة ظاهر في سورة النساء وجاء بصيغة الأمر ، وليس الخبر والفجر هو المدة الزمنية المحصورة بين انقضاء الليل وطلوع الشمس من كل يوم ، والفجر وجه إلى الليل ووجه إلى النهار ، كالبرزخ بينهما ، ولا موضوعية في الفقه وتعيين وقت صلاة الصبح والإمساك للفجر الكاذب ويسمى في الإصطلاح العلمي الفجر البروجي (zodiacal light)
والمدار على الفجر الصادق من أفق الشرق والذي يزداد بياضاً مع تقدم دقائق الفجر (عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال: الفجر هو البياض المعترض يعني الذي يكون عند الفجر في افق المشرق والفجر فجران فالفجر الاول منهما ذنب السرحان، وهو ضوء يسير دقيق صاعد من افق كضوء المصباح في غير اعتراض، فذلك لا يحرم شيئا حتى يعترض ذلك الضوء في الإفق يمينا وشمالا فذلك هو الفجر الصادق المعترض، وبه يحرم الطعام، وما يحرم على الصائم) ( ).
ومدة الفرق بين الفجر الكاذب والصادق أكثر من 20 دقيقة ومقدار قراءة خمسين آية , و( عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ان بلال يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن مكتوم ) ، وبعض الأخبار بالعكس والواجب هو لا يصح الإستمرار في الأكل والشرب اثناء أذان الفجر وطلوع الفجر الصادق فحلما يسمع الصائم الأذان يمتنع عن الأكل والشرب ، ويكون طلوع الفجر قبل طلوع الشمس بنحو ساعة ونصف .
وإجماع علماء الإسلام بأنه إذا طلع الفجر وفي فيه طعام أو شراب فليحفظه ومتعارف في هذا الزمان في كثير من المساجد الإبتداء بالتسبيح والصلاة على محمد وآله قبل بداية الأذان وقول ألله أكبر ألله أكبر ) ويجب أن يكون هذا التسبيح والصلوات قبل حلول وقت الأذان في الصلوات كلها ، فاذا كان أذان المغرب مثلاً في الساعة السابعة مساءً فيجب أن تكون هذه الصلوات في الدقيقة 6،58 ونحوه بما يجعل المؤذن لا يقول : الله أكبر إلا في ساعة السابعة .
ووردت نصوص في السنة النبوية عن السحور والترغيب فيه ، و(عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “تَسَحَّرُوا فإن في السَّحور بركة) ( ) .
(عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : “السَّحور أكْلُهُ بركة ؛ فلا تدعوه، ولو أنّ أحدكم يَجْرَع جرعة من ماء، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين”)( ).
وسمي السحور سحوراً لأنه يكون خفية في الليل وأوان السحر وفيه إعانة للصائم في النهار ، ومقدمة للنشاط والكسب وتخفيف عن حال الجوع والعطش بسبب الصيام .
ومن التخفيف في الشريعة الإسلامية السعة والمندوحة في وقت كل من:
الأول :الخيط الأسود .
الثاني : الخيط الأبيض .
الثالث : التبيين بين الخطين ، وتعيين طلوع الفجر بقوله تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ] ( ).
الرابع : حدوث الحمرة المشرقية , وقد ذكرت في رسالتي العملية (الحجة)
(مسألة 24) (الحمرة التي تظهر في السماء كل يوم ولها موضوعية في تعيين أوقات الصلاة حدوثاً او ذهاباً على اقسام :
الأول : حدوث الحمرة المشرقية: وهو آخــر وقت فضيلة الصــبح، وتحـدث بعد نصف ساعة تقريباً من طلوع الفجر الذي يعتبر أول وقت الفضيلة.
الثاني : ذهاب الحمرة المشرقية: يعرف به وقت صلاة المغرب، وتكون بعد سقوط قرص الشمس بنحو عشر دقائق .
الثالث : ذهاب الحمرة المغربية: يكون ذهابها بعد غروب الشمس ويسمى سقوط الشفق) ( ).
