معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 208

المقدمة
الحمد لله الذي يحُب أن يُحمد ، ويقرب الناس إلى حمده وشكره والثناء عليه بتوالي النعم ، وحضور البراهين التي تدل على عظيم قدرته وبديع صنعه ، وفي التنزيل [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ).
الحمد لله الذي جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ليعمرها وينشئ الدور والأبنية والتي صارت في هذا الزمان ما يسمى بناطحات السحاب ، وكل واحدة منها لابد وأن ترتكز على أسس سليمة قادرة على حملها ومع هذا قد تتهاوى خصوصاً عند الزلازل والهزات الأرضية بينما يرى الإنسان أن السموات مرفوعة بغير عمد سواء في المشرق والمغرب، وفي التنزيل [اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا] ( ).
ولو خشي الناس وقوع السماء على الأرض بسبب تصاعد الأبخرة وثاني أوكسيد الكاربون وغيره مما يترشح عن الصناعات الحديثة ، وإستغلال الإنسان للطبيعة على نحو فاحش فانهم يعجزون عن نصب أعمدة لمنع هذا السقوط .
ولو بلغ عدد هذه الأعمدة آلاف المليارات ، ولانعدمت الحياة على الأرض لأنهم يحتاجون عموداً لكل خمسة أمتار ، وأن يكون قطره خمسة أمتار أيضاً ، فيتعطل السفر قهراً ، وتفتر الأعمال ، ولن تستطيع أي أعمدة منع سقوط السماء إذا أراد الله لها السقوط ، إنما يرفعها الله بالكاف والنون ، وفي التنزيل [وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ]( )، وقيد إلا باذنه لبيان أن إرتفاع وعلو واستدامة السماوات بمشيئة من عند الله عز وجل وعلى الناس أن يسألوا الله استدامة هذه النعمة ، وأن لا يأمنوا مكر الله عز وجل.
وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن العبد إذا دخل بيته ، وأوى إلى فراشه ، ابتدره ملكه وشيطانه . يقول شيطانه : اختم بشر . ويقول الملك : اختم بخير . فإن ذكر الله وحده طرد الملك الشيطان ، وظل يكلؤه ، وإن هو انتبه من منامه ، ابتدره ملكه وشيطانه . يقول له الشيطان : افتح بشر . ويقول الملك : افتح بخير . فإن هو قال الحمد لله الذي رد إليَّ نفسي بعد موتها ، ولم يمتها في منامها . الحمد لله الذي { يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفوراً} ( ).
وقال الحمد لله الذي {يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم}( )، قال : فإن خرج من فراشه فمات كان شهيداً ، وإن قام يصلي صلّى( ).
فالحمد لله الذي جعل الأرض صالحة للعيش والكسب ، وتحقيق الرغائب والغبطة الخاصة ، والسعادة العامة ، وفي التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
الحمد لله الذي خلق الإنسان بأحسن هيئة ، وأثنى الله عز وجل على نفسه بخصوص هذا الخلق ، فقال سبحانه [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( ) لبيان الدقة في وظائف أعضاء البدن ، والتناسق بين عمل الجوارح ليشكر العباد الله عز وجل على بديع الصنع.
وقد أكرم الله الإنسان فجعل رأسه في أعلى البدن ، ولا يلامس الأرض كما في باقي الحيوانات إلا في حالة واحدة وهي هيئة السجود والتطامن ، ليكون هذا السجود عنوان الشكر على بديع خلق الإنسان ، وشاهداً على عدم الغرور أو الزهو بالخلق .
ولما أخبر الله سبحانه الملائكة بتفضله بجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) احتجوا بالقول [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) فرد عليهم الله سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فمن علم الله عز وجل أن الإنسان يسجد لله عز وجل خضوعاً وخشوعاً وطاعة له سبحانه .
وتفضل الله عز وجل وجعل في الرأس الحواس الخمس ، لشرف الرأس بالنسبة لأعضاء البدن ، وليتعاهدها الإنسان ، وينتفع منها الإنتفاع الأمثل .
وجعل الله سبحانه البصر في أعلى الرأس ومقدمة الوجه والجمجمة ، ليكون سبيل هداية ورشد ، ومانعاً من الضرر والهلكة ، وإذا أعطى الله سبحانه فانه يعطي بالأتم والأوفى ، إذ منح الله لكل إنسان عينين ، لبعث السكينة في نفسه لمصاحبة حاسة البصر له , وكل عين آية في الخلق , ويتحدث أطباء الأبدان في هذا الزمان عن بديع خلقها وكثرة الغدد والأعصاب فيها بما يصيب الإنسان بالذهول على نعمة البصر .
وجعل الله الجفون واقية رقيقة للعينين.
ومن خصائص نعمة البصر أنها مناسبة للشكر لله على هذه النعمة ، وهي وسيلة لمعرفة آيات الله عز وجل بالأحجام والهيئات والألوان البديعة، لذا دعا الله عز وجل الناس للضرب في الأرض للكسب والسعي والتدبر في ماهية الخلق .
ويكون ضرب وسير المؤمن دعوة إلى الله، قال تعالى [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
الحمد لله على نعمة السمع وهيئة الأذنين ونعمة الأنف وشكله وكونه منفذاً للتنفس ، ولا يقدر الإنسان على تعداد منافع نعمة الفم واللسان.
ليكون من وجوه تقدير قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، بخصوص الحواس أمور :
الأول : وإن تعدوا نعمة الله في نعمة العين لا تحصوها.
الثاني : وان تعدوا نعمة الله في حاسة السمع وآلته لا تحصوها.
الثالث : وإن تعدوا نعمة الله في الأنف ووظائفه لا تحصوها.
الرابع : وإن تعدوا نعمة الله في الفم والأسنان لا تحصوها.
إذ جعله الله عز وجل محلاً للنطق ، وباباً لتغذية البدن بالزاد والماء ، وفيه حاسة الذوق .
وقد تجتمع هذه الوظائف للفم في آن واحد ، فيقدر الإنسان أن يأكل وهو يتكلم ، وليكون مناسبة لشكر لله على النعمة .
الحمد لله على نعمة النبوة والتنزيل ، إذ تبين كل منهما النعم الإلهية على الإنسان ، ووجوب عبادة الله ، مع قصد القربة .
ومن خصائص الأنبياء والتنزيل تهيئة مقدمات هذه العبادة ، وإزاحة الموانع والحواجز الشخصية والنوعية التي تحول دونها .
ولقد كان كفار قريش عقبة كأداء في طريق هداية الناس ، مع تجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس ، وكانوا على أقسام:
الأول : الذين بادروا إلى دخول الإسلام ، إذ قذف الله عز وجل الإيمان في قلوبهم .
الثاني : الذين أدركوا صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنهم ترددوا في دخول الإسلام لغلبة العادة واستصحاب مفاهيم الضلالة .
الثالث : الذين امتنعوا عن دخول الإسلام خوفاً من رؤساء الكفر وبطشهم .
الرابع : أئمة الكفر ورواد الضلالة الذين أصروا على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
فتحلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر ، ليترى نزول آيات القرآن ، ويزداد عدد المسلمين كل يوم ، وتنزل آيات السلم والموادعة والعفو والصفح العامة ، ومنه قوله تعالى [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا]( ).
وصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجهر بالإستغفار ، وفيه تقريب للناس من منازل الإيمان والتسليم باليوم الآخر ، وهذا التقريب وسيلة مباركة لكبح النفس الشهوية ، وزاجر عن أكل المال بالباطل ، قال تعالى [وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ] ( ).
الحمد لله الذي جعل لكل إنسان أمداً محدوداً ، وأيام عمر أحصاها الله عز وجل بالدقائق والثواني ، حيث يغادر الدنيا ، وقد يمدّ الله عز وجل في عمر إنسان بفضل منه تعالى ، وعمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، وخصوص قوله تعالى [أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ]( )، لتكون هذه الآية باعثاً للإنسان على الدعاء في زيادة عمره ومضاعفة رزقه ، وصرف البلاء عنه ، والله هو القائل [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الحمد لله الذي جعل حمده وشكره تجارة رابحة ، ومقدمة لتوالي الخيرات ، وبركة مستديمة ، لذا تفضل سبحانه وجعل كل مسلم ومسلمة يقرآن [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، سبع عشرة مرة في اليوم ، وحيث جعل الله عز وجل هذه القراءة واجبة وجوباً عينياً على كل فرد منهم ، فانه سبحانه خفّف عليهم هذه القراءة ، وجعل النفوس تشتاق إليها .
لبيان أن الحمد سكينة للنفس ، وحرب على الكآبة ، وهي عنوان الأخوة الإيمانية ، والرأفة بالناس جميعاً ، ومن الشواهد على إنشغال المسلمين بالشكر لله عز وجل وإقامة الصلاة التي هي من أبهى مصاديق الشكر والحمد لله عز وجل .
وعن (سالم بن أبي الجعد حدثني عبد الله بن محمد بن الحنفية قال : انطلقت مع أبي إلى صهر لنا من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أرحنا بها يا بلال الصلاة ، قال قلت : أسمعت ذا من رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم.
فغضب وأقبل على القوم يحدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بعث رجلا إلى حي من العرب فلما أتاهم قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرني أن أحكم في نسائكم بما شئت ) .
فقالوا : سمعا وطاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعثوا رجلا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : إن فلانا جاءنا فقال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرني أن أحكم في نسائكم بما شئت فإن كان أمرك فسمعا وطاعة وإن كان غير ذلك فأحببنا أن نعلمك.
فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعث رجلا من الأنصار وقال : ( إذهب إلى فلان فاقتله وأحرقه بالنار ) فانتهى إليه وقد مات وقبر فأمربه فنبش ثم أحرقه بالنار ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، ثم أقبل علي فقال : تراني كذبت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذا)( ).
الحمد لله الذي جعل النعم تدوم وتتضاعف بحمد العباد له والثناء عليه، وهو الغني عنهم وعن حمدهم ، الحمد لله اللطيف الذي يقرَب العباد الى حمده ويلقنهم إياه لأمور :
الأول : مضاعفة الرزق ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
الثاني : صرف البلاء .
الثالث : الأجر والثواب.
الحمد لله الذي ينعم على كل عبد من عباده لينتفع من هذه النعمة القريب والبعيد فمن خصائص النعمة الإلهية أنها لا تختص بالذي تأتيه من جهة الإنتفاع فتصيب الموجود والمعدوم.
الحمد لله آناء الليل وأطراف النهار عني وعن والدي وأولادي ومن أوصاني بالدعاء اللهم لك الحمد في السراء والضراء ، ونرجو فضلك في صرف الوباء عن المسلمين والناس جميعاً ، فلا يحب الناس مجتمعين سواك، ومقاليد الأمور بيديك ، وأنت سبحانك تصرف البلاء وقد قُضي قضاء مبرماً.
اللهم انت وحدك الذي علا فقدر ، وملك فقهر ، وعُصي فغفر ، وعَلِم وستر ، ودُعي وأجاب ، وبعث الأنبياء ونصرهم ، قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
الحمد لله الذي أنزل القرآن في ثلاث وعشرين سنة على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة الملك جبرئيل ، قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ).
ومن وجوه الإنذار في المقام التخلف عن حمد وشكر الله تعالى ، وكل فرد من الحمد لله سبب وعلة للبشارة ، فنسأل الله عز وجل الهداية إلى الإكثار من الحمد لله في الليل والنهار ، وفي الشدة والرخاء.
الحمد لله بعدد ذرات الرمال والحصى ، وما يسبح لله عز وجل في الأرض والسماء , قال تعالى [يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( ).
الحمد لله الذي جعل أجزاء التفسير تصل بهذا الجزء إلى مائتين وثمانية أجزاء ولا زلت في تفسير سورة آل عمران وهي ثالث سورة في ترتيب القرآن بعد سورة الفاتحة وسورة البقرة من مجموع سور القرآن وعددها (114) سورة.
وسيأتي الجزء التالي إن شاء الله خاصاً بتفسير قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ) وهي الآية الخامسة والثمانون بعد المائة من سورة آل عمران وفق منهاج هذا التفسير بالإبتداء من سورة الفاتحة .
وقد اختص الجزء الواحد بعد المائتين بتفسير الآية الرابعة والثمانين بعد المائة من سورة آل عمران وهو قوله تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ] ( ).
مع تجلي قوانين مستحدثة لتصبح أصلاً ومنهاجاً تتفرع عنه عدة أجزاء بفضل ولطف من عند الله عز وجل ، ومن هذه القوانين :
الأول : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) وقد صدر بخصوصه واحد وعشرون جزء وهي :
الأول : الجزء الرابع والستون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والستون بعد المائة .
الثالث: الجزء السادس والستون بعد المائة .
الرابع : الجزء الثامن والستون بعد المائة .
الخامس : الجزء التاسع والستون بعد المائة .
السادس :الجزء السبعون بعد المائة .
السابع :الجزء الواحد والسبعون بعد المائة .
الثامن :الجزء الثاني والسبعون بعد المائة .
التاسع :الجزء الرابع والسبعون بعد المائة .
العاشر :الجزء السادس والسبعون بعد المائة .
الحادي عشر :الجزء السابع والسبعون بعد المائة .
الثاني عشر :الجزء الثامن والسبعون بعد المائة .
الثالث عشر :الجزء الثمانون بعد المائة .
الرابع عشر :الجزء الواحد والثمانون بعد المائة .
الخامس عشر :الجزء الثاني والثمانون بعد المائة .
السادس عشر :الجزء الثالث والثمانون بعد المائة
السابع عشر :الجزء السابع والثمانون بعد المائة .
الثامن عشر : الجزء الثالث والتسعون بعد المائة .
التاسع عشر :الجزء الرابع والتسعون بعد المائة .
العشرون : الجزء السادس والتسعون بعد المائة.
الواحد والعشرون : الجزء الرابع بعد المائتين .
الثاني : قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) وهو عنوان بكر ، وقد أنعم الله علينا بصدور أجزاء خاصة به وهي :
الأول : الجزء الرابع والثمانون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والثمانون بعد المائة .
الثالث : الجزء الثامن والثمانون بعد المائة .
الرابع : الجزء الخامس والتسعون بعد المائة .
الخامس : الجزء الثامن والتسعون بعد المائة .
السادس : الجزء التاسع والتسعون بعد المائة .
السابع : الجزء الثالث بعد المائتين .
الثالث : قانون (آيات الدفاع سلام دائم) وقد صدر بخصوصه :
أولاً : الجزء الثاني والأربعين بعد المائة .
ثانياً : الجزء الخامس بعد المائتين.
الرابع : قانون (آيات السلمِ محكمة غير منسوخة) وقد صدر بخصوصه الأجزاء :
أولاً : الجزء السادس بعد المائتين .
ثانياً : الجزء السابع بعد المائتين .
ثالثاً : هذا الجزء وهو الثامن بعد المائتين .
ويتضمن الجزء السابق وهو الثامن بعد المائتين كلاً من :
الأول : قانون القرآن مدرسة الثناء على الله سبحانه.
الثاني : من الآيات التي قيل أنها منسوخة.
الثالث : أسباب نزول [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
الرابع : تحري القبلة .
الخامس : فيما يستقبل له.
السادس : كيفية الإستقبال.
السابع : أحكام الخلل في القبلة.
الثامن : قانون لحاظ عموم الآية في النسخ.
التاسع : قانون حمل الخبر في القرآن على الأمر لا يمنع من بقاء أصل الخبر .
العاشر : قانون التعاضد بين آيات الوجوب.
الحادي عشر : قانون خذ العفو لقوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] ( ).
وقيل [وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] المراد أبو جهل وأصحابه أي خذ من الناس اليسر من أخلاقهم ولا تبحث عنها ، وأموالهم ومعاشرتهم، ما سهل وتيسر مما لايشق عليهم لئلا ينفروا.
خذ العفو في الصدقات ، ولا تأخذ كرائم أموالهم.
خذ العفو عمن ظلمك ولا تعاقبه.
وأمر بالعرف تلطف عليهم في أوامرك ونواهيك لهم ، فانهم ضعفاء والجاهلون الذين لا يعرفون صفتك كرسول ، ولا كرامات الأنبياء.
وعن الإمام الصادق عليه السلام : أمر الله نبيه فيها بمكارم الإخلاق.
فهي ثابتة الحكم وليست منسوخة.
وعن الشعبي لما أنزل الله : لما أنزل الله {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}( ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هذا يا جبريل ، قال : لا أدري حتى أسأل العالم ، فذهب ثم رجع فقال : إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك( ).
الثاني عشر : قراءة في الآية السابقة.
الثالث عشر : بين الأصنام التي كسرها إبراهيم والتي نصبت في البيت الحرام .
الرابع عشر : هل تتضمن الآية الواحدة ناسخاً ومنسوخاً .
الخامس عشر : بحث أصولي : الفرق بين التخصيص والنسخ.
السادس عشر : قانون الإطلاق والتقييد في آيات الدفاع.
السابع عشر : من مفاهيم (لاتعتدوا).
الثامن عشر : قانون منافع إحصاء آيات الدفاع.
التاسع عشر : قانون عدم نسخ السنة للقرآن.
العشرون : كتاب سليمان الى بلقيس توطئة لبعثة النبي محمد (ص)، وفي التنزيل [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ).
الحادي والعشرون : هجرة أم كلثوم بنت عقبة إلى المدينة.
الثاني والعشرون : قانون تفرق الصحابة في الأمصار من إعجاز القرآن الغيري .
الثالث والعشرون : قانون الجامعة اليومية للقرآن.
الرابع والعشرون : قانون سفارة الصحابة.
الخامس والعشرون : أبو أيوب الأنصاري.
السادس والعشرون : التقسيم الموضوعي لآيات القرآن.
السابع والعشرون : قانون موضوعية الموضوع في آيات القرآن.
الثامن والعشرون : قاعدة تعدد صيغ الأمر في القرآن.
التاسع والعشرون : النسبة بين أسماء الله الحسنى وبين صفاته.
الثلاثون : الصفات الثلاث عشرة.
الحادي والثلاثون : قانون تكليم الله لحواء.
الثاني والثلاثون : قانون سعة وكثرة صفات الله.
الثالث والثلاثون : سورتا الحفد والخلع.
الرابع والثلاثون : (باب ترتيب القرآن في مصحف أبي بن كعب).
الخامس والثلاثون : أخبار عن نسخ ورفع آيات.
السادس والثلاثون : أصحاب الفترة.
السابع والثلاثون : قانون إكرام الإسلام للمرأة سلام.
الثامن والثلاثون : ترجمة ابن أم مكتوم .
التاسع والثلاثون : خبر الغرانيق العلى.
الأربعون : علم تفسير الأسماء الحسنى.
الحادي والأربعون : قسيم مبارك لاسم العلم والجنس.
الثاني والأربعون : قانون ترشح العلوم عن الأسماء الحسنى.
الثالث والأربعون : قانون الملازمة بين كفار قريش والإرهاب.
وقد تضمن الجزء السابع بعد المائتين قراءة مخصوصة في تسع آيات من الآيات التي قيل أنها منسوخة , والأصل عدم النسخ إلا مع الدليل .
ثم جاء الجزء السابق بذات المنهجية وتضمن التحقيق في خمس آيات في ذات الموضوع والمنهجية وهي :
الآية العاشرة : قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
الآية الحادية عشرة : قوله تعالى[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) ..
الآية الثانية عشرة : قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] ( ).
الآية الثالثة عشرة : قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ).
الآية الرابعة عشرة : قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ]( ).
أما هذا الجزء فيتضمن تحقيقاً وتأويلاً لآيتين من آيات القرآن مع الإستدلال على عدم نسخها وهما :
الأولى : قوله تعالى[ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ) وهي الخامسة عشرة وفق نظم هذا القانون في الأجزاء 206 , 207 , وهذا الجزء من تفسيري للقرآن والحمد لله .
الثانية : قوله تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
والآية أعلاه من آيات الدفاع المحض وأحكام الضرورة فتلحق بآيات السلم وتثبيت أحكامها وإحكامها .
الحمد الله الذي جعل الحياة الدنيا دار امتحان وإختبار وتفضل وبعث النبيين للإخبار عن حتمية عالم الحساب واستدامة الجزاء الأخروي ، ومن سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية التذكير المستمر باليوم الآخر ، وما فيه من الثواب والعقاب .
وإذا حضر جنازة أوعظ وأنذر ، و(عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أم العلاء -وهي امرأة من نسائهم-أخبرته -وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم-قالت: طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمانُ بن مظعون. فاشتكى عثمان عندنا فَمرَّضناه، حتى إذا توفي أدْرَجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، شهادتي عليك، لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “وما يدريك أن الله أكرمه.
فقلت : لا أدري بأبي أنت وأمي! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي.
قالت: فقلت: والله لا أزكي أحدا بعده أبدا. وأحزنني ذلك، فنمت فرأيت لعثمان عينا تجري، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ذاك عمله)( ).
الحمد لله الذي جعل القرآن نوراً ينفذ إلى القلوب فيستقر فيها ، ولا يغادرها ، وهذا الإستقرار من مصاديق قوله تعالى [ِ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]( )، ليكون من معانيه حافظوا على اقتباس النور من آيات القرآن ، وسخّروه والرأفة فيما بينكم وبين عامة الناس.
ويمكن القول بقانون أن كل آية من القرآن تتصف بالرحمة من جهات :
الأولى : قانون إفاضة الآية بالرحمة.
الثانية : قانون بعث الآية القرآنية الرقة والرأفة في القلوب.
الثالثة : قانون سيادة مفاهيم الرحمة بين الناس ، وما يترشح عنها من معاني المودة والعفو والمغفرة ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا]( )، أي فاعفوا وأصفحوا ببركة القرآن وضيائه ، ونوره الذي يشع على القلوب ببركة التلاوة اليومية للقرآن جهراً وإخفاتاً.
الرابعة : قانون حب الله لتالي القرآن.
الخامسة : قانون ترشح النعم على العبد إذا أحبه الله ، ومنها ميله لرحمة غيره ، ورجاء رحمة غيره له ، وترى الرزق يأتيه من حيث لا يحتسب ، ويصرف الله عنه البلاء والأذى بفضله ولطفه .
ومن خصائص وجوب قراءة كل مسلم ومسلمة القرآن كل يوم عدم ثبوت النسخ للآية القرآنية إلا بالدليل ، إذ أن المسلمين يتلون الآية القرآنية في الصلاة ، ويستحضرون مضامينها القدسية ودلالاتها في الوجود الذهني من غير التفات للنسخ ، ومنه آيات الرفق والصفح والعفو.
وعن الإمام الرضا عليه السلام قال : أمر الناس بالقراءة في الصلاة لئلا يكون القرآن مهجورا مضيعا، وليكن محفوظا مدروسا فلا يضمحل ولا يجهل، وإنما بدء بالحمد دون سائر السور لانه ليس شئ من القرآن والكلام جمع فيه من جوامع الخير والحكمة ما جمع في سورة الحمد( ).
لقد جعل الله عز وجل تلاوة آيات القرآن كل يوم رابطة عقائدية تجمع المفترق وتؤلف المختلف.
ومن مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، نزول كلام الله ، ومصاحبته الناس إلى يوم القيامة وتعاهد المسلمين له بالتلاوة اليومية الواجبة وجوباً عينياً.
ولا يعلم منافع هذه القراءة إلا الله ، ومنها تنمية ملكة الرحمة في نفوس الناس واستحضار الخشية من الله عند إرادة الفعل ، ونبذ العنف والإرهاب ، وبعث النفرة في النفوس من القتل وسفك الدماء.
إن قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) الذي اختص هذا الجزء به علم مستحدث ، ومن هذا العلم بيان عدد من الآيات التي قيل أنها منسوخة وغالباً ما ينسب هذا القول لبعض التابعين أو تابعي التابعين ، ويصير وكأنه قاعدة كلية ، ولو كان لبان ، فآيات السلم التي قيل أنها منسوخة لم يرد قول أو فعل أو تقرير من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدل على نسخها ، كما لم يرد عن الصحابة أقوال بنسخها ، نعم بعضها ورد ذكر اسم ابن عباس فيها ، وعلى فرض صحة السند فان المقصود من النسخ عند الأقدمين التخصيص والتقييد والمشروط ونحوه.
إن بيان بقاء أحكام آيات السلم جهاد وكشف للحقائق وإنصاف ، وفيه تجليات لمشارق آيات التنزيل والحكمة المتعالية التي تترشح عن كلمات القرآن بما ينشر لواء السلم والأمن في الأرض ، وهو من مصاديق رسالة الأنبياء بين الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
ومن مصاديق الصراط المستقيم في المقام أمور :
الأول : وضوح الدعوة إلى الله.
الثاني : رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خير محض ، ونفع عام.
الثالث : الصراط الإسلام ومنهجة القويم.
الرابع : يتجلى الصراط المستقيم بطاعة الله عز وجل .
الخامس : من الصراط المستقيم اشاعة الأمن في الأرض ، وهو مطلوب بذاته ، كما انه وسيلة لتوجه الناس لعبادة الله عز وجل ، والتفكر بعظمة الخلق ، والقدرة الإلهية ، واستحضار يوم القيامة.
وهل يمكن القول أن قوله تعالى [َيسْأَلُونَكَ] الذي ورد في القرآن خمس عشرة مرة و[يَسْتَفْتُونَكَ]الذي ورد مرتين في القرآن ، كما يأتي بيانه في هذا الجزء من آيات السلم المحكمة وغير المنسوخة ، الجواب نعم ، بلحاظ كبرى كلية وهي أن الفتوى حكم يتغشى الناس ، ويدخل في العبادات والمعاملات والأحكام .
فأراد الله عز وجل للناس الألفة والوئام فتفضل بالإجابة على الأسئلة الموجهة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقام بالإفتاء والفتيا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
لقد تجلى قانون في الحياة الدنيا وهو أن الحاجة إلى السلم لا تنحصر بالخصومة والخلاف بين أهل الملل ، إنما تشمل أهل الملة الواحدة كما في قوله تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( )، وأهل البلدة الواحدة كما في الإقتتال المتجدد بين الأوس والخزرج قبل الهجرة , وهم أبناء عمومة وسكنة بلدة واحدة هي يثرب إلى أن بعث الله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهاجر إليها ليكون من بركات هذه الهجرة توقف هذا الإقتتال ، ومن أسبابه اشتراك الأوس والخزرج بتسمية واحدة في القرآن وهو (الأنصار) ، قال تعالى [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( )، كما وردت تسمية الأنصار على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث كثيرة منها.
واعتاد الصحابة على إطلاق تسمية الأنصار على أهل المدينة من الأوس والخزرج الذين آووا ونصروا النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن (ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر وابن مردويه والبيهقي من طريق سعد بن إسحق بن كعب بن عجرة عن أبيه عن جده قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثاً من الأنصار وقال : إن سلمهم الله وأغنمهم فإن لله علي في ذلك شكراً .
فلم يلبثوا أن غنموا وسلموا فقال بعض أصحابه : سمعناك تقول إن سلمهم الله وأغنمهم فإن لله عليّ في ذلك شكراً قال : قد فعلت ، قلت : اللهم شكراً ، ولك الفضل المن فضلاً)( ).
وراوي الحديث أعلاه هو الصحابي كعب بن عجرة بن أمية البلوي حليف الخزرج (وقال الواقدي : ليس بحليف للأنصار ، ولكنه من أنفسهم)( ).
والصحيح هو الأول لذا ذكر ابن الكلبي في نسب جابر بن النعمان بن عمير بن مالك البلوي حليف الأنصار (إنه من رهط كعب بن عجرة وله صحبة وسواد( ) في نسبه قيده بن ماكولا بضم أوله)( ).
وسكن كعب بن عجرة الكوفة و(عن عبد الله بن مسعود عن كعب بن عجرة أنه دخل المسجد يعني بالكوفة وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعداً قال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً وقال الله عز وجل وتركوك قائماً( ).
وفي الخبر أن كعبا قالها عندما رآى الضحاك بن قيس يخطب في الكوفة قاعداً.
وعبد الرحمن هذا ابن اخت معاوية بن أبي سفيان ، الذي ولاه الكوفة بعد موت زياد في سنة سبع وخمسين فاساء السيرة فولاه مصر بعد أخيه عتبة بن أبي سفيان (فلما كان على مرحلتين خرج إليه معاوية بن حديج فمنعه من دخول مصر , فقال ارجع إلى خالك فلعمري لا تسير فينا سيرتك بالكوفة فرجع وولاه معاوية بعد ذلك الجزيرة فكان بها إلى أن مات معاوية)( ).
وعن كعب بن عجرة قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم يوما فرأيته متغيرا قال قلت بأبي أنت ما لي أراك متغيرا قال ما دخل جوفي ما يدخل جوف ذات كبد منذ ثلاث قال فذهبت فإذا يهودي يسقي إبلا فسقيت له على كل دلو تمرة .
فجمعت تمرا فأتيت به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال من أين لك يا كعب فأخبرته فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتحبني يا كعب قلت بأبي أنت نعم قال إن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى معادنه وإنه سيصيبك بلاء فأعد له تجفافا .
ففقده النبي صلى الله عليه وآله و سلم فقال ما فعل كعب قالوا مريض فخرج يمشي حتى دخل عليه , فقال أبشر يا كعب فقالت أمه هنيئا لك الجنة يا كعب فقال النبي صلى الله عليه وآله و سلم من هذه المتألية على الله قال هي أمي يا رسول الله قال ما يدريك يا أم كعب لعل كعبا قال ما لا ينفعه أو منع ما لا يعنيه( ).
وكان كعب بن عجرة قد تأخر إسلامه ، مع دعوة الأنصار له ودخوله الإسلام ، وكان عنده في البيت صنم يكرمه ويتعاهده ، ويمسح عنه الغبار ، ويلبسه ثوباً , وكان عبادة بن الصامت له خليلاً ، فقعد له يوماً يرصده وقد علم أن زوجة كعب عند أهلها ، وما أن خرج كعب من بيته حتى دخل عبادة ومعه فأس كبير فهشم الصنم وهو يردد
(ألا كل ما يدعى مع الله باطلاً)( ).
ثم خرج وأغلق الباب ، ولما رجع كعب إلى بيته نظر وإذا الصنم قد كسر ، فقال : هذا عمل عبادة ، فخرج مغاضباً وتوجه نحو بيت عبادة ليشاتمه ، وأخذ يتفكر وهو في الطريق بأن هذا الصنم لو كانت له إرادة لمنع نفسه من الكسر والتهشيم ، وكيف أتخاصم مع عبادة على جماد أقدسه من غير طائل .
حتى إذا وصل إلى بيت عبادة طرق الباب ، فأشفق عبادة أن يشتمه كعب ، فآلى على نفسه الصبر خاصة وأن كسر الصنم نوع احتجاج عملي، ولكن عب فاجأه بحسن الإستدلال وقال : قد رأيت لو كان عند هذا الصنم (طائل ماتركك تصنع به ما رأيت؛ وأني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. قال : ثم شهد كعب بعد ذلك المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
وعن عبد الله بن مغفل قال : قعدت إلى كعب بن عجرة فسألته عن هذه الآية { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك }( ) فقال : نزلت فيَّ ، كان بي أذى من رأسي ، فحملت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال : ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا!
أما تجد شاة .
قلت : لا .
قال : صم ثلاثة أيام أو اطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام ، واحلق رأسك .
فنزلت فيّ خاصة ، وهي لكم عامة( ).
سكن كعب الكوفة ، وحدث في المدينة وفي الكوفة ، وتوفى في المدينة سنة اثنتين وخمسين من الهجرة.
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).

حرر في 24 ذي الحجة 1441هـ
14/8/2020

الآية الخامسة عشرة ( ): قوله تعالى [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ).
وقرأ أبو عمرو (ولي ديني) ساكنة الياء( ).
وذكر أن (هذه الآية منسوخة بآية السيف) ( ).
ويتعلق موضوع الآية بجدال المشركين مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعرضهم عليه أن يعبدوا الله عز وجل معه سنة , ويعبد هو آلهتهم سنة , وهو اقتراح باطل وغريب , فرفض النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الزيف ، وتفضل الله عز وجل بنزول القرآن ليكون الفيصل والحكم ويسقط ما في أيدي المشركين , ويبين استمرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته الذي يترشح عن أمر الله عز وجل له بتبليغ الرسالة واستمر هذا الأمر حتى مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وكان قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( )، من آخر آيات القرآن نزولاً.
إذ يتجدد هذا الأمر الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل ساعة من ساعات حياته , وهو الذي تجلى في الواقع .
والإجماع على أن هذه الآية محكمة , وفيه شاهد على أن وظيفة النبوة والتبليغ متجددة , ولا يتعارض معه سبب النزول في غدير خم .
ومن إعجاز الفاظ القرآن أن لفظ [لَكُمْ دِينُكُمْ] ( ) لم يرد فيه إلا مرتين ، الأولى في آية البحث ونزولها في مكة قبل الهجرة للإحتجاج على الذين كفروا .
كما ورد في قوله تعالى [الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
مع التباين بجهة صدور الخطاب والجهة التي يتوجه إليها الخطاب ، ففي آية البحث يخاطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المشركين في موادعة ولغة إنذار.
أما في الآية أعلاه من سورة المائدة فان الله عز وجل يخاطب المسلمين بصيغة الثناء وبيان الفضل العظيم من الله عز وجل على المسلمين ، ففي كل يوم من أيام الحياة الدنيا تطل هذه الآية على المسلمين وفيه مسائل :
الأولى : دعوة هذه الآية المسلمين للشكر لله عز وجل على نزول تمام أحكام الشريعة وتمام النعمة.
الثانية : وجوب امتناع المسلمين عن الفرقة وتعدد المذاهب ، لأن من مصاديق تمام الدين تعاهد أحكام القرآن ومنع أسباب الإختلاف والشقاق، وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآلهوسلم : إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هو حَبْلُ اللهِ الْمتِينُ، وهو النور المبين وهُوَ الشِّفَاءُ النَّافِعُ، عِصْمةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، ونَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ( ).
الثالثة : التباين والتضاد بين الإيمان والكفر ، وأن من خصائص الإيمان تمام الدين ، وفي التنزيل [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
الرابعة : ورد قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( )، وهو شطر من آية هي من آخر آيات القرآن نزولاً للدلالة على تفقه المسلمين في الدين بينما ورد قوله تعالى [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( )، آية مستقلة ، وهي السادسة من سورة الكافرون وهي سورة مكية ، لبيان وجوب وموضوعية الإحتجاج على الكافرين بلغة الإنذار والوعيد والبرهان.
إن نعت القرآن لرؤساء قريش في بدايات الدعوة الإسلامية بأنهم كافرون ، ومخاطبتهم بهذه الصفة شاهد على بغض الله عز وجل لهم وسخطه عليهم ، وعلى جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله.
وعلى فرض أن آية البحث لكم [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] ( ) نسخت بخصوص كفار قريش ، فالجواب أن دخولهم الإسلام يوم الفتح وقبله وبعده إختياري وموضوع الآية أعم من كفار قريش ، وحكمها باق إلى يوم القيامة ، ومنه إقرارالإسلام بدين أهل الكتاب والملل السماوية .
الخامسة : بيان إنقطاع الجدال والإحتجاج مع الذين كفروا بمدد وعون من الله عز وجل ، بخيبة وإندحار الكفر ، وتجلي عجز الكفار عن غزو المسلمين وحمل بعضهم على الإرتداد.
ومع أن الآية أعلاه من سورة المائدة نزلت في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة ، أي بعد فتح مكة بنحو سنتين وثلاثة أشهر إلا أنها تخبر عن وجود قوم كافرين ، ولكنها تبعث على الطمأنينة والسكينة لإمتلاء صدور الذين كفروا باليأس والقنوط وتسليمهم ببزوغ شمس الإيمان على ربوع أرض الجزيرة .
وقوله تعالى [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( )، هي الآية السادسة من سورة الكافرون ، ومن الإعجاز تسمية الآية باسم الكافرين ، فلم يكن اسمها سورة إنذار الكافرين , لبيان أن هذا الاسم ليس فيه ضرر على الذات والغير ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجاهد الكفار بالحجة والبرهان من غير أن يشهر عليهم سيفاً ، وجهاد الحجة أعظم نفعاً من السيف ، وقال تعالى [جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
وإبتدأت السورة بالأمر قل : أي قل يا رسول الله ، وهل يصح تقديرها: قل يا محمد ، الجواب نعم ، ولكن الآية وردت في مقام الإحتجاج وبيان التضاد بين التوحيد ، والكفر بين الرسالة والجهالة ، فيكون إظهار معنى النبوة احتجاجاً إضافياً.
ولا يتلقى الوحي من عند الله عز وجل إلا النبي والرسول ، واختص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء بشرف نزول جبرئيل عليه بالقرآن وهو كلام الله الخالد الباقي مع الأيام والليالي سالماً من التحريف والزيادة والنقيصة.
ومن معاني إبتداء السورة بلفظ (قل) أن كل آية من آيات السورة الستة يصح تقدير إبتدائها بالأمر (قل) كما يصح تقديرها على وجوه :
الأول : قل أيها المسلم : يا أيها الكافرون.
الثاني : قولي أيتها المسلمة : يا أيها الكافرون .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا قولوا : يا أيها الكافرون.
الرابع : يا أيتها اللائي آمنَّ قلن : يا أيها الكافرون.
وتنطبق هذه الوجوه على كل آية من آيات سورة الكافرون ومنها : قل لكم دينكم ولي ديني ، وقولوا لكم دينكم ولنا ديننا ، وقلن لكم دينكم ولنا ديننا ، وخاطبوا المنفرد من الكفار الذي يصر على الكفر : لك دينك ولنا ديننا.
ومخاطبة النساء الكافرات قل يا أيتها الكافرات لكن دينكن ولي دين ، فان قيل إنما وردت السورة بخصوص نفر من رؤساء قريش عرضوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعبدوا معه الله عز وجل سنة على أن يعبد هو معهم آلهتهم سنة ثانية ، وهكذا بالتناوب.
والجواب المدار على عموم المعنى وليس سبب النزول ، ونزل القرآن لهداية الناس جميعاً ذكوراً وأناثاً إنما وردت صيغة التذكير للغالب ، وكانت هناك نسوة كافرات منهن زوجة أبي لهب وهي أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان ، وكانت عوراء ، وقد نزل القرآن بذمها ، قال تعالى [وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَد]( ).
وعن زيد بن أرقم لما نزلت {تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى}( )، إلى {وامرأته حمالة الحطب}( )، فقيل لامرأة أبي لهب : إن محمداً قد هجاك . فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في الملأ ، فقالت : يا محمد علام تهجوني ، قال : إني والله ما هجوتك ، ما هجاك إلا الله . فقالت : هل رأيتني أحمل حطباً أو رأيت في جيدي حبلاً من مسد؟ ثم انطلقت .
فمكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أياماً لا ينزل عليه ، فأتته فقالت : ما أرى صاحبك إلا قد ودعك وقلاك ، فأنزل الله وَالضُّحى* وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى.
ومعنى حمالة الحطب أي تمشي بالنميمة ، فتأتي بها بطون مكة ، وتنقل الكلام بين الناس ، ليكون معنى حمل الحطب إثارة الفتنة والضغائن بين الناس ، وعن ابن عباس {وامرأته حمالة الحطب}( ) قال : كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليعقره وأصحابه( ).
ومن أسرار تعدد هذا التقدير أن الآية نزلت في مكة ، وصار المسلمون يزدادون عدداً وكثرة بعد الهجرة بينما يتناقص عدد المشركين فتتجلى معاني : لك دينك يا أيها الكافر ولنا ديننا وهذه الزيادة في أعداد المسلمين ليست حجة لنسخ مضامين آية البحث واستبدالها بالسيف ويدل قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، على إرتقاء المسلمين في سلم المعارف الإلهية ، وكثرتهم ، وزيادة قوتهم وتنامي عزتهم ، ولم يخشوا على الإسلام من الذين كفروا الذين قلّ عددهم ، ووهنت قوتهم واصاب أموالهم النقص لإنفاقهم الدينار والدرهم ، وإبل التجارة في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ]( ).
وتبين صيغة المضارع في الآية أعلاه (ينفقون) و(فسينفقونها) على استمرار بذل المشركين أموالهم في محاربة الإسلام والذي يدل بالدلالة التضمنية على استمرار غزوهم للمدينة وإختيارهم الحرب والقتال ، وهذه الآية من الشواهد على أن المشركين هم الذين يقومون بالغزو ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغزهم ، ولم يعلن النفير في المدينة لغزو المشركين في مكة.
كما تبين الآية أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمشركين [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( )، لم يرضوا به ، وبما يدل عليه من الموادعة والمهادنة، وسكوت كل طرف عن الآخر .
وجوه إنفاق مشركي قريش
تبين آية البحث أن إنفاق المشركين لمحاربة الإسلام والنبوة بلحاظ أفراد الزمان الطولية على وجوه :
الوجه الأول : الزمن الماضي ، لما قبل نزول الآية الكريمة ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل يشمل حال ما قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة أم أن هذا الإنفاق بدأ من معركة بدر.
الثانية : هل دفع أسرى المشركين يوم بدر البدل لفكاكهم من الأسر من الإنفاق في الصد عن سبيل الله .
أما المسألة الأولى فان هذا الإنفاق الخبيث بدأ من الأيام الأولى للبعثة النبوية ، وكانت قريش أيام حصارهم لبني هاشم أحياناً يشترون البضاعة بأغلى من ثمنها كيلا يشتريها بنو هاشم وأحياناً يوعدون البائع بثمن عال ، من غير أن يشتروها ولكن ليمنعوه من البيع على بني هاشم .
وأما المسألة الثانية فان دفع بدل الأسرى من الإنفاق للصد عن سبيل الله ، فصحيح أن المسلمين انتفعوا منه ، ولكنه يدل على البقاء على الكفر، وإحتمال إرادة الإنتقام ، وهو الذي تجلي في غزوهم المدينة في معركة أحد.
ويدل إطلاق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدداً من الأسرى من غير بدل ، وجعل تعليم عشرة من صبيان المدينة شرطاً لإطلاق عدد منهم على أن البدل والعوض المالي للأسرى ليس له شأن كبير في بناء دولة الإسلام.
ترى ما هي النسبة بين كل من :
الأول : صد الكفار عن سبيل الله.
الثاني : إنفاق الذين كفروا في محاربة النبوة والتنزيل.
الجواب إنها نسبة العموم والخصوص المطلق ، فصدهم عن سبيل الله هو الأكثر ، ويأتي بالإنفاق وبدونه ، ومنه ما ورد في التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ]( )، ليكون من معاني الجمع بين الآية أعلاه وقوله تعالى [َفسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ]( )، أي أنهم كانوا يرجون أن تكون أموالهم وسعيهم سبباً لنصرهم في المعارك وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فبشر الله عز وجل المسلمين بأن رجاءهم هذا يذهب أدراج الرياج ، وأن أكثروا من الإنفاق ، ويبين إخبار الآية عن قيام المشركين ببذل الأموال في الصد عن سبيل الله حاجة المسلمين إلى الزكاة والخمس ، لذا جعلها الله تطهيراً وتزكية للنفس والمال.
وفي قوله تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ]( )، ورد عن (عبد الله بن أبي أوْفَى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: “اللهم صل عليهم”. وأتاه أبي بصدقته فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى. أخرجاه في الصحيحين. وبحديث جابر: أن امرأته قالت: يا رسول الله، صل عَلَيَّ وعلى زوجي ، فقال : صلى الله عليكِ وعلى زوجك)( ).
