المقدمــــــــة
الحمد لله الذي جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) ومنه بيانه لذات مضامين القرآن وأحكامه بما ينفع في العمل العام بها ، والسياحة الفكرية بالتدبر بعلومه وأسراره وذخائره.
فمن الإعجاز الغيري للقرآن أنه ليس من إنسان ذكراً أو أنثى ، كبيراً أو صغيراً ، مسلماً أو غير مسلم إلا وتفكر بآيات القرآن ، وإن تباين هذا التفكر، واختلفت درجة الإنتفاع منه طوعاً وانطباقاً ، ومن بيان القرآن لعلومه القدسية قانون النسخ وإيضاحه بآية قرآنية بما يمنع اللبس أو الترديد فيه ، إذ قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
وانشغل علماء الإسلام بهذه الآية ومصاديقها تفسيراً وتحقيقاً وتأويلاً ، ومنهم من يوسع في النسخ ويكثر من ذكر الآيات المنسوخة ، ومنهم من يضيق ويحصر النسخ بآيات قليلة ، وهذا الحصر هو المختار .
وجاء القول بالإكثار ولغة الأجمال من الآيات المنسوخة من بعض التابعين ، حتى قال بعض المفسرين إن آية السيف نسخت نحو (124) آية من القرآن ، وقد تقدم في الجزء السابق .
وأكثر التابعين لم يقولوا بهذا النسخ .
وذكر عدد من المفسرين أقوال النسخ هذه ثم توالى تكرار هذا القول من قبل طبقات المفسرين ، فيتبادر إلى الأذهان أن القول بنسخ هذا العدد مستند إلى الروايات المتوارثة ، والعلم الثابت فاقتضى البيان بأن القول بالنسخ هذا في أكثره إنما صدر عن جهتين :
الأولى : بعض التابعين.
الثانية : بعض تابعي التابعين.
فلم ترتق أكثر أحاديث النسخ إلى الصحابة وأهل البيت وما من قول لتابعي بنسخ آية إلا ويقابلها قول لمن هو في طبقته بأن الآية غير منسوخة ، وحتى إذا ورد قول الصحابي بأن الآية غير منسوخة أو ما يدل على هذا المعنى ، فانه ضعيف سندا أو لا ينهض لمعارضة القول بعد النسخ .
وقد تجد قولين لإبن عباس يفيد أحدهما نسخ آية ويتضمن الآخر عدمه.
والأصل عند تعارض القول أو الرواية التساقط فيرجع إلى أصل عدم النسخ في الأحكام وسلامة الآية القرآنية من النسخ بالإضافة إلى دليل امكان الجمع بين الآيتين على نفي النسخ بينهما ولابد من الإلتفات إلى مسألة عند قدماء المفسرين , وهي عموم معنى النسخ ليشمل :
الأول : الشرط.
الثاني : الإستثناء .
الثالث : التخصيص.
الرابع : تقييد المطلق .
الخامس : ما يعرض للنص المجمل والعام بلفظ خارج عنه وهذا المعنى العام للنسخ خلاف ما عليه إصطلاح النسخ عند المتأخرين وهو رفع الحكم الثابت بآية قرآنية بخطاب متآخر عنه في نزوله زماناً ليكون تعريف النسخ في هذا الزمان رفع للحكم الشرعي ومجئ حكم جديد كأنه لم ينشئ سابقاً للتخفيف أو التغليظ ، والأكثر الأول ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
ولا تتعلق دعوى كثرة النسخ بآيات السلم وحدها , وأنها منسوخة بآية واحدة من آيات القرآن ، إنما تشمل آيات العفو والصفح والموادعة والإمهال والصلح بما يجعل العقل يدرك التنافي بين هذا القول بالنسخ وبين قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ويختص هذا الجزء وهو السابع بعد المائتين من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة )وهو قانون وموضوع بكر لم تخصص له دراسات وكتب ، فتفضل الله علينا بتحقيقه وتنجزه في هذا الجزء وفي التنزيل [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ]( )، كما جاء الجزء السابق وهو السادس بعد المائتين من معالم الإيمان في تفسير القرآن في ذات قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) ويتضمن قوانين وبحوثاً ودراسات منها :
الأول : المقدمة ، وتتألف من (25) صفحة .
الثاني : القرآن في الإصطلاح.
الثالث : دراسة عقائدية في آية النسخ.
الرابع : قراءة في النسخ.
الخامس : قانون شروط النسخ.
السادس : قانون القصة في القرآن باعث للأمن.
السابع : الدار التي ولد فيها النبي (ص).
الثامن : علم جديد في النسخ.
التاسع : قانون وقائع معركة بدر الدفاعية.
العاشر : جدة النبي محمد (ص).
الحادي عشر : دعوى كثرة الآيات المنسوخة.
الثاني عشر : الآيات المنسوخة من سورة آل عمران
الثالث عشر : من الآيات التي قيل إنها منسوخة.
الرابع عشر : قانون آيات الصلح والموادعة.
الخامس عشر : خطة إغتيال النبي (ص).
السادس عشر : دخول عمير المسجد النبوي.
السابع عشر : تحية الإسلام.
الثامن عشر : حضور الوحي في الحوار .
التاسع عشر : اعتياد الصحابة على المعجزات.
العشرون : حديث فقهّوا أخاكم.
الحادي والعشرون : بين سفارة عمير وسفارة عروة.
الثاني والعشرون : تقسيم موضوعي لآيات القرآن.
الثالث والعشرون : قانون أحسن القصص.
الرابع والعشرون : قانون المطلق والمقيد في آيات الدفاع.
الخامس والعشرون : قانون لا تعتدوا.
السادس والعشرون : إحصائية في المنسوخ.
السابع والعشرون : قانون انتقال الصحابة إلى الأمصار كاشف عن قلة النسخ في القرآن.
الثامن والعشرون : قانون عدم نسخ القرآن بالسنة النبوية.
التاسع والعشرون : قانون النسخ إلى البدل.
الثلاثون : دلالة عدم النسخ في الآية.
الحادي والثلاثون : تعضيد القرآن للنبي (ص).
الثاني والثلاثون : المخضرمون.
الثالث والثلاثون : بحث نحوي.
الرابع والثلاثون : كيف علم الملائكة بإفساد الإنسان في الأرض.
الخامس والثلاثون : قانون التوقي من الوباء.
لقد إزدانت الأرض بآيات القرآن ، وأمر الله عز وجل كل مسلم ومسلمة بتلاوة بعضها سبع عشرة مرة في اليوم لتعانق نسمات الهواء ، وتتلقى صداها الجدران ، ولتملأ آفاق المشرق والمغرب بعطرها إذ قال الله [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، فكل آية من القرآن روضة بهيجة تأبى أن تكون منسوخة في موضوعها وحكمها من غير دليل شرعي بعد أن ثبت رسمها فيما بين الدفتين ، ليكون هذا الرسم النوراني باعثاً للعلماء لنفي النسخ عن آيات السلم أمس واليوم وغداً ، وهو الذي يدل عليه الأمر بصيغة الجمع [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا] ( ) الموجه لأجيال المسلمين مجتمعين ومتفرقين .
وتدل عليه صيغة الجمع ، ووردت واو الجماعة في كل من مسألة العفو والصفح ، وليس من حصر لكل منهما من جهات :
الأولى : توجه الخطاب إلى كل المسلمين ، بلحاظ بداية ذات الآية التي يتوجه فيها الخطاب للمسلمين بقوله تعالى [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، لبيان أن الود كيفية نفسانية لا يؤاخذ عليها الإنسان ، وفيه دعوة للمسلمين للعفو والصفح عن أهل الكتاب للإستعداد للدفاع ضد غزو المشركين المدينة المنورة ، وإرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي معركة الخندق ورد قوله تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ]( ).
ومن بدائع وإشراقات السنة النبوية قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتفسير القرآن بصيغة الإحتجاج على بعض أصحابه ، وتذكيرهم بالوقائع والأحداث ، ليبقى هذا الإحتجاج درساً وموعظة لكل مسلم وبلحاظ الحديث أدناه يظهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استبشر بصلح الحديبية وأخبر أصحابه أنه فتح ، وكان عدد الذين حضروا الصلح منهم ألف وأربعمائة .
فقال (رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والله ما هذا بفتح ، لقد صددنا عن البيت وصدَّ هدينا ، وعكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجا ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول رجال من أصحابه : إنّ هذا ليس بفتح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بئس الكلام ، هذا أعظم الفتح .
لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم في الإِياب ، وقد كرهوا منكم ما كرهوا ، وقد أظفركم الله عليهم ، وردكم سالمين غانمين مأجورين ، فهذا أعظم الفتح .
أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، وأنا أدعوكم في أخراكم ، أنسيتم يوم الأحزاب ( إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا ) ( )، قال المسلمون : صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا . فأنزل الله سورة الفتح)( ).
أي أن تسميته فتحاً بالسنة النبوية والوحي من عند الله قبل نزول القرآن لبيان قانون وهو تعضيد وتأكيد القرآن للسنة النبوية.
ولم يرد لفظ (اعفوا) ولفظ (اصفحوا) في القرآن الا في آية البحث.
الثانية : عدم الوقوف عند العفو فلابد من الصفح أيضاً ، وهو من تخلق المسلمين بأخلاق الله ، وبعثهم على الرحمة والرأفة عن عبد الله (بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ارحموا تُرحموا ، واغفروا يُغفر لكم . ويل لأقماع القول يعني الآذان ويل للمصِّرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون)( ).
الثالثة : تكرار العفو والصفح وإن تكررت الإساءة ،وسيأتي بحث أصولي بخصوص المرة والتكرار في العهود والصفح .
الرابعة : العموم في كل من العفو والصفح ، فيشمل الناس جميعاً , وهم :
الأول : المسلمون ، إذ يلزم العفو والتسامح وحسن العشرة بين المسلمين وعدم غلبة المذهبية أو القبيلية في سنخية الصلات بينهم ، قال تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
الثاني : أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس ونحوهم ، قال تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه توجه الأمر من الله الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو اليهود والنصارى إلى الجامع المشترك بينهم وبين المسلمين وهو أشرف كلمة ومعتقد وهو قول لا إله إلا الله وعدم الشرك به سبحانه ، فلم ينتظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب أن يدعوه إلى أواصر الصلة العقائدية ، ولم يبادر من نفسه بدعوتهم إليها ، إنما أمره الله عز وجل بأن يدعوهم ويرغبّهم بالمودة والموادعة وحسن العشرة تحت سقف كلمة التوحيد.
ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر من تلاوة الآية أعلاه في الصلاة ، وعن ابن عباس قال : أكثر ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم . . . } ( )الآية . وفي الثانية {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة…})( ).
الثالث : الناس جميعاً ، وإشاعة الإحسان ، والسعي في النفع العام والإمتناع عن الإضرار بالغير وعن الإرهاب والرهاب ، و(عن ابن عمر ، أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله ، وأي الأعمال أحب إلى الله عز وجل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس.
وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم ، أو تكشف عنه كربة ، أو تقضي عنه دينا ، أو تطرد عنه جوعا.
ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد ، يعني مسجد المدينة ، شهرا.
ومن كف غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظه ، ولو شاء أن يمضيه أمضاه ، ملأ الله عز وجل قلبه أمنا يوم القيامة.
ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى أثبتها له أثبت الله عز وجل قدمه على الصراط يوم تزل فيه الأقدام)( ).
فان قلت قد نزلت آية السيف ، وهو قوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الجواب نعم هذا من (التخصيص المؤقت والمحصور) وهذا الإصطلاح مستحدث في هذا الجزء.
وليس هو من النسخ كما هو الشائع المتوارث ، وسيأتي في هذا الجزء بحث أصولي في الفرق بين التخصيص والنسخ مع تأسيس قانون مستحدث فيه ، وهو التخصيص بالفعل إلى جانب ما ذكر من التخصيص بكل من :
الأولى : الصفة .
الثانية : الشرط .
الثالثة : الإستثناء .
الرابعة : التقييد.
ومن التخصيص بالفعل قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) إذ يخرج الذين لا يقاتلون المسلمين فلم يؤمر المسلمون بقتالهم .
ومفهوم الآية هو عدم جواز قتلهم [لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( )، أي لا ينهاكم الله عز وجل عن البر بهؤلاء والإحسان إليهم ، والإمتناع عن ظلمهم والإضرار بهم.
ورد عن مجاهد في الآية قولان :
الأول : أن تستغفروا لهم وتبروهم وتقسطوا إليهم , وهم الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا( ).
الثاني : كفار مكة ، وقال ابن زيد في أحد قولين عنه (أن هذا في أول الأمر عند موادعة المشركين ، ثم نسخ بالقتال)( ).
الحمد لله الذي أحاط بكل شئ ، وهو سبحانه يعلم الحوادث قبل وقوعها ، ولا تقع إلا بإذن ومشيئة من عنده ، قال تعالى [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ).
واختتام الآية بالإخبار عن الربوبية المطلقة لله عز وجل شاهد على أن الوقائع تجري وفق نظام كوني عام يؤثر ويتأثر بكل الكائنات فلا يحسب الإنسان أن ما يفعله خاص به وحده ، أو ذوي الصلة ومن يتعلق به الأمر ، لذا تفضل الله وجعل النفع عاماً في النبوات ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، ثم بينت آية أخرى أن هذا العموم إنما هو رحمة بالناس والخلائق ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وعنوان غلاف هذا الجزء وأجزاء أخرى لاحقة إن شاء الله هو قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة ) والمراد من السلم وجوه :
الأول : الكف عن القتال (والسِلم بكسر السين ضد الحرب) ( ) .
الثاني : السلم : الصلح .
والسلم بفتح وكسر السين ، ويذكر ويؤنث ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] ( ).
و(قال زهير في التذكير :
وقد قُلْتُما إنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ واسعاً … وإنَّ نَوى المُحارِبِ لا يَؤُبُ
فإن السلم زائدةٌ نَوالاً … بمال ومعروف من القول نسلم) ( ).
الثالث : الموادعة .
الرابع : المواثيق والعهود .
الخامس : السلم : المسالمة ،( تقول : أنا سلم لمن سالمني ) ( ).
السادس : السلم : السلام .
السابع : المسالمة : المصالحة .
الثامن : الإمتناع عن النزاع ، يقال (وجئتك بفلانٍ سَلَماً، أي مستسلماً لا يُنازِع.
والسَّلام: مصدر المسالَمة) ( ).
وقد يأتي السلم بمعاني أخرى تعرف بالقرائن منها : السَّلم – بالفتح – السَّلف والبيع والشراء بالذمة والنسيئة .
والسَّلم : الدلو الذي له عروة ، والسُّلم : الرقاة وآله الصعود ، قال تعالى [أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ] ( ) أي لهم مرقاة وسلّم يصعدون دراجاته ليسمعوا كلام أهل السموات .
الحمد لله الذي جعل نعمه من اللامتناهي ، وكل نعمة ليس لها حد او رسم من جهة الكم والكيف ، وهو من مصاديق ربوبيته المطلقة ، وجعل الله مقاليد الأمور كلها بيده سبحانه رحمة بالناس والخلائق ، ولقد نفخ الله عز وجل من روحه في آدم ، ليكون هذا النفخ على وجوه :
الأول : إكرام آدم وذريته ، من بين الخلائق ، فمن الآيات أن الله لم يأمر الملائكة بالسجود لآدم إلا بعد أن نفخ فيه من روحه ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ]( )، [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا] ( ).
الثاني : إقامة الحجة على آدم وحواء عند الأكل من الشجرة ، وإذا كان النفخ من روح الله في آدم وترشح هذه النعمة على ذريته ،والتقدير : ونفخ في آدم وذريته من روحه ، فهل شمل حواء هذا النفخ أم أنه خاص بآدم وذريته ، الجواب هو الأول .
لذا أكرم الله حواء باللبث في الجنة برهة من الزمن وخاطبها الله عز وجل مع آدم بقوله تعالى [فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) .
وهل يحتمل أن الله خاطب حواء بخطاب مستقل مثلما خاطب آدم , الجواب نعم .
الثالث : بيان حب الله عز وجل للناس ، لذا ورد ذكرهم في القرآن بصفة [عِبَادِي] في آيات عديدة منها قوله تعالى [نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] ( )وفيه وعد من الله عز وجل للناس جميعاً .
وتحتمل الرحمة والمغفرة في هذه الآية وجوهاً :
الأول : الرحمة في الدنيا ،والمغفرة في الآخرة .
الثاني : المغفرة في الدنيا والرحمة في الآخرة .
الثالث : الرحمة والمغفرة في الدنيا .
الرابع : الرحمة والمغفرة في الآخرة .
والصحيح هو الثالث والرابع ، وليس من حصر لوجوه ومصاديق رحمة الله عز وجل بالناس ، وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إن لله مائة رحمة ، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق ، وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخر تسع وتسعون إلى يوم القيامة) ( ).
وهل المغفرة تختص بذات الإنسان عن ذنوبه وخطاياه ، الجواب لا ، إنما تشمل غيره ، فقد يغفر للأب والأم بصلاح ابنهما ، وكذا العكس ، إذ يغفر للابن بصلاح أحد أبويه أو كلاهما ويغادر الإنسان الدنيا ، ولكن انتفاع الأحياء من عمله الصالحات مستمر ومتجدد ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ) .
الرابع : إكرام الله عز وجل الناس بآيات التنزيل وجعل كلامه مصاحباً للناس في كل جيل من أجيالهم ، وتفضل وأنزل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وحصّنه من التغيير والتحريف ، وعصمه من الزيادة أو النقصان ، وبعث الشوق في النفوس لتلاوته والتدبر في معانيه ودلالالته وعلومه التي لا تنقطع ولا تنفد ، ومن فيوضاتها جعل اليوم يمر على تالي القرآن من غير كبائر ، فذات التلاوة حرز ، والتدبر فيها سبب للرزق الكريم ، وباب للخيرات تلقياً وفعلاً للملازمة بينها وبين الإيمان ، و(عن ابن مسعود قال : من قرأ أربع آيات من أول سورة البقرة ، وآية الكرسي ، وآيتين بعد آية الكرسي ، وثلاثاً من آخر سورة البقرة ، لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ، ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله ، ولا يقرأن على مجنون إلاَّ أفاق)( ).
الحمد لله الذي أنعم علينا بتأسيس أكثر من ألف قانون في هذا التفسير المبارك ، وتشمل هذه القوانين كلاً من :
الأول : التوحيد .
الثاني : العقائد .
الثالث : علوم القرآن ، وهي العلوم والتحقيقات الخاصة بالقرآن ، والمسائل المستنبطة منه ، وقد تسمى علوم التنزيل ، وعلوم الكتاب ، وأوصلها السيوطي الى ثمانين علماً و(قال القاضي أبو بكر بن العربي في قانون التأويل علوم القرآن خمسون علما وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة إذ لكل كلمة ظهر وبطن وحد ومطلع وهذا مطلق دون اعتبار تركيب وما بينها من روابط وهذا ما لا يحصى ولا يعلمه إلا الله)( ) وتشمل :
أولاً : نزول القرآن نجوماً وترتيبه في المصحف.
ثانياً : جمع وكتابة القرآن.
ثالثاً : القراءات السبعة .
رابعاً : المحكم والمتشابه ، قال تعالى [مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
الخامس : الناسخ والمنسوخ.
السادس : إعراب كلمات القرآن.
السابع : إعجاز القرآن .
الثامن : إعجاز الآية القرآنية الذاتي والغيري .
التاسع : قوانين الآية سلاح وحرز .
العاشر : إفاضات القرآن .
الحادي عشر :القوانين التي وردت في مقدمات أجزاء هذا التفسير ، إذ تتضمن كل مقدمة علوماً مستحدثة وأبواباً من الإستدلال ومسائل في الإستنباط .
الثاني عشر : قوانين الصلة بين آية قرآنية وآية آخرى ، وقد صدرت لي والحمد لله عدة أجزاء في الصلة بين الآيات منها :
أولاً : الجزء الخامس والعشرون بعد المائة بالصلة بين الآية الحادية والخمسين بعد المائة والآية الثانية والخمسين بعد المائة.
ثانياً : الجزء السادس والعشرون بعد المائة ويختص بالصلة بين شطر من الآية الحادية والخمسين بعد المائة بشطر من الآية الثالثة والخمسين بعد المائة من سورة آل عمران .
ثالثاً : الجزء السابع والعشرون بعد المائة ويختص في الصلة بين شطر من الآية الثالثة والخمسين بعد المائة وشطر من الآية الرابعة والخمسين بعد المائة من سورة آل عمران
رابعاً : الجزء الواحد والخمسون بعد المائة ويختص بالصلة بين شطر من الآية الحادية والستين بعد المائة وشطر من الآية الثالثة والخمسين بعد المائة من سورة آل عمران
خامساَ : الجزء الواحد والتسعون ويختص بالصلة بين آيتين متجاورتين وهما [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] ( ) والآية [لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ]( ).
العاشر : قوانين الصلة بين أول وآخر الآية القرآنية ، إذ أنشأتُ باباً مستقلاً لهذا العنوان في تفسير كل آية من الآيات التي تم تفسيرها في هذا السِفر إلى أوان كتابة هذه السطور .
الحادي عشر : قوانين من غايات الآية القرآنية ، وكل فرد من هذه القوانين يتجدد في علومه ، وتأتي علوم مستحدثة فيه بحسب آيات القرآن ، فلا زلت والحمد لله عند تفسير الآية 184 من آل عمران إذ جاء الجزء الواحد بعد المائتين بعد المائة خاصاً بتفسيرها .
الثاني عشر : القوانين المستقرأة من قانون (لم يغز النبي محمد (ص) أحداً) إذ صدر واحد وعشرون جزءً من هذا التفسير خاصة بهذا القانون .
الثالث عشر : القوانين المترشحة عن القانون العام (التضاد بين القرآن والإرهاب) والذي صدرت بخصوصه من هذا التفسير كل من :
الأول : الجزء الرابع والثمانون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والثمانون بعد المائة .
الثالث : الجزء الثامن والثمانون بعد المائة .
الرابع : الجزء الرابع والتسعون بعد المائة .
الخامس : الجزء السابع والتسعون بعد المائة .
السادس : الجزء التاسع والتسعون بعد المائة .
السابع : الجزء الثالث بعد المائتين .
الرابع عشر : القوانين التي وردت في الأجزاء الخاصة بقانون (آيات الدفاع سلام دائم)
الخامس عشر : القوانين التي وردت في هذا الجزء من التفسير ودلالتها أو ترشحها عن قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
السادس عشر : القوانين التي وردت في تفسير كل آية من آيات سورة الفاتحة ، وسورة البقرة وسورة آل عمران ومناسبة الموضوع والحكم .
السابع عشر : القوانين التي ترد في شرح وبيان كل قانون ورد في التفسير .
الثامن عشر : القوانين الخاصة بالعبادات وما يخص الصلاة والزكاة والصيام والحج.
التاسع عشر : القوانين الخاصة بالأبحاث والدراسات الواردة في كل من :
أولاً : علم التفسير .
ثانياً : علم الفقه .
ثالثاً : علم الأصول .
رابعاً : علم اللغة والنحو .
خامساً : علم الكلام .
سادساً : علم الإجتماع .
سابعاً : علم الأخلاق .
ثامناً : قوانين الحلال والحرام.
العشرون : القوانين الخاصة بالسنة النبوية القولية والفعلية ، والعلوم التي تأسست في المجتمعات وسيرة المسلمين بهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
الحادي والعشرون : قوانين الدفاع ، وكيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرغب يوماً بالقتال ، وكان لا يبدأ قوماً بقتال ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) أي فُرض عليكم الدفاع مع أنه ثقيل على النفس , وفيه تعطيل للأعمال ومرابطة ، وقتل وجرح ، ففيه كراهية ، ومن أبواب الكراهة في المقام حسرة المؤمنين على الكفار الذين يصرون على القتال والغزو ، وما ينتظرهم من سوء العاقبة ، وفي معركة أحد أراد أبو سفيان رئيس جيش المشركين الإنصراف من ميدان المعركة والرجوع إلى مكة حيث أشرف على الجبل ونادى :
(أعل هبل فقال صلى الله عليه وآله وسلم قولوا الله أعلى وأجل فقال أبو سفيان لنا العزى ولاعزى لكم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قولوا الله مولانا والكافرون لا مولى لهم ثم قال أبو سفيان يوم بيوم بدر: يوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر حبطة بخبطة وفلان بفلان فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لاسواء أما قتلانا فأحياء يرزقون
وقتلاكم في النار يعذبون) ( ) لبيان حقيقة تأريخية من جهات :
الأولى : بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة حتى نهايتها ، وهو من الشواهد على عدم هزيمة المسلمين يومئذ .
الثانية : احتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على المشركين بما فيه التحذير لهم .
الثالثة : نادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل بدء المعركة (قولوا لا إله إلا الله ) وفي ختامها أخبر عن قانون من الإرادة التكوينية، وهو أن قتلى الإيمان في الجنة وقتلى الكفار في النار ،ونزل في شهداء أحد السبعين قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).
الرابعة : التباين بين انسحاب المشركين من معركة بدر وانسحابهم من معركة أحد ، ففي معركة بدر فروا فراراً على وجوههم أما في معركة أحد فقد انسحبوا بانتظام .
الخامسة : من مصاديق [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] ( ) في المقام أمور :
الأول : تكبد كفار قريش الخسارة ولحوق الخزي بهم ، ونزول القرآن بفضحهم ، قال تعالى بخصوص معركة أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
الثاني : بعث اليأس في قلوب المشركين من الإجهاز على الإسلام .
الثالث : هلاك طائفة من الكفار في معركة أحد .
الرابع : لقد خطط كفار قريش لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم في مكة وقبل التوجه إلى ميدان المعركة ، وهذا من الإرهاب ، فانجاه الله بعد أن أصابته عدة جراحات لتكون شاهداً على الإعجاز في حفظ الله عز وجل له ، قال تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا]( ). .
الثاني والعشرون : قوانين الأسماء الحسنى والدعاء ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
الثالث والعشرون : قوانين الإيمان وسنن التقوى.
الرابع والعشرون : قوانين الصلة والمعاملة مع أهل الكتاب والناس جميعاً.
وسنصدر مجلداً خاصاً بفهرست واحصاء القوانين الواردة في هذا التفسير لتوثيقها وإعانة العلماء وطلبة الدراسات العليا على التأليف والتحقيق فيها.
وهذا الجزء هو الثاني في مضامين قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) إذ صدر الجزء السابق بخصوصه ، فلم يثبت نسخ أغلب الآيات التي قيل أنها منسوخة.
ويتضمن هذا الجزء تفسير عدد منها( )، وهي آيات إبتدأت برقم الآية العاشرة لبيان إتحاد الترتيب والتسلسل مع الآيات الواردة في الجزء السابق بذات موضوع عدم النسخ , وهي :
الأولى : قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ]( )، وتعلق القول بالنسخ بقوله تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا].
الثانية : قوله تعالى [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ]وتمام الآية هو [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
الثالثة : قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ).
الرابعة : قوله تعالى [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( )، وذكر أن المنسوخ هو [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ] وقد بينّا في الجزء السابق عدم ثبوت هذا النسخ ، والأصل أن الآية محكمة.
الخامسة : قوله تعالى [اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
السادسة : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] ( ).
السابعة : قوله تعالى [وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ] ( ).
الثامنة : قوله تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ] ( ).
التاسعة : قوله تعالى [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
أما الآيات الواردة في هذا الجزء فهي :
العاشرة : قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
الحادية عشرة : قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثانية عشرة : قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( ).
الثالثة عشرة : قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ).
الرابعة عشرة : قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ]( ).
مع بيان الصلة بين عدم نسخ هذه الآيات وبين قانون هذا الجزء ، وكيف أن بقاء حكم هذه الآيات والعمل بمضامينها من أسباب نشر الأمن في الأرض ، وتغشي الرحمة للناس وهو من رشحات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بتقريب وهو أن العبادة العامة من قبل الناس عنوان التآخي بينهم ، وهو حرز من الشقاق والإقتتال ، وستبقى آيات السلم حجة من الله عز وجل على الناس مسلمين وغير مسلمين، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
الحمد لله عن حاجة متجددة في النفس للثناء عليه سبحانه في كل حين ، ولإدراك العقل والجوارح والأركان نعم الله عليها بالذات والعرض .
لقد أبى الله عز وجل إلا أن يجعل الحاجة ملازمة لعالم الإمكان ، ومنه حاجة الناس إلى رحمته سبحانه وشوق النفوس إلى الثناء عليه , والشكر والحمد له تعالى , لتقضى به الحوائج وتفتح به أبواب البهجة والسعادة , قال تعالى [وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ] ( ).
حرر في يوم التروية 1441
29/7/2020
قانون القرآن مدرسة الثناء على الله
الحمد لله الذي جعل آيات القرآن مدرسة الثناء على نفسه سبحانه ، لأن في القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وليتعلم المسلمون وجوب الثناء عليه وكيفية هذا الثناء ، وأراد الله عز وجل أن يتلو المسلمون والمسلمات القرآن فيكتب لهم ثناءهم عليه سبحانه ، ويثيبهم عليه .
ومن الإعجاز في القرآن أنه يبدأ بالثناء على الله في سورة الفاتحة ، فكل آية منها ثناء عليه سبحانه ، إما ثناء عليه سبحانه بالنص الصريح والمعنى والدلالة ، فقال تعالى [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ).
وتفضل الله عز وجل وجعل كل مسلم ومسلمة يقرأ هذه السورة سبع عشرة مرة في اليوم ، وفيه مسائل :
الأولى : تنمية حب الله في النفوس .
الثانية : تأديب المسلمين على نحو يومي متكرر .
الثالثة : العصمة من الإرتداد .
الرابعة : التنزه عن الإرهاب ، فيبين قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) أن المشيئة بيد الله ، وأن الناس كلهم عبيد له تعالى ، والعبودية لله سور الموجبة الكلية الجامع لها ، لذا جاءت آيات السلم لبيان الاتحاد والإلتقاء بين الناس بالرق والخشوع والإنقياد والأوامر لله ، فلا يصح الإرهاب بينهم .
الخامسة : تلقي المسلمين لدروس الثناء على الله كل يوم ، وقيامهم بهذا الثناء بشوق ورغبة .
السادسة : إمتلاء النفوس بالسكينة لتكون آيات السلم مناسبة للتدبر في أسماء الله الحسنى ، والنهل من المواعظ التي تتضمنها في ذاتها ومعانيها ودلالاتها.
السابعة : الإدمان على الثناء على الله ، وفيه تنزه عن الظلم .
الثامنة : إرشاد الناس إلى الثناء على الله ، ومن أسرار تعاقب الأنبياء ووجود أتباع وأنصار لكل نبي سواء قلوا أو كثروا أن كل نبي يأتي بالثناء على الله ، ويجعل هذا الثناء ضابطة كلية في الإيمان ، ليذبّ وأصحابه عن صرح هذا الثناء .
وليكون من معاني قوله تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ) أي قاتلوا من أجل استدامة الثناء على الله عز وجل ، لما في هذا الثناء من الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
التاسعة : الثناء على الله باعث للنفرة من عبادة الأصنام ، لذا جاءت السور المكية في الثناء على الله ، لتكون كل آية منها على وجوه :
الأول : الحرب على الشرك والضلالة.
الثاني : بعث النفرة في النفوس من عبادة الأصنام.
الثالث : الإخبار عن قانون وهو قرب الله من الناس ، وامكان مناجاته قال الضحاك : سأل بعض الصحابة النبيّ صلى الله عليه وسلم : أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد ، فسأل ربّه فأنزل الله : وإذا سألك يا محمّد عبادي عنّي فإنّي قريب( ).
الرابع : ترغيب المسلمين والناس جميعاً بالدعاء ، والتوجه إلى الله بالمسألة وهذا الدعاء من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، وعن الإمام علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تعجزوا عن الدعاء فإن الله أنزل عليَّ {ادعوني أستجب لكم} فقال رجل : يا رسول الله ربنا يسمع الدعاء أم كيف ذلك؟
فأنزل الله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ.
الخامس : بيان قانون وهو أن الحياة الدنيا دار الثناء على الله ، وهذا الثناء مقدمة وطريق الثناء عليه سبحانه في الجنة ، وفي التنزيل [وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
السادس : إخبار عن قانون وهو أن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أجل ثناء الناس على الله ، وهم محتاجون الى هذا الثناء والله غني عنه ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
السابع : يبعث الثناء على الله الخوف منه سبحانه والتفكر في بديع صنعه ، وعن ابن عباس قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن في المسجد حلق حلق، فقال لنا: فيم أنتم ؟ قلنا: نتفكر في الشمس كيف طلعت وكيف غربت، قال: أحسنتم كونوا هكذا تفكروا في المخلوق ولا تفكروا في الخالق، فإن الله خلق ما شاء لما شاء وتعجبون من ذلك، إن من وراء قاف سبع بحار كل بحار خمسمأة عام ومن وراء ذلك سبع أرضين يضئ نورها لاهلها ومن وراء ذلك سبعين ألف امة خلقوا على أمثال الطير هو وفرخه في الهواء لا يفترون عن تسبيحة واحدة ومن وراء ذلك سبعين ألف امة خلقوا من ريح، فطعامهم ريح، وشرابهم ريح، وثيابهم من ريح، و آنيتهم من ريح، ودوابهم من ريح، لا تستقر حوافر دوابهم إلى الارض إلى قيام الساعة .
أعينهم في صدورهم، ينام أحدهم نومة واحدة ينتبه ورزقه عند رأسه، ومن وراء ذلك ظل العرش، وفي ظل العرش سبعون ألف امة ما يعلمون أن الله خلق آدم ولا ولد آدم، ولا إبليس ولا ولد إبليس، وهو قوله (ويخلق ما لا تعلمون)( )( ).
العاشرة : في مواظبة الناس على الثناء على الله دوام للنعم الكونية ، ومانع من الزلازل والآفات والأوبئة ، وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : (لما نزلت {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هرب الغيم إلى المشرق،
وسكنت الرياح،
وهاج البحر،
وأصغت البهائم بآذانها،
ورجمت الشياطين من السماء،
وحلف الله بعزته أن لا يسمّى اسمه على شيء إلاّ شفاه ولا يسمّى اسمه على شيء إلاّ بارك عليه،
ومن قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} دخل الجنة)) ( ).
الحادية عشرة : لقد رزق الله عز وجل الإنسان بأنه يمتاز بالنطق والكلام المفهوم ، وترى بين أفراد الجماعة والأمة لغة للخطاب ، ولم يهبط آدم إلى الأرض إلا بعد أن علّمه الله عز وجل أسماء المسميات كلها ، وفي التنزيل [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ) ليكون مؤهلاً للخلافة في الأرض ، ومن شرائط الخلافة الثناء على الله ، فلابد للإنسان أن يثني على الله في نهاره وليله ، ويرزقه الله عز وجل للإنسان بالنعم ليشكره ويثني عليه ، ويمد في عمره ليذكره بوجوب هذا الثناء ، ويبتليه بالمرض والفاقة والمصيبة ليثني على الله، ويظهر تسليمه بقضائه وقدره .
الثانية عشرة : يجتمع ويلتقي الناس في الثناء على الله ، فهو برزخ دون الغلو في الملوك والرؤساء .
الثالثة عشرة : الثناء على الله عبادة ، وذكر وتسبيح ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
الرابعة عشرة : المدحة والثناء على الله مقدمة للدعاء والمسألة ، فهو تقرب إلى الله ، وإظهار للتسليم بأن مقاليد الأمور بيده تعالى ، وفي التنزيل [أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ] ( ) .
الخامسة عشرة : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار ابتلاء ، ويكون الثناء على الله ضياء ينير سبل الهداية والرشاد للعباد .
السادسة عشرة : من الأمر بالمعروف الحث على الثناء على الله ، والمواظبة عليه ، وهو من مصاديق الخيرات في قوله تعالى [وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ]( ).
السابعة عشرة : قد يتبادر إلى الأذهان أن الثناء على الله باللسان وحده، ولكنه قول وفعل ، فكل وقوف بين يدي الله في الصلاة ، وركوع وسجود هو ثناء على الله .
الثامنة عشرة : عندما هبط آدم وحواء إلى الأرض هبطا بوظيفة الخلافة لقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وهبط معهما إبليس بشره وفتنته وإغوائه لذا يمكن القول بأن الملائكة حينما احتجوا على الخلافة [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) وأنهم أرادوا نجاة الناس من إغواء إبليس الذي زل آدم وحواء في الجنة .
وكل حمد وذكر وتسبيح في القرآن هو ثناء على الله ، وترغيب بتلاوة آيات القرآن ، ولا يتم إلا بلطف منه تعالى ، مما يلزم الشكر لله عز وجل على نعمة الهداية إلى الثناء عليه سبحانه ، وفي التنزيل [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]( )، وفي التنزيل [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
وللثناء على الله منافع حالية ودنيوية عامة وأخروية ، وهو سبب لزيادة الإيمان ، والحصانة من الزلل ، وفي التنزيل [كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً]( ).
من الآيات التي قيل إنها منسوخة
قد ذكرت في الجزء السابق تسع آيات من التي ذكر أنها منسوخة وتناولت بالتفسير منها عشر آيات والإستدلال على أنها غير منسوخة ، وأذكر في هذا الجزء شطراً آخرعدة منها ، مع نفي نسخها.
الآية العاشرة : قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( )، إبتدأت هذه الآية بحرف العطف للدلالة على صلتها بالآية السابقة لها والتي تتضمن الإخبار عن قيام المشركين بخراب المساجد ونصبهم الأصنام فيها ، وتعطيلهم عبادة الناس لله عز وجل في المسجد الحرام ، والآية السابقة هي [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( ).
وقد ذكرتُ ففي باب تفسير هذه الآية( )، اختلاف المفسرين هل نزلت الآية في الصلاة أم في غير الصلاة.
والمختار أنها نزلت فيهما مجتمعين ، لبيان قانون نستحدثه وهو (أولوية إجتماع المعاني في اللفظ القرآني) كما ذكرت أن الآية لا تختص بسبب النزول وان تعدد أوان السؤال عن تعيين القبلة.
وقيل نزلت الآية حبل صدّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البيت( )، أي في صلح الحديبية ، ونسبة الخبر إلى القيل تضعيف له.
ومن معاني لله الشرق والمغرب ، أي أن الله عز وجل خالقهما ، ومالكهما ، والمتصرف فيهما ، وهو سبحانه إله في المشرق ، وإله في المغرب ، واللام في (لله) لام الملك والمراد من المشرق والمغرب جميع انحاء وجهات الأرض.
في الآية بشارة تفرق الصحابة وعامة المسلمين في الأمصار ، وأن عبادة الله عز وجل تصح في أي بقعة من الأرض.
روي عن ابن عباس أنه قال : خرج رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصابهم الضباب ، فمنهم من صلى إلى المشرق ، ومنهم من صلى إلى المغرب ، فلما طلعت الشمس وذهب الضباب ، استبان لهم ذلك ، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك؛ فنزلت هذه الآية [وَلِلَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله]( )، أي حتى وان كان بعضهم مستدبراً القبلة ، و[ثَمَّ] إسم إشارة للمكان البعيد.
معنى [فثم وجه الله] على وجوه :
أولاً : فثم القبلة التي يتوجه اليها المصلون من أهل الملل في صلاتهم.
ثانياً : فثم ملك الله .
ثالثاً : فثم رضا الله ، وجهة رحمته .
رابعاً : هناك تجد قبول العمل العبادي.
وتحتمل الآية وجوهاً :
أولاً : من جعلها محكمة وصرفها إلى حال الضرورة ، واستدل بقول عبد الله بن ربيعة عن أبيه قال : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلا فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْحِجَارَةَ فَيَجْعَلُهَا مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا نَحْنُ قَدْ صَلَّيْنَا لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَيْلَتُنَا لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ( ).
ثانياً : الآية محكمة أيضاً وتفسيرها في صلاة السفر تطوعاً ، أي للذي يصلي على الراحلة مطلقاً ومنها السيارة والقطار والطائرة ، واستدل بحديث ابن عمر المتقدم بخصوص صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الراحلة عند رجوعه من مكة ، وأنه كان يومئ برأسه نحو المدينة .
وكان رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ثلاث مرات كل مرة منها بعد تحويل القبلة ببضع سنوات ، وهي :
الأولى : رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة في عمرة القضاء في آخر السنة السابعة للهجرة .
الثانية : رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فتح مكة في أواخر السنة الثامنة للهجرة.
الثالثة : رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة بعد حجة الوداع في آخر السنة العاشرة للهجرة.
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه خرج خائفاً مطارداً من مكة في سنة الهجرة ليتوجه لها في السنة السادسة بنية العمرة فتم صلح الحديبية ونزل القرآن بتسميته فتحاً ، وهو شاهد على أن الإسلام دين السلام.
ليعود في السنة التالية وهي السنة السابعة فيدخل وألف وأربعمائة من أصحابه مكة معتمرين ، وحينما رجع من فتح مكة في السنة الثامنة كانت معركة حنين باجهاز ومباغتة هوازن وثقيف على جحافل المسلمين وبعده بسنتين كانت حجة الوداع وقد ساد الإسلام ربوع الجزيرة ، ونزل قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
ثالثاً : الآية محكمة أيضاً وتفسيرها استقبال الكعبة ، وقوله تعالى [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ] أي حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها وهو البيت الحرام ، وروي عن مجاهد والحسن البصري( ).
أي أن الآية تفيد تأكيد الناسخ واستقبال الكعبة سواء من المدينة المنورة أو من غيرها من بقاع الأرض .
رابعاً : الآية منسوخة واستدل بحديث عن ابن عباس وقوله (منها ذكر لنا) قال :حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، ثنا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: “أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ شَأْنُ الْقِبْلَةِ، قلَ : لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ .
فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَصَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَتَرَكَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ، ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ، فَنَسَخَهَا، وقَالَ : وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَالْحَسَنِ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ نَحْوُ ذَلِكَ ( ).
وهذا القول عن ابن عباس معارض بروايات متعددة عنه وعن الصحابة ، ولا ينهض لمعارضتها ، ثم أن نسبته إلى سبعة من التابعين أيضاً أعلاه لم يثبت خاصة مع ورود بعض الأخبار عنهم بما يفيد أن الآية محكمة.
والمختار أن هذه الآية محكمة غير منسوخة خاصة مع تعدد معانيها ودلالاتها.
وبلحاظ التقسيم الموضوعي لآيات القرآن الذي اسسناه هذا اليوم الثالث عشر من شهر تموز سنة 2020 ميلادية فان موضوع آية البحث على وجوه :
الأول : آيات ملك الله ، بقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ] ( ) وعدد مرات ذكرها في القرآن مرتان ، وكلاهما بخصوص القبلة وتحويلها ، قال تعالى [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( )، وهذا الإختصاص لا يمنع من تعدد المقاصد السامية والغايات الحميدة للآية القرآنية.
الثاني : آية الجهات الأربعة بذكر (المشرق والمغرب).
الثالث : آيات السفر والضرب في الأرض [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا] عدد مرات ورودها في القرآن : لم يرد لفظ (فاينما) في القرآن إلا في هذه الآية ، وكذا لفظ (فثم) ، أما لفظ (وجه الله) فقد ورد خمس مرات في القرآن منها قوله تعالى [وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ]( ).
الرابع : آيات وجود وحضور رحمة ورضا الله عز وجل في كل مكان (فثم وجه الله).
الخامس : آيات صلاة التطوع والنافلة [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]( ).
السادس : صلاة السفر [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ].
السابع : طلب رضا الله بقوله تعالى [فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ].
الثامن : أوصاف الله من غير كيف (وجه الله).
التاسع : أسماء الله الحسنى ، فمع قلة كلمات الآية وردت فيها ثلاثة أسماء لله وهي : لفظ الجلالة ، واسع ، عليم.
العاشر : الصلة بين مضامين الآية وكل اسم من أسماء الله المذكورة فيها.
أسباب نزول [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ]( )
هذه الآية من بين الآيات التي ذكرت في أسباب نزولها عدة وجوه ، كما تقدمت الإشارة إليه في الجزء السابق( ).
إذ ذكرت في نزولها أكثر من سبعة أسباب وهي :
الأول : سبب نزول الآية هو عندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يتوجهون إلى بيت المقدس في صلاتهم ، قال نفر من يهود المدينة: ما يدري محمد وأصحابه اين قبلتهم حتى هديناهم فلما نزل قوله تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ]( )، فتكلموا فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
الثاني : نزلت هذه الآية في صلاة التطوع للمسافر على راحلته أو هو في السيارة أو الطائرة ، وهذا القول هو المشهور بخصوص نزول هذه الآية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعاً ، أي أنه لا يتوجه إلى البيت الحرام لأنه مستدبر القبلة في طريق عودته من مكة.
لبيان قانون وهو لو دار الأمر بين صلاة التطوع على الراحلة إلى غير القبلة وبين ترك صلاة التطوع أثناء السفر ، فالصحيح هو الأول ، لمصداق آية البحث وقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ] وهو من الشواهد بأنها غير منسوخة.
وعن جابر بن عبد الله قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة أنمار يصلي على راحلته متوجهاً قبل المشرق تطوّعاً( ).
وبقى كثير من الصحابة على هذا النهج في صلاة التطوع في السفر عملاً بمضمون هذه الآية وهو من الشواهد على عدم نسخها لقانون نؤسسه هنا وهو : عمل الصحابة بأحكام الآية القرآنية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على عدم نسخها.
وحينما يحين أوان أداء صلاة الفريضة فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينزل من راحلته ويستقبل القبلة لبيان التباين الرتبي بين صلاة الفريضة وصلاة النافلة ، ولزوم الحرص على الاستقبال حتى في السفر مع الإمكان.
وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي على راحلته قبل المشرق ، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل واستقبل القبلة وصلى( ).
وهو من الشواهد على العمل بمضامين آية البحث حتى بعد نسخ القبلة إلى بيت المقدس.
الثالث : نزلت هذه الآية قبل فرض استقبال قبلة مخصوصة ، فتصح الصلاة إلى أي جهة لأن [لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ].
الرابع : نزلت الآية فيمن خفيت عليهم القبلة كما لو كانوا في سفر وحان أوان صلاة الفريضة فانهم يصلون إلى أي جهة كانت لبيان أولوية أداء الصلاة في وقتها ، ليكون من معاني قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( )، عدم ترك الصلاة في وقتها بسبب جهل جهة القبلة لبيان قانون وهو أن نفي النسخ عن كثير من الآيات تخفيف عن المسلمين ، ودعوة للعمل بمضامين آيات القرآن في حال اليسر والعسر ، والحل والترحال.
وقال الواحدي : اختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فمنهم مَنْ قال : هي منسوخة الحكم بقوله {فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام} ومنهم مَنْ قال : حكمها ثابت غير أنها مخصوصة بالنَّوافل في السفر( ).