الخامس : البياض المعترض في الأفق إذ انه ينشأ تدريجياَ .
السادس : الغلس وهوظلام آخر الليل وقد يسمى الغبش .
السابع : الشفق .
(عن ثوبان أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الفجر فجران ، فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئاً ولا يحرمه ، وأما المستطيل الذي يأخذ في الأفق فانه يحل الصلاة ويحرم الطعام ، وأخرجه الحاكم من طريقه عن جابر موصولاً .
وأخرج الدارقطني والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الفجر فجران ، فجر يحرم فيه الطعام والشراب ويحل فيه الصلاة ، وفجر يحل فيه الطعام ويحرم فيه الصلاة) ( ).
مما يدل على الملازمة بين الإمساك وبين أوان الصلاة والملاك فيه طلوع الفجر الصادق ووضوحه , ولعل سر الإمساك قبل الأذان بسبع أو عشر دقائق هو الإختلاف .
وفي أوان الفجر الصادق من جهة الزاوية التي يكون فيها الشمس وجوه :
الأول : عندما تصبح الشمس عند زاوية (16,5) درجة تحت الأفق الشرقي , وقيل هي ذات الزاوية لوقت العشاء .
الثاني : إعتماد زاوية (18) درجة للفجر وهو المختار ومشهور المسلمين .
الثالث : إعتماد زاوية (18,5) للفجر .
الرابع : زاوية (19,5) درجة وهي أكبر زاوية وهي معيار هيئة المساحة المصرية في الوقت الحاضر وتعتمد المغرب (19) درجة والسعودية (18,5) درجة والعراق والأردن وتركيا والجزائر والسودان وتونس وقطر واليمن والكويت والبحرين وسلطنة عمان وفلسطين الزاوية (18) درجة.
وتظهر بين الحين والآخر أصوات بأن أذان الفجر يؤتى به قبل وقته , وأن أذان الفجر يرفع ولا تزال السماء مظلمة , ويأتي هذا القول بسبب رصد السماء أوان الفجر تحت ضياء المدن , أو بالرصد من مكان غير صاف أو غير مستوٍ , لذا قيل أن الزاوية الصحيحة لصلاة الفجر هي (16,5) بمعنى أنه يتأخر الأذان عن أوانه بحسب الزاوية (18) نحو عشر دقائق ولعل هذا هو السر بالإمساك قبل سبع أو عشر دقائق قبل الأذان.
والمختار هو الزاوية ( 18 ) مع تغير قليل في فصول السنة , والتباين بين الدول والأمصار .
الدعاء لغةَ :
لقد فتح الله عز وجل باب الدعاء , ودعا الناس إليه بأبلغ إسلوب وأبهى ترغيب , قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
والدعاء سلاح مصاحب لأيام الدنيا , وهو كنز ينهل منه الإنسان ويلجأ إليه في الليل أو النهار , وذخيرة في الآخرة .
والدعاء وسيلة لتحقيق الأماني وبلغة للآمال .
وأدعية القرآن كثيرة ومتعددة , أفردت لها باباَ في التفسير .
وللإمام السجاد عليه السلام أدعية الصحيفة السجادية وتتضمن التضرع والخشوع إلى الله عز وجل ويواظب المؤمنون والمؤمنات على الدعاء ما دامت السموات والأرض , وفيه شاهد على تنزههم عن الغلو بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يظهر غاية الخضوع والخشوع لله عز وجل .
وقد صدرت قبل أكثر من خمس وعشرين سنة , خمسة أجزاء بعنوان بحوث في الصحيفة السجادية برقم إيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد سنة 1993.
تتزين بمقدمة استاذ المعقول والمنقول السيد الأستاذ آية الله عبد الأعلى السبزواري في سنة 1413 هجرية.
وقال الإمام الصادق عليه السلام في الدعاء إنما هي المدحة ثم الثناء ثم الإقرار بالذنب ثم المسألة .
وهل قول المسلم في الصلاة [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) من الدعاء الجواب نعم فلا تعارض بين صبغة القرآنية والدعاء.