لقد كان جيش المشركين في الطريق إلى معركة بدر يذبحون كل يوم تسعة أو عشرة من الإبل وهو من أسباب رغبتهم بالوصول إلى موضع ماء بدر ، والإقامة هناك ثلاثة ليال ، تعزف لهم القيان وتسمع العرب بخروجهم فتها بهم .
أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فكانوا في طريقهم إلى بدر يتناوبون على ركوب الإبل كل اثنين أو ثلاثة على بعير ، مما يدل على تعذر ذبحهم للإبل.
وعندما سأل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم غلامين لابي سفيان، وهما من سقاة قريش قرب موضع معركة بدر عن عدد أفراد جيش قريش جهلا عددهم ، فسألهما كم ينحرون من الإبل ، قالا : يوماً تسعاً ، ويوماً عشراً ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم القوم بين التسعمائة والألف.
ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ، قالا : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو البحتري بن هشام ، وحكيم بن حزام ، ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر بن نوفل ، وطعيمة بن عدي بن نوفل ، وزمعة بن الأسود ، وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، ونُبَيه ومنبه ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو بن عبد ود العامري ، فأقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه قائلاً : هذه والله مكة قد ألقت اليكم أفلاذ كبدها( ).
و(عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كُنّا نَتَعَاقَبُ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَةً عَلَى بَعِيرٍ فَكَانَ عَلِيّ وَأَبُو لُبَابَةَ زَمِيلَيْ( ) رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَإِذَا كَانَتْ عُقْبَتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ قَالَا لَهُ ارْكَبْ وَلْنَمْشِ عَنْك يَا رَسُولَ اللّهِ فَيَقُولُ مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى عَلَى الْمَشْيِ مِنّي ، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنْ الْأَجْرِ مِنْكُمَا)( ).
وكان هذا التناوب والتعاقب على ركوب الإبل معروفاً بين المسلمين في الكتائب والسرايا.
وعندما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم (عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَحْشٍ الْأَسَدِيّ إلَى نَخْلَةَ فِي رَجَبٍ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ الْهِجْرَةِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كُلّ اثْنَيْنِ يَعْتَقِبَانِ عَلَى بَعِيرٍ فَوَصَلُوا إلَى بَطْنِ نَخْلَةَ يَرْصُدُونَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ.
وَفِي هَذِهِ السّرِيّةِ سَمّى عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَحْشٍ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَتَبَ لَهُ كِتَابًا ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ فِيهِ حَتّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ ثُمّ يَنْظُرَ فِيهِ.
وَلَمّا فَتَحَ الْكِتَابَ وَجَدَ فِيهِ ” إذَا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا ، فَامْضِ حَتّى تَنْزِلَ نَخْلَةَ بَيْنَ مَكّةَ وَالطّائِفِ ، فَتَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشًا ، وَتَعْلَمَ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ.
فَقَالَ سَمْعًا وَطَاعَةً وَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ وَبِأَنّهُ لَا يَسْتَكْرِهُهُمْ فَمَنْ أَحَبّ الشّهَادَةَ فَلْيَنْهَضْ وَمَنْ كَرِهَ الْمَوْتَ فَلْيَرْجِعْ.
وَأَمّا أَنَا فَنَاهِضٌ فَمَضَوْا كُلّهُمْ فَلَمّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطّرِيقِ أَضَلّ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بَعِيرًا لَهُمَا كَانَا يَعْتَقِبَانِهِ فَتَخَلّفَا فِي طَلَبِهِ)( ).
الوجه الثاني : الإنفاق في الحاضر ، وزمان نزول الآية أعلاه [يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ]( )، أي أنهم يقيمون على القيام بهذا الإنفاق والبذل ، وفيه تحذير وإنذار للمسلمين ، ليكون من إعجاز الآية أعلاه تضمنها أموراً :
أولاً : الإنذار والوعيد للذين كفروا ، فصحيح أن الآية وردت بصيغة الجملة الخبرية ، والغائب إلا أنها تحدّ للذين كفروا ، ووعيد لهم.
فمن إعجاز القرآن أن للكفار مع إنفاقهم الأموال يأتيهم الإنذار والوعيد .
ومن الإعجاز فيه أنه دعوة للهدى والإيمان ، فان قلت يترتب على دخولهم الإسلام دفع الزكاة ، والجواب الزكاة جزء يسير من مجموع المال ، يكون في أغلب ما تجب فيه 2,5% ، مع قيد النصاب , وقد لا تجب على المسلم الزكاة .
وفيها النماء والبركة وهو من أسرار تسميتها الزكاة لأنها نوع طريق لزيادة المال ، وفيه الأجر والثواب والصلاح للذات والذرية بلحاظ أن نماء الزكاة لا ينحصر بالمال إنما يشمل النفوس وعالم الأعمال ، ويدل عليه عموم التطهير وتعلقه بالذوات في قوله تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
ثانياً : الإنذار والتحذير للمسلمين بأن إنفاق المشركين على القتال يزيد من قوتهم ، ويدل على تهيئتهم مقدمات الهجوم والغزو ، وفي التنزيل [فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ]( ).
مع التباين في الإنذار الموجه إلى الكفار ، والإنذار الموجه إلى الذين آمنوا ، فالأول تهديد ووعيد ، ويترتب على الصد عنه الإثم ، وإقامة الحجة على الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، أما إنذار الله عز وجل للمسلمين فهو تنبيه وتذكير وتحذير وفيه الأجر والثواب .
ثالثاً : البشارة للمسلمين بأن إنفاق المشركين على القتال للصدّ عن سبيل الله ، ومنع الناس من دخول الإسلام لن يضر الإسلام والتنزيل ، وأن عاقبة الذين كفروا هي الهزيمة والإنكسار.
إذ تجلت مصاديق قوله تعالى [ثُمَّ يُغْلَبُونَ]( )، في كل معركة من معارك الإسلام بما فيها معركة أحد ، إذ رجعوا إلى مكة والخيبة تتغشاهم بعد فقدهم لاثنين وعشرين من رجالهم في ميدان المعركة مع إقرارهم بالعجز عن تحقيق أي غاية خبيثة , كانوا قبل المعركة يتناجون لتحقيقها ومنها قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسر المهاجرين وجلبهم الى مكة، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
والنسبة بين قوله تعالى [ثُمَّ يُغْلَبُونَ] وبين [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] هو العموم والخصوص المطلق ، فالخيبة هي الأخص ، وهي فرد من إنكسار وهزيمة المشركين ومقدمة لتحقق الهزيمة التامة الذي يدل عليه حرف العطف (ثم) في قوله تعالى [ثُمَّ يُغْلَبُونَ] والذي يفيد التراخي لبيان حقيقة وهي أن المعارك مع المشركين لن تنتهي بسرعة وهو الذي يدل عليه قوله تعالى بصيغة المستقبل [فَسَيُنفِقُونَهَا] وهو من الإعجاز في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكونها مرآة للقرآن بسعيه للصلح مع كفار قريش في الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة وكيف أن رسالته رسالة سلام وموادعة.
الوجه الثالث : إرادة المستقبل في إنفاق الذي كفروا على الحرب والقتال ، والصدّ عن سبيل الله.
ومن أسباب نزول [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( )، أن رؤساء قريش عجزوا عن حمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ترك دعوته الى الله، وإبلاغه الناس بأنه رسول الله ، وهذا الإبلاغ بأمر من عند الله ، ويحمل صفة العموم ، لقوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
ومن معانيه توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل مكة رجالاً ونساءً والى الوافدين إليها وأهل الموسم باخبارهم أنه رسول من الله بعثه الله إليهم ليدعوهم إلى التوحيد ، ونبذ عبادة الأصنام.
فجاء عدد من رؤساء قريش إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعرضوا عليه تسوية ومهادنة من أجل إحباط الدعوة ، قال ابن هشام : وَاعْتَرَضَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ ، وَكَانُوا ذَوِي أَسْنَانٍ فِي قَوْمِهِمْ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ هَلُمّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ ، وَتَعْبُدُ مَا نَعْبُدُ فَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ فَإِنْ كَانَ الّذِي تَعْبُدُ خَيْرًا مِمّا نَعْبُدُ كُنّا قَدْ أَخَذْنَا بِحَظّنَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيْرًا مِمّا تَعْبُدُ كُنْت قَدْ أَخَذْت بِحَظّك مِنْهُ .
فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ { قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } ( )أَيْ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْبُدُونَ إلّا اللّهَ إلّا أَنْ أَعْبُدَ مَا تَعْبُدُونَ فَلَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ مِنْكُمْ لَكُمْ دِينُكُمْ جَمِيعًا ، وَلِي دِينِي( ).
وورد لفظ (ما) في قوله تعالى [وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ]( )، لبيان أن (ما) لفظ يستعمل للعاقل وغير العاقل ، ولكنه يأتي للعاقل مع القرينة الدالة عليه .
ومن القرائن في المقام المحاكاة والإبهام والتعظيم ويدل عليه قوله تعالى [وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا]( )، كما تستعمل (ما) لصفات العاقل تقول : جاء زيد ، فيقال : ما هو ، لبيان صفته ومعرفة أمره ، فيقال مثلاً إنه قارئ للقرآن، أو أنه صاحب المحل .
إن الذي يعبد الله سنة ، ويترك عبادته سنة أخرى ليس بعابد لله عز وجل .
قانون شواهد عدم نسخ آية
من الشواهد على أن قوله تعالى [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( )، ليس منسوخاً وجوه :
الأول : الآية رفض لمهادنة الكفار وتتضمن بعث اليأس في قلوب الكفار بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يمتنع عن الدعوة إلى الله ولا يوماً واحداً .
لقد أرادوا تعطيل النبوة سنة من بين كل سنتين ، مع التهديد والتغليظ في قبول اقتراحهم ، فلم يرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدّهم ، بالحجة والبرهان [لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ]( ).
الثاني : لم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم أعبد ، ولا لن أعبد، إنما جاءت بحرف النفي (لا) وهو أعم وأوسع في النفي لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ولن يعبد الأصنام ، وفيه نوع تحد للكفار ، لذا فقوله تعالى [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( )، من آيات التحدي للكفار ، وهو من الشواهد على أنها غير منسوخة ، كما في قوله تعالى [لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا]( ).
الثالث : يتضمن قوله تعالى [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] ذم وتبكيت الكفار وتسفيه أحلامهم لعبادتهم الأصنام ، ولم تكن هذه الآية هي الوحيدة التي نزلت في مكة وتتضمن ذم الأصنام وعبادتها ، إنما نزلت آيات عديدة بهذا الخصوص منها قوله تعالى [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى* إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى]( ) .
وما دامت الآية تتضمن هذه المعاني في تحدي وتوبيخ الكفار فانها ليست منسوخة.
الرابع : الآية من آيات الإحتجاج على الذين كفروا وهل دخلت جماعة أو طائفة من الناس الإسلام لنزول قوله تعالى [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ) .
الجواب نعم ، وهو من أسرار بقاء الآية القرآنية غضة طرية سالمة من النسخ.
ومن رشحات لغة الذم والتوبيخ على الكفر بعث النفرة في النفوس منه ، خاصة وأن الأصل والفطرة على الإيمان ، قال تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الخامس : بيان التضاد بين الإيمان والكفر ، وعدم إمكان الإجتماع بينهما فصحيح أن الخطاب موجه إلى رؤساء الكفر إلا أنه عام شامل للناس جميعاً للإنذار والتحذير من إتباع الذين كفروا .
وفيه دعوة للمسلمين الأوائل للصبر والثبات على الإيمان ، وبيان عدم جواز التجزئة والتبعيض الزماني فيه ، وهل مطاوعة المسلم للكفار لعبادة آلهتهم سنة وعبادة الله سنة من الإرتداد .
الجواب نعم ، لذا فالآية تدل في مفهومها على حرمة الإرتداد ، قال تعالى [مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
السادس : في الآية تخفيف عن المسلمين , وهي وسيلة سماوية تحول دون إرتداد بعضهم وإن سعى المشركون لهذا الإرتداد ، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
السابع : الآية من عمومات بلاغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس ، وإعلانه نبوته ، ودعوة الناس للإسلام وهو من مصاديق قوله تعالى [فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ]( ).
الثامن : إعلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم البراءة من الذين كفروا وحبهم وتضرعهم بالأصنام ، ومنه قوله تعالى [َإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ]( ).
وقوله تعالى [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( )، نوع تعريض بالذين كفروا ومثله قوله تعالى [وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( )، فالآية أعلاه غير منسوخة وهو من السبر والتقسيم ، واسقاط الضد ، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم على الهدى ، فلابد أن المشركين على ضلال ، وقوله تعالى [قُلْ لاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ]( )، إنها صيغة من صيغ الدعوة إلى الله والموعظة والإرشاد لعامة الناس.
فقد جاء المشركون بطلب شخصي خبيث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يلتفتوا إلى أصحابه فنزل الجواب من عند الله ليكون موعظة وإرشاداً للناس ، وتثبيتاً للمسلمين في مقامات الإيمان إذ لا رجعة لأحدهم إلى الكفر والشرك ومفاهيم الضلالة ، وعدم الرجوع هذا من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
وقال حسان بن ثابت في الرد على سفيان بن الحارث بن عبد المطلب الذي كان شديداً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يسلم :
هَجَوتَ مُحَمَّدا فَأجبتُ عنه … وَعندَ الله في ذاك الجزاءُ
فَإنَ أبي وَوَالده وعِرْضي … لعرْضِ مُحَمَّد منكم وقاءُ
أَتَشْتُمُه، ولستَ لَه بكُفءٍ … فَشَرُّكُمَا لخَيْركُمَا الفدَاءُ
لِسَانِي صَارمٌ لا عَيْبَ فِيه … وَبَحْرِي لا تُكَدِّرُه الدِّلاءُ( ).
إن التشابه الموضوعي بين آية البحث [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( )، وبين آيات متعددة مكية ومدنية شاهد وأمارة على عدم نسخها ، خاصة وأنها إعلان على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لثباته وجميع المسلمين والمسلمات على الإيمان ، فلذا ورد في سورة المائدة [الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي]( ).
فقد نزلت سورة الكافرون في الرد على المشركين ودعوتهم للمناصفة الزمانية في العبادة التي هي شرك وضلالة ، فهل اكتفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة الآية , الجواب لما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين دعوتهم هذه دفعها و(قال: معاذ الله أن اشرك بالله غيره)( ).
فعادوا واقترحوا عليه مسألة أخف عليه بأن يكتفوا باستلامه لبعض آلهتهم والأصنام التي يعبدون ليصدقوا بنبوته ويعبدوا الله ، عندئذ نزلت السورة ، لتكون تعضيداً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحرباً على الكفر، وتوبيخاً لرؤساء الكفر والضلالة.
وحالما نزلت السورة غدا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد الحرام وفيه رؤساء قريش فوقف عليهم وقرأ السورة وهم يسمعون.
وهل هو من الأمارات والشواهد على عدم صحة قصة نعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأصنام بأنها (الغرانيق العلى) ( )، الجواب نعم.
وقوله [لاَ أَعْبُدُ]( )، أي لن أعبد أنا والمسلمون اليوم وغداً الذي تعبدون من الأصنام ، لبيان أن الله عز وجل بعث النبي محمداً لإستئصال عبادة الأوثان.
وهل تدل الآية على التأبيد في عدم عبادة المشركين لله عز وجل، الجواب لا ، إنما هو ما دامي أي ماداموا على الكفر والشرك فانهم لا يعبدون الله لأنه لا يصح الجمع بين عبادة الله وعبادة الأوثان ، قال تعالى [إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ]( )، ليكون تقدير الآية : ولا أنتم عابدون ما أعبد ما دمتم مشركين ولا أنا عابد ما أنتم عابدون أبداً.
قانون عموم الدعوة إلى الهدى
من فضل الله أن أكثر رؤساء الشرك من قريش دخلوا الإسلام سواء قبل فتح مكة أو يوم الفتح لبيان مسألة وهي أن المصاديق الواقعية لقوله تعالى [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( )، متغيرة ومتبدلة كل يوم ، بأن يدخل الناس الإسلام ، ويتخلوا عن الشرك وعبادة الأصنام إلى أن قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح بتكسيرها وتهشيمها.
وعن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود معه ويقول [جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ) جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ.
ومن أفراد الباطل في المقام :
الأول : نصب النُصب والأصنام في البيت الحرام وخارجه .
الثاني : عبادة الأصنام.
الثالث : إتباع خطوات الشيطان ، وإرتكاب المعاصي.
الرابع : نقيض الحق والإيمان.
لبيان عدم إمكان إجتماع الإيمان والكفر في الحياة الدنيا ، ويدل قوله تعالى [كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ]( )، على أن الصراع بين الإيمان والكفر مستمر ومتصل ولكن العاقبة لغلبة الإيمان ، وسيادة مفاهيم الصلاح في الأرض.
تقدير [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( )، بخصوص سلامة الآية من النسخ على وجوه :
الأول : لكم دينكم ولي دينِ حتى يفتح الله بيننا .
الثاني : لكم دينكم ولي دينِ حتى تتوبوا.
الثالث : لكم دينكم ولي دينِ والله عز وجل هو الذي ينصرني وانتم لا ناصر لكم ، قال تعالى [وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ]( ).
الرابع : لكم طريق الضلال بعبادة الأوثان ، وفي التنزيل [قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ]( )، لبيان أن امتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يختص برفض اقتراحهم تبادل العبادة السنوية ، إنما حتى لو سعوا في إكراه النبي وحمله بالقوة على عبادة الأوثان فانه لا يستجيب لهم.
وعلى فرض تحقق هذا الإكراه فهل عدم استجابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لطلبهم وقهرهم ظاهري مع بقاء إيمانه في القلب ، كما حصل لعمار بن ياسر ونزول قوله تعالى [إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ]( ).
الجواب إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعلن عدم استجابته لحمله على الشرك بأي حال من الأحوال بدليل الآية أعلاه من سورة الزمر، إذ يتحداهم يوبخهم وينعتهم بالجهالة , هو والقرآن .
ولم يرد لفظ (ايها الجاهلون) إلا في الآية أعلاه نعم ورد لفظ (الجاهلون) مرة أخرى في القرآن بقوله تعالى [وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا]( ) .
إن قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ]( )، بعث لليأس في نفوسهم من احتمال رضا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قولهم ، وشاهد على أن عبادة الأوثان يوماً واحداً كفر وضلالة.
فان قلت لماذا لم يقل لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلاماً حينما دعوه إلى الشرك الجواب من إعجاز القرآن التباين الموضوعي بين الأمر والخطاب .
فحينما طلب المشركون من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد أصحابه الشرك بالله جاء الرد شديداً لقوله تعالى [وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( )، ولما كانت لغة النداء والحوار ، يأتي الجواب بلطف لا يخلو من تبكيت ، وفيه دلالة على الإنشغال في طاعة الله.
وعن ابن عباس : أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة ، ويزوجوه ما أراد من النساء ، ويطأون عقبه . فقالوا له : هذا لك عندنا يا محمد ، وتكف عن شتم آلهتنا ، ولا تذكرها بسوء . فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة هي لنا ولك فدلوه .
قال : حتى أنظر ما يأتيني من ربي ، فجاء الوحي { قل يا أيها الكافرون}( )، إلى آخر السورة وأنزل الله عليه [قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ]( )، [وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
وأخرج البيهقي في الدلائل عن الحسن البصري قال : قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : إياك وأجدادك يا محمد . فأنزل الله [قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ]( )، إلى قوله بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ.
لقي الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل ، والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد هلم فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد ، ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله ، فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظاً ، وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظاً فأنزل الله [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ]( )، حتى انقضت السورة( ).
سياحة في رياض الصفات
لقد جعل الله الحياة الدنيا مظهراً من مظاهر جوده وحقيقة كبرى من بديع خلقه ، ورحمة لأهلها ، ليتدبروا بواسطتها بديع صنعه ، ويتفكروا بعظيم قدرته بسعة ملكه وسلطانه ، وانفراده بصفات الكمال والعظمة والجلال ، وحضور مشيئته ، وفي التنزيل [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) .
ومن أسرار قوله الله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) جذب صفات الله لكل إنسان ليتدبر فيها ويستدل بواسطتها على وجوب عبادته تعالى من غير أن يستلزم الأمر الغوص في علوم الغيب ، فتكفي مظاهر الخلق الكونية والإنسانية وبدائع الحياة اليومية في إدراك وجوب عبادة الله عز وجل ، وفي التنزيل [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وهناك صفات الجلال والكمال ، وصفات الذات ، والصفات الفعلية ، ومن صفات الله عز وجل :
الصفة الأولى : الخلق ، والله سبحانه خالق كل شئ ، وفي التنزيل [قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ] ( ) وقد أوجد الله الأشياء من عدم ، وخلق الإنسان من طين ليصبح [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) .
ومن أسماء الله الخالق والخلاق ، وورد لفظ الخالق ثمان مرات في القرآن ، منها قوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ) .
وورد اسم الخلاق مرتين في القرآن بقوله تعالى [إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ] ( ) وقوله تعالى [بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ] ( ) وكل اسم منهما ورد في خاتمة الآية ومقترناً بلفظ العليم .
وورد الفعل (خلق و(يخلق) في القرآن مرات كثيرة كما ورد (وخلقكم) و (خلقهم ) وورد (أحسن الخالقين) في آيتين يتجلى فيهما بديع صنع الله وعظيم قدرته وسلطانه ، قال تعالى [ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ]( ) ، وقال تعالى [أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ] ( ).
الصفة الثانية : الربوبية إذ أن الله عز وجل ربّ كل شئ ، فهو مالك ومنشئ الخلق ، وبيده مقاليد أمورهم ، وهو الذي يصلح أمورهم ، ويأتيهم رزقهم من عنده تعالى بسعي منهم أو بدون سعي.
وقد أراد الله عز وجل أن يُعبد في الأرض ، ويشهد له الناس بالربوبية المطلقة ، ليفيض عليهم بالبركات ويثيبهم في النشأتين على عمل الصالحات، وجعل الله كل مسلم ومسلمة يتلوان قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) سبع عشرة مرة في اليوم اذ تقرأ في كل ركعة من الصلاة ، وهي ثاني آية في ترتيب ونظم المصحف بعد البسملة .
وربوبية الله للخلق رحمة بهم ، ودعوة للتوكل عليه واللجوء إليه ، وبرزخ دون مجئ الضرر إليهم ، وفي التنزيل [إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
والبسملة خير مطلق ، ورحمة متجددة فان قلت قد يكون النطق بالبسملة سبباً للأذى ، كما في نطق النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الأوائل بها في مكة , وعن عروة بن الزبير قال : (أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبدالله ابن مسعود، وذلك أن أصحاب رسول الله اجتمعوا فقالوا : ما سمعت قريش القرآن يجهر به ، فمن رجل يسمعهم.
فقال ابن مسعود : أنا.
فقالوا : إنّا نخشى عليك منهم ، وإنّما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه.
فقال : دعوني فإنّ الله سيمنعني ، ثم قام عند المقام فقال : بسم الله الرَّحْمن الرحيم ، الرَّحْمن علم القرآن ،رافعاً بها صوته ، وقريش في أنديتها فتأمّلوا وقالوا : ما يقول ابن أُم عبد ، ثم قاموا إليه فجعلوا يضربونه وهو يقرأ حتى يبلغ منها ما شاء ، ثم انصرف إلى أصحابه ، وقد أثّروا في وجهه ، فقالوا : هذا الذي خشينا عليك)( ).
والجواب تلك حجة على المشركين وشاهد على ظلمهم وعلى الملازمة بين كفر قريش والإرهاب ، وبداية لزوال سلطانهم على البيت الحرام.
فالرب اسم لله عز وجل ، وهو من أمهات الأسماء الحسنى، والربوبية صفة له سبحانه وتتفرع عدة صفات من اسم (الرب) منها الخلق والمشيئة ، وجلب المصلحة ، ودفع المفسدة عن الخلائق ، ومنها استدامة الحياة .
الصفة الثالثة : الإمساك ، وهذه الصفة مستحدثة هنا ، فان الله عز وجل هو الذي يمسك السماء ويمنع من وقوعها على الأرض ، ولا يختص هذا الإمساك بالسماء بل يشمل الأرض أيضاً ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا] ( ).
فاذا أعطى الله عز وجل فلا مانع لما يعطي ، وليس من حاجب يحول دون وصول عطاياه وهباته ورزقه إلى خلقه وإذا حبس أو منع أمراً فلا مطلق له .
وفي التنزيل [ مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا] ( ).
والمراد من الناس في الآية أعلاه عموم الأجيال المتعاقبة ليشمل البر والفاجر والأمم الموحدة وغيرهم .
إذ تقسم الألف واللام إلى أقسام :
الأول : لام العهد ومنه لام العهد الذكري كما في قوله تعالى [كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً] ( ) والموجود الحاضر مثل [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
والعهد العلمي أو الذهني ، كما في قوله تعالى [إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ] ( ) فالمعروف أنه غار ثور في طريق هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة إذ امتنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن محاربة رجال قريش ، وعن الدفاع عن نفسه فاختار الإعراض عنهم ، والهجرة إلى المدينة ، وهو من الشواهد على أن رسالته سلام دائم .
وهل هذه الهجرة من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( )، الجواب نعم ومنه هجرة طائفة من المسلمين الأوائل إلى الحبشة ، وبيان قانون وهو إمكان عبادة الله في أي بقعة من الأرض ، وفي التنزيل [وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
ترى لماذا لم تذكر الآية اسم الغار ، الجواب من وجوه :
أولاً : تحقق الغرض والغاية من الآية بذكر ذات الغار .
ثانياً : الرجوع إلى السنة النبوية لبيان تفاصيل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثاً : بيان معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الغار وفي طريق الهجرة.
الثاني : لام الحقيقة أو الجنس ، كما في لفظ [الْعَصْرِ] في قوله تعالى [وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ] ( ) وقول ( أهلك الناس الدينار والدرهم ) أي جنس الدنانير والدراهم وحبها والسعي لكسبها وجمعها وكالقول : البقرة أكبر من الشاة .
الثالث : لام الإستغراق ، وهي التي تستوعب ما يصدق عليه عموم لفظها وليس فرداً واحداً كما في قوله تعالى [إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ]( ).
وليس من حصر لوجوه الرحمة التي تذكرها الآية أعلاه من سورة فاطر منها :
الأول : الرحمة الخاصة بالعبد .
الثاني : الرحمة التي تخص أفراد العائلة .
الثالث : الرحمة للجماعة .
الرابع : الرحمة لأهل قرية أو بلدة .
الخامس : الرحمة للمؤمنين .
السادس : الرحمة لأهل الأرض جميعاً.
الصفة الرابعة : الخبرة : وهي مأخوذة من اسم الله (الخبير) وفي التنزيل [قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ] ( )، ومن أسماء الله العليم ، والخبير ، ومن معاني الخبير أن الله يعلم بما يصلح العباد ، وبآثار كل فعل وقول قبل وقوعه ليكون من فضله تعالى صرف ما فيه الضرر عن الناس ، لقوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، فلأنه سبحانه خبير فانه يصرف الشر والأذى عن الناس.
الصفة الخامسة : الإحصاء : فالله سبحانه هو المحصي ، وهو يحصي كل شئ ، وكل فعل وقول وكل شهيق وزفير للإنسان ، ولو اجتمعت الخلائق كلها لعجزت عن إحصاء واحد من اللا محدود الذي يحصيه الله عز وجل ، وفي التنزيل [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( ).
الصفة السادسة : الحفظ : وكما أن الله عز وجل خالق كل شئ فهو وحده القادر على حفظ الخلائق وعالم الأكوان من التلف أو الزوال والعدم ، وفي التنزيل [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
الصفة السابعة : الرأفة : وهذه الصفة مأخوذة من اسم الرؤوف [إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
والرأفة رقة في القلب وحرص على دفع المكروه ، وامتناع عن الإيذاء, والرأفة من أعلى مراتب الرحمة ويمكن القول أن النسبة بين الرحمة والرأفة هو العموم والخصوص المطلق فالرحمة أعم ، والرأفة فرد خاص منها أقوى في الكيفية والشفقة وإيصال النعم ، ويستدل بعضهم لبيان مفهوم الرأفة بقوله تعالى [وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ]( ).
لبيان أن الرأفة تحتاج من صاحبها سعة الصدر والبذل والتسامح و(عن عكرمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : جاء جبريل فقال لي : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ، وهذا ملك الجبال قد أرسله الله إليك وأمره أن لا يفعل شيئاً إلا بأمرك . فقال له ملك الجبال : إن الله أمرني أن لا أفعل شيئاً إلا بأمرك ، إن شئت دمدمت عليهم الجبال ، وإن شئت رميتهم بالحصباء ، وإن شئت خسفت بهم الأرض . قال : يا ملك الجبال فإني آني بهم لعله أن يخرج منهم ذرية يقولون : لا إله إلا الله . فقال ملك الجبال عليه السلام : أنت كما سمَّاك ربك رؤوف رحيم ) ( ).
وفي الرأفة وجوه :
أولاً : التساوي بين رأفة الله بالناس , إنما جاء ذكر خصوص المؤمنين للتوكيد وسياق الآية.
ثانياً : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وأن الله عز وجل يرأف بالناس عامة ، وبالمؤمنين على نحو الخصوص.
ثالثاً : نسبة العموم والخصوص من وجه ، وأن هناك مادة للإلتقاء بين رأفة الله بالناس ، ورأفته تعالى بالمؤمنين ، وهناك مادة للإفتراق بينهما.
رابعاً : إتحاد رأفة الله بالناس ، وتعدد رأفته تعالى بالمؤمنين.
والمختار هو الأخير إذ يرأف الله بالمؤمنين بما أنهم من الناس رأفة عامة، ويرأف بهم مرة أخرى بما أنهم مؤمنون رأفة خاصة وهو من بركات الإيمان ، وأيهما أكثر في مصاديقها وموضوعها الرأفة العامة أم الخاصة أعلاه .
أما بخصوص الرأفة مطلقاً في النشأة الآخرة فالأمر جلي بأن الرأفة الخاصة هي الأكثر والأعظم لفوز المؤمنين في الآخرة بالمغفرة ، ومضاعفة الحسنات ، ونيل الشفاعة , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وأما بخصوص الرأفة العامة والخاصة في الدنيا ، فالمختار أن الرأفة العامة أعم وأكثر ، وأن المؤمنين ينهلون منها إلى جانب ما يأتيهم من الرأفة الخاصة وإذا ما أصاب بعضهم الأذى والضرر فانه ينال الأجر والثواب .
عن قتادة قال (والذي نفسي بيده، لا يصيب المؤمن هَمٌّ ولا حَزَنٌ، ولا نَصَبٌ، حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله عنه بها من خطاياه) ( ).
الصفة الثامنة : الرؤية من صفات الله عز وجل أنه يرى كل شئ في آن واحد ، ومن غير آلة باصرة لا تغيب الأشياء عنه طرفة عين أبداً ، وفي التنزيل [إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى]( )، وقال تعالى [أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى]( ).
وعن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، واعدد نفسك من الموتى ، وإياك ودعوة المظلوم فانها تستجاب ، ومن استطاع منكم أن يشهد الصلاتين العشاء والصبح ولو حبواً فليفعل( ).
الصفة التاسعة : الإحاطة : من صفات الله عز وجل الإحاطة بكل شئ علماً ، ومشيئة واستيلاء وقدرة ورحمة ، وإذ بيّن الله عز وجل إحاطته بكل شئ [وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا]( )، فقد أخبر الله سبحانه عن عجز الناس عن الإحاطة بكنهه ، قال تعالى [يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ]( ).
الصفة العاشرة : الرقيب : وفي التنزيل [وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا]( )، أي مُطلع ، وراصد لما يجري في ملكه ، وهي رقابة حفظ وفعل وأمر وزجر ، والمراد من كل شئ الذوات والأعمال والموجود والمعدوم ، وفي قوله تعالى [كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ]( )، ورد عن ابن عباس : الحفيظ( ).
والمراد المعنى الأعم ، فالرقيب الحافظ والذي يحصي الأفعال ويكتب الحسنات والسيئات ، ويرى درجة الهدى ، وتعاهد مراتب الإيمان ، ولم يرد في القرآن لفظ (الاسم الأحسن) أو لله الاسم الحسن إنما ورد لفظ الأسماء الحسنى ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا]( ).
وهل من دلالة لمجيئها بصيغة الجمع دون المفرد الجواب نعم لبيان قانون من الإرادة التكوينية وهو أن العباد والخلائق كافة تنتفع من أسماء الله عز وجل مجتمعة .
فقد وردت التسمية بذكر لفظ الجلالة مع اسم الرحمن واسم الرحيم ، ليكون من أسرار التسمية إنتفاع العبد من الأسماء الحسنى الثلاثة مجتمعة .
ومن يحجب عن نفسه الإنتفاع من بعضها ينتفع من الآخر ، وهل هو من الدلائل على أن التسمية من القرآن ، الجواب نعم إنه دليل كلامي وعقلي مستحدث وفيه تعضيد للنصوص التي وردت على كون التسمية من القرآن.
وقد ورد قوله تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( )، أي ملك يكتب ما يفعل العبد ، ومن بعده رحمة الله وعفوه وغفرانه ، ولا تأتي صفة الرقيب وحدها بل تصاحبها صفة الرحمة والعفو ، واللطف بتقريب العباد لسبل الطاعة.
وعن كنانة العدوي قال : دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله ، أخبرني عن العبد ، كم معه من ملك.
فقال : ملك عن يمينك على حسناتك ، وهو أمين على الذي على الشمال ، إذا عملت حسنة كتبت عشراً ، فإذا عملت سيئة ، قال الذي على الشمال للذي على اليمين : أكتب.
قال : لا ، لعله يستغفر الله ويتوب ، فإذا قال ثلاثاً قال : نعم اكتبه ، أراحنا الله منه فبئس القرين ، ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه منه ، يقول الله [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ).
وملكان من بين يديك ومن خلفك ، يقول الله [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ]( ).
وملك قابض على ناصيتك ، فإذا تواضعت لله رفعك ، وإذا تجبرت على الله قصمك ، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية( )، في فيك ، وملكان على يمينك.
فهؤلاء عشرة أملاك على كل بني آدم.
يُنزل ملائكة الليل على ملائكة النهار ، لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار ، فهؤلاء عشرون ملكاً على كل آدمي ، وإبليس بالنهار وولده بالليل( ).
وتحتمل النسبة بين الآيتين أعلاه وجوهاً :
الأول : رقابة الملائكة للعبد وكتابتهم لحسناته وسيئاته هي ذاتها رقابة الله عز وجل له .
الثاني : رقابة الله عز وجل للعبد أمره إلى الملائكة بأن يراقبوا العبد.
الثالث : الله رقيب لأن الملائكة يرفعون إلى الله سبحانه ما كتبوه.
الرابع : رقابة الله للناس والأشياء غير رقابة الملائكة.
والمختار هو الرابع أعلاه ويكون الثالث في طوله.
وعن عبد السلام بن عبيد (عن أعرابي قال : خرجت في بعض ليالي الظلمة فإذا أنا بجارية كأنها علم فأردتها على نفسها فقالت ويلك أما لك زاجر من عقل إذا لم يكن لك ناه من دين فقلت لها إيها والله ما يرانا إلا الكواكب قالت فأين مكوكبها( ).
وعن أبي محمد الشيباني قال كان بالبصرة رجل له أكار وكانت له امرأة جميلة حسناء كثيرة اللحم فوقعت في نفسه فركب زبيديته إلى قصره وقال للأكار( ) القط لنا من الرطب وصيره في الدواخل ثم قال له إيت به فلانا وفلانا فذهب به.
فلما مضى قال لامرأته أغلقي باب القصر فأغلقته ثم قال لها أغلقي كل باب ففعلت.
فقال لها هل بقي باب لم تغلقيه قالت نعم باب واحد لم أغلقه قال وأي باب هو قالت الباب الذي بيننا وبين الله عز و جل فبكا ثم قام عرقا وانصرف ولم يواقع الخطيئة( ).
وفي التنزيل [وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ]( ).
لقد أراد الله عز وجل للحياة الدنيا أن تكون روضة بهيجة ، وهو الذي يتجلى من قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )ومن مصاديق الخلافة التعاون بين الناس في العبادة والذكر وإشاعة السلم والأمن ، ونبذ الخصومة والشقاق ، فنزل القرآن مزينا بذكر صفات الله عز وجل وأسمائه الحسنى التي تبين رأفته وسعة رحمته بالناس ، وسخطه على الذي يوقد الحروب والمعارك كما في كفار قريش الذين ما فتئوا يجهزون الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وأثنى الله عز وجل على الذين تحلوا بالصبر وأتخذوه من المعروف الذي يؤمر ويتناجى به ، قال تعالى [ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ] ( ) إن كل صفة لله عز وجل لواء يتغشى أهل الأرض ويبعث رياحين المودة بينهم ، لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يلجأ إلى الصلح،ويسعى إليه لأنه من فيوضات صفات الله عز وجل ، وإذا قيل أن آيات السلم منسوخة فان صفات الله سابقة لخلق الإنسان ، ومصاحبة له في الدنيا والآخرة ، وكل صفة تدعو إلى السلم والوفاء والسلام ، وهو من الشواهد على أن آيات السلم غير منسوخة ، لبقاء أصل موضوع السلم المستقرأ من أسماء الله عز وجل وصفاته .
قانون منافع آيات الأنبياء
الحمد لله الذي جعل ذكره وقاية وعلاجاً في الموضوع المتحد والمتعدد , ويدل عليه عمومات قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
مما يلزم الشكر لله سبحانه على التوفيق لذكره ودعائه ومسألته , الحمد لله الذي هو ربّ وإله كل شئ ، وفي التنزيل [وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ] ( ).
وسع كرسيه وسلطانه وحكمه كل شئ , فليس من شئ إلا وهو حاضر عنده -سبحانه في كل لحظة.
والنسبة بين الذكر والحمد لله هو العموم والخصوص المطلق , فالذكر أعم , والهداية إليهما نعمة عظمى وطريق رشاد , وعندما إحتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن وجوه تقدير الآية :
الأول : إني أعلم ما لا تعلمون ، وستعلمون أهلية الإنسان للخلافة في الأرض من جهات :
الأولى : بعث الأنبياء والرسل من بين الناس , فليس من إنقطاع بين الله عز وجل وبين الناس .
الثانية : توالي الوحي على الأنبياء مدة النبوة , قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ]( ).
الثالثة : إقتران النبوة بالمعجزة فليس من نبي إلا وآتاه الله عز وجل معجزة مفردة أو متعددة , ومن خصائص المعجزة توارث المسلمين والناس لها في كل زمان , وهي ضياء ينير لهم سبل الهداية إلى أن نزل القرآن بتوثيق معجزات شطر من الأنبياء , قال تعالى [وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا]( ).
وبين قصة النبي ومعجزته عموم وخصوص مطلق , فكل قصة نبي تتضمن معجزته والآية التي جاء بها , لذا تسمى معجزات الأنبياء آيات الأنبياء.
والمراد من معجزات الأنبياء أي أعجزوا البشر عن الإتيان بمثلها , ولم يسمها الله عز وجل معجزة لأن نسبة التعجيز إلى غير الأنبياء إنما سماها الله عز وجل آيات فلم يرد لفظ (معجزة) في القرآن.
وسميت الآية منها معجزة وهي الأمر الخارق للعادة ، السالم من المعارضة المقرون بالتحدي , ويختص بالأنبياء وما كان عند الأئمة والأولياء فهو كرامة , إذ أن فضل الله عز وجل على الناس متصل ومتجدد .
وإذا أنعم الله عز وجل على أهل الأرض بنعمة فإنه أكرم من أن يرفعها , والفرق بين المعجزة والكرامة ليس لفظياً , إنما الإختلاف في ذات الماهية والأثر , والكرامة فرع معجزة النبي , فببركة رسالته والعمل بمضامينها تأتي النعم والكرامات ، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
الرابعة : المعجزة النبوية من مصاديق العلة الغائية في قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
الخامسة : معجزة النبي تصديق لنبوته ودعوة للناس للإنصات له .
الثاني : المعجزة النبوية طريق لهداية طائفة من الناس للإيمان لذا يتلو كل مسلم ومسلمة كل يوم قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
الثالث : معجزات الأنبياء دليل على حب الله عز وجل لعباده وتفضله بتقريبهم إلى سبل الطاعة .
الرابع : من معاني [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) تفضل الله عز وجل بالمدد وسبل العون إلى الناس لهدايتهم إلى طرق الهداية .
لذا تفضل الله عز وجل وجعل كل مسلم ومسلمة يتلوان سبع عشرة مرة في اليوم [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
لتشمل صيغة الجمع أعلاه كلاً من :
الأول : ذات المسلم الذي يتلو الآية .
الثاني : جماعة المصلين في صلاة الجماعة , وهو من مصاديق مضاعفة الثواب في صلاة الجماعة.
و(عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الخدري أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ : صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ عَلَى صَلاَةِ الْفَذِّ( ) بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً)( ).
الثالث : ذوو المسلم التالي لسورة الفاتحة وآياتها , إذ أن قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) آية من آيات الفاتحة السبع .
ومن الإعجاز في هذه السورة أنها بيان لسمو وعظمة مقام الربوبية ، وتسليم بالعبودية لله عز وجل , ودعاء من العبد , فقد ينشغل الإنسان بأمور الدنيا وزينتها , ويسعى في حاجاته وحاجات عياله وأسباب كسبه.
فتأتي تلاوته لسورة الفاتحة في خمس صلوات يومية لاستحضار ذكر الله على نحو الوجوب العيني.
عن (أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يقول الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبادي نصفين؛ فإذا قال العبد : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
قال الله : مجّدني عبدي، وإذا قال العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}( ).
قال الله : حمدني عبدي، وإذا قال : {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}( ).
قال : أثنى عليّ عبدي، وإذا قال : {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ( ).
قال الله : فوّض إليّ أمره عبدي ، وإذا قال : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}( ).
قال الله : هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}( ).
قال الله : هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل) ( ).
فجاءت تلاوة سورة الفاتحة واجباً عينياً على كل مسلم ومسلمة لإستدامة الصلة بين العبد وبين الله عز وجل بكلامه سبحانه , وليس بدعاء مخترع .
الرابع : إرادة الحاضر والغائب ، والموجود والمعدوم من ضمير المتكلم (نا) في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
فما أن يولد المسلم إلا ويجد ثروة وكنزاً من الدعاء له بالهداية , إذ يدعو له يومياً أبوه وأمه قبل وبعد ولادته , ومن قبل دعا له جده وجدته وآباؤه وإن علو , قال تعالى [وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا] ( ) إذ رحمهما الله بصلاح جدهما السابع .
إلى جانب دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين , إذ أن المراد من رسالة الأنبياء حفظ كلمة التوحيد في الأرض , وهذا الحفظ من مصاديق الهداية إلى الصراط المستقيم , وهو سبب وطريق إليها من غير أن يلزم الدور بينهما.
ومن منافع آيات الأنبياء وجوه :
الأول : تجلي المصاديق العملية لقدرة الله عز وجل المطلقة , قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
فكل آية في الكون هي من سلطان وقدرة الله عز وجل ، وأراد الله عز وجل أن يرى الناس معجزات حاضرة عندهم خلاف النظام الكوني .
وهل معجزات الأنبياء من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ).
الجواب نعم إذ تكون المعجزات بلحاظ الآية أعلاه على جهات :
الأولى : المعجزات بالآفاق والأكوان .