والمختار أن موضوعها أعم من صلاة التطوع في السفر كما مبين في أسباب النزول ، وإنما تشمل صلاة الفريضة من جهات :
الأولى : قبل تعيين البيت الحرام جهة قبلة للمسلمين في السنة الثانية للهجرة ، وإن قلت إلى أي جهة كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصلي قبل الهجرة وهو في مكة .
والجواب إنه كان يصلي إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه ، وهو الوارد عن ابن عباس( ).
الثانية : صلاة الضرورة بلحاظ عدم تعيين القبلة ، خاصة في السفر.
الثالثة : درء الخلاف بين المسلمين عند الصلاة في السفر إلى جهات مختلفة ، ليكون من معاني آية لبحث التخفيف عن المسلمين في السفر ، في عباداتهم ، ومنع الإختلاف بينهم بخصوص القبلة وصيرورته إلى خصومة ونزاع.
(وعن عطاء : عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة ، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا . وقيل : معناه ( فأينما تولوا ) للدعاء والذكر ولم يرد الصلاة)( ).
الرابعة : من المقاصد السامية لآية البحث الجهة التي يتوجه إليها في الدعاء ، وعن مجاهد قال : لما نزلت {ادعوني أستجب لكم}( )، قالوا : إلى أين، فأنزلت {فأينما تولوا فثم وجه الله}( ).
وموضوع الآية أعم من الدعاء فهي تخفيف ورخصة ، وإخبار عن حقيقة ملك الله عز وجل لكل الجهات ، وجواز قصد سؤاله وعبادته وصحة اتخاذ أي جهة قبلة في حالات :
الأولى : عند تعذر معرفة جهة البيت الحرام.
الثانية : صلاة التطوع في السفر .
الثالثة : استحضار ذكر الله في الوجود الذهني والتلذذ بمعرفة أنه أمامي وعلى يميني وعلى شمالي ومن خلفي.
الرابعة : دعوة المسلمين للتوكل على الله في كل الأمور ، قال تعالى [وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
الخامسة : بعث السكينة في نفوس المسلمين عند لقاء مشركي قريش في معركة بدر وأحد ، والخندق ، وحنين ، فصحيح أن الذين يقابلونهم هم المشركين ولا يريدون إلا قتلهم ولكن الله عز وجل هو حاضر بنهم وهو الذي يخزي المشركين ، لذا قال تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
السادسة : ورد عن (عامر بن ربيعة قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة ، فتحرى قوم القبلة وأعلموا علامات ، فلما أصبحوا رأوا أنهم قد أخطؤوها ، فعرّفوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك ، فنزلت هذه الآية)( )،
الخامس : نزلت هذه الآية بعد نسخ القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام ، إذ ورد (عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية فأصابتهم ضبابة فلم يهتدوا إلى القبلة فصلوا لغير القبلة ، ثم استبان لهم بعدما طلعت الشمس أنهم صلوا لغير القبلة ، فلما جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حدثوه ، فأنزل الله { ولله المشرق والمغرب)( ).
ويتعارض هذا الحديث عن ابن عباس مع الحديث الوارد عنه بخصوص نسخ هذه الآية بآية تحويل القبلة إلى البيت الحرام ، وعند التعارض يكون التساقط فيرجع الى الأصل وهو عدم النسخ.
السادس : عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن الآية نزلت بسبب أصحمة النجاشي سلطان الحبشة إذ كان مؤمناً ، مصدقاً برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما مات عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك .
ومعنى (اصحمة) بالعربية : عطية.
السابع : نزلت الآية في صلاة النجاشي نفسه وليس صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه يوم موته ، فحينما (صلَّى عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وقولهم له : كيف تُصلِّي على رجل صلَّى إلى غير قبلتنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وبيَّن أنَّ النجاشي وإنْ صلَّى إلى المشرق أو المغرب فإنَّما قصد بذلك وجه الله وعبادته)( ).
الثامن : ورد عن قتادة( ) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن أخاً لكم قد مات – يعني النجاشي – فصلوا عليه ،قالوا : نصلي على رجل ليس بمسلم ، فأنزل الله { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله}( )، قالوا : فإنه كان لا يصلي إلى القبلة ، فأنزل الله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ( ).
التاسع : حضّ وترغيب المسلمين بالدعاء مع التوجه إلى أي جهة فيه ، وعدم حصره باستقبال القبلة.
العاشر : بيان مسألة وهي أن استقبال القبلة واجب ومستحب ، أما الواجب فهو في الصلاة في الحضر ، وتعيين جهة القبلة ، والذباحة ، وتوجيه المحتضر ، وعن الإمام علي عليه السلام قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وآله على رجل من ولد عبد المطلب، فإذا هو في السوق وقد وجه إلى غير القبلة، فقال: وجهوه إلى القبلة فانكم إذا فعلتم ذلك أقبلت عليه الملائكة وأقبل الله عليه بوجهه، فلم يزل كذلك حتى يقبض( )، ودفن الميت ، بأن يكون الميت مستقبلاً القبلة وقد أضطجع على جنبه الأيمن.
وأما المستحب فمنه عند الدعاء ، والمجلس وقراءة القرآن والقاء الخطبة ، والقضاء ، إذ يستحب أن يجلس القاضي مستدبر القبلة والشهود مستقبلين القبلة ، وهو أغلظ عليهما في لزوم قول الحق ، واستقبال الميت القبلة عند غسله.
واجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة بدر بالدعاء ، وكان عندئذ يحرص على استقبال القبلة ، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إن لكل شيء سيداً ، وإن سيد المجالس قبالة القبلة( ).
ليكون من معاني قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ]( ) ، التأكيد على الإستقبال في المستحب بخصوص الصلاة والدعاء وغيره مع الإمكان.
الحادي عشر : من إعجاز القرآن أن دلالة ومعاني الآية لا تنحصر بموضوع مخصوص سواء كان سبباً لنزولها أو لا ، فقوله تعالى (ولله المشرق والمغرب) لا ينحصر مضمونه ودلالته باستقبال القبلة.
ومن معانيه بيان قانون من الإرادة التكوينية وهو أن الأرض شرقها وغربها لله عز وجل ، وأن الناس أينما كانوا فهم في ملك وسلطان الله ، قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( )، وقد ذكر الشمال واليمين في القرآن أيضاً كما في قوله تعالى [وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَتَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا]( ).
إن ذكر النصوص الواردة بخصوص أسباب نزول الآية شاهد على نزولها بعد تحويل القبلة إلى المسجد الحرام مما يدل على أنها غير منسوخة.
فمن شرائط النسخ تقدم نزول المنسوخ زماناً على نزول الناسخ ، إذ وردت الأخبار بهذا الخصوص ، منها أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان في سفر واختلف أصحابه في جهة القبلة ، وبعد أن صلوا وطلعت الشمس تبينت جهة القبلة ، وأفزعهم الإختلاف بينهم ، فلجأوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت آية البحث.
وعندما تستعرض أسباب وموضوع نزول آية البحث [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( )، يتبين أن الصحابة تلقوها وعملوا بها على أنها غير منسوخة وهو على وجوه :
الأول : نزول الآية في صلاة التطوع خاصة ، والذي يؤديها المسلم على راحلته وفي السيارة والطائرة .
و(روى سعيد بن جبير عنه أنه قال : لما نزلت هذه الآية { فَأَينَمَا تُولُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}( ) أن تصلي أينما توجهت بك راحلتك في السفر تطوعاً ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعاً ، يومئ برأسه نحو المدينة) ( ).
أي يومئ برأسه لحال الركوع وأكثر منه للسجود من دون أن يتوجه إلى القبلة.
الثاني : (نزلت الآية فيمن خفيت عليهم القبلة ، ولم يعرفوا جهتها ، فَصَلُّوا إلى جهات مختلفة) ( ).
وفيه شاهد بأن مضمون الآية باق حتى بعد نسخ القبلة وتوجه المسلمين في صلاتهم إلى البيت الحرام , حتى على فرض نزول هذه الآية قبل تحويل القبلة.
وعن ابن عباس قال : (خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر وذلك قبل تحويل القبلة إلى الكعبة فاصابهم الضّباب فحضرت الصّلاة فتحروا القبلة وصلّوا ، فمنهم من صلّى إلى المشرق ومنهم من صلّى إلى المغرب.
فلما ذهب الضّباب استبان لهم إنّهم لم يصيبوا. فلّما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية بذلك)( ).
وكان عبد الله ابن عباس صبياً مع أبيه في مكة يوم نزل تحويل القبلة بعد ستة عشر شهراً من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي شهر رجب من السنة الثانية للهجرة , فلابد أن ابن عباس سمع الحديث وأخبار تحويل القبلة من الصحابة بقوله (فيما ذكر ) في الحديث الآتي :
(أخرج أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : أوّل ما نسخ لنا من القرآن فيما ذكر والله أعلم شأن القبلة . قال الله تعالى { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله }( ) فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق ، ثم صرفه الله تعالى إلى البيت العتيق ونسخها .
فقال {ومن حيث خرجت فول وجهك }( )) ( ).
وبعد تحويل القبلة بشهرين وقعت معركة بدر , وكان العباس بن عبد المطلب قد جاء مع جيش المشركين , ووقع في الأسر يومئذ , ثم عاد إلى مكة بعد أن دفع العباس بأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فديةالإطلاق من الأسر لكل من :
الأولى : فدية العباس نفسه .
الثانية : فدية عقيل بن أبي طالب .
الثالثة : فدية نوفل بن الحارث بن عبد المطلب .
الرابعة : فدية عتبة بن عمرو أحد بن الحارث بن فهر , وهو حليف العباس .
وكل فدية منها أربعمائة دينار , لقد إمتنع العباس في البداية عن دفع الفدية واعتذر بعدم وجود مال عنده فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل، فقلت لها: ان أصبت في سفري فهذا المال لبني الفضل بن العباس وعبد الله بن العباس وقثم بن العباس.
فقال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والله يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ذاك شي أعطاناه الله تعالى منك) ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، وأنزل الله عز وجل: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى ان يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم) ( )) ( ).
وهل لتحويل قبلة المسلمين إلى البيت الحرام قبل وقوع معركة بدر موضوعية وأثر في هذه المعركة ، وثبات المسلمين في مواضع الدفاع ، الجواب نعم ، فهذا التحويل مدد وعون للمسلمين وباعث لهم للصبر في المعركة ، وهو من مقدمات ومصاديق قوله تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ).
وهو من الإعجاز في الصلة بين نزول الآيات والوقائع ، فهذا الأمر ليس من أسباب النزول إنما جاء نزول الآية سابقاً للحادثة.
الثالث : يتعلق موضوع الآية بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى بيت المقدس قبل نسخ القبلة.
و(قال عبد الرحمن بن زيد : قال الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}( ) .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء يهود يستقبلون بيتاً من بيوت الله ، فلو (أنّا) استقبلناه فاستقبله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قالوا جميعاً : فصلّى النبيّ وأصحابه نحو بيت المقدس سبعة عشر شهراً .
وكانت الأنصار قد صلّت إلى بيت المقدّس سنتين قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم .
وكانت الكعبة أحبّ القبلتين إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
وهل حبّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا للكعبة لأنها محل ولادته ودار صباه ، وفيها بيت الله عز وجل ومساكن بني هاشم وديار قومه ، الجواب إنما من مصاديق النبوة ، وقوله تعالى [لاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ]( ).
الرابع : إباحة توجه المسلمين في صلاتهم إلى أي جهة من نواحي المشرق والمغرب قبل أن تفرض القبلة إلى البيت الحرام (وهو قول قتادة وابن زيد)( ).
الخامس : إرادة صحة الصلاة عند تعذر معرفة جهة القبلة , و(عن عامر بن ربيعة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلاً ، فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجداً فيصلي فيه، فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة .
فقلنا : يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة ، فأنزل الله { ولله المشرق والمغرب) ( ).
وفيه شاهد آخر على أن الآية نزلت بعد تحويل القبلة إلى البيت الحرام, مما يدل على أنها غير منسوخة .
والآية ليست من آيات الدفاع والقتال ولكنها تبين صفحة مشرقة في موضوع النسخ بأن القرآن لا يُنسخ بالسنة النبوية.
وموضوع القِبلة والعناية به شاهد على أن الإسلام دين الفرائض العبادية من الصلاة والصيام والزكاة والحج والخمس ، دين الوقوف بخضوع بين يدي الله خمس مرات في اليوم رجاء رحمته ، وفيه تنزه عن الإرهاب والظلم فالإنشغال الجوارحي بطاعة الله خمس مرات في اليوم والليلة صارف عن الإضرار بالناس.
والإنشغال الجوارحي اصطلاح جديد يراد منه عمل واشتراك الجوارح في أداء الصلاة من جهات منها :
الأولى : الوضوء والتطهر مقدمة واجبة للصلاة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]سورة المائدة 6 .
الثانية : اللسان إبتداء من تكبيرة الإحرام إلى التلاوة والتسبيح ، لتكون مناسبة وسبباً للعفو والمغفرة عن الغيبة والظلم اللساني .
الثالثة : أعضاء البدن بالقيام بين يدي الله عز وجل والحرص على أن تكون اليدان والقدمان بحالة خاصة .
الرابعة : الركوع والإنحناء ، قال تعالى [وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( ).
الخامسة : السجود والتطامن ، وهو عنوان الخشوع إلى الله عز وجل .
السادس : المراد من الآية واستدامة حكمها التخفيف عن أجيال المسلمين بالصلاة في السيارة والطائرة وإن لم يحرزوا جهة القبلة ، وفي التنزيل [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ).
و(عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سافر وأراد أن يتطوّع بالصلاة استقبل بناقته القبلة وكبّر ، ثم صلى حيث توجهت الناقة)( ).
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوقف ناقته ويوجهها نحو القبلة بما يحرز معه توجه مقاديم بدنه نحو القبلة , ويكبر تكبيرة الإحرام ثم لتسير به ناقته في وجهته سواء كانت للمشرق أو المغرب ، وهو يتم صلاة التطوع على ظهرها وإن كانت لغير القبلة , فعند الضرورة والعجز عن إستدامة التوجه إلى القبلة تحرز القبلة عند تكبيرة الإحرام وحدها مع الإمكان .
وقد بينت هذا في رسالتي العملية (الحجة) في باب (فيما يستقبل له مسائل :
(مسـألة11) 1- الصلوات اليومية أداء وقضاء.
2- توابع الصلاة من صلاة الإحتياط للشكوك وقضاء الأجزاء المنسية وسجدتي السهو.
3- سائر الصلوات الواجبة كصلاة الآيات.
4- صلاة النافلة حال الإستقرار وليس في حال المشي او الركوب.
(مسـألة12) الذبح والنحر بان يكون المذبح والمنحر ومقاديم بدن الحيوان إلى القبلة، ولا يجب ان يكون الذابح أيضاً مستقبلاً ولكنه الأولى.
(مسـألة13) لا يجب الاستقبال والإستقرار في صلاة النافلة وان صارت واجبة بالعرض كالنذر ونحوه، وهذا لا يمنع من الملازمة بين الإستقرار فيها وبين الاستقبال.) ( ).
ومع تعذر استقبال القبلة في السيارة أو الطائرة يسقط هذا الاستقبال , قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
ويمكن أن نؤسس قانوناً وهو : لو دار الأمر بين إنتفاع أجيال المسلمين من مضامين الآية القرآنية وبين القول بأنها منسوخة يقدم الأول .
السابع : نزلت الآية بخصوص النجاشي ملك الحبشة , وصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه يوم موته .
(وروى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إِنَّ أَخَاكُم النَّجَاشِيّ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ قالوا نصلي على رجل ليس بمسلم ، قال فنزلت :{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم خَاشِعِينَ لِلُّه }( ) .
قالوا : فإنه كان لا يصلي إلى القبلة ، فأنزل الله تعالى : { وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمغْرِبُ فَأينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ }( ))( ).
أي أن موضوع الآية لا ينحصر بتعيين قبلة المسلمين إنما يشمل توجه أهل الكتاب إلى قبلة مخصوصة .
وقيل توفى النجاشي في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة , وكان رجلاً صالحاً لبيباً عادلاً , إمتنع عن تسليم المسلمين المهاجرين إلى قريش .
و(عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين مات النجاشي: مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة)( ) وورد مثله عن أنس وعبد الله بن مسعود .
وفيه دلالة على نزول آية [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]( ) بعد آية تحويل القبلة بسنوات , ومن شرائط النسخ تأخر زمان نزول الناسخ على المنسوخ , وفيه دلالة على أن الآية غير منسوخة .
الثامن : (أن سبب نزولها أن الله تعالى لما أنزل قوله : { ادعُوني أسْتَجِبْ لَكُم }( ) قالوا إلى أين ، فنزلت {فأَينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}( ))( ).
فالمراد من وجه الله عز وجل في الآية أعم من القبلة , وفيه مندوحة وسعة في التوجه في الدعاء إلى أي جهة , ولبيان مسألة وهي أن الدعاء لا يشترط فيه استقبال القبلة , وإن كان هو الأولى .
التاسع : (قال مجاهد والضحاك : معناها إشارة إلى الكعبة ، أي حيثما كنتم من المشرق والمغرب ، فأنتم قادرون على التوجه إلى الكعبة . فعلى هذا هي ناسخة لبيت المقدس) ( ).
ولا دليل عليه إنما نسخ التوجه إلى البيت المقدس بقوله تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ] ( ).
العاشر : عن(سعيد بن جبير : نزلت الآية في صلاة المسافر ، حيث توجهت به دابته . وقيل : جواب لمن قال : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه)( ).
الحادي عشر : قال أبو العالية وابن زيد : نزلت جواباً لمن عيّر من اليهود بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة .
الثاني عشر : نزلت الآية (فيمن اشتبهت عليه القبلة في ليلة متغيمة)( ).
الثالث عشر : الآية عامة أينما تولوا في متصرفاتكم ومساعيكم , قاله النخعي .
الرابع عشر : نزلت الآية حين صدّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البيت الحرام , أي في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، قال تعالى [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ) وسمي شهر ذي القعدة لقعود العرب فيه عن الغزو والقتال لأنه شهر حرام .
الخامس عشر : المراد من المشرق والمغرب في الآية اسم المصدر , والمعنى أن الله عز وجل هو الذي يتولى إشراق الشمس من مشرقها وغروبها من مغربها فيكون المعنى لله : الشروق والغروب والملك والتصرف في المشرق والمغرب .
وبهذه الآية اليومية احتج إبراهيم عليه السلام على نمروذ كما ورد في التنزيل [فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]( ).
السادس عشر : لحاظ سياق الآيات , وصلة الآية موضوعياً بالآيات المجاورة , فلما جاءت الآية السابقة بذم الذين يحاربون المؤمنين في صلاتهم, ويمنعون المساجد وعمارتها جاءت آية البحث لبيان السعة ، ولزوم الصبر ، وأداء الصلاة في أي مكان .
السابع عشر : قال عبد الله بن عمر : نزلت في صلاة المسافر يصلّي حيثما توجّهت به راحلته تطوعاً، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُصلّي على راحلته جائياً من مكّة إلى المدينة( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(جُعلتْ لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً) ( ).
ويستقرأ من هذه الأخبار وتعددها من جهة الصدور ورجال السند والموضوع أمور :
الأول : نزول الآية بعد آية نسخ القبلة زماناً .
الثاني : الآية غير منسوخة .
الثالث : بيان الرخصة والسعة والمندوحة في القبلة عند الضرورة والإشتباه حال السفر .
الرابع : الآية أعم في موضوعها من مسألة القبلة وتعيينها إذ أنها تدل على أن السموات والأرض والجهات الأربعة وما فيها كلها ملك لله عز وجل ، فلا يختص ملك الله عز وجل بالأعيان إنما يشمل الكيفية وما لا يُرى من الموجودات ، لذا وردت الآية بصيغة (ما) لإفادة العاقل وغير العاقل.
وهل تدل الآية على أن ما في المشرق والمغرب يسبح لله عز وجل الجواب نعم ، ولو دار الأمر بين استدامة واستمرار التسبيح في الليل والنهار وبين انقطاعه ، فالصحيح هو الأول.
ولعل بعض الذين قالوا بأن الآية منسوخة لم يستحضروا كل الأقوال في الآية , وأسباب نزولها مما قد يستقرأ منه القياس بخصوص الذين يكثرون من القول بنسخ الآيات.
وفي القبلة وأحكامها مسائل :
تحري القبلة
(مسـألة1) ( )عند عدم امكان تحصيل العلم بالقبلة، يجب الإجتهاد في تحصيل العلم وان تعذر يتحرى الظن والأمارات، ولا يجوز الإكتفاء بالظن غير المعتبر او الأدنى مع امكان الأقوى، والمدار على الظن الأقوى وليس على سببه، فلو اخبر عدل ولم يحصل الظن بقوله كما لو كان من غير أهل البلد، وأخبر فاسق او غير مسلم مع حصول الظن بقوله كما لو كان من أهل الخبرة، يعمل بقول الأخير .
وكذا لو كانت هناك آلة تعيين جهة القبلة كما اقترحت قبل أكثر من عشرين سنة صنع جهاز صغير مرتبط بالأقمار الصناعية لتعيين القبلة ، أو جعل هذا التعيين في جهاز الهاتف المحمول وفق نظام مخصوص.
(مسـألة2) لا فرق في التحري واستقصاء جهة القبلة بين الأعمى والبصير، ولكن الأعمى يرجع الى غيره في تحصيل القبلة وأماراتها.
(مسـألة3) إخبار صاحب المنزل أمارة ولكن لا موضوعية له اذا لم يفد الظن المعتبر.
(مسـألة4) اذا حصر القبلة في جهتين بان علم انها لا تخرج عن احداهما، يجتهد في التحري حتى تترجح احداهما فيصلي اليها، ويجوز ان يصلي إلى الجهتين.
(مسـألة5) إذا تحرى واجتهد لصلاة وحصل له الظن، لا يجب تجديد الإجتهاد لصلاة أخرى ما دام الظن باقياً.
(مسـألة6) اذا ظن بعد التحري والإجتهاد أن القبلة في جهة فصلى الظهر مثلاً اليها ثم تبدل ظنه إلى جهة أخرى، وجب عليه اتيان العصر إلى الجهة الثانية، وهل يجب اعادة الظهر او لا، الأقوى الإعادة في الوقت دون ما خارج الوقت اذا كان مقتضى الظن الثاني وقوع الصلاة الأولى الى جهة اليمين او الى جهة اليسار اما اذا كان مقتضاه وقوعها ما بين اليمين واليسار فلا تجب الإعادة.
(مسـألة7) اذا انقلب ظنه في اثناء الصلاة إلى جهة أخرى توجه حسب ظنه الأقوى والأرجح، الا اذا كان الأول إلى الإستدبار او اليمين واليسار بمقتضى ظنه الثاني فيعيد.
(مسـألة8) المتحير الفاقد حتى للظن في تحديد جهة القبلة قيل يصلي إلى أربع جهات ونسب ذلك الى المشهور واستدل عليه بمراسيل، والأقوى انه يصلي حيث يشاء وبه ورد الصحيح وعن الإمام الصادق عليه السلام: “يجزي المتحير ابداً اين ما توجه اذا لم يعلم اين وجه القبلة”، وهذا التوجه من مصاديق آية البحث [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
(مسـألة9) إذا صلى الى جهة من دون الفحص عن القبلة غفلة أو مسامحة يجب إعادتها، إلا إذا تبين كونها الى القبلة مع حصول قصد القربة منه.
فيما يستقبل له
(مسـألة10)
الأولى : الصلوات اليومية اداء وقضاء.
الثانية : توابع الصلاة من صلاة الإحتياط للشكوك وقضاء الأجزاء المنسية وسجدتي السهو.
الثالثة : سائر الصلوات الواجبة كصلاة الآيات إلا في الخوف وحال الضرورة.
الرابعة : صلاة النافلة حال الإستقرار دون حال المشي او الركوب.
(مسـألة14) الذبح والنحر بان يكون المذبح والمنحر ومقاديم بدن الحيوان الى القبلة، ولا يجب ان يكون الذابح ايضاً مستقبلاً ولكنه الأولى.
(مسـألة15) لا يجب الاستقبال والإستقرار في صلاة النافلة وان صارت واجبة بالعرض كالنذر ونحوه، وهذا لا يمنع من الملازمة بين الإستقرار فيها وبين الاستقبال.
كيفية الاستقبال
(مسـألة16) المصلي عن قيام يكون وجهه ومقاديم بدنه الى القبلة حتى أصابع رجليه على الأحوط، ويكفي الصدق العرفي ولا يلزم الدقة على نحو عقلي، أما في حال الصلاة عن جلوس فيكون وجهه إلى القبلة وكذا صدره وبطنه وعينا ركبتيه، وان جلس على قدميه لابد ان يكون وضعهما على وجه يعد مقابلاً للقبلة.
(مسـألة17) الذي يصلي مضطجعاً يجب ان يكون كهيئة المدفون، أي ان رأسه الى المغرب ورجليه إلى المشرق مضطجعاً على جانبه الأيمن، وكل بحسب قبلة بلده لتكون مقاديم بدنه الى القبلة.
(مسـألة18) يجب جعل المحتضر في حال الاستقبال، وكذا المدفون وبالكيفية التي تقدمت لكل منهما.
(مسـألة19) لا يجوز الاستقبال حال التخلي بالبول والغائط .
(مسـألة20) يستحب الاستقبال في مواضع منها:
الأول : حال الدعاء.
الثاني : قراءة القرآن.
الثالث : الذكر.
الرابع : التعقيب.
الخامس : المرافعة عند الحاكم.
السادس : سجدة الشكر.
السابع : سجدة التلاوة.
الثامن : حال الجلوس مطلقاً، وعن الإمام الصادق عليه السلام : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اكثر ما يجلس تجاه القبلة”.
(مسـألة21) يكره استقبال القبلة حال الجماع.
أحكام الخلل في القبلة
(مسـألة22) الإخلال بالاستقبال عن علم وعمد مبطل للصلاة وعليه الإجماع لقوله تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ]( ).
(مسـألة23) لو كان عدم توجهه الى القبلة عن جهل او نسيان او غفلة أو خطأ في الإعتقاد، ففيه مسائل :
الأول : إن كان بالإنحراف عنها إلى ما بين اليمين واليسار فالصلاة صحيحة ولو التفت في الإثناء استقام واستقبل في باقي الصلاة.
الثاني : لو كان منحرفاً إلى جهة اليمين واليسار فان كان قد تحرى واجتهد فلا إعادة لقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ) .
وذكر أن هذه الآية منسوخة بآية القبلة أعلاه والمختار أن أحكامها باقية عند حال السفر ونحوه , ولقاعدة نفي الحرج في الدين.
الثالث : لو تبينت للمصلي جهتها بعد خروج الوقت فلا اعادة.
الرابع : لو كان مستدبراً القبلة فالأقوى الإعادة مطلقاً أي في الوقت وخارجه والمختار استثناء التحري حال السفر ونحوه.
(مسـألة24) لو لم يتحر القبلة أو كان ناسياً، فالظاهر الإعادة في الوقت وخارجه ان كان منحرفاً إلى جهة اليمين او جهة اليسار او كان مستدبراً.
(مسـألة25) اذا ذبح او نحر إلى غير القبلة عالماً عامداً حرم المذبوح والمنحور، أما لو كان ناسياً أو جاهلاً او لم يعرف جهة القبلة لا يكون حراماً، وكذا لا يكون حراماً لو تعذر استقباله كما لو تردى الحيوان في بئر ونحوه فانه يذبحه ويحل وإن كان الى غير القبلة.
لو ترك استقبال الميت أي وضع في قبره على غير استقبال وجب نبشه ما لم يتلاش، ولا يجب النبش لو كان يوجب هتك حرمته ونحوه سواء كان ترك الإستقبال عن عمد أو جهل او نسيان.
والقِبلة –بكسر القاف- هي الجهة التي يقابلها الإنسان وتقابله ، وفي الإصطلاح هي جهة مخصوصة يتوجه إليها المصلي في صلاته ، ويدل قوله تعالى [وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ءوَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ]( )، على أن تعيين القبلة ملازم للصلاة ، وهو من عند الله سواء قبل تحويلها إلى البيت الحرام أم بعده ، ولا ينفرد المسلمون بتعيين القبلة بل لكل أهل ملة من أهل الكتاب كاليهود والنصارى قبلة يتوجهون إليها قال تعالى [وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا]( )، والمختار أن قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( )، غير منسوخة ، وأن معناها أعم من تعيين جهة القبلة ، وفيها دعوة لإستحضار ذكر الله سبحانه ، والتوكل عليه في الحضر والسفر .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا ركب راحلته كبر ثلاثا، ثم قال[سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ]( )، ثم يقول : اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى.
اللهم هون علينا السفر واطو لنا البعيد. اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل.
اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا ، وكان إذا رجع إلى أهله قال: “آيبون تائبون إن شاء الله، عابدون، لربنا حامدون( ).
الآية الحادية عشرة : قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
ويتعلق القول بالنسخ بخصوص الآية أعلاه بقوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] ولم يرد لفظ [إِكْرَاهَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه وجاءت في نظم القرآن بعد آية الكرسي مباشرة .
هذه الآية من البيان الصريح في القرآن على نبذ العنف ، وعدم اتخاذه وسيلة لجذب الناس لمنازل الإيمان وعجز كفار قريش عن إرتداد المسلمين، ويدل تأريخ النبوة وسيرة الأنبياء والصالحين على الدعوة إلى الله والترغيب بالإيمان ، وهل هذه الدعوة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الجواب نعم ، لأن الدعوة إلى الله من أظهر وأهم ضروب الأمر بالمعروف .
قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] ( ) قال الطبري الآية منسوخة واستدل بقول (الزهري : سألت زيد بن أسلم عن قوله تعالى: { لا إكراه في الدين }( ) .
فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة عشر سنين لا يُكره أحداً في الدين ، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم ، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له ، قال الطبري والآية منسوخة في هذا القول .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: ويلزم على هذا ، أن الآية مكية ، وأنها من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف) ( ) .
ولا ملازمة بين الإذن في قتال الذين يهاجمون المسلمين وبين عدم الإكراه في الدين إنما الآية حجة على الذين كفروا ، إذ كانوا يسمون الذي يدخل الإسلام صابئ أي ترك دين الآباء ومال من دينهم إلى دين آخر ، وكانوا يبذلون الجهد والمال لإرتداد المسلمين ، قال تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ.
وعن سعيد بن جبير قال (نزلت في الأنصار خاصة . قلت : خاصة ، كانت المرأة منهم إذا كانت نزورة أو مقلاة تنذر : لئن ولدت ولداً لتجعلنه في اليهود تلتمس بذلك طول بقائه .
فجاء الإِسلام وفيهم منهم ، فلما أجليت النضير قالت الأنصار : يا رسول الله أبناؤنا وإخواننا فيهم ، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت { لا إكراه في الدين }( ) .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم ، فأجلوهم معهم) ( ) وورد عن السدي أنها منسوخة، والمختار أن الآية غير منسوخة .
ويدل زمان العولمة والتداخل بين الأمم ، وأهل الملل فيه ، والأنظمة والمنظمات والقوانين الدولية على تحقق مصداق { لا إكراه في الدين ) }( ) وأن الآية غير منسوخة، وهو من إعجاز القرآن وملائمته لكل الأزمنة .
(قال القاضي أبو محمد ابن عطية المحاربي : وعلى مذهب مالك في أن الجزية تقبل من كل كافر سوى قريش أي نوع كان ، فتجيء الآية خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس كلهم لا يقف ذلك على أهل الكتاب) ( ).
(وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سليمان بن موسى في قوله { لا إكراه في الدين }( ) قال : نسختها { جاهد الكفار والمنافقين }( ))( ) .
ولكن الجهاد لفظ عام يشمل الإحتجاج والجدال والبرهان وبدليل جمع الآية بين الكفار والمنافقين وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على عدم قتل المنافق ، وكان نظير صبره على أذى المنافقين .
ولم يرد هذا النسخ عن صحابي أو أئمة أهل البيت عليهم السلام , وهناك تباين جهتي بين الآيتين خاصة وأن المنافقين يظهرون الإسلام وينطقون بالشهادتين , ويحضرون صلاة الجماعة ، وفي التنزيل [إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ] ( ).
وجاءت آية البحث لبيان صيغة الأمر بالمعروف في المقام ، وأنها من غير إكراه ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) .
وفي الآية وجوه :
الأول : الآية في جميع الناس ثم نسخت بآيات الجهاد .
الثاني : الآية خاصة بأهل الكتاب بأن لا يحملوا على ترك دينهم .
الثالث : الإكراه إلزام الغير بأمر لا يؤمن به .
الرابع : نزلت الآية لبيان قانون في الإعتقاد ،وهو ليس المدار على ما لا يعلنه ويظهره الإنسان في الإيمان أو الكفر ، إذ أن الإيمان من أفعال القلوب، لتدعو الآية إلى الإيمان بالجنان ونبذ النفاق ، لذا ذكرت الآية الكفر بالطاغوت .
والمراد به الشيطان ، كما عن الإمام الصادق ومجاهد وقتادة( ) .
ويتجلى في أسباب نزول الآية ضياءً لبيان موضوعها ودلالتها ، ومن هذه الأسباب :
الأول : أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن سعيد بن جبير في قوله { لا إكراه في الدين } قال (نزلت في الأنصار خاصة .
قلت( ) : خاصة ، كانت المرأة منهم إذا كانت نزورة أو مقلاة تنذر : لئن ولدت ولداً لتجعلنه في اليهود تلتمس بذلك طول بقاءه ، فجاء الإِسلام وفيهم منهم ، فلما أجليت النضير قالت الأنصار : يا رسول الله أبناؤنا وإخواننا فيهم ، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت { لا إكراه في الدين } .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم ، فأجلوهم معهم) ( ).
الثاني : (قيل نزلت الآية في رجل من الأنصار كان له غلام أسود يقال له صبيح و كان يكرهه على الإسلام عن مجاهد) ( ).
الثالث : (قال مجاهد : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يكنّى (أبو الحصين) وكان له ابنان فقدم تجّار الشام إلى المدينة يحملون الزيت فلما أراد الرجوع إلى المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانيّة فتنصّرا وخرجا إلى الشام.
فأخبر أبو الحصين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اطلبهما.
فانزل الله تعالى {إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ}( ) فقال صلى الله عليه وآله وسلم أبعدهما الله فهما أوّل مَنْ كفر فوجد أبو الحصين في نفسه على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله تعالى {فَلا وَرَبِّكَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}( ) الآية.
قال : وكان هذا قبل أن يؤمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتال أهل الكتاب ثم نسخ قوله : {إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ} وأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة) ( ).
ولا دليل على النسخ أو قتال أهل الكتاب ، إذ أن المسألة قضية عين ، وتتعلق بفردين من الناس ، وكان اليهود في المدينة كأفراد وجماعات وتجار في مأمن أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويبين الحديث دعوة بعض التجار من أهل الملل الناس في المدينة إلى دينهم من غير أن يمنعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والظاهر أنها دعوة شخصية .
الرابع : (عن ابن عباس في قوله {إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ} قال : كانت المرأة من الأنصار تكون مثقلاً لا يعيش لها ولد ونزوراً ( )فتنذر لئن عاش لها ولد لتهوّدنّه، فجاء الإسلام وفيهم منهم، فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم أناس من الأنصار فقالت الأنصار : يا رسول الله أبناؤنا وأخواننا،
فسكت عنهم صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت : {لاإِكْرَاهَ فِى الدِّينِ} . الآية.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قد خُيّر أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فاجعلوهم معهم) ( ).
الخامس : (كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يعيش لها ولد ، فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم ، فجاء الإِسلام وطوائف من ابناء الأنصار على دينهم ، فقالوا : إنما جعلناهم على دينهم ، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا ، وأن الله جاء بالإِسلام فلنكرهنهم ، فنزلت { لا إكراه في الدين }( ) فكان فصل ما بينهم إجلاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني النضير ، فلحق بهم من لم يسلم، وبقي من أسلم .
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة فثبتوا على دينهم ، فلما جاء الإِسلام أراد أهلوهم أن يكرهوهم على الإِسلام ، فنزلت { لا إكراه في الدين }( ))( ) .
لبيان أن الإسلام يمنع الفتنة العامة بسبب قضية عين وأفراد قلائل ، وفي صلح الحديبية حينما جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو من مكة يرسف في الحديد بسبب إسلامه ، قام له أبوه سهل بن عمرو رئيس وفد كفار قريش وضرب وجهه ، وأخذ بتلبيبه ويجره ليمنعه من الوصول إلى معسكر المسلمين ، فاستغاث أبو جندل بالمسلمين وصار (يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَأُرَدّ إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونِي فِي دِينِي ؟
فَزَادَ ذَلِكَ النّاسَ إلَى مَا بِهِمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ ، فَإِنّ اللّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ، إنّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَهْدَ اللّهِ وَإِنّا لَا نَغْدِرُ بِهِمْ) ( ) .
السادس : (عن عبد الله بن عبيدة : أن رجلاً من الأنصار من بني سالم بن عوف كان له ابنان تنصرا قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقدما المدينة في نفر من أهل دينهم يحملون الطعام ، فرآهما أبوهما فانتزعهما وقال : والله لا أدعهما حتى يسلما ، فأبيا أن يسلما ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟
فأنزل الله { لا إكراه في الدين . . . }( ) الآية . فخلى سبيلهما) ( ).
ورد عن قتادة والضحاك بن مزاحم أن الآية غيرمنسوخة إذ قالا (هذه الآية محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية ويؤدونها عن يد صغرة ، أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقاتل العرب أهل الأوثان لا يقبل منهم إلا لا إله إلا الله أو السيف ، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية ، ونزلت فيهم { لا إكراه في الدين }( ) .) ( ).
وعلى مذهب مالك أن الجزية تقبل من غير المسلم مطلقاً ، فتشمل أهل الكتاب ، وتشمل كل كافر عدا قريش .
والآية مطلقة سواء اقترنت بالجزية أو لم تقترن ، فلا ملازمة بينهما ، وعدم الملازمة من إعجاز القرآن وملائمته لكل وقت .
ونسب النسخ إلى ابن مسعود، قال الثعلبي (قال ابن مسعود وابن زيد: أنّها منسوخة بآية السيف، وقال الباقون : هي محكمة) ( ) (عن أبي هلال عن أُسَق قال: كنت في دينهم مملوكًا نصرانيًا لعمر بن الخطاب فكان يعرض علي الإسلام فآبى فيقول: { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ويقول: يا أُسَق لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين.) ( ).
أي يوليه بعض الأمصار ويدل الخبر على عمل الصحابة بمضمون الآية حتى بعد مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا ، وأنها غير منسوخة ، ولو دار الأمر بين قول وفعل الصحابي وقول التابعي : مجاهد أو ابن زيد ، فيؤخذ بقول الصحابي .
كما ورد عن مجاهد نفسه ما يدل على عدم النسخ ، قال (كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة فثبتوا على دينهم ، فلما جاء الإِسلام أراد أهلوهم أن يكرهوهم على الإِسلام ، فنزلت {لا إكراه في الدين}( ))( ).
وورد قوله تعالى [لا إكراه في الدين] ( ) بصيغة الجملة الخبرية ، وفيه وجوه منها :
الوجه الأول : الأمر من الله عز وجل وفيه وأمور :
الأول : إرادة الأمر للمسلمين وتقدير الآية : لا تكرهوا فرداً أو جماعة أو أهل بلدة من أهل الكتاب على الإسلام .
الثاني : زجر الناس عن حمل المسلم على الإرتداد ، ليكون من إعجاز القرآن تأديب كفار قريش ومنعهم من الإصرار على إرتداد بعض المسلمين .
ليكون من إعجاز الآية مجيؤها بتأديب الناس ، وإن كان بين طوائف منهم تضاد ، وكأنه من السبر والتقسيم ، فتهدي الآية المسلمين لما هو أنفع لهم وللناس ، وتزجر المشركين عن التعدي والظلم للذات والغير .
الثالث : الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى [قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ] ( ) وتجلي دلائل الإيمان وإقامة الحجة على الناس .
الرابع : بيان فضل الله على الناس في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول آيات القرآن وإدراك الناس أموراً :
أولاً : قانون الإيمان طريق السعادة الأبدية ، قال تعالى [يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ).
ثانياً : الكفر مجلبة للأذى في الدنيا ، والشقاوة في الآخرة .
ثالثاً : الملازمة بين الإيمان والرشد ، والملازمة بين الكفر والغىّ .
الوجه الثاني : تعدد الأمر ليشمل العفو والصفح , ومن خصائص هذا التعدد أنه ينزع الكدورة والضغائن عن النفوس .
الوجه الثالث : صبغة العموم , من جهات :
الأولى : المخاطبون بالأمر ، وهم المسلمون والمسلمات.
الثانية : موضوع الأمر وهو العفو والصفح من غير تقييد بشرط.
الثالثة : الإطلاق الزماني واتخاذ أجيال المسلمين العفو والصفح سجية ثابتة ، وصفة يعرفون بها في الدنيا والآخرة.
الرابعة : الذين يُعفى ويُصفح عنهم ، فصحيح أن موضوع الآية هم أهل الكتاب إلا أن العفو وترك المؤاخذة والعقوبة شامل لهم ولغيرهم ، قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ).
الوجه الرابع : إفادة الخبر ، وهو الأصل في منطوق الآية ، فحمل الآية على الأمر لا يمنع من بقائها على ذات الخبر .
قانون لحاظ عموم الآية في النسخ
نبين هنا مسألة وهي هل يلزم عند النظر في نسخ شطر من آية لحاظ مضامين الآية كلها ، الجواب نعم ، مع بيان موضع الشطر الذي يقال أنه منسوخ بالنسبة لعموم كلمات الآية ، وقد ورد قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] ( ) في أول آية البحث وبعد آية الكرسي (عن أُبيّ بن كعب قال : سألني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا أبا المنذر أي آية في كتاب الله عزّ وجلّ أعظم؟
قلت : الله ورسوله أعلم.
قالها ثلاثاً ثم سألني .
فقلت : الله ورسوله أعلم .
ثم سألني فقلت : الله لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم .
فضرب في صدري ثم قال : هنيئاً لك العلم يا أبا المنذر والذي نفسي بيده إنّ لها لساناً تقدّس الملك عند ساق العرش) ( ).
فقد يدل الجمع بين كلمات ومضامين الآية على النسخ أو عدمه ، ومن فضل الله عز وجل أسست في هذا السِفر باباً مستقلاً باسم (الصلة بين أول وآخر الآية ) وهو علم مستحدث تستقرأ منه مسائل متعددة ، منها ما يخص مسألة النسخ .
وقد تضمنت أجزاء هذا السِفر المبارك إلى الآن تفسير سورة الفاتحة والبقرة وآل عمران ، وأكثر الأجزاء جاءت باختصاص كل واحد منها بتفسير آية واحدة من القرآن ، ومنها ما ورد أكثر من جزء في تفسيرها مثل:
الأولى : قوله تعالى [ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) فقد جاءت أربعة أجزاء في تفسيرها وهي الأجزاء (89-90-91-92).
الثانية :قوله تعالى [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] ( ) جاءت في تفسيرها ثلاث أجزاء وهي (96-97-98).
الثالثة :قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) جاءت في تفسيرها خمسة أجزاء وهي (101-102-103-104-105).
الرابعة : قوله تعالى [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ( ) جاء في تفسيرها جزءان هما (107-108).
الخامسة :قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) جاء في تفسيرها جزءان هما (152-153).
كما صدرت أجزاء في الصلة بين آيتين متجاورتين , قد تقدم ذكر عدد منها في المقدمة :
ويستحضر هذا العلم المستحدث في باب نسخ شطر من آية بأن يلحظ تمام الآية والآية السابقة واللاحقة لها ، فجاء قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ]( ) بعد آية الكرسي التي هي من آيات التوحيد وبيان عظيم قدرة الله ، وسعة سلطانه وإحاطته علماً بكل شئ ، وحفظه لعالم الأكوان بمشيئته من غير عناء أو مشقة أو ثقل عليه سبحانه ، لبيان تعالي الله عز وجل عن الأمثال بالنسبة للخلائق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ] ( ).
فبعدها أن ابتدأت آية البحث بالجملة الخبرية [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ]( ) جملة وجاء بعدها حرف عطف ، وهو الفاء مع اسم شرط جازم [فَمَنْ يَكْفُرْ ..]مما يدل على التداخل في الموضوع والمعنى بين الجزء الذي يقال أنه منسوخ وبقية كلمات الآية لما في الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه من المعاني والدلالات ، ومنه استبانة وانكشاف قوانين وتشريعات للناس ، كل فرد منها معجزة ذاتية وغيرية للقرآن وهي :
الأول : قانون الإيمان رشد .
الثاني : قانون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق وصدق .
الثالث : قانون : الكفر غيّ وضلالة .
الرابع : قانون عدم الحاجة لإكراه الناس لدخول الإسلام .
الخامس : قانون ثبات مبادئ الإسلام في المجتمعات .
السادس : قانون بلوغ عامة الناس رتبة التمييز بين الإيمان ومنافعه ، والكفر والضلالة .
لقد جاهد الأنبياء لبلوغ الناس هذه المرتبة التي هي فيصل وسبيل صلاح للناس ، كل نبي يتمم جهاد وسعي وتبليغ النبي السابق إلى أن بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً فأتمها إلا لبنة واحدة ، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة) ( ).
السابع : عصمة المسلمين من الإرتداد ، وهذه العصمة من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
الثامن : قانون البشارة للمسلمين بعجز الكفار عن إكراههم على الإرتداد ، وهي أيضاً بشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببلوغ أمته مرتبة البقاء على الإيمان ، وتوارثه ، وفيه بعث للرحمة في القلوب ، ومنع من البطش بالذين كفروا أو الهمّ باستئصالهم وقتلهم .
فمن معاني عدم النسخ في قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] ( ) أنها بشارة ورحمة ، ومن خصائص آيات البشارة ولرحمة بقاء موضوعها وحكمها وعدم طرو النسخ عليها ، فهي فضل ونعمة متجددة من عند الله، تبعث السكينة في النفوس .
وتكشف آية البحث عن حقيقة وهي أن العرب لم يكن لهم دين ، فيقسم الناس إلى أقسام :
الأول : المشركون العرب وهم ليس لهم دين ، لذا فان المشركين كانوا يسعون لإرتداد المسلم إلى الغي واللادين .
الثاني : شريعة الإسلام التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن ، قال تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( ) .
الثالث : أهل الكتاب من اليهود والنصارى والمجوس ونحوهم ، فلا يصح إكراههم على أحد أمرين وهما :
الأول : ترك دينهم .
الثاني : الإنتماء للإسلام .