وقد حلّ في هذه الزمان داء جائح , يستلزم التوجه العام من أهل الأمصار بالدعاء , وهو لا يتعارض مع السعي العلمي الدؤوب لإكتشاف لقاح وعلاج للداء .
فالدعاء جزء علة للموضوع يقرب الخير البعيد , ويبعد ويمحو الشر القريب .
والدعاء سكينة للنفس , قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
و (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)( ).
هجرة الحبشة إعراض عن الإرهاب
ومع قلة عدد الذين هاجروا أول مرة إلى الحبشة فإن قريشاَ سعت إلى إعادتهم قسراَ , فتبعوهم إلى ميناء الشعيبة , ولكن المسلمين الأوائل ركبوا في السفينة حالما وصلوا إليها , وكأنهم في أيام السرعة هذه أو أنهم على موعد معها , ومع من يريد إنقاذهم من قريش , ولعله قد علم أصحاب السفينة حالهم , عندما أخبروهم عن طلب قومهم الكفار لهم , وخشيتهم من إعادتهم إلى مكة فتعاطف ربان السفينة معهم , وكان أصلاَ يريد الإبحار والعودة إلى الحبشة , ويمكن القول أنه لو علم أصحاب السفينة بحال الخطر الذي يداهمهم لطلبوا أجرة عالية ، ولكنهم ركبوا بنصف دينار ، ولما زاد عدد المسلمين والمسلمات في الحبشة , فعادوا ثلاثة وثمانين رجلاَ وعشرين امرأة , ومنهم ابناء لرؤساء قريش , ومنهم مثلاَ حذيفة بن عتبة بن ربيعة , وزوجته سهلة بن سهيل بن عمرو , وعتبة بن ربيعة من أكبر رؤساء قريش في معركة بدر , وهو أول من طلب المبارزة هو وأخوه شيبة وابنه الوليد , فكانوا أول القتلى , وسيأتي أن تلك المبارزة نتائجها , من الإعجاز الغيري لقوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
ومن الإعجاز الغيري للسنة النبوية , فلم يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الشباب الثلاثة من الأنصار الذين تقدوا لمبارزتهم , ولكنهم بادروا إلى المبارزة مع الهيبة التي كانت لقريش في نفوس أهل المدن والقرى , ليكون من معاني قوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ) وجوه :
الأول : إنذار أهل مكة .
الثاني : إنذار الوافدين إلى مكة للحج والعمرة , وصبغة موسم الحج عبادية , لذا فهو من أحسن الاحوال التي تناسب الإنذار , ويجد آذاناَ صاغية .
الثالث : صيرورة أهل مكة واسطة لإنذار اهل القرى والمدن القريِبة .
الرابع : إنذار أهل مكة بواسطة الوافدين إليها , قال تعالى [الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ] ( ).
الخامس : إنذار القرى والمدن التي حول مكة وتقدير الآية (لتنذر من حول أم القرى) وهل في الآية إشارة إلى هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة , الجواب نعم , وصيرورتها فمثلاَ للإنذار .
السادس : تقدير الآية (لتنذر الوافدين إلى القرى ) إذ صار الأنصار والمهاجرون دعاة إلى الله عز وجل .
لقد صارت الأخبار ترد إلى مكة بان المهاجرين إلى الحبشة في أمن وأمان على دينهم , وأنهم يؤدون الصلاة من غير خوف أو خشية من أحد , ويدل طول مدة مكثهم على الإستقرار وإعتياد الناس عليهم , وعدم النفرة منهم , فاشتد غيظ قريش خاصة وأن هذه الهجرة تدل على ظلم قريش وإصرارهم على منع حق العبادة لله عز وجل , هذا الحق الذي يجب أن يوليه الحكام الأولوية لأنه سبب إستدامة الحياة , لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) فلابد أن يبتلي الله عز وجل الذين يمنعون هذه العبادة , لذا ورد الإنذار في قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وسمي فتح مكة يوم الفتح بينما سمّي الله عز وجل غلبة المسلمين يوم بدر بأنه نصر .