الثانية : الآيات في الناس وأبدانهم من جهة الصحة والمرض وغيره , وأرزاقهم وعباداتهم , والصلات الإجتماعية بينهم , وفضل الله عز وجل على الناس جميعاً , وغضب الله عز وجل على الذين كفروا ونزول البلاء بهم ، قال تعالى في ذم الكفار [فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ]( ).
وليس من حصر لكل من آيات الآفاق والأنفس وهي متجددة في اليوم والليلة .
الثالثة : وتقدير الآية أعلاه من سورة فصلت وجوه :
أولاً :سنريهم آياتنا في الآفاق بواسطة الأنبياء.
ثانياً : من معجزات الأنبياء ما يتعلق بالآفاق ، ومنه (عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن قال جمعت مع حذيفة بالمدائن فسمعته يقول إن الله تعالى يقول (اقتربت الساعة وانشق القمر) ( ) ألا وان القمر انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وان الساعة اقتربت ألا إن المضمار اليوم والسبق غدا قال فقلت لأبي غدا تجري الخيل ، قال إنك لغافل ، حتى سمعته يقول السابق من سبق إلى الجنة)( ).
أبو عبد الرحمن السلمي الضرير ولد أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم كوفي تابعي ثقة ، درّس القرآن في مسجد الكوفة أربعين سنة من أيام عثمان، قرأ على الإمام علي عليه السلام وقال أبو عبد الرحمن : خرج علينا علي عليه السلام وأنا أقرأ.
وقرأ على عثمان عامة القرآن ، وعن حفص أبو عمر عن عاصم (أنه قرأ على عثمان عامة القرآن، وكان يسأله عن القرآن، فيقول: إنك تشغلني عن أمر الناس، فعليك بزيد بن ثابت، فإنه يجلس للناس، ويتفرغ لهم، ولست أخالفه في شئ من القرآن.
قال: وكنت ألقى علياً ، فأسأله، فيخبرني ويقول: عليك بزيد، فأقبلت على زيد، فقرأت عليه القرآن ثلاث عشرة مرة. والحديث ضعيف سندا لأن فيه حفص وهو حفص بن سليمان الأزدي وهو متروك ، وإن كان من القراء.
ثالثاً : سنريهم آياتنا في أنفسهم بتجلي معجزات الأنبياء وذات الوحي معجزة ، وفي التنزيل [قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
الثاني : من معاني [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) تجلي منافع معجزات الأنبياء في زمانها وبعده , وحتى المعجزة الحسية يبقى أثرها ونفعها .
وجاء القرآن ليعطيها صبغة المعجزة العقلية بتوثيقها فيه , وخلودها في كلام الله عز وجل الذي يتلوه المسلمون كل يوم .
ومن معاني الصراط المستقيم أنه صراط ونهج الأنبياء , ومما أكرم الله عز وجل به الأنبياء تعاهد أجيال المسلمين لسننهم وصبرهم وإستجابتهم لدعوتهم في التوحيد وأحكام وسنن العبادة ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : معجزات الأنبياء لطف من عند الله عز وجل بهم وبالناس جميعاً , إنها وسيلة سماوية لجذب الناس للهداية والإيمان , ولو شاء الله عز وجل لحمل الناس على الهدى طوعاً وقهراً , أو هدى خصوص الذين أراد لهم الإيمان , ولكنه سبحانه شاء أن تكون الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار , وأن الناس فيها بالخيار بين الإيمان والكفر , بين الصلاح والفجور , وهو ليس خياراً بعرض واحد لكل من المتضادين أعلاه .
إنما يكون الإيمان والصلاح هو الأقرب لكل إنسان , ومنه معجزات الأنبياء , وأبى الله عز وجل إلا أن تصل هذه المعجزات إلى البر والفاجر .
الرابع : تمنع معجزات الأنبياء من طغيان الكفر ، وتزجر الناس عن إتباع رؤساء الكفر ، وهل لمعجزات الأنبباء السابقين نفع في صرف الناس عن نصرة كفار قريش في حربهم وقتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء دخول قومه في الإسلام تباعاً ، بينما نزل قوله تعالى في نوح [أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ]( )، فلذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتجنب الدعاء على قومه إنما كان يدعو لهم بالهداية سواء عندما كان في مكة قبل الهجرة ، أو حتى في أكثر حالات إيذائهم له ، يوم معركة أحد.
وعن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟
فقال : كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركوا العرب وافناء الناس في الموسم ، فنزل عليّ جبريل فقال { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس }( ) .
قال : فقمت عند العقبة ، فناديت : يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي ولكم الجنة ، أيها الناس قولوا لا إله إلا الله ، وأنا رسول الله إليكم ، وتنجحوا ولكم الجنة . قال : فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون عليّ بالتراب والحجارة ، ويبصقون في وجهي ويقولون : كذاب صابئ ، فعرض عليّ عارض فقال : يا محمد ، إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك ، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه ( ).
وهل يمكن القول بقانون أن كل آية ومعجزة للنبي دعوة للسلم وبعث لكراهية القتال ، الجواب نعم .
لقد أكرم الله عز وجل الناس جميعاً بمعجزات الأنبياء ومن منافعها في باب السلم وجوه :
الأول : تدبر الناس في آيات الأنبياء الحسية والعقلية .
الثاني : دلالة المعجزات على وجوب عبادة الله .
الثالث : قانون كل معجزة تذكر باليوم الآخر .
الرابع : قانون الناس شرع سواء في معجزات الأنبياء ، فهي لم تتوجه لطائفة دون أخرى ، ومن سعة رحمة الله وإرادة نشر لواء السلم والأمن في الأرض بهذه المعجزات تجليها بحضرة الملوك والطواغيت كما في معجزة عصا موسى عليه السلام بديوان فرعون ، وتكرار رؤيته لتلك المعجزة أكثر من مرة .
(وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : أقبل موسى بأهله فسار بهم نحو مصر حتى أتاها ليلاً ، فتضيف على أمه وهو لا يعرفهم في ليلة كانوا يأكلون منها الطقشيل ، فنزل في جانب الدار ، فجاء هارون ، فلما أبصر ضيفه سأل عنه أمه ، فأخبرته أنه ضيف فدعاه فأكل معه ، فلما قعدا فتحدثا فسأله هارون من أنت؟
قال : أنا موسى . فقام كل واحد منهما إلى صاحبه فاعتنقه ، فلما أن تعارفا قال له موسى : يا هارون انطلق بي إلى فرعون فإن الله قد أرسلنا إليه .
قال هارون : سمعاً وطاعة فقامت أمهما فصاحت وقالت : أنشدكما بالله أن لا تذهبا الى فرعون فيقتلكما ، فأبيا فانطلقا إليه ليلاً ، فأتيا الباب ، فضرباه ، ففزع فرعون وفزع البواب فقال فرعون : من هذا الذي يضرب ببابي هذه الساعة؟
فأشرف عليهما البواب فكلمهما فقال له موسى : { إنا رسول رب العالمين }( ) ففزع البواب ، فأتى فرعون فأخبره فقال : إن ههنا إنساناً مجنوناً يزعم أنه رسول رب العالمين فقال : أدخله ، فدخل فقال : إنه رسول رب العالمين .
{ قال فرعون : وما رب العالمين } قال : { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى }( ) قال : { إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين . فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين }( ) .
والثعبان الذكر من الحيات فاتحة فمها لحيها الأسفل في الأرض والأعلى على سورة القصر ، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه ، فلما رآها ذعر منها ووثب فأحدث ولم يكن يحدث قبل ذلك وصاح : يا موسى خذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل . فأخذها موسى فصارت عصا فقالت السحرة في نجواهم { إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهم }( ) .
فالتقى موسى وأمير السحرة فقال له موسى : أرأيت أن غلبتك غداً أتؤمن بي ، وتشهد أن ما جئت به حق؟ قال الساحر : لآتين غداً بسحر لا يغلبه شيء ، فوالله لئن غلبتني لأؤمنن بك ، ولأشهدن أنك حق؛ وفرعون ينظر إليهما ) ( ) .
وإذا كانت معجزات الأنبياء حسية فان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حسية عقلية ، وكل معجزة هدى ورشاد ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ) .
والنسبة بين الهدى والسلم عموم وخصوص مطلق ، فالسلم فرع الهدى ، وهو من مصاديق الرحمة التي بعث الله عز وجل بها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
وإذا كانت آيات القرآن هدى فيترشح عنها السلم مما يدل على أن موضوعه أعم من آيات السلم ، ليتجلى قانون من جهات :
الأولى : قانون الإسلام سلم .
الثانية : قانون نزول القرآن سلم .
الثالثة : قانون النبوة سلم .
فيكون من المسلمات أن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السلم باقية إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
فان قلت ماذا عن آية السيف [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ]( )والجواب إنها دعوة للسلم أيضاً باستئصال الأمر الجامع للكفر والغزو والتعدي على المدينة يثرب ، وقتل المؤمنين بغير حق ، ثم ما هو الأثر المترتب على آية السيف ، يحتمل الجواب وجوهاً :
الأول :تحديد المهلة والأجل .
الثاني : وضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم السيف في المشركين .
الثالث : دخول المشركين الإسلام .
الرابع : التفصيل منهم من دخل الإسلام ، ومنهم من بقي على كفره، ومنهم من إختار الهرب من مكة وما حولها ، والذي هرب لم يطارده المسلمون مما يدل على الإنحصار المكاني لآية السيف مثلما هي محصورة زماناً .
الخامس : لم ينحصر موضوع آية السيف بالقتل ، ونص الآية هو [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) لتتضمن خيارات متعددة من وجوه :
الأول : قتل المشرك الذي يقيم على الكفر بعد قيام الحجة عليه .
الثاني : أخذ المشرك ليرى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيه الحكم الذي هو فرع الوحي ، وقيل المراد من [وَخُذُوهُمْ] هو الأسر( ) ، ولكنه أخص والنسبة بين الأخذ والأسر عموم وخصوص مطلق ، فالأخذ أخف وأعم لأنه ليس في ميدان المعركة ، ولعل هذا المشرك لم تصله آية براءة [بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
وفي قوله تعالى ( وخذوهم ) وما فيه من التخفيف نكتة وهي بيان قوة وظهور الإسلام في الجزيرة .
ولم يرد لفظ [الأَشْهُرُ الْحُرُمُ] و[فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ]و[وَاحْصُرُوهُمْ] إلا في آية السيف .
وورد لفظ [وَجَدْتُمُوهُمْ]مرتين( ).
مع تكرار لفظ الشهر الحرام في القرآن خمس مرات منها مرتان في آية واحدة بقوله تعالى [الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ]( ).
فهل يدل ورود لفظ [الأَشْهُرُ الْحُرُمُ] مرة واحدة في القرآن إرادة خصوص مدة نزول الآية ، والمقصود هو شهر ذي القعدة وذي الحجة من السنة التاسعة ، وشهر محرم من السنة العاشرة .
الثالث : منع المشركين من التصرف والعبث والتحريض على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وصد الناس عن الهدى والإيمان .
والنسبة بين الحبس والحصر هو العموم والخصوص المطلق ، فالحبس أشد ، وقد أسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سبعين من المشركين في معركة بدر ، ومع أنهم كانوا محاربين في ساحة المعركة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه لم يحبسهم في سجن أو بيت خاص في المدينة ، إنما تركهم فيها ، وأوكل لكل من أسر أسيراً العناية به ، ويدل عليه قوله تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا] ( ) فمن معاني الآية أعلاه أن الأسير من المشركين وقف على باب الإمام علي وفاطمة عليهما السلام .
الآية السادسة عشرة : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
ابتدأت الآية الكريمة بالجملة الفعلية [يسألونك] وتتألف من فعل مضارع وفاعل وهو واو الجماعة ، ومفعول به ، وهو الذي يتوجه إليه السؤال ، ويدل عليه كاف الخطاب.
والمراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وورد لفظ (يسألونك) في القرآن خمس عشرة مرة كلها موجهة للنبي محمد.
ويختص علم النحو والإعراب بذات رسم الكلمات ، أما القائل لها فلا يُذكر فيه ، وإلا فان القائل (يسألونك) هو الله عز وجل ، وهو الذي تفضل وذكر هذه الأسئلة لتتلى في كل يوم وليلته إلى يوم القيامة وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يسألونك يا رسول الله.
الثاني : يسألونك يا محمد.
الثالث : يسألونك لأن الوحي ينزل عليك .
الرابع : يسألونك ولا يسألون غيرك .
الخامس : يسألونك ويتطلعون إلى الجواب من عند الله ، وكذا دأب الناس باللجوء للأنبياء في الملمات ، كما ورد في لجوء بني إسرائيل إلى موسى عليه السلام حينما حدثت واقعة قتل عندهم إذ ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ]( ).
السادس : يسألونك ويتلقون الإجابة بالقبول والرضا.
السابع : يسألونك عن الشهر الحرام.
قانون القسمة الثنائية لأشهر السنة
لقد جعل الله القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ومنه نظام الأيام والأسابيع والأشهر ، وتقدير آية البحث : يسألونك وهم يعلمون بتقسيم الشهور إلى قسمين :
الأول : أشهر حلّ.
الثاني : أشهر حرم.
ويكون احترازهم من غزو الكفار في الأشهر الحل ، ليسألوا هل يجب أن نحترز وندافع في الأشهر الحرم.
ومن الأشهر الحرم شهر رجب ، وكان إذا دخل قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان( ).
وشهر رمضان شهر الصيام لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل الله إجتناب القتال في شهر رجب واستمرار السلامة منه في شهر شعبان ورمضان وهما من الأشهر الحل كي يصوموا شهر رمضان ، وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنما سمي رمضان لأن رمضان يرمض الذنوب .
وأخرج ابن مردويه والأصبهاني عن عائشة قالت : قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا رسول الله ما رمضان؟ قال : ارمض الله فيه ذنوب المؤمنين ، وغفرها لهم . قيل : فشوال؟ قال : شالت فيه ذنوبهم فلم يبق فيه ذنب إلا غفره( ).
لبيان قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يستقبل الشهر الحرام بالدعاء وسؤال البركة في أيامه ، ويتطلع إلى توالي الأيام بالأمن لتكون وعاءً للعبادة ومناسبة للمغفرة.
وفي الآية دليل على الشأن العظيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس ، فقد أيقنوا أنه رسول الله ، وصاروا يرجعون إليه في الأحكام .
وظاهر الآية صدور السؤال من المسلمين ، وهو الوارد في أسباب النزول ولا يتعارض مع سؤال المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لتكون أسباب نزول الآية دليلاً متقدماً زماناً على القول بالنسخ ، وناقضاً له .
فالأصل أن المناقض والناسخ يأتي بعد المنقوض والمنسوخ كما لا يقال بالإستصحاب القهقري ، ولكن من منافع أسباب النزول أنها تنفي النسخ عن مضامين الآية ، إذ يدل السؤال عن القتال في الشهر الحرام عن إرادة فتوى عامة تبقى متجددة في كل زمان .
إن تفضل الله عز جل بتقسيم أشهر السنة إلى أشهر حرم وأشهر حلّ [يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ] ( ) شاهد على سيادة هذا الحكم بين الناس ، ولزوم إجتناب أهل الأرض القتال فيها ، لتكون بذاتها آمنة وهي مقدمة ونوع طريق للسلم والأمن في أشهر السنة الأخرى .
الإجابة القطعية عن حرمة الشهر
حينما سئل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الشهر الحرام والقتال فيه لم يقم بالرد والجواب ، والظاهر أنه ليس عنده جواب لهذه المسألة ، فتفضل الله عز وجل بالإجابة مع التأكيد بالأمر [قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ] إذ يتفضل الله عز وجل فيأمر رسوله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالقول وإعلان الحكم النازل من السماء ليقوله المسلمون والمسلمات كل يوم.
وقيل (قل قتال فيه ” أي في الشهر الحرام ” كبير ” أي ذنب عظيم)( ).
ولكن الصفة تعود للقتال ، نعم هذا القتال محرم وفيه إثم إذا كان ابتداءً وليس دفاعاً عن الحق .
فمن الآيات أن القتال ساقط عن المرأة ولكنها تنطق بالحكم بحرمة القتال في الشهر الحرام بتلاوتها لآية البحث ، وبالبيان والفتوى لتلاوتها لها, لتكون من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
ومع أن السؤال في آية البحث [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ]( )، عن موضوع متحد وهل يصح القتال في الشهر الحرام ، فقد جاء الجواب من عند الله متعدداً ، ويتصف بالبيان والوضوح ، ويجعل المسلمين يرتقون في سلم المعارف الإلهية ، ويواجهون الأحداث والوقائع بالعلم والحنكة والتدبير ، لبيان قانون من فضل الله وهو أن الله عز وجل يجيب عن السؤال بالمتعدد ، ويكشف الحقائق ، ويبين النتائج ، وبما فيه جلب المصالح ودفع المفاسد .
لقد أخبر الله عز وجل عن شهر رمضان والصيام فيه بأنه أيام معدودات , إذ قال [أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ…]( ) للتخفيف عن المؤمنين في فريضة الصيام والإمساك عن الأكل والشرب طيلة أيام الشهر ، وأن كل يوم هو فرد مستقل غير ارتباطي .
فما أن يطل شهر رمضان على الناس برؤية الهلال حتى يدرك المسلم أن أيام الشهر ستنقضي وتمر سريعة ، ويبق الأجر والثواب ، ولكن عندما ذكر الشهر الحرام فانه لم يذكره إلا بصفة الشهر على نحو المجموع الإسغراقي لبيان قانون وهو وجوب تغشي السلم لآنات وأوقات الشهر الحرام كلها .
فكما يستعد المسلمون لشهر رمضان وجواز الإتيان بنية واحدة لصيام الشهر ، وهو المختار( ) .
وكذا لزوم استقبال الناس جميعاً الشهر الحرام بالتقيد بقواعد السلم فيه ، ليكون مناسبة للتفكر في الخلق وبديع صنع الله ، والمعجزات التي جاء بها الأنبياء ، قال تعالى [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا] ( ).
إخبار القرآن عن القتال في الشهر الحرام من الغيب
ومن وجوه الجواب الإلهي في آية البحث الإخبار عن وقوع القتال في الشهر الحرام ، وهو أمر مستقبلي لا يعلمه إلا الله , لبيان قانون وهو كشف علوم من الغيب في القرآن دعوة سماوية للسلم والأمن , وبيان لقانون وهو أن المشركين لا يرقبون له ذمة إذ أنهم لا يجعلون ذمة للنبوة وكلام الله مع مجيئهما بالحق والصدق ، وأن كل واحد منهما نعمة عامة وطريق للعز والطمأنينة في الدنيا والغبطة والسعادة الدائمة في الآخرة ، ليضر المشركون بعزمهم على القتال سواء في الشهر الحل أو الشهر الحرام , قال تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ) . كما يؤذون المسلمين وعامة الناس .
وفي سبب نزول الآية أعلاه قولان (أحدهما : أنها نزلت في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر عند تظاهرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والآخر : أنه نزلت في نفقة المنافقين مع المؤمنين في حرب المشركين على جهة النفاق)( ).
والمختار هو الأول وما هو أعم منه فالمقصود الذين كفروا وبذلهم الأموال في محاربة النبوة والتنزيل ، لذا وردت الآية بصيغة الجمع [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ] ( ) ليكون من إعجاز القرآن قانون : جمع اللفظ القرآني لأفراد الزمان الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل.
ومن وجوه تقدير الآية آية البحث : ولا يزالون يقاتلونكم حتى يقتلوا النبي فيردوكم عن دينكم.
ومن الإعجاز في آية البحث تقييدها بلوغ المشركين لغاياتهم بالإستطاعة لبيان قانون وهو أن الله عز وجل يحول بينهم وبين هذه الإستطاعة .
وهل تبين الآية حلية القتال في الشهر الحرام ، الجواب لا , إنما تبين إصرار المشركين على الغدر والغزو وإضطرار المسلمين للدفاع فقط وليس مطلقاً ، وهو من إعجاز القرآن من جهات :
الأولى : دلالة ذات سؤال المسلمين عن القتال في الشهر الحرام ، وتقدير الآية : يا رسول الله اننا نعلم أنه ليس من قتال في الشهر الحرام ولكن المشركين يصرون على غزونا وقتالنا في هذا الشهر فهل ندافع فيه ، أم نبقى مكتوفي الأيدي .
فجاء الجواب بالإذن بالدفاع وصرف أذى المشركين وهو أمر عقلي وشرعي ، ليكون من وجوه تقدير الآية : قل قتال فيه كيلا يقع قتال ، فحينما يأمر الله عز وجل بالإجابة فانه سبحانه يعطي حكماً عاماً مستديماً إلا ماخرج بالدليل كما لو جاء بذات الأمر (قل) استثناء أو تخصيص .
الثانية : عطف الصد عن سبيل الله على الإذن بالقتال في الشهر الحرام مما يدل على أن الأصل في الشهر الحرام إباحة الحج والعمرة للناس جميعاً ، ولكن المشركين لم يكتفوا بمحاربة وغزو المسلمين في المدينة إنما منعوهم من الحج والعمرة وهو خلاف واجبات ولاية البيت الحرام ، وهل من موضوعية لآية البحث في الإخبار السماوي عن عدم أهلية المشركين لولاية البيت , الجواب نعم فمن لوازم هذه الولاية الإقرار بالتوحيد , وتعاهد حنيفية إبراهيم , والإمتناع عن الظلم والتعدي .
الثالثة : دلالة سؤال المسلمين على دهشتهم وإنكارهم لقيام المشركين بالقتال في الشهر الحرام ، وتهديدهم بالقتال فيه.
قانون الشرك غيّ
إذ كان المشركون من قريش والقبائل الموالية لها يتمادون في الغي ، فحتى إذا لم يغيروا على المدينة فانهم يواصلون التهديد في الأشهر الحرم ، وكأنهم مثل الذين كانوا يحجزون الأسماك في اليوم المحرم عليهم صيدها ليصيدوها في اليوم التالي ، قال تعالى [وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ]( ).
لقد كان الصحابة يرجون الأمن من أذى المشركين في الأشهر الحرم ، وتخفيف المرابطة حول المدينة عنهم ، وحفظ زروعهم وأنعامهم فيها ، بأن لا يأتي المشركون ليحرقوا الزروع ويسوقوا الأنعام التى ترعى حول المدينة، ولكن وسائل التهديد تصل من المشركين بالإغارة على المدينة وسروحها ، فسأل الصحابة النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
هل ينجز المشركون تهديدهم بالهجوم في الشهر الحرام ، فجاء الجواب من عند الله بنعم فقد يقوم المشركون بالإغارة عليكم ، ومن معاني قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ]( )(أحذروا عدوكم)( ).
لقد إبتدأت آية البحث بسؤال المسلمين عن الشهر الحرام ، وهو لا يتعارض مع صدور ذات السؤال من المشركين كما ورد في أسباب النزول، مع التباين في الموضوع والقصد ، فسؤال المسلمين لأمور :
الأول : التفقه في الدين .
الثاني : التسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إدراك قانون وهو لزوم أخذ الأحكام الشرعية من آيات التنزيل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ورشحات الوحي .
الرابع : الإقرار بأن شهور السنة على قسمين :
أولاً : الأشهر الحل .
ثانياً : الأشهر الحرم .
الخامس : معرفة المسلمين وعامة العرب للأشهر الحرم ، ولزوم الكف عن القتال فيها ، فأراد المسلمون التأكد من مسألة وهي هل تستمر حرمة هذه الأشهر أم أنها تنقطع أم تكون خاصة على نحو الموجبة الجزئية .
السادس : لقد طرأت مسألة النسئ على الأشهر الحرم ، وصار العرب يبدلون أوقاتها مع حرصهم على أن تكون بذات المدة وهي أربعة أشهر ، كجعل شهر صفر هو الشهر الحرام مع المناداة في الموسم بأن شهر محرم في تلك السنة شهر حلّ يجوز القتال فيه ، تبعاً لرغبة القبائل ، وقد تكون قبيلتان في صراع وقتال متصل أو منقطع ، فيسألان القلمس الذي يتولى النسئ بمدّ الشهر الحل أو الشهر الحرام أو تبديل وقت الشهر الحرام بما يناسب حالهما للقتال أو تقدم أحدى القبيلتين أو الطرفين هذه المسألة له ، فيرى رأيه فيه .
ليتضمن سؤال المسلمين [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ] ( ) إستقراء حكم الشريعة في النسئ .
فجاء الجواب من عند الله [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ) والذي يدل في مفهومه على الثناء على المسلمين .
وهل يُحتمل أن السؤال عن الشهر الحرام أعم من موضوع القتال ، الجواب نعم ، منها تعيين وحصر الأشهر الحرم ومنع النسىء والتلاعب فيها .
قانون خصائص آية البحث
تتصف آية البحث بقانون وهو قلة كلمات السؤال وإنحصار موضوعه ، وكثرة كلمات الجواب الإلهي وتعدد وتفرع موضوعه .
وهو من إعجاز القرآن الذاتي ، وبيان مصداق للطف الإلهي بالمسلمين والناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) باستجابة الله عز وجل لأسئلة المسلمين والناس الموجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والبيان والتفصيل فيها ، ليكون من غاياته :
الأولى : تثبيت المسلمين في مقامات الإيمان .
الثانية : إنحسار النفاق ، وكبت أهله ، قال تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] ( ) ويدل قوله تعالى [أَوْ ادْفَعُوا] على إرادة الدفاع والذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام والنفوس والأعراض والأموال .
الثالثة : ترغيب الناس جميعاً بأمور :
الأول : التوجه بالسؤال إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدين والدنيا ، ومن خصائص السؤال عن الشهر الحرام أنه جامع لهما معاً .
الثاني : التطلع للجواب عن السؤال بآية قرآنية نازلة من السماء ، وبخصوص الساعة وأوان قيام يوم القيامة ورد قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا] ( ) أي أنهم يظنون أنك تعلمها بينما هي من علم الغيب الذي اختصه الله عز وجل لنفسه .
ولو طرحنا مسألة وهي أيهما أكثر :
أولاً :علم الغيب الذي أخبر الله به الأنبياء والرسل .
ثانياً : علم الغيب الذي اختص الله عز وجل به نفسه.
المختار هو الثاني ، وهو من مصاديق الربوبية المطلقة لله عز وجل .
وهل يمكن القول بأن في القرآن من علوم الغيب ودلائله مما لا يعلمه إلا الله خاصة ، وأنه سبحانه قال [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) المختار نعم ، ومن كل شئ الذي يذكره القرآن مصاديق إحاطة الله عز وجل بعلوم الغيب التي لا تنحصر بعالم الدنيا ، قال تعالى [وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
الثالث : دلالة الإجابة من عند الله على إكرام السائل وعامة المسلمين، لذا قد يرد السؤال من شخص واحد ويتكرر من غيره ، لتخبر الآية عن السؤال بصيغة الجمع [يسألونك] .
وهل يدل هذا المعنى على استعمال صيغة الجمع في القرآن لغير الله ، الجواب لا ، خاصة وأن المدار على عموم المعنى وليس على سبب النزول ، وقد يرد الخبر في أسباب النزول عن توجه أحد المسلمين أو اليهود بالسؤال إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فينزل الجواب من عند الله إلا أنه يجوز أن يكون السؤال قد تكرر من أكثر من سائل .
وقد يجتمع التضاد في السؤال ، فيصدر من :
أولاً: المؤمن .
ثانياً: الكتابي .
ثالثاً : المنافق .
رابعاً : الكافر .
النسبة بين ( يسألونك )وبين ( يستفتونك )
ورد السؤال [َيَسْتَفْتُونَكَ] في القرآن مرتين , وكلاهما في سورة النساء ، وهما :
الأولى : قال تعالى [وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا] ( ).
الثانية : قال تعالى [يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
ترى ما هي النسبة بين [يَسْأَلُونَكَ] و[يَسْتَفْتُونَكَ] الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، وكل فرد منهما يدل على الآخر ويشير إليه , فيسألونك أعم من جهة السائل والموضوع ، لذا تكرر خمس عشرة مرة .
والإستفتاء خاص بأحكام الشريعة ، إذ ورد بخصوص النكاح , وأحكام الأسرة والميراث .
ومن الإعجاز في نسبة الإفتاء إلى الله عز وجل في الآيتين مسائل :
الأولى : الفتيا هي بيان المبهم ، وأهل المدينة يقولون (وأفْتَى الفَقِيْهُ يُفْتي إفْتَاءً: إذا بَيَّنَ المُبْهَمَ، وهي الفُتْيَا؛ وفي لُغَةٍ: الفَتْوَى. وفَتَوْتُ القَوْمَ أفْتُوْهُم: أي غَلَبْتهم بالفُتُوَّةِ.) ( ).
وتجمع على الفتاوى والفتاوي .
الثانية : بيان موضوعية الفتوى في الحياة العامة للمسلمين والناس جميعاً ، فكذا تفضل الله عز وجل بالإفتاء .
الثالثة : من الفتوى ما تجمع الناس ، ومنها ما تكون سبباً للفرقة والخلاف ، فأراد الله عز وجل للناس الأمن والسلم ، فتفضل بتأسيس الفتوى على مبادئ الحق والعدل .
الرابعة : بيان قانون وهو لزوم رجوع الصحابة والفقهاء إلى الكتاب والسنة في الفتوى ، وعدم الإجتهاد في مقابل النص .
(عن طاوس : أن عمر أمر حفصة أن تسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلالة ، فسألته ، فأملاها عليها في كتف ، وقال : من أمرك بهذا ، أعمر .
ما أراه يقيمها ، أو ما تكفيه آية الصيف؟
قال سفيان : وآية الصيف التي في النساء { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة }( ) فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزلت الآية التي في خاتمة النساء) ( ).
مما يدل على أن السؤال يأتي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل بيته فيجيبهم بالآية القرآنية , والفتوى كتابة وتدويناً ، وهو يملي عليهم وهم يكتبون ، لينقلوه إلى غيرهم أيام حياته , وبعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى , وكان عند حفصة نسخة قرآن خاصة بها .
الخامسة : وجوب تعاهد المسلمين للأحكام الشرعية ، وأسمى مراتب هذا التعاهد هو التنزيل لسلامته من التحريف , والتبديل إلى يوم القيامة .
السادسة : من خصائص الفتوى وفق أحكام الشريعة إمتلاء النفوس بالرضا ، وإمتناع السخط عن الدبيب للسان والجوارح ، وفيه شاهد على أن الفتوى طريق السلم والسلام .
ترى لماذا لم تقل الآية : يسألونك عن القتال في الشهر الحرام ، الجواب إرادة التعدد في السؤال ، فهو مركب ، وتقدير الآية على وجهين :
الأول : يسألونك عن الشهر الحرام .
الثاني : يسألونك عن القتال في الشهر الحرام ، وهو من إعجاز القرآن في حمل الكلمة فيه لعدة معان ، فان قلت هل جاء الجواب من الله بخصوص القتال في الشهر الحرام ، الجواب لا ، إذ تدل الآية على تعدد معاني ووجوه الإجابة ، وحتى الضمير الهاء في قوله تعالى [قُلْ قِتَالٌ فِيهِ] ( ) يدل على الإجابة على الوجه الأول أعلاه.
ومن معانيه إمضاء تقسيم أيام السنة إلى الأشهر الحل والأشهر الحرم في كل الأحوال ، وتصديق السنة النبوية لآيات القرآن , وقوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ…] ( ).
قانون عدم التعارض بين آيات الدفاع وإرادة السلم المستديم
يدل مجموع السؤال والجواب بقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ] ( ) على أن المراد اضطرار المسلمين للدفاع ، وجاء الجواب من عند الله عز وجل على وجوه :
الأول : فعل الأمر [قل] فلابد أن يبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين احتمال ورجحان وقوع القتال في الشهر الحرام ، فيجب أن لا يتردد في هذا البيان لخشية ملل وسأم طائفة من المسلمين أو ارتدادهم لوقوع القتال في الشهر الحرام.
وهل الخطاب في آية البحث (قل) خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أن الأمة تلحق به ، الجواب هو الثاني ، فيصح تقدير الآية (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قولوا قتال فيه ..).
وهو من إعجاز القرآن إذ أن قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ] خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , أما الجواب من عند الله فهو مباح للعلماء والفقهاء والأمراء .
ولو جاء نفر من المسلمين وسألوا فقيهاً عن القتال في الشهر الحرام فهل يصدق عليه أن لفظ (يسألونك) شامل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء والفقهاء من بعده ، الجواب لا ، إنما هو من عمومات قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( )، ومن الخطابات الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ) .
وهل تدل الآية أعلاه على عدم نسخ آيات السلم والمهادنة والصفح ، الجواب نعم ، لأن الناس كافة يتلقون دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخطابات التوحيد والإيمان والبشارة والإنذار الواردة في القرآن الكريم بعرض واحد ، ويهدي الله من يشاء ، فان قلت هل يدل الأمر بوجوب الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوارد في خاتمة الآية أعلاه على تخصيص متعلق السلم من جهة الأفراد والطوائف ، الجواب لا، وتمام الآية هو [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
فمن الإعجاز في أحكام الأشهر الحرم منع طغيان الكآبة على الناس ذكوراً وأناثاً إذا كانت أيام السنة كلها حروباً وقتالاً.
الثاني : الإخبار من الله عز وجل عن وقوع القتال في الشهر الحرام لبيان قانون وهو أن الكفار لا يتورعون عن هتك حرمة الشهر الحرام ، إذ أنهم جحدوا بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، وهي أم الكبائر ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا] ( ) ومن معاني [وَكُفْرٌ بِهِ] في آية البحث : الكفر بالله .
الثالث : اتصاف القتال في الشهر الحرام بأنه كبير ، وفيه تحذير للمسلمين وإنذار للمشركين .
ليكون من علم الغيب أمران :
أولاً : تأكيد وقوع القتال في الشهر الحرام.
ثانياً : صفة القتال بين المسلمين والمشركين بأنه كبير ، مما يدل على شدته.
وهل تحتمل الآية إرادة القتال بين طوائف وفرق ودول المسلمين كما حدث منه مصداق في هذا الزمان ، الجواب لا ، فالقدر المتيقن من الآية بلحاظ موضوع السؤال هو القتال بين المسلمين والكفار وإرادة طرد الغفلة عن المسلمين ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
ولم يرد لفظ (الغافلون) أو (الغافلين) أو بصيغة الفرد (الغافل) إلا مرتين بصيغة الجمع والجر , إحداهما الآية أعلاه ، والأخرى قوله تعالى [وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
وكل منهما خطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم للبعث على أداء الصلاة والفرائض العبادية.
وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ في ليلة مائة آية لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائتي آية بعث من القانتين ، ومن قرأ خمسمائة آية إلى ألف آية أصبح له قنطار من الأجر ، والقنطار مثل التل العظيم ( ).
وهل ذكر التل العظيم أعلاه من أوزان القنطار ، ومنها أنه ألف دينار ، أو اثنا عشر الف أوقيه ، وألف ومائتان دينار ونحوها ، المختار لا ، إنما المراد في الحديث أعلاه هو القنطار الأخروي ، وهو أضعاف الدنيوي ، وهذا التباين في القنطار الذي يتجلى في الحديث النبوي أعلاه من الإعجاز في السنة النبوية.
الرابع : قيام المشركين بالصدّ عن سبيل الله من جهات :
الأولى : إصرار رجالات قريش عل الإقامة على الكفر والضلالة .
الثانية : إتخاذ المشركين ولايتهم على البيت الحرام لتحريض الناس على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : تشويه الدين ، وتحريف الحنيفية الإبراهيمية ، قال تعالى [وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ] ( ) .
الرابعة : قيام المشركين بالإنفاق في الصد عن سبيل الله من وجوه :
أولاً : تجهيز المشركين الجيوش التي تحارب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسلاح والخيل والمؤن .
ثانياً : البذل لرؤساء القبائل لإحراز تأييدها لقريش ، ولمنع الأفراد من دخول الإسلام ، وهل نفعهم هذا الإنفاق ، الجواب لا ، إذ أنه لم يحل بين الإسلام ودخول الناس به .
وهو من أسرار توجه خطابات القرآن إلى المكلفين على نحو مباشر من غير واسطة أحد من الرؤساء أو الملوك ، ليكون من رشحاته رؤية السيد والعبد جنباً إلى جنب في الصلاة اليومية ، وكذا الجد والأب والإبن .
ثالثاً : استئجار قريش المقاتلين لغزو المدينة ، كما في معركة أحد إذ استأجر ابو سفيان ألفي رجل وهم من مجموع ثلاثة آلاف زحفوا حتى وصلوا إلى مشارف المدينة ، فخرج لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بألف من أصحابه ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) ثم انخزل ثلاثمائة منهم برئاسة رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول راجعين إلى المدينة ، ليبقى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعمائة فقط .
وهل هذا الرجوع من الصد عن سبيل الله ، الجواب نعم ، فصحيح أن الآية أخبرت عن صدّ المشركين عن سبيل الله إلا أن اثبات شئ لشئ لا يمنع من حصوله عند غيره .
فكما يصد المشركون عن سبيل الله كذلك الذين نافقوا فانهم يصدون عن الذكر والبراهين التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال تعالى في ذم المنافقين [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ] ( ).
رابعاً : تسخير قريش ما لها من جاه عند العرب لصد الناس عن الإسلام .
خامساً : مدّ قريش القبائل الموالية لها للهجوم والإغارة على المدينة .
سادساً : قيام قريش بانتقاء أشرار وبعثهم لإغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ، كما في بعث صفوان بن أمية لعمير بن وهب الجمحي ، وتعهد صفوان له بوفاء ديونه ، وضم عياله إلى أسرته خصوصاً وأنه ابن عمه ، وصفوان من رؤساء قومه ، وقد قتل أبوه أمية بن خلف وأخوه علي في معركة بدر .
قانون ابتداء المشركين بالقتال
تدل آية البحث على قانون وهو أن المشركين هم الذين كانوا يبدأون القتال ، وفيه حجة عليهم , إذ أن الشرك باعث على التعدي , فيسأل المسلمون يسألون على نحو الإستفهام الإنكاري عن حدوث القتال في الشهر الحرام ، للتسالم على لزوم تعاهد العرب لحرمة الشهر الحرام ، والأصل الإستصحاب .
فكما يحافظ العرب على الكف والإمتناع عن القتال في الشهر الحرام فيما بينهم كقبائل وعشائر وأفخاذ وجماعات وأفراد فانهم لابد وأن يتقيدوا بحرمة الأشهر الحرم في قتالهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي ليس له عداوة أو ثأر معهم ، إنما بعثه الله عز وجل من أوسطهم ، وأرفعهم نسباً ، للإنصات والإستجابة له.
ومن القول الشائع (الأقربون أولى بالمعروف) وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم ، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : إني من نكاح ولست من سفاح( ).
وهل يدل عطف قوله تعالى [وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ]( )، على القتال في الشهر الحرام على أن المراد من القتال الكير فيه هو تعدي وغزو المشركين ، الجواب نعم .
وتقدير الآية : قل قتال فيه كبير بابتداء وهجوم المشركين ، مع صدّهم عن سبيل الله .
لقد تفضل الله عز وجل بالإجابة على سؤال المسلمين عن القتال في الشهر الحرام بما هو أعم من القتال بأن المشركين يقومون فيه بالصد عن سبيل الله .
وفيه شاهد بأن الآية غير منسوخة لتوالي اعتداء الكفار وسعيهم للإغارة على المدينة .
الخامس : إخبار آية البحث عن كفر المشركين بالله , وجحودهم بنعمة البيت الحرام .
وسيبقى وجود البيت الحرام ومناسك الحج دعوة للسلم ومحل للأمن، ليكون من معاني قوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ] ( )على وجوه :
الأول : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت لتثبيت أحكام الأشهر الحرم التي جعلها الله عز وجل قانوناً في الأرض من حين خلقها وبسطها .
الثاني : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت لنشر لواء السلم والأمن في الأرض .
الثالث : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت لزجر الناس عن القتال في الشهر الحرام .
الرابع : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت حباً من الله بالعباد .
الخامس : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت شهادة متقدمة زماناً على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومقدمة لها .
السادس : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت ترغيباً للناس بالإسلام، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : (بعثت بالحنيفية السمحة) ( ) .
السابع : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت للحج ودعوة الناس للصلح والوئام في البيت الحرام , قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
الثامن : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت لنهي الناس عن الغزو والنهب ، إذ يلتقون في الحج كل عام ويقع التلاوم , والتفاوض والشفاعة والمشي بين الأطراف المتنازعة , وهل يدل قوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) .
على عدم نسخ آيات السلم .
لقد تفضل الله عز وجل وجعل الحياة الدنيا دار خلافة للإنسان وبسط له فيها الرزق ، ومن مصاديق هذا الرزق السلم والأمن ، فلا يستطيع الذين كفروا حجب هذا الرزق عن الناس ، وإن سعوا في الحرب والإبتداء بمحاربة النبوة والتنزيل ، فان الله عز وجل يبطش بهم ، وقد أنذرهم الله عز وجل ، قال سبحانه [وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ] ( ).
قانون القتال كبير
ومن إعجاز القرآن دلالة وصف القتال بأنه كبير على أن المراد ليس قتل المسلمين لأحد المشركين في وقعة نخلة وهو عمرو بن الحضرمي ، وقد يكون من أسباب النزول ، لذا ورد عن ابن عباس أنه (قال : إن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وردوه عن المسجد الحرام في شهر حرام ، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل.
فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القتال في شهر حرام ، فقال الله [قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ]( )، من القتال فيه ، وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية ، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى وأول ليلة من رجب ، وأن أصحاب محمد كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى ، وكانت أول رجب ولم يشعروا ، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه ، وأن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك، فقال الله { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } وغيره أكبر منه { وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام }( ) وإخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر من الذي أصاب أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والشرك أشد منه) ( ).
ولم يقتل عمرو بن الحضرمي في قتال والتقاء جمعين كما وصف الله معركة بدر بقوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) ومعركة أحد بذات القول [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، مما يدل على أن موضوع الآية أعم من سبب النزول هذا.
ترى ما هي مصاديق صفة [كبير] للقتال في الشهر الحرام ، فيه مسائل:
الأولى : التقاء الجيوش وحدوث القتال بينها .
الثانية: الإصرار على استمرار القتال .
الثالثة : تعدد القتال في الشهر الحرام .
الرابعة : دفاع المسلمين عن المدينة وسروحها لرجحان قيام المشركين بالغزو في الشهر الحرام ، لتكون آية البحث زاجراً لهم ، فهي من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
الخامسة : تكرار القتال في نفس الشهر الحرام ، أو فيه وفي شهر حرام آخر .
السادسة : صدّ المشركين عن سبيل الله ، وتتعدد مصاديق هذا الصد , ومنه سعي رؤساء الكفار لصرف الناس عن دخول الإسلام ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وظهور رسالته على مفاهيم الكفر أن هذا الصد مصاحب للدعوة النبوية من أيامها الأولى ، حتى في البيت الحرام والأشهر الحرم .
لقد كان المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام ، فما أن بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة حتى صار يدعو للتصديق بنبوته ، ولكن على نحو القضية الشخصية وبالخفاء من غير الجهر والإعلان أمام الملأ ، ففي بدايات النبوة لم يخطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الملأ بالرسالة والتنزيل ، فآمنت به من اليوم الأول زوجته خديجة بنت خويلد ، وفي اليوم الثاني آمن بنبوته الإمام علي عليه السلام ، وتوالى دخول الصحابة على نحو الأفراد رجالاً ونساءً ، أفراداً أحراراً وعبيداً.
ولجأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الثالثة للدعوة إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم ، وهو على جبل الصفا ، وصار يلتقي بأصحابه هناك ، ويتلو عليهم القرآن ، ويعلمهم كيفية الصلاة ، وأحكام الشريعة ، ومسائل الحلال والحرام .
حتى إذا بلغ عددهم أربعين رجلاً خرجوا من دار الأرقم يجهرون بالإسلام ويدعون إلى الله عز وجل بالحكمة واللطف والمودة وكل فرد منها لواء في السلم , ودعوة إلى تثبيت السلام في الأرض.
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن نفراً من الرجال بحوار البيت يغيرون مجرى التأريخ إلى يوم القيامة ومن غير أن تكون عندهم وسائل إعلام وتنقل سريعة فقاموا بنقل الناس من مواقع الحرب والقتال في الأشهر الحل والحرم ، إلى الأمن والسلام طيلة أيام السنة ، ولتعيش الأسر والعوائل بسلامة وأمن ، لأنهم اتخذوا من القرآن إماماً ومنهاجاً ، فهذا الإنتقال بفضل ورحمة من عند الله ، وبحضور كتابه بين الناس.
وهل قوله تعالى [قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ] دعوة للرفق والوفاق ، وشاهد على أن آيات السلم غير منسوخة ، الجواب نعم ، وذات حضور القرآن بين الناس رحمة عامة لذا ترى كل سورة تبدأ بقوله تعالى [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ] ولمنع التأويل بالحث على القتال ، ورد قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، لبيان حرمة الإرهاب والتفجيرات ، وإخافة الناس والطرق ، والإضرار بالأملاك العامة والخاصة للمسلمين وأهل الكتاب وعامة الناس , قال تعالى [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
قانون مكث النبي (ص ) في مكة جهاد وسلم
يمكن تقسيم مدة مكث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة بعد البعثة إلى أقسام :
الأول : الدعوة الشخصية بأن يلتقي بالأفراد الذين يظن ويحتمل منهم الإجابة ، وستمرت هذه المدة ثلاث سنوات .
الثاني : الدعوة العلنية الخاصة ، واتصفت هذه الدعوة بأمور :
أولا : جهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة القرآن .
ثانيا : صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام بمرأى ومسمع من رجالات قريش .
ثالثا : مضاعفة عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه على الأفراد , والقيام بزيارتهم لغرض هدايتهم .
الثالث : الدعوة العلنية العامة , وفيها مسائل :
الأولى : عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه على الجماعات والقبائل في الموسم.
الثانية : جهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بآيات القرآن .
الثالثة : قيام الصحابة بالدعوة إلى الله على نحو علني .
الرابع : خروج الصحابة إلى ضواحي مكة لتدارس القرآن وإقامة الصلاة ، وهو من الشواهد على تقيدهم بصبغة السلم التي يتصف بها الإسلام .
واستمرت هذه المدة عشر سنوات ، وابتدأت بعد خروج المسلمين وعددهم أربعون من دار الأرقم بن أبي الأرقم ، وأختتمت بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وإمتناعهم عن ملاقاة قريش .
الخامس : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكبار رجالات قريش للإسلام .
السادس :صيرورة القرآن مادة الحديث في المجالس والمنتديات ، ومن يأتي إلى مكة معتمراً أو حاجاً يأخذ لأهله تحفة وهدية آيات يحفظها من القرآن .
وهذا الحفظ العرضي لآيات القرآن من قبل غير المسلم من إعجاز القرآن الغيري لقانون سهولة حفظ آيات القرآن ، ومن وجوه التسهيل في المقام إتصاف الآيات المكية بالقصر ، وكذا ذات السور التي تتضمن هذه الآيات ، لتكون الكلمة الواحدة بشارة أو إنذاراً .
فأقصر سور القرآن سورة [إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ] ( ) إذ تتضمن السورة البشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإنذار لأعدائه ، ويشمل الإنذار أحوالهم في الدنيا والآخرة .
(قال ابن عباس : نزلت هذه السورة في العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج من المسجد وهو يدخل فالتقيا عند باب بني سهم وتحدّثا وأناس من صناديد قريش في المسجد جلوس .
فلما دخل العاص قالوا له : من الذي كنت تحدث؟
قال : ذاك الأبتر .
يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وكان قد توفى قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان من خديجة .
وكانوا يسمّون من ليس له ابن أبتر .
فسمّته قريش عند موت إبنه أبتر وصنبوراً فأنزل الله سبحانه {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ})( ).
السابع : قيام النبي بالطواف على القبائل في منازلهم في أيام الحج ، إذ أنه يقع في الأشهر الحرم ، ويذهب إلى سوق عكاظ ومجنة وذي المجاز يدعو الناس إلى الإسلام .
لقد أدرك أهل السوق أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخله للبيع والشراء مثلهم ، إنما يدعو إلى الإسلام ، وعندما اشتد أذى قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتناجوا في حبسه أو قتله أو إخراجه طريداً من مكة والحرم ، صار النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل القبائل إيواءه في قراهم ومدنهم للعزوف عن بطش قريش ، وهو من مصاديق آية البحث [وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] ( ).
ولكن القبائل كانت تخشى قريشاً ، وتود استدامة حسن الصلة معها ، مع أنه ليس من نوال ومنافع ، فقريش أهل تجارة ، ويشق على التاجر الإنفاق والبذل ، فجاء الإسلام وقهر هذا الحرص بمقدار الزكاة والخمس ، كما رغّب في الصدقة ومطلق الإنفاق في سبيل الله ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ).
لقد كانت لقريش هيبة عند القبائل ، وتترشح هذه الهيبة عن أمور :
الأول :جوار البيت الحرام .
الثاني : قريش من ذرية إبراهيم عليه السلام .
الثالث : إستحواذ قريش على التجارة بين الشام ومكة ، ومكة واليمن، ومكة والمدينة .
الرابع : كثرة أموال قريش ، واستعدادهم لإقراض الناس ، وإن كان هذا الإقراض في غالبه ربوياً .
وقد يذكر في باب نزول الآيات صدور السؤال من المتعدد ، فمثلاً عن ابن عباس في قوله {يسألونك عن الأهلة}( ) قال : نزلت في معاذ بن جبل ، وثعلبة بن غنمة ، وهما رجلان من الأنصار قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقاً مثل الخيط ، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس} في محل دينهم، ولصومهم ، ولفطرهم ، وعدة نسائهم ، والشروط التي تنتهي إلى أجل معلوم( ).
وروى ابو ميسرة في الميسر ( عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال : في قوله {وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ}( ) الآية، قال : هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة ، يسبح الله عزّ وجلّ بتلك اللغات كلها ، يخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.
وعن ابن عبّاس : الروح خلق من خلق الله صورهم على صور بني آدم ، وما نزل من السماء ملك إلاّ ومعه واحد من الروح)( ).
وقد يتفق نفر من المسلمين على سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيبعثون أحدهم بالسؤال فيصدق عليه أن السائلين جماعة ، وعن عبد اللّه بن أنيس عن أبيه قال : كنت في مجلس من بني سلمة وأنا أصغرهم فقالوا : من يسأل لنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن ليلة القدر ، وذلك صبيحة إحدى وعشرين من رمضان .
قال : فخرجت فوافيت مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم صلاة المغرب ثم نمت بباب بيته فمرّ بي فقال : ادخل فدخلت فأُتيَ بعشائه فرأيتني أكفّ عنه من قلته ، فلمّا فرغ قال : ناولني نعلي فقام وقمت معه فقال : كان لك حاجة.
فقلت : أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر فقال: كم الليلة ، فقلت : اثنان وعشرون.
فقال : هي الليلة ، ثم رجع فقال : أو الثالثة يُريد ليلة ثلاث وعشرين( ).
وعبد الله بن أنيس الجهني صحابي حليف الأنصار روى عنه أبو أمامة ، وجابر بن عبد الله ، وبعض التابعين كما ورى عنه (بنوة:عطية ، وعمرو، وضمرة، وعبد الله)( ).
وبالرجوع إلى اسم القانون محل البحث (مكث النبي (ص) في مكة جهاد وسلم) فان جهاد النبي هو الصبر والتحمل وعدم ملاقاة أذى قريش بمثله.
وسيأتي قانون آيات (اصبر) سلام .
ومن هذا الآيات :
الأولى : قوله تعالى [وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ]( ).
السادسة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا]( ).
السابعة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ]( ).
الثامنة : قوله تعالى [اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ]( ).
التاسعة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ]( ).
العاشرة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ]( ).
الحادية عشرة : قوله تعالى [وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا]( ).
الثانية عشرة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( ).
الثالثة عشرة : قوله تعالى [وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً]( ).
الرابعة عشرة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا]( ).
أسباب النزول
ذكر في أسباب نزول آية البحث وجوه :
الأول : ورد عن الصحابي جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنه بعث رهطاً وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح ، أو عبيدة بن الحرث ، فلما ذهب لينطلق بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجلس وبعث مكانه عبد الله بن جحش ، وكتب له كتاباً وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا.
وقال : لا تكرهن أحداً على السير معك من أصحابك ، فلما قرأ الكتاب استرجع وقال : سمعاً وطاعة لله ولرسوله ، فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب ، فرجع رجلان ومضى بقيتهم ، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو جمادى ، فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام ، فأنزل الله { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه…}( ) الآية .
فقال بعضهم إن لم يكونوا أصابوا وزراً فليس لهم أجر ، فأنزل اللهإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
الثاني : ذكر أن (واقد بن عبد الله ابن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم كان حليفاً للخطاب بن نفيل أسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم وآخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين بشر ابن البراء بن معرور وهو الذي قتل عمرو بن الحضرمي في أول يوم من رجب .
وكان واقد التميمي مع عبد الله بن جحش حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى نخلة فلقي عمرو بن الحضرمي خارجاً نحو العراق فقتله واقد التميمي .
فبعث المشركون أهل مكة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنكم تعظمون الشهر الحرام وتزعمون أن القتال فيه لا يصلح فما بال صاحبكم قتل صاحبنا؟
فأنزل الله عز وجل: [يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه] ( ).
واقد هذا أول قاتل من المسلمين وعمرو بن الحضرمي أول قتيل من المشركين في الإسلام وشهد واقد بن عبد الله بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
الثالث : عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث صفوان ابن بيضاء في سرية عبد الله بن جحش قبل الأبواء ، فغنموا وفيهم نزلت [يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه…]( ).
الرابع : ذكر المهدوي أن سبب هذه الآية أن عمرو بن أمية الضمري قتل رجلين من بني كلاب في رجب فنزلت ، وهذا تخليط من المهدوي ، وصاحبا عمرو كان عندهما عهد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان عمرو قد أفلت من قصة بئر معونة ، وذكر الصاحب بن عباد في رسالته المعروفة بالأسدية أن عبد الله بن جحش سمي أمير المؤمنين في ذلك الوقت ، لكونه مؤمراً على جماعة من المؤمنين( ).
الخامس : أخرج ابن جرير من طريق السدي : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية وكانوا سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي ، وفيهم عمار بن ياسر ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل ، أو سهيل بن بيضاء ، وعامر بن فهيرة ، وواقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب.
وكتب مع ابن جحش كتاباً وأمره أن لا يقرأه حتى ينزل ملل ، فلما نزل ببطن ملل فتح الكتاب ، فإذا فيه أن سر حتى تنزل بطن نخلة.
قال لأصحابه : من كان يريد الموت فليمض وليوص فإني موص وماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فسار وتخلف عنه سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان ، أضلا راحلة لهما.
وسار ابن جحش إلى بطن نخلة ، فإذا هم بالحكم بن كيسان( )، وعبد الله بن المغيرة بن عثمان ، وعمرو الحضرمي ، فاقتتلوا فأسروا الحكم بن كيسان ، وعبد الله بن المغيرة.
وانقلب المغيرة وقتل عمرو الحضرمي قتله واقد بن عبد الله.
فكانت أول غنيمة غنمها أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما غنموا من الأموال قال المشركون: محمد يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام ، فأنزل الله [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ]( )، لا يحل وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله وصددتم عنه محمداً {والفتنة} وهي الشرك أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام ، فذلك قوله {وصد عن سبيل الله وكفر به…} ( )( ).
السادس : إن السائل عن القتال في الشهر الحرام هم المشركون لما قتلت سرية المسلمين عمرو بن الحضرمي في عير تجارة قريش وكان أول قتيل قتل بين المسلمين ، إذ أخرج البيهقي باسناده هذا الخبر ، وقال أخبرنا ابو سعيد بن أبي عمرو العير الصيرفي ، قال : حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني قال : أخبرنا علي بن محمد بن عيسى ، قال : حدثنا أبو اليمان ، قال: أخبرني شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، قال : أخبرني عروة بن الزبير ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية من المسلمين وأمر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي ، فانطلقوا حتى هبطوا نخلة ، فوجدوا بها عمرو بن الحضرمي في عير تجارة لقريش في يوم بقي من الشهر الحرام ، فاختصم المسلمون ، فقال قائل منهم : هذه غرة من عدو ، وغنم رزقتموه ، ولا ندري أمن الشهر الحرام هذا اليوم أم لا ، وقال قائل منهم : لا نعلم اليوم إلا من الشهر الحرام ، ولا نرى أن تستحلوه لطمع أشفيتم عليه ، فغلب على الأمر الذين يريدون عرض الدنيا ، فشدوا على ابن الحضرمي فقتلوه وغنموا عيره ، فبلغ ذلك كفار قريش ، وكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين .
فركب وفد كفار قريش حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة فقالوا : أتحل القتال في الشهر الحرام ؟ فأنزل الله عز وجل (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله) ( )، إلى آخر الآية فحدثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان ، وإن الذي يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك : من صدهم عن سبيل الله حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكفرهم بالله ، وصدهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه ، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين ، وفتنتهم إياهم عن الدين . فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه ، حتى أنزل الله عز وجل (براءة من الله ورسوله)( )( ).
وفيه شاهد على تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حرمة القتال في الشهر الحرام مع شدة أذى المشركين له وللمسلمين أما خاتمة الخبر أعلاه : فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه ، حتى أنزل الله عز وجل [بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ] ( ) ، فلا نعلم من القائل له هل هو عروة أم أحد رجال السند ومع الإحتمال يبطل الإستدلال.
قانون حرمة القتال في الأشهر الحرم
ليس في القرآن ما يدل على نسخ حرمة القتال في الشهر الحرام ، ولم يرد هذا النسخ عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من المسائل الإبتلائية .
ولو كان هناك نسخ لبينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنته القولية والفعلية إنما تدل النصوص على الإطلاق الزماني لحرمة هذه الأشهر قبل بعثته صلى الله عليه وآله وسلم وبعدها ، والقول بالنسخ فيه على وجوه :
الأول : قال قوم أنه منسوخ ، ذكره الثعلبي( )، ونعت (قوم) مبهم وظاهره أنه لا يرقى إلى قول صحابي أو تابعي معروف.
والثعلبي أبو إسحاق أحمد ت427هـ-1035م) الذي اختصر الأسانيد كما كان يكثر من الأخبار من غير أن يتفحص السند أو يقف عند رجاله وان ذكره في أول الكتاب ، وكأنه يتذوق حس الرواية.
الثاني : ورد نسخ آية البحث بآية السيف (عن الضحاك عن ابن عباس قال : قوله {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} أي في الشهر الحرام . قال { قتال فيه كبير } أي عظيم ، فكان القتال محظوراً حتى نسخته آية السيف في براءة { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}( )، فأبيح القتال في الأشهر الحرم وفي غيرها)( ).
ولا دلالة في الآية على النسخ الدائم لحرمة القتال في الأشهر الحرم خاصة وأن الآية تبدأ بقوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثالث : ورد عن سفيان الثوري أنه سئل عن هذه الآية فقال : هذا شيء منسوخ ، ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام( ).
الرابع : أخرج عن عطاء بن ميسرة قال : أحل القتال في الشهر الحرام في براءة في قوله {فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة}( )( ).
ومن معاني النسخ عند الأقدمين التخصيص والاستثناء والتقييد.
والمختار أن الآية غير منسوخة بآية السيف بالمعنى الأصطلاحي للنسخ، وفي الآية مسائل :
الأولى : ذم الذين كفروا لسعيهم في محاربة النبوة والتنزيل.
الثانية : إقامة الحجة على الذين كفروا لإصرارهم على القتال من أجل الباطل وعبادة الأوثان.
الثالثة : ورود سؤال المسلمين عن القتال في الشهر الحرام على نحو الإستفهام الإنكاري ، أي كيف يكون هناك قتال في الشهر الحرام ، لماذا يقاتلنا المشركون بعد أن كانوا يتقيدون فيما بينهم كقبائل تعبد الأصنام بحرمة القتال في الأشهر الحرم.
لقد استغرب المسلمون وكثير من العرب نقض قريش لحرمة الشهر الحرام وتهديدهم بالقتال.
فان قلت لم تقع معركة بدر ولا معركة أحد ولا معركة الخندق في شهر حرام.
والجواب هذا صحيح ، فالأولى وقعت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، والثانية في شهر شوال من السنة الثالثة ، أما الثالثة وهي معركة الخندق فوقعت في شهر شوال من السنة الخامسة.
ولكن المراد من القتال المعنى الأعم ليشمل :
الأول : مقدمات القتال ، وتهديد المشركين بالقتال في الشهر الحرام وإرادة مباغتة المسلمين في المدينة.
الثاني : إحتمال تنجز غزو المشركين للمدينة غدراً وغيلة ، إذ أدركوا أن عداوتهم مع الإسلام ليست مثل العداوة بين القبائل ، إذ تحافظ كل قبيلة على شأنها وتمسك أرضها وإن حدثت بعض الإنتصارات لهذا الطرف أو ذلك.
أما حال الخصومة والخلاف بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكفار قريش فهي التناقض ، والإستئصال ليس في الأشخاص والشأن إنما في العقيدة والمفاهيم ، فلو آمنت قريش بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبقوا على شأنهم بين الدول والقبائل ولازداد جاههم وتضاعفت أموالهم.
وقد حبّب الله عز وجل للناس الإيمان ودعاهم إليه بآيات القرآن وعلى لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي جمع رجالات قريش ، وعرض عليهم الإسلام عند نزول قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، إذ (جمع قريشاً ثم أتاهم، فقال لهم : “هَلْ فِيكُمْ غرِيبٌ.
فقالوا : لا إلا ابن أخت لنا لا نراه إلا منا، قال: “إنَّهُ منْكُمْ”، فوعظهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال لهم في آخر كلامه : لا أعْرِفَنَّ مَا وَرَدَ عليَّ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ يَسُوقُونَ الآخِرَةَ، وجِئْتُمْ إليَّ تَسُوقُونَ الدُّنْيا)( ).
وعن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية [وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ] قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصفا، ثم نادى: “يا صَباحاهُ”، فاجتمع الناس إليه، فبين رجل يجيء، وبين آخر يبعث رسوله.
فقال : يا بَنِي هَاشِمٍ، يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، يا بَنِي فِهْرٍ، يا بَنِي يا بَنِي، أرَأَيْتَكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلا بِسَفْحِ هَذَا الجَبَلِ تُرِيدُ أنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ صَدَّقْتُمُونِي؟ “.
قالوا: نعم، قال: “فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ”فقال أبو لهب: تبا لكم سائر اليوم، ما دعوتموني إلا لهذا؟ فنزلت تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ.
وعن الزبير بن العوام قال : لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين}( )، صاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي قبيس : يا آل عبد مناف ، إني نذير فجاءته قريش ، فحذرهم وأنذرهم.
فقالوا : تزعم أنك نبي يوحى إليك ، وأن سليمان عليه السلام سخرت له الريح والجبال ، وإن موسى عليه السلام سخر له البحر ، وإن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى.
فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال ، ويفجر لنا الأرض أنهاراً فنتخذها محارث ، فنزرع ونأكل وإلا ، فادع الله أن يحيي لنا الموتى فنكلمهم ويكلمونا وإلا ، فادع الله أن يجعل هذه الصخرة التي تحتك ذهباً فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف ، فإنك تزعم أنك كهيئتهم .
فبينا نحن حوله ، إذ نزل عليه الوحي ، فلما سرى عنه الوحي قال : والذي نفسي بيده لقد أعطاني الله ما سألتم ، ولو شئت لكان ، ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم ، وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة ولا يؤمن مؤمنكم ، فاخترت باب الرحمة ويؤمن مؤمنكم ، وأخبرني إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم يعذبكم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين ( ).
الثالث : إنذار المسلمين من كر وهجوم المشركين عليهم عند التوجه إلى العمرة أو الحج ، لذا فان خروج النبي وأصحابه للعمرة في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة , وعقد صلح الحديبية معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ودلالة على التخصيص والمحو من عند الله عز وجل .
فمع أن المشركين قد يغيرون على المسلمين وهم في طريقهم إلى العمرة ليس معهم إلا سلاح الراكب ، وهي سيوف في القرُب فان الله عز وجل أوحى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج والتوجه إلى مكة وعندما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى الحديبية كانت بعض خيل المشركين تريد الإغارة ومنهم من يسمى توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى الحديبية بـ(غزوة رسول الله (ص) الحديبة) ( ).
وعندما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عسفان في طريقه إلى الحديبية لقيه بشر بن سفيان العتكي (هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل ( )، قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدا وهذا خالد بن الوليد في خيلهم وقد قدموها إلى كراع الغميم.
وقال ابن سعد قدموا مائتي فارس عليها خالد بن الوليد ويقال عكرمة بن أبى جهل قال ودنا خالد في خيله حتى نظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عباد بن بشر فتقدم في خيله فقام بازائه وصف أصحابه وحانت صلاة الظهر فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باصحابه صلاة الخوف)( ).
لقد سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشر بن سفيان العتكي حينما رآه قادماً من مكة يا بشر هل عندك علم أن أهل مكة علموا بمسيري وقيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بعثه عيناً إلى مكة ، من البداية أو بعد رؤيته في الطريق فأخبره أن نداء جاء لأهل مكة من أعلى جبل أبي قبيس ليلة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج.
وذكر ان بشراً قال (بابي أنت وامي يا رسول الله اني لاطوف بالبيت في ليلة كذا وقريش في انديتها، إذ صرخ صارخ من أعلى جبل أبي قبيس ليلة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمسير بصوت اسمع اهل مكة :
هبوا لصاحبكم مثلي صحابته * سيروا إليه وكونوا معشرا كرما بعد الطواف وبعد السعي في مهل * وأن يحوزهم من مكة الحرما
شاهت وجوهكم من معشر تكل * لا ينصرون إذا ما حاربوا صنما .
فارتجت مكة، واجتمع المشركون، وتعاقدوا ألا يدخل عليهم بمكة في عامهم هذا، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : هذا الهاتف سلفع.
شيطان الأصنام يوشك أن يقتله الله تعالى إن شاء الله عز وجل)( ).
وقد استجاب الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رجائه ودعائه (فبينما هم كذلك إذ سمعوا من أعلى الجبل صوتا وهو يقول :
شاهت وجوه رجال حالفوا صنما … وخاب سعيهم ما أقصر الهمما
إني قتلت عدو الله سلفعة … شيطان أوثانكم سحقا لمن ظلما
وقد أتاكم رسول الله في نفر … وكلهم محرم لا يسفكون دما)( ).
وورد الخبر عن ابن عباس والذي ذكر أن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ارسل بشراً (إلى مكة يتحسس أخبارهم)( ).
ولعل للمشركين عيوناً في المدينة ينقلون هم أو بعض المنافقين ومن حول المدينة أخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما أراد أن يخرج إلى الحديبية أرسل الى الأعراب حول المدينة يدعوهم إلى الخروج معه إلى العمرة ، فتخلف عنه كثير منهم.
وحينما يأتي بعضهم إلى قريش بأخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل يعطونه شيئاً الجواب نعم ، وهناك تباين في المقام فقريش تبث العيون مقدمة للمكر والغزو واختيار الوقت والمكان المناسب للقتال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( )، أي يتخذ المشركون العيون والجواسيس الذين يبعثونهم نوع طريق للغزو والقتال في الشهر الحرام ، إذ يرون المسلمين وقد ركنوا واطمأنوا إلى الشهر الحرام.
أما العيون الذين يبعثهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان المراد من بعثهم إجتناب القتال وهو من مصاديق القانون الذي جاء به هذا الجزء وهو (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
وقد ورد ذكر بشر بن سفيان في خبر وثائقي عن ابن عباس : عندما عبأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه إذ مرت على أبي سفيان والعباس بن عبد المطلب على مشارف مكة رايات المسلمين ، فمرت (بنو كعب بن عمرو يحمل رايتهم بشر بن سفيان قال من هؤلاء قال بنو كعب بن عمرو قال نعم هؤلاء خلفاء محمد فلما حاذوه كبروا ثلاثا ثم مرت مزينة في ألف فيها ثلاثة ألوية وفيها مائة فرس يحمل ألويتها النعمان بن مقرن وبلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو فلما حاذوه كبروا قال من هؤلاء قال مزينة قال( ) .
يا أبا الفضل ما لي ولمزينة قد جاءتني تقعقع من سواهيها)( ).
وفي صلح الحديبية وقبل انعقاده هبت قريش لمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دخول مكة ، وأرسلوا خالد بن الوليد في مائتين من الفرسان إلى كراع الغجيم مقدمة لهم ، وصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه صلاة الظهر ، وقيل المشركين في جهة القبلة ، فأدرك المشركون أنه ثمة غرة وثغرة بانشغال المسلمين بالصلاة ، وعزموا على الإجهاز عليهم في صلاة العصر .
وقال خالد بن الوليد : قد كانوا على غرة لو حملنا عليهم أصبنا منهم ولكن تأتي الساعة صلاة أخرى هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم، فنزل جبريل بين الظهر والعصر بهذه الآية: (وإذا كنت فيهم فاقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك ولياخذوا اسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتات طائفة اخرى لم يصلوا فليصلوا معك ولياخذوا حذرهم واسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن اسلحتكم وامتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة، ولا جناح عليكم إن كان بكم اذى من مطر أو كنتم مرضى إن تضعوا اسلحتكم وخذوا حذركم أن الله اعد للكافرين عذابا مهينا) ( ) .
فحانت صلاة العصر ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف( ).
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم اجتناب لقاء خيل المشركين هذه فاختار طريقاً وعراً وغير مألوف وهو من الشواهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد دفع القتال والقتل ، والمواجهة مع المشركين مطلقاً.
وعن أبي سعيد الخدري قال : لما امسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : تيامنوا في هذا العصل وفي رواية اسلكوا ذات اليمين بين ظهور الحمض، فان خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة ” كره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يلقاه وكان بهم رحيما، فقال : تيامنوا فايكم يعرف ثنية ذات الحنظل .
فقال بريدة بن الحصيب: بحاء مضمومة فصاد مفتوحة مهملتين فتحتية فموحدة مهملتين فتحتية – الاسلمي: انا يا رسول الله عالم بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اسلك امامنا ” فاخذ بريدة في العصل قبل جبال سراوع قبل المغرب، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش ، فسلك بريدة بهم طريقا وعرا اجرل بين شعاب، وسار قليلا تنكبه الحجارة وتعلقه الشجر، وصار حتى كانه لم يعرفهما قط.
قال : فوالله انى كنت اسلكها في الجمعة مرارا، فنزل حمزة بن عمرو الاسلمي، فسار بهم قليلا، ثم سقط في خمر الشجر فلا يدرى اين يتوجه، فنزل عمرو بن عبدنهم الاسلمي فانطلق أمامهم حتى نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الثنية ، فقال : هذه ثنية ذات الحنظل فقال عمرو : نعم يا رسول الله، فلما وقف به على رأسها تحدر به، قال عمرو: فوالله إن كان لتهمني نفسي وحدها إنما كانت مثل الشراك فاستعت لي حين برزت، فكانت فجاجا لاجبة .
ولقد كان الناس تلك الليلة يسيرون جميعا معطفين من سعتها يتحدثون، وأضاءت تلك الليلة حتى كأنا في قمر( ).
قانون تفسير القرآن بعضه بعضاً
من إعجاز القرآن أنه يفسر بعضه بعضاً ونسميه في هذا السِفر (التفسير الذاتي للقرآن) والذي يدّل في مفهومه على نفي التزاحم أو التعارض بين آيات القرآن والبالغة (6236) آية.
ولا يختص هذا التفسير بآيات القرآن بالصبغة الفردية ، وإنحصار تفسير الآية بآية واحدة بل هو من المتعدد ، فحينما تأخذ أي آية قرآنية مثل [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( )، تجد آيات عديدة تتضمن وجوهاً تتعلق بالآية أعلاه :
الأول : تفسير هذه الآية .
الثاني : بيان وتأويل الآية القرآنية .
الثالث : تخصيص العموم أو تقييد الإطلاق في الآية إن وجد .
الرابع : إمكان الشرط في الآية القرآنية .
الخامس : الإستثناء في الموضوع أو الحكم .
السادس : تثبيت الحكم الوارد في آية قرآنية بآية قرآنية أخرى .
السابع : تأكيد أسباب نزول آية قرآنية لمضامين آية قرآنية أخرى .
الثامن : المحكم والمتشابه في القرآن ، وإضفاء آية صبغة المحكم على الآية التي من المتشابه في آية أخرى .
التاسع : دلالة الجمع بين آيتين أو أكثر على نفي التحريف أو الزيادة أو النقيصة في القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
العاشر : بيان القرآن للناسخ والمنسوخ على نحو جلي بلحاظ إتحاد الموضوع والتباين بين الآية السابقة والآية اللاحقة نزولاً .
الحادي عشر : تعضيد السنة النبوية للتفسير الذاتي للقرآن سواء السنة القولية أو الفعلية أو التقريرية ، وهو من فضل الله عز وجل ، ولطرد الوهم والشك ، ومنع الإختلاف بين المسلمين في تأويل آيات القرآن .
ومن قواعد التفسير الذاتي للقرآن ، وكيف أن الآية منه تُفسر آية أخرى إتحاد الموضوع في عدة آيات ، فمثلاً قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) وهي الآية الثانية من سورة الفاتحة فان آيات الحمد الكثيرة الأخرى في القرآن تبين مضامينها ، كما في قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ]( ) لبيان أن من معاني الربوبية تفضل الله عز وجل بخلق السموات والأرض ، وأنها لم تكن موجودة إلا لما شاء الله أن توجد ، فليس من رب إلا هو سبحانه ، وهو الذي يستحق الحمد على نعمة الخلق والتكوين وحفظ الأكوان والخلائق ، ومن عظيم سلطان الله أن الناس لو إجتمعوا لعجزوا عن إحصاء خلق الله ، ومن باب الأولوية القطعية العجز عن إحصاء النعم , قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
فالنعمة التي تأتي للناس جزء من عالم الخلق والتكوين ومنه قوله تعالى[وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( ) لبيان إنحصار الإلوهية بالله تعالى وإتحاد معاني الربوبية المطلقة والإلوهية لله عز وجل ، وأن من معاني ربوبية الله عز وجل رجوع الناس إليه يوم القيامة ، وهذا الرجوع ليس مجرداً بل هو رجوع حساب وجزاء فينتفع يومئذ الذي سخرّ لسانه لقول الحمد لله ودعا إليه.
وقال تعالى [وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) لبيان أن الحمد لله يصاحب المؤمن في الآخرة ليكون سبباً للأجر والثواب .
وأن الله عز وجل يأذن للذين يلهجون بحمده في الليل والنهار بشكره وحمده سبحانه في الآخرة على نعمة اللبث الدائم في النعيم .
ومن خصائص التفسير الذاتي للقرآن وبيان آياته لبعضها التخفيف عن المسلمين والتسهيل والتيسير في علم التفسير بحيث يكون ظاهراً جلياً لعامة المسلمين ، ولا ينحصر بالعلماء ذوي الإختصاص ، إذ تتجلى في هذا البيان معاني الإطلاق والتقييد ، والوجوب والرخصة ، وأحكام الحلال والحرام.
لذا حينما يقال أن آية السيف نسخت أكثر من مائة آية لا يتلقى المسلمون والمسلمات هذا القول بالقبول ، خاصة وأن لم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت أو عن عدد ولو قليل من الصحابة خاصة وأن كثير منهم تصدوا لتفسير آيات القرآن ، ومنهم من اشتهر بالتفسير , ولا عبرة بالفرد النادر مع ضعف السند وتعدد التأويل .
(وقال سعيد بن جبير: كان ابن عباس يقول: إذا جاءنا الثبت عن علي عليه السلام لم نعدل به.
وقال وهب بن عبد الله عن أبي الطفيل: كان علي عليه السلام يقول: سلوني سلوني وسلوني عن كتاب الله تعالى فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أنزلت بليل أو نهار) ( ).
ومن آيات السلم التي يفسر بعضها بعضاً قوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ) الذي يقيد قوله تعالى [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ) وان عدم الدعوة إلى السلم في حال النصر والغلبة للمسلمين على مشركي قريش لا يمنع من الإستجابة لطلبهم السلم ، وحينما فرّ المشركون من معركة بدر لم يطاردهم المسلمون ، وحينما قرر أبو سفيان وجيش المشركين الإنسحاب من معركة أحد في ذات اليوم الذي ابتدأت فيه المعركة تركهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يغادرون.
نعم بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام خلفهم ليرصدهم هل يريدون الإستدارة والهجوم على المدينة واستباحتها ، أم أنهم انصرفوا راجعين إلى مكة ، فلحقهم ثم رجع ليبشر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأنهم غادروا إلى مكة ، ونزل قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وحينما منع المشركون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الوصول إلى مكة للعمرة في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة دخلوا في مفاوضات.
وأعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومها (لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إلَى خُطّةٍ يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَةَ الرّحَمِ إلّا أَعْطَيْتُهُمْ إيّاهَا ثُمّ قَالَ لِلنّاسِ انْزِلُوا ؛ قِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا بِالْوَادِي مَاءٌ نَنْزِلُ عَلَيْهِ فَأَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ . فَأَعْطَاهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَنَزَلَ بِهِ فِي قَلِيبٍ مِنْ تِلْكَ الْقُلُبِ . فَغَرّزَهُ فِي جَوْفِهِ فَجَاشَ بِالرّوّاءِ حَتّى ضَرَبَ النّاسُ عَنْهُ بِعَطَنٍ) ( ).
وهل يمكن الجمع بين آيات السلم وآيات القتال ، الجواب نعم ، لعمومات قانون إمكان الجمع بين آيات القرآن وانتفاء التعارض بينها ، ومن معاني هذا الجمع تغليب حال السلم ، وإختيار الصلح والموادعة ، وإن كان بشروط ، فالصلح مع الشروط التي عليها الكفار والإنصاف أفضل من الحرب والقتال خاصة.
وأن الصلح بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين يترشح عنه هداية الناس ، وتدبرهم بمعجزات النبوة ، كما في الحديث أعلاه فقد رآى كفار قريش نبع الماء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما رآوا إنقياد الصحابة له , بما يؤكد تفانيهم في سبيل الله , وسيأتي قانون إنقياد المسلمين يوم الحديبية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم, أفزع وفد الذين كفروا وألان قلوبهم للصلح .
وهذا المعنى من مصاديق تسمية صلح الحديبية فتحاً بقوله تعالى [[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، فبالصلح فتح الله قلوب الناس للإيمان ، ومنع من سلطان رؤساء الكفر عليهم.
لذا دخل بعض رجالات قريش الذين حضروا صلح الحديبية الإسلام قبل فتح مكة ، ومنهم خالد بن الوليد الذي أسلم بعد عمرة القضاء التي أداها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في السنة السابعة للهجرة ، وكان من الصحابة يومئذ الوليد بن الوليد ، وكان متلهفاً لرؤية أخيه خالد ودعوته للإسلام ، ولكن خالداً تغيب يومها ولم يشأ أن يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يدخلون مكة ، وسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوليد عن أخيه (إذ قال له : أين خالد.
فقال الوليد : يأتي الله به( ).
فكتب الوليد كتاباً إلى خالد يخبره بهذا الأمر العظيم والعناية الخاصة وهو سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه بالذات والاسم ووعده له.
وجاء في الكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام ، وعقلك عقلك ومثل الإسلام جهله أحد وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أين خالد فقلت يأتي الله به فقال ما مثل خالد جهل الإسلام ولو كان جعل نكايته وحده مع المسلمين على المشركين لكان خيرا له ولقدمناه على غيره فاستدرك يا أخي ما فاتك منه فقد فاتتك مواطن صالحة .
قال خالد فلما جاءني كتابه نشطت للخروج وزادني رغبة في الإسلام وسرني مقالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال خالد وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة جديبة فخرجت إلى بلد أخضر واسع , فقلت إن هذه لرؤيا فلما قدمت المدينة قلت لأذكرنها لأبي بكر قال فذكرتها فقال هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام والضيق الذي كنت فيه الشرك فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت من أصاحب إلى محمد فلقيت صفوان بن أمية فقلت يا أبا وهب أما ترى ما نحن فيه إنما نحن أكلة رأس ( ).
وقد ظهر محمد على العرب والعجم فلو قدمنا على محمد فاتبعناه فإن شرف محمد لنا شرف فأبى أشد الإباء وقال لو لم يبق غيري من قريش ما اتبعته أبدا فافترقنا وقلت هذا رجل موتور يطلب وترا قتل أبوه وأخوه ببدر.
قال فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان فقال لي مثل ما قال صفوان قلت فاطو ما ذكرت لك .
قال لا أذكره .
وخرجت إلى منزلي فأمرت براحلتي تخرج إلي إلى أن ألقى عثمان بن طلحة فقلت إن هذا لي لصديق ولو ذكرت له ما أريد ثم ذكرت من قتل من آبائه فكرهت أذكره ثم قلت وما علي وأنا راحل من ساعتي فذكرت له ما صار الأمر إليه وقلت إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر لو صب عليه ذنوب من ماء خرج( ) .
قال وقلت له نحوا مما قلت لصاحبيه( ) فأسرع الإجابة .
وقال لقد غدوت اليوم وأنا أريد أن أغدو وهذه راحلتي بفج مناخة قال فاتعدت أنا وهو بيأجج إن سبقني أقام وإن سبقته أقمت عليه قال فأدلجنا سحره فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة فنجد عمرو بن العاص بها فقال مرحبا بالقوم قلنا وبك قال أين مسيركم قلنا ما أخرجك قال فما الذي أخرجكم.
أي رد سؤالهم بذات السؤال لأنهما اثنان وهو واحد فخشي على نفسه منهما ، خاصة وأن عمرو بن العاص معروف بالدهاء ويتصف خالد بالخفة وسرعة الحركة والقوة.
قلنا الدخول في الإسلام واتباع محمد قال وذاك الذي أقدمني قال( ) فاصطحبنا جميعا حتى قدمنا المدينة فأنخنا بظاهر الحرة ركابنا.
وأخبر بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسر بنا فلبست من صالح ثيابي ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فلقيني أخي فقال أسرع فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر بك فسر بقدومك وهو ينتظركم فأسرعت المشي فطلعت فما زال يتبسم إلي حتى وقفت عليه فسلمت عليه بالنبوة فرد علي السلام بوجه طلق.
فقلت إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحمد لله الذي هداك قد كنت أرى لك عقلا ورجوت أن لا يسلمك إلا إلى خير.
قلت يا رسول الله : قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معاندا عن الحق فادع الله يغفرها لي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام يجّب ما كان قبله.
قلت يا رسول الله على ذلك( ) فقال اللهم اغفر لخالد بن الوليد كلما أوضع فيه من صد عن سبيلك قال خالد وتقدم عمرو وعثمان فبايعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان قدومنا في صفر من سنة ثمان)( ).
أي قبل فتح مكة بستة أشهر وأيام.
قانون إحصاء آيات السلم والسلام
من خصائص الحياة الدنيا أن أيام السلم فيها أكثر من أيام الحرب والقتال ، وأن القتال إذا وقع يكون محدوداً مكاناً وزماناً وأشخاصاً .
وترى أناساً قريبين من موقع المعركة ولكنهم في مأمن ، ونسأل الله أن يقي أهل الأرض الحرب وأسلحة الدمار الشامل ، وهذه الوقاية من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
لقد جعل الله عز وجل لمادة (سلم) موضوعية في القرآن لتشمل كلاً من:
الأول : آيات الإسلام والدعوة إليه وأحكامه ، إذ يترشح السلم عن الإسلام وسننه ، ومعنى الإسلام لغة هو الإنقياد والإستسلام والخضوع ، ومنه [فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ] ( ).
وقيل الإسلام بهذا المعنى لا ميزة لأحد على غيره فيه ، إذ يستوي فيه المؤمن والكافر ، والمطيع والعاصي ، ولكن المدار وترتب الحساب ليس على المعنى اللغوي ، إنما المراد المعنى الإصطلاحي ، ويذكر المعنى اللغوي للتعريف والتوضيح .
وذكره كالمقدمة لبيان المعنى الإصطلاحي ، نعم قد ينطبق المعنى اللغوي على إنقياد بعض المخلوقات كالجمادات ، وكما في قوله تعالى [وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ]( ).
وجاء القرآن بآيات السلم والسلام والصلح لتكون منهاجاً لعمل المسلمين ، وزاجراً سماوياً عن الإرهاب والتشرد والإصرار على القتال أو على حال اللاحرب واللا سلم ، وتتصف مجتمعة بالسلامة من النسخ .
كثيرة هي آيات السلم , ومنها :
الأولى : قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]قيل نسختها قوله تعالى وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا والقائل عِكرمة ولا أصل له ، للتباين الموضوعي بين الإعتقاد في الآية وإرادة الفعل والدفاع في الآية أعلاه .
الثانية : قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ]( ) ( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) ( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ) ( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ) ( ).
السادسة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ) ( ).
السابعة : قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) ( ).
الثامنة : قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ) ( ).
التاسعة : قوله تعالى فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ .
العاشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الحادية عشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
الثانية عشرة : قوله تعالى [وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً]( ).
الثالثة عشرة : قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ) ( ) ومن البر العفو والصفح وقصد السلم والأمن ، ومن التقوى الإمتناع عن التعدي والظلم .
الرابعة عشرة : قوله تعالى [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ) ( ).
الخامسة عشرة : قوله تعالى [يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
السادسة عشرة : قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ).
السابعة عشرة : قوله تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
الثامنة عشرة : قوله تعالى [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ) .
التاسعة عشرة : قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ]( ).
العشرون : قوله تعالى [قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
الواحدة والعشرون: قوله تعالى [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ]( ).
الثانية والعشرون : قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] ( ).
الثالثة والعشرون : قوله تعالى [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ]( ).
الرابعة والعشرون : قوله تعالى [وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا]( ).
الخامسة والعشرون : قوله تعالى [قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا]( ).
السادسة والعشرون : قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
السابعة والعشرون : قوله تعالى [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا]( ).
الثامنة والعشرون : قوله تعالى [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ]( ).
التاسعة والعشرون : قوله تعالى [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ) لبيان الترفق بأهل الكتاب ، ويمنع الجدال بالأحسن من الحدة والتحدي ومقدمات النزاع ، كما أنه يساعد في بيان وجوه الإلتقاء بين الطرفين .
وهل قوله تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] ( ) من آيات السلم ، الجواب نعم .
الثلاثون : قوله تعالى [أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ]( ).
الواحدة والثلاثون : قوله تعالى [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( ).