ويدل على هذا الحكم قبول الجزية منهم لأن معناها بقاؤهم على ملتهم ، والذب والدفاع عنهم.
وإن قلت لماذا أضفت أعلاه (ونحوهم ) الجواب لانتشار الإسلام ، ولتعدد ملل أهل الأرض ، فينظر من كان يقول بالتوحيد ويصدق بالنبوة والتنزيل فانه يلحق بأهل الكتاب في الحكم من جهة المعاملة والحكم .
وإن قيل أن الآية تخص أهل الكتاب ، ولا تشمل الكفار الذين وردت آية السيف بخصوصهم وهي [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
الجواب القدر المتيقن من آية السيف هو خصوص المشركين في مكة وما حولها في ذات السنة التي نزلت فيها آية السيف وهي السنة التاسعة للهجرة لإقامة الحجة على المشركين في مكة ، وأنه ليس لهم ذمة أو عهد ، بخلاف أهل الكتاب فان الذمة والعهد معهما باقيان ، إذ أن الجامع المشترك بينهم وبين المسلمين هو التوحيد والإقرار بالنبوة والتنزيل والوحي للأنبياء من عند الله عز وجل ، قال تعالى [تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ]( ).
ويمكن أن نؤسس قانوناً في المقام ، وهو :
قانون حمل الخبر على الأمر لا يمنع من بقاء الأصل
وهذا القانون مستحدث في علم التأويل ويدل على أمور :
الأول : تعدد معاني اللفظ القرآني (عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاث تحت العرش : القرآن له ظهر وبطن يحاج العباد ، والرحم تنادي صل من وصلني واقطع من قطعني، والأمانة) ( ).
الثاني : بقاء الآية غضة طرية ، وحضورها في الوجود الذهني وميدان العمل كل يوم ، ليكون هذا الحضور مرآة لتلاوة المسلمين والمسلمات لها في الصلاة اليومية ، وهذا البقاء من مصاديق قوله تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ) وقوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ).
الثالث : تعدد معاني الآية القرآنية ودلالتها والغايات الحميدة منها ، وكل فرد منها متصل ومتجدد إلى يوم القيامة .
الرابع : حمل الخبر القرآني على الأمر مع مناسبة الموضوع والحكم كما في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) فلم تأت الآية بلفظ : كتب الله على الناس حج البيت أو حجوا البيت الحرام .
ومن إعجاز القرآن الذاتي مجئ الأمر والإنشاء بصيغة الخبر ، ومن إعجازه الغيري فهم المسلمين لهذا المعنى ، وتلقي الخبر بالإمتثال ، ومنه أن هذه المسألة من مسائل علم الأصول مما يلزم الفقهاء وعلماء الأصول استنباطها ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] ( ) .
ولكن المسلمين والمسلمات يعلمونها بالفطرة وملكة التفقه التي تكونت عندهم ببركة القرآن والسنة والتلاوة اليومية للقرآن على نحو الوجوب العيني على كل مكلف ومكلفة .
ويعرّف الخبر بأنه ما يمكن أن يوصف بالصدق أو الكذب لذاته ، ولابد من ذكر الإستثناء بأن خبر القرآن والسنة لا يستلزم إلا الصدق والحق، وفي التنزيل ،قال تعالى [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً] ( ).
وهناك من الإخبار ما لا يوصف إلا بالكذب مثل القول بطلوع الشمس في الليل ، أو اجتماع النقيضين أو ادعاء النبوة بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
أما الإنشاء فهو لا يوصف بالصدق أو الكذب لأن موضوعه أجنبي عن مثل هذه الوصف مثل الأمر والنهي .
وقد يأتي الإنشاء فرع الخبر والشرط كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ…] ( ) وقد يأتي في القرآن الإنشاء ويحمل على الخبر مع بقاء موضوع وصيغة الإنشاء على حالها .
ومن أمثلة الخبر المحمول على الإنشاء في القرآن :
الأول : قوله تعالى [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ] ( ) لبيان حق المرأة برضاعة ابنها وإن كانت مطلقة ، وأن عليها أن ترضعه ، ولا تسخط بسبب خلافها ، فتحجب لبنها عن ابنها .
وهو من إعجاز القرآن في إصلاح الأسرة ، وإعداد الأبناء لحياة طيبة وسليمة .
الثاني : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنْ الآثِمِينَ]( ) .
وجاء الخبر باشهاد شاهدين على الوصية ويتضمن الأمر بالإشهاد إذا ظهرت علامات الموت على الإنسان مع شرط العدالة في الشاهدين.
الثالث : قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا]( )، لبيان وجوب الحمد والشكر لله من جهات :
الأولى : نعمة نزول القرآن.
الثانية : إختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول القرآن على صدره ، فلم ينزل على أحد قبله أو بعده.
الثالثة : سلامة القرآن من الإختلاف أو التضاد أو التعارض بين آياته ، وقال ابن عباس : معناه ولم يجعله مخلوقاً( ).
وهذا بعيد ، والحديث ضعيف سنداً ودلالة ، فلم تكن فتنة خلق القرآن موجودة أيام ابن عباس ، ولم يستدل به في هذه الخصومة , ولم يقل أحد من الأصوليين بالإستصحاب القهقري .
الرابعة : تلاوة ذات الآية اعلاه من سورة الكهف من الشكر والحمد لله ، ليكون من أسرار مجئ الأمر بصيغة الخبر في القرآن تعدد الأوامر بذات الخبر الواحد من غير أن يغادر معنى الخبر.
الرابع : قوله تعالى [وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا]( )، لتتضمن الآية الأمر باتيان الفرائض العبادية ، وعمل الصالحات ، وعن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : استكثروا من الباقيات الصالحات .
قيل : وما هن يا رسول الله؟ قال : التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن مردويه ، عن النعمان بن بشير : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ألا وأن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر من الباقيات الصالحات( ).
الخامس : قوله تعالى [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ]( )، وفي الآية حث على فعل وجني الحسنات وفي السنة بيان للمراد من الحسنات وهو أداء الفرائض العبادية .
( عن بريدة قال : جاءت امرأة من الأنصار إلى رجل يبيع التمر بالمدينة وكانت امرأة حسناء جميلة ، فلما نظر إليها أعجبته وقال : ما أرى عندي ما أرضى لك ههنا ، ولكن في البيت حاجتك ، فأنطلقت معه حتى إذا دخلت راودها على نفسها فأبت ، وجعلت تناشده فأصاب منها من غير أن يكون أفضى إليها .
فانطلق الرجل وندم على ما صنع حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره فقال : ما حملك على ذلك؟
قال : الشيطان .
فقال له : صل معنا ، ونزل {وأقم الصلاة طرفي النهار}( )يقول : صلاة الغداة والظهر والعصر {وزلفاً من الليل} المغرب والعشاء {إن الحسنات يذهبن السيئات}( ).
فقال الناس : يا رسول الله لهذا خاصة أم للناس عامة؟
قال : بل هي للناس عامة)( ).
وهو لايمنع من إرادة فعل الحسنات لأن المدار على عموم المعنى وليس على سبب النزول ويدل الحديث أعلاه على أن الصلاة أعظم فعل لجني الحسنات التي يمحو الله بها السيئات .
وهناك آيات كثيرة وردت بصيغة الجملة الخبرية ولكنها تفيد الأمر أيضاً وما نبينه هنا أن إرادة معنى الأمر والإمتثال في الجملة الخبرية ليس بديلاً عن قصد الخبر فيها ، وهو من الإعجاز في امكان اجتماع المتضادين مع وجود الدليل ، وقد يدفعه أن النسبة بين الخبر والإنشاء ليست من التضاد ، إنما هو تقسيم استقرائي للجملة.
السادس : قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]( )، أي يجب على المسلمين إظهار الإيمان بالله بالأفعال العبادية والتحلي بالأخلاق الفاضلة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وهل يمكن القول أن الخبر الوارد في القرآن ويراد منه الإنشاء تجده بذات صيغة الإنشاء في آية قرآنية أخرى ، أو ما يدل على هذه الصيغة ، الجواب نعم ، فبالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تشير إليه الآية أعلاه ورد قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( )، أو يرد حديث نبوي يبين الإنشاء في صيغة الخبر الواردة في القرآن ، فمثلاً قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ) .
فقد قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار .
وورد عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً( ).
السابع : قوله تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( )، أي تعاهدوا المناسك ومعالم الإيمان ولا تستحلوا ترك بعضها كما قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
والشعائر : جمع شعيرة ، والمراد منها ما جعله الله علماً لطاعته.
الثامن : قوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( )، ورد عن جابر قال : لما دنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الصّفا في حجّته قال : إنّ الصفا والمروة من شعائر الله إبدءوا بما بدء الله به فبدأ بالصّفا فرقى عليه حتّى رأى البيت ثمّ مشى حتّى إذا تصوّبت قدماه في الوادي سعى( ).
وبالنسبة للسنة النبوية قد يرد الحديث بصيغة الجملة الخبرية ولكنه يتضمن الأمر ، وعن سهل بن حنيف قال : اهوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده إلى المدينة فقال انها حرم آمن( ).
ويحمل على الأمر بصيغة الخبر.
وعن قتادة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم توضأ ثم صلى بأرض سعد بأرض الحرة عند بيوت السقيا ، ثم قال : اللهم إن إبراهيم خليلك وعبدك ونبيك دعاك لأهل مكة ، وأنا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة مثل ما دعاك إبراهيم بمكة ، أدعوك أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم وثمارهم .
اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة واجعل ما بها من وراء خم ، اللهم إني حرمت ما بين لابتيها , كما حرمت على لسان إبراهيم الحرم ( ).
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : من لم يسأل الله يغضب عليه( ).
أي اسألوا الله عز وجل من فضله ، وتوجهوا إليه في حوائجكم إنما خلقكم لتسألوه فينعم عليكم ، وفي التنزيل [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ]( ).
وعن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافاً وصبر على ذلك( ).
وفيه أمر بالصبر على الرزق القليل وعدم التفريط بالفرائض والعبادات، وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ويل وادٍ في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره( ).
وفيه حضّ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس بالتنزه عن الكفر، والجحود بالربوبية والتنزيل فهو نهي بصيغة الجملة الخبرية وبيان .
ولا بأس بحصر أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الخبر والتي تحمل صفة الإنشاء , والبعث على الفعل أو الزجر عنه في مجلدات خاصة , مع بيان معانيها ودلالتها .
التاسع : قوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ] ( ) أي عدة التي يطلقها زوجها ان تمكث ثلاث حيضات من غير تُنكح ، وبعدها لها أن تتزوج .
وقوله تعالى [وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا] ( ) أي اجعلوا البيت الحرام أمناً وسلاماً لمن يدخله فلا يؤذى ولا يسفك دمه لقدسية البيت ووجوب تعظيمه ، فالآية خبر في لفظها ، ولكنها تحمل معنى الإنشاء وصيغة الأمر والطلب.
وهذا المعنى لا يتعارض مع صيغة الخبر الواردة في القرآن .
وكما في قوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ..] ( ) فان الخبر يحمل على وجوب السعي بينهما ، وهو مشهور المسلمين ، والمختار ، ولكن هذا المعنى لا يلغي معاني ودلالات صيغة الخبر في الآية .
ومنها إرادة ذات موضع الصفا وموضع المروة ، وهو من الإعجاز ببيان قدسية الموضع ومجاورته للبيت ، ولا تتم المناسك إلا بالسعي بينهما ، وإذا كان ذات موضع الصفا والمروة من شعائر الله فان البيت الحرام من الشعائر من باب الأولوية القطعية .
ونبين في هذا القانون إعجازاً للقرآن وهو نقل الخبر إلى الأمر لا يزيح الخبر ودلالاته ، فيحمل ذات اللفظ معنى الخبر والإنشاء .
قانون التعاضد بين آيات الوجوب
من إعجاز القرآن تعضيد الواجب الوارد بجملة خبرية بأمور :
أولاً : ذات الآية القرآنية بأن تتضمن ما يدل على الوجوب ، كما في آية الحج أعلاه [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ).
ثانياً : مجئ آيات قرآنية أخرى تعضد الوجوب الوارد في الآية ، وآيات الحج تدل على الوجوب وتشير إليه ، وهل يمكن القول بأن الجمع والتعضيد بين آيات موضوع مخصوص يجعله واجباً أو محرماً ، الجواب لا دليل عليه ، فلابد من دليل على الوجوب أو الحرمة ، ومن هذه الآيات :
الأولى : قوله تعالى [وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ…] ( ) .
الثانية : قوله تعالى [فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ..]( ).
الثالثة : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ..]( ).
ثالثاً : مجئ السنة النبوية القولية والفعلية ببيان وجوب الحج عن (سلمة بن شبيب قال : أنا عبد الرزاق قال : أنا عبد الله بن عيسى ، عن محمد بن أبي محمد ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : حجوا قبل أن لا تحجوا قالوا : وما شأن الحج يا رسول الله ؟ قال : تقعد أعرابها على أذناب( ) ، شعابها ، ولا يصل إلى الحج أحد) ( ).
عن الإمام علي عليه السلام (وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ فَقَالَ هَذَا الْمَوْقِفُ وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ثُمَّ أَرْدَفَ أُسَامَةَ فَجَعَلَ يُعْنِقُ عَلَى نَاقَتِهِ وَالنَّاسُ يَضْرِبُونَ الْإِبِلَ يَمِينًا وَشِمَالًا لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ وَيَقُولُ السَّكِينَةَ أَيُّهَا النَّاسُ وَدَفَعَ حِينَ غَابَتْ الشَّمْسُ فَأَتَى جَمْعًا( ) فَصَلَّى بِهَا الصَّلَاتَيْنِ يَعْنِي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ثُمَّ بَاتَ بِهَا.
فَلَمَّا أَصْبَحَ وَقَفَ عَلَى قُزَحَ فَقَالَ هَذَا قُزَحُ وَهُوَ الْمَوْقِفُ وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ .
قَالَ ثُمَّ سَارَ فَلَمَّا أَتَى مُحَسِّرًا قَرَعَهَا فَخَبَّتْ حَتَّى جَازَ الْوَادِيَ ثُمَّ حَبَسَهَا وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا ثُمَّ أَتَى الْمَنْحَرَ فَقَالَ هَذَا الْمَنْحَرُ وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ
ثُمَّ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ شَابَّةٌ مِنْ خَثْعَمَ فَقَالَتْ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ قَدْ أَفْنَدَ وَقَدْ أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ فَهَلْ يُجْزِئُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ فَأَدِّي عَنْ أَبِيكِ.
قَالَ وَلَوَى عُنُقَ الْفَضْلِ فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكَ قَالَ رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً فَخِفْتُ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا.
قَالَ وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ أَفَضْتُ قَبْلَ أَنْ أَحْلِقَ قَالَ فَاحْلِقْ أَوْ قَصِّرْ وَلَا حَرَجَ قَالَ وَأَتَى زَمْزَمَ فَقَالَ
يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ سِقَايَتَكُمْ لَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَيْهَا لَنَزَعْتُ) ( ).
(عن الحارث بن سويد قال : سمعت عليا يقول : حجوا قبل أن لا تحجوا ، فكأني أنظر إلى الحبش فوق الكعبة بأيديهم معاول يهدمونها حجرا حجرا ، قال : قلنا : أشيء تقوله برأيك ؟ .
فقال : لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما سمعته إلا من نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
إذ جاء خبر الحج في الآية بين أحكام تدل على الوجوب ، وقد ابتدأت الآية بأن في البيت بينات ودلائل قاهرة ، ومعجزات واضحات تدل على قدسيته ، وتبعث الرغبة في النفوس لحجه منها :
الأولى : مقام إبراهيم الذي صعد عليه عند بناء البيت ، وقد ورد ذكره في ذات آية الحج ، وكلما ارتفع البناء صعد به المقام .
الثانية : عدم علو الطير على سقف وفضاء الكعبة .
الثالثة : نبع بئر زمزم في هذه الأرض الجرداء (بهمز جبريل بعقبه) ( ) ونفع مائها لما شرب له من النوايا والغايات .
الرابعة : الأمن لمن دخل البيت ، وهذا الحكم من أيام إبراهيم عليه السلام ، وجاء الإسلام وأمضاه إلا من ثبت عليه حدّ أو قصاص ودخل البيت فانه يضيق عليه ولا يطعم ولا يباع أو يشترى منه حتى يخرج ، وهذا المعنى لا يتعارض مع إرادة الأمن في الآخرة لمن حج البيت .
الخامسة : توجه المسلمين من مشارق ومغارب الأرض إلى البيت الحرام عند الصلاة آية يومية متجددة ، قال تعالى [وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ] ( ) .
السادسة : وجوب حج البيت الحرام ، وتعاهد المسلمين كل عام لهذا الوجوب بالإمتثال حتى ورد في موضوع تسمية بكة بقوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ) هو تزاحم وتدافع الناس وبكاؤهم في الحج .
السابعة : من الآيات ما يتصف به وفد الحاج ومنه :
أولاً : حسن الخلق والتنزه عن العادات المذمومة ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
ثانياً : الإحرام للحج من الميقات , وإرتداء لباس الإحرام الذي هو عنوان الزهد والعزوف عن الدنيا وزينتها ، ومن لطف الله ان هذا العزوف مؤقتاً وما دامياَ ، إذ أنه محصور في مدته بأيام الحج ولكنه موعظة ومدرسة تنبسط رشحاتها على أيام السنة كلها ، وهو من معاني قوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ] ويختص الإحرام بأيام الحج المعدودة .
ثالثاً : قيام كل حاج ذكراً أو أنثى بالتلبيات الأربعة ، وتكرارها (لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ).
وآية البحث [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] ( ) جاءت بصيغة الجملة الخبرية ، وتحمل على معنى الأمر أيضاً .
ترى لماذا لم تأت الآية بصيغة الأمر ، الجواب من وجوه :
إرادة العموم في الأمر ، وتقدير الآية على جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا لا تكرهوا أحداً على الإيمان والملة والطريق، إذ أن معنى الدين يشمل الملة والطريق والنهج ، فان قلت قد ورد قوله تعالى في آية السيف [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) .
الجواب هذا خاص بمشركي مكة وما حولها ، لبيان وجوب تنزيه مكة من الشرك وما يصاحبها من الإغارة على المدينة ، وإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولو بقى الشرك سائداً في الجزيرة وولاية البيت الحرام بيد المشركين بعد انتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، فلا يعلم ما سيفعلون بالمهاجرين والأنصار إلا الله عز وجل ولساد الظلم في الجزيرة وحرفت مناسك الحج ، لبيان قانون من الإرادة التكوينية في استئصال الظلم وعدم استدامته ، وفي التنزيل [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ] ( ) .
الثانية : يا أهل الكتاب لا تكرهوا أحداً على دينكم , وأهل الكتاب أتباع الأنبياء ، ومن نهج الأنبياء عدم إكراه أحد على الدين والملة مع أنهم على الحق والهدى ، وأنهم مبعوثون من الله لجذب الناس إلى الإيمان وسبل السلام .
الثالثة : يا أيها الكفار لا تكرهوا مسلماً على الإرتداد .
وذكرت في الآية أقوال :
الأول : (قال الزهري : سألت زيد بن أسلم عن قوله تعالى : { لا إكراه في الدين }( ) فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحد في الدين ، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم ، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له ، قال الطبري والآية منسوخة في هذا القول) ( ).
الثاني : (قال القاضي أبو محمد عبد الحق: ويلزم على هذا ، أن الآية مكية ، وأنها من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف) ( ) والنقاش في الكبرى ، فلا دليل على نسخ آية السيف لآيات الموادعة .
الثالث : (قال قتادة والضحاك بن مزاحم : هذه الآية محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية) ( ).
الرابع : و(على مذهب مالك في أن الجزية تقبل من كل كافر سوى قريش أي نوع كان ، فتجيء الآية خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس كلهم لا يقف ذلك على أهل الكتاب كما قال قتادة والضحاك) ( ).
وكون الآية مدنية له دلالات منها :
الأولى : صيرورة الإسلام في حال عز ومنعة , يستطيعون معها دفع غزوات المشركين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
الثانية : بيان منهاج العمل مع أهل الكتاب ، ومنهم :
الأول : يهود المدينة من بني النضير وبني قينقاع وبني قريظة .
الثاني : يهود اليمن وقد أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل من حالم دينارا مع العفو عن النساء والصبيان والرهبان والشيوخ .
الثالث : نصارى نجران الذين وفدوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة فاكرمهم ، ولم يكرههم على ترك دينهم ،(وكانوا ستين راكباً قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلَّم وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم.
وفي الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم العاقب.
وهو أميرهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدَّرون عن رأيه.
واسمهُ عبد المسيح. والسيَّد (عالمهم) وصاحب رحلهم واسمه (الأيْهم ويقال : شرحبيل) وأبو حارثة بن علقمة الذي يعتبر حبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم.
وكان قد شرف فيهم ودرَّس كهنتهم من حسن عمله في دينهم .
وكانت ملوك الروم قد شرّفوه (وموّلوه وبنو له) الكنائس لعلمه واجتهاده. فقدموا على رسول اللّه المدينة ودخلوا مسجدهُ حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرة وأردية مكفوفة بالحديد.
في جمال رجال بلحرث بن كعب.
يقول بعض مَن رآهم من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلَّم : ما رأينا وفداً مثلهم.
وقد حانت صلاتهم فقاموا وصلَّوا في مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلَّم وصلَّوا الى المشرق .
فكلَّم السيد والعاقب رسول اللّه. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلَّم : أسلمنا. قالا : قد أسلمنا قبلك.
قال : كذبتما؛ يمنعكما من الإسلام (ادَّعاءكما) لله ولداً.
وعبادتكما الصليب .
وأكلكما الخنزير .
قالا : إن لم يكن ولد لله فمن (أبيه) وخاصموه جميعاً في عيسى عليه السلام، فقال لهما النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : (إنّه لا يكون ولد إلاّ وشبه أباه. قالوا : بلى، قال : ألستم) تعلمون أن ربَّنا حيٌ لا يموت وإنَّ عيسى يأتي عليه الفناء .
قالوا : بلى.
قال : ألستم تعلمون أنَّ ربَّنا قيّم على كل شيء يحفظه ويرزقه.
قالوا : بلى.
قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئاً.
قالوا : لا.
قال : ألستم تعلمون إن اللّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
قالوا : بلى.
قال : فهل يعلم عيسى من ذلك إلاّ ما عُلَّم.
قالوا : لا.
قال : فإنّ ربَّنا صوَّر عيسى في الرحم كيف شاء وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث.
قالوا : بلى قال : ألستم تعلمون إنّ عيسى حملتهُ أمهُ كما تحمل المرأة،
ثم وضعتهُ كما تضع المرأة حملها.
ثم غذي كما يغذى الصبي.
وكان يُطعم ويشرب ويُحدث.
قالوا : بلى. قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم.
فسكتوا.
فأنزل اللّه تعالى فيهم صدر سورة آل عمران الى بضع وثمانين آية منها)( ).
الرابع : بلاد الروم ، وكانت ديانتهم النصرانية .
الخامس : بلاد فارس ، وكانوا يدينون بالمجوسية ، وكان بعض أهل هجر على المجوسية ، وعن الزهري (قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجزية من مجوس أهل هجر ، ومن يهود اليمن ونصاراهم من كل حالم دينار) ( ) .
و(لم يأخذ عمر الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذها من مجوس هجر) ( ).
ومن مصاديق آية البحث ما ورد عن ابن عباس في قوله تعالى [وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ..] ( ).
(نزلت في رؤوس يهود أهل المدينة كعب بن الأشرف ومالك بن المصيف ووهب بن يهودا وأبي ياسر بن أخطب وفي نصارى أهل نجران : السيّد والعاقب وأصحابهما وذلك إنّهم خاصموا المسلمين في الدين كلّ فرقة تزعم إنّها أحقّ بدين الله من غيرها فقالت اليهود ديننا خير الأديان ونبيّناً موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمّد والقرآن.
وقالت النصارى : نبينّا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الأنجيل أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفرت بمحمّد والقرآن.
وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين كونوا على ديننا فلا دين إلاّ ذلك دعوهم إلى دينهم إلا الحنيفية. فقال الله تعالى : قل يا محمّد {بَلْ مِلَّةَ} أي بل نتبع ملّة {إِبْرَاهِمَ})( ).
والإكراه هو حمل الشخص على فعل لا يرضى به أو لا يرى فيه الخير وفق اعتقاده أو حساباته .
ومعنى قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] ( ) على وجوه :
الأول : بيان قانون من الإرادة التكوينية ، وهو لا يُكره أحد على دينه ، فقد يتساءل بعض المسلمين إن قلوب العباد بيد الله عز وجل يقلبها كيف يشاء ، فلماذا لا يحمل الناس على دخول الإسلام ، وتتنزه الأرض عن قتال المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فالحرب أذى وشر وسفك للدماء .
فجاء الجواب من عند الله عز وجل بقانون وهو أن الله سبحانه جعل الدنيا دار امتحان واختبار وابتلاء ، وفي التنزيل [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ]( ).
وهل تعني الآية أن الله لا يكره أحداً على دينه , الجواب لا , إنما يتعلق موضوع الآية فيما يخص إكراه الناس بعضهم لبعض , ولبيان أن الدين اعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح , وليس من سلطان لأحد على قلب غيره .
وقد يفوز إنسان بإكراه الله له بجذبه لمنازل الإيمان , وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثاني : قانون لا يقدر المشركون على إكراه المسلم على ترك دينه ، إذ أن الدين اعتقاد في القلب ، لذا قال سبحانه [إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ] ( ) لتتجلى مصاديق فعلية من قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) بصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الكفار ودعوتهم إلى الإيمان بالموعظة والحجة والبرهان ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
الثالث : لا إكراه للنصارى واليهود على ترك دينهم إنما يعطون الجزية من أجل حمايتهم وأموالهم والذب عنهم ، خاصة وأن مشركي قريش كانوا يبذلون الوسع لإستباحة المدينة ، فيوضع دينار الجزية الذي يؤخذ عن كل فرد من اليهود في الدفاع عنه وعن عياله وعن ماله ، فلو دخل المشركون المدينة في معركة أحد أو حصار الخندق لما تركوا محال وأسواق اليهود على حالها ، خاصة وأن بعضها كانت محلات صياغة للذهب والفضة.
الآية الثانية عشرة : قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] ( ).
وقد تقدم الكلام بخصوص هذه الآية ، وذكر أنها منسوخة بآية قرآنية ، وبحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا وصية لوارث .
والمختار أن السنة لا تنسخ آيات القرآن، ولادليل على هذا النسخ ، ثم على الذين يقولون بنسخ السنة للقرآن إحصاء وجمع الآيات التي نسختها السنة كي يتم التحقيق فيها ، ولو دار الأمر بين كون الآية منسوخة بالسنة أو أن السنة لم تنسخها فالأصل هو الثاني .
والقول بهذا النسخ هو نسخ حكم شرعي ببيان الفرائض وأحكام الأرض ، وكان العرب في الجاهلية يقدمون ذوي الجاه والشأن تقرباً وتزلفاً إليهم ، فأمر الله عز وجل المسلم بتقديم البر بالوالدين والإحسان لذوي القربى عند الوصية.
وذكر الله تعالى أن هذه الوصية واجب على المتقين ، فهي من علامات الخشية من الله عز وجل.
ويحتمل النسخ في آية البحث وجوهاً :
الأول : الآية منسوخة ، والناسخ على جهتين :
الأولى : آية المواريث .
الثانية : ما ورد عن عمرو بن خارجة قال : كنت عند جران( ) ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنها لتقصع بجرتها ، وإن لعابها ليسيل على كتفي ، فسمعته يقول وهو يخطب بالناس : إن الله عز وجل قد أعطى كل ذي حق حقه ، وإنه ليس لوارث وصية ، الولد للفراش ، وللعاهر الحجر ، من انتمى إلى غير من أنعم عليه أو ادعى إلى غير أبيه فعليه لعنة الله تعالى ، والملائكة ، والناس أجمعين ، لا يقبل الله تعالى منه صرفا ولا عدلا( ).
وعن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجوز الوصية لوارث الا ان شاء الورثة.
وعطاء هذا هو الخراساني لم يدرك ابن عباس ولم يره , قاله أبو داود السجستانى وغيره( ).
والمختار أن السنة لا تنسخ القرآن ، وعلى فرض قول النبي هذا فانه يحمل على البيان والتفسير وليس النسخ.
الثاني : هذه الآية غير منسوخة.
الثالث : صيرورة الوصية للوالدين مندوبة ، فلا نسخ للآية( ).
وهناك أقوال :
الأول : عن محمد بن سيرين قال :خطب ابن عباس فقرأ سورة البقرة، فبين ما فيها حتى مرّ على هذه الآية {إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين} فقال : نسخت هذه الآية( ).
الثاني : عن ابن عباس في الوصية ، {للوالدين والأقربين} قال : كان وُلد الرجل يرثونه وللوالدين الوصية ، فنسختها {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون}( )الآية( )، أي صار سهم واجب لكل من الأب والأم.
الثالث : وعن محمد بن مسلم انه سأل الإمام محمد الباقر عليه السلام (عن الوصية تجوز للوارث ، قال: نعم، ثم تلا هذه الآية إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ( ).
الرابع :وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : نسخ من يرث ، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون( ).
الخامس : وعن ابن عباس قال : كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية الأقربين ، فأنزل الله آية الميراث ، فبين ميراث الوالدين ، وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت( ).
السادس : وأخرج وكيع وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عمر . أنه سئل عن هذه الآية {الوصية للوالدين والأقربين} قال : نسختها آية الميراث( ).
السابع : وعن ابن عباس قال : كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس مع الولد ، وجعل للزوجة الثمن والربع ، وللزوج الشطر والربع( ).
وهذا القول قريب من القول الثاني أعلاه.
الثامن : عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال :كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين، قال : هي منسوخة نسختها آية الفرايض التي هي المواريث( ).
التاسع : وأخرج أبو داود في سننه وناسخه والبيهقي عن ابن عباس في قوله { إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين } قال : فكانت الوصية لذلك حين نسختها آية الميراث .
العاشر : عن ابن طاوس عن أبيه قال : كانت الوصية قبلَ الميراث للوالدين والأقربين، فلما نزل الميراث، نَسخ الميراثُ من يرث، وبقي من لا يرث. فمن أوصَى لذي قَرابته لم تجز وصيتُه( )، ولا دليل على عدم نفاذ الوصية في ذوي القربى.
الحادي عشر : قال مجاهد آية [الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ]( )، نسختها [يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ]( ).
والمراد من (الخير) في الآية المال والتركة ، ويفيد الجمع بين الآيتين أن الوالدين صار لهم حق واجب ومقدار مخصوص في التركة وليس وصية وحدها ، وهي من الكلي المشكك فقد تزيد أو تنقص ، أو يخص بها الموصي أحد الوالدين، وقد لا تثبت الوصية ، أو ينكرها بعض الورثة من الأولاد .
أما الوصية للإقربين ممن لا يرثون فتبقى على حالها غير منسوخة.
لقد فرض الله عز وجل للوالدين نصيباً في التركة وهما من المرتبة الأولى ، ولكل منهما السدس مع وجود الولد لقوله تعالى [وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ]( )، قال تعالى [يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ]( )، ولكن من حق الميت أن يوصي في الثلث من ماله فهل يحق له الوصية للوالدين والأبناء والأقربين من هذا الثلث.
والإجماع على أن الوصية يجب ألا تزيد على الثلث.
إن قوله تعالى في خاتمة الآية [حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] شاهد على الوجوب ومن معاني التقوى في الآية الإيمان أي حقاً على المؤمنين.
وقيل في الآية تقديم وتأخير ، وتقديرها : (كتب عليكم الوصية للوالدين والأقربين إذا حضر أحدكم الموت) للنهي عن الوصية للبعيد دون القريب ، وأكثر القائلين بنسخ هذه الآية من التابعين.
ورواه ابن أبي حاتم في حديث مرسل عن ابن عباس ، وقال روي أي النسخ (عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخْعِيِّ، وَشُرَيْحٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَالزُّهْرِيِّ، أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ)( ).
ونسب ابن عبد السلام نسخ وجوب الآية إلى الجمهور ، أي بخصوص الوارث وبقي الوجوب لمن لا يرث من الأقارب.
ويطلق الجمهور على جلّ وأكثر الشيء ، والمراد هو جمهور العلماء أي الأكثر والأغلب منهم ، وهو أقرب لإصطلاح المشهور ومن أسباب الإختلاف أمور :
الأول : تزاحم أو تعارض الأدلة.
الثاني : الإجتهاد في تفسير النصوص .
الثالث : صفة الظنية في المنصرف من النص.
الرابع : خفاء الدليل ، أو الدليل الراجح على بعض العلماء .
الخامس : نهج العالم في تقديم الأولوية ، وإرادة التخفيف أو الإحتياط.
وهل هذا الإختلاف من مصاديق التفرق في قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( )، الجواب لا .
واختلف في المال الذي يوصى منه على وجوه :
الأول : ما قل أو كثر من المال .
الثاني : خمسمائة درهم أو أكثر .
الثالث : ألف درهم ، وكل درهم أكثر من غرامين من الفضة ، وكانت كل عشرة منها تساوي ديناراً ذهبياً واحداً .
ووردت الآية بصيغة الإطلاق في الخير والمال بما يدل على إمكان الوصية بعد إخراج الديون مثلاً لأولوية الدًين ولزوم تقديمه على الوصية ، وإن جاء ذكر الوصية في القرآن مقدماً على الدَين ، قال تعالى [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ]( ).
وإن دلّ قوله تعالى [إِنْ تَرَكَ خَيْرًا] في ظاهره على عدم ترتب الدًين على الميت ، أو أن هذا الخير والمال يبقى بعد إيفاء الديون.
وعن سعد بن أبي وقاص عن أبيه : قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فمرضت مرضاً أشرفت على الموت. فعادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : يارسول الله إنّ لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلاّ بنت لي أُفأُوصي بثلثي مالي.
قال : لا.
قلتُ : فبشطر مالي.
قال : لا.
قلت : بثلث مالي.
قال : نعم الثلث والثلث كثير إنك ياسعد إن تترك ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون النّاس( ).
ويدل الحديث على العموم في الجهة التي يوصى إليها ، وإن كانا والدين ، إلا أن يصرف الأمر إلى قضية عين ، وهو أن والدي سعد بن أبي وقاص كانا ميتين أوان الحديث علماً بأن ولادة سعد بن أبي وقاص كانت سنة 23 ق الهجرة أي كان عمره في حجة الوداع 33 سنة وقيل ولد سنة 27 للهجرة وتوفى سعد سنة 55 للهجرة ودفن بالعقيق في المدينة.
وقال الواقدي : مات سعد بن أبي وقاص سنة ثمان وخمسين( ).
وقد ولاه عمر بن الخطاب على الكوفة ثم عزله عنها بعد أن شكاه أهل الكوفة ، ثم أعاده ثانية ، وقد قيل إن عمر لما أراد أن يعيد سعداً على الكوفة أبى عليه وقال : أتأمرني أن أعود إلى قوم يزعمون أني لا أحسن أن أصلي ، فتركه( ).
وكان نفر من أهل الكوفة شكوا سعداً لعمر بن الخطاب ، فأرسل محمد بن مسلمة وهو صاحب العمال الذي يقتص من شكي ، فقدم على سعد وطاف به في مساجد الكوفة يسألهم عنه ولا يذكرونه بسوء إلى وقوم يسكتون حتى انتهوا إلى أحد المساجد ، فقال محمد (أنشد بالله رجلا يعلم حقا إلا قال ، قال أسامة بن قتادة اللهم إن نشدتنا فإنه لا يقسم بالسوية ولا يعدل في الرعية ولا يغزو في السرية)( ) , أي أن الشكوى لا تتعلق بالصلاة وحدها .
ليكون في قول واعتذار سعد هذا إنذار متقدم زماناً لابنه عمر بن سعد من الخروج أميراً للجيش لقتل الحسين عليه السلام في كربلاء في محرم من السنة الحادية والستين للهجرة (شهر تشرين أول سنة 680م) بعد أن رغّبه عبيد الله بن زياد بحكم الري ، والمراد من الري مدينة طهران وحواليها ، ولم يفي له بوعده , وتسارعت الأحداث , إذ استولى المختار على الكوفة لأربع عشرة من شهر ربيع الأول لسنة 66 هجرية وأخرج عامل عبد الله بن الزبير عبد الله بن مطيع منها , وقتل عددا من قتلة الحسين منهم عمر بن سعد , استمر المختار بحكمها إلى أن قتله جيش مصعب بن الزبير في الرابع عشر من شهر رمضان من السنة التالية , وله من العمر ( 67 ) سنة .
ومن إعجاز الآية وانتفاء النسخ فيها تقييد الوصية بأنها (بالمعروف) وفيه مسائل :
الأولى : الوصية بالمال والعطية.
الثانية : عدم الوصية بقطع الرحم ، وأسباب الفتنة والفساد أو سفك الدماء ، لتكون آية الوصية هذه والعمل بها من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، جواباً على احتجاج الملائكة على جعل الإنسان في الأرض خليفة ، فمن علم الله عز وجل نزول آيات الوصية وكيفيتها بما ينشر الرحمة والرأفة ويزيح الضغائن خاصة عند المصيبة والبلاء.
الثالثة : الإمتناع عن الوصية بما هو حرام ، فقد يكون في قلب الإنسان غيظ على أحد من ذوي قرباه بسبب قصور أو إساءة ، أو ظلم ، فجاءت هذه الآية لبيان تنزيه الوصية عن الإنتقام ، وللنهي عن الوصية بالثأر أو المشاكلة بالظلم.
الرابعة : بيان قانون وهو أن الإنسان عند مغادرته الدنيا لا يوصي إلا بالمعروف والإحسان , لتكون آخر عمل له في الدنيا .
وهل هذه الوصية من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ) . الجواب نعم .
والمعروف لغة هو ما عرفه وألفه واستحسنه الناس ولم ينكروه ، وما تعارف عليه الناس في عاداتهم والصلات بينهم من أفعال لا تسبب النفرة ، وفي التنزيل [وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ]( )، وهذا المعنى من مصاديق نفخ الله من روحه في آدم ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
ومن مصاديق خلافة الإنسان في الأرض ، وعمومات قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فحينما يبعث الله نبياً يجعل له نصيراً من التنزيل وأنصاراً ، ويجد عضداً له من المتوارث من مناهج السلوك والسيرة بين الناس ، إذ تميز العقول بين ما هو حسن وخير ، وما هو قبيح وشر.
وصحيح أن الآية قيدت الوصية (بالخير) والمراد منه على المشهور المال، ولكن الآية أعم والمراد منه في المقام :
الأول : الوصية بالمال من الثلث أو أقل منه.
الثاني : الوصية بتعاهد الفرائض العبادية ، وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا ينال شفاعتي من استخف بصلاته، ولا يرد علي الحوض لا والله( ).
الثالث : الوصية بصلة الأرحام ، ويبادر المحتضر بالوصية بجزء من المال إلى ذوي القربى ممن ليس لهم سهم في الميراث.
وهل للوصية بالمعروف صلة بموضوع هذا الجزء وهو قانون آيات السلم محكمة غير منسوخة ، الجواب نعم ، إذ أنها تبعث على الرأفة وتنشر شآبيب الرحمة بين الناس.
الرابع : إشاعة الإحسان ، ونبذ الكراهية والإرهاب.
الخامس : التأكيد على إنفاذ الوصية ، وعدم تركها ، لذا ورد في الآية التالية [فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
السادس : من معاني (بالمعروف) أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليكون آخر ما يفارق به الإنسان الدنيا هو قول وفعل واجب وهو القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وابقاء هذا الأمر تركة له من بعده.
السابع : الترغيب بالفضائل ، والتحلي بالصبر ، وطلب مرضاة الله ، قال تعالى [كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
الثامن : من المعروف النهي عن الشرك ومفاهيم الضلالة ، وفعل المعاصي.
وهل يمكن أن يكون من معاني (الخير) في الآية البر بالوالدين بأن يوصيهم أبيهم بالبر به وبأمهم بعد وفاته , لأنه يكون محتاجاً لهم , الجواب نعم، وذات الوصية بالمعروف نوع دعوة للبر بالوالدين وذوي القربى.
التاسع : بيان قانون بلزوم مغادرة الإنسان الدنيا بالبر بالوالدين ، قال تعالى [وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا]( ).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له( ).
ويجب أن لا ينحصر تفسير وتأويل الآية بخصوص النسخ ، لتعدد الإعجاز الذاتي والغيري فيها ، ومنه :
الأول : تذكير المسلمين والناس بالموت وأنه أمر حتمي ، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: أكثروا ذكر هادم اللذات( ).
الثاني : الإستعداد للموت بالعمل الصالح .
الثالث : بيان وجود واجبات عند الإحتضار لابتداء الآية بقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ] أي لزم ووجب.
ومن الإعجاز إبتداء الآية بصيغة الجمع ثم انتقالها للغة الإفراد [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا] ( )، لبيان مسألة وهي لزوم تعاون المسلمين في كتابة أحدهم وصيته ، وهذا التعاون من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
لبيان قانون وهو أن كتابة الوصية بالمعروف واجب عام ولا يختص بصاحب الوصية ليقوم الأهل والأصحاب بأمور :
الأول : الحث على كتابة الوصية ، ويجوز أن تكون شفوية مع شهادة عدلين عليهما .
الثاني : القيام بكتابة الوصية للمحتضر ، فقد يكون عاجزاً عن كتابتها.
الثالث : التوصية بالوصية بالمعروف .
الرابع : تهيئة الإنسان للموت ولقاء الله (عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه قلنا : يا رسول الله كلنا يكره الموت قال : ليس ذلك كراهية الموت ولكن المؤمن إذا احتضر جاءه البشير من الله بما هو صائر إليه ، فليس شيء أحب إليه من أن يكون لقي الله فأحب الله لقاءه ، وإن الكافر والفاجر إذا احتضر جاءه بما هو صائر إليه من الشر فكره الله لقاءه) ( ).
الخامس : بيان الحسن الذاتي للمعروف وقبح قطيعة الرحم ، وضررها في النشأتين .
السادس : النهي عن الوصية بما فيه ضرر على الورثة أو غيرهم.
السابع : بيان مسألة وهي أن الوصية أعم من أن تختص بالمال فتشمل الوصية بأداء الفرائض ، وصلة الرحم ، والأخلاق الحميدة .
والوصية نوع صلة من الميت بالحياة الدنيا وأهلها ، لينظر الله عز وجل كيف يترك الإنسان الناس من بعده ، ففي الوصية الحسنة توبة وإنابة وتنزه عن النفاق.
الآية الثالثة عشرة : قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ).
ويتعلق النسخ بقوله تعالى [وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ).
وأن المراد من الجاهلين أبو جهل وأصحابه , ولا دليل على النسخ في المقام , وموضوع الآية أعم , ومن الإعراض قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى المدينة , وعدم تصديه لأبي جهل , وحتى في معركة بدر , فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرجو عدم وقوع القتال , ولكن أبا جهل أصرّ عليه، ووبخ عتبة بن ربيعة لأنه دعا إلى إجتناب القتال , فقتلا يومئذ معاً .
قانون خذ العفو
لقد توجه الخطاب في آية البحث إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتضمنت مع قلة كلماتها ثلاثة أوامر وهي :
الأول : خذ العفو.
الثاني : أمر بالعرف .
الثالث : اعرض عن الجاهلين.
ويتعلق النسخ بقوله تعالى [وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( )، نسخته آية السيف والمقصود بالنسخ ، يارسول الله كنت في مكة مأموراً بالإعراض عن رؤساء الشرك ، وتجاهل أذاهم ، والصبر عليهم ، أما بعد الهجرة وفتح مكة فلا يكفي الإعراض عنهم إنما يعرضون على السيف ، ويكون تقدير الآية حينئذ : خذ العفو وأمر بالعرف ولا تعرض عن الجاهلين.
لأن الإعراض منسوخ بآية السيف ، والأصل بقاء حكم الأفراد والأوامر الثلاثة للآية ، وعدم التفكيك بينها ونسخ بعضها إلا مع الدليل من القرآن .
وجاءت آية السيف بخصوص المشركين من أهل مكة ، ولو تنزلنا وقلنا أنها عامة في المشركين الذين ينكرون وجود الله عز وجل ، ولا يتبعون أحد الأنبياء فهي مقيدة بحال وأمن المسلمين في الجزيرة.
وجاء قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ] خطاباً وأمراً إلى الله عز وجل بأن يأخذ شيئاً وهو العفو ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها النبي خذ العفو.
الثاني : يا أيها الأمراء خذوا العفو.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا خذوا العفو.
الرابع : يا أيها الناس خذوا العفو.
الخامس : يا عمال الصدقات خذوا العفو.
ترى ما المراد من العفو ، فيه وجوه :
الأول : السهل واليسير من أموال الزكاة كي لا تنفر النفوس ، ولا يبقى المكلف في مشقة وعسر.
الثاني : القليل والممكن من الناس في الأخلاق ، لذا ورد (عن إبراهيم بن أدهم قال : لما أنزل الله {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمرت أن آخذ العفو من أخلاق الناس)( ).
الثالث : قبول الوسط في المعاملة .
الرابع : إقالة العثرة .
مما يدل على أن موضوع العفو أعم من أن يختص بأخذ اليسير والقليل من المال في الزكاة وأنه منسوخ بفريضة الزكاة.
الخامس : إرادة عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمن ظلمه وأساء إليه وقد يرد على هذا المعنى أن الآية لم تقل له أعط العفو ، والجواب من وجوه :
الأولى : قد وردت الآيات بالأمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يعفو حتى عن المنافقين كما في قوله تعالى [وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثانية : الحسن الذاتي للعفو وهو إحسان محض وهو طريق للفوز بمرضاة الله ، لذا ورد في الآية أعلاه (إن الله يحب المحسنين).
الثالثة : مجئ النص الذي يدل على إرادة المعنى الأعم من الآية إذ ورد (عن الشعبي قال : لما أنزل الله {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما هذا يا جبريل؟ قال : لا أدري حتى أسأل العالم ، فذهب ثم رجع فقال : إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك)( ).
وان قيل هناك تباين بين الأمر من الله إلى النبي (اعف) أي اغفر وسامح الذي ظلمك أو شتمك ، بينما تأمر آية البحث بأن يأخذ العفو ، والأخذ القبض والإستلام , وليس هو من الإضداد كلفظ البيع.
والجواب هذا صحيح ، ولكن المراد من العفو معنى عام كما يدل عليه الخبر الوارد.
عن (جابر قال : لما نزلت هذه الآية { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا جبريل ما تأويل هذه الآية ، قال : حتى أسأل . فصعد ثم نزل فقال : يا محمد إن الله يأمرك أن تصفح عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا ادلكم على أشرف أخلاق الدنيا والآخرة ، قالوا : وما ذاك يا رسول الله ، قال : تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك)( ).