وكانت هذه الأخبار سبباَ لإزدياد أعداد المهاجرين إلى الحبشة إذ كانوا يهاجرون إرسالاَ , وكان عدد المسلمين من أبناء رؤساء قريش الذين قرروا إرسال وفد إلى ملك الحبشة النجاشي لإعادة المهاجرين , وكان القصد حملهم على الإرتداد ووقف الهجرة.
فاختاروا رجلين منهم يتصفان بالشدة والعزم وهما :
الأول : عمرو بن العاص .
الثاني : عبد الله بن أبي ربيعة .
وجمعوا لهما الهدايا إلى النجاشي وبطارقته وحاشيته وأوصوهما بأن يبدأوا بتوزيع هدايا البطارقة , مع ذكر المسألة التي جاءوا من أجلها للشفاعة عند النجاشي , ثم يذهبان إلى النجاشي , وأكثروا من الأدم والجلود , وكان النجاشي يحب أن يهدى له الأدم .
وأكثروا من الهدايا المتنوعة للنجاشي ، وخصصوا لكل بطريق هدية مناسبة ، وعندما وصلا إلى الحبشة ، وكانت لهم معرفة بأحوال الناس فيها لضرب قريش في التجارة في البلدان ، طافا على البطارقة ، ثم ذهب إلى النجاشي ، والظاهر أنه كان يتصف بالتواضع والزهد إلى جانب ما عرف عنه من العدل ، وقدما له هداياه وأخبره .
أنها من بلاد الحرم وبيت الله الذي يأيته العرب من الأفات ، ولم تكن واقعة النيل وإنكسار وهلاك إبرهة وجنوده من غير علة ظاهرة بغائبة عن الأذهان .
وبعد أن عرّفا نفسيهما وقدّما الهدايا ذكرا المسألة التي جاءوا من أجلها وقالا (إنه قد صبأ إلى بلاد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه تسليمهم إلينا ولا نكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيباً. فقالوا: نعم. ثم قربا هداياهم إلى النجاشي، فقبلها منهم تكلما، فقالا له: إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنت) ( ).
وكـما قاما بانذار النجاشي وبطارقته بوصف المهاجرين من جهات :
الأولى : نعت المهاجرين بالسفاهة وخفة العقل واحتمال صدور الشر منهم ، وإفسادهم للسلم المجتمعي .
الثانية : وصف المهاجرين بأنهم غلمان ، لبيان صغر أسنانهم وأنهم أحداث ليس لهم خبرة في الحياة ولا تصح هجرتهم ، ولا يطيق أبائهم وأمهاتهم فراقهم ، فيكون أمر النجاشي باعادتهم حسن صلة مع قريش والعرب .
الثالثة : لا عبرة وشأن بما يختارون من الدين لأنهم أحداثهم قد تغرهم الأراء والبدع ويتبعون الأهواء والنفس الشهوية .
الرابعة : لقد أخبر عمرو بن العاص النجاشي بأن هؤلاء المهاجرين لم يدخلوا في دين الملك مع أنهم أقاموا في بلاده ، إذ أراد عمرو بن العاص لهم الإرتداد ، فيخفف بريق الهجرة ، وتكون ردتهم انتكاسة في دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله .
لقد كان رجال قريش ذوي حنكة يحسنون التفاوض ، وعرض المسألة التفاوض ، وعرض المسألة بالكيفية التي تقود إلى تحقيق الغايات التي يسعون إليها .
الخامسة : بيان مسألة وهس تمسك قريش بدين آبائهم ، وأنهم لا يدخلون النصرانية ، ولا الدين الذي عليه هؤلاء المهاجرون لقولهما (فارقوا دين قومهم) ليدرك النجاشي الضلالة التي عليها قريش حينما يدخل عليه المهاجرون .ويبينون له أنهم يعبدون الحجارة والأصنام ، وفي التنزيل [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُوَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ *وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] ( ) .