الثانية والثلاثون : قوله تعالى [وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
الثالثة والثلاثون : قوله تعالى [لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( ).
الرابعة والثلاثون : قوله تعالى [وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وعن أنس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن سيداً بنى داراً واتخذ مأدبة وبعث داعياً ، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد ، ألا وإن السيد الله ، والدار الإِسلام ، والمأدبة الجنة ، والداعي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن عليه السلام قال : ما من ليلة إلا ينادي منادياً يا صاحب الخير هلم ويا صاحب الشر اقصر .
فقال رجل للحسن عليه السلام : أتجدها في كتاب الله؟
قال : نعم [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ] ( )، قال : ذكر لنا أن في التوراة مكتوباً : يا باغي الخير هلم، ويا باغي الشر انته) ( ).
الخامسة والثلاثون : [قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
وعن قتادة في الآية قال : ما زال النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالعفو، ويحث عليه ويرغب فيه حتى أمر أن يعفو عمن لا يرجو أيام الله ، وذكر أنها منسوخة نسختها الآية التي في الأنفال {فإما تثقفنهم في الحرب}( ).
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله { قل للذين آمنوا يغفروا } الآية قال : كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يعرض عن المشركين إذا أذوه ، وكان يستهزؤون به ، ويكذبونه ، فأمره الله أن يقاتل المشركين كافة ، فكان هذا من المنسوخ .
وأخرج أبو داود في تاريخه وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله}( )، قال : الذين لا يدرون أنعم الله عليهم أم لم ينعم ، قال سفيان : بلغني أنها نسختها آية القتال .
وأخرج ابن جرير وابن الأنباري في المصاحف عن قتادة في قوله {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } قال : هي منسوخة بقول الله [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( ).
وأخرج ابن عساكر عن أبي مسلم الخولاني رضي الله عنه أنه قال لجارية له : لولا أن الله تعالى يقول {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} لأوجعتك . فقالت : والله إني لممن يرجو أيامه ، فما لك لا توجعني ، فقال : إن الله تعالى يأمرني أن أغفر للذين لا يرجون أيامه ، فعمّن يرجو أيامه أحرى ، انطلقي فأنت حرة ( ).
السادسة والثلاثون : قوله تعالى [وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( )، وهذه الآية منسوخة ، والناسخ لها ، قوله تعالى [وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ]( )، وهو من نسخ الأثقل والأطول بالأخف والأقصر ، قوله تعالى [وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، نسخت بقوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( )، وهو من نسخ الأثقل بالأحق ، قوله تعالى [إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ]( )، نسخت بقوله تعالى [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
السابعة والثلاثون : قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
قيل نسخت بآية السيف
قوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثامنة والثلاثون : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ]( ).
قيل نسخت بقوله تعالى
[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
التاسعة والثلاثون : قوله تعالى [فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الأربعون : قوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا]( ).
الواحدة والأربعون : قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا]( ).
قيل نسخت بقوله تعالى [اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ]( ).
الثانية والأربعون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا]( ).
قيل منسوخة بقوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
الثالثة والأربعون : قوله تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الرابعة والأربعون : قوله تعالى [وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الخامسة والأربعون : قوله تعالى [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
السادسة والأربعون : قوله تعالى [فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
السابعة والأربعون : قوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثامنة والأربعون : قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
قيل نسخت بقوله تعالى [بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
التاسعة والأربعون : قوله تعالى [مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الخمسون : قوله تعالى [وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ]( ).
قيل نسخت بقوله تعالى [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( ).
الواحدة والخمسون : قوله تعالى [[وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ] ( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثانية والخمسون : قوله تعالى [قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ] ( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثالثة والخمسون : قوله تعالى [اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الرابعة والخمسون : قوله تعالى [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ] ( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الخامسة والخمسون : قوله تعالى [وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ).
قيل نسخت بآية السيف.
السادسة والخمسون : قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] ( ).
قيل نسخت بآية السيف.
السابعة والخمسون : قوله تعالى [وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] ( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثامنة والخمسون : قوله تعالى [قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ] ( ).
قيل نسخت بآية السيف.
التاسعة والخمسون : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] ( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الستون : قوله تعالى [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الواحدة والستون : قوله تعالى [وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ).
قيل منسوخة بآية السيف.
الثانية والستون : قوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
وقيل نسخت بقوله تعالى [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( ).
الثالثة والستون : قوله تعالى [بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
قيل نسخت بقوله تعالى [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( ).
الرابعة والستون : قوله تعالى [فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ]( ).
قيل نسخت بقوله تعالى [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( ).
الخامسة والستون : قوله تعالى [فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِينَ]( ).
قيل نسخت بقوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
السادسة والستون : قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ]( ).
قيل نسخت بقوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
السابعة والستون : قوله تعالى [وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ]( ).
قيل منسوخة بآية السيف.
الثامنة والستون : قوله تعالى [وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ]( ).
قيل منسوخة بآية السيف.
التاسعة والستون : قوله تعالى [وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
السبعون : قوله تعالى [ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمْ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الحادية والسبعون : قوله تعالى [لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثانية والسبعون : قوله تعالى [وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثالثة والسبعون : قوله تعالى [قوله تعالى [فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الرابعة والسبعون : قوله تعالى [مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الخامسة والسبعون : قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
السادسة والسبعون : قوله تعالى [مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
السابعة والسبعون : قوله تعالى [رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثامنة والسبعون : قوله تعالى [رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
التاسعة والسبعون : قوله تعالى [وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثمانون : قوله تعالى [قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الحادية والثمانون : قوله تعالى [فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثانية والثمانون : قوله تعالى [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثالثة والثمانون : قوله تعالى [قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الرابعة والثمانون : قوله تعالى [الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الخامسة والثمانون : قوله تعالى [فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
السادسة والثمانون : قوله تعالى[وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
السابعة والثمانون : قوله تعالى [وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثامنة والثمانون : قوله تعالى [وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
التاسعة والثمانون : قوله تعالى [قُلْ لاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
التسعون : قوله تعالى [إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الحادية والتسعون : قوله تعالى [فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثانية والتسعون : قوله تعالى [وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثالثة والتسعون : قوله تعالى [وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الرابعة والتسعون :قوله تعالى [وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الخامسة والتسعون : قوله تعالى [إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
السادسة والتسعون : قوله تعالى [وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
السابعة والتسعون : قوله تعالى [[أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثامنة والتسعون :قوله تعالى [فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
التاسعة والتسعون : قوله تعالى [أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
المائة : قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الواحدة بعد المائة : قوله تعالى [قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثانية بعد المائة : قوله تعالى [قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثالثة بعد المائة: قوله تعالى [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الرابعة بعد المائة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الخامسة بعد المائة : قوله تعالى [وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ).
السادسة بعد المائة : قوله تعالى [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ]( ).
قيل نسخت بقوله تعالى [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( ).
السابعة بعد المائة: قوله تعالى [فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ]( ).
قيل نسخت بقوله تعالى [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( ).
الثامنة بعد المائة: قوله تعالى [فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
التاسعة بعد المائة: قوله تعالى [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
العاشرة بعد المائة : قوله تعالى [فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الحادية عشرة بعد المائة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثانية عشرة بعد المائة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثالثة عشرة بعد المائة : قوله تعالى [وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الرابعة عشرة بعد المائة: قوله تعالى [وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ]( ).

قيل نسخت بآية السيف.
الخامسة عشرة بعد المائة: قوله تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
السادسة عشرة بعد المائة : قوله تعالى [فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
السابعة عشرة بعد المائة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثامنة عشرة بعد المائة: قوله تعالى [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
التاسعة بعد المائة : قوله تعالى [َاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
العشرون بعد المائة :قوله تعالى [وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الواحدة والعشرون بعد المائة: قوله تعالى [إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثانية والعشرون بعد المائة : قوله تعالى [ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثالثة والعشرون بعد المائة : قوله تعالى [فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الرابعة والعشرون بعد المائة : قوله تعالى [إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الخامسة والعشرون بعد المائة : قوله تعالى [فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
السادسة والعشرون بعد المائة: قوله تعالى [لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
السابعة والعشرون بعد المائة : قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
الثامنة والعشرون بعد المائة : قوله تعالى [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ).
قيل نسخت بآية السيف.
وإذا تم ذكر الذين قالوا بالنسخ في هذه الآيات وإحصاء ما قال كل منهم يتبين أن بعض التابعين وتابعي التابعين قال بالنسخ في عدد قليل منها ، مثلاً ذكر قتادة ت 118 هجرية عشر آيات ، وذكر الزهري ت 124 هجرية سبع آيات ، بينما ذكر ابن حزم ت 456 هجرية (112) آية منسوخة بآية السيف .
وذكر ابن العربي ت 513 هجرية (128)آية منسوخة بآية السيف وآية القتال .
وذكر الكرمي ت 1033 هجرية (101) آية منسوخة بآية السيف .
لماذا يصدّ المشركون عن البيت
لقد قال المشركون نحن أولياء البيت ، فنصد من نشاء ونُدخل من نشاء فاخبر الله عز وجل عن عدم استحقاقهم لهذه الولاية ، ونفي ولايتهم للبيت ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ) .
وتدل الآية على هذا النفي قبل وبعد أن يصدوا المسلمين عن البيت الحرام ، ولم يكن هذا الصدّ عن البيت عن إختيار وتبختر واستكبار وزهو فقط إنما كان عن مكر خبيث من قريش من جهات :
الجهة الأولى : الثأر والإنتقام من المسلمين لما لحق قريشاً من الهزيمة والخسارة في معارك الإسلام ، ويدل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، في مفهومه على أمور :
الأول : هزيمة جيش قريش في معركة بدر ، وهو الثابت نقلاً وتأريخاً،كما عجزت قريش عن تحقيق نصر أو كسب معركة الثأر يوم أحد (عن ابن عباس قال: إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد الذي كان منه ، فرجع إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً ، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب ، وكانت وقعة أحد في شوّال .
وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة ، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة ، وأنهم قدموا بعد وقعة أحد ، وكان أصاب المؤمنين القرح واشتكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، واشتد عليهم الذي أصابهم ، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ندب الناس لينطلقوا معه وقال : إنما ترتحلون الآن فتأتون الحج ولا تقدرون على مثلها حتى عام مقبل فجاء الشيطان فخوف أولياءه فقال { إن الناس قد جمعوا لكم }( ) فأبى الناس أن يتبعوه فقال : إني ذاهب وإن لم يتبعني أحد . فانتدب معه أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وعثمان ، والزبير ، وسعد ، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وأبو عبيدة بن الجراح؛ في سبعين رجلاً ، فساروا في طلب أبي سفيان ، فطلبوه حتى بلغوا الصفراء، فأنزل الله {الذين استجابوا لله والرسول…}( )الآية)( ).
الثاني : لحوق الخزي لكفار قريش بسبب الهزيمة مع رجحان كفتهم في العدد والعدة والسلاح ، ليدرك عامة الناس قانون الملازمة بين الكفر والخزي ، وهو مصاحب لأيام الحياة الدنيا والآخرة ، وهو من رشحات قانون الحياة الدنيا مرآة عالم الآخرة .
الثالث : انتقال الذل إلى قريش ، مع التباين الموضوعي فالمراد من الذل الذي كان عليه المسلمون هو القلة والنقص ، أما الذل الذي صار عليه المشركون فهو الهوان فلا غرابة أن يصدوا المسلمين والناس عن البيت الحرام.
لقد امتلأت قلوب قريش بالغيظ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان يصلي في المسجد الحرام ، ويختص ببعض عماره ويخبرهم بنبوته ويتلو عليهم القرآن ، ومنه آيات الإنذار ، والآيات التي تذم الأصنام وعبادتها فأرادوا التخلص منه فعرضوا عدة آراء للبطش به ، وفي التنزيل [إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، أي كانت هناك ثلاثة طرق خبيثة وقاسية للتخلص من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي :
الأول : حبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقييده بالإغلال.
الثاني : إخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ليقتل خارجها ، فلا تتحمل قريش وزر قتله ولا يطالبهم بنو هاشم بديته ، بل ذات كفار قريش هم الذين يطالبون بديته ، ويتوعدون قاتليه ولا يرضون بدية مائة ناقة إنما يطالبون بدية نبي قريش.
الثالث : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
هل ترتيب الأفراد الثلاثة يدل على إرادة قريش أولوية سجن النبي في البداية ، المختار نعم ، ولكنهم عند التنفيذ ومع ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الله عز وجل إختاروا أشدها ، وهو قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن هذا القتل يوقف نزول القرآن الذي كانت آياته وسوره تترى في نزولها .
فان قلت قد ذكرت الآية في أولها أن المشركين يمكرون بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليثبتوه ويسجنوه بقوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) الجواب من جهات :
الأولى : هناك تداخل ونوع إتحاد بين شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن ، لأن الناس يعلمون أن آيات القرآن لا تنزل على غيره .
الثانية : لقد تجلى في سيرة قريش أزاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم قانون ملازمة غلبة النفس الغضبية للكافر في الشأن والجاه .
الثالثة : المكر بالنبي بما هو رسول من الله ينزل عليه الوحي ، وتشير إليه الآية السابقة ، إذ ابتدأت بالنداء التشريفي بالإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ) وأختتمت ببيان الفضل العظيم لله عز وجل على المسلمين والناس ، ومنه بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسلامته من كيد المشركين .
وكل فرد من الطرق الثلاثة أعلاه له أسبابه وغاياته واتخذت قريش من دار الندوة التي بناها قصي بن كلاب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم محلاً للإتفاق والتخطيط لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وتعيين كيفية اختيارهم من كل قبيلة واحداً ، قال الرؤساء أنما هم الذين يختارون هؤلاء العشرة وليس عشائرهم ، ليكونوا من قساة القلوب ومفتولي العضلات ، ولايترددون في الإمتثال لأوامر كفار قريش ، فأمر الله نبيه الكريم بالهجرة ، وهل هذه الهجرة من مصاديق قوله تعالى [وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ).
الجواب نعم لبيان أن الإعراض لا يختص باجتناب الأذى في المجلس والمحل إنما يشمل الإبتعاد والهجرة ، وفيه بيان لقانون من جهات متعاقبة وهي :
الأولى : يأمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر .
الثانية : هداية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإمتثال لهذا الأمر.
الثالثة : إعانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإتيان ما أمره الله عز وجل.
الرابعة : إزالة الحواجز والأسباب التي تحول دون الإمتثال.
الخامسة : عمل الصحابة وأجيال المسلمين بما يأتي به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وادراكهم لقانون وهو أن خير الدنيا والآخرة في العمل بمضامين وأحكام الرسالة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( ).
وجاءت الآية أعلاه خطاباً عاماً للمسلمين ، ويفيد في مفهومه انكسار كفار قريش كأمة ، ومن معاني هزيمة قريش وجوه :
أولاً : لقد هزم الله عز وجل قريشاً في ميدان المعركة فكما نسب الله عز وجل نصرالمسلمين لنفسه فان هزيمة المشركين من عند الله لإتحاد الموضوع في تنقيح المناط ، كما في نسبة الرمي إلى الله عز وجل في قوله تعالى[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
فالنصر يوم بدر من رشحات هذا الرمي ومدد الملائكة وإخلاص أهل البيت والصحابة في الدفاع.
ثانياً : لقد جعل الله عز وجل عموم كفار قريش رجالاً ونساءً في حال إنكسار وخيبة بسبب خسارتهم وهزيمتهم في معركة بدر ، لقد مشت قريش إلى معركة بدر بالزهو وأصل الإستصحاب ، ومن معناه في المقام قلة عدد المسلمين ، والضعف في أبدانهم لقلة الزاد والإنقطاع في العبادة إلى جانب قلة أسلحتهم ورواحلهم يوم بدر.
ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم اجتهد في الدعاء عشية وصبيحة يوم بدر رجاء العون والمدد من الله ، فنزلت البشارة والإستجابة والنصر بآية واحدة ، بقوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
ثالثاً : خسارة قريش أموالها ، والتلكؤ في تجارتها ، وتردد تجار الشام عن بيعهم بالسلف ، وهل وصلت أخبار معركة بدر إلى الشام .
الجواب نعم ، فمن خصائص التجار أنهم يلحظون حال الزبون الذي يتعاملون معه بالجملة وبالسلف وإن كانت داره بعيدة ، وليس معركة بدر أمراً هيناً بل هو شأن دولي ، وحدث عالمي عام ، وهو من أسرار نسبة النصر فيها إلى الله سبحانه فما دام الله قد تفضل وأخبر بأنه أنزل الملائكة لنصرة كل من :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : القرآن وآياته .
الثالث : الإسلام.
الرابع : الصحابة .
الخامس : الحق والإيمان ، قال تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] ( ).
رابعاً : دخول الخزي إلى بيوت مكة ، وملاحقة الأسى والحزن لرجال ونساء قريش في منتدياتهم.
ومن الضبط والنظام في مجتمع قريش آنذاك أنهم حرموا البكاء على قتلاهم في معركة بدر بعد مدة من النياحة و(قال ابن عقبة اقام النوح شهراً)( ).
أي أنهم حرموا من النياحة والبكاء على قتلاهم في معركة بدر بعد مرور شهر على معركة بدر.
مع أن عدداً من القتلى من سادات قريش ، مثل عتبة بن ربيعة وأخيه شيبة ، وأمية بن خلف الذي قتل هو وابنه يومئذ، مثلما قتل الوليد بن عتبة مع أبيه ، ومنهم أبو جهل , وزمعة بن الأسود ، إذ قُتل وهو وأخوه عقيل وإبنه الحارث بن زمعة يوم بدر ، أي مثلما قُتل عتبة وأخوه وابنه كذا بالنسبة لهؤلاء وصار التأكيد في الأخبار على عتبة بن ربيعة وأخيه وابنه لأنهم طلبوا المبارزة في بدايات المعركة وأصروا عليها.
وكان الأسود بن المطلب بن عبد مناف يحب أن يبكي على بنيه خاصة وأنه كان أعمى تزداد وحدته وحسرته مع العمى ، ولكن يجب أن يتقيد وأهل مكة بأوامر قريش خاصة وأن ابنه زمعة ويكنى أبا حكيمة من أزواد الراكب الثلاثة كما ذكر ابن الكلبي( )، الذين إذا سافر مع أحدهم فرد كان زاده عليه ، وهؤلاء الثلاثة هم :
الأول : أبو أمية بن المغيرة المخزومي ، وهو أشهرهم في هذه الصفة ، وهو أبو أم المؤمنين أم سلمة ، وكان ابنه عبد الله شديد العداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويظهر بغضه له ، وهو الذي قال [لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعًا]( ) .
ولكنه ندم وخرج يريد المدينة عام الفتح ليعلن اسلامه فلقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه (بالطريق بين السقيا والعرج وهو يريد مكة عام الفتح، فتلقاه فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة بعد مرة .
فدخل على أخته وسألها أن تشفع له، فشفعت له أخته أم سلمة، وهي أخته لأبيه، فشفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكة مسلماً، وشهد حنيناً والطائف، ورمي يوم الطائف بسهم فقتله، ومات يومئذ، وهو الذي قال له المخنث في بيت أم سلمة:
يا عبد الله، إن فتح الله عليكم الطائف غداً فأني أدلك على امرأة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان)( ).
الثاني : مسافر بن أبي عمرو بن أمية.
الثالث : زمعة بن الأسود.
ولا صلة قرابة بين زمعة بن الأسود هذا وبين سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس التي تزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة في السنة العاشرة من البعثة النبوية بعد موت خديجة.
نعم كان أخو سودة عبد بن زمعة كافراً وكان غائباً في مناسك الحج في منى يوم تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم سودة ، باذن من أبيها ، فلما جاء وعلم بزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أخته أخذ يحثي على رأسه التراب ، وقال (بعد أن أسلم: لعمرك إنى لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة)( ).
وقيل كانت سودة بنت زمعة تحت السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمره العامري وهاجرا الى الحبشة ، وولدت له عبد الرحمن.
وروي عن ابن عباس أنها رأت في المنام كأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقبل يمشي حتى وضع رجله على رقبتها ، فأخبرت زوجها وقصت عليه الرؤيا ، فقال لها لئن صدقت رؤياك لأموتن وليتزوجنك محمد( ).
أي أنه لم يقل ليتزوجك رسول الله ، ثم رأت في المنام ليلة أخرى أن قمراً انقض عليها وهي مضطجعة ، فأخبرت زوجها ، فأدرك أن الأمر قريب وقوعه ، ظاهر تأويله ، فقال لئن صدقت رؤياك لم ألبث إلا يسيراً حتى أموت ، وتتزوجين من بعدي ، فاشتكى السكران من يومه ذلك( )، فلم يلبث إلا قليلاً حتى مات وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتفوز بصفة أم المؤمنين ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
وورد (عن أبي بكرة : أن النبي صلى الله عليه وآله خطب في حجته فقال : ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً : منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو العقدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)( ).
وعن ابن عمر قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال : أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ، أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم( ).
ووردت نصوص أخرى مشابهة وتدل مجتمعة ومتفرقة على الحرمة الأبدية للبدء بالقتال في الشهر الحرام ، فلا يصح القتال فيه إبتداء إنما وردت الآية لبيان جواز الدفاع فيه .
ونسب إلى الجمهور جواز ابتداء المسلمين القتال في الأشهر الحرام ولا دليل على هذه النسبة ، والمراد بقوله تعالى [فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]( )، في قوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( )، بالقتال وابتدائه في الأشهر الحرم .
ومن الإعجاز بصيغة الجمع في الآية أعلاه أن القتال في الشهر الحرام قد يستمر ليستوعب الأشهر الحرم الثلاثة المتواليات مثلاً وهي ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، مما يرجح مع هذا القتال تعطيل مناسك الحج ، وإخافة الطريق والتجرأ في سفك الدماء .
والله عز وجل يهدي الناس إلى الإسلام من غير الحاجة للجوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى القتال .
والقائل بنسخ الآية وجواز ابتداء المسلمين بالقتال في الشهر الحرام فسر قوله تعالى [فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ] أي بارتكاب الذنوب والمعاصي ولكن هذا الإرتكاب محرم مطلقاً في الشهر الحل والشهر الحرام ، إنما تدل الآية أيضا على عدم نسخ حرمة الإبتداء بالقتال في الشهر الحرام.
وعن جابر بن عبد الله، قال: لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزى ويُغْزَوا فإذا حضره أقام حتى ينسلخ( ).
ويدل هذا الحديث على استمرار إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخروج في كتائب في الأشهر الحرم إلى أن غادر الحياة الدنيا وما ذكره الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري أعلاه من لفظ الغزو هو أعم من القتال .
فقد يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة أو يبعث سرية ولكنه لا يقع قتال ، ومع هذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعقد لواءً للحرب في الأشهر الحرم ، ويدل هذا الحديث على أن آية البحث غير منسوخة وأنه لا يجوز ابتداء القتال في الشهر الحرام.
والذي قال بالنسخ استدل بفرد من السنة النبوية الفعلية بحصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للطائف ، فبعد معركة حنين التي ابتدأتهما ثقيف وهوازن وباغتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم في طريق العودة الى المدينة من فتح مكة من غير قتال يذكر في شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة تفضل الله عز وجل بكسر جيش ثقيف وهوازن ، ولحقتهم خسارة جسيمة في النفوس والأموال وكثرة السبايا من النساء والصبيان لولا أن أعادهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجعت فلول ثقيف إلى الطائف فحاصرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيسل أربعين ليلة مما يدل على أن الحصار استمر إلى أيام شهر ذي القعدة وهو شهر حرام، وقيل أقل وهو المختار .
ومن الشواهد على عدم النسخ قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ) .
وهذه الآية مدنية وهي من سورة المائدة التي هي آخر سور القرآن نزولاً ، وليس في القرآن نسخ لها ، وتدل على تحريم القتال في الشهر الحرام إلى يوم القيامة ، إذ تدل بالدلالة التضمنية وبلحاظ أوان نزولها على سيادة أحكام الإسلام في الجزيرة ، وأنه ليس من مشركين يبدأون القتال ضد المسلمين .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته يوم حجة الوداع قال : يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرموا حرامها( ).
وعن ابن عباس [وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ] يعني لا تستحلوا قتالاً فيه ( ).
وفي صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة مرّ على المسلمين بعض المشركين وهم يريدون العمرة ، فقال عدد من المسلمين لنمنع هؤلاء من العمرة مثلما منعنا وصدّنا مشركوا مكة عن العمرة فانزل الله [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ) .
وعن زيد بن أسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة ، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصد هؤلاء كما صدنا أصحابنا( )، فأنزل الله {ولا يجرمنكم…}( ).
مدة حصار الطائف
أختلف في مدة حصار الطائف على وجوه :
الأول : عن عروة بن الزبير بضع عشرة ليلة ، وبه قطع ابن حزم إذ قال: ثم نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقرب الطائف، فتحصنت منه ثقيف، وحاربهم المسلمون، فأصيب من المسلمين رجال بالنبل، فزال عن ذلك المنزل إلى موضع المسجد المشهور اليوم، وكان وادياً يقال له: العقيق، فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة، ويقال: بل بضع عشرة ليلة، وهو صحيح بلا شك. وكان معه امرأتان من نسائه، إحداهما أم سلمة.
فموضع المسجد اليوم بين منزلهما، في موضع مصلاه صلى الله عليه وآله وسلم. وتولى بنيان ذلك المسجد عمرو بن أمية بن وهب بن مالك الثقفي.
ورماهم صلى الله عليه وآله وسلم بالمنجنيق، ثم دخل نفر من المسلمين تحت دبابة ودنوا من سور الطائف، فصب عليهم أهل الطائف سكك الحديد المحماة، ورموا بالنبل، فأصابوا منهم قوماً.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقطع أعناب أهل الطائف، واسترحمه ابن مسعود في ماله، وكان بعيداً عن الطائف، فكف عن قطعه( ).
وعن الزهري : ثم سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف وترك السبى بالجعرانة وملئت عرش مكة منهم، فنزل رسول الله صلى عليه وسلم بالاكمة عند حصن الطائف بضع عشرة ليلة يقاتلهم ويقاتلونه من وراء حصنهم، ولم يخرج إليه أحد منهم غير أبى بكرة بن مسروح أخى زياد لامه، فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثرت الجراح وقطعوا طائفة من أعنابهم ليغيظوهم بها، فقالت لهم ثقيف: لا تفسدوا الاموال فإنها لنا أو لكم( ).
الثاني : قال ابن هشام : ويقال سبع عشرة ليلة وبين القول الأول والثاني عموم وخصوص مطلق ، بلحاظ أن المراد من البضع هو بين الثلاثة إلى التسعة.
الثالث : ثمان عشرة ليلة في قول ابن سعد.
الرابع : ثلاثون ليلة أو قريباً من ذلك.
الخامس : عن ابن إسحاق.
السادس : مدة الحصار شهر .
السابع : أربعين ليلة في قول مكحول( ).
والمختار أن مدة الحصار بضع عشرة ليلة ، وكذا مدة حصار خيبر( ).
ومدة بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبوك( ).
وقال ابن سعد : عشرين ليلة.
ومع احتمال أن مدة الحصار بضع عشرة ليلة فيحتمل أنه انقطع في شهر شوال ، حتى على فرض دخوله في شهر ذي القعدة وهو شهر حرام فان هذا الحصار ليس قتالاً ولا إبتداء للقتال أو الحصار إنما هو فرع قتال المشركين للمسلمين في شهر رمضان ودفع لشر ثقيف وإرادتهم الثأر والإنتقام فهم موتورون من هزيمته وخسارتهم في حنين ، نعم حدثت مناوشات بين جيش المسلمين وأهل الطائف في هذا الحصار واستشهد عدد من المسلمين ويحتمل أنه في أول أيام الحصار.
ومنهم من استدل بقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذي القعدة بسرية أبي عامر الأشعري واسمه عبيد التي بعثها إلى أوطاس ، ولكنه لا يصلح للإستدلال إنما كانت هذه السرية جزء من معركة حنين التي ابتدأها المشركون في شوال من السنة الثامنة للهجرة ، وكانت هذه السرية لمطاردة بعض فلول هوازن وتحويل إنسحابها إلى هزيمة ، ومنعهم من إعادة الكرة للهجوم ومباغتة المسلمين الذين اغاروا إلى أوطاس وقتل فيها دريد بن الصمة وفرّ أصحابه .
إذ صار المنهزمون من ثقيف وهوازن على ثلاث فرق :
الأولى : فرقة دخلت الطائف وأغلقت الأسوار .
الثانية : فرقة بنخلة .
الثالثة : فرقة بأوطاس.
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن طائفة من المشركين اجتمعوا في أوطاس أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا عامر الأشعري عم أبي موسى الأشعري فادرك معسكرهم وإذا هم ممتنعون ودعاهم إلى النطق بالشهادتين ، ولكنهم ناوشوه القتال وقتل أبو عامر يومئذ وفي قتله وجوه :
الأول : أن سلمة بن دريد بن العمة هو الذي رماه (بسهم فقتل فأخذ الراية أبو موسى الأشعري وهو ابن عمه فقاتلهم ففتح الله على يديه وهزمهم فيزعمون أن سلمة بن دريد هو الذي رمى أبا عامر الأشعري بسهم فأصاب ركبته فقتله فقال:
إن تسألوا عني فإني سلمه … ابن سمادير لمن توسمه
أضرب بالسيف رءوس المسلمه
وسمادير: أمه ) ( ).
الثاني : لقى أبو عامر الأشعري عشرة أخوة من المشركين فحمل عليه أحدهم ، وما كان من أبي عامر إلا أن استعد لملاقاته (وهو يدعوه إلى الإسلام .
ويقول: اللهم اشهد عليه فقتله أبو عامر ثم حمل عليه آخر فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه فقتله أبو عامر: ثم جعلوا يحملون عليه رجلاً رجلاً ويحمل أبو عامر وهو يقول ذلك حتى قتل تسعة وبقي العاشر فحمل على أبي عامر وحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه) ( ) .
أما العاشر فحينما سمع أبا عامر الأشعري يقول :اللهم أشهد عليه ، قال : اللهم لا تشهد عليّ ، فتركه أبو عامر (فأسلم بعد فحسن إسلامه، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا رآه قال: ” هذا شريد أبى عامر) ( ).
الثالث : لم يكن العشرة الذين برزوا تباعاً لأبي عامر أخوة .
الرابع : قام أخوان من المشركين برمي أبي عامر فقتلاه وهما (الْعَلَاءُ وَأَوْفَى ابْنَا الْحَارِثِ مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا قَلْبَهُ وَالْآخَرُ رُكْبَتَهُ فَقَتَلَاهُ .
وَوَلِيَ النّاسَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فَحَمَلَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ يَرْثِيهِمَا
إنّ الرّزِيّةَ قَتْلُ الْعَلَاءِ … وَأَوْفَى جَمِيعًا وَلَمْ يُسْنَدَا
هُمَا الْقَاتِلَانِ أَبَا عَامِرٍ … وَقَدْ كَانَ ذَا هَبّةٍ أَرْبَدَا
هُمَا تَرَكَاهُ لَدَى مَعْرَكٍ … كَأَنّ عَلَى عِطْفِهِ مُجْسَدَا
فَلَمْ تَرَ فِي النّاسِ مِثْلَيْهِمَا … أَقَلّ عِثَارًا وَأَرْمَى يَدَا) ( ).
ووقعت في السبي يومئذ الشيماء أخت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة (وهي بنت الحارث بن عبد العزى، من بني سعد بن بكر بن هوازن) ( ).
وعن إسحاق بن يسار عن رجال من بني سعد بن بكر انه قدم الحارث بن عبد العُزى الذي ارتضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من لبن زوجته إلى مكة اوان نزول القرآن ، فاشتكت عنده قريش وقالوا (أَلَا تَسْمَعُ يَا حَارِ مَا يَقُولُ ابْنُك هَذَا ؟
فَقَالَ وَمَا قَالُوا : يَزْعُمُ أَنّ اللّهَ يَبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنّ لِلّهِ دَارَيْنِ يُعَذّبُ فِيهِمَا مَنْ عَصَاهُ وَيُكْرِمُ فِيهِمَا مَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ شَتّتْ أَمْرَنَا ، وَفَرّقَ جَمَاعَتَنَا . فَأَتَاهُ فَقَالَ أَيْ بُنَيّ مَا لَك وَلِقَوْمِك يَشْكُونَك ، وَيَزْعُمُونَ أَنّك تَقُولُ إنّ النّاسَ يُبْعَثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمّ يَصِيرُونَ إلَى جَنّةٍ وَنَارٍ ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ نَعَمْ أَنَا أَزْعُمُ ذَلِكَ وَلَوْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَا أَبَتْ لَقَدْ أَخَذْت بِيَدِك ، حَتّى أُعَرّفَك حَدِيثَك الْيَوْمَ فَأَسْلَمَ الْحَارِثُ بَعْدَ ذَلِكَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَكَانَ يَقُولُ حِينَ أَسْلَمَ : لَوْ قَدْ أَخَذَ ابْنِي بِيَدِي ، فَعَرّفَنِي مَا قَالَ ثُمّ يُرْسِلُنِي إنْ شَاءَ اللّهُ حَتّى يُدْخِلَنِي الْجَنّةَ) ( ).
والشيماء اسمها حذامة بنت الحارث بن عبد العزى ، ولكن الشيماء غلب عليها ، وناقة شيماء أي فيها شامة سوداء كبيرة .
قال السهيلي : حُذافة ، والأول أصح (وقال ابن حبان : جذامة) ( ) وهي بنت حليمة ابنة أبي ذؤيب السعدية التي أرضعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقتل في هذه السرية أبو عبيدة نفسه رماه رجل فاصاب ركبته ، وكانت سببه وفاته ، ويعد أبو عبيدة رابع أربعة شهداء في معركة حنين ، وهم :
الأول : أيمن ابن أم أيمن.
الثاني : يزيد بن زمعة بن الأسود ، وأمه أخت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من المسلمين الأوائل ، وهاجر إلى الحبشة وقيل أسلم يوم الفتح.
والأول هو المشهور (وكان من أشراف قريش ووجوههم وإليه كانت في الجاهلية المشورة وذلك أن قريشاً لم يجتمعوا على أمر إلا عرضوه عليه فإن وافق رأيهم رأيه سكت وإلا شغب فيه وكان له أعواناً حتى يرجع عنه)( ).
وقال النووي : يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصى القريشى الأسدى الصحابى المكى : أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة، واستشهد يوم حنين فى قول الجمهور. وقال الزبير ابن بكار: يوم الطائف( ).
ولا تعارض بين القولين فالقائل يوم حنين يريد استمرار واقعة حنين ومنها حصار الطائف كما يقال يوم البسوس ويوم داحس ، والغبراء ، واستمرت كل واحدة منهما أكثر من عشرين سنة ويوم بعاث بين الأوس والخزرج قبل الهجرة النبوية بثلاث سنين ، وقيل خمس سنين ، مع استدامتها قبل هذا الوقت .
وقيل استمرت مائة وعشرين سنة مع أنهما ابناء عمومة وفي بلدة واحدة هي يثرب (المدينة) وانتهت الحرب لصالح الأوس ، مع إستمرار المعركة مدة مديدة.
وأخوه عبد الله بن زمعة من أشراف قريش ، وكان يأذن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقتل في حصار الطائف ومع هذا يحسب بأنه قتل في معركة حنين ، ومنهم من يحسبه أنه قتل يوم الطائف ، ليس له عقب ، قال ابن سعد (جمح به فرسه يومئذ، وكان يقال له الجناح، إلى حصن الطائف فقتلوه، ويقال بل قال لهم آمنوني حتى أكلمكم، فآمنوه ثم رموه بالنبل حتى قتلوه)( ).
وهل كان حصار الطائف حاجة ، الجواب نعم ، فلم تتعظ هوازن وثقيف من واقعة حنين ، وسعوا إلى إعادة تجميع فلولهم ، وقيل كان عددهم ثلاثين ألفاً ، وقد لحقتهم خسارة جسيمة يوم حنين ، إذ وقعت المعركة يوم العاشر من شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة ، وكان مجموع السبايا ستة آلاف , وأرادوا الثأر ، فكان الحصار زاجراً لهم ، ودعوة لهم للإيمان .
قانون الأشهر الحرم نعمة متجددة
لقد كانت الأشهر الحرم نعمة من عند الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المسلمين ، وهي من أسباب نشر الإسلام بين الناس خاصة في السنين الأولى للإسلام , وقد حفظ الله لهذه النعمة شأنها في تأريخ الإسلام ، وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية .
فان قلت إنما المتعارف أن الحفظ في المقام يتعلق بالأشخاص والجماعات ، فهل يشمل الجهاد والسنن .
الجواب نعم ، إذ يدل سؤال المسلمين عن الشهر الحرام وهل فيه قتال على إقرارهم بقدسيته ، ولزوم تعاهد الأمن ، وإشاعة الموادعة فيه.
وقد ذكرتُ في الجزء الثامن والثلاثين من هذا السِفر وفي تفسير آية البحث وهو قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ) (ومن إعجاز القرآن التوثيق السماوي للوقائع وبيان الحقائق وتثبيت القوانين سواء التي تترشح عن الإرادة التكوينية أو التشريعية ، ومنها إخباره عن كون الأشهر الحرم تشريعاً من عند الله تعالى إذ قال [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ…] ( ) .
وهل من موضوعية للأشهر الحرم في قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ وإقامة صرح دولة الإسلام ، الجواب نعم ، ولولا هذه الأشهر لإجتهد الذين كفروا في منع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن إتصاله بالقبائل في موسم الحج ، ولعزموا على قتله ولغزو المدينة حتى في الأشهر الحرم ، ولتناجوا بالإجهاز عليه وعلى أصحابه عند خروجهم معتمرين في صلح الحديبية خاصة وأن عدداً من رؤساء قريش كانوا موثورين بقتل آبائهم أو أبنائهم في معركة بدر أو أحد، وكانوا يناصبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم العداء ، ويجاهرون بطلب الثأر , منهم صفوان بن أمية الذي قُتل أبوه واخوه في معركة بدر ، وعكرمة بن أبي جهل الذي وُتر بقتل أبيه , مع أن قتلهم لم يكن لأسباب شخصية أو قبلية إنما لإصرار الكفار على محاربة النبوة والتنزيل ، ليكون من معاني ومصاديق قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ] ( )قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) أي أن الله هو الذي رمى المشركين يوم بدر وأهلك المشركين .
والأصل هو أن الله عز وجل يحفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل الأحوال , لإتمام تبليغ الرسالة ، قال تعالى يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ.
وتبين الأشهر الحرم وتجددها كل سنة حب الله للعباد جميعاً ، لما فيها من منع الإبتداء بالقتال ، فهذا المنع شامل للناس على إختلاف مذاهبهم وعام من جهة الأسباب والغايات سواء الحميدة أو الخبيثة ، وفيها قهر للنفس الغضبية ، ومناسبة للتوافق والسكينة والألفة ، وينتفع الأنبياء والمؤمنون من الأشهر الحرم الإنتفاع الأمثل في أشخاصهم وفي دعوتهم ، خاصة وأن دعوة النبي تبدأ فردية وتأخذ بالإتساع على نحو تدريجي ، وقد تُقطع من الكفار في وسط الطريق ، ويُقتل النبي ، أو يمنع من نشر رسالته خاصة عند الأمم والقبائل التي لا تتقيد بقانون الأشهر الحرم لو لم يصلها حكم هذه الأشهر فقد يحجب عليهم رؤساء الكفر العلم به.
مع أنه موجود ومنصوص قبل أن يخلق الله آدم عليه السلام، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
وتدل الآية أعلاه على أنه ما من نبي إلا وقد جاء بحرمة وأحكام الأشهر الحرم ، ومن الدلائل عليه حج الأنبياء للبيت الحرام وتقع مناسك الحج كلها في شهر ذي الحجة وهو شهر حرام يتوسط شهرين من الأشهر الأربعة الحرم ، وهما ذو القعدة ومحرم.
وجاء التأكيد والتشديد على وجوب إجتناب الظلم بقوله تعالى [فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]( )، ومن الظلم في المقام وجوه :
الأول : القتال في الشهر الحرام.
الثاني : تضييع الوقت ، وعدم تسخيره في طاعة الله .
الثالث : فعل المعاصي والسيئات ، وصحيح أن فعلها حرام في أي وقت من أيام السنة إلا أنه في الأشهر الحرم أكثر إثماً ، وعن ابن زيد في قوله {فلا تظلموا فيهن أنفسكم } قال : الظلم العمل لمعاصي الله والترك لطاعته( ).
الرابع : المراد من الضمير في [فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ] جميع أشهر السنة الاثني عشر ، روي عن ابن عباس( ).
قال الماوردي : فلا تظلموها بمعاصي الله تعالى في الشهور الاثني عشر كلها ، قاله ابن عباس( ).
كما ورد عن ابن عباس ما يدل على إرادة خصوص الأشهر الحرم ، إذ قال : استحلال القتال والغارة فيهن( ).
والأصح هو إرادة الأشهر الحرم ، لتغليظ لأمرها ، وللجمع بين حرمة القتال فيها ، ومطلق فعل السيئات ، وكأن بينها وبين أشهر السنة الأخرى عموماً وخصوصاً مطلقاً.
الخامس : إرادة بني المسلمين عن الإمتثال فيما بينهم ، وتدل عليه صيغة الجمع والخصوص في الخطاب [فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]( )، وفي خطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أوسط أيام التشريق قال : ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، ألا وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السموات والأرض ، منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ، ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، إلا إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكنه في التحريش بينهم( ).
وفيه شاهد بأن حرمة القتال في الشهر الحرام غير منسوخة لأن هذه الخطبة في حجة الوداع وقبل مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ببضعة شهور .
ولو دار الأمر بين الأخذ بخطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه في السنة العاشرة للهجرة التي تدل على حرمة القتال في الأشهر الحرم وبين الإحتجاج بمحاصرة النبي للطائف في شهر شوال وذي القعدة من السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكة فالمقدم هو مضامين خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع من المتواتر السندي ، إذ نقلها عدد من الصحابة .
الثانية : تجلي معاني حرمة القتال في الأشهر الحرم في الخطبة .
الثالثة : خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع من آخر خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشهدها واستمع اليها المئات من الصحابة.
الرابعة : عدم ثبوت استمرار حصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للطائف إلى شهر ذي القعدة .
الخامسة : هذا الحصار أخص وأدنى من القتال ، وهو ملحق لإبتداء هوازن وثقيف القتال في شوال ، ولزجرهم عن مواصلة الهجوم والإغارة على المسلمين.
السادسة : على فرض حدوث هذا الحصار في ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم ، فهو تضحية في واقعة ونسختها خطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع ، وكأنه فرع من فتح مكة وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض والشمس والقمر ، ووضع هذين الاخشبين فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا يلتقط لقطتها إلا من عرفها .
قال العباس : إلا إلإِذخر فإنه لقينهم وبيوتهم . فقال رسول الله صلى الله وآله عليه وسلم : إلا الإِذخر( ).
واختتمت الآية بقانون (أن الله مع المتقين) لبيان أن موضوع الآية أعم من حرمة القتال ، إذ يجب استحضار تقوى الله والخشية منه في السر والعلانية .
ومن التقوى تعاهد مناسك الحج ، واشاعة الأمن في السبل.
السادس : قال سعيد بن المسيب في كتاب الطبري كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يحرم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل الله في ذلك حتى نزلت براءة( ).