عن ابن عباس في قوله {خذ العفو} قال : خذ ما عفي لك من أموالهم ما أتوك به من شيء فخذه ، وكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها( ).
الآية منسوخة بفريضة الزكاة التي نزلت بآية الصدقات [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( )، وعلى فرض النسخ فيتصف هذا النسخ بأمور :
الأول : يتعلق النسخ بأمر مخصوص من بين ثلاثة أوامر في الآية الكريمة.
الثاني : يختص النسخ بمعنى واحد من معاني هذا الأمر وهو (خذ العفو) ( )، كما ذكر أن قوله تعالى [وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( )، منسوخ كما تقدم( ).
وبخصوص الزكاة هل يمكن الجمع بين قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ] وآية الصدقات ، الجواب نعم ، إنما وردت آية الصدقات الى جانب إفادتها وجوب الزكاة فانها ذكرت أصناف المستحقين لها ، ويتعلق بمصرف الزكاة ، والذين يدفع لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم سهامهم من الزكاة وهو لا يتعارض مع قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ] وقد كان النبي ينهى المصدّقين الذين يرسلهم لجمع الصدقات من أخذ كرائم الأموال.
وعن عائشة : ما عفى لك من مكارم الأخلاق( ).
ومن مكارم الأخلاق الكرم والهبات والهدايا ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقبل الهدية ، ويرد الصدقة.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بِالتَّمْرِ عِنْدَ صِرَامِ النَّاسِ الصَّدَقَةَ فَيَجِىءُ هَذَا مِنْ تَمْرِهِ وَهَذَا مِنْ تَمْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ عِنْدَهُ كَوْمٌ مِنْ تَمْرٍ قَالَ فَجَعَلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَلْعَبُ بِذَلِكَ التَّمْرِ فَأَخَذَ تَمْرَةً فَجَعَلَهَا فِى فِيهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْرَجَهَا مِنْ فِيهِ وَقَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ لاَ يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ( ).
وعن عطاء بن السائب ، قال : أتيت أم كلثوم بنت علي ، وبُعث إليها معي بشيء ، فقالت : احذر شبابنا ، فإن ميمون أو مهران مولى النبي صلى الله عليه وسلم أخبرناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنا أهل بيت نهينا عن الصدقة ، وإن موالينا من أنفسنا ، ولا يأكلون الصدقة( ).
فكانت الصدقات تؤخذ من أموال الأغنياء لتعطى للفقراء فليس من سبب للتشديد على الأغنياء وجعل الزكاة في مال مخصوص يتصف بالجودة وغلاء السعر ، إنما هو الوسط ، قال تعالى [وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]( ).
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث معاذ بن جبل إلى اليمن فقال إنك تأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أطاعوك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وتوضع في فقرائهم فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب إذا أعطى صدقته غنيا وهو لا يشعر( ).
وعن مجاهد في قوله تعالى (خذو العفو) معناه خذ الزكاة المفروضة( ).
وفيه دلالة على إمكان الجمع بين الآيتين ، وأن قوله تعالى (خذ العفو) تفسير لكيفية أخذ الزكاة والأفراد التي تؤخذ بما يكون معه الرفق فقوله تعالى (خذو العفو) محكم غير منسوخ.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فِي قَوْلِهِ (خُذِ الْعَفْوَ) قَالَ : أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلاقِ النَّاسِ( ).
وفي الآية حث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لقبول الحسن من أخلاقهم ، ولا يقفون عند العتاب واللوم ، وفيه دعوة للصبر ، ولا تختص هذه الدعوة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما تشمل الصحابة وأهل البيت وعموم المسلمين .
والمختار أن الأصل في الخطاب الموجه من الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عام الى المسلمين أو الى المسلمين والناس الا ما ورد الدليل على الخصوص كما في قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
وحتى هذا الخطاب الخاص يمكن أن يكون تقديره على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا ان محمداً رسول الله إليكم.
الثاني : يا أيها الناس إن محمداً رسول الله إليكم .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا خذوا ما آتاكم الرسول .
لقد كان أذى المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه شديداً وكان ميزان القوة يتغير ويتحول بسرعة ، فبعد أن كان المسلمون في مكة أفراداً متفرقين تقوم قريش بتعذيب طائفة منهم ، تغير الحال بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وصار المسلمون أمة من المهاجرين والأنصار ليكون من معاني قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أن المهاجرين والأنصار أمة وهم مأمورون بالصبر ، وتجلت الحاجة إلى الصبر بعد معركة بدر وتحقق النصر فيها للمسلمين قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، فهذا النصر عنوان العز ومناسبة للإنتقام من كفار قريش والثأر منهم لشدة إيذائهم للمسلمين .
فجاء قوله تعالى (خذ العفو) أي لاتثأروا ولا تبطشوا بالكفار وخذوا العفو من أخلاق الناس ، ومنهم الذين يدخلون الإسلام ، لأن (الإسلام يجّب ما قبله) ( ).
والتغاضي والصبر على الذين آذوا المسلمين في مكة ، واستمر إيذاؤهم وصدور الشر منهم , رجاء هدايتهم , قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ).
ومن معاني [وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] كي يسلموا , ستراهم يزول عنهم الجهل بدخولهم الإسلام وتلاوتهم القرآن .
وعن أبن بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال من قرأ سورة الأعراف جعل الله بينه و بين إبليس سترا و كان آدم شفيعا له يوم القيامة , وعن الإمام الصادق عليه السلام قال من قرأ سورة الأعراف في كل شهر كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون فإن قرأها في كل يوم جمعة كان ممن لا يحاسب يوم القيامة , وقال عليه السلام أما إن فيها آيا محكمة فلا تدعوا قراءتها والقيام بها فإنها تشهد يوم القيامة لمن قرأها عند ربه( ).
قراءة في الآية السابقة
وبلحاظ نظم الآيات فقد وردت هذه الآية في سورة الأعراف وبعد آية تتضمن ذم الذين كفروا في جحودهم وإعراضهم عن دعوة النبي لهم إلى الهدى والإيمان بقوله تعالى [وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ] ( ) وفيه وجوه :
الأول : المراد الأصنام ، وتقدير الآية : وإن تدعو الأصنام إلى الهدى ، وبه قال جمع من المفسرين ، وأن معنى قوله تعالى [وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ] أي ترى الأصنام مفتحة عيونهم كتماثيل من الحجارة ولا تسمع ولا تبصر لإفادة معنى ووصف للأصنام بأنهم صوروها على هيئة رجال لهم أعين مفتحة و[تَرَاهُمْ] أي تحسبهم ، لأن المشركين صوروا الأصنام بهيئة لهم أعين وكأنهم يقلبون الحدق في النظر لمن يقف أمامهم .
ومن أقوال العرب (داري تنظر إلى دارك) أي تقابلها .
الثاني : المراد دعوة الكفار لآلهتهم ولكنها لا تجيبهم.
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: “يُجَاءُ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يَلْتَقِيَانِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وَيُجَاءُ بِمَنْ كَانَ يعَبُدُهُمَا، فَيُقَالُ : فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)( ).
الثالث : المراد الكفار وكأنهم لا يسمعون دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الهدى ، ولا يبصرون المعجزات ودخول الناس أفراداً وجماعات إلى الإسلام وإقامة الصلاة خمس مرات في اليوم ، ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إقتران أدائه الصلاة في البيت الحرام مع بدايات بعثته .
وفيه دعوة فعلية للإيمان ، وتحمّل من أجلها الأذى الشديد ، وأراد رؤساء قريش خنقه أثناء سجوده.
الرابع : التفصيل , وتوجه الدعوة النبوية إلى المشركين أما قوله تعالى [وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ] فتعود للإصنام .
الخامس : إرادة المعنى الجامع ، فتشمل الآية الأصنام والذين كفروا ، ويكون تقدير الآية فان تدعو الأصنام وتدعو المشركين .
والأصل هو إرادة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمشركين إلى الإسلام وهو المختار .
ويمكن استقراء معنى اللفظ القرآني ، ودلالة الآية الكريمة بلحاظ ذات اللفظ في آيات قرآنية أخرى وقد ورد لفظ [تَدْعُوهُمْ] خمس مرات في القرآن وهي :
الأولى : [وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ] ( ).
الثانية :[ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ] ( ).
الثالثة : [وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
الرابعة :[ إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ] ( ).
ويتوجه فيها الخطاب إلى المؤمنين بأن المشركين لا يسمعون دعوتهم إلى التوبة والهداية .
لبيان أن النسبة في الخطاب بين الآية أعلاه وآية البحث العموم والخصوص المطلق ، وأن آية البحث تخص النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في لفظها ، ولكن موضوعها أعم لإلحاق المؤمنين به ، فيكون من معاني الجمع بين الآيتين أن المراد في الآية دعوة المشركين وليس الأصنام , وقيام الحجة عليهم على جحودهم وعبادتهم للأصنام .
الخامسة : [شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ] ( ).
بين الأصنام التي كسرها إبراهيم والتي نصبت في البيت الحرام
لقد ورد ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وجهاده ضد عبادة الأصنام ، وهو مثال وشاهد على جهاد الأنبياء في حجب الناس عن عبادتها ، ولم يرد في آيات القرآن أن إبراهيم عليه السلام قام يدعو الأصنام إلى الإيمان ، إنما كان يقيم الحجة على قومه .
قال تعالى [إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ] ( ) لتمر الأيام ويأمر الله إبراهيم باعادة بناء البيت الحرام , ويعاضده في بنائه ابنه إسماعيل عليه السلام ، ليكون مأوى للعاكفين ، ومحل طاعة الله والتقرب إليه ، قال تعالى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ).
وأراد المشركون بيان علة عبادتهم للأصنام وهي محاكاة وتقليد آبائهم في عبادتها فاحتج عليه إبراهيم بأن عبادتها ضلالة ومجلبة للضرر على الذات والغير .
وأقام الحجة عليهم ، إذ ورد في التنزيل [فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ] ( ) فلم يذكر إبراهيم السمع والبصر ، إنما ذكر الأكل والنطق لأن كلاً منهما مبرز خارجي , وشاهد على الحياة ، فقد يتم إغواء الناس بأن الأصنام تسمع وترى ، فبيّن أنما الحياة بالأكل والنطق علامة الكائن الحي ، لأن المشركين وضعوا بين أيدي أصنامهم طعاماً للتبرك ، وذبحوا الذبائح لها ، وقوله تعالى [فَرَاغَ] أي ذهب إليها خفية في ذهابه ورجوعه .
وعندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة لم يكسر أصنام قريش مع أنهم نصبوها في البيت الحرام ، وقد قال الله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( ) ومن البركة أن بعث الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جواره ، وأقام الصلاة فيه .
لقد صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجود الأصنام في البيت ، وهو من الشواهد على أن رسالته رسالة سلام وأمن لا تستفز أحداً.
وقال عبد المطلب كلمته المشهورة لأبرهة الذي جاء ( ليهدم الكعبة للبيت ربّ سيمنعه)( ).
ولم يقل عبد المطلب هذا القول ابتداءً ، ولكن بعد أن استغرب أبرهة سؤال عبد المطلب إعادة إبله بينما كان أبرهة يحسب بأن عبد المطلب حضر بين يديه ليسأله الإمتناع عن هدم البيت الذي هو عنوان دينه ودين آبائه ، وملاك شأن ورفعة قريش بين العرب .
وهل حاكى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جده عبد المطلب في المقام ، الجواب لا ، خاصة وأن حاشية أبرهة أخبروه عن المنزلة والشأن الرفيع لعبد المطلب ، كما أنه حينما رآى عبد المطلب يدخل عليه رآى هيبته فاجلسه على سريره .
وقد كان وفد من رؤساء قريش وكنانة قد دخلوا على أبرهة قبل عبد المطلب وعرضوا عليه ثلث أموال تهامة ليرجع عن هدم البيت فأبى عليهم.
لقد أعاد أبرهة إبل عبد المطلب عليه ، إذ استولى جيشه على إبل قريش التي ترعى خارج مكة .
ليرجع عبد المطلب إلى مكة ويأمر قريشاً بالإلتحاق ببطون الأودية ورؤوس الجبال إجتناباً لإستباحة جيش الحبشة لمكة ، ثم وقف بباب الكعبة وصار يناجي ربه بأبيات منها :
(يارب لا أرجو لهم سواكا … يارب فامنع منهمُ حماكا
إن عدو البيت مَنْ عاداكا … فامنعهمُ أن يخربوا قراكا
ويقول :
يا رب إن العبد يمنع رَحْلَهُ فامنعِ رحالك) ( ).
لقد واجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبادة الأصنام في مكة بأمور :
الأول : الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك ، ومن آيات التوحيد التي نزلت في مكة قوله تعالى [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ] ( ).
الثاني : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما ينزل من القرآن على الناس .
ومن إعجاز القرآن الغيري إتصاف السور المكية بلغة الإنذار للناس جميعاً ، والتبكيت لرؤساء الكفر ، وكل آية تنزل من السماء كأنها صاعقة على رؤوسهم ، وهي سبب لبعث النفرة في النفوس من الأصنام وعبادتها، وتبين قصة إبراهيم وكسره الأصنام في الشام ثم عودتها بعد أحقاب لتنصب في ذات البيت الحرام حاجة الناس لما هو أعظم وأعم من كسر الأصنام .
فتفضل الله عز وجل بنزول القرآن وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لينقطع نصب الأصنام وعبادتها إلى يوم القيامة .
ومنهم من يربط بين التماثيل للرؤساء والشخصيات وبين الأصنام ، ولكن هناك تباين بينهما ، فالتماثيل رموز لوقائع وذكرى ، وليس للعبادة ، فان قيل قد كان أصل الأصنام هو تخليد ذكرى رجال صالحين ورؤساء ثم تحول الأمر إلى عبادة الناس لهم .
والجواب إنه قياس مع الفارق ، إذ تغير حال الناس بعد نزول القرآن ورسوخ مفاهيم التوحيد ، وعمارة الأرض بصلاة كل مكلف خمس مرات في اليوم ، قال تعالى [اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ] ( ) ، وإقامة الصلاة من أسرار عدم تعجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكسر الأصنام ، وهو بين قوم مشركين ، ثم أن الأصنام التي كانت منصوبة وعددها ثلاثمائة وستون صنماً يوم فتح مكة وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتكسيرها ليست كلها لرجال صالحين ، فمثلاً منها لإساف ونائلة وهما رجل وامرأة من جرهم مسخا حجرين لأنهما فجرا في الكعبة .
الثالث : إحتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المشركين وبيانه لضلالتهم (عن ابن عباس قال : جاء أُبيّ بن خلف الجمحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعظم نخر فقال : أتعدنا يا محمد إذا بليت عظامنا ، فكانت رميماً أن الله باعثنا خلقاً جديداً ، ثم جعل يفت العظم ويذره في الريح فيقول : يا محمد من يحيي هذا؟ .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نعم . يميتك الله ، ثم يحييك ، ويجعلك في جهنم ، ونزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه }( ))( ).
الرابع : إعراض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إغراءات قريش بالأموال والزواج المتعدد ممن يختار من النساء والرئاسة العامة على قريش.
الخامس : صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تهديد قريش لحبسه أو قتله ، وهل هذا الصبر بوحي من عند الله أم أنه من إرادة وجلد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الجواب هو الأول ، فلا يختص الوحي بما يؤمر به النبي من القول ، إنما يشمل عالم الفعل ، والصبر ليس أمراً عدمياً بل هو أمر وجودي .
السادس : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس للإسلام ، ومن الآيات توجه دعوته إلى الرؤساء والعامة من الناس ، وإلى الرجال والنساء، فهو لم يمتنع عن دعوة رؤساء قريش الذين يؤذونه وأصحابه إلى الإسلام ، وتلاوة آيات القرآن عليهم ، وكانوا يجتمعون في البيت الحرام ، فهل كانت صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه دعوة لهم للإيمان .
الجواب نعم ، وهي حرب على الأصنام ، لتكون دعوة سلمية قوامها الصبر وكشف الحقائق ، وهي من الشواهد المتقدمة زماناً على عدم نسخ آيات السلم .
وهذا القول مستحدث منا بشهادة مضامين الآيات والسور المكية على عدم تحقق النسخ اللاحق لآيات قرآنية .
وبعد الهجرة لاقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريش أشد الأذى إذ جهزوا الجيوش لمحاربته وأصحابه ، فانهكتهم هذه الحروب وفضحتهم بين القبائل ، وعند الأمم الأخرى ، وأخذت تجارة قريش بالنقصان ، وهو من مصاديق قانون لحوق الضعف والنقص والوهن فيمن يحارب مبادئ التوحيد وشواهده في كل زمان ، وفي التنزيل [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ) .
فبعد أن كانت بعض قوافل قريش التي تغادر إلى الشام تضم الفي بعير كقافلة أمية بن خلف أو ألف بعير كما في قافلة أبي سفيان التي صارت سبباً لمعركة بدر ، فان قريشاً سخروا تلك الإبل لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ومنها ما نحروه لإطعام الجيش ، ومنها ما أعطوه لرجال القبائل الذين ساروا معهم إلى معركة أحد والخندق ليركبوها ، ومن عادة المرتزق أن يجعل همه الأول المال ، وأنه قد يمتنع عن مقدمات القتال وأثناءه .
السابع : لقد اختصت الأيام الأولى للإسلام بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس للإسلام ، ثم ما لبث عدد المسلمين أن ازداد وصاروا يدعون إلى الله ، ويتحملون الأذى من رؤساء الشرك ، وهل هذا التحمل دعوة إلى الله .
الجواب نعم ، لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إلى الصبر (وَكَانَتْ بَنُو مَخْزُومٍ يَخْرُجُونَ بِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِأَبِيهِ وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ إسْلَامٍ إذَا حَمِيَتْ الظّهِيرَةُ يُعَذّبُونَهُمْ بِرَمْضَاءِ مَكّةَ ، فَيَمُرّ بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَيَقُول ، فِيمَا بَلَغَنِي : صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمْ الْجَنّة فَأَمّا أُمّهُ فَقَتَلُوهَا ، وَهِيَ تَأْبَى إلّا الْإِسْلَامَ) ( ).
وهل هذا الصبر من مصاديق قول تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ) .
المختار لا ، والآية أعلاه مدنية .
ومثلاً كان صنم اللات صخرة مربعة ، وكان سدنتها من ثقيف .
ولما أسلمت ثقيف أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهدمها وحرقها , ومحلها في موضع منارة مسجد الطائف في هذا الزمان ، وقيل اللات صنم بين مكة والمدينة , وكان رجال من أهل المدينة أيام الجاهلية يهلون لها ، ولا يسعون بين الصفا والمروة تعظيماً .
فأخبروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزل قوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ] ( ) .
وتأكيد القرآن على أن موضعين متقابلين في الأرض هما شعائر الله توكيد لصبغة السلم التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنها مصاحبة لأجيال المسلمين ، ومن أسرار هذه المصاحبة وجوب أداء فريضة الحج على كل مستطيع من المسلمين والمسلمات مرة واحدة في العمر عدا الحج المستحب .
أما صنم العزى فهي نوع بناء على سمرات شجيرات ثلاث (عن أبي الطفيل قال لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة فكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها .
ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فقال ارجع فإنك لم تصنع شيئا فرجع خالد .
فلما نظرت إليه السدنة وهم حجابها امعنوا في الجبل وهم يقولون .
يا عزى خبليه
يا عزى عوريه وإلا فموتي برغم .
قال خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها فعممها خالد بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فقال تلك العزى) ( ).
وقد ذكرها الله في القرآن بقوله تعالى [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى] ( ).
ويدل ذكرها في القرآن على شدة افتتان العرب بها ، وبيان الوهم الذي هم عليه ، لبعث النفرة في نفوسهم من الشرك ، ولترغيبهم بالإيمان .
الآية الرابعة عشرة : قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ]( )، إذ ذكر أنها منسوخة ، ومع أن الآية تتضمن الأمر بقتل المشركين ، ونسخ هذه الآية كما قيل ليس بآية السيف ، إنما بما بعدها بآيتين بقوله تعالى [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ]( ).
وآية البحث هي الآية الوحيدة في القرآن التي ورد فيها لفظ (اقتلوهم) مرتين ، مع أن هذا اللفظ لم يرد في القرآن إلا أربع مرات ، والإثنتين الآخريين في سورة النساء ، وبينهما آية واحدة وهما :
الأولى : [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا]( ).
الثانية : [سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا]( ).
ووردت الآية أعلاه [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ] في قوم قدموا إلى المدينة المنورة وأعلنوا إسلامهم ، واقاموا فيها برهة من الزمن ، ثم قالوا : اجتوينا من المدينة ، ولا نطيق الإقامة فيها .
فاذن لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرجوا ، فصاروا يبتعدون مرحلة مرحلة ، حتى لحقوا بالمشركين ، فاختلف المسلمون فيهم ، وصاروا (فئتين) إحداهما تقول أنهم كفار مرتدون ، والأخرى اعتمدت أصل الإستصحاب وقالوا : هم مسلمون حتى نعلم أنهم بدلوا ، فنزلت الآية بالإخبار عن كفرهم ، لجعل المسلمين في حال احتراز ، ولمنع الإختلاف بسببهم ، وتحذير المسلمين من إتخاذهم أولياء ، لبيان مسألة ،وهي أن الله عز وجل ينهى المسلمين عن الخصومة والنزاع ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ) ثم ينزل ما يحول دون هذه الخصومة ، ويمنع من النزاع وأسباب الفتنة .
ثم بينت الآية قانون حضور الرحمة الإلهية ، وإمكان التدارك والتوبة والإنابة بقوله تعالى [حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( )، وإذا لم يهاجروا فلابد من وجود استثناء وتأن وصبر , وفرصة للتدارك إذ جاءت الآية التي بعدها بالإستثناء والنهي المتعدد عن قتالهم بقوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً]( )، فاذا انتسبوا الى قوم لهم ميثاق وعهد أو مهادنة مع المسلمين ، فلهم حكم هؤلاء المعاهدين الذين دخلوا فيهم ، وهذا من الإعجاز في الشريعة الإسلامية ، إذ أنها تمنع عن قتل هؤلاء مع أنهم مرتدون ، قد جاءوا إلى المدينة المنورة ودخلوا الإسلام وأقاموا فيها أياما , يصلون خلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم تولوا ، لبيان قانون وهو تعاهد المسلمين للعهود والمواثيق في ذات القوم الذين تم معهم الميثاق ، وفي الذين يلحقون بهم أو يلحقون بحكمهم ، وفيه منع للفتنة وكذا الذين [حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ] ( ) أي ضاقت صدورهم ، فكرهوا قتال المسلمين، كما كرهوا قتال قومهم إذ كانت قريش ومن والاها يعدون العدة لغزو المدينة.
وورد عن ابن عباس في الآية حديثان وهما :
الأول : (عن عكرمة عن ابن عباس في قوله [إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ] يقول : إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم ، فإن أحد منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق فاجروا عليه مثل ما تجرون على أهل الذمة)( ).
الثاني : قال : نسختها براءة [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( ).
وسيأتي البيان وأن المختار عدم نسخ الآية.
لقد تضمنت آية البحث أموراً :
الأول : الخبر : إذ أخبرت عن الكيفية النفسية لهؤلاء المشركين وأنهم يتمنون إرتداد طائفة من المسلمين مثلما ارتدوا هم.
وهل تتضمن الآية مؤاخذتهم ومهاجمتهم على هذا الود والرغبة القبيحة , الجواب لا ، إنما اكتفت الآية بالتحذير من إتخاذهم أولياء وأحبة وبطانة ورؤساء ، فان قلت ما المقصود من رؤساء في المقام.
الجواب قد يكون بعضهم رئيساً لقبيلة أو فخذاً ، فجاءت آية البحث للنهي عن طاعته أو اتباعه لبيان قانون وهو فقدان المشركين العرب لمنازلهم وشأنهم عند الإصرار على الكفر ، مع الإشارة لشمول قانون [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ]( )، للذين ارتدوا ورجعوا إلى دار الكفر والضلالة ، إن الإعراض عن هؤلاء المرتدين لا يعني تركهم وشأنهم ، إذ تلاحقهم كل من:
الأولى : آيات القرآن .
الثانية : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : أداؤهم الصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : حسن سمت المسلمين ، والإنقلاب في الأخلاق نحو الأحسن، وأنظمة الأسرة وفق أحكام الألفة والعفة وحسن العشرة ، قال تعالى [وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ] ( ) .
الثاني : الإعجاز في إصلاح نفوس المسلمين في الثبات في منازل الهدى والإيمان ، وعدم إلتفاتهم إلى إرتداد بعض الأشخاص ، وفيه بعث للغيظ في نفوس الكفار وبيان قانون وهو حتى لو ارتدت طائفة أخرى فان المهاجرين والأنصار لن يضعف إيمانهم ، ولن يخالطهم شك في دينهم.
الثالث : إسقاط ما في أيدي المشركين ، فقد كان كفار قريش يبعثون الكتب والرسائل الشفوية إلى المهاجرين يدعونهم بالرجوع إلى مكة وتتضمن هذه الرسائل مسائل :
الأولى : التخلي عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام .
الثانية : الترغيب بالعودة إلى مكة حتى مع البقاء على الإسلام ، والإخبار بأن أهلهم وذويهم يتغشاهم الحزن لفراقهم .
وقد استجاب بعض المسلمين لهذه الرغبة ، من غير أن يتخلى عن دينه ولكن المشركين لم يفوا له بوعودهم ، كما في عياش بن أبي ربيعة الذي أسلم قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم.
(وهاجر عياش إلى أرض الحبشة مع امرأته أسماء بنت سلمة بن مخربة وولد له بها ابنه عبد الله، ثم هاجر إلى المدينة فجمع بين الهجرتين ولم يذكر موسى بن عقبة ولا أبو معشر عياش بن أبي ربيعة فيمن هاجر إلى أرض الحبشة)( ).
والمختار أنه لم يهاجر إلى الحبشة ، خاصة وأن أمه كانت تحبه حباً جماً، وكانت لا تطيق فراقه ، وعندما هاجر إلى المدينة جاء أخواه لأمه أبو جهل ، والحارث ابنا هشام , وحلفا له أن أمه جالسة في الشمس وتأبى أن تستظل بظل ، وحلفت ألا تضع رأسها دهن حتى تراه ، وتعهدا له بسلامته وعدم إكراهه على ترك الإسلام.
وكان عياش بن أبي ربيعة قد اتفق هو وعمر بن الخطاب وهشام بن العاص ، على الهجرة قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعينوا موضع التناضب( )، من إضاءة( )، بينهم للقاء واجمعوا على أن الذي يتخلف عند الصباح معناه أنه قد حُبس ، فلا ينتظره صاحباه لبيان شدة الأذى الذي كان يلاقيه المسلمون الأوائل ، وان حبس واحد أقل ضرراً من تعرض ثلاثة للأذى فاصبح عمر وعياش عند التناضب ، وحُبس هشام وفتنه قومه.
فسارا حتى وصلا المدينة ونزلا في بني عمرو بن عوف بقباء ، فخرج أبو جهل بن هشام وأخوه الحارث بن هشام متوجهين إلى المدينة ، وكان عياش أخاهما لأمهما ، وهو ابن عمهما حتى قدما المدينة ولا يزال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة لم يهاجر بعد.
وقالا له: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرق لها( ).
وحذره المهاجرون من العودة ، وقالوا له إنما يريدون المكر بك وفتنتك في دينك فقال : أبر قسم أمي ، ولي هناك مال فاخذه ، وأعطاه عمر ناقته لينجو عليها إن أظهرا المكر ، وبعد ان بعدوا عن مكة في بعض الطريق قال له أبو جهل بمكر : يا أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا ، وسأله أن يعقبه معه على ناقته .
فلما أناخوا ليتحول أبو جهل عليها ، هجما عليه واوثقاه رباطاً، وقاما بضربه واهانته ، ودخلا به مكة على هذه الحال .
وحزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما كان يلاقيه عياش بن أبي ربيعة المخزومي وهشام بن العاصي من الأذى خاصة بعد أن قام قومهما بحبسهما.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المدينة بعد هجرته : مَنْ لِي بِعَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَهِشَامِ بْنِ الْعَاصِي ( )؟
فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ : أَنَا لَك يَا رَسُولَ اللّهِ بِهِمَا ، فَخَرَجَ إلَى مَكّةَ ، فَقَدِمَهَا مُسْتَخْفِيًا ، فَلَقِيَ امْرَأَةً تَحْمِلُ طَعَامًا ، فَقَالَ لَهَا : أَيْنَ تُرِيدِينَ يَا أَمَةَ اللّهِ ؟ .
قَالَتْ أُرِيدُ هَذَيْنِ الْمَحْبُوسَيْنِ – تَعْنِيهِمَا – فَتَبِعَهَا حَتّى عَرَفَ مَوْضِعَهُمَا ، وَكَانَا مَحْبُوسَيْنِ فِي بَيْتٍ لَا سَقْفَ لَهُ فَلَمّا أَمْسَى تَسَوّرَ عَلَيْهِمَا ، ثُمّ أَخَذَ مَرْوَةَ فَوَضَعَهَا تَحْتَ قَيْدَيْهِمَا ، ثُمّ ضَرَبَهُمَا بِسَيْفِهِ فَقَطَعَهُمَا ( )، فَكَانَ يُقَالُ لِسَيْفِهِ ” ذُو الْمَرْوَةِ ” لِذَلِكَ ثُمّ حَمَلَهُمَا عَلَى بَعِيرِهِ وَسَاقَ بِهِمَا ، فَعَثَرَ فَدَمِيَتْ أُصْبُعُهُ فَقَالَ
هَلْ أَنْتِ إلّا أُصْبُعٌ دَمَيْتِ … وَفِي سَبِيلِ اللّهِ مَا لَقَيْتِ
ثُمّ قَدِمَ بِهِمَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّم الْمَدِينَة ( ).
وتمر الأيام ويستشهد في يوم اليرموك في السنة الخامسة عشرة للهجرة (636) ميلادية كل من :
الأول : عياش بن أبي ربيعة.
الثاني : أخوه لأمه الحارث بن هشام الذي قام هو وأبو جهل بأخذه من المدينة ليحبسه في مكة .
الثالث : عكرمة بن أبي جهل.
الثالثة : التهديد والوعيد على الهجرة ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : الإخبار بقدوم وزحف الجيوش لإستباحة المدينة.
وصار إرتداد عدد من الإشخاص عن الإسلام سبباً لفتنة الذين كفروا بحث المسلمين على الإرتداد وظنهم بأن جماعة منهم يحاكون هؤلاء الذين عادوا إليهم ، فنزلت آية البحث لبعث اليأس في قلوب الذين كفروا من هذه المحاكاة.
لبيان مسألة وهي أن واو الجماعة في قوله تعالى [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا]( )، أعم من الإختصاص بذات الذين ارتدوا إنما يكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : ود الذين ارتدوا أن ترتدوا مثلهم.
ثانياً : ود رؤساء الشرك أن ترتدوا مثل الذين ارتدوا.
ثالثاً : ود مشركو مكة أن ترتدوا مثلما ارتد هؤلاء النفر .
رابعاً : ود المنافقون لو ترتدوا ، قال تعالى [ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ] ( ).
والكفر الذي ذكرته الآية بقوله تعالى [وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ] المراد منه الشرك والجحود برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، وترك الصلاة والفرائض العبادية ، إذ تخبر الآية الكريمة المسلمين بأن المشركين لن يرضوا إلا بسيادة مفاهيم الشرك .
ليكون من رشحات هذه الآية الكريمة دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر بعد أن (قال أبو جهل اللهم أولانا بالحق فانصره ورفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده فقال يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا فقال له جبرئيل خذ قبضة من التراب فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين) ( ).
وكرر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات الدعاء في معركة أحد عندما لحقت المسلمين خسائر كثيرة ،وأشرف عليهم أبو سفيان منادياً أعل هبل .
فقال (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الارض “.
ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم) ( ).
الرابع : الكف عن المرتدين إن تابوا وهاجروا ، وكانت هجرتهم في سبيل الله بقوله تعالى [حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ).
فحينما كان المشركون يبعثون رسائل الترغيب والتهديد إلى الصحابة من أجل ارتدادهم كانت الآيات تنزل من عند الله تدعو أولئك المرتدين للعودة إلى رياض الإيمان ، وتحث كل إنسان على التوبة والإنابة ، وشاء الله عز وجل أن تكون الغلبة لكلامه .
الخامس : أما إذا تولى وأعرض المرتدون , وأصروا على جحودهم وصاروا أعداء لكم ويقومون بالإفتراء على النبوة والتنزيل ، ويخبرون الناس بأنهم إرتدوا لجحودهم بالنبوة وانكار التنزيل ، حينئذ يكون حكمهم القتل ، لأن ضررهم عام على الناس ، ولأن المشركين يجدون فيهم سبباً وذريعة لجمع الجيوش ضد النبي وأصحابه ، وكان الإسلام في بدايات نشأته مع وجود منافقين في المدينة ، إذ يكونون عضداً من داخل مجتمع المسلمين للذين كفروا ، فنزلت الآية لبعث الخوف في قلوبهم ولقطع الصلة بينهم.
والمختار أن الآية أعلاه من سورة النساء خاصة بأيام النبوة لقيد [حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ) الوارد فيها ، إذ أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إنقطاع المعجزة بعد فتح مكة .
و(عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه السورة { إذا جاء نصر الله والفتح } ( )قرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ختمها ثم قال: أنا وأصحابي خير والناس خير لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية)( ).
ولابد حين تفسير واستنباط المسائل والأحكام من آية البحث من الرجوع إلى الآية التي قبلها ، واستقراء الصلة بينهما ، ونذكر هنا الآيتين وهما :
[وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] ( ) .
فابتدأت آية البحث بحرف العطف للدلالة على عطفها على الآية السابقة لها ثم الجملة الفعلية [اقْتُلُوهُمْ]وهي تتألف من ثلاث كلمات :
الأولى : فعل الأمر الصادر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثانية : واو الجماعة فاعل .
الثالثة : الضمير [هُمْ] وهو مفعول به .
واكتفاء الآية بذكر الضمير للدلالة على المراد قتالهم شاهد على إتصال موضوع آية البحث بالآية السابقة ، والمقصود هو خصوص الذين يقاتلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بدليل قوله تعالى في الآية السابقة [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
ومفهوم الآية على وجوه :
الأول : لا تقاتلوا الكفار الذين لم يقاتلوكم وإن ظفرتم بهم .
الثاني : لا تقاتلوا أهل الكتاب خاصة وأنهم لم يخرجوكم من دياركم.
الثالث : لا تقاتلوا الذين لم يقاتلوكم وإن ثقفتموهم وتمكنتم منهم في الأشهر الحل ، وخارج الحرم .
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لنشر السلام وإشاعة الأمن في المدن والطرقات العامة .
وبعث الطمأنينة في النفوس ليتدبر الناس في ماهية الخلق ويعبدوا الله وحده ، ويواظبوا على أداء الفرائض ، قال تعالى [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ] ( ).
وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس (عن قوله { ثقفتموهم } قال : وجدتموهم . قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم . أما سمعت قول حسان :
فإما يثقفن بني لؤي … جذيمة إن قتلهم دواء ) ( ).
مع ضعف أكثر أسانيد هذه المسائل ، ومنهم من أوصلها إلى أكثر من ثمانمائة مسألة .
(واختلفوا في حكم هذه الآيات.
فقال قوم : هي منسوخة ونهوا عن الابتداء بالقتال.
ثمّ نسخ ذلك بقوله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ} هذا قول قتادة والربيع)( ).
أي الأمر بالقتال بقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( )الوارد في الآية السابقة منسوخة بالنهي عن الإبتداء بالقتال ، وهذا النهي قانون ملازم لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتجلى في سنته القولية والفعلية في حال الحرب والسلم .
وقال (مقاتل بن حيان : {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي حيث أدركتم في الحل والحرم.
لما نزلت هذه الآية نسخها قوله {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ثمّ نسختها آية السيف في (براءة) فهي ناسخة ومنسوخة.) ( ).
أي أن آية البحث تتضمن من جهة النسخ أموراً :
الأول : توجه الأمر إلى المسلمين بقتل المشركين إن ظفروا بهم .
الثاني : نسخ [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ] ( ) وصيرورة هذا الأمر منسوخاً ، فلا يقتل المسلمون الذين كفروا وإن ظفروا به .
الثالث : ورد الناسخ في ذات آية البحث وهو [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( ).
ولكنه ليس ناسخاً إنما هو من التفصيل والتقييد والإستثناء ، فلا دليل على وجود ناسخ ومنسوخ في ذات الآية القرآنية إلا على مبنى المتقدمين من احتساب التقييد والتخصيص والإستثناء نسخاً.
الرابع : صيرورة قتال المشركين في المسجد الحرام منسوخاً ، فقوله تعالى [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ) نسختها آية السيف ، قال تعالى[فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) , وليس من نسخ في المقام لحرمة البيت .
هل تتضمن الآية الواحدة ناسخاً ومنسوخاً
النسخ هو تبديل حكم شرعي بحكم آخر غيره يحل محله ، والنسخ في الشرائع والأحكام ممكن وموجود في القرآن ، وهو من علوم وذخائر القرآن ، وفيه دعوة للعلماء لضبط الأحكام والشكر لله عز وجل على النسخ لما فيه من الرحمة والتخفيف ، وتغير الحكم عند تبدل الموضوع ، ومن خصائص النسخ تأخر زمان نزول الناسخ على المنسوخ .
ويرد المنسوخ في آية ، ثم يرد الناسخ في آية أخرى ، ومن فضل الله وجود قرائن أو أحاديث تدل على هذا التعاقب الزماني بين المنسوخ والناسخ ، كما في آية النجوى ، إذ ورد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
إذ كان عدد من الصحابة يكثرون نجوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستخلون به ، كما كان المنافقون يكثرون من سؤاله ، فأراد الله عز وجل أن يخفف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قدسية وموضوعية هذه النجوى وكيف أنها باب لإعانة الفقراء ، فكف كثير من الصحابة عن النجوى الشخصية .
ثم نزل نسخ الصدقة ، والعفو عنها ، وأذن الله للمسلمين بمناجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير تقديم صدقة بعد أن عمل بها الإمام علي عليه السلام إذ ورد (عن عليّ بن علقمة الأنماري عن علىّ بن أبي طالب قال : لمّا نزلت [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً]( )، دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ما ترى بذي دينار.
قلت : لا يطيقونه. قال : كم.
قلت : حبّة أو شعيرة ، قال : إنك لزهيد ، فنزلت {أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَ اكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ} الآية.
قال عليّ عليه السلام : فِيّ خفَّف الله سبحانه عن هذه الأمّة ، ولم تنزل في أحد قبلي ولن تنزل في أحد بعدي.
قال ابن عمر : كان لعليّ بن أبي طالب ثلاث ، لو كان لي واحدة منهن كانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى)( ).
وأخرج ابن جرير من طريق ابن شهاب أن سالم بن عبد الله حدثه . أن أول ما حرمت الخمر أن سعد بن أبي وقاص وأصحاباً له شربوا فاقتتلوا فكسروا أنف سعد ، فأنزل الله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وأخرج الطبراني عن سعد بن أبي وقاص قال : نزلت فيَّ ثلاث آيات من كتاب الله نزل تحريم الخمر ، نادمت رجلاً فعارضته وعارضني ، فعربدت عليه فشججته ، فأنزل الله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ] ( )، إلى قوله [فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ]( ).
ونزلت فيَّ {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً}( ) حملته أمه كرهاً إلى آخر الآية ونزلت {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة}( ) فقدمت شعيرة .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنك لزهيد ، فنزلت الآية الأخرى {أأشفقتم أن تقدموا…}( )( ).
فجاءت الآية الناسخة في نظم القرآن بعد الآية المنسوخة وقيل أن في القرآن آية واحدة تتضمن الناسخ والمنسوخ معاً وهي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
قال ابن حزم (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم…) ( )،نسخ آخرها أولها والناسخ منهما قوله تعالى (إذا اهتديتم) والهدى ههنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس في كتاب الله آية جمعت الناسخ والمنسوخ إلا هذه الآية ( ).
بتقريب وهو أن الهداية في قوله تعالى [إِذَا اهْتَدَيْتُمْ] أي إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ، ولعل الإضطراب في هذا التأويل ظاهر ، وورد في الصحيح (عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم)( ).
وقال عبد الله بن مسعود ليس هذا بزمان هذه الآية قولوا الحق ما قبل منكم فإذا رد عليكم فعليكم أنفسكم)( ).
ومفهوم عدم حضور أوان وزمان الآية دليل على عدم نسخها.
وقيل هناك آية أخرى تجمع بها الناسخ والمنسوخ وهي آية الزواني بقوله تعالى [أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً]( )، والسبيل هو الجلد ، وقال السيوطي وغيره (أي مخرجاً من السجن) ( ).
ولا تنسخ السنة النبوية القرآن ، ولكنها تبين مضامين الآية كما في آية الزواني وقوله تعالى [أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً]( )، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلاً ، وبين السبيل وهو الجلد.
والمخرج : الحد ، وذكر الحبس والسجن في الآية علماء آخرون ، وليس في الآية سجن ، إذ يتبادر إلى الذهن من لفط السجن هو السجن العام في هذا الزمان بل حتى في الأزمنة السابقة كما في أيام الفراعنة ، إذ ورد في قصة يوسف [وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ]( ).
ولكن المراد من السجن هنا هو الحبس في البيوت ، ولا ينحصر السبيل في الآية أعلاه بالحد ونحوه إنما هو متعدد ، وهذا التعدد من إعجاز القرآن ومنه وجوه :
الأول : النكاح من شخص آخر ، لذا قال الزمخشري : {أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً}( ) هو النكاح الذي يستغنين به عن السفاح)( ).
الثاني : رجوع الزوج بزوجته.
الثالث : الوفاة .
الرابع : التوبة والإنابة ، والإنصراف عن موضوع الزواج.
الخامس : عموم المخرج .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : خُذُواْ عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مَائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ( ).
بحث أصولي : الفرق بين التخصيص والنسخ
التخصيص هو تمييز بعض الجملة ، وإخراج بعض الأفراد من الجماعة، ويكون التخصيص من جهات :
الأولى : التخصيص بالشرط كما في قوله تعالى [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ) أي إن تركوا واجتنبوا ما نهاهم الله عز وجل عنه ، فهو شرط خصص الموضوع العام الوارد في الآية .
الثانية : التخصيص بالصفة ، وهو أيضاً تخصيص متصل في الغالب ، كما في قوله تعالى [وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) .
فلفظ [فَتَيَاتِكُمْ] عام ، ثم تبعتها صفة خاصة وهي (المؤمنات) خصصت هذا العموم لتخرج الفتيات غير المؤمنات.
فاللفظ التابع قصر العموم على بعض أفراده ، وكما في قوله تعالى [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] ( ) ، وكما في قولك : أكرم العلماء العاملين .
أما التخصيص بمفهوم الصفة فهو أضعف من التخصيص بالصفة إذ قد يطرأ عليه بدليل آخر ، واثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، ومن التخصيص بمفهوم الصفة مفهوم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (في سائمة الغنم الزكاة) ( ).
إذ أن كلمة (سائمة) صفة وتعني التي تروح وتغدو للمرعى ، ومفهوم المخالفة هو أن غير السائمة لا زكاة فيها ، بينما ورد في كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عماله في الصدقة (وفي الغنم في الأربعين شاة إلى عشرين ومائة)( ).
وهو عام في الغنم ، ولكن مفهوم الصفة أخرج الشاة المعلوفة في البيت والحظيرة ، وهي ما يحاط بالشئ من الخشب أو الطابوق أو القصب ونحوه.
الثالثة : التخصيص بالإستثناء من الجنس ، وهو الإستثناء المتصل مثل: صامت النسوة إلا الحائض .
أما الإستثناء المنقطع فلا يخصص العام ، كما في قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً] ( ) فالمنقطع لا يكون جزءً من الأول.
قانون الإطلاق والتقييد في آيات الدفاع
الإطلاق هو خلو الحكم من الحصر والتقييد بوجه أو وجوه مخصوصة، أما التقييد فهو تعلق الغرض بقيد مخصوص .
ومن الإطلاق قال تعالى [أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ) فمع قلة كلمات الآية أعلاه فانها تجمع بين إطلاق الحلية في موضوع مخصوص وهو البيع ، وإطلاق الحرمة والنهي في الربا، قال تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .
وقد تأتي آية قرآنية بالإطلاق ، وتأتي آية أخرى بالتقييد في ذات الموضوع .
ولو دار الأمر بين :
الأول : الجمع بين الآيتين .
الثاني : الحكم بكل من الآيتين على نحو الإنفراد .
الثالث : إرادة التزاحم في بعض المواطن بين الآيتين ، وليس من تزاحم بين آيات القرآن .
الرابع : التخيير في العمل بأي من آيات الدفاع والقتال .
الخامس : موضوعية الحال ومناسبة الموضوع والحكم ، فقد يحتاج المسلمون آية الصلح وآية الموادعة أو غيرها في حال من الأحوال .
والصحيح هو الأول ، فلابد من الجمع بين كل من :
الأولى : آيات القتال .
الثانية : آيات الدفاع التي تقيد آيات القتال .
الثالثة : آيات الصلح والموادعة كبرزخ من القتال ، أو مانع من إستمراره أو نتيجة له .
الرابعة : الآيات التي تأمر بالصبر ، وتدعو إليه.
الخامسة : الآيات التي تنهى عن الإعتداء والتعدي ، وفي قوله تعالى [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ) .
وفي سبب نزول الآية ورد (عن زيد بن أسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة ، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصد هؤلاء كما صدنا أصحابنا ، فأنزل الله { ولا يجرمنكم( ) . . . . }( ) الآية) ( ) .
ولا يختص موضوع الآية بسبب النزول لبقاء حكمها مما بعد صلح الحديبية وفتح مكة .
السادسة : آيات الدعوة إلى الله بالحكمة والإحتجاج وقواعد اللطف ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]( ).
السابعة : العموم في حسن المعاشرة ، قال تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا] ( ) إذ تفيد الألف واللام في [الناس] الجنس والإستغراق من جهات :
الأولى : المخاطَب والمأمور بالقول الحسن ، والمراد كل المسلمين والمسلمات .
الثانية : موضوع الإحسان واللطف ، والمبادرة إليه لأنه من عمومات قوله تعالى [وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ) ومنه الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالثة : الذي يتلقى الخطاب الحسن والمعروف ، وهم الناس جميعاً ، وإذ تضمنت الآية الأمر بالقول الحسن فإنها تدل في مفهومها على عدم إيذاء الناس أو الإضرار بهم من باب الأولوية القطعية ، قال تعالى في خطاب للمسلمين [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) .