فصحيح أن الآية أعلاه سمّت ما عليه الكفار من الشرك بأنه دين إلا أن المراد المعنى اللغوي وهو الطريقة والنهج بدليل ابتداء السورة بقوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ] ليكون من تقدير الاية : لكم شرككم وضلالتكم ولي دين التوحيد وعبادة الله وحده ، وقيل أن الآية أعلاه منسوخة بىية السيف ، وعلى فرض هذا النسخ فهي خاصة بمشركي مكة إذ كان الفتح مناسبة لدخولهم الإسلام مع موضوعية أسباب النزول ، وفي سورة الكافرون (وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مروا صبيانكم فليقرؤها عند المنام فلا يعرض لهم شيء.
وقال ابن عباس : ليس في القرآن سورة أشد لغيظ إبليس من هذه السورة لأنها توحيد وبراءة من الشرك.
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} ( )
{قل يا أيها الكافرون} الى آخر السورة نزلت في رهط من قريش منهم الحرث بن قيس السهمي والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب بن أسد وأميّة بن خلف قالوا : يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك ونشركك في أمرنا كلّه تعبد آلهتنا سنة ونعبد ألهك سنة فأن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وأن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه،
فقال : معاذ الله أن أشرك به غيره.
فقالوا : فأستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد الهك فقال : حتى أنظر ما يأتي من عند ربي فانزل الله سبحانه : {قل يا أيها الكافرون} الى آخر السورة فغدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثم قرأها عليهم حتى فرغ من السورة، فيئسوا عنه عند ذلك وآذوه وآذوا أصحابه.) ( ).
السادسة : تحريض النجاشي والبطارقة على المهاجرين إلى الحبشة لأنهم أهل بدعة ، وكأمن عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة يقولان : إحذروا على ابنائكم الإفتتان بالبدعة التي جاء بها المهاجرون .
السابعة : تحذير النجاشي والبطارقة من انتشار الإسلام في الحبشة ، وهذا القصد من أهم الغايات الخبيثة التي أرسلت قريش من أجلها رجلين من رجالهم ظن وكأنهم يقولون تداركوا الأم وامنعوا انتشار الإسلام ، ولم يعلموا أن الله عز وجل [سَرِيعُ الْعِقَابِ] ( ) .
وأن هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ستكون إلى المدينة التي ليس فيها ملك يحكم ، فلا يكونون تحت سلطانه .
الثامنة : الإشارة إلى النجاشي بأنه ملك ومسؤول لحفظ العباد والبلاد ، فلابد من إخراج هؤلاء السفهاء من أرضه ، وهم لم يدخلوا بلاده باذن وترخيص منه لشخاصهم ودينهم .
لقد كان النجاشي ينصت لوفد قريش وما يذكرون من المسألة .
منهم من سفرا من بلد بعيد , وجاءوا بالهدايا ويذكرون مسألة ذات صلة بالحكم والعقائد , والسلم المجتمعي , كما أنهم يريدون تسليمه لاجئين حلوا في بلده.
وتتجلى للملك مسائل بخصوص هؤلاء اللاجئين .
الأولى : كثرة عدد المهاجرين إذ كانوا ثلاثة وثمانين رجلاَ وعشرين امرأة عدا ابنائهم الذين خرجوا بهم صغاراَ أو الذي ولدوا في الحبشة .
ومن الإعجاز العددي بخصوص السنة النبوية , التساوي بين عدة مهاجرين إلى الحبشة , وعدد المهاجرين الذين حضروا معركة بدر (وَمَنْ ضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا) ( ).
وهذه الكثرة لا تجتمع على سفاهته تؤدي بهم إلى المعجزة القرآنية .
الثانية : حسن سيرة المهاجرين عدم صدور أذى وشر منهم إلى أهل الحبشة , ولم يشتك منهم الناس , وحسن السيرة هذا من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية , وشاهد على أن هذه المعجزات لم تنحصر برشحات سنته الذاتية في ذات البلدة التي هو فيها .
الثالثة : عدم رفع المسلمين المهاجرون حوائجهم إلى الملك لم يطلبوا الإعانة والمدد كما يجري للاجئين في هذه الأزمنة .