السابع : إرادة الحضّ على فعل الصالحات والإمتناع عن السيئات في الأشهر الحرم لأن الحسنات تُضاعف فيها ، ولم يرد لفظ (تظلموا) في القرآن إلا في هذه الآية ، وجاء بصيغة النهي (لاتظلموا) في خطاب موجه الى المسلمين ، والناس جميعاً.
الثامن : إرادة حرمة النسئ وتبديل أوان الأشهر الحرم ، وتأخير حرمة شهر محرم إلى صفر أو تأخير شهر شوال ليدخل في شهر ذي القعدة.
التاسع : هل القول بحلية القتال في الأشهر الحرم من غير دليل من الظلم للنفس ، الجواب نعم .
ترى ما معنى ظلم النفس في الآية الجواب من جهات :
الأولى : لحوق الضرر بالمسلمين عند القتال في الأشهر الحرم .
الثانية : التجرأ والتعدي لذا ورد النهي من التعدي في القتال بقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، فمن التعدي القتال في الأشهر الحرام ويكون تقدير الآية : ولا تعتدوا بابتداء القتال في الأشهر الحرم .
الثالثة : إرتكاب المعصية ظلم للنفس.
الرابعة : تتضمن الآية النهي عن التعاون في الإثم ومعاني الظلم ، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
الخامسة : لقد عظم الله عز وجل مواضع من الأرض ، كالبيت الحرام، وأشخاصاً من البشر كالأنبياء ، إذ اصطفاهم للنبوة والوحي ، واختار الله من الأيام يوم الجمعة ، ومن الليالي ليلة القدر ، وفي التنزيل [اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ]( )، وفي التنزيل [يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ]( )، وورد النص باكرام فاطمة الزهراء عليها السلام فهي بضعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
وأكرم الله عز وجل أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الأمومة للمؤمنين بقوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ) .
واصطفى الله عز وجل من الشهور الأشهر الحرم ، بالحرمة ، وشهر رمضان بالصيام ، وشهر ذي الحجة بأداء مناسك الحج ، وورد في آية البحث [وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً]( ).
العاشر : ومعنى آية البحث أعم من إرادة القتال ، إذ تشمل تحذير المسلمين ، وجعلهم في حال يقظة وحيطة من المشركين الذين يسعون في قتالهم والكيد بهم ، لتكون من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( )، فلا يراد من الآية أعلاه القتال ، ولكن تفيد زجر المشركين عن القتال ، والهجوم على ثغور المسلمين خاصة وأن آية البحث أخبرت عن تعاون وتعاضد المشركين في قتالهم للمسلمين ، ويدل عليه قوله تعالى [كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً]( ).
الحادي عشر : رفع الحرج عن المسلمين في الدفاع ومقدماته في الأشهر الحرم ، فكان العرب إذ حل الشهر الحرام طرحوا أسلحتهم ، وامتنعوا عن حملها ، فأخبرت هذه الآية بأن المشركين قد يقاتلون المسلمين في الشهر الحرام ، فلابد من التهيئ والإحتراز منهم ، فمن كان من الصحابة يطرح أو يعلق سيفه على الجدار في البيت عند دخول الشهر الحرام لأن القبائل لا يغزو بعضها بعضاً في هذا الشهر ، أخبرت آية البحث عن اختلاف الحال ، تبدل الموضوع وتبدل الحكم ويتجلى تعدي وعدوان قريش بصدهم المسلمين عن البيت الحرام ، سواء في صلح الحديية أو الصد والمنع للمسلمين كأفراد من دخول مكة وأداء مناسك الحج والعمرة إلى جانب الأذى المتصل منهم ، والهجاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وما هم عليه من الكفر ، الذي هو فتنة ونوع طريق للإفتتان وهو من مصاديق قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( ) ، وهو من الشواهد على صيرورة فتح مكة حاجة عبادية.
وقيل أن قوله تعالى [وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً]( )، نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم ، ولا دليل عليه .
إنما آية البحث على وجوه :
الأول : آيات الدفاع .
الثاني : من آيات الإحتراس .
الثالث : إرادة حفظ بيضة الإسلام .
الرابع : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودفع الغائلة عنه، فصحيح أن قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، ولكن التحذير والإنذار الوارد فيها باق فلما عجز المشركون عن سجن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن إخراجه إلى الجهة التي يريدون فان سعيهم لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [أَوْ يَقْتُلُوكَ] باق فان قلت قد أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المبيت , وأمر جبرئيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليهاجر إلى المدينة .
والجواب هذا صحيح ، ولكن صيغة المضارع في الآية أعلاه ، وتعدد مصاديق محاولات مشركي قريش إغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستمرة ومتصلة .
ولكن الله عز وجل يصرف كيدهم ، ومن الإعجاز انكشاف أمر هذه المحاولات وكيف أن دفعها بمعجزة وقد تقدم ذكر بعضها.
ومن إعجاز آية البحث إختتامها بقوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( )، للندب إلى الخشية من الله عز وجل ، وأن الفرج والعز والنصر معهما.
كما في قوله تعالى [الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ]( )، فالمقصود من قوله تعالى [وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً]( )، ليس إرادة حملهم على دخول الإسلام ، وإكراههم على الإسلام ، إنما هو لدفع غائلة وشرور المشركين ، وكانوا أيام نزول هذه الآيات يجهزون الجيوش لغزو المدينة أو للإغارة على سروحها ، أو الهجوم على القرى والأفراد الذين دخلوا الإسلام.
يوم بُعاث وإعجاز القرآن الغيري
قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( )
تتضمن الآية أعلاه الأمر من الله بالتمسك بالقرآن والعمل بمضامينه القدسية .
وتخبر عن حال العرب قبل الإسلام ، وكيف أن بعضهم كان يقتل بعضاً ، ويأكل القوي الضعيف ، فجعلهم الله بالإسلام إخواناً متساويين في الحقوق والواجبات ، فلا غرابة أن يحارب الرؤساء من قريش وغيرهم الإسلام لأن المساواة حرب على مقاماتهم وعروشهم ، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بعتق العبيد دفعة أو خصوص العبيد الذين دخلوا الإسلام ، إنما نزلت آيات القرآن بالترغيب بالعتق وندبت إليه وصيرورته كفارة عن التقصير والذنب ، قال تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) ليكون مع توالي الأيام إنعدام الرق في المجتمعات الإسلامية .
وكانت المعارك والحروب تنشب بين قبائل العرب ، وليس منهم إلا ويدخل معركة بالذات والقصد أو لحلف يربطه مع أحد طرفي القتال ، ومنهم الآوس والخزرج ، فمع أنهم أبناء عمومة ويقطنون في بلدة واحدة هي يثرب فان المعارك كانت تنشب بينهما ، ويستدعي كل طرف منهما حلفاءه .
(عن عكرمة قال : لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفراً من الأنصار فآمنوا به وصدقوا وأراد أن يذهب معهم فقالوا : يا رسول الله إن بين قومنا حرباً ، وإنا نخاف إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد.
فوافوه العام المقبل فقالوا : نذهب برسول الله فلعل الله أن يصلح تلك الحرب ، وكانوا يرون أنها لا تصلح بُعاث , فلقوه من العام المقبل سبعين رجلاً قد آمنوا به ، فأخذ منهم النقباء إثني عشر رجلاً ، فذلك حين يقول { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم }( ))( ).
ومن الآيات أن معركة بُعاث من أسباب إسلام أهل المدينة وهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها .
وعن محمود بن لبيد قال (لما قدم أبو الحيسر( ) أنس بن نافع ومعه فتية من بني عبد الأشهل ( ) منهم: إياس بن معاذ يلتمس الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، فسمع بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم: ” هل لكم إلى خير مما جئتم له ” ؟
قالوا: وما ذاك؟
قال: ” أنا رسول الله، بعثني الله إلى العباد، أدعوهم أن يعبدوا الله لا يشركوا به شيئاً، وأنزل علي كتاب كريم ثم ذكر الإسلام، وتلا عليهم القرآن.
فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الجليس حفنة من البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ ( )، وقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانصرفوا إلى المدينة.
وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، فلم يلبث إياس بن معاذ أن هلك) ( ) .
(قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه فكانوا لا يشكون أنه مات مسلماً.) ( ).
ويدل هذا الخبر على بركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لرفع معركة بُعاث وعدم وقوعها ، وكأن وفد الأوس ندموا لعدم تصديقهم بنبوته ، فقدم عليه رهط منهم في بيعة العقبة وأسلموا .
وموضوع قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ) عام يشمل نجاة بني اسرائيل من فرعون ، بعد ما لاقوه من اضطهاد فرعون وملئه خاصة مع لحاظ الآية التالية لها [وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ]( )، إذ كان فرعون يسخر بني إسرائيل في بناء البيوت والقصور ، وكانوا يزرعون الأرض ويتعاهدون الكروم والأشجار لذا قال تعالى [وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ]( ).
ويشمل حال المسلمين ، وعن الإمام علي عليه السلام : يوسف وولده( ).
وعن ربيعة بن ناجد قال: سمعت عليا عليه السلام يقول في هذه الآية وقرأها، قوله عزوجل [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ]( )، فقال: لتعطفن هذه الدنيا على أهل البيت كما تعطف الضروس( ) على ولدها( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام أن الآية نزلت في الإمام المهدي.
وقوله تعالى [وَنَجْعَلَهُمْ] أئمة أي قادة في سبل الهدى والدعوة إلى الإيمان ، واحقاق الحق ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وعن الحسن البصري( ) قال : قال عمر : إني استعملت عمالاً لقول الله [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ]( ) ( ).
والمراد من العمال أي الولاة والأمراء ، وفيه شاهد على تلقي الصحابة لمضامين آية البحث باتخاذها منهاجاً وأنها لا تقف عند مضامين القصة والخبر .
ويتألف عنوان هذا البحث من طرفين :
الأول : يوم بُعاث وهو معركة من المعارك التي وقعت بين الأوس والخزرج ، وتتصف أن وقائعها جرت بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقبل الهجرة بخمس سنوات .
الثاني : علم جديد مستحدث في هذا التفسير ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن ليشمل وجوهاً :
الأول : أسباب نزول الآية القرآنية .
الثاني : ما يترشح عن الآية القرآنية من العلوم .
الثالث : المنافع العظيمة للآية القرآنية وأسباب الهداية والصلاح.
الرابع : يمكن إنشاء قانون وهو تجلي مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) في نزول كل آية قرآنية ، وهو من ثمرات التنزيل، فكل آية من القرآن تبعث على الهدى .
لقد أنعم الله عز وجل علينا بانشاء علوم مستحدثة في هذا التفسير ومما يخص إعجاز القرآن :
الأول : إعجاز الآية الذاتي ، لبيان قانون وهو (أن كل آية قرآنية لها إعجاز يتعلق بمضامينها القدسية ، وضروب البلاغة والبيان ، وأسرار الجمع بين أول ووسط وآخر الآية القرآنية .
الثاني : الإعجاز الغيري للآية القرآنية ، وهو الذي يتعلق بأسباب النزول والفيض والبركة والنفع العظيم المترشح عن الآية القرآنية أوان النزول وما بعده إلى يوم القيامة ومنه تعضيد الآية القرآنية للسنة النبوية ، وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن خمس مرات في اليوم وبأوقات مخصوصة مرتبطة بأحوال كونية كصلاة الصبح بعد طلوع الفجر ، وصلاة الظهر عند زوال الشمس عن كبد السماء .
الثالث : الإعجاز الذاتي للقرآن ، وهو الآيات التي صاحبت نزول القرآن والشواهد على حضور منافعه بين الناس ، وهدايتهم إلى الإيمان وتثبيت القرآن سنن التقوى في الأرض , وإضمحلال مفاهيم الكفر والضلالة ، فلا غرابة أن تتصف الآيات والسور المكية التي نزلت في مكة بدايات البعثة النبوية بصيغة الإنذار والتخويف والوعيد .
وتسمى أيام الغزو والقتال والحروب في الجاهلية بأيام العرب وكأن العرب لا يُعرفون إلا بالغزو والإقتتال مع نفرة كثير منهم من الحرب والقتال، وسعيهم للإصلاح ودرء الفتن لتكون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشرف أيام العرب .
وكل آية تنزل من القرآن هي من أيام العرب ، وتذهب الوقائع والمعارك بأيامها ، وتتلاشى أضرارها مع تقادم الأيام أما البعثة النبوية ونزول آيات القرآن فهي خير محض ، ونعمة متجددة من عند الله في كل زمان .
ويتضمن الشعر العربي بيان سنخية مجتمعات العرب آنذاك ، وفيه المدح والثناء على الكرم والشجاعة وشرف الأنساب ، وفيها الذم والهجاء ، نعم احتلت الحرب والسيف والغزو والمعارك منه موقعاً منها وذكر بعضها في المعلقات .
ويبين زهير بن أبي سلمى تؤدى إلى الإبادة في معلقته أن بعضهم لا يرضى بالسلم ، ويطلب الحرب وإن أدت إلى الإبادة , كما في قوله في معلقته :
تداركتُما عَبْساً وذُبيان بعدما … تفانَوْا ودقُّوا بينهم عِطْرَ مَنْشَم( ).
وموضوع هذا البيت الشعري آخر وقائع حرب داحس والغبراء ، إذ توافى إلى الصلح , ووقف بنو عبس بقطن.
قال ابو عبيدة : فاصطلح الحيان إلاّ بني ثَعلبة بن سَعد بن ذُبيان، فإنهم أبَوْا ذلك، وقالوا: لا نَرضى حتى يُودوا قَتلانا أو يُهدَر دمُ مَن قَتلها. فخرجوا من قَطن حتى وَردوا غدير قلْهى فسَبقهم بنو عَبْس إلى الماء فمَنعوهم حتى كادوا يموتون عَطشَاً ودوابّهم، فاصلح بينهم عوف ومَعقل، ابنا سُبيع، من بني ثعلبة، وإياهما يَعني زُهير( ). بالبيت أعلاه.
ويسمى هذا اليوم يوم غدير قلهن ، ومنشم امرأة عطارة تبيع العطر والطيب ، اشترى قوم منها عطراً فغمسوا أيديهم فيه كميثاق للقتال ، فقتلوا جميعاً ، فصارت مثلاً للتشاؤم.
وفي أشعار زهير بن أبي سلمى ذم للحرب ، وبيان لأضرارها اللاحقة ومنه قوله :
وَمَا الحَرْبُ إلاّ ما عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ … وَمَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرَجَّمِ
متى تَبْعَثُوها تَبْعَثُوهَا ذَمِيْمَةً، … وَتَضْرَ إذا ضَرّيْتُمُوها فَتَضْرَمِ
فَتَعْركُكُمْ عَرْكَ الرِّحَى بِثِفَالِها ….وَتَلْقَحْ كِشَافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ
فَتُنْتِجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كَلُّهُمْ …. كَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ( ).
لبيان أن إشعال الحرب أمر مذموم ، ويتوجه الناس لأصحابه بالذم والتقبيح وقال عنترة بن شداد في معلقته :
هَلاَّ سَأَلْتِ الخَيْلَ يا ابنَةَ مالِكٍ … إِنْ كنتِ جاهِلَةً بما لم تَعْلَمِي
إِذْ لا أَزالُ على رِحالَةِ سابِحٍ … نَهْدٍ تَعاوَرَهُ الكُماةُ مُكَلَّمِ
طَوْراً يُجَرَّدُ للطِّعانِ وتارَةً … يَأَوِي إِلى حَصِدِ القِسِيّ عَرَمْرَمِ
يُخْبِرْكِ مَنْ شَهِدَ الوَقِيعَةَ أَنَّنِي … أَغْشَى الوَغَى وأَعِفُّ عِنْد المَغْنَمِ( ).
وحمل الشاعر عمرو بن كلثوم لواء قومه في عدد من المعارك منها يوم خوّ الذي وقع بين أسد من خزيمة وبين يربوع .
وكانوا إذا أرادوا حرباً أو خافوا من مداهمة عدو أوقدوا ناراً على مرتفع ليبلغ أصحابهم .
وقال عمرو بن كلثوم :
(ونحن غداة أوقد في خزاز … رفدنا فوق رفد الرافدينا) ( ).
وعمّر عمرو بن كلثوم وجاء (عن رجل من النمر بن قاسط قال: لما حضرت عمرو بن كلثومٍ الوفاة وقد أتت عليه خمسون ومائة سنة، جمع بنيه فقال: يا بني، قد بلغت من العمر ما لم يبلغه أحد من آبائي، ولابد أن ينزل بي ما نزل بهم من الموت. وإني والله ما عيرت أحداً بشيء إلا عيرت بمثله، إن كان حقاً فحقاً، وإن كان باطلاً فباطلاً. ومن سَب سُب؛
فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لكم، وأحسنوا جواركم يحسن ثناؤكم، وامنعوا من ضيم الغريب؛ فرب رجلٍ خير من ألف، ورد خير من خلف. وإذا حُدثتم فعوا، وإذا حَدثتم فأوجزوا؛ فإن مع الإكثار تكون الأهذار . وأشجع القوم العطوف بعد الكر، كما أن أكرم المنايا القتل. ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب، ولا من إذا عوتب لم يعتب . ومن الناس من لا يرجى خيره، ولا يخاف شره؛ فبكؤه خير من دره، وعقوقه خير من بره. ولا تتزوجوا في حيكم فإنه يؤدي إلى قبيح البغض) ( ).
وقال وهو يتوعد عمرو بن هند :
(ألا لا يَجْهلنْ أحدٌ علينا … فنجهَلَ فوِقَ جَهلاً لجاهلينا
لنا الدُّنيا ومن أضحى عليها … ونَبْطِش حين نَبْطش قادِرينا) ( ).
و(عن مجاهد قال : كان جماع قبائل الأنصار بطنين : الأوس والخزرج، وكان بينهما في الجاهلية حرب ودماء وشنآن منّ الله عليهم بالإسلام وبالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأطفأ الله الحرب التي كانت بينهم وألَّف بينهم بالإسلام . فبينا رجل من الأوس ورجل من الخزرج قاعدان يتحدثان ومعهما يهودي جالس ، فلم يزل يذكرهما بأيامهم والعداوة التي كانت بينهم حتى استبا ثم اقتتلا ، فنادى هذا قومه وهذا قومه ، فخرجوا بالسلاح وصفَّ بعضهم لبعض .
فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلم يزل يمشي بينهم إلى هؤلاء وهؤلاء ليسكنهم حتى رجعوا . فأنزل الله في ذلك القرآن { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين }( ))( ).
(وكان يوم بُعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهلي أبو أسيد بن حضير وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي فقتلا جميعا .
قال ابن هشام : قال أبو قيس بن الأسلت :
على أن قد فجعت بذي حفاظ … فعاودني له حزن رصين
فإما تقتلوه فإن عمرا … أعض برأسه عضب سنين) ( ).
وكانت هناك صلات بين الأوس والخزرج وبين قريش ، فقد سارت الأوس إلى مكة لإرادة الحلف مع قريش ضد الخزرج ، فأعلنت الأوس أنهم يريدون العمرة ، وكان من عادتهم إذا أراد أحدهم الحج أو العمرة علّق على بيته كرانيف النخل ، فلا يتعرض له خصمه ، فتحالفت قريش مع الأوس .
وكان أبو جهل غائباً فلما قدم مكة أنكر هذا الحلف (وقال لقريش: أما سمعتم قول الأول: ويل للأهل من النازل ! إنهم لأهل عدد وجلد ولقل ما نزل قوم على قوم إلا أخرجوهم من بلدهم وغلبوهم عليه) ( ).
أي حينما يحل قوم على قبيلة أو أهل بلدة فانهم مع تقادم الأيام والسنين يكون لهم الشأن والرياسة إلا ما قلّ ، وكأنه يحذر من قدوم الأوس والإقامة في مكة ، ثم سعى في نقض الحلف بمكر إذ قالت له قريش (فما المخرج من حلفهم ؟
قال: أنا أكفيكموهم، ثم خرج حتى جاء الأوس فقال: إنكم حالفتم قومي وأنا غائب فجئت لأحالفكم وأذكر لكم من أمرنا ما تكونون بعده علظ على رأس أمركم.
إنا قوم تخرج إماؤنا إلى أسواقنا ولا يزال الرجل منا يدرك الأمة فيضرب عجيزتها، فإن طابت أنفسكم أن تفعل نساؤكم مثل ما تفعل نساؤنا حالفناكم، وإن كرهتم ذلك فردوا إلينا حلفنا. فقالوا: لا نقر بهذا. وكانت الأنصار بأسرها فيهم غيرة شديدة، فردوا إليهم حلفهم وساروا إلى بلادهم؛ فقال حسان بن ثابت يفتخر بما أصاب قومه من الأوس:
ألا أبلغ أبا قيس رسولا … إذا ألقى لها سمعاً تبين
فلست لحاصنٍ إن لم تزركم … خلال الدار مسبلةٌ طحون
يدين لها العزيز إذا رآها … ويهرب من مخافتها القطين
تشيب الناهد العذراء منها … ويسقط من مخافتها الجنين
يطوف بكم من النجّار أسدٌ … كأسد الغيل مسكنها العرين
يظلّ الليث فيها مستكيناً … تله في كلّ ملتفت أنين
كأنّ بهاءها للناظريها … من الأثلات والبيض الفتين
كأنّهم من الماذي عليهم … جمالٌ حين يجتلدون جون
فقد لاقاك قبل بعاث قتلٌ … وبعد بعاث ذلٌّ مستكين) ( ).
ويوم بُعاث هو آخر المعارك بين الأوس والخزرج قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بخمس سنوات ، وانهزمت الخزرج وأحرقت الأوس دور ونخيل الخزرج , وأكثر الأوس والخزرج الأشعار بخصوص يوم بُعاث لتكون شاهداً على فجر الإسلام وتغير الحال نحو المؤاخاة والسلم .
وسميت المعركة باسم يوم بُعاث لأن الموضع الذي وقعت فيه المعركة يسمى بُعاث .
وقال ابن عبد البر (عبد الرحمن بن الزبير بن باطا القرظي هو الذي قالت فيه امرأته تميمة بنت وهب: إنما معه مثل هدبة الثوب وكان تزوجها بعد رفاعة ابن سموأل فاعترض عنها ولم يستطع أن يمسها فشكته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر حديث العسيلة)( ).
وعن عائشة قالت : جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : إني كنت عند رفاعة فطلقني فبنت طلاقي ، فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلا مثل هدبة الثوب ، فتبسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك( ).
واشتركت اليهود في معركة بُعاث بحسب ولائهم وأحلافهم الأولى ، وكانت قريظة والنضير مع الأوس ، على الموازرة والتناصر( ).
وقامت الخزرج فجمعت رجالها وأرسلت إلى حلفاءها أشجع وجهينة ، فارسلت الأوس إلى حلفائها من مزينة ، وصاروا يتجهزون للحرب أربعين يوماً والتقوا ببعاث وهي من أعمال قريظة ، وتخلف قوم من الخزرج عن القتال برئاسة عبد الله بن أبي سلول الذي كان يرجو أن يكون ملكاً على الأوس والخزرج لولا هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وهم الذين نزل فيهم يوم معركة أحد قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ) أي ضعفوا وخافوا (وهم بنو أُسامة من الخزرج .
وبنو حارثة من الأوس .
وكانا جناحي العسكر.
وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى أُحد في ألف رجل، وقيل : تسعمائة وتسعين رجلا .
وقال الزجاج : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أُحد وقت القتال ثلاثة آلاف .
فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أُحد وقد وعد أصحابه الفتح إن صبروا،فلما بلغوا الشوط انخزل عبد الله بن أُبيّ الخزرجي بثلث الناس فرجع في ثلاثمائة، وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟
فتبعهم أبو جابر السلمي فقال : أُنشدكم الله في نبيكم وفي أنفسكم. فقال عبد الله بن أُبي : لو نعلم قتالا لاتّبعناكم. وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أُبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا .
ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فذكرهم الله عظيم نعمته بعصمته فقال : {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} ناصرهما وحافظهما.
وقرأ ابن مسعود : (والله وليهم) لأنّ الطائفتين جمع .
كقوله [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ]( ). {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ]( )، وقال جابر بن عبد الله : ما يسرنا أنالهم نهمّ بالذي هممنا ، وقد أخبرنا الله أنه ولينا)( ).
وحينما أسر الزبير بن باطا يوم بني قريظة جاء الى الصحابي ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري وكان الزبير قد منّ عليه يوم بُعات إذ أخذه فجزنا صيته وخلى سبيله ، فجاءه ثابت وقال للزبير : يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني ، فنظر إليه .
وقال : وهل يجهل مثلي مثلك ، إشارة إلى شأنه وعلو منزلته ، فقال ثابت (إني أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إن الكريم يجزي الكريم. ثم أتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله؛ قد كانت للزبير عندي يدٌ؛ وله علي منةٌ؛ وقد أحببت أن أجزيه بها؛ فهب لي دمه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هو لك، فأتاه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد وهب لي دمك فهو لك، قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد؛ فما يصنع بالحياة ! فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ,
فقال: يا رسول الله، أهله ولده، قال: هم لك، فأتاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أعطاني امرأتك وولدك فهم لك)( ).
وذكر أن الزبير سأل عن بعض رؤساء بني قربظة فأخبروه بأنهم قتلوا فسأل ثابتاً أن يلحقه بالقوم فقتله ، ولم يثبت هذا القتل بعد الهبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن عبد الرحمن بن الزبير بن باطا القرظي ، بضم القاف والظاء له صحبة مع النبي.

من أسباب معركة بُعاث وتجددها وأثرها
عادة ما تكون أسباب المعارك بين العرب لأسباب شخصية , وقضية عين , ومنها معركة بُعاث , إذ قتل مجذر بن زياد الخزرجي لسويد بن الصامت الآوسي .
وسبق وأن قتل سويد أبا مجذر فأخذ مجذر يتربص بسويد حتى إذا وجده منفرداً وهو سكران ،وليس معه سلاح ، فقال لها مجذر (قد أمكن الله منك) ( ) .
وكان (سويد بن الصامت الأوسي لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسوق ذي المجاز من مكة في حجة حجها سويد على ما كانوا يحجون عليه في الجاهلية وذلك في أول مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته إلى الله عز وجل فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام فلم يرد عليه سويد شيئاً ولم يظهر له قبول ما دعاه إليه .
وقال له: لا أبعد ما جئت به ثم انصرف إلى قومه بالمدينة فيزعم قومه أنه مات مسلماً وهو شيخ كبير قتلته الخزرج في وقعة كانت بين الأوس والخزرج وذلك قبل بُعاث.
قال أبو عمر: أنا شاك في إسلام سويد بن الصامت كما شك فيه غيري ممن ألف في هذا الشأن قبلي. والله أعلم. وكان شاعراً محسناً كثير الحكم في شعره وكان قومه يدعونه الكامل لحكمة شعره وشرفه فيهم وهو القائل فيهم:
ألا رب من تدعو صديقاً ولو ترى … مقالته بالغيب ساءك ما يفري( ).
فلما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة أسلم كل من مجذر بن زياد ، وأسلم الحارث بن سويد بن الصامت ، ولكن الضغينة لم تغادر صدر الحارث إذ كان يتحين الفرصة لقتل مجذر بأبيه سويد ، وحضر كل من مجذر والحارث في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة ، ولما جال الناس .
وجاءت خيل قريش من خلف المسلمين أتى الحارث من خلف مجذر فضرب عنقه ، وكأن كفار قريش هم الذين قتلوه في سابقة خطيرة في جيش المسلمين ، وفتنة تفتك بالجيش ، وتثير الرعب والشك بين صفوفه ، ويبقى الصحابي مهاجرا أو أنصاريا يحذر ، ويلتفت خشية الإجهاز عليه من أصحابه خاصة وأنه بعد معركة أحد وقعت معركة الخندق إذ قدم عشرة آلاف رجل من المشركين احاطوا بالمدينة من أكثر من جهة لأكثر من عشرين ليلة ، وقد خاف المؤمنون كما قال الله تعالى [هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا] ( ) .
فأراد الله عز وجل أن يمنع عنهم الخوف من الكيد والمكر الذاتي خاصة وأن المنافقين كانوا يلوذون بالفرار ، ويأتون بأعذار واهية للإنصراف من الميدان .
كما ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ) ولم يرد لفظ [عَوْرَةٌ] في القرآن إلا مرتين ، وكلاهما في الآية أعلاه .
و(عن عروة بن الزبير ومحمد بن كعب القرظي قالا : قال معتب بن قشير: كان محمداً يرى أن يأكل من كنز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط ، وقال أوس بن قيظي في ملأ من قومه من بني حارثة { إن بيوتنا عورة }( ) وهي خارجة من المدينة : إئذن لنا فنرجع إلى نسائنا وأبنائنا وذرارينا ، فأنزل الله على رسوله حين فرغ منهم ما كانوا فيه من البلاء يذكر نعمته عليهم ، وكفايته إياهم بعد سوء الظن منهم ، ومقالة من قال من أهل النفاق ، { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها }( ) فكانت الجنود : قريشاً ، وغطفان ، وبني قريظة . وكانت الجنود التي أرسل عليهم مع الريح الملائكة { إذ جاءُوكم من فوقكم }( ) بنو قريظة { ومن أسفل منكم }( ) قريش ، وغطفان . إلى قوله { ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً }( ) يقول : معتب بن قشير وأصحابه { وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب }( ) يقول : أوس بن قيظي ومن كان معه على ذلك من قومه) ( ) .
وقد لا يلبي بعضهم نداء النفير خوفاً من قتله غيلة ، وما من قبيلة منهم إلا وفيها دم وثأر لغيرها ، سواء من المهاجرين أو الأنصار ، فنزل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخبر وأمر .
أما الخبر فهو أن مجذراً لم يقتله كفار قريش ، إنما قتله الحارث بن سويد، وهذا القتل غيلة ، وليس خطأ كما في قتل عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري والد جابر الأنصاري خطأ .
وأما الأمر فهو أن يقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحارث ، قال تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ) وقد جمع الحارث بين القتل والفتنة ، فبادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للركوب وتوجه إلى قباء ، وكان يوماً حاراَ .
فدخل مسجد قباء وصلى فيه ، وسمعت به الأنصار فجاؤوا يسلمون عليه (وأنكروا إتيانه في تلك الساعة حتى طلع الحارث بن سويد في ملحفة مورسة( )، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعى عويم بن ساعدة، فقال: قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد فاضرب عنقه بمجذر بن زياد فإنه قتله غيلة، فقال الحارث: قد والله قتلته وما كان قتلي إياه رجوعاً عن الإسلام ولا ارتياباً فيه، ولكنه حمية الشيطان، وأمر وكلت فيه إلى نفسي، فإني أتوب إلى الله وإلى رسوله، وجعل يمسك بركاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورِجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الركاب ورجل في الأرض، وبنو مجذر حضور لا يقول لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً، فلما استوعب كلامه، قال: ” قدمه يا عويم فاضرب عنقه ” ، وركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقدمه عويم فضرب عنقه، فقال حسان بن ثابت:
يا حار في سنة من يوم أو لكم … أم كنت ويحك مغتراً بجبريل) ( ).
أي كيف تقوم بالغدر والخيانة وجبرئيل حاضر في المعركة وينزل لإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالواقعة .
ترى لماذا لم يقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم توسله ويعفو عنه ، الجواب لأن جبرئيل نزل بالأمر بقتله ولإستئصال الفتنة بين المسلمين ,
وقال البلاذي أن الجلاس بن سويد بن الصامت هو الذي قتل المجذر غيلة يوم أحد ، ولكن شعر حسان بن ثابت يدل على أنه الحارث .
لقد كانت المعارك والحروب بين الأوس والخزرج تهددهم بالفناء أو لا أقل الضعف والنقص في الرجال والأموال ، ليأتي غيرهم فيسود عليهم ، فكانت هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مناسبة كريمة من وجوه :
الأول : سلامة الأنصار من الفناء ، وهل سلامة الأوس والخزرج من الفناء بنصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ) .
الثاني : إنقطاع الإقتتال بين الأوس والخزرج إلى يوم القيامة ، وهذا الإنقطاع من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية ، فليس من سبب يقطع القتال ولو على نحو القضية الفردية ، ويبدل بسلام وأخوة دائمة بين فريقين يتقاتلون أكثر من مائة سنة إلا بمعجزة من عند الله عز وجل , تجلت ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهجرته إلى المدينة .
الثالث : أنها سبب في إكرام الناس للأنصار إلى يوم القيامة لدفاعهم عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام .
الرابع : نزول القرآن بالثناء عليهم ، قال تعالى [إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] ( ).
الخامس : صار الأوس والخزرج متحابين ويستقل ويتفاخر كل منهم بالآخر ، لبيان قانون وهو عدم التعارض بين الإفتخار الخاص كما في افتخار الأوس وكذا الخزرج بمكارمهم ، وافتخار الجميع بما للأوس والخزرج من الفضل .
ومن الإعجاز في المقام أن القرآن لم يذكرهم بلفظ الأوس والخزرج إنما ذكرهم في مواطن متعددة بصفة الأنصار ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ) وفيه غايات حميدة ، ويأتي إن شاء الله (قانون دلائل تسمية الأنصار)، وفي تسمية الأنصار نشر للواء السلام واستئصال للفتن ، وهذه التسمية من إعجاز القرآن الذاتي والغيري أيضاً .
وقيل في أسباب معركة بُعاث أن الخزرج طلبوا رهائن من بني قريظة والنضير سمعوا أنهم يريدون أن يتحالفوا مع الأوس ، فقدموا لهم أربعين من أولادهم .
وطمع عمرو بن النعمان وهو من رؤساء الخزرج في أرض ونخيل اليهود ، فخيرهم بين الجلاء عن المدينة وترك زروعهم ونخيلهم وبين قتل الرهائن من أولادهم فهموا بالإستجابة بالمغادرة والجلاء ، ولكن قال ابن الأثير في باب يوم الفجار الثاني للأنصار (كانت الأوس قد طلبت من قريظة والنضير أن يحالفوهم على الخزرج، فبلغ ذلك الخزرج فأرسلوا إليهم يؤذنونهم بالحرب .
فقالت اليهود: إنا لا نريد ذلك، فأخذت الخزرج رهنهم وعلى الوفاء، وهم أربعون غلاماً من قريظة والنضير، ثم إن يزيد بن فسحم( ) شرب يوماً فسكر فتغنى بشعر يذكر فيه ذلك:
هلمّ إلى الأحلاف إذ رقّ عظمهم .وإذ أصلحوا مالاً لجذمان( ) ضائعا
إذا ما امرؤٌ منهم أساء عمارة … بعثنا عليهم من بني العير جادعا
فأمّا الصريخ منهم فتحمّلوا … وأمّا اليهود فاتخذنا بضائعا
أخذنا من الأولى اليهود عصابةً … لغدرهم كانوا لدينا ودائعا
فذلّوا لرهنٍ عندنا في حبالنا … مصانعة يخشون منّا القوارعا
وذاك بأنّا حين نلقى عدوّنا … نصول بضربٍ يترك العز خاشعا
فبلغ قوله قريظة والنضير فغضبوا. وقال كعب بن أسد: نحن كما قال: إن لم نغر فخالف الأوس على الخزرج. فلما سمعت الخزرج بذلك قتلوا كل من عندهم من الرهن من أولاد قريظة والنضير، فأطلقوا نفراً، منهم: سليم ابن أسد القرظي جد محمد بن كعب بن سليم. واجتمعت الأوس وقريظة والنضير على حرب الخزرج فاقتتلوا قتالاً شديداً، وسمي ذلك الفجار الثاني لقتل الغلمان من اليهود.
وقد قيل في قتل الغلمان غير هذا، وهو: إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي قال لقومه بني بياضة: إن أباكم أنزلكم منزلة سوء، والله لا يمس رأسي ماء حتى أنزلكم منازل قريظة والنضير أو أقتل رهنهم !
وكانت منازل قريظة والنضير خير البقاع، فأرسل إلى قريظة والنضير: إما أن تخلوا بيننا وبين دياركم، وإما أن نقتل الرهن. فهموا بأن يخرجوا من ديارهم، فقال لهم كعب بن أسد القرظي: يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان، ما هي إلا ليلةٌ يصيب فيها أحدكم امرأة حتى يولد له مثل أحدهم.
فأرسلوا إليهم، إنا لا ننتقل عن ديارنا فانظروا في رهننا فعوا لنا. فعدا عمرو ابن النعمان على رهنهم فقتلهم ، أي أنه طمع بأرض ونخيل قريظة والنضير ، وأطمع قومه بها ، وبيّن كيف أن أرض اليهود خصبة وأن أرضهم سجنة فأيده كثير من قومه .
لبيان كيف أن هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم رحمة باليهود إذ حالت دون تهجير الخزرج لهم ، نعم أعلن اليهود استعدادهم للدفاع،وفيه سفك للدماء من الطرفين وخسارة أموال ، وتعطيل للأعمال ، ليكون من معاني قوله تعالى [َمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] ( ) أنه يمحو الله بهجرة النبي محمد الإقتتال والفتن في المدينة وما حولها ، ويثبت الإيمان والسلم والموادعة إلى يوم القيامة .
وخالفه عبد الله بن أبي بن سلول فقال: هذا بغي وإثم، ونهاه عن قتلهم وقتال قومه من الأوس وقال له: كأني بك وقد حملت قتيلاً في عباءة يحملك أربعة رجال. فلم يقتل هو ومن أطاعه أحداً من الغلمان وأطلقوهم؛ ومنهم: سليم بن أسد جد محمد بن كعب. وحالفت حينئذ قريظة والنضير الأوس على الخزرج، وجرى بينهم قتال سمي ذلك اليوم يوم الفجار الثاني .
وهذا القول أشبه بأن يسمى اليوم فجاراً، وأما على القول الأول فإنما قتلوا الرهن جزاء للغدر من اليهود فليس بفجار من الخزرج إلا أن يسمى فجاراً لغدر اليهود) ( ) .
وهذه الأسباب إنما هي خاصة بيوم الفجار وليس يوم بُعاث .
ليكون من الإعجاز الغيري للقرآن وقف الإقتتال المتصل والمنقطع بين الناس .
ومن مفاهيم قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) إغلاق صفحة بًعاث إلى يوم القيامة .
لتشيع معاني الرأفة والرقة والرحمة بين الناس ، وهل يدل وقف نزيف الدم في أيام ومعارك بُعاث على سلامة آيات السلم من النسخ ، الجواب نعم ، وتدل عليه حال استدامة السلم والألفة بين الأوس والخزرج، وأهل الجزيرة بظلال أحكام القرآن ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
قانون التباين بين أيام العرب ومعركة بدر
تحتمل النسبة بين أيام ومعارك العرب قبل الإسلام ومعركة بدر كشاهد على عصر النبوة وفق النسب الأربعة بين الكليين في باب التطابق أو عدمه وجوهاً :
الأول : التساوي .
الثاني : العموم والخصوص المطلق ، وكون معركة بدر امتداداً لأيام العرب ،وفرعاً منها .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الرابع : التباين والإختلاف .
والمختار هو الأخير ونادراً ما يرد اختيار التباين في النسبة المنطقية في هذا السٍفر، فهناك تباين بين أيام العرب ومعركة بدر من وجوه :
الأول : الأسباب والعلل .
الثاني : المقدمات .
الثالث : تفاصيل الوقائع ومدة القتال .
الرابع : المال والإنفاق .
الخامس : المعجزات بخصوص معركة بدر والعصبية في أيام العرب الأولى .
السادس : الأطراف وتعددها .
السابع : موضوعية التنزيل في معركة بدر ، قبل وأثناء وبعد المعركة .
الثامن : الخسائر والأرباح .
التاسع : النتائج والأثر من جهات :
الأولى : الزمان ، إذ تخلف معارك العرب الأولى الخسارة والندم ، بينما ترشح العز والفخر على المسلمين من معركة بدر .
الثانية : المكان ، فبينما كانت كل حرب من حروب ومعارك العرب تقع في أماكن وقرى متعددة وتنحسر أخبارها في مناطقهم ، شاع خبر معركة بدر وانتصار المسلمين فيها في الآفاق ، وهل هذا النصر وانتشاره بين الأمم والشعوب من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ) الجواب نعم .
الثالثة :نزول آيات قرآنية بخصوص واقعة بدر لتفضح ظلم وتعدي المشركين ، ومنها قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ* بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ* وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] ( ).
الرابعة : تجلى في معركة بدر منّ ولطف الله عز وجل بالمسلمين ، بينما وثقت أيام العرب بأبيات الشعر ، وما فيها من المدح أو الهجاء والرثاء وأسباب البعث على الفتنة
أما التباين من جهة الأسباب فهو نشوب معارك العرب بسبب شخصي عرضي يمكن منعه أو تدارك أسبابه ، وغالباً ما يكون قتل شخص لآخر على نحو قضية عين ، فيأبى قوم المقتول إلا الإنتقام العشوائي ، أو أن قوم القاتل يمتنعون عن دفع الدية لأسباب يظنون بها أنهم على صواب .
وأيام العرب في الجاهلية كثير منها :
الأول : المعارك التي جرت بين الممالك من الحاضرة منها (يوم ذي قار وجذيمة الأبرش والزباء وطَسمَُ وجَديس)( )، والعماليق ونحوهم من العرب العاربة إذ تفانت طسم وجَديس وهم قبيلتان من العرب البائدة يسكنون اليمامة في معارك استمرت سبعين سنة في البراري بسبب طلبهم الرياسة ، فلم يبق منهم باقية وصاروا مضرباً للمثل ، قال بعض الشعراء في رثائهم :
ذويلي من جَوَى هم رسيس … من الأول لطَسْمٍ أو جديس
بنو عم تفانوا بالمذاكي … وباليوم الأحَمِّ العيطموس( ).
الثاني : المعارك التي بين الممالك وبين القبائل.
الثالث : معارك العرب مع الممالك المجاورة من الروم والفرس والحبشة.
الرابع : المعارك التي بين القبائل ، وهي أطولها وأشدها وأكثرها شراسة وقتلاً.
الخامس : الغارات التي حدثت بين القبائل ، وهي كثير لا تحصى .
السادس : الإشتباكات بين الجماعات والأفراد وقطع الطرق .
السابع : المعارك بين المدن .
الثامن : المعارك داخل المدينة الواحدة ، كما في المعارك بين الآوس والخزرج التي استمرت اكثر من مائة سنة منها حرب سمير وأخرها حرب بُعاث.
التاسع : المعارك التي وقعت بين العرب وأهل الملل الأخرى.
كما يمكن تقسيم أيام العرب بحسب اللحاظ منها :
الأولى : المعارك التي دارت بين الرؤساء والملوك منهم مثلاً (زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف ابن عذرة الكلبي أحد من اجتمعت عليه قضاعة، وكان يدعى الكاهن لصحة رأيه، وعاش مائتين وخمسين سنة، أوقع فيها مائتي وقعة؛ وقيل: عاش أربعمائة وخمسين سنة، وكان شجاعاً مظفراً ميمون النقيبة)( ).
فاذا كان رجل واحد اوقع مائتي معركة وجولة فيمكن القول بتعذر إحصاء معارك العرب .
الثانية : معارك العرب بحسب طول أو قصر مدتها ، فهناك من المعارك ما استمرت أكثر من عشرين سنة مثل معركة البسوس .