وهل المراد من القول الحسن شرعاً ، أن يدخل فيه اللطف وحسن الخلق ومراعاة العرف والشأن ، الجواب نعم للأولوية في قوله تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ) فاذا كان دفع الأذى بالأحسن فمن باب الأولوية إتخاذ الأحسن في القول والفعل منهاجاً وسجية مع الناس كافة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ) .
وهل تدل الآية أعلاه على عدم نسخ آيات السلم والصفح والعفو ، الجواب نعم ، لأن الرسالة تتقوم بالدعوة والبشارة والإنذار ، وهي سبيل لجذب الناس للهداية والإيمان ، ولو على نحو التوالي والتعاقب .
ومن اللطف الإلهي أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر على الناس ، ومنه قوله تعالى [فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) .
والمراد من الحديث في الآية أعلاه القرآن , والآية وإن كانت تتضمن الوعيد إلا أنها تخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة له لعدم الإنشغال النفسي والفعلي بالكفار ، ومن رشحاته العفو والصفح والإمهال لهم ، وليكون استدراجهم من عند الله آية ومعجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحض لهم لدخول الإسلام .
ويحتمل الجمع بين المطلق والمقيد في آيات القتال وجوهاً :
الأول : تقديم العفو والتحلي بالصبر .
الثاني : الميل إلى السلم والصلح ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ).
الثالث : أولوية القتال .
الرابع : التفصيل بحسب الحال والتباين الموضوعي .
والمختار هو الأول والثاني ، وفي صلح الحديبية ، وقبل إبرام العقد بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووفد قريش قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ إلَى خُطّةٍ يُعَظّمُونَ فِيهَا الْحَرَمَ إلّا أَجَبْتهمْ إلَيْهَا) ( ).
فقبل النبي بشروط قريش ، وعاد وأصحابه إلى المدينة بعد أن صاروا في أطراف الحرم ، إذ أن الحديبية تبعد عن حدود الحرم (2)كم.
ولما فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلح ، قام بنحر هديه ثم جلس فحلق رأسه .
قال ابن إسحاق :حلقه خِراش بن أُمية الخزاعي ، ولما رآى الصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد نحر الذبح والنحر وقيل أن أم سلمة هي التي أشارت على النبي صلى الله علي وآله وسلم بالنحر والذبح بعد أن توقف عنه الأصحاب حنقاً لعدم بلوغهم البيت .
ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجّ ومع هذا ساق معه الهدي وذبحه ، مما يدل على استحباب الهدي في العمرة .
كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث بهديه إلى الحرم ، وهو في المدينة .
وفي حجة الوداع ساق النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة بدنة في ذات الوقف الذي حج فيه (على رحل رث عليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم)( ).
(عن جابر قال: كان علي عليه السلام قدم بهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان الهدي الذي قدم به صلى الله عليه وآله وسلم، وعلي عليه السلام من اليمن مائة بدنة، فنحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها ثلاثا وستين، ونحر علي عليه السلام سبعا وثلاثين، وأشرك عليا عليه السلام في بدنة، ثم أخذ من كل بدنة بضعة فجعلت في قدر فطبخت، فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلي عليه السلام من لحمها وشربا من مرقها) ( ).
وفي خبر آخر أن مجموع ما ساقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة وما جاء به الإمام علي عليه السلام من اليمن هو مائة بُدنة .
ويمكن إنشاء قانون وهو أن كل آية قرآنية تتضمن الأمر بالقتال والدفاع إنما ينظر إليها بلحاظ الآيات الأخرى والبيان في السنة النبوية القولية والفعلية، والمختار التقييد في آيات القتال .
والتقييد بالدفاع وعدم شروع وابتداء المسلمين بالقتال فمثلاً الجمع بين آيتين :
الأولى : قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) .
الثانية : قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) .
وكل من الآيتين وردت في سورة البقرة ، والثانية مقيدة للأولى أعلاه.
وقد ورد الأمر بالقتال في الآية الأولى ،وليس فيه قيد إلا كونه في سبيل الله ، وكأنه في ظاهره يتضمن جواز إبتداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتال ، ولكن خاتمته تشير إلى لحاظ آيات أخرى تتضمن التقييد ، لما في هذه الخاتمة من التحذير والإنذار والبشارة بذكر ثلاثة من أسماء الله الحسنى وأن الله عز وجل يسمع ويبصر ما يفعله المسلمون في حال السلم والحرب بلحاظ الآية الثانية التي تتضمن أموراً :
الأول : تقييد القتال بحال الدفاع.
الثاني : النهي عن التعدي مطلقاً.
الثالث : المنع من التجاوز والإضرار بالغير من الناس جميعاً ، وهذا المنع من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
إذ وردت الآية الأخرى في سورة البقرة ذاتها بتقييد القتال بأمور :
الأول : شرط القتال في سبيل الله وليس لمصالح ومنافع دنيوية ، ومن خصائص قيد [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] الوضوح والتجلي والبيان بما ينفي اللبس فيه ، إنما يكون القصد القربة إلى الله عز وجل في النية والقصد والفعل الخالص في طاعة الله وطلب مرضاته إبتداء واستدامة.
الثاني : إنحصار قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالذين يقاتلونهم ، ويستفاد منه بالدلالة الإلتزامية أنه لا يقاتل المسلمون إلا الذي يهجم عليهم في المدينة وضواحيها ، وتدل على التفسير الذي نذهب إليه وقائع معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة حينما صار جيش المشركين على مسافة بضع كيلوات من المسجد النبوي وأطلقوا إبلهم وخيلهم ترعى في زروع الأنصار، وصاروا يرمون بالنبال من يرونه منهم ، ويهددون باستباحة المدينة ، فخرج لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وحينما وصلوا إلى ميدان المعركة و[الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه عن الإبتداء بالقتال أو الرمي ، فبرز أبو سعد بن أبي طلحة فنادى (وَهُوَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ هَلْ لَك يَا أَبَا الْقُصَمِ فِي الْبِرَازِ مِنْ حَاجَةٍ ، مخاطباً الإمام علي عليه السلام متقدماً بالراية.
قَالَ نَعَمْ . فَبَرَزَا بَيْن الصّفّيْنِ فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ عَلِيّ فَصَرَعَهُ ثُمّ انْصَرَفَ عَنْهُ وَلَمْ يُجْهَزْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ أَفَلَا أُجْهِزْت عَلَيْهِ ؟
فَقَالَ : إنّهُ اسْتَقْبَلَنِي بِعَوْرَتِهِ ، فَعَطَفَتْنِي عَنْهُ الرّحِمُ وَعَرَفْتُ أَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ قَتَلَهُ)( ).
الثالث : وجوب إجتناب المسلمين الإعتداء الخاص والعام ، وحرمة هذا الإعتداء والنهي عنه ، والنسبة بين الظلم والتعدي العموم والخصوص المطلق ، فكل تعد هو ظلم ، وليس العكس.
الرابع : بيان قانون وهو أن الله عز وجل لا يحب المعتدين مجتمعين ومتفرقين .
وحتى قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) أيضاً يمكن تضمنه التأكيد على حرمة الإعتداء ، وأن الله يسمع المناجاة ، فيجب أن لا تكون بالإعتداء والظلم .
ليكون تقدير [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] إدفعوا الذين يقاتلونكم.
من مفاهيم (لاتعتدوا)
من المعاني المستقرأة قوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا] أنه مطلق في النهي عن التعدي من المنفرد والجماعة ، وإن كان مقيداً لغيره ، ومن وجوه إطلاقه :
الأول : لا تعتدوا في القتال .
الثاني : لا تعتدوا في السلم .
الثالث : لا تعتدوا ولا تقتلوا النساء والصبيان والشيوخ .
الرابع : فان امتنع المشركون عن القتال فلا تعتدوا .
الخامس : إن طلب المشركون السلم فاجيبوهم ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ).
السادس : فلا تعتدوا للتضاد بين الإيمان والإعتداء .
السابع : فلا تعتدوا [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
الثامن : فلا تعتدوا فان القرآن سبيل هدى للناس .
التاسع : قوموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كيلا تعتدوا .
العاشر : لا تعتدوا في المعاملة والبيع والتجارة ، وهل السرقة والربا من الإعتداء ، الجواب نعم ، قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (بُعثت لأتُمّم مكارم الأخلاق)( ).
الحادي عشر : لا تعتدوا على أنفسكم ولا على غيركم .
الثاني عشر : لا تعتدوا على أسركم وفي بيوتكم.
الثالث عشر : لا تعتدوا على الناس مطلقاً.
إذ وردت الآية بصيغة الإطلاق والتنكير ، فلم تقيد الموضوع أو الجهة التي لا يصح الإعتداء عليها .
وجاءت آية البحث في سياق الآيات بعد الخطاب للمسلمين بآيات فريضة الصيام التي تبدأ بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
وهذه الآية [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، هي الآية 190 من سورة البقرة وحتى خاتمة الآية التي قبلها تقول [وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، كي يكون القتال مقيداً بلحاظ سياق الآيات بأمور :
الأول : سبق الأمر بالتقوى والخوف من الله عز وجل لآية البحث، ومن تقوى الله إتباع أوامره إيماناً واحتساباً ، وقربة إليه تعالى ، وإجتناب ما نهي عنه خشية منه سبحانه ، وإقراراً بوعده ووعيده ، وتضمنت خاتمة الآية السابقة البشارة بالفلاح والفوز والنجاح عند التقيد بسنن التقوى ، ومنها الحرص على أداء الفرائض العبادية منها الصلاة ومنها الصيام والحج ، إذ ذكرتها الآيات السبعة السابقة لآية البحث.
فان قلت إنما ذكرت وجوب الصيام وأحكامه ، وأشارت إلى الحج وأوانه على نحو الدقة الزمانية في الآية السابقة بقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) والجواب الصلاة ملازمة للصيام والحج ، وتتقوم كل فريضة منها بأداء الصلاة .
وهل من دلالة لتقديم أحكام فريضة الصيام والحج على الأمر بالدفاع في نظم هذه الآيات .
الجواب نعم من جهات :
الأولى : تأكيد قانون وهو تقديم المسلمين للفرائض العبادية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثانية : أداء العبادات واقية من الغزو والإعتداء .
الثالثة : تجلي قانون وهو : كل أداء لفريضة تفقه في الدين .
الرابعة : بيان قانون وهو أولوية أداء الفرائض العبادية وضبطها ، وتقيد المسلمين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي بها .
الخامسة : إفادة قانون وهو : من معاني الدفاع في سبيل الله الدفاع عن كل من :
الأولى : الدفاع عن عمارة المساجد وإقامة الصلاة ، قال تعالى [إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ]( ).
الثانية : إطلالة هلال شهر رمضان على أجيال المسلمين بأمن وأمان بازاحة عدوان مشركي قريش.
الثالثة : تنزيه البيت الحرام من الأصنام ،وإزاحة المشركين عن الولاية والإشراف عليها ، فحينما تأتي وفود الحاج لا يكون المتولي والقائم بأمور البيت المشركين وأرباب الضلالة ، قال تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
لقد كانت قريش تتولى الإشراف على أمور البيت الحرام وهم مشركون، أما بعد البعثة النبوية وهجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فقد جهزوا الجيوش لمحاربته والصحابة من المهاجرين والأنصار ، وصاروا يحرضون شيوخ ورجال القبائل الذين يأتون إلى مكة للحج أو العمرة على أمور :
الأول : البقاء على الكفر لتكون رؤيتهم للأصنام منصوبة في البيت الحرام عوناً لقريش للحض على هذا البقاء القبيح ، ومن مكر وضلالة قريش أنها تركت لكل قبيلة نصب صنم خاص بها في البيت الحرام .
الثاني : الإفتراء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
الثالث : إشاعة أخبار ضعف المسلمين .
الرابع : طلب قريش إلى رجال القبائل نصرتهم في قتالهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهجومهم على المدينة .
الخامس : تشويه سمعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأنهم يريدون الإستيلاء على القوافل التجارية ، ولم تلتفت قريش إلى إستيلائها على أموال وبيوت المسلمين في المدينة .
السادس : طلب قريش من القبائل غزو المدينة ، وقيام قريش بتقديم المال على شكل هبات وقروض ، وتزويدهم بالخيل والإبل والأسلحة ، فمن عادة بعض الأغنياء إذا أرادوا المكر بعدوهم تحريض الرجال عليه وإعانتهم بالمال ، لذا تضمنت آية البحث نهي المسلمين عن الإعتداء ، إذ أن هذه الإعانة من الإعتداء .
وكأن الآية تخبر المسلمين على أن نتيجة الدفاع في سبيل الله هو النصر والغلبة على المشركين ، فيجب عدم المقابلة بالمثل ، لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يكيد بقريش إنما كان يدعو لهم بالهداية .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق( ).
وحينما غزا المشركون المدينة في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة واستشهد حمزة بن عبد المطلب وتسعة وستون آخرون من الصحابة ، وأصيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدة بجراحات إذ رماه عتبة بن أبي وقاص بأربعة أحجار فكسر رباعيته السفلى وجرح شفته السفلى وسال الدم منها ، قابلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء لهم بالهداية ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ومن أسرار دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للكافرين في المقام دعوة المسلمين للأخلاق الحسنة ، واللجوء الى الدعاء ، وتذكير المشركين بأن مقاليد الأمور بيد الله عز وجل ، وزجرهم عن التعدي وقطع الأرحام ، قال تعالى[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ]( ).
وفي كثرة جراحات النبي وأصحابه شاهد على دقة الرمي آنذاك وإمكان أن يصيب السهم أو الحجارة العين والرأس .
وأدمى ابن قميئة وجنتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى غاب حلق المغفر( ) فيهما ، وسال الدم من الشجة التي في جبهته حتى أخضب لحيته .
ووقع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إحدى الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق كخنادق ليقع فيها المسلمون ، فجحشت ركبتا رسول الله (عن أبي بشير المازني، قال: حضرت يوم أحد وأنا غلامٌ، فرأيت ابن قميئة علا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بالسيف، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وقع على ركبتيه في حفرةٍ أمامه حتى توارى، فجعلت أصيح وأنا غلام حتى رأيت الناس ثابوا إليه.
قال: فأنظر إلى طلحة بن عبيد الله آخذاً بحضنه حتى قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم) ( ).
وقيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ (ادع الله عليهم.
فقال: ” اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) ( ).
ليستجيب الله عز وجل لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتدخل قريش افراداً وجماعات الإسلام تباعاً ، فلا يمر يوم أو بضعة أيام حتى يأتي رجال من مكة إلى المدينة لإعلان دخولهم الإسلام ، أو ليخبروا عن سبق إسلامهم وهم في مكة ، فينالوا درجة المهاجر تلك المنحة والوسام السماوي الذي ورد في القرآن ، وليس من درجة أرفع وأسمى من الثناء ونيل اسم خاص من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
إلى جانب الذين دخلوا الإسلام وبقوا في مكة لم يغادروها رجالاً ونساءَ .
ليكونوا نواة فتح مكة ، وبرزخاً دون تجهيز قريش الجيوش لمواجهة ومنع دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة في السنة الثامنة للهجرة بعد أن نقضت عهدها ، قال تعالى [الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] ( ) لبيان سرِِ من أسرار نهي المسلمين عن الإعتداء واختتام آية البحث بالإخبار عن بغض الله للمعتدين بقوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) فينتقم الله عز وجل من المشركين إذ أنهم معتدون من وجوه كثيرة منها :
الأول : إختيار الكفر والضلالة .
الثاني : نصب الأصنام في البيت الحرام .
الثالث : إنكار النبوة وآيات التنزيل .
الرابع : ظلم المشركين لأنفسهم ، فالإقامة على الكفر ظلم وتعد ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الخامس : تعذيب المسلمين في مكة .
السادس : فرض الحصار قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بني هاشم ثلاث سنوات في مكة .
السابع : إرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه ليلة الهجرة ، قال تعالى [لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) .
الثامن : تجهيز الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، كما في معركة بدر ، وإرادة غزو واستباحة المدينة المنورة كما في معركة أحد والخندق ، قال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ] ( ) .
التاسع : تفاخر قريش بقتل طائفة من الصحابة في معركة بدر وأحد .
العاشر : التمثيل بجثث الشهداء كما في قيام النسوة من قريش ببقر بطون الشهداء في معركة أحد ، ومنهم حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي قتله وحشي ، وبقر بطنه، وأخرج كبده ، وذهب به لهند بنت عتبة لينال الجائزة منها .
الحادي عشر : بعث الرجال لإغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني عشر : تحريض القبائل على غزو المدينة ومد ّهم بالمال والسلاح.
قانون منافع إحصاء آيات الدفاع
ليس من حصر للعلوم التي جاءت بها آيات القرآن والمواضيع والقوانين والمسائل التي تضمنتها , وحيث تدرس آيات الأحكام مستقلة , كذا لابد من حصر وإحصاء آيات الدفاع من جهات :
الأولى : إحصاء آيات الدفاع والقتال .
الثانية : بيان أسباب نزول كل آية من آيات الدفاع .
الثالثة : الوقائع التي تتعلق بها آيات الدفاع ، كما في قوله تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] ( ) والآية في دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ضد جيوش هوازن وثقيف في معركة حنين في شوال من السنة الثامنة للهجرة .
الرابعة : إستقراء المسائل والقوانين من كل آية من آيات الدفاع .
الخامسة : الجمع بين آيات الدفاع واستنباط المسائل من هذا الجمع .
السادسة : دلالة آيات القتال على إرادة الدفاع المحض منه .
السابعة : الأحاديث النبوية الخاصة بآيات الدفاع تفسيراً ودلالة.
الثامنة : سنن الدفاع , وتجلي قانون عدم بدء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالقتال في كل واقعة .
التاسعة : قانون صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل وأثناء وبعد القتال ، قال تعالى [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ] ( ).
العاشرة : دلالة آيات القتال على الدفاع المحض من غير ليّ لموضوعها , أو إصرار على حصر المراد منها من غير دليل على هذا لحصر .
الحادية عشرة : ضبط تأريخ نزول آيات القتال قدر المستطاع بلحاظ أسباب النزول , والسنة النبوية , وأحاديث الصحابة , والقرائن المقالية والحالية .
الثانية عشرة : التباين بين غاية المسلمين الحميدة من الدفاع , وغاية الكفار الخبيثة من القتال .
الثالثة عشرة : الفصل والتمييز بين كل من :
الأول : النسخ .
الثاني : تخصيص العموم .
الثالث : تقييد المطلق .
الرابع : الإستثناء .
الخامس : شروط القتال ومقدماته .
ولا يختص هذا الفصل بخصوص مضمون الآية القرآنية الواحدة إنما يشمل آيات القرآن , فقد تجد العموم في آية ، والتخصيص أو الإستثناء في آية أخرى من غير أن تصل النوبة إلى النسخ .
وقال ابن عربي : كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار أو التولي والإعراض والكف عنهم فهو منسوخ بآية السيف [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
وإذا كان المقصود كفار مشركي مكة فهو موضوع آية السيف أعلاه , أما إذا كان يقصد الإطلاق الزماني والعموم في المذاهب والملل غير الإسلام فلا أصل لقوله هذا , جملة وتفصيلا .
ويجب على الفقهاء والعلماء عدم الوقوف عنده , فلم يرد مثل هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وأئمة أهل البيت فهو ليس بحجة , ولا يصح التمسك بقول عالم متأخر في زمانه منفرد متشدد في قوله ، والإعراض عن مثل هذه القول نهج قويم ، وحرب على الإرهاب ، قال تعالى [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ) .
وترد كنية (ابن عربي) في التأريخ لشخصيتين :
الأول : محمد بن عبد الله بن محمد المعافري , المشهور بالقاضي أبو بكر بن العربي المالكي , والمعافر احدى قبائل سبأ اليمنية .
ولد في اشبيلية سنة (468) هجرية , ثم إرتحل مع أبيه ودخل الشام ودرس على يد علمائها .
الثاني : محمد بن علي بن محمد الطائي الأندلسي , والمشهور بــ(محيي الدين ابن عربي) ولد في مرسية في أسبانيا , في شهر رمضان سنة (558 هـ/ 1164 م) وأبوه من قبيلة طي العربية , وأمه من البربر , ثم إنتقل إلى اشبيلية وخدم أبوه في بلاط حاكم مرسية , وترعرع ابن عربي في بلاط حاكم اشبيلية , وتدرب على المهام العسكرية فيها , وهو أيضاً هاجر إلى الشام , وله مؤلفات تعرض عدد منها إلى الضياع , ومن أهم كتبه تفسير ابن عربي والفتوحات المكية الذي ضمنه آراءه الصوفية , وإرهاصاته العقلية والروحية.
والمراد من (ابن عربي) في هذا الحديث هو الأول .
وهل من تعارض بين آيات السلم وآيات الدفاع والقتال ، الجواب لا , فمن المسلمات عند كل المسلمين إنتفاء التعارض بين آيات القرآن ولا تصل النوبة إلى النسخ بينها , إذ لو دار الأمر بين الجمع بين آيتين وبين النسخ بينهما , فالجمع هو المقدم , ونؤسس هنا قانوناً وهو: ليس من آية في القرآن إلا ويحتاج إليها المسلمون وعامة الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ).
فلا يصح القول بالنسخ بخصوص أي آية في القرآن إلا بشروط :
الأول : ورود الدليل على النسخ , وهل قول التابعي بالنسخ غير المرفوع حجة في المقام ، المختار لا , ولو تم إحصاء الآيات المنسوخة والقائلين بنسخها تبين أن أكثره منسوب للتابعين أو تابعي التابعين أو بعض المفسرين .
ويذكر بعض التابعين كالسدي والربيع والحسن البصري نسخ عدد من الآيات ولم ينسبوا القول بالنسخ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من أدركوه من الصحابة ، والموضوع صغروي ، إذ أن آيات القرآن يفسر بعضها بعضاً.
الثاني : تعذر الجمع بين الآيتين , ودونه خرط القتاد .
الثالث : إنتفاء موضوع وحكم الآية .
الرابع : وجود الناسخ بين الدفتين وتأخر زمان نزوله عن المنسوخ .
قانون عدم نسخ السنة للقرآن
القرآن هو كلام الله لفظاً المكتوب في المصاحف المتعبد بتلاوته ، وقد اصطفى الله عز وجل النبي محمداً من بين مجموع الأنبياء لنزوله على صدره.
وبهذا التعريف يخرج الحديث القدسي والسنة النبوية القولية وإن كان فرعاً من الوحي ، وهل قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) دليل على عدم نسخ السنة النبوية للقرآن ، المختار نعم ، وإن لم نر أحداً قال بهذا الإستدلال .
ويتجه بعض الباحثين في موضوع نسخ السنة للقرآن إلى قول رؤساء المذاهب ، فيقولون مثلاً : ذهب الإمام مالك والحنفية إلى القول بجواز نسخ السنة المتوترة للقرآن ، أي أن أبا حنيفة لم يقل بالنسخ .
وذهب الإمام الشافعي وأحمد في احدى روايتين عنه إلى منع نسخ السنة للقرآن .
والأولى أن لا يكون هذا الأمر وحده هو الملاك أو عليه المدار في هذا الموضوع ذي الأهمية ، إنما المرجع فيه إلى :
الأول : آيات القرآن والصلة بينها ،والجمع بين مضامينها القدسية .
الثاني : تفسير آيات القرآن بعضها لبعض .
الثالث : تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن ، ودلالات هذا التفسير فيما يخص موضوع النسخ .
الرابع : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآيات التي يقال أنها منسوخة من غير ان يذكر نزول الناسخ عليها أو على موضوعها ، والمختار أن قوله تعالى [وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً] ( ) دليل على أن الأصل في آيات القرآن عدم النسخ .
الخامس : عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بمضمون الآية التي يقال أنها منسوخة ، وهل هذا العمل على فرض ثبوته حجة بعدم نسخها ، الجواب نعم ، إذا كان متأخراً زماناً على نزول الناسخ .
السادس : لو دار الأمر بين عمل رسول الله بمضامين الآية القرآنية وبين ورود حديث يدل على نسخها ، يقدم الأول .
السابع : من علامات الحقيقة التبادر ، ويتبادر إلى أذهان المسلمين أن الآية القرآنية لا تُنسخ إلا بآية قرآنية .
والقول بنسخ السنة للقرآن على وجهين :
الأول : نسخ القرآن بالسنة المتواترة .
الثاني : نسخ القرآن بحديث الآحاد .
والمختار أن السنة لا تنسخ القرآن , وهو ظاهر النصوص في الصدور عن القرآن , وبه قال جمع من العلماء , منهم الشافعي .
واستدل على نسخ السنة للقرآن بنسخ قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا وصية لوارث لقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( ) والحديث أعلاه حديث آحاد.
ولكن ذكر أن آية المواريث هي الناسخة للآية اعلاه, وأنه نسخ الوجوب وبقي الإستحباب وقد تقدم الكلام فيه, وقد وردت أحاديث عديدة من الصحابة بخصوص الآية أعلاه , ولفظ الخير في قوله تعالى [إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( ).
مما يدل بالدلالة التضمنية على التسالم بينهم أن الآية غير منسوخة , وقد وردت نصوص بإستحباب كتابة الوصية , وللمسلم أن يوصي بالثلث من ماله , ولكن أختلف هل تشمل الوصية الوالدين أم أنها لغيرهم , والأقرب والأهم والأحوج , و(عن ابن مسعود : الوصيّة للأخل فالأخل أي الأحوج فالأحوج.{حَقًّا} واجباً) ( ).
وأستدل على نسخ السنة للقرآن بنسخ السنة لعشر رضعات ، ونسخ سورة الحفد وسورة الخلع تلاوة وحكماً .
كتاب سليمان توطئة لبعثة النبي محمد (ص)
بين لغة قريش التي نزل بها القرآن وبين اللغة العربية عموم وخصوص مطلق ، فالعربية أعم وهي لغة هل الجنان وهي لغة الأنبياء في مخاطبتهم للعرب ، كما في خطاب النبي سليمان عليه السلام لبلقيس ملكة سبأ ، [قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ]( )، وبعد أن أخبر الهدهد سليمان عليه السلام عن ملك بلقيس واتباع قومها سبأ لها .
(كتب سليمان كتاباً : من عبد الله سليمان بن داود الى بلقيس ملكة سبأ، السلام على مَن اتبّع الهُدى، أمّا بعد فلا تعلوا عليَّ وأتوني مسلمين)( ).
لقد قدم اسمه في الرسالة لمقام النبوة إذ أن الأعلى حينما يخاطب الأدنى يقدم اسمه ، ولكنه لم يصف نفسه إلا بصفة العبودية لله ، وخاطبها بصفة الملك والشأن الرفيع لبيان قانون وهو أن صفة العبودية لله أعظم من الملك والسلطان.
وفيه دعوة من النبي سليمان عليه السلام لبني إسرائيل وغيرهم بعدم الغلو في شخصه الكريم ولتشهد الله والناس جميعاً على هذا القانون خاصة وقد آتاه الله الملك والنبوة وسخر له الطير والجن .
فاذا أراد بعض أفراد قومه الغلو في شخصه وتأليهه جاء الرد من العرب وبلاد اليمن وحضارتها بكتاب سليمان ، وهو يقر ويفتخر بعبوديته لله ، وتوجه سليمان بكتابه الى الملوك لتبقى وثيقة عامة ومنه أن بلقيس جمعت الملأ والرؤساء من قومها وقرأت عليهم كتاب سليمان ، وفي التنزيل [قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ) .
لقد بادرت بلقيس لدعوة الوزراء والقادة والوجهاء للإجتماع لأمر هام ، وهل من موضوعية لاقرار سليمان عليه السلام السلام بعبوديته لله بتسميتها لكتابه بأنه كريم ووقوفها عند البسملة .
الجواب نعم ، وكذا بالنسبة للإلقاء .
وهل هذا الوقوف مقدمة لنزول القرآن لتلقي العرب له بالقبول خاصة وأن البسملة من أسمى الآيات وهي أول آية في نظم القرآن ، الجواب نعم، وفيه نكتة وهي أن سليمان يوطئ لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد قوله تعالى [وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا] ( ) وفي عيسى ورد قوله تعالى [قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا]( ).
ولبيان أنه يلتقي معهم جميعاً بالعبودية لله وهي من أسمى المقامات في الدنيا ، ومن مصاديق خلافة الإنسان في الأرض ، وورد في النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
والمختار أن سليمان كتب إليها الكتاب باللغة العربية وهي لغة أهل اليمن والحجاز ، وقيل إنما كتبها باللغة الآرامية والتي تستعمل إلى الآن عند أتباع الكنيسة السريانية.
وعن الشعبي قال : كان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم . فكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول ما كتب : باسمك اللهم . حتى نزلت {بسم الله مجراها ومرساها} فكتب (بسم الله) ثم نزلت {ادعوا الله أو ادعوا الرحمن}( )، فكتب (بسم الله الرحمن) ثم أنزلت الآية التي في {طس( ) . . . إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } فكتب ( بسم الله الرحمن الرحيم)( ).
(وقال مقاتل : حمل الهدهد الكتاب بمنقاره فطار حتى وقف على رأس المرأة، وحولها القادة والجنود، فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها.
وقال ابن منبّه وابن زيد : كانت لها كوّة مستقبلة الشمس،
تقع الشمس فيها حين تطلع.
فإذا نظرت إليها سجدت لها.
فجاء الهُدهد تلك الكوّة فسدّها بجناحه فارتفعت الشمس ولم تعلم،
فلمّا استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى بالصحيفة إليها.
قالوا : فأخذت بلقيس الكتاب وكانت كاتبة قارئةً عربيةً من قوم تُبع بن شراحيل الحميري.
فلمّا رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأن ملك سليمان (عليه السلام) كان في خاتمه.
وعرفت أنّ الذي أرسل هذا الكتاب هو أعظم مُلْكاً منها؛ لأن مَلِكاً رُسله الطير إنّه لمَلِك عظيم.
فقرأت الكتاب وتأخّر الهدهد غير بعيد فجاءت حتى قعدت على سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها وهم اثنا عشر ألف قائد.
مع كلّ قائد مائة ألف مقاتل.
وقال قتادة ومقاتل والثمالي : كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً كل رجل منهم على عشرة آلاف.
قالوا : فجاؤوا وأخذوا مجالسهم فقالت لهم بلقيس : {يا أيّها الملأ إنّي أُلقي إليَّ كتاب كريم} .
قال قتادة : حسن،)( ) .
وذكر أنه كتاب كريم أي مختوم ولكتن المعنى أعم .
فمن معاني الكريم أمور :
الأول : كيفية الإلقاء ، وما فيها من الإعجاز .
الثاني : دلالة إلقاء الكتاب على إمكان وصول جنود سليمان لها من غير أن يمنعهم حاجب أو يصدهم حرسي .
الثالث : ورود البسملة في الكتاب .
الرابع : تواضع وتصاغر سليمان لمقام الربوبية وأنه لم يعرف نفسه إلا بشرف لعبودية الله .
الخامس : إنحصار السلام في الكتاب على أهل الإيمان .
وفيه دعوة لبني إسرائيل على عدم الغلو بسخص سليمان ولا غيره من الأنبياء ، وفيه بشارة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم الغلو في شخصه .
وفي ذكر البسملة شاهد على أن سليمان يشهد الملوك على أنه عبد الله، وفي عيسى ورد التنزيل [قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا] ( ) وجاء هذا المعنى صريحاً في رسائل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لملوك عصره .
الرابعة : بعث السكينة في نفوس أفراد القبائل من القرآن ، وترغيبهم بالإستماع إليه ، لقد كانت العصبية القبلية عند العرب شديدة ، وكان الإنسان إذ قتل من قبيلة أخرى فان أفراد قبيلة القاتل يكونون مطلوبين من جميع أفراد قبيلة المقتول فجاء الإسلام بالقصاص الذي لا يكون إلا بشروط :
الأول : ثبوت القتل العمد.
الثاني : انحصار القصاص بشخص القاتل دون غيره من ذوي قرباه.
الثالث : عدم عفو ولي الدم أو رضاه بالدية ، وقال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( )، فقضى عليه السلام بالقرآن والسنة.
وهو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : إنها معجزة إيمانية .
الثاني : إنها معجزة إجتماعية وفيها تنمية للصلات الحسنة بين الناس ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا] ( ).
ولا تزال تظهر في الأمصار مثل هذه العادات من الثأر والإنتقام حال ضعف الإيمان وغياب القانون ، بينما كانت الأشهر الحرم الأربعة في الجاهلية برزخاً دون العموم الأفرادي والزماني للثأر .
الثالث : إنقطاع الثأر العشوائي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورشحات كل منهما .
الرابع : التضاد بين الأخوة الإيمانية وبين الثأر العشوائي ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
الخامس : عمومات نهي الإسلام عن القتل ظلماً إذ أن قتل غير القاتل من الظلم والجور والتعدي ، قال تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( ).
السادس : أولوية أداء المسلمين الفرائض العبادية ، ومنها أداء الصلاة واستحبابها جماعة ، وإزاحة الكدورة والضغائن عن القلوب .
فمثلاً ذكر أن عبد الله بن مسعود كان يقرأ (ليسجننه عتى حين) فسمع عمر رجلاً يقرأ بهذه القراءة (فقال : من أقرأك؟ قال : ابن مسعود فكتب إليه : إن الله أنزل هذا القرآن فجعله عربياً وأنزله بلغة قريش ، فأقرىء الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل ، والسلام)( ).
إذ أن عبد الله بن مسعود هذلي ، وهو حليف بني زهرة فكأن عمر قال له لا تقرأ بلغة قومك ، وتولى عبد الله مسعود قضاء الكوفة وبيت مالها أيام عمر بن الخطاب وصدراً من أيام عثمان.
وقد نزل القرآن بلغة قريش وهم خلاصة العرب ، وعندهم تنقيح وغربلة للهجات وكانوا يحرصون على اللغة الأم والمفردات العربية لأنها وسيلة التفاهم مع كل القبائل والوفود الذين يأتون إلى مكة للحج والعمرة ، فالذي عنده لهجة خاصة يعرف الكلمة الأصل أيضاً.
وقريش هم بنو النضر بن الحارث ، ومن أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما ورد (عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يتم بعد حلم ، ولا رضاع بعد فصال ، ولا صمت يوم إلى الليل ، ولا وصال في الصيام ، ولا نذر في معصية ، ولا نفقة في معصية ، ولا يمين في قطيعة رحم ، ولا تعرب بعد الهجرة ، ولا هجرة بعد الفتح ، ولا يمين لزوجة مع زوج ، ولا يمين لولد مع والد ، ولا يمين لمملوك مع سيده ، ولا طلاق قبل نكاح ، ولا عتق قبل ملك) ( ).
وهذا الحديث من جوامع الكلم ، وهو مدرسة فقهية مستقلة في باب العبادات والمعاملات والأحكام ، فلا غرابة أن يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكلامه بتوئدة وتأن ، ومن منافعه وجوه:
الأول : تفقه الصحابة في الدين ، وإرتقاؤهم في المعارف ، ويمكن تقسيم مراتب الفقاهة عند إلى مرتبتين :
الأولى : عامة.
الثانية : خاصة ، والتي تتجلى بقوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( )، أي التفقه الخاص لا يمنع من التفقه العام ، كما أنه رافد للعام.
الثاني : من أسرار خلق الإنسان وآثار إنشغاله بأمور الحياة لدنيا والكسب التباين في الحافظة والفهم ، فيأتي كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليصل إلى أذهان المستمعين كافة ، ويتدبروا في معانيه ودلالاته .
الثالث : لقد طرأت على أهل الأرض آية عظمى لم تحدث سابقاً ، ولم تتكرر وهي الحديث الصادر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو المصدر الثاني للتشريع ، لقوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) .
فأراد الله عز وجل أن تبقى السنة النبوية في الأرض إلى يوم القيامة من دون أن يطرأ عليها التغيير باختلاف الصحابة في النقل خاصة ، وأنهم كانوا غالباً ما يكتبون الحديث أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
هجرة أم كلثوم بنت عقبة
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
ومن شروط صلح الحديبية الذي تم في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة :
الأول : وضع الحرب لعشر سنوات تأمن فيها الطرق .
الثاني : من جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً يرده إلى قريش , ومن جاء لقريش من المسلمين لا يرد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : للناس أن يدخلوا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم , أو في عهد قريش( ).
ومن النساء اللائي أسلمن في مكة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُبيعة بنت الحارث فعلمت بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صار قريباً من مكة يوم الحديبية فخرجت مهاجرة ، فدخلت معسكر المسلمين بعد إمضاء العقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووفد المشركين .
(وعن ابن عباس : أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معتمراً حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكّة على من أتاه من أهل مكّة رده عليهم ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو لهم ولم يردوه عليه ، وكتبوا بذلك كتاباً وختموا عليه فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية.
فأقبل زوجها مسافر وهو من بني مخزوم , وقال مقاتل هو صيفي بن الراهب في طلبها ، وكان كافراً، وقيل أنها لم تتزوج بعد.
فقال : يا محمد أردّد علي امرأتي فأنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منّا وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله سبحانه {يا أيّها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات}( ) من دار الكفر الى دار الإسلام.
{فَامْتَحِنُوهُنَّ}( )، قال ابن عباس : إمتحانهن أن يستحلفهن ماخرجت من بغض زوج وما خرجت رغبة عن أرض الى أرض وما خرجت التماس دنياً وما خرجت إلاّ حبّاً لله ورسوله ، فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما خرجت بغضاً لزوجها ولا عشقاً لرجل منا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام)( ).
ومن الإنصاف في الشريعة الإسلامية قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( )، فمع أن الزوج قد دخل بالزوجة واستمتع بها ، وربما أنجبت له أولاداً ولكن حينما تدخل الإسلام ويبقى هو على كفره جاء الأمر من الله عز وجل بأن يعاد إليه المهر الذي دفعه لها .
ولا ترد هي المهر وإن كان موجوداً عندها إنما يدفع من بيت المال أو يقوم المسلمون بدفعه من الزكاة والحقوق الشرعية أو تبرعاً وفيه دعوة للزوج لدخول الإسلام .
وتزوجها بعد الهجرة زيد بن حارثة ولما قتل في معركة مؤتة تزوجها الزبير بن العوام ، وكانت كارهة له لشدته على نسائه ، وكانت نسأله الطلاق فيأبى عليها ، وحصلت خصومة بينهما ، وضربها المخاض وهي حامل في الشهر السابع فالحت عليه أن يطلقها تطليقة واحدة ، وهو لا يعلم بحال الطلق التي هي عليها ، ويحسب أنه يرجع بها بعد عودته من الصلاة ، ولكنها وضعت قبل أن يعود فاتبعه انسان أهله وأخبره إنها وضعت فقال (خدعتني خدعها الله! فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال : قد سبق فيها كتاب الله فاخطبها ، فقال: لا ترجع أبداً)( ).
(ثم تزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له إبراهيم وحميدا، ومات عنها عبد الرحمن فتزوجها عمرو بن العاص فماتت عنده)( ).
لقد تم صلح الحديبية , وصارت هدنة , والطرق العامة آمنة فخرجت أم كلثوم بنت عقبة بمفردها في السنة السابعة للهجرة .
وأمها أروى بنت كريز ، فهي أخت عثمان بن عفان لأمه وأصغر منه سناً , فحينما توفى عفان بن أبي العاص والد عثمان تزوجها عقبة بن أبي معيط , وكلاهما من بني أمية.
وعقبة بن أبي معيط من كبار مشركي قريش ووضع سلا الجزور وهي الجلدة الرقيقة والأوساخ التي تخرج مع حمل الشاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وقام مرة بخنقه , وبصق في وجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة .
وامرأة مكلثمة أي ذات وجنتين وكثيرة لحم الوجه .
ومنه أم كلثوم , بضم الكاف , بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وأم كلثوم بنت الإمام علي عليه السلام التي قالت لأهل الكوفة بعد واقعة كربلاء (أَتدرون أَيَّ كَبِدٍ فَرَثْتم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الفَرْثُ تَفْتيت الكَبِد بالغم والأَذى) ( ).
وفي الخبر : خرجت أم كلثوم بنت عقبة وهي عاتق قبل هجرتها , (قال ابن الأَثير العاتِقُ الشابة أَول ما تُدْرِكُ وقيل هي التي لم تَبِنْ من والديها ولم تتزوج) ( ) ومدة الطريق بين مكة والمدينة نحو ثمانية أيام .
وجاء أخواها عمارة والوليد إلى المدينة فسألا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يردها عليهما فأبى عليهما لأن الإتفاق بخصوص الرجال دون النساء .
ومما روته عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وورد عن حميد بن عبد الرحمن (أن أمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، أخبرته أنها ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس ، فيقول خيرا ، أو ينمي خيرا)( ).
ويدعو القرآن المسلمين والمسلمات لتعاهد جامعته كل يوم في الصلاة وخارجها .
قانون تفرق الصحابة في الأمصار من إعجاز القرآن الغيري
من إعجاز القرآن الغيري ومصاديق صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثرة عدد الصحابة فيندر أن كان عدد أصحاب نبي من الأنبياء مائة ألف عند مغادرته الحياة الدنيا ، إلا ما قلّ , كما قيل في موسى عليه السلام وخروج نحو ستمائة ألف من قومه بني إسرائيل معه من مصر.
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنفراده بكثرة الصحابة الذين انتقلوا بدعوته ونبوته إلى الإسلام بعد أن كانوا كافرين فليس من نبي استطاع ان يجمع هذا العدد من الصحابة في حياته ، وهل هذه الكثرة هي المقصودة في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم (مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا مِثْلَهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)( ).
الجواب المراد من الحديث ما هو أعم إذ يشمل عموم أجيال المسلمين والمسلمات ، ويبين الحديث وصيغة الرجاء فيه أن الرسول قد يغادر الدنيا وليس عنده إلا أصحاب قليلون ، ولكن أتباعه يتضاعفون ، ومن الشواهد الرسول عيسى عليه السلام وكثرة أمة النصارى بعد أن كان عدد أصحابه والحواريين قليلاً.
وهل كثرة أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عمومات قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ) .
الجواب نعم , وقد انتشروا في الأمصار ليكونوا مرآة لمشكاة النبوة , ورسلا لمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وخطبه وسنته الفعلية ليقتدي به عموم التابعين , وكانوا مفسرين للقرآن , وشهوداً على التأريخ, وكيف أن النبي محمداً كان رجل السلام , والهادي إلى سبل الصلاح والرشاد , وكانوا أئمة , وواقية من الفرقة والخلاف في آيات التنزيل وأجزاء وكيفية الفرائض , ومنهم من اتصف بالزهد وتعاهد الإجتهاد في العبادة , وكانوا لا يألون جهدا في بيان السنة النبوية , وأحكام الشريعة .
عن أبي الأسود قال (بَعَثَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِىُّ إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلاَثُمِائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ فَقَالَ أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ فَاتْلُوهُ وَلاَ يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِى الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ فَأُنْسِيتُهَا غَيْرَ أَنِّى قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلاَ يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ. وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ فَأُنْسِيتُهَا غَيْرَ أَنِّى حَفِظْتُ مِنْهَا [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ]( ).
فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِى أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)( ).
فلم يعد يخشى على القرآن من التحريف ، ولا على المسلم من الإرتداد، لذا فالمختار أن قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ]( )، محكم غير منسوخ .
فمن منافع ودلالة كثرة تلاوة كل مسلم ومسلمة منهم القرآن , منها سبع عشرة مرة كل يوم تفقه طائفة منهم بأحكام الشريعة لتجلي الحاجة العامة بالرجوع إليهم والصدور عن الفتاوى التي تستقرأ وتستنبط من الكتاب والسنة ، قال تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
وهل يعني هذا أن الفقاهة محصورة بهولاء العلماء ، الجواب لا ، فمن الإعجاز في تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن كل يوم التفقه في الدين على نحو الموجبة الجزئية .
قانون الجامعة اليومية للقرآن
لقد أنعم الله سبحانه على كل واحد من المسلمين والمسلمات بأن صاروا طلبة وتلاميذ في جامعة القرآن يدرس فيها كل يوم إلى أن يغادر الحياة الدنيا , تلاوة وتدبراً , وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
وتتصف جامعة القرآن بأمور :
الأول : كثرة عدد الدارسين فيها ، إذ أن عدد طلابها أكثر من مليار مسلم.
الثاني : تتغشى فروع جامعة القرآن بقاع الأرض كلها .
الثالث : ليس من شرط في أعمار الذين يدخلون في هذه الجامعة ، وهي تضم الأب والابن والجد ، والبنت والأم والجدة وقد تتجلى هذه الصورة حقيقة في صلاة الجماعة وصلاة الجمعة ، وصلاة العيدين منفردين في صلاتهم ، أو منضمين إلى غيرهم.
وعندنا مسألة في باب الميراث تسمى ميراث الأجداد الثمانية , سواء مع زوجة الميت أو بدونها ، بأن يموت الإنسان وليس له من ورثة إلا أجداده الثمانية وهم المرتبة الثانية من الأجداد أي ليس الأجداد المباشرين وهي حالة نادرة قد تحصل في زمن الأوبئة والحروب ، ولكن في مدرسة القرآن يجتمع الأجداد الأربعة والثمانية مع الشاب المؤمن في تلاوة القرآن كل يوم وبغبطة.
الرابع : مجانية التعليم في جامعة القرآن.
الخامس : الدراسة خمس مرات في اليوم ، قال تعالى [فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي]( ).
السادس : وجوب الدراسة في جامعة القرآن وجوباً عينياً.
السابع : تبدأ الدراسة في هذه الجامعة من حين سن البلوغ إلى يوم مغادرة الدنيا .
الثامن : ليس من إجازة أو اعفاء في الحضور اليومي في جامعة القرآن ، عن أنس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من نسي صلاة أو نام عنها فليصلّها إذا ذكرها( ).
ومن خصائص هذه الجامعة أن الطلاب فيها لا يريدون الإجازة أو رخصة باستثناء حالات خاصة ، مثل الحيض للمرأة ، وهذه الإجازة لا تتطلب طلباً ، إنما هي مسألة تكوينية ، وحكم عام.
التاسع : تتجلى الدراسة في جامعة القرآن بالصلاة فهي عموم الدين ، إذ تجب قراءة سورة الفاتحة وسورة أخرى في كل ركعة من القرآن .
العاشر : الإمام في هذه المدرسة هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أول من صلى وصام ، لتكون جامعة القرآن عنوان البشارة والسعادة ، وليكون من مصاديق قوله تعالى [يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً] ( ) أن النبي يؤم المسلمين جميعاً وليس أصحابه فقط يوم كان يصلي في المسجد النبوي ويرجو المسلمون في الآخرة شفاعته .
الحادي عشر : لزوم قصد القربة في الدوام في جامعة القرآن ، وفي التنزيل [قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ]( ).
الثاني عشر : مدرسة القرآن اليومية قولية وعملية بالوقوف بين يدي الله بخشوع وخضوع مع تلاوة آيات القرآن.