الرابعة : لم يظهر وفد قريش الرحمة بالمهاجرين لم يتعهدوا للملك بسلامة وأمن المهاجرين , إن قام بتسليمهم إليهم .
الخامسة : يعلم النجاشي أن كلاَ من الفريقين ليسوا على دينه , ووفد قريش معهم الشرك , أما هؤلاء المهاجرين فصحيح أنهم ليسوا على دينه ولكنهم ليسوا مشركين بدليل السبر والتقسيم , إذ وصفهم الوفد بالقول , (فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين الملك) ( ).
ما أن أكمل وفد قريش قد بيّن للبطارقة خطر هؤلاء المسلمين عليهم حتى قالوا بلزوم ترحليهم , وجاء هذا البيان مع تقديم الهدايا الجزيلة , ووصف حال قريش من العزة بين العرب , الغنى وكثرة الأموال التي عندهم , وأثرهم في اليمن والمدن القريبة , ويجد هذا القول قبولاَ عند الناس بدليل قوله تعالى في تسمية مكة أم القرى , [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ).
وهذا المعنى لا يتعارض مع القول بأن وفد مهاجري الحبشة من مصاديق الآية أعلاه .
والأصل أن يستمع الملك والرئيس إلى مستشاريه في المقام لإحاطتهم علماَ بأحوال الناس , ولأن قولهم تأييد وإمضاء لما جاء به وفد قريش التي كان لها شأن عند النجاشي مثل شأن الدول .
ولكن النجاشي الذي خبرته الحياة , وعاد له ملكه بآية بعد أن كاد يفقده غضب (ثم قال : لا ها الله إذا لا أسلمهم إليهما، ولا أكاد قوما جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم)( ).
التعاون الأممي العلمي ضد الأوبئة
قال تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ) تتواصل الأبحاث والدراسات بخصوص هذه جائحة كورونا وهو أمر حسن، ويدل على الوحدة الإنسانية.
ولابد من التعاون اليومي بين الجامعات والمؤسسات العلمية والحكومية في اكتشاف اللقاح والعلاج المناسب ، وتفادي زهوق أرواح بالمرض أو مضاعفات عرضية بالعلاج ، وفق طرق الإتصال الحديثة والدوائر التلفزيونية المغلقة بعد هذا البلاء بكورونا لتتجلى معالم العولمة في التعاون البحثي في مجال الطب والعلوم ، وأظهر التعاون بين الدول في المقام أنه ليس أوان ربح , فالكل يسعى لنجاة الإنسانية , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) وقوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ] ( ) وقد عمت الخسارة الهائلة الجميع ، ونسأل الله الخلف العاجل , وعودة البهجة إلى الحياة الدنيا مقرونة بالشكر لله عز وجل على توالي النعم , ليكون من معاني قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ) الحصانة العامة من الأوبئة الغادرة المباغتة والمصاحبة .
وإذا كان هذا التعاون العالمي بين الجامعات والمختبرات والمؤسسات العلمية والحكومية في هذا الباب يوفر للعالم فرصة للتعجيل بالعلاج ، وخلاص الناس من هذا الركود فمن الأمور الحسنة تحرك الأمم المتحدة ومجلس الأمن والجمعية العامة ومنظمة الصحة الدولية لإتخاذ قرارات فيصلية في المقام .
ونبارك التعاون التام والصادق والجاد والشفافية بين هذه المؤسسات بما ينفع في تعجيل اللقاح والعلاج فتجب حينئذ المبادرة على عجل سواء التعاون الدائم بقوانين خاصة أو عند الأوبئة والأزمات مثل كورونا .
والصلة المناسبة مع شركات الأدوية ولنأخذ مثالاَ من الشريعة الإسلامية ، وهي أن شهر رمضان يطل علينا هذا الأسبوع ، وقد قال تعالى[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) .
فجاء الحكم باستحباب الإستهلال أي النظر والتحري والفحص عن الهلال ساعة خروجه في الأفق أوان الغروب في الليلة التي تحتمل أمرين:
الأول : عدم ثبوت رؤية الهلال في ليلة الشك ، وسميت ليلة الشك لأنها تحتمل أمرين :
الأول : إتمام عدة الشهر القمري ثلاثين يوماً .