الثالثة : معارك العرب بحسب طول مدة المعركة منها معركة داحس والغبراء بين عبس وذبيان وكلاهما من قبيلة غطفان ، واستمرت هذه الحرب أربعين سنة ، قتل فيها المئات من كل من الطرفين ، وممن قتل فيها عنترة بن شداد ، وانتهت هذه الحرب بأن قام رجلان من ذبيان بدفع ديات الفارق في عدد القتلى.
ومنها مثلاً حرب الفجار التي استمرت أربع سنوات بين قبيلة كنانة وقبيلة قيس عيلان سميت بهذا الاسم لأنهم استحلوا فيها كل محرم.
لقد رافقت هذه الحروب مآسي اجتماعية وهتك للأعراض وسلب للأموال ، واستحواذ حال الخوف والفزع علي الناس .
ومن رحمة الله بالعرب أن جعل إبراهيم يدعو للإسلام , ويسكن إسماعيل في مكة [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ]( )، ويرفع قواعد البيت الحرام ويدعو الناس للحج ، ويؤكد لهم حرمة الأشهر الحرم لتنمية ملكة الخشية من الله ، والزجر عن مواصلة القتال ولكنهم تمادوا في الغي ، واستولت عليهم العصبية , وقتل الآلاف منهم ، وانتشر وأد البنات بينهم.
فان قيل قد وقعت معارك في أيام النبوة ، الجواب نعم ، وهذه المعارك بهجوم وغزو من المشركين ، وذات امتناعهم عن الإقرار بالتوحيد والإيمان هو نفسه ظلم وتعد ، وقد سمّى الله عز وجل بدرا يوم الفرقان ، قال تعالى [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
ليكون من معاني الفرقان ونصر المسلمين فيها انحسار الكفر والغزو والظلم , وقد كانت بعض معارك العرب تدوم عشرين أو أربعين سنة لأسباب شخصية بسيطة وتنتهي بالصلح والديات كما في حرب البسوس التي نشبت بين كل من :
الأولى : قبيلة تغلب بن وائل ومن حالفها من القبائل .
الثانية : بنو شيبان وأحلافها من بني بكر.
وسببها أن كليب بن ربيعة التغلبي سيد قبائل معد ، والذي يعد (من ملوك العرب) ( ) واسمه وائل ، وكليب لقب غلب عليه .
قتل ناقة لضيف وجار لامرأة تسمى البسوس ، وهي من بني تميم فقتله الجساس بن مرة الشيباني ثاراً لخالته البسوس ، وفنشبت الحرب واستمرت أربعين سنة من سنة 494 ميلادية ، ومنهم من يقول أنها استمرت لعشرين سنة .
وكانت تلك الناقة سبباً مباشراً للمعركة ، إذ كان كليب كثير الزهو والغرور ، وكان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه .
وكان كليب (ويقول وحش أرض كذا في جواري، فلا يصاد، ولا ترد إبل مع إِبله، ولا توقد نار مع ناره، وبقي كذلك حتى قتله جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان وشيبان من بني بكر بن وائل المذكور.
وكان سبب مقتل كليب أن رجلاً من جرم نزل على خالة جساس وكان اسم خالته المذكورة البسوس بنت منقذ التميمية، وكان للجرمي المذكور ناقة اسمها سراب فوجدها كليب ترعى في حماه( ) ، فضربها بالنشاب وأخرم ضرعها) ( ).
وهرب جساس إلى قومه ، وحينما علم أبوه مرة بأن ابنه قتل ملك معد عرف أن فتنة وحرباً شديدة ستقع ، وأراد تسليم ابنه ، ولكن قومه منعوه .
فالتقوا بماء يقال له النهي ، وكان رئيس تغلب أخا كليب واسمه مهلهل ، أما رئيس بني شيبان بن بكر فهو الحارث بن مرة أخو جساس ، وأنتصرت فيها بنو تغلب ، ثم وقعت معركة الذنائب .
وقتل من بني شيبان الحارث بن مرة أخو جساس ورئيسهم شراحيل بن مرة وهو ابن أخي جساس ، وهو جد معن بن زائدة الشيباني ، ومعن هذا كان شجاعاً جواداً كان من رجال بني أمية في العراق ، فلما تملك بنو العباس طلبه المنصور وأشتد الطلب عليه وهو مختف ، فلما خرج الخراسانية والربوندية على المنصور وحمي القتال ، وارتبك المنصور ظهر معن فقاتل قتال الأبطال ، وتحقق النصر على يده .
والمنصور لا يعرفه إذ كان مقنعاً بالحديد .
فسّر به المنصور وقال : ويحك من تكون؟
فكشف عن لثامه وقال : أنا طلبتك معن ، فولاه اليمن .
ثم التقوا بوم واردات وظفرت تغلب أيضاً .
وقُتل همام أخو جساس لأبيه وأمه ، وأشتد طلب تغلب لجساس ، فقال له أبوه مرة : الحق بأخوالك بالشام وأرسله سراً ومعه نفر قليل من قومه ، فبلغ بني تغلب الخبر فأرسل المهلهل في طلبه ثلاثين رجلاً ، فأدركوه وأقتتلوا ، ولم يسلم من كل من الفريقين إلا رجلان ، وجُرح جساس جرحاً بليغاً مات منه .
وقتل مهلهل بجير بن الحارث البكري وقال(بؤبشسع نعل كليب. فلما سمع أبوه بقتله ظن أنه قد قتله بأخيه ليصلح بين الحيين، فقال: نعم القتيل قتيلاً أصلح بين ابني وائل !
فقيل: إنه قال: بؤبشسع نعل كليب، فغضب عند ذلك الحارث بن عباد وقال:
قرّبا مربط النعامة منّي … لقحت حرب وائل عن حيال
قرّبا مربط النعامة منّي … شاب رأسي وأنكرتني رجالي
لم أكن من جناتها علم الل … ه وإنّي بحرّها اليوم صالي
فأتوه بفرسه النعامة، ولم يكن في زمانها مثلها، فركبها وولي أمر بكر وشهد حربهم، وكان أول يوم شهده يوم قضة، وهو يوم تحلاق اللمم، وإنما قيل له تحلاق اللمم لأن بكراً حلقوا رؤوسهم ليعرف بعضهم بعضاً إلا جحدر بن ضبيعة بن قيس أبو المسامعة فقال لهم: أنا قصير فلا تشينوني، وأنا اشتري لمتي منكم بأول فارس يطلع عليكم. فطلع ابن عناق فشد عليه فقتله، وكان يرتجز ذلك اليوم ويقول:
ردّوا عليّ الخيل إن ألّمت … إن لم أقاتلهم فجزّوا لّمتي
وقاتل يومئذ الحارث بن عباد قتالاً شديداً، فقتل في تغلب مقتلة عظيمة، وفيه يقول طرفة:
سائلوا عنّا الذي يعرفنا … بقوانا يوم تحلاق اللمم
يوم تبدي البيض عن أسوقها … وتلفّ الخيل أفواج النّعم) ( ).
ومن غرائب هذه الحرب أن المهلهل رئيس بني بكر والذي قال عن بجير بن الحارث عندما قتله أنه بشسع نعل كليب وقع في أسر الحارث نفسه، وهو لم يعرفه وكان اسم المهلهل عدياً فقال الحارث (دلني على عدي وأنا أخلي عنك. فقال له المهلهل: عليك عهد الله بذلك إن دللتك عليه ؟ قال: نعم. قال: فأنا عدي؛ فجز ناصيته وتركه، وقال في ذلك:
لهف نفسي على عديٍّ … ولم أعرف عديّاً إذ أمكنتني اليدان) ( ).
ولما طالت الحرب وكثر القتل عند الفريقين وشارفوا على الفناء ، وقُتل جساس ورؤساء القوم سألت بكر بني تغلب الكف عن القتال فأجابوهم ، وغادر المهلهل إلى اليمن ولاقى الذل .
أما معركة بدر فانها تختلف من جهة الأسباب والوقائع والنتائج ، فقد نشبت باصرار وتعد من المشركين , وكانت بين الإيمان والكفر ، بين النبوة والشرك ، بين الصلاح والفساد ، ولم تستمر إلا يوماً واحداً لتمنع من تجدد المعارك التي تستمر عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة .
ولو استمرت أحوال العرب لفنيت عدد من القبائل ، وتركوا ديارهم كما غادر المهلهل ، ولاستولى عليهم غيرهم من الممالك وفروعها ، لحاجتهم إليهم أو بسبب ضعفهم.
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي لم تذكر في التأريخ أمور :
الأول : سلامة الناس من القتل العام في المعارك القبلية .
الثاني : استئصال العصبية والجاهلية ، وهو من الشواهد على أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرب على الإرهاب .
الثالث : منع القتل العشوائي وإشاعة سفك الدماء .
الرابع : احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لأنه يسفك الدماء ، وتحقق مصداق هذا الأمر في شواهد تأريخية كثيرة لتنسخه مصاديق بعث الأنبياء بالصلاح والتقوى والبشارة والإنذار ، ومن الشواهد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي قطعت دابر الحروب المبيدة.
ومن معارك العرب ما كان سببه أيضاً زهو وغرور الذي يسود ويكون كالملك على قومه ، ومنهم زهير بن جذيمة الذي كانت له أتاوة على هوازن يقبضها كل سنة في سوق عكاظ أيام الموسم في مكة (وكان يسوم هوازن الخسف، فكان في قلوبهم منه، ووقعت الحرب بين زهير وبين عامر، فاتفقت هوازن مع خالد بن جعفر بن كلاب وبني عامر على حرب زهير، واقتتلوا معه.
فاعتنق زهير وخالد وتقاتلا، فقتل زهير وسلم خالد، وكانت الوقعة بالقرب من أرض هوازن، فحملت زهيراً بنوه ميتاً إِلى بلادهم، فقال: ورقة بن زهير أبياتاً في ذلك منها يقول لخالد المذكور:
فَطِر خالد إِن كنت تسطيع طيرة … ولا تقعن إِلا وقلبك حاذر
أتتك المنايا إِنْ بقيت بضربة … تفارق منها العيش والموت حاضرُ
ولما كان من خالد بن جعفر بن كلاب ما كان من قتل زهير، خاف وسار إِلى النعمان بن امرئ القيس اللخمي ملك الحيرة واستجار به) ( ).
ولما كان زهير المقتول هو سيد غطفان انتدب منهم الحارث بن ظالم المري وذهب إلى النعمان وتظاهر أنه جاء بطلب وحاجة .
حتى إذا جنّ الليل ، دخل الحارث إلى خالد في قبته وقتله غيلة وهرب وطلبوه ولم يدركوه فنشبت بسببه حروب .
الخامس : نزول السور المكية بالتخويف والوعيد للإنشغال عن العصبية والإقتتال ، ومنها ما جاء بصيغة الإستفهام ، قال تعالى [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ] ( ) وقال تعالى [وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلاَدِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ] ( ) وقال تعالى [فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ] ( ).
السادس : إنقطاع أسباب الفتنة أيام النبوة ، إذ كان الجامع المشترك للناس هو الإيمان ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) .
لقد ذكرت أيام ومعارك العرب في الأشعار والأخبار ثم دونت في كتب التأريخ ، أما معركة بدر فقد نزل ذكرها من عند الله عز وجل ، ولم يذكر اسم بدر في القرآن إلا مرة واحدة بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) لبيان أن معركة في نصف نهار اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة تقلب حياة العرب فمن بدايات زمان العولمة هو معركة بدر ، ومن الدلائل عليه [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ] ( ) بلحاظ أن نصر المسلمين في معركة بدر منفعة للناس جميعاً إلى سعادة وتضئ لهم دروب الهداية والرشاد ، وتعبد لهم طرق السير نحو اللبث الدائم في النعيم .
وقد تفضل الله عز وجل وجعل كل مسلم ومسلمة يتلوان قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
وحرب داحس والغبراء التي نشبت بسبب سباق الخيل ، أما معركة بدر فكانت ليوم واحد بتعد وظلم من المشركين ليتغير معها وجه التأريخ إلى يوم القيامة .
ومن خصائص أيام العرب وجود أسباب لنشوب الحرب ، وهذه الأسباب شخصية ، وقد يطلب الطرف الآخر تسليم القائل فيأبى قومه أو يطلبون الدية والتسوية فيستهان بهم.
فنشب الحرب ويفقد كل طرف المئات من الرجال ، وتعطل الأعمال ، فاستأصل الإسلام دابر هذه الحروب ، إذ جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلواء السلم والسلام في النشأتين ، ولكن قريشاً لم يرضوا بأنوار الهداية والفلاح وتستقرأ علوم ومعجزات متعددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الدراسة المقارنة بين ثلاثمائة سنة من أيام العرب وبين صبيحة يوم معركة بدر .
وبيان أن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاح للناس ، وهبة لأجيال المستضعفين ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ) .
ونطرح هنا مسألة مستحدثة وهي هل كان سبب محاربة قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها كانت تعتاش وتنتفع من المعارك التي تقع بين القبائل العربية والتي تكون سبباً لضعف وحاجة أطراف القتال فيلجأون إلى قريش لإقتراض المال والوجاهة ، ويمتنعون عن التعرض لقوافلها التجارية , الجواب نعم .
وأدركت قريش أنه بدخول القبائل الإسلام يسود الوئام والوفاق بينهم، ويكفون عن الإقتتال ويصيرون أعزة بالإسلام ، كما أن المستضعفين والفقراء يكونون بذات الدرجة والمرتبة مع رجالات قربش من جهة الحقوق والواجبات ، فلم ترض قريش بهذه المساواة وأدركت أن عتق العبيد قريب.
الجواب نعم ،وكان بعض المسلمين الأوائل عبيداً عند كبار رجالات قريش وقاموا بتعذيبهم ، فلم يتركوا الإسلام بل واجههوهم بالتحدي والجهد بالتوحيد ، كما في سمية أم عمار بن ياسر ، فمن خصائص الرؤساء والأغنياء مقابلة دعوة الأنبياء بالرفض وهو لا يمنع من ظهور بعض الأفراد بينهم ممن يؤمن بدعوة النبي ، كما في مؤمن آل فرعون ، قال تعالى [وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ]( ).
ولو آمن فرعون برسالة موسى عليه السلام لبقي في عرشه وسلطانه ولما هلك وجنوده في البحر الأحمر.
وكذا قريش فقد أخبرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنهم لو آمنوا يسودون العرب والعجم.
وفي الليلة التي أرادت فيها قريش قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (اجتمعوا له. وفيهم أبو جهل بن هشام، فقال وهم على بابه: إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان لكم منه ذبح، ثم بعثتم بعد موتكم؛ فجعلت لكم نار تحرقون فيها.
قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ حفنة من تراب، ثم قال: نعم، أنا أقول ذلك، أنت أحدهم.
ليكون تهديد ووعيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمشركين يومئذ من عمومات قوله تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ] ( ).
وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رءوسهم؛ وهو يتلو هذه الآيات من يس: ” يس، والقرآن الحكيم، إنك لمن المرسلين، على صراط مستقيم ” ) إلى قوله: ” وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون ” ) ، حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هؤلاء الآيات، فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على راسه تراباً؛ ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب.
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون ها هنا ؟ قالوا: محمداً، قال: خيبكم الله ! قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً، وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم ؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يطلعون .
فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم، عليه برده؛ فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام علي عن الفراش .
فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا، فكان مما نزل من القرآن في ذلك اليوم، وما كانوا أجمعوا له وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.
قانون الصلاة سلم متجدد
تقسم العبادات إلى أقسام :
الأول : العبادات البدنية ، وهي الصلاة والصيام ، قال تعالى [أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ] ( ) .
الثاني : العبادات المالية ، وهي الزكاة والخمس .
الثالث : العبادة البدنية المالية ، وهو الحج ، إذ يقطع الحاج المسافة كمقدمة للحج ويؤدي المناسك ، وينفق المال في السفر ولشراء لباس الإحرام وشراء الهدي ، وتتصف الصلاة بخصوصية وهي أن الصلاة عبادة قولية وفعلية ، فالصيام عبادة بدنية بالإمساك عن الأكل والشرب والجماع، وهذا الإمساك أمر وجودي، أما الصلاة فأنها عبادة بدنية من جهات :
الأولى : القيام بين يدي الله بخشوع ، ومن خصائص هذا الخشوع إنحصاره بأوان أداء الصلاة إذ يتغشى النفس والجوارح إلى ما بعد الصلاة، فينعكس على عالم الأفعال بالصلاح وسنن التقوى ، وهو من معاني ومنافع الذكر ، إذ قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
الثانية : ترك منافيات الصلاة ، ويبدأ هذا الترك من تكبيرة الإحرام إلى حين الخروج من الصلاة بالتسليم .
ومن معاني هذا الترك أنه دعوة للإمتناع عن الإضرار بالذات والغير بالقول والفعل ، أن الوقوف بين يدي الله في الصلاة باستكانة عنوان ضعف وعجز الإنسان ، وإقرار بالحاجة إلى اللجوء إلى الله وطلب المدد والتوفيق منه تعالى ، وهو رب الناس جميعاً ، وتخبر آيات القرآن بأنه سبحانه رحيم ورؤوف بهم ، وحق على الذي يقف في الصلاة خاشعاً لله عز وجل أن يجتنب التحدي بالظلم ، قال تعالى مخاطباً المسلمين [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
استحداث قوانين في الإعجاز
لقد أراد الله عز وجل لدلائل ومعجزات القرآن البقاء في الأرض والتجدد والتراكم ، وان لا تنقطع عجائبه ، والبراهين التي تدل على نزوله من عند الله عز وجل ، ودعوته الناس في كل ليلة للنهل والإغتراف منه والتزود بعلومه لأمور الدين والدنيا .
وليس من حصر لأبواب إعجاز القرآن ، وهي قابلة لأمور :
الأول : الإنشطار فكل باب من الإعجاز ينشطر اليوم أو غداً إلى أكثر من علم .
الثاني : باب من الإعجاز توليدي تتجلى له في كل زمان مصاديق وشواهد .
الثالث : استحداث أبواب وأقسام جديدة من الإعجاز ، خاصة وأن كل آية قرآنية لها إعجاز خاص .
وأبواب إعجاز القرآن كثيرة منها ما ذكره العلماء , ومنها ما هو مستحدث منا , وما يستحدث مستقبلاً في الأجيال اللاحقة :
الأول : الإعجاز البلاغي واللغوي ، وجمال نسق الألفاظ وخصائص تركيب ، جزالة الكلمات في القرآن ، وصيرورتها مناراً ووسيلة لجذب فصحاء العرب ، وإعلانهم إرتقاء القرآن عن كلام البشر ، ولا يمكن الوقوف عند الإعجاز البلاغي وحده إنما يتداخل معه الإعجاز العقائدي والعلمي والإستقارة والتصريح والبسط والإختصار ، والمجمل والمبين ، والمحكم والمتشابه .
فيبقى العرب متدبرين ومتسائلين عن معاني آية قرآنية فتنزل آية أخرى تبين مضامينها ، وتدفع الوهم ، وتمنع من التعدي في التأويل ، وهل من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، أم أن الآية أعلاه خاصة بأحوال الحرب والقتال ، الجواب هو الأول.
الثاني : الإعجاز العلمي ، تكشف آيات القرآن أسراراً كونية ، وتدعو للرصد والإستقراء ، وتبين أنظمة كونية دقيقة ، قال تعالى [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( )، كما يرسم مناهج العمل للناس في المصانع والزراعات , وتتوالى في هذا الزمان الإكتشافات العلمية في الكون , وكان القرآن سابقا لها ومدلا عليها .
الثالث : الإعجاز في تسيير دفة الحكم ، وفي يوسف عليه السلام حين أوّل رؤيا الملك وقال : ليضع بها خطة سنوية وخطة بعيدة المدى لخمس عشرة سنة يتجاوزون بها سني الجدب وإنحسار ماء النيل وفي التنزيل [يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ] ( ).
الرابع :الإعجاز التشريعي ببيان القرآن لأحكام الحلال والحرام ، وضبط الأنظمة والقواعد للأسرة والمجتمع ومنها أحكام الميراث ، وما فيها من الدقة وهالة التقسيم الذي يتصف بالإنصاف ويحول دون الغبن والفتنة عند موت الأب والمورث.
الخامس : الإعجاز العددي في القرآن ، ومن خصائص القرآن تجلي التناسق العددي في حروفه وكلماته , والتشابه الرقمي في الموضوعات المتناسبة كالدنيا والآخرة .
وهل هذا الإعجاز مقصود بذاته ، وأستحدثنا في هذا السِفر افراداً منه، مثل باب : علم المناسبة في تفسير كل آية ، وذكر اللفظ الذي تنفرد به الآية القرآنية من بين آيات القرآن فعلاً كان أو اسماً .
ولا يزال الإعجاز العددي في بداياته لا لأن العلماء السابقون لم يولوه عناية ، إنما هو يتماشى مع العلوم الحديثة ، وأجهزة الحساب الدقيقة .
السادس : الإعجاز في دلالة عدد اللفظ والكلمة ونظمها في القرآن , إذ قد ترد كلمة مرة واحدة في القرآن ، ويكون لهذا الإنفراد معان ودلالات، بلحاظ الموضوع الذي وردت فيه .
إذ تتكرر ذات الكلمة عدة مرات فيدرس المحققون ما هي دلالات هذا التكرار ، وعدد المرات اتي تكرر فيها ، ونظم وسياق الآيات التي وردت فيها الآية مع التدبر في وجوه الإلتقاء بينها ، وقد تجلى في علم المناسبة في تفسيرنا لكل آية من آيات القرآن ، وهو إلى أوان كتابة هذه الحروف إلى الآية (184) من سورة آل عمران( ) شواهد إعجازية متعددة .
وورد لفظ [يَسْأَلُونَكَ]في القرآن خمس عشرة مرة ، والمراد تعدد السائل وإتحاد المسؤول الذي هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد لفظ [يَسْتَفْتُونَكَ] مرتين ، إحداهما في حسن المعاملة مع النساء وفق الشريعة وأحكام النكاح .
والثانية في الميراث ، وتتضمن كل واحدة منهما الإخبار بأن الله عز وجل هو الذي يتفضل بالإفتاء [وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ] ( ) لبيان قانون وهو وجوب تقيد المسلمين بأحكام الميراث ، وعدم التعدي على حقوق المستضعفين من الورثة وغيرهم ، خاصة مع أن من عادة العرب استحواذ الكبير على الميراث ، وقد يكون العم أو الجد أو رئيس القبيلة أو المولى أي من غير المرتبة الأولى من الورثة وهم الأبوان والأولاد وإن نزلوا، فجاء قول [اللَّهُ يُفْتِيكُمْ] للتشديد ، وبيان لزوم تعاهد أحكام المواريث حسب آيات الكتاب .
(عن سعيد بن جبير قال : كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه ، ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئاً ، فلما نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس ، وقالوا : أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال ، والمرأة التي هي كذلك ، فيرثان كما يرث الرجل؟
فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء ، فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا : لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بد ، ثم قالوا : سلوا . . . فسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأنزل الله { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب }( ) في أول السورة ، في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) ( ).
السابع :الإعجاز التصويري والتعبير ولغة الإنشاء ، وتقريب المدركات العقلية بشواهد حسية كما في قوله تعالى [يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتْ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً] ( ) .
فحينما يرى المسلم سعة الأرض وارتفاع الجبال في السماء وصلابتها وثباتها ، وامتناع بعضها عن الزراعة لا يفتتن بها إنما يستحضر الآية أعلاه، وكيف أن الجبال تضطرب ، وتصير في حال اهتزاز وخوف ورعب يوم القيامة ، فلا تتماسك أجزاء الأرض والجبال فكيف حال الناس الذين عليها يومئذ ، وتصبح الجبال [كَثِيبًا مَهِيلاً] أي رملاً سائلاً، ليكون إعجاز القرآن إتخاذ آيات الآفاق وسيلة للتذكير بالآخرة ولزوم عبادة الله ، ويمكن إنشاء قانون من جهات :
الأولى : قانون الآيات الكونية دعوة للتسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
الثانية : قانون الآيات الكونية دعوة للتصديق بالنبوة والتنزيل .
الثالثة : قانون الآيات الكونية مانع من الغلو بالأنبياء والأولياء ، قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ..] ( ) .
ومن خصائص البشر أنهم يموتون ويغادرون الدنيا ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ( ).
الثامن : الإعجاز الغيري للقرآن في هداية وإصلاح الناس .
التاسع : الإعجاز في علوم الغيب ، قال تعالى [اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ] ( ) وعلم الله عز وجل بما تحمل كل أنثى لا يتعلق بجنس الجنين هل هو ذكر أم أنثى ، هذا التعيين الذي توصل إليه العلم الحديث، ولكن ليس من الأيام الأولى لتلقيح البويضة ، ومما يعلم الله عز وجل في المقام وجوه :
الأول : عدد المرات التي تحمل به كل أنثى ، ومن الإعجاز مجئ الآية بصيغة المضارع أي أن الله عز وجل يعلم عدد أولاد المرأة قبل أن تخلق ، وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، ومن مصاديق قوله تعالى [قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا] ( ).
إن علم الله عز وجل بما تحمل كل امرأة شاهد على أن الله عز وجل يتعاهد الحياة في الأرض بما يستديم معه وجود الإنسان فيها ، وعمارته لها إلى حين قيام الساعة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثاني : ما يصيب الجنين من النقص أو حدوث الإسقاط ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ] ( ) وهل في الآية إخبار عن إصابة الجنين بمرض ولزوم العناية بالأم في سلامة الجنين في هذه الأزمنة ، وإرتقاء الطب فيها ، وحدوث أمراض طارئة ، الجواب نعم .
الثالث : إرادة مدة الحمل على نحو التعيين من جهة اليوم والساعة من حين الإبتداء إلى الوضع ، إذ يعلم الله عز وجل متى تحمل المرأة ، وفي أي ساعة تضع حملها .
الرابع : المقصود جنس الحمل ، وهل هو ذكر أو أنثى .
الخامس : ما تحمل الأنثى من الواحد أو المتعدد والتوأم
السادس : علم الله عز وجل في الأرحام كلها في آن واحد ، ومن غير أسباب أو تجربة ، وما رزق الله الناس من العلم في باب معرفة أحوال الجنينمن مصاديق [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ) ولكن هذا العلم محدود .
السابع : يعلم الله عز وجل ما يقع للجنين وهو في بطن أمه ، وفي أيام حياته ، وهل منه [وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا…] ( ) كما في قصة موسى عليه السلام والخضر ، الجواب نعم .
الثامن : لقد ذكر الله عز وجل علمه بأمور الغيب الخمسة مجتمعة إذ يحيط الله عز وجل وحده علماً بها مجتمعة ومتفرقة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] ( ).
التاسع : يشمل قوله تعالى [وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ] ( ) حال الإنسان في عالم الآخرة ، وهل هو من أهل الجنة أم من أهل النار .
العاشر : لقد جاء الطب الحديث باكتشافات محدودة بخصوص حال الجنين ، أما علم الله عز وجل فهو شامل كما أنه علم مشيئة وإرادة ،فالله سبحانه يغير حال الجنين نحو الأحسن بالدعاء والمسألة والصدقة من الوالدين أو غيرهما ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ] ( ) بعث الناس على الدعاء والمسألة لما فيه الإنجاب ، وصيرورة الابن باراً بوالديه .
ويفيد قوله تعالى [وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ]القطع والجزم ، وكذا الإكتشاف العلمي يفيد القطع لأصالة عدم التعارض بين القطع النقلي والقطع الواقعي .
الحادي عشر : إن العلوم المستترة في حجب علم الغيب بخصوص الجنين تجعل إكتشاف جنس الجنين ، وهل هو ذكر أم أنثى ونحوه كالقطر في البحر من فيوضات عالم القدرة ومصاديق قوله تعالى [أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
قانون تعدد موضوع آيات السلم
لا تختص آيات السلم بخصوص ما ورد فيها لفظ السلم ، إنما تشمل كلاً من :
الأولى : آيات الصلح وتحبيبه إلى النفوس , منه قوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) ففي الصلح بين النبي والمشركين أمن ودفع لآلة الحرب والقتال ومناسبة لتدبر الناس في معجزات النبوة، ويأتي الصلح في القرآن بلفظ السلم ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] ( ) والنسبة بين السلم والصلح هو العموم والخصوص المطلق .
الثانية : آيات الموادعة , والموادعة : المهاودة , وشبه المصالحة .
الثالثة : آيات الصبر على التعدي والظلم ومنها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
الرابعة : آيات المرابطة من غير قصد القتال أو الغزو ، ليدخل في آيات السلم قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ) .
وسيأتي البيان بما يدل على دخول هذه الآية في آيات السلم .
الخامسة : آيات الزهد والإنقطاع إلى العبادة والترغيب بخصال التقوى، قال تعالى [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
السادسة : آيات السلم والموادعة والصبر التي تتجلى في القصص القرآنية التي تخص جهاد وحياة الأنبياء وتأريخ الأمم السابقة ، وفي دعاء إبراهيم وإسماعيل [رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] ( ) .
السابعة : تحريم القتال والقتل جهرة أو غيلة في الأشهر الحرم الأربعة , وبعث النفرة من القتال والقتل طيلة أيام السنة , قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
الثامنة : آيات التسامح ، وتبعث سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية نسائم وشذرات من التسامح في منهاج الوحي.
قانون عدم نسخ آيات الموادعة
المراد من الموادعة نوع مصالحة وهدنة (والتَوادُعُ: التصالحُ) ( )والنسبة بين المصالحة والموادعة عموم وخصوص مطلق فالمصالحة أعم .
(وتوادع القوم : أعطى بعضهم بعضاً عهداً ، وكله من المصالحة) ( ).
والموادعة نوع هدنة بين خصمين ، وأصل الموادعة (من قولك ودع يدع اذا سكن ووادعته فاعلته من السكون مثل هادنته ورجل وادع ساكن رافه والدعه الرفاهيه وفرس وديع ومودع اذا اعفى ظهره عن الركوب وقال ذو الاصبع العدواني يصف فرسه وتضييعه اياه … اقصر من قيده واودعه … جتى اذا السرب ريع او فزعا …
قال الازهري والمهاوده مثل الموادعه) ( ) ومعناها متاركة الحرب (ومنْهُ الحديثُ : كانَ كَعْبٌ القُرَظِيُّ مُوَادِعاً لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
وتكون هذه المتاركة على وجوه :
الأول : الموادعة وفق شروط من الطرفين أو من احدهما .
الثاني : الموادعة الى مدة وأجل معلوم .
الثالث : الموادعة الدائمة .
وورد عن (ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَبَا بُرْدَةَ هِلَالَ بْنَ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيَّ فَجَاءَ أُنَاسٌ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ فَقَطَعَ أَصْحَابُ أَبِي بُرْدَةَ الطَّرِيقَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْحَدِّ فِيهِمْ أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قُتِلَ وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ وَمَنْ جَاءَ مُسْلِمًا هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ فِي الشِّرْكِ })( )( ).
ومن آيات الموادعة قوله تعالى [أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ *فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ] ( ) .
والآية الثانية أعلاه من آيات الموادعة ، وتوجه الخطاب في الآية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه مواساة له وتخفيف عنه ، وشهادة له بأنه قد بلغ الرسالة ، وليس عليه ضير بخصوص عناد وغرور الذين كفروا .
وقال ابن عطية (وعلى هذا التأويل : فلا نسخ في الآية . إلا في معنى الموادعة التي فيها ، إن آية السيف نسخت جميع الموادعات) ( ).
ولا أصل لهذا النسخ حتى على القول أن مراد الأقدمين منه تقييد المطلق , وتخصيص العام .
وقد فسر ما نسب إلى ابن عباس من القول بالنسخ بهذا المعنى ، وأنه ليس استبدال ورفع للحكم كلية ، وقال الشاطبي (أن الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخاً وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف ، وإنما المراد ما جئ به آخرا ، فالأول غير معمول به والثاني هو المعمول به)( ).
أي أن النسخ على نحو الموجبة الجزئية ، فلم يأت على الأصل ويرفعه ، وحتى هذا المعنى لم يثبت .
ومن وجوه النسخ تعلق الأمر بسبب مخصوص وعند زوال السبب يكون النسخ كما في الأمر بالصبر حال الضعف والقلة ، فاذا زالت هذه الحالة يتغير الموضوع ، وكأنه من النسئ [نُنسِهَا]في قوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) وأن المنسأ هو القتال والهجوم ، وإذا تجددت حال الضعف والقلة يلجأ مرة أخرى إلى الصبر والعفو عن الذين لا يرجون لقاء الله .
والمختار أن آيات الموادعة والصبر باقية في حكمها ، وقد نزل بعد معركة بدر قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، وظاهر الآية زوال الذلة والضعف عن المسلمين بهذا النصر ، ومع هذا بقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على ذات المنهجية من رجاء الصلح والإمتناع عن القتال والحرب ، بدليل أن صلح الحديبية تم بعدها باربع سنوات ، وجعله الله فتحاً بقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).

قانون إلغاء النسئ
قال تعالى [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
من إعجاز القرآن الغيري تغير واقع ، ونقض عادات ، وإصلاح مجتمعات بنزول آية قرآنية كما في خلق الله السموات والأرض وخلق الله سبحانه أفراد الزمان ، وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، ومن الشواهد على سلامة القرآن من التحريف إلى يوم القيامة حاجة الناس لبقاء هذه الآية وتلاوتها والعمل بمضامينها ،وشاء الله عز وجل أن لا تبقى آيات القرآن في ثنايا الكتاب ، أو حصر تعلمها على طائفة من العلماء ، بل أمر كل مسلم ومسلمة بقراءة القرآن خمس مرات في اليوم .
وجعل فيها محطات وعلامات ، ومنها أربعة أشهر حرم ، لبيان قانون في القدسية والحرمة من جهات :
الأولى : الحرمة المكانية كما في البيت الحرام والصفا والمروة ، لقوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ]( )، فالمختار أن ذات جبل الصفا والمروة من الشعائر والعلامات الدالة على وجوب عبادة الله ، والتي يلزم تعاهدها والحفاظ عليها ، لذا حينما طلبت قريش من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل جبل الصفا والمروة لهم ذهباً لم يستجب الله لهم ، ولكن الله استجاب لهم بخصوصهما بما هو أعظم من سؤالهم.
إذ جعل الله كل موسم حج كنزاً لأهل مكة من يوم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة والى يومنا هذا وكذا في المستقبل.
فان قلت علمنا أن أسواق مكة تعمر وتزدهر في موسم الحج كل سنة بعد الفتح ، فكيف كان يوم الفتح ثروة وكنزاً لأهل مكة ، الجواب لقد كان يوم الهداية والإيمان ، ويكون من معاني الفتح في المقام أن الله عز وجل فتح باب التوبة والرشاد لأهل مكة أنفسهم كما أزدهرت أسواق مكة يوم الفتح إذ دخلها عشرة آلاف مسلم ، وكان كثير من المسلمين في حال سعة وسراء.
لينحروا الهدي وينفقوا على الطعام والملبس ، وليتجهزوا بالبضائع والهدايا لأهليهم من مكة .
لقدكان الكفار قبل الفتح يحجون البيت ولكن بأعداد قليلة وبعد الفتح صار آلاف المسلمين يتوافدون على البيت ويدخلون مكة للحج والعمرة ، وكذا الذين كانوا كفاراً دخلوا الإسلام ، وأدركوا وجوب حج البيت لنزول القرآن به , قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ]( )، وبعد الفتح بسنتين كانت حجة الوداع إذ حج مائة ألف من المسلمين في الوقت الذي كان عدد الحجاج قبل الفتح بضعة آلاف لتعمر أسواق مكة ، وتزدهر تجارة قريش مع الأمن في السبل والطرق العامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
لتكون آية [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ]( )، من آيات السلم لما فيها من نشر للسلم في الأشهر الأربعة .
الثانية : الحرمة الزمانية وهي الأشهر الحرم .
الثالثة : الحرمة الرسالة .
الرابعة : الحرمة التنزيلية .
الخامسة : الحرمة الشخصية كما في حرمة المؤمن ، وعن (ابن عمر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطوف بالكعبة ويقول : ما أطيبك وأطيب ريحك ، ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ، ماله ودمه وأن يظن به إلا خيراً)( ).
السادسة : الحرمة في بعض المنازل في السماء كما في البيت المعمور .
قال تعالى ({وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ}( ) بكثرة الحاشية والأهل ، وهو بيت في السماء السابعة ، حذاء العرش ، حيال الكعبة ، يقال له : الضراح ، حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض ، يدخله كل يوم سبعون ألف من الملائكة ، يطوفون به ويصلون فيه ، ثم لا يعودون إليه أبداً ، وخازنه ملك يقال له (الجن)( ).
لقد جعل الله عز وجل موضوعية للأشهر الحرم في كل زمان , ومن معانيها مصاحبة السلم لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإشاعته في الأرض ، ووجوب تقيد العرب بأحكامها في الجاهلية والإسلام ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ) ولو لم يبعث الله عز وجل النبي محمداً في أوان بعثته فهل يستمر العرب بالتقيد بأحكام الأشهر الحرم ، ويمتنعون عن القتال والغزو فيها .
الجواب لا ، إذ كانت الحمية العصبية تستحوذ على سلوكهم ، وتطغى وتبرز في مناجاتهم ، ومن الأدلة عليه عملهم بالتلاعب بأوان وأوقات الشهور ليحلوا القتال في الشهر الحرام ، فنزل القرآن بتحريمه ، إذ قال تعالى [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
والنسئ لغة هو التأخير , فعيل بمعنى مفعول مثل حميد ومحمود (وإذا أخَّرْتَ الرجل بدينه: قلت أنسأْتُه، فإذا زدت في الأجل زيادة يقع عليها تأخير قلت: قد نسأْتُ في أيامك، ونسأْتُ في أجلك: وكذلك تقول للرجل: نسأَ الله في أجلك، لأن الأجل مزيد فيه، ولذلك قيل للبَّن: النَّسْئ، لزيادة الماء فيه، وكذلك قيل: نُسِئَت المرأة: إذا حملتْ، جعل زيادة الولد فيها كزيادة الماء في اللبن. يقال والناقة: نسأْتها، أي زجرتها ليزداد سيرُها.
وقال الفراء: كانت العرب إذا أرادت الصَّدَرَ عن منى قام رجل من بني كنانة – وسماه – فيقول: أنا الذي لا أُعابُ ولا أُجاب، ولا يُرَدّ لي قضاء، فيقولون : صدقت : أَنْسئْنا شَهراً، يريدون أَخِّرْ عنّا حُرْمةَ المحرَّم واجعلها في صفر، وأحلَّ المحرَّمَ، فيفعل ذلك، لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر حُرُم، فذلك الإنساء)( ).
والناسئ للشهور شخص من كنانة يلقب الّقَلمُّس إذا هلك واحد صار بدلاً عنه آخر ، وحمل ذات اللقب , وقال الكلبي (أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له : نعيم بن ثعلبة .
وكان يكون قبل الناس بالموسم ، وإذا همّ الناس بالصّدر( ) قام فخطب الناس فقال : لا مردّ لما قضيت ، أنا الذي لا أغاب ولا أخاب فيقول له المشركون : لبيك.
ثم يسألونه أن ينسئهم شهراً يغيرون فيه.
فيقول : فإن صغراً العام حرام( ).
وإذا قال ذلك حلّوا الأوتار وقرعوا الأسنّة والأزجّة.
وإن قال : إن صفراً هذا العام حلال عقدوا الأوتار وشددوا الأزجّة وأغاروا على الناس.
(وقيل بعد) نعيم بن ثعلبة رجل يقال له : جنادة بن عوف وهو الذي أدركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لبيان مسألة وهي أن انقطاع الرسل في فترة وحقبة من التأريخ مناسبة لشيوع مفاهيم الكفر حتى في البيت الحرام إذ نصبوا الأوثان ، فتفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون المدة بين انتقاله الى الرفيق الأعلى كخاتم النبيين وما تبقى من أيام الدنيا أضعاف تلك الفترة ولكن لم يحصل شيوع لمفاهيم الكفر ، وهو من المعجزات الخاصة بنبوته.
والنسئ ليس قديماً انما هو حادث في الفترة بين عيسى عليه السلام وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن الضحاك عن ابن عباس أن أوّل من نسأ النسيء عمرو بن لحي بن بلتعة بن خندف .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو رجل من بني كنانة يقال له القملّس في الجاهلية .
وكان أهل الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الأشهر الحرم ، يلقي الرجل قاتل أبيه وأخيه فلا يتعرض له فيقول قائلهم : اخرجوا بنا فيقال له : هذا المحرم.
فيقول القملّس : إني قد نسأته العام صفران.
فإذا كان العام المقبل قضينا فجعلناهما محرمين) ( ).
وكانت كنانة تفتخر بتوليها النسئ في الأشهر في الموسم ، واتباع وعمل العرب بهذا النسئ والتأخير في الأشهر الحرم حتى (قال شاعرهم عمير بن قيس :
ألسنا الناسئين على مَعَدٍّ … شهور الحل نجعلُها حَراماً) ( ).
ونسب هذا البيت إلى الكميت( )والأصح هو لعمير بن قيس بن جِذل الطعان ( ).
وهل من النسئ الكبس ، وهو استحداث شهر وجعله بين شهرين مثلاً بين شهر محرم وصفر ، الجواب هذا لم يثبت ، إنما كان النسئ تقديم وتأخير في حساب الشهور ، وإضافة عشرة أيام على الشهر الحل من الشهر الذي يليه.
وقد حج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع بذات الحساب الصحيح ووقف على عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة ، وخطب بالناس وأخبر بوجوب البقاء على ضبط الشهور وترتيبها وفق النظام الكوني الذي أراده الله عز وجل للناس ، فلو استمر النسئ لعمل به فريق دون آخر ولأدى إلى عدم تقيد العرب بحساب الأشهر الحرم ، لذا كان القَّلَمّس الذي يحدد النسئ يحذر من الذين لا يتقيدون به ويدعو إلى قتالهم .
(قال المُفضَّل الضَّبِّيّ : يقال لنَسأَةِ الشهورِ : القَلامِسُ واحدهم قَلَمَّسٌ وهو الرئيس المُعَظَّم وكان أوَّلهم حُذيفة ابن عبدِ بن فُقَيْم بن عديِّ بن عامر ابن ثَعلبَةَ بن الحارث بن مالك بن كنانة ثمَّ ابنه قَلَعُ بن حُذيفة ثمَّ عبَّاد بن قلع ثمَّ أُميَّة بن قلع ثمَّ عَوف بن أُميَّة ثمَّ جُنادة بن أُميَّة بن عوف بن قلعٍ . قال : وكانت خَثْعَم وطَيِّئٌ لا يحرِّمون الأَشهرَ الحُرُمَ فيُغيرون فيها ويقاتلون فكان من نَسَأَ الشهورَ من الناسِئين يقوم فيقولُ : إنِّي لا أُحاب ولا أُعاب ولا يُرَدُّ ما قَضَيْتُ به وإنِّي قد أحللتُ دِماءَ المُحَلِّلين من طَيِّئٍ وخَثْعَم فاقْتُلوهم حيث وجَدْتموهم إذا عرضوا لكم وأنشدني عبد الله بن صالح لبعض القَلامِس : به وإنِّي قد أحللتُ دِماءَ المُحَلِّلين من طَيِّئٍ وخَثْعَم فاقْتُلوهم حيث وجَدْتموهم إذا عرضوا لكم وأنشدني عبد الله بن صالح لبعض القَلامِس :
لقد عِلَمَتْ عُلْيا كِنانَةَ أَنَّنا … إذا الغُصْنُ أَمْسَى مُورِقَ العُودِ أَخْضَرا
أَعَزُّهُمْ سِرْباً وأَمْنَعُهمْ حِمًى … وأَكرَمُهمْ في أَوَّلِ الدَّهْرِ عُنْصُرا
وأَنَّا أَرَيْناهُمْ مَناسِكَ دِينِهِمْ … وحُزْنا لهمْ حَظًّا من الخَيْرِ أَوْفَرَا
وأَنَّ بِنا يُسْتَقْبَلُ الأَمرُ مُقْبِلاً وإِنْ نحنُ أَدْبَرْنَا عن الأَمْرِ أَدْبَرا.