الثالث عشر : تعاهد كل المسلمين والمسلمات لأوقات الصلاة, وحرصهم عليها .
الرابع عشر : تعلق وإرتباط دروس هذه الجامعة بالآيات الكونية ، قال تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( )، فليس من دراسة عامة تشهدها وتكتبها الملائكة مثل الصلاة.
الخامس عشر : تنمي جامعة القرآن معاني الأخوة بين طلبتها ، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) .
السادس عشر : تمنع جامعة القرآن من نسيان دروسها من جهات :
الأولى : التكرار اليومي لقراءة السور والآيات .
الثانية : التدبر اليومي في آيات وسور القرآن ، وينفرد هذا التدبر بأنه يتغشى مشارق الأرض ومغاربها .
الثالثة : تلاوة أكثر المسلمين والمسلمات آيات القرآن عن ظهر قلب خمس مرات في اليوم مع اختلاف ألسنتهم وأمصارهم وقاراتهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ) .
الرابعة : من الإعجاز الغيري للقرآن منعه من دبيب آفة النسيان إلى حَفَظَة آياته .
السابع عشر : حضّ طلبة هذه الجامعة بعضهم لبعض على الدراسة فيها، وهذا الحض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثامن عشر : الصلاة خير محض ، والإكثار منها فيض وبركة .
التاسع عشر : امتلاء قلوب طلبة جامعة القرآن بالغبطة والسعادة قبل أداء الصلاة وأثناءها وبعدها , وهذا العموم أمر ينفرد به الفعل العبادي , ومن مصاديق قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
لقد كان الصحابة ملتفين حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كالنجوم حول البدر التمام يتلقون آيات القرآن من لسانه ، وترسخت عندهم ملكة أداء الصلاة في أوقاتها .
و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل الأعمال الصلاة لوقتها ، والجهاد في سبيل الله)( ).
و(عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ثلاث أحلف عليهن لا يجعل الله من له سهم في الإِسلام لا سهم له ، وأسهم الإِسلام ثلاثة : الصلاة ، والصوم ، والزكاة .) ( ).
و(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ الصَّلاَةُ وَمِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطُّهُورُ) ( ).
(أحب شىء إلى الله الصلاةُ لوقتها ومن ترك الصلاة فلا دِيْنَ له والصلاةُ عِمَادُ الدِّينِ) ( ) .
(وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الصلاة ميزان ، فمن أوفى استوفى ) ( ) .
(وأخرج البيهقي في الشعب عن عمر قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله أي شيء أحب عند الله في الإِسلام؟
قال : الصلاة لوقتها ، ومن ترك الصلاة فلا دين له ، والصلاة عماد الدين) ( ).
قانون سفارة الصحابة
لقد انتقل كثير من الصحابة وأهل البيت بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأمصار كالعراق والشام وبلاد فارس واليمن .
وقيل أن أغلب الصحابة خرجوا من المدينة المنورة إلى الأمصار بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإذ كان عددهم نحو مائة ألف فان تسعين ألف منهم أقاموا في أمصار أخرى غير المدينة .
والمختار أن هذا العدد مبالغ فيه كثيراً ، نعم قد خرج كثير من الصحابة إلى الأمصار ، وكانوا رسلاً لكل من :
الأول : القرآن من جهات :
الأولى : تلاوة آيات القرآن ، وكيفية تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها ، ولزوم تعاهدها.
الثانية : ضبط آيات القرآن نصاً ورسماً ولفظاً ، ليكون إنتقال الصحابة إلى الأمصار من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثالثة : ذكر الصحابة لأهل الأمصار أسباب النزول .
الرابعة : بيان قانون وهو أن الآيات المنسوخة قليلة جداً ، إذ لا تدل أحاديث أي من الصحابة في الأمصار على أن آية السيف نسخت أكثر من بضع آيات ، وعدد منهم لم يذكر هذا النسخ مع روايته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فكيف وقد ذكروا أنها نسخت مائة وأربع وعشرين آية من القرآن .
الخامسة : تفسير وتأويل القرآن من السنة ، وهو الذي يسمى (التفسير بالمأثور) .
السادسة : بيان كيفية إمتثال الصحابة لآيات الأحكام ، وهو من أبهى مصاديق التفسير لأنه محاكاة لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وليعمل التابعون وعموم أهل الأمصار بقوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ) .
وهل يصدق على الصحابة الذين ذهبوا إلى الأمصار وأقاموا فيها أو رجعوا منها إلى المدينة أنهم مهاجرون ، الجواب لا ، إذ انقطعت الهجرة بفتح مكة .
الثاني : صار الصحابة رسلاً لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية ، وإخبار الناس عما رزق الله عز وجل النبي محمداً من الآيات الباهرات التي تعضد نبوته .
الثالث : بيان العبادات والفرائض وكيفيتها وأوقاتها وحرص الصحابة على اتيانها .
الرابع : حب الصحابة لله عز وجل ، وإخلاصهم في طاعته ، وقصد القربة في أداء العبادات.
الخامس : إنهم رسل السنة النبوية القولية والفعلية ، ومن الإعجاز الغيري في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المسلمين والمسلمات في كل زمان تواقون لمعرفة السنة النبوية ، وحريصون على إتيانها والتقيد بها ومحاكاتها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
السادس : تنزه الصحابة عن الغلو بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإرشاد الناس إلى غجتناب الغلو بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من باب الأولوية عدم الغلو بشخص غيره من الأئمة أو الصحابة .
والغلو هو مجاوزة الشئ حدة الذي جُعل له ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبين مرتبته وأنه عبد الله ورسوله .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم زجر المسلمين عن الغلو بشخصه بينما كان كثير من الرسل محاربين من قبل أممهم كما في قوله تعالى [قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
ولا تختص هذه السفارة بالذين أقاموا في الأمصار منهم ، ولا الذين خرجوا في الكتائب ، إنما تشمل حتى الصحابة وأهل البيت الذين بقوا في المدينة رجالاً ونساءً .
ومن الإعجاز في فريضة الحج مجئ المسلمين والمسلمات إلى مكة لأداء المناسك ، وعروجهم على المدينة لزيارة المسجد النبوي ، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي مناسبة للإلتقاء بالصحابة الذين كان عدد منهم يواظب على الحضور للمسجد النبوي كل يوم ، ويجيب عن الأسئلة بقدر علمه .
أبو أيوب الأنصاري
من إعجاز القرآن تفرق عدد من الصحابة في الأمصار ، فليس من نبي بلغ عدد أصحابه 100 ألف ، اللهم إلا بخصوص موسى عليه السلام ، ومن الأنبياء من كان يبعث لنفسه أو لأسرته وكثرتهم عمومات [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ) .
ورئي أبو أيوب الأنصاري (عند خليج قسطنطينية فسئل عن حاجته، قال : أما دنياكم فلا حاجة لي فيها، ولكن إن مت فقدموني ما استطعتم في بلاد العدو، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
يدفن عند سور القسطنطينية رجل صالح من أصحابي، وقد رجوت أن أكونه، ثم مات، فكانوا يجاهدون والسرير يحمل ويقدم، فأرسل قيصر في ذلك، فقالوا: صاحب نبينا وقد سألَنا أن ندفنه في بلادك ونحن منفذون .
وتوفى أبو أيوب الأنصاري سنة (52) هجرية عن عمر (98) سنة ، واسمه خالد بن يزيد بن كليب الخزرجي حضر بيعة العقبة الأولى واستقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند هجرته في المدينة المنورة ، وأقام عنده بضعة أشهر ، واشترك في معركة بدر وأحد الدفاعيتين ، ويوجد في اسطنبول (117) ضريح تعتني بها وزارة الثقافة التركية ، ولكنْ لقبر أبي أيوب الأنصاري شأن خاص .
وبنيت على قبره قبة يسرج فيها ، وجرت عادة سلاطين بني عثمان أن يتقلدوا الخلافة عند ضريحه ، وصار قبره مزاراً إلى يومنا هذا ، وموطناً لسؤال الحاجة ، وتسمى المنطقة التي يقع فيها القبر منطقة (أيوب ).
ولا بأس بتأليف مجلد خاص عن أضرحة الصحابة في العالم الإسلامي .وتقسم طبقات المسلمين إلى الصحابي والتابعي وتابع التابعي ، ومن بعدهم .
ومنهم من يقسم التابعين إلى عدة طبقات بلحاظ تفاوتهم في الفضل والوثاقة وعدد ومرتبة الصحابة الذين رووا عنهم من وجوه :
الأول : التابعون طبقة واحدة وهو المشهور .
الثاني : التابعون على ثلاث طبقات .
الثالث : التابعون خمس عشرة طبقة ، كما عن الحاكم .
ومن التابعين سعيد بن المسيب ومجاهد بن جبر وسعيد بن جبير .
ومن تابعي التابعين سفيان الثوري وابن أبي ليلى والأوزاعي وابن شبرمة .
ومنهم من ذكر أسماء بعض المسلمات في التابعيات ، مثل حفصة بنت سيرين .
والذي اسلم أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكون من التابعين لأن التعريف يشمله ، ولا مانع من إعادة التقسيم وجعل هؤلاء طبقة خاصة وعددهم ليس بالقليل .
ومن الإعجاز في كثرة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلامة القرآن من التحريف فهذه الكثرة من مصاديق الجمع بين قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ) وقوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ] ( ) .
وفي إخبار الآية أعلاه عن كثرة وقوة وعظيم نفع جنود الله دعوة للعلماء للعناية بهذه الآية ، والإخبار عن شذرات من القوانين والحقائق التي تتعلق بموضوع (جنود الله) في الأرض والسماء.
ولو استمر تحقيق العلماء في المقام في الأحقاب المتعاقبة فأنهم لا يستطيعون إدراك كنه هذه الآية ، وكشف مضامينها ، فهي من مصاديق التحدي في قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ).
لبيان عجزهم عن معرفة المضامين القدسية لآية جنود الله .
والتابعي الذي لاقى الصحابي ومات مسلماً , ولم يرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،ويعرف الصحابي بتعاريف متعددة أشهرها وأظهرها هو: كل من لقي النبي محمداً مصدقاً برسالته ومات على الإسلام .
وقيد مصدقاً برسالته لأن رهطاً من الكفار التقوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم كفار سواء قبل الهجرة أو بعدها ، ومنهم سبعون من المشركين قتلوا في معركة بدر ، ومنهم من مات في مكة على كفره قبل فتح مكة في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة , أو بعده .
أما قيد مات على الإسلام فيخرج به المرتد عن الإسلام إلا من ارتد ثم اسلم فيدخل في تعريف الصحابي ، ويشمل هذا التعريف للصحابي الرجال والنساء , والكبار والصغار ، ويشمل أيضاً الأعمى مثل ابن أم مكتوم الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجعله على المدينة عند الخروج في بعض الكتائب .
ومنهم من قيد التعريف بشرائط خاصة بالصحابة من جهات :
الأولى : مدة الصحبة وطولها .
الثانية : مشاركة الصحابي في كتائب النبي أو سراياه .
الثالثة : هل لازم الرجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أم لا .
والحسن والحسين عليهما السلام من الصحابة ،وكذا فاطمة الزهراء , وفيهم حديث الكساء ، وكذا أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا] ( ) .
ويرى التابعون في المدينة والأمصار أن الصحابي يقف معهم بين يدي الله ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يؤمهم بالصلاة وهو الذي قال (صلوا كما رأيتموني أصلي)( ).
ويستحضر الصحابي سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية للتابعين وكل صحابي هو تلميذ في جامعة النبوة التي منحت شهادات لم ينلها أحد ، إذ فازوا بمرتبة سامية فسماهم الله عز وجل المهاجرين والأنصار .
قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ) .
لقد كان الصحابة ملتفين حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشع ضياؤه عليهم بآيات التنزيل والعلوم والمعارف والمعجزات .
وانتقال كثير من الصحابة إلى البلدان معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد مماته , ومدرسة قرآنية متنقلة , وتوثيق آفاقي لسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة للسلم , ونبذ للإرهاب , إذ يبين الصحابة للتابعين أسباب النزول ، وفيه شاهد على عدم النسخ بآيات القرآن إلا مع الدليل من القرآن أو إخبار السنة القولية أو الفعلية عن النسخ في آية مخصوصة .
وقد ذم الله الذين كفروا بالمعاد [وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ] ( ) أي الذين اتبعوا أهواءهم , وكانت ملتهم اللعب واللهو , فأعرض عنهم , ولا تلتفت إليهم فانهم لا يضرون إلا أنفسهم .
فإن قلت وإن نسوا البعث وانكروا المعاد , الجواب إنما يقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ والإخبار بأن المعاد حق وصدق ، قال تعالى [فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ]( ).
وقد يقدح بسند وصحة الحديث لعلة قادحة ويسمى الحديث معلولاً وكأن المرض والسقم أصابه وهي على شعبتين :
الأولى : العلة الخفية ، مثل الإرسال.
الثانية : العلة الظاهرة أو الجلية ، وهي التي تستفاد من دليل ظاهر ومعنى راجح ، وشهادة البينة إذ انها لا تدل على القطع والجزم ، ولكنها طريق للحكم ، وكما في قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) بقبول شاهدين عدلين على الحكم في رؤية الهلال ، أما لو رآى المكلف نفسه الهلال فانه من الحكم الواقعي .
الثالثة : استقراء المعنى اللغوي ، ووظائف الحروف وصيغ الفعل ، مثل لام التعليل ، وكي ، ولاجل ، وحتى ، ومن ، وإلى ، وغيرها .
الرابعة : تنقيح المناط وهو إزاحة ما زاد عن موضوع العلة ، وقد ذكرت الآية السابقة مجئ رسل سابقين بالبينات والزبر والكتاب المبين ، ومن تنقيح المناط أنه حتى إذا جئت لقومك بذات المعجزات والدلائل فأنهم يكذبونك ، كما كُذب الرسل السابقون.
التقسيم الموضوعي لآيات القرآن
لقد جعل الله عز وجل كل آية قرآنية خزينة تتدفق منها العلوم والقوانين والأحكام ، وفي الجمع بين كل آيتين خزينة أخرى ، وكذا في الجمع بين كل ثلاث آيات أو أكثر ، وتتجلى الخزائن القرآنية من جهات :
الأولى : الموضوع .
الثانية : الحكم .
الثالثة : السنن .
الرابعة : الدلالة .
الخامسة : علوم اللغة والنحو والبلاغة والصرف والبيان .
السادسة : علم الأخلاق ومنه آية البحث .
السابعة : المواعظ والعبر ، ومنها قصص الأنبياء ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ).
الثامنة : مبادئ التوحيد وأصول الدين .
التاسعة : علوم الغيب ، قال تعالى [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ] ( ).
العاشرة : أهوال الآخرة ومنازل الناس يوم القيامة .
الحادية عشرة : المعاملات من البيع والشراء والإجارة والرهن ونحوها.
الثانية عشرة : العلوم التي تخص الملائكة وأسرار خلقهم ، وكيف أنه من الشواهد على بديع صنع الله لقانون : كل ملك آية من بديع صنع الله .
وهل يمكن القول بأن كل ملك له خصائص يختلف بها عن غيره من الملائكة مع أنه لا تحصى أعدادهم من جهة الكثرة .
الجواب نعم ، وتجد مرآة له في خلق الإنسان ، فكل إنسان له صفات وخصائص جسدية وخلقية يختلف بها عن غيره من الناس ، ومنها بصمة الأصابع والعين والأذن ، وهل ينحصر هذا الإختلاف بأبناء ذات الجيل الواحد للإنسان أم أنه يشمل غيره من الأجيال , الجواب هو الثاني.
الثالثة عشرة : حال السلم والقتال دفاعاً .
الرابعة عشرة : القرآن مدرسة الصبر ، قال تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ] ( ).
الخامسة عشرة : سعة رحمة الله في الدنيا والآخرة .
السادسة عشرة : إحصاء أعمال العباد ، وفي التنزيل [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا] ( ) .
السابعة عشرة : علم المحكم والمتشابه .
الثامنة عشرة : علم الناسخ والمنسوخ ، وهو في الغالب يتعلق بآيتين إحداهما ناسخة وأخرى منسوخة .
التاسعة عشرة : المطلق والمقيد في القرآن ، ويأتي في آيتين أو أكثر إحداهما تتضمن المطلق ، وأخرى تتضمن المقيد ، كما في قوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ]( )، فانه مطلق ، من جهتين :
الأولى : حرمة الميتة مطلقاً .
الثانية : حرمة الدم مطلقاً .
وورد التقييد للدم بقوله تعالى [قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ]( )، لإجتماع السبب والحكم ، إذ بينت الآية أن الدم المحرم هو المسفوح أي مصبوب كدم النحر الذي يتدفق من رقبة الشاة عند ذبحها .
أما الميتة فقد جاء التقييد بإخراج ميتة السمك ، وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أحلت لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد ، والكبد والطحال( ).
وجاءت السنة النبوية بالتوسعة في التحريم لأن التحريم المذكور في الآية ورد بذكر السبب فلا يلزم منه الحصر ، ولأن السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع ، ومن العلماء من وقف عند هذا الحصر في التحريم ، وحمل غيره مما ورد النهي في السنة عنه على الكراهة ، وفي حال الآية محكمة ، ولا صلة لها بالنسخ.
وتقسم آيات القرآن إلى أقسام منها :
الأول : المكي والمدني ، وهو على شعبتين :
الأولى : السور المكية وهي الآيات التي نزلت في مكة وحواليها قبل الهجرة .
الثانية : السور المدنية : وهي السور التي نزلت بعد هجرة النبي إلى المدينة في شهر ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة وان نزلت في مكة ، كما في قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( )، والتي نزلت في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة والتي توافق سنة (622) ميلادية .
الثاني : المحكم والمتشابه .
الثالث : الناسخ والمنسوخ .
ويمكن أن نقسم القرآن وبلحاظ الآيات إلى أقسام بحسب الموضوع ، وهذا التقسيم على أقسام :
الأولى : ذكر الآية كاملة وإن تعددت موضوعاتها ، فمثلاً قوله تعالى [فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ]( )، يتضمن الأمر والنهي ، فيذكر هذا الشطر من أطول آية في القرآن في باب الأوامر وتذكر في باب النواهي وفي باب التقوى والأمانة والشهادة , كل شطر من الآية بحسب موضوعه .
الثانية : ذكر شطر الآية الخاص بموضوع البحث كما في الأمر بالمعروف وتوارثه وتوصية الأنبياء والأولياء والصالحين لأبنائهم به ، كما ورد حكاية عن لقمان في وصيته لابنه [يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
ولابد من المندوحة والتوسعة في هذا العلم لتعدد المواضيع ، ولورود الآية القرآنية في أكثر من موضوع ، وكل شطر منها معجزة قائمة بذاتها.
الثالثة : ذكر شطر الآية الخاص بالموضوع مع ذكر تمام الآية ، وهذا القسم هو الأتم في التحقيق والأيسر للإستنباط والإستدلال ، فمن اللازم تهيئة مقدمات البحث والتحقيق ، وأسباب ووسائل التفسير والتأويل بما هو أتم .
ومن وجوه تقسيم آيات القرآن الموضوعي :
الأول : آيات الأسماء الحسنى بأن تكون علماً مستقلاً ، ومدرسة في العقيدة والسيرة والأخلاق ، ووسيلة لبعث حب الله في قلوب الناس ، وإقبالهم على العبادة والدعاء .
ومن آيات أسماء الله قوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ] ( )وقوله تعالى [ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( )وقوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
ومن مجموع تسع آيات ورد فيها قول [هُوَ اللَّهُ] قوله تعالى [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] ( ).
وعن ابن مسعود قال : قالت قريش ، يا رسول الله : أنسب لنا ربك ، فأنزل الله { قل هو الله أحد}( ).
الثاني : صفات الله.
الثالث :آيات الرحمة .
الرابع :آيات العفو .
الخامس :آيات المغفرة .
السادس :آيات التوبة والإنابة .
السابع :آيات الصبر منها ، قوله تعالى [وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثامن : آيات التقوى منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ).
التاسع : آيات المعاملات وهي على شعب :
الأولى : آيات البيع والشراء ، وجاءت أطول آية في القرآن بخصوصه ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
الثانية : الرهن وأحكامه .
الثالثة : آيات حرمة الربا والنهي عنه وبيان أضراره ، قال تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
الرابعة : آيات المكاسب كالتجارة والصناعة والزراعة .
العاشر : آيات السلطان والوزارة ، كما في سورة يوسف [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] ( ) فقد سأل يوسف الوزارة لنفسه من الملك ، وهل كان سؤاله عن وحي أم إجتهاداً منه ، الجواب هو الأول .
الحادي عشر : آيات نداء التشريف بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] والذي ورد في القرآن تسعاً وثمانين مرة.
الثاني عشر : آيات العبادات وهي على شعب :
الأولى : آيات الصلاة .
الثانية : آيات الزكاة ، ويدخل قوله [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( ) في كل من :
أولاً : آيات الصلاة .
ثانياً : آيات الزكاة .
ثالثاً : آيات صلاة الجماعة .
الثالثة : آيات الصيام .
الرابعة : آيات الحج .
الخامسة : آيات الخمس .
السادسة : آيات النوافل والمستحبات العبادية .
السابعة : آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
الثامنة : آيات الحلال والحرام .
الثالث عشر : آيات الإيمان ووجوبه وحسنه.
الرابع عشر : آيات النهي عن الكفر ، وبيان قبحه وضرره ، قال تعالى [وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]( ).
الخامس عشر : آيات المعاد .
والمعاد يطلق على ذات العود والمكان الذي يرجع إليه بعد الإنصراف عنه ، والمعاد في الإصطلاح هو عالم الآخرة والوقوف بين يدي الله حينئذ للحساب ثم الجزاء.
ومن وجوه المعاد في القرآن :
الأول : قيام الساعة.
الثاني : الحشر ، قال تعالى [وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ]( ).
الثالث : النشور ، وهو بعث واحياء الأموات وهو مصدر يقال : نُشرُ الميت نشوراً ، قال تعالى [وَإِلَيْهِ النُّشُورُ]( )، وقال [كَذَلِكَ النُّشُورُ]( )، وقال [بَلْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ نُشُورًا]( ).
الرابع : يوم الحساب ، قال تعالى في تنجز وعد الله عز وجل للمؤمنين [مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ]( ).
الخامس : يوم الدين ، والجزاء (عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآلهوسلم قال : ينادي مناد بين الصيحة : يا أيها الناس أتتكم الساعة – ومد بها صوته يسمعه الأحياء والأموات – وينزل الله إلى السماء الدنيا ، ثم ينادي مناد : لمن الملك اليوم لله . . . ؟ الواحد القهار) ( ).
قانون موضوعية الموضوع في آيات القرآن
الحمد لله الذي جعل علوم القرآن من اللامتناهي ، وكل علم منها توليدي ، وتقسيم آيات القرآن من هذه العلوم التوليدية ومقدمة لها، إذ تتفرع عنه دراسات وبحوث متعددة ، وييسر للعلماء التحقيق واستنباط المسائل , وتأسيس القوانين القرآنية في أمور الدين والدنيا .
ويتعلق هذا التقسيم في المقام بذكر كل من :
الأول : آيات الأوامر ، إذ تتضمن كل آية فيها أمراً أو أكثر، ويكون ذكر الآية على شعبتين :
الأولى : مجموع الآية ، مثلاً قوله تعالى [فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( )، فمع قلة كلمات هذا الشطر من الآية فانه يتضمن أربعة أوامر من الله للمسلمين في آية ناسخة للصدقة عند مناجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ]( ).
الثانية : الأمر الوارد في الآية ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( )، فالخطاب عام للمسلمين والمسلمات ، وفيه أمران :
أولاً : المسارعة إلى المغفرة بالعمل الصالح .
ثانياً : المسارعة إلى الجنة بالتقوى والصلاح ، وتقدير الآية (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وسارعوا إلى جنة عرضها….) .
وقد تتضمن الآية أوامر متعددة ، كما في قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ) ففي هذه الآية ثلاثة أوامر .
وقد تتضمن الآية الأمر والنهي ، فتذكر الآية كاملة مع ذكر الشطر الخاص بباب الأمر ثم يذكر الشطر الخاص بالنهي فيها ، كما في قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ] ( ) وقال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني : المطلق والمقيد في الأوامر القرآنية ، في حال إتحاد السبب والحكم وضُرب له مثل قد لا ينطبق على العنوان في قوله تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ….]( ).
ومشهور علماء الإسلام جواز صيام ثلاثة أيام متفرقات ونسب إلى عبد الله بن مسعود في قراءته (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وكذا ورد عن عبد الله بن عباس( ).
وعن إبن عباس قال : لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة : يا رسول الله نحن بالخيار؟ قال : أنت بالخيار ، إن شئت أعتقت ، وإن شئت كسوت ، وإن شئت أطعمت ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات( ).
ولأن كفارة اليمين تخييرية ثم ترتيبية، فيقدم اطعام عشرة مساكين على الصيام ، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في كفارة اليمين ، قال: من كان له ما يطعم فليس له أن يصوم أطعم عشرة مساكين مداً مداً فان لم يجد فصيام ثلاثة أيام أو عتق رقبة أو كسوة ، والكسوة ثوبان أو إطعام عشرة مساكين أي ذلك فعل أجزأ عنه( ).
وكذا ورد عن الحسن البصري قال : من كان عنده درهمان فعليه أن يطعم في الكفارة( ).
الثالث : المطلق والمقيد في النواهي القرآنية .
الرابع : الناسخ والمنسوخ في الأوامر الإلهية .
الخامس : الناسخ والمنسوخ في النواهي الإلهية .
قاعدة تعدد صيغة الأمر في القرآن
يرد الأمر في القرآن على وجوه :
الأول : ما يرد بصيغة الجملة الإنشائية مثل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ) ومثل قوله [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ) .
فهل تدخل في الأوامر ، الجواب نعم ، إذ أن النسبة بين الأمر القرآني وبين صيغة (إفعل) هي العموم والخصوص المطلق .
الثاني : فعل الأمر كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ).
الثالث : اسم فعل الأمر كما في قوله تعالى [عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ] ( )ومعناه : احفظوا أنفسكم .
وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بخصوص هذه الآية ، ومن الصحابة من ورد عنه أكثر من حديث في ذات موضوع الآية مثل عبد الله بن مسعود وهي :
أولاً : (عن ابن مسعود في قوله { عليكم أنفسكم . . . }( ) الآية .
قال : مروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ما لم يكن من دون ذلك السوط والسيف ، فإذا كان ذلك كذلك فعليكم أنفسكم) ( ).
ثانياً : (عن أبي العالية إن هذه الآية قرأت على ابن مسعود {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} .
فقال ابن مسعود : ليس هذا بزمانها قولوها ما قبلت منكم فإذا رُدت عليكم فعليكم أنفسكم) ( ).
ثالثاً: (عن أبي العالية قال : كانوا عند عبد الله بن مسعود ، فوقع بين رجلين بعض ما يكون بين الناس ، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه فقال رجل من جلساء عبد الله : ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه : عليك نفسك ، فإن الله تعالى يقول { عليكم أنفسكم }( ) فسمعها ابن مسعود.
فقال : مه لم يجئ تأويل هذه الآية بعد ، إن القرآن أنزل حيث أنزل ، ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن.
ومنه ما وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنه آي يقع تأويلهن بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسنين ، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ، ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة ما ذكر من أمر الساعة.
ومنه آي يقع تأويلهن عند الحساب ما ذكر من أمر الحساب والجنة والنار.
فما دامت قلوبكم واحدة ، وأهواؤكم واحدة ، ولم تلبسوا شيعاً ، فلم يذق بعضكم بأس بعض ، فمروا وانهوا ، فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فكل امرئ ونفسه ، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية) ( ).
الرابع : لام الأمر ، ومجئ الفعل المضارع المجزوم بذات اللام ، كما في قوله تعالى [ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ] ( ).
(عن أبي أمية الشعباني قال أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية
قال : أية آية؟
قال : قوله { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرُّكم من ضل إذا اهتديتم }( ) قال : أما والله لقد سألت عنها خبيراً.
سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر . حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً ، وهوى تبعاً ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ، ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائكم أيام الصبر ، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً ، يعملون مثل عملكم)( ).
الخامس : المصدر النائب عن فعله كما في قوله تعالى [فَضَرْبَ الرِّقَابِ]( ).
السادس : صيغة الترغيب والبعث عن الفعل .
فان قلت تدل هذه الصيغة على الندب والإستحباب ، الجواب لا ، إذ أن الأصل في الأوامر القرآنية هو الوجوب إلإ أن يدل دليل على الإستحباب ، كما في قوله تعالى [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
السابع : صيغة التهديد والتخويف والوعيد ، وهذه الصيغة قد لا تدل على الوجوب ، فقد تتضمن التحدي والتعجيز ، كما ورد في إنذار شعيب لقومه في التنزيل [قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ]( ).
وقوله تعالى [أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ] ( ).
النسبة بين أسماء الله الحسنى وبين صفاته
ترد في القرآن كل من :
الأول : أسماء الله الحسنى .
الثاني: صفات الله .
والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، والصفات على أقسام :
الأول : تتضمن أسماء الله صفات الكمال والجلال ، فمثلاً العلم صفة لله مأخوذة من اسم العليم.
والحياة صفة لله مأخوذة من اسم الحي ، وقد يفيد الاسم منها عدة صفات ، كما في اسم أحد في قوله تعالى [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] ( )، إذ انه يدل على عدة صفات منها :
الأولى : إن الله تعالى إله في الأرض وإله في السماء .
الثانية : نفي صفة الولادة والتولد عن الله عز وجل .
الثالثة : نفي الشريك والند لله سبحانه ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ] ( ) .
الرابعة : كان الله ولم يكن شئ ، ويبقى الله بعد فناء كل شئ ، وفي التنزيل [كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ] ( ) .
الثاني : الصفات المتعلقة بالذات ، مثل صفة الوجه ، كما في آية البحث وصفة النفس كما في قوله تعالى [كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] ( ) إذ ورد لفظ [نَفْسِهِ] لله عز وجل في القرآن مرتين .
كما ورد مرة واحدة بصيغة الخطاب من عيسى عليه السلام [تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ] ( ).
وصفة العين لله عز وجل بقوله تعالى [وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي]( ) وصفة الكلام كما في قوله تعالى [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا]( ).
وهو من الصفات والمدركات العقلية التي تقرب بأمثلة حسية والله عز وجل منزه عن الحواس ، وعن الكيف والأين .
وهناك صفات فعلية منها المعية كما في قوله تعالى [وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ) وصفة الإستواء كما في قوله تعالى [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى]( ) وصفة المجئ كما في قوله تعالى [وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا]( ).
وصفات المحبة كما في قوله تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] ( ).
والرضا والغضب والسخط من الله ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ) .
ومن صفات الله ما جاء من باب المقابلة وتقريب المعنى والبشارة والإنذار ، منها قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) وقد ذكرت في تفسيري بعض معاني هذه الآية.
ويتجلى مكر الله عز وجل بالأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى المدينة ليلة إرادة قريش قتله في فراشه ، فكان مكر الله رحمة بالناس جميعاً .
وتمام الآية هو [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
ومن وجوه تقدير الآية : ويمكر الكفار للإضرار بالنبي والتنزيل ، ويمكر الله بنجاته واستمرار نزول القرآن وهداية ذات الذين يمكرون ، فلم تمر الأيام والليالي حتى صار رجال قريش يدخلون الإسلام تباعاً إلى أن تم فتح مكة .
ومنذ نحو ألف وأربعمائة سنة يبحث العلماء في باب أسماء وصفات الله ، ولا زالوا في بداية الطريق ، وكذا لو استمر البحث مئات السنين لبيان عجز الناس عن درك كنه وحقيقة أوصاف الله ومن أسرار معرفة أسماء وصفات الله والتذكير فيها واستحضارها في الوجود الذهني أمور :
الأول : معرفة صفات الله طريق لمعرفة الله عز وجل .
الثاني : زيادة الإيمان.
الثالث : التفقه في الدين ، وهل هذا التفقه من مصاديق المنّ الإلهي في قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( )الجواب نعم .
الرابع : الإرتقاء في المعارف الإلهية.
الخامس : لذيذ المناجاة : وتنمية ملكة الدعاء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
السادس : تنمية ملكة الدعاء ، والتي تدل على التفقه والتدبر في أسماء الله واستقراء ذكره في القلوب ليدفع الخوف والحزن عن المؤمنين .
كما تقسم صفات الله إلى :
الأولى : الصفات الذاتية ، وهي صفات جلال وكمال ، ولا تنفك عن الذات مثل صفة الحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر .
الثانية : الصفات الفعلية التي تنتزع من فعل الله عز وجل مثل الخالقية والرزق والإحاطة.
وذكرت أسماء الله في مواضع عديدة من القرآن ومنها [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( )، وقوله تعالى [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى] ( ).
ولم يرد في القرآن لفظ صفات أو صفة إذ جاءت بصيغة الفعل مثل يرزق من يشاء ، والرزق صفة مشتقة من الرزاق .وقوله تعالى [أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ]( ) فالعلم صفة لله مشتقة من اسم علم.
والاسم غير المسمى ، والصفة غير الموصوف ، وليس من وصف يحيط بصفات الله ، ولكن الوصف يأتي وفق مداركنا العقلية ، نعم يرتع الذهن في تصور صفات الله بما لا يصل إلى معشارها في وصف غيرها ، فيتصور الإنسان آيات الآفاق ، وشجاعة وكرم وصبر الذوات ، ولكنه عند تصور صفات الله يسيح برياض رحبة من غير أن يصل إلى قدر ضئيل من عظمة وسلطان وقدرة الله عز وجل مع إدراك قانون وهو تخلف فهم الصفات عن معرفة وحقيقة الذات الإلهية فالرحمة من صفات الله ، ويعلم البر والفاجر، والمؤمن والكافر بأن رحمة الله تتغشاهم وتصاحبهم ، ولكن يستحيل على الناس إدراك كنه وسعة رحمة الله عز وجل ، قال تعالى [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] ( ).
وليس من أوصاف تحيط بالذات الإلهية إذ أن صفاته من اللا محدود .
ترى ما هي النسبة بين الأسماء الحسنى وصفات الله تعالى ، فيه وجوه:
الأول : التساوي : وإن الصفات هي ذاتها الأسماء الحسنى.
الثاني : العموم والخصوص المطلق : وأن الصفات فرع الأسماء الحسنى.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه : فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما.
الرابع : نسبة التساوي على نحو الموجبة الجزئية : وهذا الإصطلاح مستحدث هنا في شطر منها أما الشطر الآخر فيحتمل وجوهاً :
أولاً : العموم والخصوص المطلق ، وأن الأسماء الحسنى أعم.
ثانياً : نسبة العموم والخصوص من وجه .
ثالثاً : نسبة التباين.
والمختار أن الصفات فرع الأسماء الحسنى ، وكلها من تجليات عظمة الله ، فتتفرع صفة أو صفات متعددة من الاسم الواحد من الأسماء الحسنى ، ويجوز أن تكون الصفة الواحدة فرعاً لأسماء متعددة من الأسماء الحسنى ، وهذا القانون مستقل عن الخلاف هل صفات الله عين ذاته أم أنها غير ذاته ، إذ أنه في حقيقته خلاف صغروي .
وهناك مسائل:
الأولى : صفات الله حق ، ولكن لا يجوز الحديث عن كيفيتها لأن الله وحده العالم بها ، وهي تفوق التصور الذهني للناس .
الثانية : حرمة تشبيه صفات الله بالمخلوقين ، وفي التنزيل [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ]( ).
الثالثة : اثبات صفات الله لفظاً ومعنى .
الرابعة : يجوز اشتقاق الصفات من الأسماء ، وقيل لا يجوز العكس ، فمثلا لا يصح الإشتقاق من الإستيلاء المستولي .
الصفات الثلاث عشرة
صفات الله أعم وأكثر من تقييدها بثلاث عشرة صفة ، والتي قيل يجب على كل مكلف معرفتها ، ولا دليل على وجوب هذه المعرفة بالدقة إنما يكفي التسليم بها إجمالاً ، وهذه الصفات هي :
الأولى : الوجود .
والله سبحانه الأول قبل الإنشاء ، والآخر بعد فناء الأشياء، وليس من ابتداء لوجوده ، وهو منزه عن أفراد الزمان ، فهو الأزلي الذي ليس من بداية له ، والأمدي المستديم وجوده في كل أفراد الزمان الطولية وحيث لا زمان ، وهو السرمدي الذي ليس من بداية أو نهاية له.
الثانية : البقاء : فالله سبحانه هو الدائم الذي لا يفنى ولا يبيد.
الثالثة : الوحدانية ، فليس من شريك لله عز وجل ، وهو خالق كل شئ ، ولقد جاهد الأنبياء من أجل تثبيت كلمة التوحيد في الأرض ، وهذا الجهاد بمدد وعون من عند الله ، وتتجلى مصاديقه في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان الناس في الجزيرة يعبدون الأصنام ويئدون البنات ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ).
لقد نال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة النبوة ،وصار ينادي بين الناس (قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا)( )، وجاء بالفرائض والعبادات التي تثبت كلمة التوحيد في الأرض ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ]( ).
الرابعة : القِدم : وتعني هذه الصفة أن الله عز وجل موجود من الأزل ، وليس من بداية لوجوده ، وكذا ليس من نهاية لوجوده.
الخامسة : القيام بالنفس ، أي أن الله سبحانه هو الغني عما سواه ، وهو غير محتاج ، لأن الحاجة ملازمة لعالم الإمكان ، والباري سبحانه واجب الوجود ، وكل ما سواه محتاج إليه ، وفي التنزيل [وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ]( ).
السادسة : القدرة : فمن صفات الله عز وجل أنه على كل شئ قدير ، وكل ما يخطر على الوجود الذهني من الإيجاد والعدم فان الله عز وجل قادر عليه ، لا تستعصي عليه مسألة .
السابعة : الإرادة : فالله عز وجل مريد له المشيئة المطلقة .
الثامنة : العلم : وأن الله عز وجل يعلم كل شئ قبل حدوثه وبعد حدوثه لا يغيب عنه شئ ، يعلم ما كان وما يكون ، وكيف يكون ، وما لا يكون.
التاسعة : السمع ، فان الله عز وجل يسمع كل صوت من غير جارحة، يسمع الله عز وجل كل صوت إذ تحضر الأصوات كلها عنده ، وهو يعلم بها قبل صدورها وبعد صدورها لا تغيب عنه ، وهي لا تنطلق من مصدرها إلا باذن ومشيئة منه تعالى ، وفي التنزيل [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ).
العاشرة : البصر : إذ يرى الله كل المبصَرات من غير آلة باصرة أو حدقة ، وهو سبحانه يبصر بنفسه ، ويرى سبحانه دبيب النمل في الليلة الظلماء ، وسكون وحركة ذرات الرمال ، ويرى ما ينفع الناس ويقربهم إلى رحمته.
ويرى ما يضرهم فيدفعه عنهم ، وهو من لطفه تعالى ، ومن مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الحادية عشرة : الحياة : فالله عز وجل هو الحي الدائم من غير روح أو نفس أو دم.
الثانية عشرة : فالله عز وجل متكلم ، والقرآن كلام الله عز وجل ، وهو سبحانه كلَم آدم قبلاً كما في قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، وقوله تعالى [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( ),
الثالثة عشرة : المخالفة للحوادث فليس من شئ يشبه الله عز وجل ، لا تدركه الأوهام لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.
قانون تكليم الله لحواء
لقد كلّم الله سبحانه آدم ، وكلمه وحواء مجتمعين بقوله تعالى [وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، إذ تدل هذه الآية على أمور :
الأول : توجه نداء مشترك من الله عز وجل إلى آدم وحواء.
الثاني : نهي الله عز وجل لآدم وحواء عن الأكل من الشجرة.
الثالث : قول الله عز وجل لآدم وحواء بأن الشيطان عدو لهما وفيه إكرام من الله عز وجل للمرأة بالسكن في الجنة ، وبتوجيه النداء والقول لها مباشرة ، وذكر عدد من المفسرين ما ورد (محمد بن قيس : ناداه ربّه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك قال : يارب أطعمتني حواء، قال : لحواء لم أطعمتيه . قالت : أخبرتني الحيّة، قال للحيّة : لِمَ أمرتيها؟ قالت : أمرني (إبليس) .
فقال الله عزّ وجلّ : أمّا إنّكِ ياحوّاء فكما أدميت الشجرة (فسأُدميكِ)، وأمّا أنتِ ياحيّة فاقطع قوائمك فتمشين جهتيّ الماء على وجهك وسيندفع رأسك من لقيك، وأمّا أنتَ يا إبليس فملعون مدحور)( ).
ولا أصل لهذا الحديث ، ومحمد بن قيس الأسدي الوالبي من تابعي التابعين ، وهو لم يرفع الحديث فهذا الخبر ليس بحجة ، إنما وردت الآية القرآنية أعلاه بنداء الله عز وجل لآدم وحواء بوقت وعرض واحد ، ولا يكون التفصيل والسبر والتقسيم إلا مع الدليل.
وتفضل الله سبحانه وأخبر بعدم إنحصار كلامه مع البشر بآدم وحواء عندما كانا في الجنة إنما كلّم الله عز وجل موسى عليه السلام بقوله تعالى [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا]( ).
وفيه إكرام للأنبياء جميعاً ولذرية آدم ، وترغيب بالإيمان ومناسك التقوى ، وتدل الآية على أن الله عز وجل هو الذي كلّم موسى ، إذ ورد لفظ الجلالة في الآية بصيغة الرفع (وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي : وكلم الله ، بالنصب على أن موسى هو المكلم ، وهي قراءة ضعيفة من جهة الاشتهار)( ).
أي أن (موسى) فاعل متأخر ، وهي قراءة نادرة لا أصل لها ، فكل إنسان يناجي ويكلم الله عز وجل ، إنما المراد أن الله عز وجل هو الذي تفضل وكلّم موسى ، ويدل عليه قوله تعالى [وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ]( ).
و(حدثنا عبد الجبار بن عبد الله قال: جاء رجل إلى أبي بكر بن عيَّاش فقال: سمعت رجلا يقرأ: “وكلم اللهَ موسى تكليماً”( )، فقال أبو بكر: ما قرأ هذا إلا كافر، قرأتُ على الأعمش، وقرأ الأعمش على (يحيى) بن وثاب، وقرأ يحيى بن وثَّاب على أبي عبد الرحمن السَّلْمِيّ، وقرأ أبو عبد الرحمن، عَلَى عَلِيِّ بن أبي طالب، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا})( ).
تبين توجه الخطاب من الله عز وجل إلى آدم وحواء بعرض واحد وأن الخطاب لم يكن لآدم وحده ، وأن حواء تتلقاه بالواسطة ، نعم ورد قوله تعالى [وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ) .
فعندما يكون الأمر بخصوص الإقامة والسكن فالزوجة تتبع بعلها خاصة مع عظيم النعمة ، أي ليس من حرص على الزوجة في مكان ومحل ونوع السكن ، قال تعالى [وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ).
وفي تكليم الله عز وجل لموسى والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهد بأن الله عز وجل إذا أنعم على الإنسان وإن كان آدم وحواء في الجنة فانه تعالى لا يرفع هذه النعمة ، وجاء القرآن مرآة لنعمة التكليم .
وفي الآية مسائل :
الأولى : النداء والخطاب من الله لآدم وحواء بعرض واحد .
الثاني : التذكير بالنهي ولو كان النهي لآدم وبواسطة لحواء لم يأت الخطاب مباشراً .
الثالث : تعيين شجرة مخصوصة بالنهي عنها في الجنة .
الرابع : قول الله عز وجل لآدم وحواء أن الشيطان لكم عدو مبين .
الخامس : إقامة الحجة على آدم و حواء .
ولم يأت النهي من الله لآدم وحواء عن الأكل من الشجرة إلا بعد أن علّم الله آدم الأسماء وسجد له الملائكة ، قال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
هما يستغيثان فقالا ربنا ظلمنا أنفسنا .
وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام (ما استقر فيها إلا ست ساعات في يومه ذلك حتى عصى الله فأخرجهما الله منها بعد غروب الشمس) ( ).
قانون سعة وكثرة صفات الله
ليس من حصر لصفات الله عز وجل وهي مستقرأة من كل من :
الأول : أسماء الله (وأخرج أبو نعيم عن محمد بن جعفر قال : سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة.
فقال : هي في القرآن ، ففي الفاتحة خمسة أسماء . يا لله ، يا رب ، يا رحمن ، يا رحيم( ) ، يا مالك .
وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسماً : يا محيط ، يا قدير ، يا عليم ، يا حكيم ، يا علي ، يا عظيم ، يا تواب ، يا بصير ، يا ولي ، يا واسع ، يا كافي ، يا رؤوف ، يا بديع ، يا شاكر ، يا واحد ، يا سميع ، يا قابض ، يا باسط ، يا حي ، يا قيوم ، يا غني ، يا حميد ، يا غفور ، يا حليم ، يا إله ، يا قريب ، يا مجيب ، يا عزيز ، يا نصير ، يا قوي ، يا شديد ، يا سريع ، يا خبير.
وفي آل عمران : يا وهَّاب ، يا قائم ، يا صادق ، يا باعث ، يا منعم ، يا متفضل .
وفي النساء : يا رقيب ، يا حسيب ، يا شهيد ، يا مقيت ، يا وكيل ، يا علي ، يا كبير .
وفي الأنعام : يا فاطر ، يا قاهر ، يا لطيف ، يا برهان .
وفي الأعراف : يا محيي ، يا مميت .
وفي الأنفال : يا نعم المولى ، يا نعم النصير .
وفي هود : يا حفيظ ، يا مجيد ، يا ودود ، يا فعال لما يريد .
وفي الرعد : يا كبير ، يا متعال .
وفي إبراهيم : يا منَّان ، يا وارث . وفي الحجر : يا خلاق .
وفي مريم : يا فرد .
وفي طه : يا غفّار .
وفي قد أفلح : يا كريم .
وفي النور : يا حق ، يا مبين .
وفي الفرقان : يا هادي .
وفي سبأ : يا فتَّاح .
وفي الزمر : يا عالم .
وفي غافر : يا غافر ، يا قابل التوبة ، يا ذا الطول ، يا رفيع.
وفي الذاريات : يا رزاق ، يا ذا القوة ، يا متين.
وفي الطور : يا بر .
وفي اقتربت : يا مليك ، يا مقتدر .
وفي الرحمن : يا ذا الجلال والإِكرام ، يا رب المشرقين ، يا رب المغربين ، يا باقي ، يا مهيمن .
وفي الحديد : يا أول ، يا آخر ، يا ظاهر ، يا باطن .
وفي الحشر : يا ملك ، يا قدوس ، يا سلام ، يا مؤمن ، يا مهيمن ، يا عزيز ، يا جبار ، يا متكبر ، يا خالق ، يا بارىء ، يا مصوّر) ( ).