الثاني : ثبوت رؤية هلال الشهر فيثبت أول الشهر ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) .
فاذا استهل جماعة مجتمعتين أو متفرقين ، ورآى الهلال شاهدان صام المسلمون , وإن لم يروا الهلال تحتسبه الأمة إكمالاً للعدة ، وكذا إذا كانت السماء ملبدة بالغيوم .
(عن رافع بن خديج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : احصوا عدة شعبان لرمضان ولا تقدموا الشهر بصوم ، فإذا رأيتموه فصوموا ، وإذا رأيتموه فافطروا ، فإن غم عليكم فاكملوا العدة ثلاثين يوماً ثم افطروا ، فإن الشهر هكذا وهكذا وهكذا وهكذا وهكذا ، وحبس ابهامه في الثالثة) ( ).
وهناك سهو من النُساخ في كتابة الحديث أعلاه ، فالأصل أن لفظ هكذا تكرر ثلاث مرات , وليس خمس مرات , وفي الأخيرة أي الثالثة خنس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إبهامه لبيان أن الشهر تسعة وعشرون يوماً ، أي أنه مرتين أشار بجميع أصابع يديه ، فيكون المجموع عشرين ، وفي الثالثة تسع .
وورد الحديث بكتب متعددة منها (عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَحْصُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ وَلاَ تَقَدَّمُوا الشَّهْرَ بِصَوْمٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا ثُمَّ أَفْطِرُوا فَإِنَّ الشَّهْرَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا . وَخَنَسَ إِبْهَامَهُ فِى الثَّالِثَةِ.) ( ) .
الثاني : إنها الليلة الأولى من الشهر التالي، إذ يستهل المسلمون في كل بلدة أوان الغروب رجاء رؤية الهلال ، وبعضهم يعلم منازل القمر ، وموضع اطلالة الهلال، فيشير على الذي بصره حاد بتحديد الموضع ، ويشترط في الشهادة على الهلال شاهدان عدلان .
ولو أظهر الرصد الفلكي الحديث استمالة رؤية الهلال في ليلة الشك , فهل يبقى الإستهلال مستحباَ أم ينتفي موضوعه الجواب هو الأول , وفيه الأجر والثواب نعم لو شهد شاهدان برؤية الهلال مع تأكيد التحقيق الفلكي والأرصاد الدقيق تعذر رؤيته وأنه لا يبق بعد غروب الشمس , فلا يؤخذ بهذه الشهادة وان كانت من عدلين لإحتمال الإشتباه .
وإذا ثبتت رؤية الهلال شرعاَ سواء بالعين المجردة أو العين المسلحة حسب الفتوى المعتمدة من قبل الفقيه المقلد والجهة الشرعية المسؤولة .
فيثبت حكم الصوم في رمضان أو الإفطار للجميع في شهر شوال , وإتحاد الرؤية مع شمول الحكم للجميع على نحو العموم الإستغراقي من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
مع أن الصوم عبادة وفريضة قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) فإن فيه صحةً وسلامة من الأدران.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قال : صوموا تصحوا)( ) وضعّف بعضهم هذا الحديث سنداً كالحافظ العراقي في المغني مع أنه مشهور عند أجيال المسلمين ، وورد بطرق متعددة ، ومنهم من قال أنه موضوع بلحاظ الضعف واللين في بعض رجال سلسلة رواة الحديث ومنهم من وثقه مثل أحمد بن حنبل والنسائي.
وحتى الأحاديث الضعيفة يؤخذ بها في باب الفضائل والمستحبات كما في الحديث أعلاه، وتجلي مصاديقه في كل عام والتي لا يترتب عليها حكم في الحلال والحرام , والصيام واجب ولابد أن منافعه دنيوية وأخروية.
وروى الحديث عن الإمام علي عليه السلام وعن ابن عباس وعن ابن هريرة .