الثاني : آيات القرآن عامة.
والنسبة بين الوجه الثاني والأول أعلاه العموم والخصوص المطلق .
الثالث : الجمع بين آيات القرآن .
الرابع : السنة النبوية .
ومن صفات الله عز وجل الحياة ، فهو الحي الدائم الباقي ، وفي التنزيل [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ…] ( ) .
ومن صفات الله عز وجل الفعلية الحياء ، قال تعالى [وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ] ( ) .
(عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً .
وفي لفظ : يستحي أن يبسط العبد إليه فيردهما خائبين) ( ).
ومن صفاته تعالى الإستجابة ، وهو القائل [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
(عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يقول الله تعالى : يا ابن آدم واحدة لي ، وواحدة لك ، وواحدة فيما بيني وبينك ، وواحدة فيما بينك وبين عبادي . فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً ، وأما التي لك فما عملت من شيء أو من عمل وفيتكه( )، وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعليّ الاجابة ، وأما التي بينك وبين عبادي فارض لهم ما ترضى لنفسك) ( ).
ومن صفات الله الثابتة ، الحميد ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] ( ).
وعن (كعب بن عجرة قال : لمّا نزلت [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( )، قلنا : يا رسول الله قد علمنا السلام عليك.
فكيف الصلاة عليك.
قال : قل : اللّهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد) ( ).
(إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الارحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ” قال الصادق عليه السلام: هذه الخمسة أشياء لم يطلع عليها ملك
مقرب، ولا نبي مرسل، وهي من صفات الله عزوجل) ( ).
سورتا الحفد والخلع
مما ذكر أنه منسوخ التلاوة والحكم كل من :
الأولى : سورة الحفد .
الثانية : سورة الخلع .
والأمر سهل لدلالة الأخبار والإجماع على عدم وجودهما في القرآن ، والمدار على ما بين الدفتين .
وورد سند ومضمون سورة الحفد عن (ابن الضريس عن عبد الله بن عبد الرحمن عن أبيه قال : صليت خلف عمر بن الخطاب فلما فرغ من السورة الثانية قال : اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ، ونثني عليك الخير كله ، ولا نكفرك ، ونخلع ونترك من يفجرك ، اللهم إياك نعبد ، ولك نصلي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ونخشى عذابك ، إن عذابك بالكفار ملحق)( ).
وأخرج محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن أبي بن كعب أنه كان يقنت بالسورتين ، وكان يكتبهما في مصحفه ، لذا ذكروا أن مجموع سور مصحف أبي هو مائة وست عشرة سورة لأنه أضاف لسور القرآن سورة الحفد وسورة الخلع ، بينما كان مصحف عبد الله بن مسعود مائة واثنتي عشرة سورة لأنه لم يكتب المعوذتين .
(وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ومحمد بن نصر والبيهقي في سننه عن عبيد بن عمير أن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ، ونخلع ونترك من يفجرك.
بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم إياك نعبد ، ولك نصلي ونسجد ، ولك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ونخشى عذابك ، إن عذابك بالكفار ملحق . وزعم عبيد أنه بلغه أنهما سورتان من القرآن في مصحف ابن مسعود) ( ).
ولا يشترط بالقنوت أن يكون قرآناً إنما هو هيئة دعاء .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقنت بعد الركوع للدعاء للمؤمنين وعامة الناس ، أو يدعو على الكفار الذين يشتد أذاهم له وللمسلمين ، ومن قنوته لنجاة بعض الصحابة الذين كانوا محبوسين في مكة.
(اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين.
اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف يجهر بذلك وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر اللهم العن فلاناً وفلاناً . . . لأحياء من أحياء العرب يجهر بذلك حتى أنزل الله { ليس لك من الأمر شيء}( ).
وفي لفظ اللهم العن لحيان ، ورعلاً ، وذكوان ، وعصية ، عصت الله ورسوله . ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزل قوله {ليس لك من الأمر شيء} الآية) ( ).
وقد وردت نصوص متعددة في أسباب نزول قوله تعالى [ليس لك من الأمر شيء] ( ) تتعلق بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المشركين بعد غزوهم للمدينة في معركة أحد ، وقتلهم لسبعين صحابياً ، وإصابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه بجراحات عديدة .
(عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو على رجال من المشركين يُسَمِّيهم بأسمائهم، حتى أنزل الله: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ }( ) الآية) ( ).
وعلى فرض أن عمر بن الخطاب كان يقنت بهما بعد الركوع فلا يعني أنهما سورتان ، أو تلاوتهما لم تنسخ إذ لم تثبت صبغة القرآنية لهما، مع أن القنوت دعاء بالمأثور وبالقرآن ومطلق الأدعية .
ثم أن لغة هاتين السورتين لا ترقى إلى بلاغة القرآن والإعجاز في فرائد كلماته .
وتقنت المالكية بالحفد والخلع في صلاة الصبح ، وهذا القنوت لا يدل على أنهما من القرآن ، لقانون أن القرآن هو ما بين الدفتين .
ترى من الذي سماهما سورة الحفد والخلع ، لم يرد هذا الاسم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقيل أن عبد الله بن مسعود سماهما سورة الخلع والحفد ولم يثبت.
وذكر سورة الخلع في أخبار عن التابعين أو تابعي التابعين (عن عبد الله بن زرير الغافقي( )، قال قال لي عبد الملك بن مروان لقد علمت ما حملك على حب أبي تراب إلا أنك أعرابي جاف.
فقلت والله لقد جمعت القرآن من قبل أن يجتمع أبواك.
ولقد علمني منه علي بن أبي طالب سورتين علمهما إياه رسول الله ما علمتهما أنت ولا أبوك.
اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق)( ).
والخبر ضعيف ، كما أن الراوي يتحدث فيه عن نفسه ، ولو كان الإمام علي عليه السلام يعدهما سورتين من القرآن لبينه في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته ، وعندما تولى الخلافة وهو في المدينة ، أو في السنوات التي كان يصعد فيها المنبر في مسجد الكوفة ، ويتحدث في أحكام العبادات والمعاملات والأحكام .
ومن صفاته عليه السلام أنه كان يولي القرآن وبيان آياته وتفسيره عناية خاصة ، ويجتهد في تنمية فقه القرآن في قلوب المسلمين والمسلمات .
(روي أن مصحف أبيّ بن كعب كان مائة وست عشرة سورة حيث كتب في (آخره) سورتي (الحفد والخلع) يعني القنوت وهما (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ) اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير كله ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك (بسم الله الرحمن الرحيم) اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونَحْفِدُ، نرجوا رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكافرين ملحق) ( )( ).
وقدم أعلاه سورة الخلع لأن اسمي السورتين مأخوذان من لفظهما .
والمختار أن موضوع هاتين السورتين لا يدخل في علم الناسخ والمنسوخ بخصوص ما بين الدفتين ، كما أنه لا يصدق عليهما أنهما سورتان إلا من باب المجاز والتوضيح ، إنما السورة هي التي بين الدفتين ، وتكون سوراً للآيات التي وردت فيها ، وتبدأ بالبسملة .
(باب ترتيب القرآن في مصحف أبي بن كعب)
ورد في خبر منقطع ومرسل وبعيد في موضعه فلم يرد عن أهل المدينة إنما عن قرية قريبة من البصرة.
قال الفضل بن شاذان أخبرنا الثقة من أصحابنا قال كان تأليف السور في قراءة أبي بن كعب بالبصرة في قرية يقال لها قرية الأنصار على رأس فرسخين عند محمد بن عبد الملك الأنصاري أخرج إلينا مصحفا وقال هو مصحف أُبي رويناه عن آبائنا فنظرت فيه فاستخرجت أوائل السور وخواتيم الرسل وعدد الآيات.
فأوله فاتحة الكتاب ، البقرة ، النساء ، آل عمران ، الانعام ، الأعراف، المائدة الذي التبست وهي يونس ، الأنفال ، التوبة ، هود ، مريم ، الشعراء ، الحج ، يوسف ، الكهف ، النحل ، الأحزاب بني إسرائيل ( )، الزمر، حم تنزيل طه ، الأنبياء ، النور ، المؤمنين ، حم المؤمن( )، الرعد ، طسم ، القصص ، طس سليمان( )، الصافات داود( ) سورة ص ، يس أصحاب الحجر حم عسق الروم ، الزخرف ، حم السجدة ، سورة إبراهيم المليكة الفتح ، محمد صلى الله عليه وآله و سلم ، الحديد ، الطهارة تبارك الفرقان ألم تنزيل ، نوح ، الأحقاف ، ق ، الرحمن ، الواقعة ، الجن ، النجم ، نون ، الحاقة ، الحشر ، الممتحنة المرسلات ، عم يتساءلون، الإنسان ، لا أقسم ، كورت ، النازعات ، عبس ، المطففين ، إذا السماء انشقت ، التين اقرأ باسم ربك ، الحجرات ، المنافقون ، الجمعة النبي عليه السلام ، الفجر ، الملك ، الليل ، إذا يغشى ، إذا السماء انفطرت ، الشمس وضحاها ، السماء ذات البروج ، الطارق سبح اسم ربك الأعلى، الغاشية ، عبس وهي أهل الكتاب لم يكن أول , ما كان الذين كفروا ، الصف ، الضحى ، ألم نشرح لك ، القارعة ، التكاثر ، الخلع ، ثلاث آيات الحفد ست آيات .
اللهم إياك نعبد وآخرها بالكفار ملحق ، اللمز إذا زلزلت ، العاديات، أصحاب الفيل ، التين ، الكوثر ، القدر ، الكافرون ، النصر ، أبي لهب ، قريش ، الصمد ، الفلق ، الناس.
فذلك مائة وستة عشر سورة قال الى ههنا أصبحت في مصحف أبي بن كعب.
وجميع آيات القرآن في قول أبي بن كعب ستة آلاف آية ومائتان وعشر آيات وجميع عدد سور القرآن في قول عطاء بن يسار مائة وأربع عشرة سورة وآياته ستة آلاف ومائة وسبعون آياته وكلماته سبعة وسبن ألفا وأربعمائة وتسعة وثلاثون كلمة وحروفه ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألفا وخمسة عشر حرفا.
وفي قول عاصم الجحدري مائة وثلاثة عشر سورة.
وجميع آيات القرآن في قول يحيى بن الحارث الذماري ستة آلاف ومائتان وستة وعشرون آية وحروفه ثلاثمائة ألف حرف واحد وعشرون ألف حرف وخمسمائة وثلاثون حرفا) ( ).
والخبر مرسل ومنقطع ، ولم يرد عن أبي بن كعب نفسه .
ولا يصلح للإستدلال على وجود سورة قرآنية غير مكتوبة بين الدفتين.
وابن النديم هو أبو الفرج محمد بن إسحاق النديم واختلف في سنة وفاته وقيل توفى سنة380 هجرية.
أخبار عن نسخ ورفع آيات
أخرج ابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وابن عدي وابن عساكر عن ابن عباس قال : كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحي
بالليل وينساه بالنهار ، فأنزل الله [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا]( ).
وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال : قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانا يقرآن بها ، فقاما يقرآن ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف ، فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إنها مما نسخ أو نسي فالهوا عنه ، فكان الزهري يقرأها {ما ننسخ من آية أو نُنسها} بضم النون خفيفة.
وأخرج البخاري والنسائي وابن الأنباري في المصاحف والحاكم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال عمر : اقرأنا أُبي ، واقضانا علي ، وإنا لندع شيئاً من قراءة أبي ، وذلك أن أبياً يقول : لا أدع شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد قال الله (ما ننسخ من آية أو ننساها) ( ).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله ( ما ننسخ من آية أو ننساها ) يقول : ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها { نأت بخير منها أو مثلها } يقول : خير لكم في المنفعة وأرفق بكم .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : خطبنا عمر فقال : يقول الله ( ما ننسخ من آية أو ننساها } أي نؤخرها .
وأخرج ابن الأنباري عن مجاهد ، أنه قرأ ( أو ننساها ) .
وأخرج أبو داود في ناسخه عن مجاهد قال في قراءة أبي ( ما ننسخ من آية أو ننسك ) .
وأخرج آدم بن أبي أياس وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن مجاهد عن أصحاب ابن مسعود في قوله { ما ننسخ من آية } قال : نثبت خطها ونبدل حكمها ( أو ننساها ) قال: نؤخرها عندنا .
وأخرج آدم وابن جرير والبيهقي عن عبيد بن عمير الليثي في قوله { ما ننسخ من آية أو ننساها } يقول : أو نتركها ، نرفعها من عندهم .
عن مجاهد في قراءة أبي بن كعب : ما ننسخ من آية أو ننسك قال أبو عبيد : والذي يروى عن عبد الله ما ننسك من آية أو ننسخها يحدثون بذلك عن قرة بن خالد عن الضحاك عن ابن مسعود وقرأها الضحاك أو ننسها على ذلك التأويل( ).
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن قتادة قال : كانت الآية تنسخ الآية ، وكان نبي الله يقرأ الآية والسورة وما شاء الله من السورة ثم ترفع فينسيها الله نبيه ، فقال الله يقص على نبيه { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } يقول : فيها تخفيف ، فيها رخصة ، فيها أمر ، فيها نهي .
وأخرج أبو داود في ناسخه عن ابن عباس قال { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } ثم قال {وإذا بدلنا آية مكان آية}( )، وقال { يمحو الله ما يشاء ويثبت }( ).
وأخرج أبو داود وابن جرير عن أبي العالية قال : يقولون ( ما ننسخ من آية أو ننساها) كان الله أنزل أموراً من القرآن ثم رفعها . فقال { نأت بخير منها أو مثلها}.
وقول أبي العالية : يقولون : تضعيف للخبر ، وأنه غير ملزم به ، وعن الربيع في قوله (ما ننسخ من آية أو نُنسها) يقول :”ننسها”: نرفعها. وكان الله تبارك وتعالى أنزل أمورا من القرآن ثم رفعها( ).
وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله { أو ننسها } قال : إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرىء قرآناً ثم أنسيه ، فلم يكن شيئاً ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرأونه .
وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف وأبو ذر الهروي في فضائله عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف : إن رجلاً كانت معه سورة فقام من الليل فقام بها فلم يقدر عليها ، وقام آخر بها فلم يقدر عليها ، وقام آخر بها فلم يقدر عليها ، فأصبحوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاجتمعوا عنده فأخبروه ، فقال : إنها نسخت البارحة.
وأخرج أبو داود في ناسخه والبيهقي في الدلائل من وجه آخر عن أبي أمامة : أن رهطاً من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبروه أن رجلاً قام من جوف الليل يريد أن يفتتح سورة كان قد وعاها ، فلم يقدر منها على شيء إلا بسم الله الرحمن الرحيم ، ووقع ذلك لناس من أصحابه ، فأصبحوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن السورة ، فسكت ساعة لم يرجع إليهم شيئاً ثم قال : نسخت البارحة فنسخت من صدورهم ومن كل شيء كانت فيه.
وأخرج ابن سعد وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داود في ناسخه وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والبيهقي في الدلائل عن أنس قال : أنزل الله في الذين قتلوا ببئر معونة قرآناً قرأناه حتى نسخ بعد أن بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا (وقد قُتل في بئر معونة سبعون من القراء ) ( ).
وأخرج مسلم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الدلائل عن أبي موسى الأشعري قال : كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها ، غير أني حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوفه إلا التراب . وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات ، أولها سبح لله ما في السموات فأنسيناها ، غير أني حفظت منها : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون . فتكتب شهادة في أعناقكم ، فتسألون عنها يوم القيامة .
وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس عن أبي موسى الأشعري قال : نزلت سورة شديدة نحو براءة في الشدة ثم رفعت ، وحفظت منها : إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم (عن مجاهد قال إن الأحزاب كانت مثل البقرة أو أطول قال ابن داود وحدثنا عباد بن يعقوب قال أخبرنا شريك عن عاصم عن زر قال قال أبي بن كعب كيف تقرأ سورة الأحزاب قلت سبعين أو إحدى وسبعين آية قال والذي أحلف به لقد نزلت على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنها لتعادل البقرة أو تزيد عليها) ( ).
وأخرج ابن الضريس : ليؤيدن الله هذا الدين برجال ما لهم في الآخرة من خلاق ، ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، إلا من تاب فيتوب الله عليه والله غفور رحيم.
وأخرج أبو عبيد وأحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإِيمان عن أبي واقد الليثي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أوحى إليه أتيناه فعلمنا ما أوحي إليه ، قال : فجئته ذات يوم فقال : إن الله يقول : إنا أنزلنا المال لإِقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ولو أن لابن آدم وادياً لأحب أن يكون إليه الثاني ، ولو كان له الثاني لأحب أن يكون إليهما ثالث ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب.
وأخرج أبو داود وأحمد وأبو يعلى والطبراني عن زيد بن أرقم قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضة لابتغى الثالث ولا يملأ بطن ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب.
وقد ورد ذات الخبر عن ابن عباس بصفة حديث وليس آية ، وعن ابن عباس قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب( ).
ولو دار الأمر في حديث الصحابة بين كون الخبر آية منسوخة أو حديثاً نبوياً ، فالراجح هو الثاني ما دام ليس مما بين الدفتين .
وعن أنس بن مالك قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سورة تعدلها سورة التوبة، ما أحفظ منها غير آية واحدة (ولو أن لابن آدم واديان من ذهب لا بتغى إليها ثالثا، ولو أن له ثالثا لابتغى إليها رابعا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب).
وروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية، فحفظتها وكتبتها في مصحفي، فلما كان الليل رجعت إلى مضجعي فلم أرجع منها بشيء، وغدوت على مصحفي فإذا الورقة بيضاء، فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي (يا ابن مسعود، تلك رفعت البارحة)( ).
وأخرج أبو عبيد وأحمد عن جابر بن عبدالله قال : كنا نقرأ : لو أن لابن آدم ملء واد مالا لأحب إليه مثله ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب .
وأخرج أبو عبيد والبخاري ومسلم عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لو أن لابن آدم ملء واد مالا لأحب أن له إليه مثله ، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب . قال ابن عباس : فلا أدري أمن القرآن هو أم لا .
وأخرج البزار وابن الضريس عن بريدة : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في الصلاة : لو ان لابن آدم وادياً من ذهب لابتغى إليه ثانياً ، ولو أعطي ثانياً لابتغى ثالثاً ، لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب.
وأخرج ابن الأنباري عن أبي ذر قال : في قراءة أبي بن كعب : ابن آدم لو أعطي وادياً من مال لابتغى ثانياً ولالتمس ثالثاً ، ولو أعطي واديين من مال لالتمس ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب .
وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال : كنا نقرأ : لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم ، وإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم .
وأخرج عبد الرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر بن الخطاب قال :إن الله بعث محمداً بالحق وأنزل معه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فرجم ورجمنا بعده ، ثم قال : قد كنا نقرأ : ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم .
وأخرج الطيالسي وأبو عبيد والطبراني عن عمر بن الخطاب قال : كنا نقرأ فيما نقرأ : لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم ، ثم قال لزيد بن ثابت : أكذلك يا زيد؟ قال : نعم .
وأخرج ابن عبد البر في التمهيد من طريق عدي بن عدي بن عمير بن قزوة عن أبيه عن جده عمير بن قزوة . أن عمر بن الخطاب قال لأبي : أو ليس كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : إن انتفاءكم من آبائكم كفر بكم؟ فقال : بلى . ثم قال : أو ليس كنا نقرأ : الولد للفراش وللعاهر الحجر . فيما فقدنا من كتاب الله؟ فقال أبي : بلى .
وأخرج أبو عبيد وابن الضريس وابن الأنباري عن المسور بن مخرمة قال : قال عمر لعبد الرحمن بن عوف : ألم تجد فيما أنزل علينا : أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة . فإنا لا نجدها؟
قال : أسقطت فيما أسقط من القرآن.
وأخرج أبو عبيد وابن الضريس وابن الأنباري في المصاحف عن ابن عمر قال : لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله ، ما يدريه ما كله؟ قد ذهب منه قرآن كثير ولكن ليقل : قد أخذت ما ظهر منه .
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن الأنباري والبيهقي في الدلائل عن عبيدة السلماني قال : القراءة التي عرضت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العام الذي قبض فيه هذه القراءة التي يقرأها الناس ، التي جمع عثمان الناس عليها .
وأخرج ابن الأنباري وابن اشتة في المصاحف عن ابن سيرين قال : كان جبريل يعارض ( ) النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل سنة في شهر رمضان ، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين ، فيرون أن تكون قراءتنا هذه على العرضة الأخيرة .
وأخرج ابن الأنباري عن أبي ظبيان قال : قال لنا ابن عباس : أي القراءتين تعدون أول؟
قلنا : قراءة عبد الله وقراءتنا هي الأخيرة .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرض عليه جبريل القرآن كل سنة مرة في شهر رمضان ، وأنه عرضه عليه في آخر سنة مرتين ، فشهد منه عبد الله ما نسخ وما بدل.
وأخرج ابن الأنباري عن مجاهد قال : قال لنا ابن عباس : أي القراءتين تعدون أول؟ قلنا : قراءة عبد الله .
قال فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرض القرآن على جبريل مرة ، وإنه عرضه عليه في آخر سنة مرتين ، فقراءة عبدالله آخرهن( ).
وأخرج ابن الأنباري عن ابن مسعود قال : كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل سنة مرة ، وأنه عارضه بالقرآن في آخر سنة مرتين ، فأخذته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك العام .
وأخرج ابن الأنباري عن ابن مسعود قال : لو أعلم أحداً أحدث بالعرضة الأخيرة مني لرحلت إليه( ) .
وأخرج أبو جعفر النحاس بالإسناد في ناسخه عن أبي البختري قال : دخل علي بن أبي طالب عليه السلام المسجد فإذا رجل يخوّف الناس فقال: ما هذا؟!
فقالوا : رجل يذكر الناس .
فقال : ليس برجل يذكر الناس ولكنه يقول أنا فلان بن فلان فاعرفوني، فأرسل إليه فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟
فقال : لا . قال : فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه( ).
وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ والمنسوخ والبيهقي في سننه عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : مر علي بن أبي طالب برجل يقص فقال : أعرفت الناسخ والمنسوخ؟
قال : لا . قال : هلكت وأهلكت( ).
أي جلبت الإثم لنفسك ، وأضررت بغيرك ممن يفتتن بك لانك لا تعلم الناسخ والمنسوخ ومع كثرة علوم القرآن ومنها أسباب النزول والمحكم والمتشابه والمطلق والمقيد ، والعام والخاص ، وآيات الأحكام فان الإمام يؤكد على علم الناسخ والمنسوخ لموضوعيته في استنباط الأحكام ، وأنه من أبجديات معرفة الذي يتصدى للخطابة ودروس القرآن والفقه .
أصحاب الفترة
وهم الذين لم يأتهم رسول يدعوهم إلى الله ، بين رسالة عيسى عليه السلام ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن لم تبلغهم الدعوة أو بلغته وهو معذور كالمجنون.
واقتبس العنوان من قوله تعالى [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )،
فالمراد من الفترة من الرسل أي انقطاع من الرسل ، فبينما كانت الرسل تترى من غير انقطاع قبل عيسى عليه السلام ، لم يكن هناك نبي أو رسول بين عيسى عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن سلمان الفارسي قال : فترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ستمائة سنة .
لقد فرح ابليس بالفترة بين الرسل ، فلما بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تغشاه الحزن.
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : إن إبليس رنّ أربع رنات أولهن يوم لعن، ويوم اهبط إلى الأرض، وحيث بعث محمد صلى الله عليه وآله على فترة من الرسل، وحين انزلت ام الكتاب ، ونخر نخرتين: حين أكل آدم من الشجرة، وحين اهبط من الجنة( ).
واختلف فيهم على أقوال :
الأول : من مات ولم تبلغه الدعوة يكون ناجياً من العذاب لعدم قيام الحجة عليه ، واستدل عليه بقوله تعالى [وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً]( ).
الثاني : من مات ولم تبلغه الدعوة فهو في النار .
الثالث : الوقف في أمرهم ، فهم تحت المشيئة .
الرابع : إمتحانهم في عرصات القيامة بأن يأمرون بدخول النار ، فمن دخلها فقد أطاع الله وصارت عليه برداً وسلاماً ، ومن لم يدخلها فقد عصى الله ، وأستدل عليه بما ورد عن الأسود بن سريع : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئاً ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في الفطرة .
فأما الأصم ، فيقول : رب ، لقد جاء الإسلام ، وما أسمع شيئاً ، وأما الأحمق ، فيقول : رب ، جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر.
وأما الهرم فيقول : رب ، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً .
وأما الذي مات في الفطرة فيقول : رب ، ما آتاني لك رسول .
فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه ، ويرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار . قال : فو الذي نفس محمد بيده ، لو دخلوها كانت عليهم برداً وسلاماً ، ومن لم يدخلها سحب إليها) ( ).
(عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “يؤتى بأربعة يوم القيامة: بالمولود، والمعتوه، ومن مات في الفَتْرَة، والشيخ الفاني الهرم، كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار: أبرز. ويقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم، وإني رسول نفسي إليكم ادخلوا هذه.
فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب، أنى ندخلها ومنها كنا نفر؟
ومن كتبت عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعًا، قال: فيقول الله تعالى: أنتم لرسلي أشد تكذيبًا ومعصية، فيدخل هؤلاء الجنة، وهؤلاء النار) ( ).
وذكر أن هذه الأحاديث لا تصح لمخالفتها لأصول المسلمين بأن الدار الآخرة ليست دار امتحان ، كما عن ابن عبد البر والقرطبي وغيرهما ، وأن التكليف ينقطع عند مغادرة الدنيا واجيب عليه بأن انقطاعه يكون في دار القرار بدخول الجنة أو النار ، أما عالم البرزخ وعرصات يوم القيامة فان التكليف فيها جار واستدل عليه بسؤال منكر ونكير في القبر : من ربك ؟ ما دينك ؟ من نبيك ؟
ولكن هذا السؤال ليس من التكليف ، إنما هو مرآة للحياة الدنيا لإقامة الحجة على العبد ، فهو لا ينطق إلا بما كان يؤمن به في الدنيا .
لقد تجلت في الفترة بين الرسل مسألة وهي الحاجة إلى النبوة والتنزيل ، والناس من دون الإيمان يظلم بعضهم بعضاً ، ويعتدي بعضهم على بعض، ويكثر سفك الدماء لذا احتج الملائكة على تلك الفترة كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليسود السلم في الأرض إلى يوم القيامة ، وهو من الأمارات بأن آيات السلم محكمة غير منسوخة ، فقد انقطعت الفترة والعادات التي فيها ليعم الأمن الأرض .
وقال تعالى [يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ* خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ] ( ) كشف الساق كناية عن شدة الأمر ، وهول يوم القيامة ، لأن العرب كانوا اذا اشتدت الحرب كشفوا عن سيقانهم .
وعن ابن عباس في الآية أعلاه (أشدُّ ساعةٍ في القيامة ، فصار كشف السَّاق عبارةً عن شدَّة الأمر { ويدعون إلى السجود }( ) أَيْ : الكافرون والمنافقون { فلا يستطيعون }( ) يصير ظهرهم طبقاً واحداً كلَّما أراد أن يسجد واحدٌ منهم خرَّ على قفاه) ( ).
وإذ ورد دليل قطعي من القرآن بأنه لا تكليف ولا اختيار في الآخرة ، فهو الحق .
فالمختار أن السنة لا تنسخ القرآن ، والآية أعلاه شاهد على إقامة الحجة بالإختيار في الآخرة ، لإقامة الحجة أمام الخلائق .
قانون إكرام الإسلام للمرأة سلام
قال تعالى [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ] ( ) .
لقد تجلى في الإسلام إكرام المرأة لبعث السكينة والإستقرار في المجتمعات والزجر عن الميل إلى حال الحروب والإضطرار إلى المرابطة لدفع العدو ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) .
إذ تدل هذه الآية على إقامة طائفة من المسلمين في الثغور خشية هجوم المشركين إلى أن تم فتح مكة ،ويكون إكرام للمرأة على وجوه :
الأول : إكرام الله للمرأة والذي إبتدأ من إقامة حواء في الجنة مع آدم وتكليم الله تعالى لها ، ولو شاء لخلق حواء في الأرض بعد أن أهبط آدم إليها ، ولقالت النساء حينئذ أن سبب الشقاء هو الرجل وحده ، ولو كانت مع آدم امرأة لأشارت عليه أو لامتنعت عن الأكل من الشجرة ، فأراد الله عز وجل إقامة الحجة على العباد ، قال سبحانه [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) .
الثاني : إكرام القرآن للمرأة .
الثالث : المرأة في السنة النبوية القولية ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إنما النساء شقائق الرجال ) ( ) ويتجى هذا القانون بفرض العبادات على الرجل والمرأة بعرض واحد بالمساواة بالتكليف إلا ما خرج بالدليل مثل سقوط الجهاد عن المرأة .
الرابع : في السنة النبوية الفعلية إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأزواجه ولفاطمة الزهراء عليها السلام ، حتى قال (فاطمة بضعة مني ) ( ) لذا ذهب بعض العلماء إلى تفضيل الزهراء على النساء لأنها بضعة رسول الله .
الخامس : المرأة في أحكام الأرض ، كانت المرأة لا يجعل لها شئ من الأرض ، وإذ مات الرجل القى ابنه رداءه على زوجة أبيه أي غير أمه ، فتصير على أحدى حالات :
الأول : زواج ابن الميت لها .
الثاني : تبقى على حالها معلقة .
الثالث : تفك نفسها من سلطان الابن بالمال والبدل .
وقالت أم سلمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا اسمع الله ذكر النساء في الهجرة فانزل الله [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ] ( ) .
لقد أثبت الإسلام للمرأة شخصيتها المعنوية وحقها في الملكية والبيع والشراء، وحق الرهن ، وكانت نساء قريش تعمل بالتجارة قبل الإسلام ، كما في خديجة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ كانت تجارتها سبباً لزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها ، كما سخرت أموالها في الدعوة إلى الله ، ولكن هذا العمل في التجارة محصور بقريش وبعض العرب ، فجاء القرآن بالحكم العام لاباحة عمل المرأة في التجارة إلى يوم القيامة وفق الضوابط الشرعية .
وأحكام وأنظمة الميراث في الإسلام معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متجددة في كل زمان ، قال تعالى [وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ] ( ) .
ولم يرد لفظ (الثُّمُنُ) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وقال تعالى [يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ] ( ) .
وعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (يا رسول الله ما لنا لا نُذكر في القرآن كما يُذكر الرجال؟
قلت : فلم يرعني ذات يوم ظهراً إلاّ بدواة على المنبر وأنا أسرح رأسي فلفقت شعري ثمّ خرجت إلى حجرة من حجر بيتي فجعلت سمعي عند الجريدة، فإذا هو يقول على المنبر : يا أيّها الناس إنَّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه : {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} … إلى قوله : {وَأَجْرًا عَظِيمًا}( )) ( ).
ووردت السنة النبوية بأن المرأة التي تموت في الطلق وعند الولادة تنال مرتبة الشهادة .
(عن عبادة بن الصامت ، قال : عادني النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال : هل تدرون من شهداء أمتي يوم القيامة ؟
فأرم القوم ، فقلت : يا رسول الله ، القتيل في سبيل الله ، الصابر المحتسب شهيد ، فقال : إن لم يكن شهداء أمتي إلا هؤلاء إنهم إذا لقليل ، القتيل في سبيل الله شهيد ، والغريق شهيد ، والمبطون شهيد ، والطاعون شهادة ، والنفساء يجرها ولدها بسرره إلى الجنة ) ( ).
ولم ينحصر إكرام الإسلام للمرأة بالذات بل يشمل الصفة ، إذ أكرمها كأم وأخت وبنت .
وورد حديث (أنس بن مالك قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الجنة تحت أقدام الأمهات) ( ) . وهو حديث ضعيف سنداً ، وكذا روي عن ابن عباس يرفعه .
وعن (موسى بن محمد الرملي ثنا أبو المليح الرقي عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ان للمساكين دولة قيل يا رسول الله وما دولتهم .
قال : إذا كان يوم القيامة قيل لهم انظروا من أطعمكم في الله لقمة وكساكم ثوبا أو سقاكم شربة ماء دخلوه الجنة قال الشيخ وهذا حديث منكر بهذا الإسناد يرويه عن أبي المليح موسى بن محمد وأبو المليح لا بأس به ثنا عمر بن سنان ثنا عباس بن الوليد الخلال ثنا موسى بن محمد بن عطاء ثنا أبو المليح عن ميمون بن مهران عن بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجنة تحت أقدام الأمهات من شئن أدخلن ومن شئن أخرجن) ( ) .
والحديث ضعيف ، إذ أن موسى بن محمد منكر الحديث .
وورد عن معاوية بن جاهمة (عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السُّلَمِىِّ أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وآله وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ . فَقَالَ : هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ . قَالَ نَعَمْ. قَالَ فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا) ( ) لبيان معنى مجازي وأن أسهل طريق إلى الجنة طاعة الوالدين بقصد القربة إلى الله .
ترجمة ابن أم مكتوم
هو عبد الله بن قيس بن زائدة بن الأصم القرشي ، وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين ، وكان أعمى ضريراً ، وأم مكتوم أمه ، وهي عاتكة بنت عبد الله من بني مخزوم.
وكان وبلال يتناوبان الأذان والإقامة لصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يمنعكم أذانُ بلال عن سَحُوركم، فإنه ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر( ).
وعبد الله ابن أم مكتوم من المهاجرين الأوائل إذ أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع مصعب بن عمير الى المدينة بعد بيعة العقبة الثانية ، وقبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، كما كان يُؤذن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقيل أن عدد المرات التي استخلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها على المدينة عندما يغادرها في كتيبة أو سفر هي ثلاث عشرة مرة وهي :
الأولى : كتيبة الأبواء : والتي وقعت في شهر صفر من السنة الثانية.
الثانية : كتيبة بواط : والتي وقعت في شهر ربيع الأول من السنة الثانية( ).
الثالثة : كتيبة العشيرة أو العُسيرة التي وقعت في شهر جمادى الأولى من السنة الثانية.
الرابعة : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طلب كرز بن جابر الذي أغار ورهط من المشركين على سرح المدينة وتسمى كتيبة بدر الأولى ، كما تسمى كتيبة سفوان وقد فات كرز النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليدخل بعدها الإسلام ويستشهدون في فتح مكة.
الخامسة : كتيبة السويق والتي وقعت في الشهر الخامس من ذي الحجة من السنة الثانية.
السادسة : كتيبة قرقرة( )، الكدر( )، وتسمى كتيبة بني سليم ، والتي وقعت في شهر محرم من السنة الثالثة.
السابعة : كتيبة بحران والتي وقعت في شهر جمادى الأولى من السنة الثالثة( ).
الثامنة : معركة أحد والتي وقعت في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة.
التاسعة : كتيبة حمراء الأسد إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها بعد يوم واحد من معركة أحد ، ونزل قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
العاشرة : كتيبة ذات الرقاع والتي وقعت في شهر جمادى الأولى من السنة الرابعة.
الحادية عشرة : كتيبة بني لحيان التي وقعت في شهر محرم من السنة السادسة.
الثانية عشرة : كتيبة ذي قرد وتسمى كتيبة الغابة ووقعت في شهر في شهر ربيع الأول سنة ست للهجرة أي قبل صلح الحديبية.
الثالثة عشرة : كتيبة غطفان والتي وقعت بعد الحديبية .
واستخلفه النبي عند خروجه إلى معركة بدر ، ثم رد إليها أبا لبابة ليحل محله ، ويحتمل استخلاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإبن أم مكتوم وجوهاً :
الأول : الإمامة في الصلاة اليومية في المسجد النبوي.
الثاني : بيان الأحكام والفتيا.
الثالث : الأمور العامة وشؤون الحكم وفك الخصومة وحفظ الأمن في المدينة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، إذ لم يرد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استخلف مع ابن أم مكتوم أحد الصحابة البارزين ، وذكره بالاسم للولاية وهل بين اختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاعمى من بين أصحابه ليتولى شرون المدينة عند خروجه إلى السواد والرجال معه عند الخروج وسقوط الدفاع عن الأعمى .
الجواب لا ، إذ كان عدد من الصحابة يتخلفون عن الخروج في كل مرة ، كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستخلف غيره في مرات متعددة أخرى ، إنما كان هذا الإستخلاف إكراماً من الله عز وجل لابن أم مكتوم ، وبياناً لرضا وقبول أهل المدينة بمن يختاره النبي صلى الله عليه وآله وسلم نائباً عنه عند غيابه.
خبر الغرانيق العلى
الغرانيق جمع غِرنيق وهو ضرب من طير الماء ، وتراها تطير جماعة.
والغرنيق طائر أبيض من طيور الماء يشبه الكركي ، يعلو في طيرانه وقيل أنه الكركي، وكانت قريش تشبه به أصنامها ، أي أن التسمية ليست جديدة أيام التنزيل ، إنما كانت معروفة عند قريش إذ يسمون أصنامهم بهذه الأسماء لتمييزها والتفاخر بها وكأنها في مقام عال عن أصنام العرب الأخرى.
وإذا وصف به الرجال فواحدهم غُرنوق( )
(وأنشد الاصمعي :
يظلّ تغنّيه الغرانيق فوقه … أباهٌ وغيلٌ فوقه متأصر) ( ).
وقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سها ووصف اللات والعزى ومناة بانها غرانيق وأن شفاعتها ترتجى واستبشر وفرح المشركون ، والمختار أنه لا أصل لهذا القول .
وحديث القرانيق العلى لم ينسب لأي من الصحابة إلا لابن عباس والذي لم يولد بعد أيام نزول هذه الآيات ، فضلاً أن أباه العباس بن عبد المطلب أسر في معركة بدر ، إذ كان مع المشركين ثم دفع فداءه وفداء كل من ابن أخيه عقيل بن أبي طالب نوفل بن الحارث وعتبة بن عمرو كل رجل أربعمائة دينار( ) وقد تقدم بيانه .
ليعود العباس إلى مكة وكان عبد الله بن عباس يومئذ صغيراً في مكة ، وعمره خمس سنوات.
وولد عبد الله بن عباس سنة 3 ق. الهجرة ، وتوفى سنة 68 للهجرة وهو أحد المكثرين في الرواية عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكر أنه روى 1660 حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمر ابن عباس ثلاث عشرة سنة ، وكونه تحمل كل هذه الأحاديث سماعاً من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مثل هذه السن بعيد ، والأرجح أنه أخذ أحاديث كثيرة عن أهل البيت والصحابة ، وأمد الله في عمره , وكان التابعون يأتون إليه ليسمعوا منه ، ولم يرد حديث الغرانيق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أهل البيت والصحابة الأوائل كالإمام علي عليه السلام وأبي بكر وعمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود ، وهو من المكثرين أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان ممن أسلم في مكة وقيل هاجر إلى الحبشة.
نعم كان ابن عباس يسأل عن الحديث النبوي عدداً من الصحابة وقيل كان يسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من الصحابة وفيه نوع توثيق لحديثه.
وأوان حادثة الغرانيق أيام ولادته , كما ورد الحديث عن عدد من التابعين ، لعل بعضهم أخذه من ابن عباس ، وتقتضي الأمانة ذكر جهة الصدور كما ورد الحديث عن عدد من تابعي التابعين .
إذ (أخرج عبد بن حميد من طريق السدي ، عن أبي صالح قال : قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال المشركون : ان ذكر آلهتنا بخير ، ذكرنا آلهته بخير ف {ألقى الشيطان في أمنيته}( ) {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى}( ) إنهن لفي الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى . قال( ): فأنزل الله {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته}( ) .
فقال ابن عباس : إن أمنيته أن يسلم قومه .
وأخرج البزار والطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ففرح المشركون بذلك ، وقالوا: قد ذكر آلهتنا فجاءه جبريل فقال : اقرأ عليَّ ما جئتك به ، فقرأ { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى.
فقال : ما أتيتك بهذا هذا من الشيطان . فأنزل الله {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى } إلى آخر الآية)( ).
(عن السدي ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد فقرأ سورة النجم ، فلما انتهى إلى قوله : { ومناة الثالثة الاخرى}( ) فألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ، حتى بلغ إلى آخر السورة ، سجد وسجد أصحابه وسجد المشركون لذكره آلهتهم .
فلما رفع رأسه ، حملوه وأسندوا به بين قطري مكة؛ حتى إذا جاءه جبريل عليه السلام عرض عليه ، فقرأ عليه الحرفين ، فقال جبريل عليه السلام معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا واشتد عليه ، فأنزل الله تعالى لتطييب نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأخبره أن الأنبياء عليهم السلام قبله قد كانوا مثله) ( ).
والسدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن مولى زينب بنت قيس بن مخرمة القرشية ، تابعي ، محدث ، وله كتاب في التفسير اسمه (تفسير السدي) ولقب بالسدي لأنه نزل بالسدة ، وأبوه من اصبهان .
فقد (أخرج الطبراني وابن منده من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن السدي عن أبيه قال كاتبتني زينب بنت قيس بن مخرمة بعشرة آلاف فتركت لي ألفا وكانت زينب قد صلت القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم) ( ).
(عن سعيد بن جُبَيْر، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة “النجم” فلما بلغ هذا الموضع {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى . وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى}( ) قال: فألقى الشيطان على لسانه: “تلك الغَرَانيق العلى. وإن شفاعتهن ترتجى”.
قالوا: ما ذكر آلهَتنا بخير قبل اليوم. فسجَدَ وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( ).
وسعيد بن جبير تابعي ، وكان أحياناً يسند حديثه لإبن عباس ، ولكنه لم يرفع هذا الخبر .
وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ومن طريق أبي بكر الهذلي ، وأيوب عن عكرمة ، عن ابن عباس ، ومن طريق سليمان التيمي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ سورة النجم وهو بمكة ، فأتى على هذه الآية {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} فألقى الشيطان على لسانه : إنهن الغرانيق العلى فأنزل الله [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
ونزلت سورة النجم في مكة بعد عشرين سورة من القرآن وتتصف هذه السورة بذم وتقبيح عبادة الأصنام وتسفيه إتخاذها واسطة بين الإنسان وبين الله ، وتنفي أهليتها للسؤال أو الشفاعة ، ومنها سورة التوحيد وسورة الكافرين ، وتمتاز سورة النجم بأنها ذكرت الأصنام بأسمائها.
(وأخرج عبد بن حميد وابن جرير من طريق يونس ، عن ابن شهاب حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قرأ سورة النجم ، فلما بلغ [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( )، قال : إن شفاعتهن ترتجى ، وسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففرح المشركون بذلك فقال : إنما كان ذلك من الشيطان فأنزل الله [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ]( )، حتى بلغ {عذاب يوم عقيم}( )) ( ).
(عن ابن شهاب، أنه سئل عن قوله ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ)الآية، قال ابن شهاب: ثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة قرأ عليهم (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) فلما بلغ[ أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى] قال: إن شفاعتهن ترتجى. وسها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلقيه المشركون الذين في قلوبهم مرض، فسلموا عليه، وفرحوا بذلك، فقال لهم: إنما ذلك من الشيطان. فأنزل الله(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ) حتى بلغ (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ )) ( ).
(قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسّرين : لمّا رآى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تولّي قومه عنه وشقّ عليه ما رأى من مباعدتهم عمّا جاءهم به من الله سبحانه تمنّى في نفسه أن يأتيه من الله تعالى ما يقارب بينه وبين قومه.
وذلك لحرصه على إيمانهم.
فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله.
فأحبّ يومئذ ألاّ يأتيه من الله تعالى شيء فينفروا عنه.
وتمنى ذلك فأنزل الله سبحانه سورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}( )، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بلغ {أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثالثة الاخرى}( ) ألقى الشيطان على لسانه لمّا كان يحدث به نفسه ويتمناه : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى.
فلما سمعت قريش ذلك فرحوا، ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قراءته فقرأ السورة كلّها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده)( ).
(عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ النجم فلما بلغ { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى }( ) ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى وشفاعتهم ترتجى فلما بلغ آخرها سجد وسجد المسلمون والمشركون فأنزل الله عز وجل { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان } إلى قوله { عذاب يوم عقيم }( ) يوم بدر)( ).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية قال : قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو ذكرت آلهتنا في قولك قعدنا معك ، فإنه ليس معك إلا أراذل الناس وضعفاؤهم ، فكانوا إذا رأونا عندك تحدث الناس بذلك فأتوك .
فقام يصلي فقرأ { والنجم } حتى بلغ { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } تلك الغرانيق العلى وشفاعتهن ترتجى ومثلهن لا ينسى .
فلما فرغ من ختم السورة سجد وسجد المسلمون والمشركون .
فبلغ الحبشة : ان الناس قد أسلموا ، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله { وما أرسلنا من قبلك } إلى قوله { عذاب يوم عقيم } .
(وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية قال : نزلت سورة النجم بمكة ، فقالت قريش : يا محمد ، إنه يجالسك الفقراء والمساكين ويأتيك الناس من أقطار الأرض ، فإن ذكرت آلهتنا بخير جالسناك ، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سورة { النجم } فلما أتى على هذه الآية { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى }( ) ألقى الشيطان على لسانه : وهي الغرانيق العلى شفاعتهن ترتجى . فلما فرغ من السورة سجد وسجد المسلمون والمشركون .
إلا أبا أحيحة سعيد بن العاص؛ فإنه أخذ كفاً من تراب فسجد عليها وقال : قد آن لابن أبي كبشة أن يذكر آلهتنا بخير ، فبلغ ذلك المسلمين الذين كانوا بالحبشة : أن قريشاً قد أسلمت ، فأرادوا أن يقبلوا واشتد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أصحابه ما ألقى الشيطان على لسانه ، فأنزل الله {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي})( ).
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي عند المقام إذ نعس ، فألقى الشيطان على لسانه كلمة فتكلم بها ، وتعلق بها المشركون عليه فقال [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( )، فألقى الشيطان على لسانه ، ونعس ، وإن شفاعتهم لترتجى وإنها لمع الغرانيق العلى ، فحفظها المشركون ، وأخبرهم الشيطان : أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قرأها فذلت بها ألسنتهم ، فأنزل الله {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي} فدحر الله الشيطان ، ولقن نبيه حجته.
وكان العرب ينسبون بعض أسمائهم الى الأصنام فيسمون بعض أولادهم : زيد اللات ، وتيم اللات.
وأخرج عبد بن حميد ، عن عكرمة قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى]( )، فألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلك إذن في الغرانيق العلى تلك إذن شفاعة ترتجى ، ففزع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وجزع ، فأوحى الله إليه {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً}( )، ثم أوحى إليه ففرج عنه { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} إلى قوله {حكيم}( )، ولم يرد لفظ [أمنيته] في القرآن إلا في الآية أعلاه.
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السدي قال : خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد ليصلي ، فبينما هو يقرأ ، إذ قال : { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } فألقى الشيطان على لسانه فقال : تلك الغرانقة العلى وإن شفاعتهن ترتجى ، حتى إذا بلغ آخر السورة سجد وسجد أصحابه وسجد المشركون لذكره آلهتهم .
فلما رفع رأسه حملوه ، فاشتدوا به بين قطري مكة يقولون : نبي بني عبد مناف ، حتى إذا جاءه جبريل عرض عليه ، فقرأ ذينك الحرفين ، فقال جبريل معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا! فاشتد عليه فأنزل الله يطيب نفسه { وما أرسلنا من قبلك}( ).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } يقول : إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الضحاك في قوله { إذا تمنى } يعني بالتمني التلاوة والقراءة {ألقى الشيطان في أمنيته} في تلاوة النبي { فينسخ الله } ينسخ جبريل بأمر الله {ما ألقى الشيطان} على لسان النبي صلى الله عليه وسلم).
وذكر البخاري في قوله تعالى [أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ]( )، (عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ (فِى أُمْنِيَّتِهِ) إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى حَدِيثِهِ ، فَيُبْطِلُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ آيَاتِهِ)( ).
حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِىٍّ أَخْبَرَنِى أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِى إِسْحَاقَ عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهَا سَجْدَةٌ (وَالنَّجْمِ ) قَالَ فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ ، إِلاَّ رَجُلاً رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ ، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا ، وَهْوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ( ).
وخبر الغرانيق هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما قرأ في مكة قوله تعالى [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( )، ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتجى ، ففرح المشركون وقالوا لم يذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آلهتنا قبل هذا اليوم بخير ، فسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسجد معه المسلمون ، فسجد معهم المشركون محاكاة لهم ، ولأن النبي وصف آلهتهم بأنها غرانيق أي طيور ماء تسبح في الهواء ، فنزل عندئذ قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
لقد ذكرت الآية أعلاه الرسل والأنبياء وليس فيهم من هادن الكفار وتكلم بسهو في التنزيل , وهذا الاستصحاب في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دليل على نفي حديث الغرانيق .
واختلف في هذه القصة على وجوه :
الأول : عدم صحة هذه الرواية شرعاً وعقلاً.
الثاني : بطلان هذه القصة واستدل على البطلان أنه لو صحت لارتد كثير من المسلمين ، قاله القاضي عياض .
ومع قولنا بعدم صحتها ، ولكن لو صحت وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : تلك الغرانيق العلى فلا يرتد أحد من المسلمين بسببها من جهات :
الأولى : توالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : كل آية قرآنية معجزة قائمة بذاتها.
الثالثة : ثبوت الإيمان في قلوب المسلمين والمسلمات الأوائل بفضل الله.
الرابعة : تعدد دعوة المشركين للمسلمين للإرتداد ، وعدم ترتب الأثر عليها ، فحينما يعرض المشركون عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويصفونه بأنه تلقى التعليم من غيره وأنه مجنون ، كما ورد في التنزيل [ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ]( )، فلا يرتد أحد من المسلمين ، إذ يدركون أنه نوع إفتراء قال تعالى [وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
الخامسة : قد أخبر الله عز وجل بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بشر قد يطرأ عليه السهو والنسيان ، كما في قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
الثالث : ممن أنكر حديث الغرانيق الإمام ابن خزيمة وقال : هذا من وضع الزنادقة” وهذا هو الصواب( ) .
وهو لا يقصد عموم رواة الخبر إنما يقصد الذين وضعوه في الأصل لورود الحديث مسنداً عن عدد من التابعين .
الرابع : عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسلامته من سلطان ووحي الشيطان ، قال تعالى في ذم ودحر الشيطان [إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ]( ).
الخامس : انكر القاضي ابن عربي والفخر الرازي وغيرهما هذا الحديث ، وكذّبوه سنداً لمعارضته للأدلة القطعية من العقل والنقل.
السادس : إحتمال قيام مشركي قريش بالإفتراء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم واظهار العناد ، عند نزول سورة النجم فحينما نزل قوله تعالى [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى] ( )، فاضاف لها : تلك الغرانيق العلى ، وان شفاعتهم ترتجى ، ولم يرد خبر بهذا الإحتمال ، ولكنه ليس بعيداً عن كفار قريش.
السابع : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وَإِنّهُمْ لَهُمْ الْغَرَانِقَة الْعُلَى) سخرية من الذين كفروا ، وحاكياً لقولهم ، ومتعجباً منه( )، وقيل يدفعه قول جبرئيل للنبي : ما أتيتك بهذا ، كما في خبر الاسدي والذي لم يرفعه ، ولكنه يحتمل تأكيد جبرئيل لكون هذه الزيادة ليست من القرآن، ولم يرد في موضوع آخر أن جبرئيل قال للنبي هذه زيادة أو هناك نقيصة فيما يقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغه من الآيات , ولا بأخبار الوحي للأنبياء السابقين .
الثامن : قيل لما قرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الآية وجاء بهذه الزيادة سجد المسلمون وسجد المشركون ثم أنزل الله تعالى [فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ]( ).
التاسع : إن الشيطان هو الذي قال هذا القول وأشاعه.
العاشر : إنه افتراء من رجال قريش ، وبقي يذكره بعض المؤلفة قلوبهم حتى بعد دخولهم الإسلام.
وقال ابن كثير (701-774) هجرية : قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغَرَانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظَنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا. ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والله أعلم( ).
ولكن الأحاديث الواردة في خبر الغرانيق ليس فيها مرسل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والمراد من المرسل لغة اسم مفعول من الإرسال بمعنى الإطلاق وعدم المنع ، ويجمع على مراسل ومراسيل .
وهو في إصطلاح الفقه والأصول ان يقول التابعي والراوي الذي لم يلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سواء كان تابعياً أو من تابعي التابعين أو ممن تبعهم عدا قول المعصوم وعند المحدثين هو ما رفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير ذكر الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في مراسيل الحسن البصري مثلاً.
ولعل الأحاديث التي وردت بخصوص خبر الغرانيق ليس فيها حديث مرسل .
وأما الحديث الموقوف فهو الذي أضيف إلى الصحابي من قول أو فعل سواء كان السند إليه متصلاً أو منقطعاً .
وعن الإمام علي عليه السلام قال :
حدثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكّذب الله ورسوله.
أما الحديث المقطوع فهو الذي أضيف إلى التابعي أو تابع التابعي سواء اتصل إليه السند أو انقطع ، ومنه ما يروي عن سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، والحسن البصري ، من غير أن يرفعوا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو إلى الصحابي، وأكثر أحاديث الغرانيق من المقطوع.
وبخصوص آية النسخ وقوله تعالى (ننسها) وقرأ سعد بن أبي وقاص (أو تَنْسَها) على مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونون بعدها ساكنة وفتح السين ، هكذا قال أبو الفتح وأبو عمرو الداني .
فقيل لسعد إن سعيد بن المسيب يقرؤها بنون أولى مضمومة وسين مكسورة فقال : إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب ، وتلا {سنقرئك فلا تنسى}( )، { واذكر ربك إذا نسيت}( )، وقرأ سعيد بن المسيب فيما ذكر عنه أيضاً (أو تُنْسَها) بضم التاء أولاً وفتح السين وسكون النون بينهما ، وهذه من النسيان .
وقرأ الضحاك بن مزاحم وأبو رجاء : نُنَسِّها بضم النون الأولى وفتح الثانية وسين مكسورة مشددة ، وهذه أيضاً من النسيان ( ).
علم تفسير الأسماء الحسنى
يختص الله عز وجل بالأسماء الحسنى ، وهي ضياء ينير أركان الحياة الدنيا ، وتقتبس الكواكب نورها من هذه الأسماء ، وأخبر الله عز وجل عنها في القرآن لتكون وسيلة في الدعاء .
وبيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موضوعيتها في ملاك الإيمان بأن إحصاء العبد لها طريق إلى الجنة لما فيه من التسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
قال تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( ).
[هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
وهناك التفسير الموضوعي بلحاظ موضوع السورة أو الآية أو المبحث القرآني، كما لو تعلق بباب العقائد أو الأحكام أو الأخلاق في القرآن ، أي أن موضوعه وملاكه واحد ، وهذا العلم من أسرار نضارة آيات القرآن وطراوة وغضاضة( ) علومه.
والقرآن هو المصدر الأول للتشريع ، وهو منهاج المسلمين إلى يوم القيامة ، لذا صدر لنا هذا الجزء وهو السادس بعد المائتين من تفسيري للقرآن ، ويتعلق بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) ويكون هذا القانون من التفسير الموضوعي للقرآن ، وهناك أنواع وأقسام من التفسير وهي :
الأول : التفسير بالمأثور والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الصحابة وعن آئمة أهل البيت عليهم السلام ، ولو نظرت إليها لوجدت أن الآيات المنسوخة بعدد أصابع الإنسان ، ومع هذا يقولون بأن آية السيف نسخت نحو (124) آية ، وقد تجد روايات عن ابن عباس في نفس الكتاب ، رواية تقول هذه الآية منسوخة ، وراية تفيد استدامة العمل بها وبأحكامها .
وهذا التفسير ثروة وذخيرة وفرائد ، وأصل في التفسير لإستقراء مسائل وأحكام من السنة النبوية الشريفة .
الثاني : التفسير الإخباري ويشمل تفاصيل أخبار الأنبياء وقصص القرآن الأخرى ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ) .
الثالث : التفسير اللغوي ، ويشمل جهات :
الأولى : النحو .
الثانية : الصرف .
الثالثة : البلاغة .
الرابعة : المعاني اللغوية للفظ القرآني .
الخامسة : البيان .
الرابع : التفسير الفقهي لأحكام القرآن في الحلال والحرام والمعاملات والأسرة .
الخامس : التفسير بالرأي والدراية .
السادس : تفسير القرآن بالقرآن ، والتفسير بالجمع بين كل آيتين ، وقد صدرت لنا ولاول مرة فيه عدة أجزاء بأن يختص الجزء الواحد بالصلة بين آيتين متجاورتين ، أو بشطرين من الآيتين .
السابع : التفسير العلمي .
الثامن : التفسير التأريخي .
التاسع : التفسير الموضوعي بأن يأخذ موضوع معين وتذكر الآيات التي وردت بخصوصه .
العاشر : تفسير آيات الدفاع والذي اختص بها تفسيرنا هذا .
الحادي عشر : تفسير الأسماء الحسنى .
الثاني والعشرون : تفسير آيات السلم والصلح .
قسيم مبارك لاسم العلم والجنس
الاسم لفظ يدل على معنى من غير أن يقترن بزمان مخصوص من أفراد الزمان ، الماضي ، والحاضر ، والمستقبل ، والأمر ويدخل عليه آل التعريف، وحروف الجر ، وحروف النداء.
والاسم على أقسام :
الأول : الاسم الأحسن : من الأسماء الحسنى وهي خاصة بالله عز وجل.
الثاني : اسم الجنس : وهو الذي يطلق على جميع أفراد الجنس ، مثل نسيم ، ماء ، شجرة .
الثالث : اسم علم : وهو الذي يطلق على فرد من أفراد الجنس ، مثل محمد، جعفر ، زيد ، وهو على شعبتين :
الأولى : الاسم المفرد مثل محمد ، سليمان.
الثانية : الاسم المركب مثل عبد الله ، عبد الحليم.
وقد يرد لفظ جامعاً للوجهين الثاني والثالث أعلاه ، ويعرف المراد منه بالقرائن مثل : صالح ، ناصر ، وعلى القول بأن صادقاً من الأسماء الحسنى يكون لفظ (صادق) من الوجوه الثلاثة أعلاه وكأنه من المشترك اللفظي .
كما يكون صفة ، فان قلت المتعارف في علم اللغة والنحو أن الاسم على قسمين فقط وهما اسم الجنس واسم العلم فكيف أضفت لها قسيماً ثالثاً وهو الأسماء الحسنى .
الجواب من جهات :
الأولى : هذه الإضافة تشريف للأسماء وفيها الأجر والثواب.
الثانية : بيان قانون وهو موضوعية القرآن وعلومه في التحصيل والإستقراء والإستنباط ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
الثالثة : وجود الأسماء الحسنى حقيقة ثابتة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]( ).
الرابعة : من خصائص الأسماء أنها تثنى ، باضافة ألف ونون في حال الرفع : جدار : جداران ، واضافة ياء ونون في حال النصب والجر : جدارين ، ويقع على جهات :
الأولى : جمع مذكر سالم باضافة واو ونون في حال الرفع إذا كان صحيح الآخر مثل : غانم : غانمون، ناجح : ناجحون ، وإضافة ياء ونون في حال النصب والجر : غانمين ، ناجحين , أما إذا كان مقصوراً أو منقوصاً أو محدوداً ففيه تفصيل .
الثانية : يجمع الاسم جمع تكسير وليس له ضابطة وقاعدة كلية أو وزن واحد من جهة الإضافة أو الحذف ، إنما بحسب لفظ مفرده مثل ، درع : دروع ، مجلس : مجالس ، وجه : وجوه ، قال تعالى [تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ]( ).
الثالثة : جمع المؤنث السالم بإضافة ألف وتاء ، ويرفع بالضمة ، وينصب ويجر بالكسرة , كما في قوله تعالى [إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ] ( ) فالمؤمنات فاعل مرفوع بالضمة ، ومهاجرات حال منصوب بالكسرة .
كما يصح القول أن الجمع السالم ينقسم إلى قسمين : جمع مذكر سالم ، وجمع مؤنث سالم.
وتجمع هذه الأسماء آية واحدة مع قلة كلماتها وهي [إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ]( ) .
والمراد من نهر أي أنهار بدليل قوله تعالى [فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ]( )، وأيها أكثر في اللغة العربية جمع المذكر السالم أم جمع المؤنث السالم أم جمع التكسير.
المختار هو الأخير وأن جمع التكسير هو الأكثر في اللغة خاصة وأنه ينقسم إلى قسمين :
الأول : جمع قلة ، وقيل هو من الثلاثة إلى العشرة وله أربعة أوزان ، منه على وزن فِعلَة ، ومنه مثلاً لفظ نسوة في قوله تعالى [وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ]( ).
الثاني : جمع كثرة : وما كان ثلاثة أو أكثر ، فمن الأسماء ، ما ليس لها جمع قلة ، مثل لفظ كتب في قوله تعالى [فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ]( )، فيعرف اسم العلم بأنه يطلق على فرد من أفراد الجنس مثل محمد ، سمير ، جعفر . فخرج عنها اسم الجلالة.
كما يعرف اسم الجنس بأنه يطلق على جميع أفراد الجنس مثل درسٌ، تلميذ ، صخرة ، كتاب .
وهذا المبحث مقدمة لمبحث أصولي وقرآني وهو : التفسير الموضوعي للأسماء الحسنى.
يمكن أن نضيف أبواباً للتفسير الموضوعي ، ومن مصاديق هذا التقسيم علم تفسير الأسماء الحسنى .
وهو لا يتعارض مع ذكرها في تقسيم الآيات .
قال تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ]( )، وقد ورد لفظ اسم الله في القرآن (اسم الله) احدى عشرة مرة في القرآن عدا البسملة ، واكثرها بخصوص الذباحة والتذكية والمناسك ، وورد لفظ الأسماء الحسنى في القرآن أربع مرات وهي :
الأولى : الأعراف 180 [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
الثانية : الإسراء 110[قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً]( ).
الثالثة : طه 8[اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى]( ).
الرابعة : الحشر 24[هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ِ]( ).
وفيه دعوة للتدبر في الأسماء الحسنى التسعة والتسعين التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيان معانيها ودلالاتها ، ولم يرد لفظ (أسماء الله) في القرآن.
وعن ابن عباس في قوله (الم) و(المص) قال هو من أسماء الله.
والتفسير لغة الكشف والبيان وإظهار المعنى .
والتفسير الموضوعي للأسماء الحسنى علم مستحدث متعدد في موضوعه من وجوه :
الأول : إنه من علم الإحصاء ، قال تعالى [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( )، وعلم الإحصاء مصاحب للإنسان وهو من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض ، قال تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الثاني : إنه مقدمة لعلم التفسير والجمع بين الآيات.
الثالث : بيان الإعجاز الذاتي للقرآن في اتحاد الموضوع بين آياته.
الرابع : يرجع إلى هذا العلم وإحصاء الآيات العالم والمحقق والباحث، لتستقرأ منه الدروس.
الخامس : الكشف والبيان عن كنوز قرآنية تتجلى بالإحصاء خاصة مع التعدد في الآية لواحدة فقد تذكر في علم التوحيد والفرائض والمعاملات والأحكام والمندوبات والمحرمات بحسب تعدد موضوعاتها ، وهو من مصاديق كون كل آية قرآنية خزينة للعلوم .
السادس : يتلو كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، والتدبر في أسماء الله من هذا الصراط ، وهو مقدمة له.
السابع : الإنتفاع الأمثل من التفسير الموضوعي للأسماء الحسنى.
الثامن : فيه تأكيد وترغيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باحصاء الأسماء الحسنة دعوة للإنتفاع الأمثل منها ، والإستضاءة بمفاهيمها.
التاسع : لقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عظيم الثواب باحصاء الأسماء الحسنى ، وأن فيه الأجر العظيم.
لقد اشتق مشركو العرب العزى من العزيز ،واشتقوا اللات من الله، والجمع بين قوله تعالى [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ) وقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ) يفيد أن أسماء الله من آيات الله ، وهذا مبحث جديد .
وبين آيات الله وأسمائه عموم وخصوص مطلق فالآيات أعم ، وتحتمل أسماء الله بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : كل اسم من أسماء الله آية مستقلة .
الثاني : أسماء الله كلها آية واحدة .
الثالث : كل اسم لله عز وجل آيات متكثرة ومتجددة .
والصحيح هو الثالث .
ويتم ترتيب أسماء الله عز وجل من جهات :
الأولى : توالي ورودها في القرآن .
الثانية : الحديث النبوي (ان لله تسعة وتسعين اسماً مائة غير واحد ، من أحصاها دخل الجنة) ( ) وفي حديث آخر إضافة (أنه وتر يحب الوتر ) ( ) .
الثالثة : ترتيب آخر .
والمختار في الترتيب هو الثاني .
فمثلا اسم [ الملك] فيتعلق البحث فيه جهات :
الأولى : عدد مرات ورود هذا الاسم في القرآن .
الثانية : الأسماء الحسنى الأخرى التي جاءت مع هذا الاسم في ذات الآية الواحدة ، والتكرار فيها ، ودلالات هذا الجمع وموضوع السورة كما ورد مثلاً في سورة الجمعة [يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] ( ) .
الثالثة : صلة هذا الاسم بموضوع الآية والاسم أو الأسماء الأخرى التي وردت فيها .
الرابعة : موضوعية هذا الاسم في البشارة والإنذار .
الخامسة : منطوق ومفهوم اسم الملك ، ورد لفظ [الملك] بعنوان المالك ، والملك المنصرف بشؤون الخلائق ، وفي التنزيل [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ] ( ) .
السادسة : اسم الملك في السنة النبوية ، وعن الإمام الباقر عليه السلام السلام (تلا هذه الآية[وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ) فقال : حدثني جابر بن عبد الله قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فقال : إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي ، يقول أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا.
فقال له : اسمع سمعه أذنك ، واعقل عقل قلبك ، إنما مثلك ومثل أمتك، كمثل ملك اتخذ دارا ، ثم بنى فيها بيتا ، ثم جعل فيها مأدبة ، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامهم ، فمنهم من أجاب الرسول ، ومنهم من ترك ، فالله هو الملك ، والدار الإسلام ، والبيت الجنة ، وأنت يا محمد الرسول من أجابك دخل الإسلام ، ومن دخل الإسلام دخل الجنة ، ومن دخل الجنة أكل منها) ( ).
السابعة : ملك الله بالتصرف المطلق ، ولم يرد لفظ [هُوَ الْمَلِكُ] في القرآن إلا في آية الأسماء الحسنى من سورة الحشر ، إذ تكرر فيها الضمير (هم) فابتدأت بقوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ] ( ) لبيان موضوعية اسم الملك في الأسماء الحسنى ، وفيه دعوة للناس لعدم اللهث وراء الدنيا ، وأنها تعود في ملكها إلى الله طوعاً أو قهراً عليهم ، فان قيل إنما يجمع الإنسان لاولاده وعقبه ، الجواب هم أيضاً سوف يفارقونها .
الثامنة : اللامتناهي في ملك الله من الأكوان والكواكب والنجوم .
التاسعة : ملك الله عز وجل للزمان والمكان والأعيان ، فلا يستطيع أحد أن يملك النسيم والهواء إلا الله ، وقد أدرك الناس نعمة الهواء والشهيق والزفير أيام كورونا ، حتى الذي لم يصب بهذا الوباء فانه يخشى أن تسلب منه نعمة التنفس ،وقد يحترز بجهاز صغير للأوكسجين في البيت كما هو حالنا .
العاشرة : استدامة ملك الله عز وجل ، وإذا كان ملك الله باق ، ومنه الجنة والنار ودخول الكافرين ، وخلود المؤمنين في الجنة ، قال تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ *وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ] ( ).
[وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ).
من أسرار علم أسماء الله الحسنى التقاء المذاهب الإسلامية كلها بها، وهي عنوان الصلة مع أهل الكتاب وعموم الموحدين وإحصاؤها وتعلمها باعث للرحمة في النفوس ودعوة للسلم والأمن لجميع الشعوب ، وكأنها تخبر عن بقاء موضوع وحكم آيات السلم والموادعة لأن العبودية لله عز وجل سور الموجبة الكلية للناس جميعاً .
قانون ترشح العلوم عن الأسماء الحسنى
قال تعالى [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ).
كما تقدمت محاضرة مستقلة بعنوان النسبة بين أسماء الله الحسنى وبين صفاته ، فالوهاب من أسماء الله الحسنى ، والهبات من صفاته ومن الإعجاز أن هبات وعطايا الله على أي انسان اللامتناهي.
[رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ]( )، وهل الدعاء لكشف ودفع كورونا عن المسلمين والناس جميعاً من هذه الرحمة أم أن القدر المتيقن هو الرحمة المبتدأة .
الجواب هو الأول فصرف الوباء ومحو البلاء من الرحمة التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
وهناك تحقيقات وبحوث تتعلق باحصاء أسماء الله ، ومعانيها على نحو الإختصار وهي مباحث لطيفة ، وأما موضوعنا المستحدث هنا فهو التفسير الموضوعي لأسماء الله الحسنى , وهو على أقسام :
الأول : التفسير الموضوعي ، بلحاظ أن هذا العلم يختص بموضوع معين.
الثاني : التفسير بالمأثور لجمع الأحاديث الخاصة بالأسماء الحسنى ، واستنباط المسائل منها.
الثالث : علم التوحيد ، وقد يسمى : توحيد الأسماء والصفات ، ويما يليق بجلال وجه الله وعظمته ، وما نفاه عن نفسه من معاني النقص والعيوب وما ورد بهذا الخصوص في السنة النبوية .
وعن انس قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أحب هذه السورة [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( )، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حبك إياها أدخلك الجنة.
وأخرج ابن الضريس وأبو يعلى وابن الأنباري في المصاحف عن أنس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أما يستطيع أحدكم أن يقرأ {قل هو الله أحد} ثلاث مرات في ليلة ، فإنها تعدل ثلث القرآن( ).
الرابع : طلب علوم أسماء وصفات الله تفقه في المعرفة ، ووسيلة تضرع في الدعاء والمسألة , وعن عائشة قالت : فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ات ليلة ، فجعلت أطلبه بيدي فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد يقول : أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من غضبك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك( ).
وعن ابن عباس قال : لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل نحو اليمن فقال انك تقدم على قوم من اهل الكتاب فليكن اول ما تدعوهم ان يوحدوا الله عزوجل فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم ان الله عزوجل قد افترض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا صلوا فأخبرهم ان الله عزوجل قد افترض عليهم زكاة في اموالهم (تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم فإذا اقروا بذلك فخذ منهم وتوق كرائم اموالهم)( ).
وفي هذا البحث نطرح علماً مستحدثاً وهو التفسير الموضوعي للأسماء الحسنى من جهات :
الأولى : آيات القرآن : وذكر أسماء الله وصفاته فيها .
الثانية : تجلى الشواهد لأسماء الله في السنة النبوية والقولية.
الثالثة : انتفاع الناس من أيام أبينا آدم من الأسماء الحسنى.
الرابعة : إتخاذ المسلمين الأسماء الحسنى سلاحاً وواقية وحرزاً.
الخامسة : الأجر والثواب واقتناء الحسنات بتعلم ودراسة أسماء وصفات الله.
قانون الملازمة بين كفار قريش والإرهاب
الإرهاب في المصطلح في هذا الزمان هو استعمال العنف والتهديد عن تخطيط وترتيب لأغراض سياسية أو إجتماعية ونحوها من قبل جهات فاعلة لكنها غير حكومية ،كما يعرف بتعريفات أخرى قريبة منه.
ومن تعاريف الإرهاب أنه تخويف الناس بمساعدة أعمال العنف وأنه على خلاف الأخلاق الإجتماعية وفيه اغتصاب لكرامة الإنسان.
ويمكن تقسيم إرهاب المشركين الى تقسيمات :
الأول : الإرهاب المكاني وهو على شعبتين :
الأولى : الإرهاب المكي ، عندما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وقبل هجرته إلى المدينة ، فان قلت إن إرهابهم استمر في مكة بعد الهجرة الجواب يحتسب من الشعبة الثانية أدناه ، كما في تقسيم سور القرآن إلى مكية ومدنية.
الثانية : الإرهاب المدني .
الثاني : وهو على شعبتين :
الأولى : الإرهاب اللفظي : الإرهاب بحسب السنخية وهو على شعبتين ، أي بالشتم والسخرية والغمز ، والتهديد والتخويف والوعيد ، وقصائد الهجاء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصابه ، وهو من الإرهاب الذي يقابله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر والمصابرة ، لأن آيات السلم محكمة , وتدعوه والمسلمين إلى هذا الصبر والتحمل .
ومن الإعجاز في آيات السلم أنها دعوة للناس جميعاً للإيمان ، وهي كاشفة عن ماهية النبوة بأنها تتقوم بالصبر على أذى وإرهاب الذين كفروا.
الثانية : الإرهاب الفعلي .
الثالث : الإرهاب من جهة الخصوص والعموم : وهو على شعب :
الأولى : إرهاب قريش الخاص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ]( )، وقال تعالى [وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ]( ).
لبيان التضاد في كلام الكفار ، فهم يقرون ويعترفون بأن القرآن منزل من عند الله ، ولكنهم يرمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجنون ، وفي التنزيل [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( ).
وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ما أوذي نبي مثل ما أوذيت( )، ومنه الأشعار التي تقال بالقدح بنبوته والضحك والغمز واللمز عليه السلام في البيت الحرام وخارجه.
الثانية : إرهاب قريش للمسلمين ، وهو على وجهين :
أولا : إرهاب قريش للرجال المسلمين .
ثانيا : إرهاب قريش للمسلمات ، وقد قتلت سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر تحت التعذيب ، قتلها أبو جهل .
الثالثة : الإرهاب الجامع للرجال والنساء كما في حصار قريش لبني هاشم في شعب أبي طالب.
الرابع : الإرهاب بلحاظ جهة الصدور : وهو على شعبتين :
الأولى : الإرهاب الصادر من رجال قريش.
الثانية : الإرهاب الصادر من نساء قريش كما في حديث قتل حمزة بن عبد المطلب.
وقد صدرت لي والحمد لله خمسة أجزاء من هذا التفسير خاصة بقانون: التضاد بين القرآن والإرهاب ، وكان آخرها هو الجزء الثاني بعد المائتين وستصدر أجزاء أخرى بخصوصه إن شاء الله، وفي علم الأصول قاعدة (لا ضرر ولا ضرار ) وهي مستقرأة من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا يجلب الإنسان الضرر لنفسه ولا يضره غيره ، والإرهاب ضرر للذات وإضرار بالغير .
أما هذا القانون فهو ضدَُ ومباين للقانون أعلاه ، إذ نبين فيه بالوقائع أن إرهاب قريش من رشحات الكفر ، وجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقضاء على الإرهاب باسئتصال أصله ، لأن الكفر قبيح ذاتاً وأثراً ، ويأتي ضرره على صاحبه وغيره من الناس ، ولا يختص هذا الضرر بالدنيا إنما يشمل الدنيا والآخرة ، وفي التنزيل [إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ]( ) قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
لقد صار الإرهاب في هذا الزمان مصطلحاً عالمياً يدخل موضوعه كل بيت في الأرض بين الفينة والأخرى ، وهو ليس بجديد فقد ابتدأ من حين قتل قابيل ابن آدم لأخيه هابيل ، [قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ] ( ).
ويزداد الإرهاب مع ضعف الإيمان ، ومع الغشاوة على الأبصار والبصائر ، فلابد من البيان والإرتقاء بالثقافة العامة بالبرهان واللطف ، وتأكيد القبح الذاتي للإرهاب وأنه ضرر محض ولا يحقق أي غاية حميدة ، والإرهاب نتاج فكر ومعالجته بالحوار والإنصات والإصلاح ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
وفي شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم سرية استطلاع وعليهم عاصم بن ثابت ، وعددهم عشرة.
ولكن قوماً من بني لحيان وعددهم نحو مائة أحاطوا بهم وأعطوهم الأمان ثم قتلوهم بالنبل وبقي ثلاثة منهم فاعطوهم العهد والميثاق ، فسلموا أنفسهم لهم خاصة وأنهم لم يأتوا لقتال أو غزو وهم :
الأول : خُبيب بن عدي .
الثاني : زيد بن الدثنة.
الثالث : عبد الله بن طارق .
وذهبوا بهم الى مكة لبيعهم ، فأراد عبد الله بن طارق الدفاع عن نفسه في الطريق لنقضهم العهد والميثاق فقتلوه رمياً بالحجارة إذ إنه فك يده من القيد ، وانتزع سيفاً ، فاستأخر عنه القوم ، وأخذوا يرمونه بالحجارة حتى قتلوه ، أي أنهم خافوا من ملاقاته بالمبارزة.
وقدموا بخبيب وزيد بن الدثنة مكة واشتراهما رجال قريش ليقتلوهما ثأراً لمن قتل منهم في معركة بدر وأحد ، وقال ابن كثير : فباعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة( ).
لقد علمت قريش أن ثمانية من المسلمين قد قتلوا في هذه الواقعة ، واستشهد سبعون من الصحابة في معركة أحد ، وأن خبيباً وزيداً قد سلَما نفسيهما لبني لحيان بعد عهود ومواثيق.
فالأصل أن لا تقبل قريش شراءهما لصبغة الغدر التي أخذا فيها ، أو انهم يقومون بابتياعهما وفك أسرهما خاصة وأن قريشاً أولياء البيت الحرام يومئذ ، وبعثهما إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام بحبس أسرى قريش في معركة بدر لاضطرت قريش لإستبدالهم بهؤلاء الأسرى ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قد سارع بفك الأسرى من المشركين ومنهم من أطلقه من غير بدل.
واشترى صفوان بن أمية زيد بن الدثنة ليقتله بأبيه أمية بن خلف الذي مرّ على قتله في معركة بدر أكثر من سنتين ، مع أن صفوان قتل بعض الصحابة في معركة أحد ، وقال يومئذ : الآن شفيت نفسي حين قتلت الاماثل من أصحاب محمد قتلت ابن قوقل وابن أبي زهير وأوس بن أرقم( ).
وكان خارجة بن زيد يوم أحد قد أخذته الرماح (فجرح بضعة عشر جرحاً، فمر به صفوان ابن أمية فعرفه فقال: هذا من أكابر أصحاب محمد وبه رمقٌ! فأجهز عليه. وقتل أوس بن أرقم.
وقال صفوان بن أمية: من رآى خبيب بن يساف؟ وهو يطلبه ولا يقدر عليه( ).
فالأصل أن يكتفي بمن قتل من الشهداء ، ولكن إرهاب قريش مستمر في الحل والحرم , وفي حال الحرب والسلم.
وبعد أن خرجت الأشهر الحرم وأجمعوا على قتل خبيب وزيد بن الدثنة بعثه صفوان مع مولى له يقال له نسطاس إلى التنعيم ليقتله خارج الحرم .
وشهد قتله جماعة من رؤساء قريش ومعهم النساء والصبيان ، وعندما قُدم زيد ليُقتل ، قال له أبو سفيان بن حرب (أَنْشُدُكَ اللّهَ يَا زَيْدُ أَتُحِبّ أَنّ مُحَمّدًا عِنْدَنَا الْآنَ فِي مَكَانِك نَضْرِبُ عُنُقَهُ وَأَنّك فِي أَهْلِك ؟
قَالَ وَاَللّهِ مَا أُحِبّ أَنّ مُحَمّدًا الْآنَ فِي مَكَانِهِ الّذِي هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ وَأَنَا جَالِسٌ فِي أَهْلِي . قَالَ يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ مَا رَأَيْت مِنْ النّاسِ أَحَدًا يُحِبّ أَحَدًا كَحُبّ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ مُحَمّدًا ؛ ثُمّ قَتَلَهُ نِسْطَاسُ يَرْحَمُهُ اللّهُ)( ).
ولم تلتفت قريش إلى هذا الإعجاز الغيري للقرآن والسنة النبوية ، إنما تلقوا قوله هذا (بالضحك منه)( ).
وذكر أن الخطاب والسؤال توجه إلى خبيب بن عدي (ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً)( ) ولا مانع من تكرار ذات الكلام عليهما.
وقد تقدم ذكر بعض الأخبار عن استشهاد خبيب (وقال ابن عقبة : واشترك في ابتياع خبيب، زعموا أنهم اهاب بن عزيز، وعكرمة بن أبي جهل، والاخنس بن شريق ، وعبيدة بن حكيم بن الاوقص، وأمية بن أبي عتبة، وصفوان بن أمية وبنو الحضرمي، وهم ابناء من قتل من المشركين يوم بدر).
وقال ابن اسحاق (فابتاع خبيبا حجير بن أبي أهاب التميمي حليف بني نوفل، وكان اخا الحارث بن عامر لامه) ( ).
وقال ابن هشام: كان ابن أخته لا ابن أخيه عقبة بن الحارث بن عامر ليقتله بأبيه الحارث)( ).
وذكر أن خبيب بن عدي قتل الحارث يوم بدر وسألهم خبيب حين أرادوا قتله أن يصلي ركعتين فأذنوا له ، وعرضوا عليه وهو على خشبة القتل وأوثقوه رباطاً أن يرتد عن الإسلام فأبى عليهم إذ (قالوا له :ارجع عن الاسلام نخل سبيلك).
قال (لا والله ما أحب أني رجعت عن الاسلام وان لي ما في الأرض جميعا) ( ).
قالوا (أفتحب ان محمدا في مكانك وانت جالس في بيتك ، قال: (لا والله ما أحب ان يشاك محمد شوكة وانا جالس في بيتي).
فجعلوا يقولون: (ارجع يا خبيب) ( ).
فقال (لا أرجع أبدا).
قالوا (أما واللات والعزى) لئن لم تفعل لنقتلنك.
فقال (ان قتلي في الله لقليل).
ثم قال (اللهم اني لا أرى الا وجه عدو الله، انه ليس هنا أحد يبلغ رسولك عني السلام، فبلغه أنت عني السلام) وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رد عليهما السلام في ذات الساعة التي قتلا فيها .
فلما رفع على الخشبة استقبل الدعاء) ( ).
لقد كان دعاء خبيب موعظة ودعوة للإسلام وشاهداً على الثبات على الإيمان ، وقد أصابت الخشية من دعائه رجال قريش فبعد أن صلى الركعتين قال : أما والله لولا أن تروا أني جزعت من الموت لاستكثرت من الصلاة. ثم قال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً( )، ولا تغادر منهم أحداً.
فقال معاوية بن أبي سفيان: لقد حضرت دعوته ولقد رأيتني وإن أبا سفيان ليضجعني إلى الأرض فرقاً من دعوة خبيب، ولقد جبذني( )، يومئذٍ أبو سفيان جبذة، فسقطت على عجب ذنبي فلم أزل أشتكي السقطة زماناً.
وقال حويطب بن عبد العزي: لقد رأيتني أدخلت إصبعي في أذني وعدوت هرباً فرقاً أن أسمع دعاءه.
وقال حكيم بن حزام: لقد رأيتني أتوارى بالشجر فرقاً من دعوة خبيب.
فحدثني عبد الله بن يزيد قال: حدثني سعيد بن عمرو قال: سمعت جبير بن مطعم يقول: لقد رأيتني يومئذ أتستر بالرجال فرقاً من أن أشرف لدعوته.
وقال الحارث بن برصاء: والله ما ظننت أن تغادر دعوى خبيب منهم أحداً( ).
لبيان أن الإرهاب سجية يتباهى بها كفار قريش ، وأن محاربتهم وسيلة لإستئصال الإرهاب مما يلزم تنزه المسلمين عنه إلى يوم القيامة ، ولم يكن الرجال من الكفار وحدهم يمتازون بالإرهاب إنما كانت نساؤهم تتصف بالإرهاب أيضاً ، كما في تحريض هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان لوحشي على قتل النبي أو حمزة أو الإمام علي عليه السلام في معركة أحد ، إذ قام بقتل حمزة ـ فأخذت قطعة من كبده لتلوكها ، ومثّلت به .
دعا جبير بن مطعم وحشياً ، وكان يقذف بحربة قذف الحبشي فلا يخطئ بها.
وقال وحشي فيما بعد في وصفه لقتله لحمزة كيف أن حمزة كانت مقبلاً يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحدى ويبارز الأبطال وقد كمن له وحشي ، قال : فهززت حربتي حتى رضيت منها، فأضرب بها في خاصرته حتى خرجت من مثانته. وكر عليه طائفة من أصحابه فأسمعهم يقولون: أبا عمارة ، فلا يجيب ، فقلت: قد والله مات الرجل ، وذكرت هنداً وما لقيت على أبيها وعمها وأخيها، وانكشف عنه أصحابه حين أيقنوا موته ولا يروني ، فأكر عليه فشققت بطنه فأخرجت كبده، فجئت بها إلى هند بنت عتبة ، فقلت: ماذا لي إن قتلت قاتل أبيك؟. قالت: سلبي ، فقلت: هذه كبد حمزة. فمضغتها ثم لفظتها، فلا أدري لم تسغها أو قذرتها. فنزعت ثيابها وحليها فأعطتنيه، ثم قالت: إذا جئت مكة فلك عشرة دنانير ، ثم قالت: أرني مصرعه! فأريتها مصرعه، فقطعت مذاكيره، وجدعت أنفه، وقطعت أذنيه، ثم جعلت مسكتين ومعضدين وخدمتين حتى قدمت بذلك مكة، وقدمت بكبده معها ( ).
وكأنها تريد أن تشمت ببني هاشم رجالاً ونساءً وتنشر الإرهاب والتخويف بينهم ، ومع هذا لم ينتقم النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها ولا من وحشي ، إنما قبل إسلامهما عندما اسلما ، وهذا القبول من مصاديق قوله تعالى [خذ العفو] ( ).
وحتى بخصوص سرية عاصم بن ثابت فان هذيلاً أرادوا أن يأخذوا رأسه إلى مكة مع الأسيرين خبيب وزيد بن الدثنة ليبيعوا الرأس على سلافة بنت سعد التي قُتل ولداها في معركة أحد وهما :
الأول : مسافع بن طلحة بن أبي طلحة العبدي الذي حينما رفع لواء قريش رماه عاصم بن ثابت فحمل إلى أمه سلافة بنت سعد وهي أنصارية أوسية متزوجة في قريش ، وكانت مع نساء قريش اللائي حضرن المعركة ، فقالت : من أصابك قال لا أدري (سَمِعْته يَقُولُ خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ كِسْرَةَ قَالَتْ سُلَافَةُ إحْدَى وَاَللّهِ كِسْرَى تَقُولُ إنّهُ رَجُلٌ مِنّا. فَيَوْمَئِذٍ نَذَرَتْ أَنْ تَشْرَبَ فِي قِحْفِ رَأْسِ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ الْخَمْرَ وَجَعَلَتْ تَقُولُ لِمَنْ جَاءَ بِهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ) ( ).
وفي رواية أن الذي قتله هو الإمام علي عليه السلام ثم حمل اللواء أخوه كلاب بن طلحة فقتله الزبير ، فحمله أخوه جلاس فقتله طلحة ، ثم حمله أرطأة فقتله الإمام علي عليه السلام .
الثاني : جلاّس بن طلحة العبدي.
ونذرت يومئذ لئن تمكنت من عاصم لتجعل من قحفة رأسه إناءً تشرب به الخمر
قال ابن هشام : فَلَمّا قُتِلَ عَاصِمٌ أَرَادَتْ هُذَيْلٌ أَخْذَ رَأْسِهِ لِيَبِيعُوهُ مِنْ سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شُهَيْدٍ وَكَانَتْ قَدْ نَذَرَتْ حِين أَصَابَ ابْنَيْهَا يَوْمَ أُحُدٍ : لَئِنْ قَدَرَتْ عَلَى رَأْسِ عَاصِمٍ لَتَشْرَبَن فِي قِحْفِهِ الْخَمْرَ فَمَنَعَتْهُ الدّبْرُ فَلَمّا حَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ (الدّبْرُ) قَالُوا : دَعُوهُ يُمْسِي فَتَذْهَبُ عَنْهُ فَنَأْخُذُهُ . فَبَعَثَ اللّهُ الْوَادِيَ فَاحْتَمَلَ عَاصِمًا ، فَذَهَبَ بِهِ وَقَدْ كَانَ عَاصِمٌ قَدْ أَعْطَى اللّهَ عَهْدًا أَنْ لَا يَمَسّهُ مُشْرِكٌ وَلَا يَمَسّ مُشْرِكًا أَبَدًا ، تَنَجّسًا ؛ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يَقُولُ حِينَ بَلَغَهُ أَنّ الدّبْرَ مَنَعَتْهُ يَحْفَظُ اللّهُ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ ، كَانَ عَاصِمٌ نَذَرَ أَنْ لَا يَمَسّهُ مُشْرِكٌ وَلَا يَمَسّ مُشْرِكًا أَبَدًا فِي حَيَاتِهِ فَمَنَعَهُ اللّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَمَا امْتَنَعَ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ( ).
ويمكن تقسيم إرهاب قريش عدة تقسيمات منها :
الأول:إرهاب قريش في مكة قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إرهاب قريش بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة في شهر ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة ويصادف شهر ايلول من السنة 622 للميلاد.
كما يمكن تقسيمه تقسيماً آخر :
الأول : إرهاب قريش القولي وتهديدهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وسخريتهم واستهزاءهم بالتنزيل ، وافتراؤهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ]( )، ومنهم (الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن زهرة، وهو ابن خال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال البلاذري: كان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه: قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى وقيصر.
ويقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أما كُلمت اليوم من السماء يا محمد ، وما أشبه هذا القول.
فخرج من عند أهله فأصابته السموم فاسود وجهه حتى صار حبشيا، فأتى أهله فلم يعرفوه وأغلقوا دونه الباب، فرجع متلددا حتى مات عطشا.
ويقال إن جبريل صلى الله عليه وآله وسلم أومأ إلى رأسه فضربته الأكلة فامتخض رأسه قيحا ويقال أومأ إلى بطنه فسقى بطنه ومات حبنا.
ويقال إنه عطش فشرب الماء حتى انشق بطنه)( ).
وحينما انهزم المشركون من معركة بدر لم يلحق بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما تركهم يفرون إلى مكة ، وفيه مسائل :
الأولى : هل كان بمقدور المسلمين يومئذ مغادرة جيش الذين كفروا أم أن عدد جيش المشركين أكثر من عدد المسلمين ، وفيه ضرر على المسلمين خاصة وقد قُتل منهم سبعون وأسر سبعون وأكثر الذين قتلوا من قادتهم وأبطالهم منهم عتبة وشيبة ولدا ربيعة ، والوليد بن ربيعة ، وأبو جهل ، وأمية بن خلف وغيرهم.
الثانية : هل يستطيع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أن يلاحقوا المشركين قتلا وتأسيراً إلى أن يدخلوا مكة فاتحين ، خاصة وأن النصر يومئذ من عند الله عز وجل ، أم أن عدد المشركين كان أكثر من عدد المسلمين ولو طاردوهم لاجتمع جيش المشركين وتناجوا للدفاع ، وأن أصحابهم المشركين في مكة يدافعون عنها ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخشى تجمع جيش المشركين عند هجومه عليهم بل بالعكس فان تركهم يفرون قد يكون سبباً لتجمعهم وعودتهم إلى ميدان معركة بدر ، كما حصل في رجوعهم من معركة أحد فأنهم أرادوا الرجوع إلى ميدان المعركة إذ وقع التلاوم بينهم .
الثالثة : لماذا اكتفى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر في ميدان المعركة.
أما بالنسبة للمسألة الأولى والثانية فبمقدور النبي وأصحابه مطاردة وملاحقة المشركين خاصة أنهم لم ينسحبوا انسحاباً منظماً وما يسمى في المصطلح العسكري الإنسحاب التكتيكي والإجراء الدفاعي التراجعي ، والذي يعني تراجع القوات مع إبقاء المواجهة مع العدو لغايات متعددة منها استدراج العدو , وإعادة تنظيم الجيش , والتجمع ومنع تشتت الأفراد.
إنما كان فراراً ، وهذا الفرار من مصاديق نصر الله عز وجل للمسلمين [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) أي نصراً تاماً ومنه فرار المشركين من ذات معركة بدر ، إنما فروا فراراً وهو أمر يسهل معه قتلهم وأسرهم.
وأما بالنسبة للمسألة الثالثة فيحتمل اكتفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر في معركة بدر وجوهاً :
الأول : الوحي من عند الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الإكتفاء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثاني : الإجتهاد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : مشاورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في مطاردة جيش المشركين أو عدمها ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]( ).
الرابع : نزول قرآن بهذا الإكتفاء .
والمختار هو الأول والرابع ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] والباء في (ببدر) مرادفة للحرف (في) الذي يفيد الظرفية( ).
ومن دلالاته حصر النصر في ماء بدر وعدم مطاردة المشركين ، فان قلت إنما نزلت الآية أعلاه بعد معركة بدر ، ووجودها في نظم القرآن بين آيات معركة أحد شاهد على أنها نوع مواساة للمسلمين على خسارتهم الجسيمة في معركة أحد.
والجواب هذا صحيح ولكن نسبة النصر لله عز وجل في المعركة وعمومات قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، شاهد على أن المنع من مطاردة المشركين من عند الله عز وجل.