والمختار انه حديث صحيح لتوثيق بعض الرجاليين ولورود معناه في أحاديث أهل البيت عليهم السلام وقوة المتن ، ولقاعدة التواتر السندي التي أسستها وهي إذا ورد حديث بطرق متعددة ضعيفة السند فان بعضها يقوي بعضها الآخر بشرط أن لا يكون شخص الضعيف هو نفسه في هذه الطرق .
إمساكية شهر رمضان ــ 1441هـ(مدينة النجف الأشرف وضواحيها)
شهر رمضان اليوم التاريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
1 السبت 25/4 3:55 5:23 12:01 6:54
2 الأحد 26/4 3:54 5:22 12:00 6:55
3 الإثنين 27/4 3:52 5:21 12:00 6:56
4 الثلاثاء 28/4 3:51 5:20 12:00 6:57
5 الأربعاء 29/4 3:50 5:19 12:00 6:57
6 الخميس 30/4 3:49 5:18 12:00 6:58
7 الجمعة 1/5 3:47 5:17 12:00 6:59
8 السبت 2/5 3:46 5:16 12:00 7:00
9 الأحد 3/5 3:45 5:15 12:00 7:00
10 الإثنين 4/5 3:44 5:14 11:59 7:01
11 الثلاثاء 5/5 3:53 5:13 11:59 7:02
12 الأربعاء 6/5 3:41 5:12 11:59 7:03
13 الخميس 7/5 3:40 5:12 11:59 7:03
14 الجمعة 8/5 3:39 5:11 11:59 7:04
15 السبت 9/5 3:38 5:10 11:59 7:05
1- يكون يوم السبت 25/4/2020 أول أيام شهر رمضان، ويبقى الهلال بعد الغروب ساعة و(12) دقيقة.
2- ستعلن أكثر الدول العربية يوم الجمعة 24 / 4 أول شهر رمضان ، ويستحب إستحباباً مؤكداً صيامه , قال تعالى[وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ].
3- لا أصل للإحتياط بالإمساك قبل الأذان بسبع أو عشر دقائق، وقد يلحق بالتشديد على النفس، ويمتنع السحور بطلوع الفجر الصادق وعليه الكتاب والسنة ، فيجوز شرب الماء قبله ولو بدقيقة، قال تعالى[كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ]، و يستحب الإستهلال، ولا تثبت رؤية الهلال إلا بشاهدين عدلين.
شهر رمضان اليوم التاريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
16 الأحد 10/5 3:37 5:09 11:59 7:06
17 الإثنين 11/5 3:36 5:08 11:59 7:06
18 الثلاثاء 12/5 3:35 5:08 11:59 7:07
19 الأربعاء 13/5 3:34 5:07 11:59 7:08
20 الخميس 14/5 3:33 5:06 11:59 7:09
21 الجمعة 15/5 3:32 5:05 11:59 7:09
22 السبت 16/5 3:31 5:05 11:59 7:10
23 الأحد 17/5 3:30 5:04 11:59 7:11
24 الإثنين 18/5 3:29 5:04 11:59 7:11
25 الثلاثاء 19/5 3:28 5:03 11:59 7:12
26 الأربعاء 20/5 3:27 5:02 11:59 7:13
27 الخميس 21/5 3:26 5:02 11:59 7:14
28 الجمعة 22/5 3:26 5:01 11:59 7:14
29 السبت 23/5 3:25 5:01 11:59 7:15
1- يكون يوم الأحد 24/5/2020 أول أيام عيد الفطر المبارك إذا ثبتت الرؤية بشاهدين عدلين، ويبقى الهلال بعد الغروب ساعة ودقيقتين ، وإرتفاعه عن الأفق (7) درجات و(26) دقيقة , ولكن نسبة القسم المنار منه قليلة.
2- صدرت مائة وسبعة وتسعون جزءً من تفسيرنا للقرآن في تفسير سورة البقرة وشطر من آل عمران وهي معروضة على موقعنا WWW.MARJAIAA.COM، وكلها تأويل وإستنباط لم يشهد له التأريخ مثيلاً، إلى جانب كتبنا الفقهية والأصولية والكلامية [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].