وقال بعضُ بني أَسد :
لهمْ ناسِئٌ يَمْشُونَ تحتَ لِوائِهِ … يُحِلُّ إذا شاءَ الشُّهُورَ ويُحْرِمُ) ( ) .
وإنما أحل دماء طيء وخثعم لأنهما يصيبان الناس في الأشهر الحرم( ).
وهذا الأمر أشد من النسئ لأن بعض قبائل العرب لم تتقيد بحرمة الأشهر الحرم كلها ، لذا توجه المسلمون إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
ويدل هذا الخبر وموضوع النسئ والتلاعب بالتأريخ ، وعدم تقيد طائفة من العرب به على الحاجة العامة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن بالدقة الزمانية فضلا من الله , لذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع :
(أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ فَهُوَ اليَومُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهراً مِنهَا أَرْبَعَةٌ حَرُمٌ ، أَوّلُهُنَّ رَجَبُ مُضَرَ بيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ) ( ).
والنسئ هو التأخير ، ومنه النسئ في البيع ، أي قبض المشتري للعين مع بقاء الثمن في ذمته إلى أجل .
ومنهم في هذا الزمان من أشكل على تعيين الأشهر الحرم لما لدلالة المفهوم على إباحة القتال والغزو في أشهر الحل .
ولم يختص قانون الأشهر الحرم بمسألة حرمة القتال ، ولا أيام النبوة إنما هو قانون من الإرادة التكوينية يوم خلق الله السموات والأرض أي قبل أن يخلق الله عز وجل آدم وقبل أن يهبطه وحواء إلى الأرض ، ويدل عليه قوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]( )، لبيان مسألة وهي وجود قدسية وحرمة زمانية لأفراد من أيام وأشهر كل سنة ، مثلما هناك حرمة مكانية للبيت الحرام والصفا والمروة ، قال تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( )، ولبيان حرمة الأنبياء والرسل.
لقد كان النسئ يهدد نظام الأمن والسلم في الأشهر الحرم الأربعة خاصة أن أصل العمل به هو رغبة بعض القبائل بالغزو والهجوم في الأشهر الحرم ، أو أنهم مستمرون بالقتال حتى يدخل الشهر الحرام ، فيطلبون من الناسئ أن يمدّ لهم بأيام الحل ليباغتوا عدوهم ، ويهجموا الهجمة الأخيرة التي يجعلونها شرسة قاسية تختلف عن أيام القتال والهدوء، يريدون منها أن تكون سبباً لخزي القبيلة الأخرى وإشاعة القتل بين رجالهم ، وسبي نسائهم ، فانعم الله عز وجل عليهم بالإسلام ،وتثبيت الأشهر الحرم .
لقد كانت كل امرأة في الجزيرة مهددة بالسبي ، وكل رجل يحتمل أحد أمرين ، إما القتل أو الأسر ، والقتل هو الأكثر .
وحصر حرمة القتال بأربعة أشهر هل يدل في مفهومه على جواز وحلية القتال في الأشهر الثمانية الباقية ، والجواب عليه وعلى القول لماذا لم يحرم القتال في كل أيام السنة ، من وجوه :
الأول : لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار امتحان وإختبار وابتلاء.
الثاني : المراد منع القتال وإن كان عن حق أو لإنتزاع حق ليرجئ هذا المنع الإقتتال ، ويصرف الناس إلى الصلح سواء في الأشهر الحرم أو بعدها فقد تبدأ مفاوضات الصلح في الشهر الحرام ثم تكون هدنة يتم فيها الصلح، وكان أمر الهدنة معروفاً عند العرب بدليل صلح الحديبية وعقد هدنة فيه لعشر سنوات.
الثالث : المراد من حرمة الأشهر الحرم أعم من القتال فيشمل الزجر عن الثأر من القاتل ، والإمساك عن الغزو والنهب ، وهذا الإمساك واجب في كل أيام السنة ، ولكنه في الأشهر الحرم أغلظ وأشد حرمة.
الرابع : قد يباغت أحد طرفي الخصومة الآخر بالهجوم والغزو في أي وقت من أيام السنة ، فجاء قانون الأشهر الحرم لمنع هذه المباغتة.
الخامس : لقد همّ المشركون بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولولا أحكام الأشهر الحرم لم يأذنوا له بالإتصال مع وفود الحاج ، وعقد بيعة العقبة الأولى والثانية , خاصة وأن قريشاً كانوا يجعلون عيوناً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين يتصلون به ، وموضوع هذا الإتصال وإحتمال وقوع القتال والقتل أشار إليه الملائكة من حين خلق آدم وهو في الجنة لم يهبط بعد إلى الأرض ، فحينما قال الله عز وجل للملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) احتجوا وقالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
ومن علم الله عز وجل أنه جعل أشهراً حرماً لتكون على وجوه :
الأول : الإمتناع عن القتال في الأشهر الحرم .
الثاني : القدسية الزمانية للأشهر الحرم .
الثالث : ضبط العرب حساب الشهور دعوة لهم للتدبر في الآيات الكونية ، وعدم الإفتتان بها ، إنما سخّرها الله عز وجل لهم ، لأمور الدين والدنيا ، ومن أمور الدين معرفة أوان الحج والإستعداد لشهر رمضان .
أما أمور الدنيا فهي عديدة منها قضاء الديون وعدة المرأة المطلقة والمتوفى عنها زوجها .
ومنها معرفة أوان الزراعة والحصاد ، فان قلت هذا يتم وفق الحساب الشمسي ، الجواب إنه لا يتعارض مع معرفة المدة لكل منهما والإستعداد له ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] ( ).
الرابع : الإعجاز في ترتيب وتعيين هذه الأشهر وهي : شهر منفرد وهو شهر رجب الشهر السابع من السنة القمرية , وثلاثة منها سرد متواليات ، ذو القعدة وذو الحجة ومحرم , ليس لتقسيم السنين وبداية كل سنة بشهر محرم موضوعية فيها , فذو القعدة وذو الحجة من سنة , ومحرم من السنة التالية لها .
لتكون الأشهر الحرم سبباً لنشر السلم والأمن في كل أشهر السنة .
ثم أن لفظ [مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ] ( ) أعم من موضوع حرمة القتال ، إذ تشمل الحرمة التنزه عن كل من :
الأول : التعدي والظلم ، وهو الأهم في المقام ، لذا قال تعالى [فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]( )، لبيان أن القتال ابتداء ظلم وتعد.
الثاني : ترك مقدمات القتال في الأشهر الحرم ، فمن الظلم الوارد في الآية أعلاه الإستعداد للغزو والقتال في الشهر الحرام ، ويكون الشروع بالغزو والهجوم في الأشهر الحل ، لذا من إعجاز الآية نهيها عن ظلم النفس في الأشهر الحرم ، لأن التخطيط للظلم والتعدي ظلم للنفس ما لم يترجل بمبرز خارجي وتنفيذ ، فيكون حينئذ ظلماً للنفس والغير .
الثالث : إخبار الآية على أن النسئ [زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ] ( ) لما فيه من تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله ، لبيان النهي عن أصل الكفر وأن حلية القتال بغير حق في الأشهر الحرم من الكفر المنهي عنه أصلاً .
الرابع : يدل قوله تعالى في آية النسئ [فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ] ( ) على حرمة الظلم والإقتتال بين القبائل للعصبية والثأر والطمع والظلم ، ومنه الغدر والقتل على نحو القضية الشخصية بالإغتيال ونحوه ، ومنه إيذاء المسلمين وإخافته الطرق .
الخامس : كان العرب في الجاهلية يطوفون بالبيت عراة ، ويقومون بالتصفيق والصفير ، قال تعالى [وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ] ( ) وهو من ظلم النفس في الأشهر الحرم ، والتعدي على الشعائر ، والحنيفية التي دعا إليها إبراهيم عليه السلام ، ومنها حج البيت بخشوع وإرادة القربة إلى الله ، ولكن تدّب العادات إلى الفعل العبادي العام ، وتنتشر مع عدم وجود الزاجر والمانع ، فتفضل الله عز وجل , وأنزل الله القرآن لتبقى الأحكام الشرعية ثابتة من غير تحريف أو تبديل .
ولم يرد لفظ [زِيَادَةٌ] في القرآن إلا مرتين ، إحداهما في آية النسئ وذمه، والآخرى في الثناء على المؤمنين ، قال تعالى [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
لبيان قانون وهو تجلي البشارة والإنذار في الكلمة الواحدة من القرآن ، فوردت كلمة زيادة مرة إنذاراً وأخرى بشارة ومن أسرار تقدم الإنذار في نظم القرآن تعلقه بالنسئ الذي انقطع يوم فتح مكة وإلى يوم القيامة.
ليتفقه الناس في أمور الدين والدنيا ، فهناك من يسارع في الخيرات ويحرص على اكتناز الحسنات ويفوز نفسه للصالحات ، ويتخلق بآداب التقوى والخشية من الله ، ويستحضر قصد القربة في أداء الواجبات وحتى في إتيان المستحبات والمباحات حباً لله عز وجل ورجاء رضاه ، فيفوز بالأجر والثواب.
ومنهم من يتمادى في فعل السيئات ، وإرتكاب المعاصي من منازل الكفر والجحود ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
فكانت الأشهر الحرم فرصة للتدبر في الخلق ، ومن إبرام الصلح ونبذ القتال ، لتترشح بركات الأشهر الحرم على كل أيام السنة ، وقد تجلى في حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عقد صلح الحديبية مع كفار قريش وإن وضعوا شروطاً قاسية .
لتتجلى من معاني الأشهر الحرم وجوه :
الأول : منع التعدي على القدسية الزمانية.
الثاني : كبت وقهر النفس الغضبية ، فمن يفوته الغزو والنهب أو أخذ ثأره في الشهر الحل ، يجب عليه أن يمتنع عنه في الشهر الحرام ، وبعد هذا الإمتناع قد يغير الله عز وجل ما في النفوس ، ويصلح الحال ويدفع البلاء.
الثالث : التدبر في الخلق وعالم الكواكب ، والنظام الكوني الذي لا يقدر عليه إلا الله عز وجل.
الرابع : التخفيف عن المستضعفين بدفع الأذى والشر والقتل والسبي عنهم في الأشهر الحرم.
الخامس : الأشهر الحرم مناسبة لطلب الكلأ والتنقل في الأرض والإبتعاد عن مواطن الشر ، وعن مجاورة القوي الظالم ، وفيه تفكر ببديع صنع الله ، وهل من مصاديق قوله تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
السادس : قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]( )، إرادة إصلاح المجتمعات وفي الآية أعلاه دعوة للإيمان ، والتقيد بحرمة الأشهر الحرم.
السابع : بعث المصلحين للمشي بين المتخاصمين للوفاق والصلح بينهم وقد يقوم بعضهم بالتبرع بدفع الديات المختلف فيها لنزع فتيل الفتنة.
الثامن : لما احتجت الملائكة على خلافة الإنسان في الأرض لأنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ذكرهم الله عز وجل بأنه جعل أربعة أشهر من أشهر السنة حرماً لا يجوز فيها الفساد ولا القتال ، فان قُلت كيف تقول ذكرّهم ثم يقول سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، خاصة لعل لغة تذكير الملائكة بخصوص هذه الآية لم يذكرها أحد من المفسرين ، والجواب إنما يختص الله عز وجل في المقام بأمور :
الأول : العلم بأفراد المنافع العظيمة لحرمة ثلث أيام السنة.
الثاني : ضبط الأشهر الحرم.
الثالث : تعيين الأشهر الحرم من بين شهور السنة .
الرابع : منع الزيادة فيها أو في أيام الحل ، وتعدي بعضها على بعض في النسئ ، فلما تجرأ المشركون وتلاعبوا في مدة الأشهر الحرم وأوانها تفضل الله عز وجل وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتبقى حرمتها إلى يوم القيامة .
ليكون من الإعجاز الغيري لنزول القرآن وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور :
الأول : استئصال النسئ والتأخير في الأشهر الحرم .
الثاني : ضبط الناس لحساب الأيام والشهور ، لأمور الدين والدنيا.
الثالث : بيان كراهية القتال ، وما ففي سفك الدماء من الإحتراز.
الرابع : وفي قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( )، ورد عن عكرمة قال : نسختها هذه الآية [وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا]( )، ولا دليل عليه لعدم إتحاد الموضوع والنسخ بين الآيتين ، إنما يتعلق موضوع الآية أعلاه بالإقرار بالتوحيد ، والتصديق بالملائكة والأنبياء .
لذا ورد عن ابن جريح قال : قلت لعطاء : ما تقول في قوله { كتب عليكم القتال} أواجب الغزو على الناس من أجلها؟ قال : لا ، كتب على أولئك حينئذ( ).
الخامس : ضبط الشهور القمرية وهذا الضبط لا يختص بالأشهر الحرم إنما يشمل كلاً من :
الأول : أشهر الحج لقوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الثاني : أوان أداء الحج ، وتعيين يوم الوقوف على عرفة ، ويوم الحج الأكبر( ).
الثالث : حرص المسلمين على استقبال شهر رمضان , قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، لإرادة الإستهلال والإخبار عنه والشهادة عليه وحساب الشهور التي قبله ، إذ يأتي شهر رجب وهو السابع من أشهر السنة ، ثم شهر شعبان ، ثم يدخل شهر رمضان.
وعن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل رجب قال : اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان( ).
وروى عطاء عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن رجب شهر الله ويدعى الأصمّ ، وكان أهل الجاهلية إذا دخل رجب يعطلون أسلحتهم ويضعونها ، وكان الناس يأمنون ويأمن السبيل فلا يخاف بعضهم بعضاً حتى ينقضي( ).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يكثر الصيام في شهر رجب وشعبان.
ويسمى شهر رجب الأصم إذ لا تسمع فيه قعقعة السلاح لحرمته ، وكأنه هو الأصم الذي لا يسمع لبيان جواز إطلاق الصفة على ذات الوعاء الزماني.
ومن بين احتجاج الملائكة على جعل الإنسان يفسد في الأرض [وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، قيام المشركين بايذاء الأنبياء الصالحين ، وقتل طائفة منهم ، وقيامهم بالمكائد والغدر بهم ، وتجهيز الجيوش لقتالهم ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( )، أي قاتلوا دفاعاً ويدل عليه قتال ذات النبي , وصفة الربيين وصبغة التقوى التي يتصف بها أصحابه.
الرابع : حساب وترقب المسلمين لهلال شهر شوال لقوله تعالى [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
إذ يستحب التكبير في أيام العيدين .
ومن إعجاز القرآن الغيري تعاهد المسلمين والمسلمات لقانون الأشهر الحرم.
وهل معرفتهم بها على نحو التعيين وتقيدهم بأحكامها وسننها من التفقه في الدين ، الجواب نعم.
وفيه شاهد على سلامة القرآن من التحريف والتغيير في ألفاظه ومعانيه ودلالاته ، فهي أشهر للمحبة والمودة والرحمة ، وهل يدل قانون الأشهر الحرم على عدم نسخ آيات السلم والصلح ، وأنها باقية وملازمة لأيام السنة كلها.
الجواب نعم , ليكون بينها وبين الأشهر الحرم عموم وخصوص مطلق مع التسليم بأن موضوع قدسية الأشهر الحرم لا تختص بالإمتناع عن القتال، وقال تعالى في النسئ [فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ]( )، أي القتال في الأشهر الحرم.
وفي قوله تعالى [وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( )، بيان قبح عملهم وشناعة فعلهم ، وفيه ذم لإصرار الذين كفروا على النسئ ، مما يدل بالدلالة التضمنية على الحاجة لدخولهم الإسلام ، وهو السبيل الوحيد لتقيدهم بما حكم به الله عز وجل يوم خلق السموات والأرض بأن أشهراً أربعة لها شأن وخصوصية منها وجوب الإمتناع عن القتال فيها ، يحرم فيها القتال وان كان بالحق ، أو يظن أربابه أنه من الحق والقصاص والثأر أو انتزاع حق .
وتحتمل حرمة النسئ وجوهاً :
الأول : ذات النسئ والتبديل بأيام السنة والتواريخ .
الثاني : ما يترشح عن النسئ من القتال والفجور .
الثالث : التجرأ في البدعة في الأحكام.
الرابع : العنوان الجامع للوجوه أعلاه.
ولا تعارض بين هذه الوجوه.
ترى كيف كان يتم النسئ ، الجواب إنه على وجوه :
الأول : تقديم شهر صفر على شهر محرم ، وتأخير محرم ، فكان العرب لا يطيقون الصبر ثلاثة شهور حرم من غير قتال وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ، فيأتون للذي نصبوه للنسئ ، ويطلبون منه تقديم شهر صفر كي يستحلوا القتال بعد شهر ذي الحجة مباشرة ، وقد يكون هذا بسبب التهديد والوعيد والثأر بين قبيلتين.
ليتضمن قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ]( )، في آية البحث الإشارة إلى قبح هذا التهديد والوعيد وهذه الإشارة بيان ودعوة إلى السلم بين الناس.
وعن السدي قال : كان رجل من بني مالك بن كنانة ، يقال له جنادة بن عوف ، يكنى أبا أمامة ينسىء عدد الشهور . وقال في رواية الكلبي : كان اسمه نعيم بن ثعلبة ، من بني كنانة . وقال في رواية مقاتل : كان اسمه ثمامة الكناني ، وكانت العرب يشتد عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغير بعضهم على بعض ، فإذا أرادوا أن يغيروا ، قام الكناني يوم منى وخطب الناس وقال : إني قد أحللت لكم المحرم ، وحرمت لكم صفر مكانه ، فقاتل الناس في المحرم؛ فإذا كان صفر ، غمدوا السيوف ووضعوا الأسنة . ثم يقوم من قابل ويقول : إني قد أحللت صفر وحرمت المحرم( ).
الثاني : المقصود ليواطئوا عدة ما حرم الله ، أي يتموا أربعة أشهر حرم وإن كانت في غير محلها زماناً.
الثالث : كانوا في الجاهلية سنة يتركون شهر محرم حراماً وفي السنة التالية يحلونه بتقديم شهر صفر ، وهو المروي عن ابن عباس( ).
الرابع : كان الذي يعلن النسئ ينسبه إلى الآلهة لذا وصفتهم الآية بالكافرين ، قال الكلبي : أولُ من فعل ذلك رجلٌ من كنانة يقال له نُعيم بنُ ثعلبة وكان إذا همّ الناسُ بالصدَر من الموسم يقوم فيخطب ويقول : لا مردَّ لما قضيْتُ وأنا الذي لا أُعاب ولا أُجاب فيقول له المشركون : لبيك ثم يسألونه أن يَنْسئَهم شهراً يغيِّرون فيه فيقول :
إن صفرَ العامَ حرامٌ فإذا قال ذلك حلّوا الأوتارَ ونزعوا الأسنةَ والأزِجّة وإن قال : حلالٌ عقدوا الأوتار وشدّوا الأزجةَ وأغاروا ، وقيل : هو جُنادةُ بنُ عوفٍ الكنانيُّ وكان مطاعاً في الجاهلية كان يقوم على جمل في الموسم فينادي بأعلى صوتِه : إن آلهتَكم قد أحلت لكم المحرَّم فأحِلّوه ثم يقوم في العام القابل , فيقول : إن آلهتَكم قد حرمت عليكم المحرَّمَ فحرِّموه( ) .
فأخبر القرآن على أن تحريم الأشهر الحرم إنما هو من عند الله بقوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( )، منها أربعة حرم.
الرابع : إضافة أيام إلى الشهر الحل كما لو جعلوا شهر شوال أربعين يوماً ليقضوا غزوهم وقتالهم .
وكما أن العبادات موقوفة بأزمنة وأوقات مخصوصة فالصلاة خمس مرات في اليوم ، قال تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
والصيام في شهر مخصوص وهو شهر رمضان ، وهو الشهر الوحيد الذي ذكر اسمه في القرآن ، قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وفي هذا الذكر ضبط لحساب الشهور ، وإزاحة النسئ والتأخير في حساب الشهور وكذا بالنسبة للحج فانه في شهر وأيام محدودة ومعينة ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
وكذا جعل الله عز وجل أشهر السنة على قسمين ، قسم منها أشهر حرم ، صارت حصناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه الأوائل ، ومناسبة لنشر الإسلام في ربوع مكة وبين الحجاج والمعتمرين.
إذ كانت قريش وعموم الكفار يتجنبون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند التبليغ في هذه الأشهر.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرض نفسه على القبائل الوافدة الى مكة في أشهر الحج ، ولا يستطيع الكفار منهم التعدي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحرمة هذه الشهور ، ليقوموا بنقل آيات وسور القرآن إلى أهليهم وتنفذ الى شغاف القلوب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ومع هذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى الأذى حتى في الأشهر الحرم إذا كان في أيام وموسم الحج يسأل عن القبائل ومنازلها ، فيذهب إليهم ، ويجلس معهم ويتلو عليهم القرآن ، ويدعوهم إلى التوحيد ودخول الإسلام ونبذ الشرك وعبادة الأصنام.
(وَيَقُولُ يَا أَيّهَا النّاسُ قُولُوا : لَا إلَهَ إلَا اللّهُ تُفْلِحُوا وَتَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَبَ وَتَذِلّ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ فَإِذَا آمَنْتُمْ كُنْتُمْ مُلُوكًا فِي الْجَنّةِ وَأَبُو لَهَب ٍ وَرَاءَهُ يَقُولُ لَا تُطِيعُوهُ فَإِنّهُ صَابِئٌ كَذّابٌ فَيَرُدّونَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَقْبَحَ الرّدّ وَيُؤْذُونَهُ وَيَقُولُونَ أُسْرَتُك وَعَشِيرَتُكَ أَعْلَمُ بِكَ حَيْثُ لَمْ يَتّبِعُوك وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ وَيَقُولُ اللّهُمّ لَوْ شِئْتَ لَمْ يَكُونُوا هَكَذَا)( ).
بحث أصولي
علم الأصول من الإضافة البيانية ، لإيضاح الأول وبيانه بالثاني ، فمن شرائط الإضافة أن يكون المضاف نكرة ، وتلزم جر الثاني وهو المضاف إليه ويكونان كالكلمة الواحدة ، كما في قول يوم الجمعة في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]( )، أو ذات اليمين وذات الشمال في قوله تعالى [وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ]( )،
والإضافة البيانية بتقدير (من) فيكون المضاف جنساً للمضاف إليه ، كما في قوله تعالى [ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ]( )، وتقديره : ذلكم حكم من الله.
ومن الإضافة اللامية بتقدير (لام) التي تفيد الملك والإختصاص نحو كتاب الله في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ]( )، ومنها الإضافة الظرفية بتقدير (في) وضابطها أن يكون المضاف ظرفاً للمضاف إليه مثل : أحب صيام الشتاء ، وتقديره أحب الصيام في الشتاء.
وإضافة علم إلى الأصول من الإضافة البيانية .
أما إضافة لفظ أصول للفقه في قول أصول الفقه فهي من الإضافة اللامية بتقدير لام الإختصاص أي فالأصل هو : أصول للفقه.
وأصول الفقه مركب من لفظين ، أي أنه علم أدلة الفقه ، أو الأدلة الشرعية والأدلة التفصيلية هي :
والقياس هو لغة التمثيل وفي الإصطلاح رد واقعة غير منصوص عليها إلى واقعة منصوص عليها ، لاتفاقهما في العلة ، وبالتالي الحكم.
وتسمى الواقعة غير المنصوص عليها بالفرع وتسمى بالمقيس ، وتسمى الواقعة المنصوص عليها (الأصل) .
كما تسمى بالمقيس عليه ، أي ورد دليل يبين حكمها .
فأطراف القياس هي :
الأول : المقيس الفرع وهو الواقعة التي ليس فيها نص .
الثاني : المقيس عليه أي الأصل ، الواقعة التي فيها نص ودليل.
الثالث : العلة وهي سبب تشريع الحكم .
الرابع : الحكم .
والقياس فرع العقل إلا ما خرج بالدليل ، ومنه قول إبليس كما ورد في التنزيل حكاية عنه [قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ]( ).
وعلم أصول الفقه حاجة للفقيه ، لا يمكن التصدي للفتوى من غير معرفة إجمالية في علم الأصول وطرق استنباط الحكم والتعادل والتراجيح ، وقيل أن الصحابة لم يكونوا محتاجين لهذا العلم ، ولكنهم كانوا يعتمدون القواعد ، كما كان بعضهم يرجع إلى بعض في الفتيا.
عصمة الإمام علي من شرب الخمر
الخمر لغة هو التغطية والستر ، ومنه خمار المرأة ، والخمر كل ما يسكر قليله أو كثيره سواء اتخذ من الحنطة أو الشعير أو التمر أو العنب أو من غيرها.
و(في ترتيب السكر إذا شرب الإنسان، فهو نشوان فإذا دب فيه الشراب، فهو ثمل فإذا بلغ الحد الذي يوجب الحد، فهو سكران فإذا زاد وامتلأ، فهو سكران طافح فإذا كان لا يتماسك ولا يتمالك، فهو ملتخ، عن الأصمعي فغذا كان لا يعقل شيئاً من أمره ولا ينطلق لسانه، فهو سكران بات وسكران ما يبت وما يبت، كلاهما عن الكسائي)( ).
والحانة مكان بين الخمور والماخور مكان شربه في منازل الخمارين ، و(والجَدّادُ : صاحِبُ الحانُوتِ الذي يَبيعُ الخَمْرَ ويُعالِجُها)( ).
عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ أَوْصَانِى خَلِيلِى صلى الله عليه وسلم : لاَ تَشْرَبِ الْخَمْرَ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ( ).
والخمر في الإصطلاح هو كل مادة مسكرة ، تذهب العقل سواء كانت من العنب أو التمر أو غيرهما ، وورد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام( ).
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية أن الفريضة العبادية تنزل دفعة واحدة ، كما في إقامة الصلاة واتيان الزكاة قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ) .
وقد فرضت الصلاة في مكة كما في حديث الإسراء ، كما ورد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ففرض الله على أمتي خمسين صلاة فرجعت بذلك حتى مررت على موسى فقال : ما فرض الله على أمتك ؟ قلت : فرض خمسين صلاة.
قال : فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فرجعت فوضع شطرها فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال : راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فراجعت ربي فقال : هي خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي فرجعت إلى موسى فقال : ارجع إلى ربك.
قلت : قد استحيت من ربي ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى فغشيتها ألوان لا أدري ما هي ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها مسك( ).
قال المفسرون : إثم الخمر هو أن الرجل يشرب فيسكر فيؤذي الناس ، وإثم الميسر أن يقامر الرجل فيمنع الحق ويظلم.
وقال الضحّاك والربيع : المنافع قبل التحريم ، والإثم بعد التحريم( ).
لكن مضامين الآية أعم ، ويدل التدرج في النهي والحرمة على شدة الإثم ، ولا يزال في كل زمان تتضح أضرار للخمر والقمار سواء على نحو القضية الشخصية أو العامة .
وقد تكرر لفظ [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ] ، مرتين إذ ورد قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ]( )، ويمكن القول أن النسبة بين العفو في الآيتين هو العموم والخصوص المطلق ، فالعفو في آية البحث أعم إذ أنه يشمل أمرين :
الأول : العفو بمعنى الإنفاق والبذل والصدقة.
الثاني : العفو والصفح عن الغير.
لقانون : لو دار الأمر بين المعنى المتحد أو المتعدد للفظ القرآني ، فالصحيح هو الثاني.
من أسرار الجمع بينهما في آية واحدة هو أن التنزه عن الخمر باعث للطمأنينة في النفس ومن أسباب غلبة معاني الرحمة في الصلات والمعاملات .
وهل ينحصر فقدان ملكة العفو عن الغير عند شرب الخمر بأوانه ، أم أنه أعم ، الجواب هو الثاني ، لذا فان تحريم الخمر سلامة للنفس الإنسانية وليس للبدن وحده خاصة وأن الإنسان مركب من روح وبدن.
ومن إعجاز آية البحث اختتامها بذكر بيان الآيات ليكون منها جهات :
الأولى : آية حرمة الخمر .
الثانية : آية حرمة الميسر والقمار .
الثالثة : آية إتحاد النهي والتحريم عن الخمر والميسر في آية واحدة وموضوع متحد.
ليدل على إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية ، بحيث يتقيدون بالتحريم المتعدد ، في آن واحد ، وبنزول آية قرآنية ، مثلما يلتزمون بالفرائض المتعددة كما في نزول فريضة الصيام والزكاة في السنة الثانية للهجرة .
ويدل مفهوم قوله تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَت وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ]( )، والذي جاء الجزء الواحد بعد المائتين من هذا السِفر خاصاً بتفسيرها على الثناء على المسلمين إذ أنهم صدّقوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وبما جاء به من الفرائض والنواهي.
الرابعة : ذكر القرآن للمنافع والأضرار من الخمر والميسر على نحو الإجمال.
الخامسة : بيان قانون وهو أن الضرر من الخمر والميسر هو الإثم والذنب والمعصية.
مما يبعث النفرة في النفوس من الخمر والقمار , وفيه دعوة للمسلمين للنهي عن الخمر والميسر ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
ولم يكن تحريم الخمر منحصراً بنزول سورة المائدة وهي من آخر سور القرآن نزولاً ، ومن آياتها ما نزلت قبل حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة ، ومنها ما نزلت بعد حجة الوداع.
قال ابن هشام حدثني خلاد بن قرة بن خالد السدوسي وغيره من مشايخ بكر بن وائل من أهل العلم أن أعشى بني قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الإسلام فقال يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا … وبت كما بات السليم مسهدا
وما ذاك من عشق النساء وإنما … تناسيت قبل اليوم خلة مهددا( ).
ولا بد أن هذا المنع للأعشى من قبل قريش وبذلهم المال له ليرجع قبل فتح مكة مما يدل على أن تحريم الخمر قد تنجز قبل نزول سورة المائدة ويدل عليه جمع الأنصاب والازلام في الحرمة مع الخمر والميسر.
والأتصاب : ما نصُب ليعبد سواء من الحجارة أو الخشب ، قال تعالى [وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ]( ).
والأزلام : قداح يستقسم بها قال تعالى [وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ]( )، ليخرج قدح افعل أو قد لاتفعل أو قدح ثالث متروك.
ويدل عطف الأزلام على الميسر على التغاير بينهما.
أما الزكاة ففرضت في السنة الثانية للهجرة ، وكذا بالنسبة للصيام ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
وكذا في بعض النواهي مثل تحريم الربا ، قال تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، أما بالنسبة لحرمة الخمر فانها نزلت على نحو التدريج مع تجلي الحاجة الى هذا التحريم في الحياة اليومية العامة للمسلمين ، والأذى والضرر الذي يسببه شرب الخمر للأفراد والجماعات ، وفي باب العبادات والمندوبات , فكان التحريم على ثلاث مراحل :
الأولى : بيان قبح الخمر ، وما يؤدي إليه ، ودعوة المسلمين للتفكر في ضرره ، فنزل قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ] ( ).
لبيان حرمة شرب الخمر ولعب القمار ، وأنهما إثم ومعصية ، ولم يرد لفظ [إِثْمُهُمَا] و[نَفْعِهِمَا] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، فما يذهب من الدين وما يجلب من الأذى على البدن والصحة وإيذاء الناس عند شرب الخمر أكثر من اللذة والفرح عند شربه .
(عن ابن عباس قال : قدم رجل من دوس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم براوية من خمر أهداها له ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هل علمت أن الله حرمها بعدك؟ فأقبل الدوسي على رجل كان معه فأمره ببيعها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هل علمت أن الذي حرَّم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها؟ وأمر بالمزاد فأهريقت حتى لم يبق فيها قطرة) ( ).
والمراد من الميسر القمار ، وكان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله ، فيصبح وقد فقد كل شئ ، مما يؤدي إلى العداوة والبغضاء ، فجاء الإسلام لحفظ الحقوق والأسرة ، قال تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
الثانية : بيان موضوعية العبادات في حياة المسلمين ، وإزاحة اسباب الإضرار بها وبقدسيتها ، والمنع مما يؤدي إلى النقص في ثوابها ، إذ نزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ]( ).
لبيان الإعجاز الغيري للصلاة ، وأنها طريق صلاح للأفراد والمجتمعات ، وفيه شاهد على عناية المسلمين بالصلاة وتقديمها على الملذات والشهوات.
فاذا تعارض معها فعل يعزف المسلمون عن هذا الفعل ، وعن ابن عباس في قوله {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} ( )قال : نسخها {إنما الخمر والميسر}( )( ).
مما يدل على أن أولى مراحل تحريم الخمر هو النهي عن الإقتراب الى الصلاة بحال سكر .
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والنحاس عن ابن عباس في قوله { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} قال : نسختها {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم}( )( ).
وعن الضحاك في الآية قال : لم يعن بها الخمر ، إنما عنى بها سكر النوم( ).
ولكن الآية والنصوص تدل على إرادة شرب الخمر ، ولعل الضحاك استند الى ما ورد (عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا نعس أحدكم وهو في الصّلاة ، فليرقد حتى يذهب عنه النوم)( ).
الثالثة : حرمة الخمر , وعن ثابت عن أنس (قال: كنتُ ساقي القوم يوم حُرّمت الخمر في بيت أبي طلحة، وما شرابهم إلا الفَضيخ البسرُ والتمرُ، فإذا مناد ينادي، قال: اخرج فانظر. فإذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حُرّمت، فَجرت في سِكَكِ المدينة.
قال : فقال لي أبو طلحة: اخرج فَأهْرقها. فهرقتها، فقالوا -أو: قال بعضهم: قُتل فلان وفلان وهي في بطونهم. قال: فأنزل الله [لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا]( ).
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بَشَّار، حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد حدثنا عباد بن راشد، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسهيل بن بيضاء، وأبي دُجَانة، حتى مالت رؤوسهم من خَليط بُسْر وتمر. فسمعت مناديًا ينادي: ألا إن الخمر قد حُرّمت! قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج، حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا، وأصبنا من طيب أمّ سليم، ثم خرجنا إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ })( )، وسورة المائدة من آخر سور القرآن نزولاً.
مما يدل على أن الإمام علي ليس معهم.
كما ورد عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن أبي وقاص قال : أنزلت في الخمر أربع آيات فذكر الحديث. قال: وضع رجل من الأنصار طعامًا، فدعانا فشربنا الخمر قبل أن تحرم حتى انتشينا، فتفاخرنا، فقالت الأنصار: نحن أفضل. وقالت قريش: نحن أفضل. فأخذ رجل من الأنصار لَحْي جَزُور، فضرب به أنف سعد ففزره، وكان أنف سعد مفزورًا. فنزلت آية الخمر [إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ]( )، إلى قوله تعالى {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}( ) أخرجه مسلم من حديث شعبة.
حديث آخر: قال البيهقي: وأخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنبأنا أبو علي الرفاء، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا حجاج بن مِنْهال، حدثنا ربيعة بن كلثوم، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار، شربوا فلما أن ثمل عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته، فيقول: صنع هذا بي، أخي فلان -وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن والله لو كان بي رؤوفًا رحيمًا ما صنع هذا بي، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم فأنزل الله هذه الآية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ]( ).
فقال ناس من المتكلفين: هي رجس، وهي في بطن فلان، وقد قتل يوم أحد، فأنزل الله لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد قال : صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعانا الأنصار لحي جمل فضرب به أنف سعد ففزره ، فكان سعد أفزر الأنف ، قال سعد ففيّ نزلت الآية إلى آخرها( ).
وقال ابن أبي حاتم حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ، ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ الدَّشْتَكِيُّ، ثنا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: “صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَاماً فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنَ الْخَمْرِ، فَأَخَذَتِ الْخَمْرِ مِنَّا، وَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَقَدَّمُوا فُلاناً ، قَالَ : فَقَرَأَ : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ قَالَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينُ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ( ).
وهذا الحديث ضعيف سنداً وغير مقبول عند رجال الحديث المسلمين .
إنما عرف الإمام علي عليه السلام بأن الإسلام قام بسيفه و(إن ضرباته كانت على وتيرة واحدة إن ضرب طولا قد أو عرضا قط وكانت كأنها مكواة بالنار)( ).
وأبو جعفر مجهول عين ، لم يثبت تحقق وجوده وجاء ذكره مهملاً بالكنية (أبو جعفر) كما قد يأتي الإبهام مثلاً (رجل) أو (زيد) ويطلق على هؤلاء (مجهول) أو لا يعرف ، ولا يؤخذ بمثل هذا الحديث في تطبيقات العلماء إذ ينعت بأنه ضعيف غير مقبول.
وأما عطاء بن السائب ت (136) ففيه لين ، فقد اختلط في آخر عمره ، ومن العلماء من لم يأخذ منه حتى قبل اختلاطه إلا بقيد وتعيين الراوي عنه وهما سفيان وشعبة , وليس أبا جعفر .
(وكان يحيى لا يروي حديث عطاء بن السائب إلا عن شعبة وسفيان . قال يحيى : قلت لأبي عوانة ، فقال : كتبت عن عطاء قبل وبعد فاختلط علي . حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا أبو بكر بن أبي الأسود قال : سمعت إسماعيل ابن علية يقول : كان عطاء بن السائب إذا سئل عن الشيء ، قال : كان أصحابنا يقولون ، فيقال له : من ؟ فيسكت ساعة ثم يقول : أبو البختري وزاذان وميسرة قال : وكنت أخاف أن يكون يجيء بهذا على التوهم ، فلم أحمل منها شيئا)( ).
وأخرج عن عكرمة في قوله تعالى [لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى]( )، نزلت في أبي بكر ، وعمر ، وعلي ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد ، صنع علي لهم طعاماً وشراباً ، فأكلوا وشربوا ، ثم صلى علي بهم المغرب ، فقرأ {قل يا أيها الكافرون}( )، حتى خاتمتها فقال : ليس لي دين وليس لكم دين . فنزلت {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}( ).
وعلى فرض صحة السند إلى عكرمة.
وعكرمة البربري مولى ابن عباس توفى سنة (197) هجرية( )، وكان يتهم بأنه من الخوارج ، أقام عند نجدة الحروري ستة أشهر ، وعندما أتى إلى عبد الله بن عباس وسلم عليه ، قال : قد جاء الخبيث ، وكان كثيراً ما يرد الأمراء لبني أمية ويسألهم حاجات وأموالاً.
وعن ابن عمر أنه قال لنافع : اتق الله، ويحك يا نافع، ولا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس، كما أحلّ الصرف واسلم ابنه صيرفياً.
وقيل : إن هذا القول إنما قاله سعيد بن المسيب لبرد مولاه( ).
ليأتي الضعف للحديث من طريقين وهما عطاء بن السائب ، وأبي جعفر ، الذي لا يدرى من هو ، فلا أصل لهذا الحديث.
وكان مالك لا يرى عكرمة ثقة ، ويأمر ان لا يؤخذ عنه)( ).
لقد استمرت أيام الإمام علي عليه السلام الى سنة أربعين من الهجرة ، وكان يلتقي الصحابة وعامة المسلمين في المدينة ، وعندما انتقل إلى الكوفة كان يصعد المنبر ويحدث الناس بأمور الدين والدنيا ، ويجيب على الأسئلة المختلفة ، ولو كانت آية حرمة الخمر تشمله والمهاجرين لذكرها ، ولو ردت عن طريق عدد من الصحابة وأهل البيت والتابعين ، فورود خبر ضعيف واحد في المقام لا يعتد به ، وهو لا ينهض لمعارضة الأخبار التي وردت بخصوص أسباب نزول قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ]( )، وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وفي أسباب نزول (آيات الخمر) وتعاقبها ، ورد (عن أبي ميسرة، عن عمر أنَّه قال: لما نزل تحريم الخمر قال: اللهم بَيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت هذه الآية التي في البقرة [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ] فدُعي عمر فقرئتْ عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا.
فنزلت الآية التي في النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}( )، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: ألا يقربنّ الصلاة سكرانُ. فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في المائدة. فدعي عمر، فقرئت عليه، فلما بلغ: { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}( )، قال عمر: انتهينا، انتهينا)( ).
وقيل سبب نزول الآية (سؤال عمر ومعاذ قالا : يا رسول الله ، أفتنا في الخمر والميسر ، فإنه مذهبة للعقل ، مسلبة للمال . فنزلت( ).
وقال سعيد بن جبير : لما نزلت { قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس }( ) كرهها قوم للإثم وشربها قوم للمنافع ، فلما نزلت {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}( )، تجنبوها عند أوقات الصلوات الخمس ، فلما نزلت { إنما الخمر والمسير والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}( )، قال عمر بن الخطاب : ضيعة لك اليوم قرنت بالميسر والأنصاب ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت الخمر( ).
وفي قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} روي أن جماعة من الصحابة شربوا الخمر قبل التحريم ، وحانت صلاة ، فتقدّم أحدهم فقرأ : قل يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت . وقيل : نزلت بسبب قول ثانياً : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً ، وكانوا يتحامونها أوقات الصلوات ، فإذا صلوا العشاء شربوها ، فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر ، إلى أن سأل عمر ثالثاً فنزل تحريمها مطلقاً . وهذه الآية محكمة عند الجمهور . وذهب ابن عباس إلى أنها منسوخة بآية المائدة . وأعجب من هذا قول عكرمة : أن قوله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى منسوخ بقوله : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا }( ) الآية أي أبيح لهم أن يؤخروا الصلاة حتى يزول السكر ، ثم نسخ ذلك فأمروا بالصلاة على كل حال ، ثم نسخ شرب الخمر بقوله {فاجتنبوه} ولم ينزل الله هذه الآية في إباحة الخمر فلا تكون منسوخة)( ).
وليس من نسخ بين هذه الآيات بالمعنى الإصطلاحي للنسخ وهو رفع حكم شرعي بدليل وحكم شرعي لاحق له يحل محله بأمر أو نهي من عند الله عز وجل إنما هو التدرج في حرمة الخمر ، وجعل الصحابة يدركون الإعجاز في حرمتها ، والحاجة العامة لهذه الحرمة .
وقال حسان بن ثابت في جاهليته :
ونشربها فتتركنا ملوكًا … وأسْدًا لا يُنَهْنهها اللقاءُ( ).
وبينما وردت هذه النصوص عن عدد من الصحابة ، جاء السُدي وهو من التابعين وذكر الإمام علياً عليه السلام في هذا الموضوع ، إذ أخرج ابن جرير عن السدي قال : نزلت هذه الآية { يسألونك عن الخمر والميسر…} ( ) الآية فلم يزالوا بذلك يشربونها حتى صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً ، فدعانا ساقيهم وعلي بن أبي طالب يقرأ {قل يا أيها الكافرون}( )، فلم يفهمها ، فأنزل الله يشدد في الخمر { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} فكانت حلالاً يشربونها من صلاة الغداة حتى يرتفع النهار ، فيقومون إلى صلاة الظهر وهم مصحون ، ثم لا يشربونها حتى يصلوا العتمة ، ثم يقومون إلى صلاة الفجر وقد صحوا .
والسدي من التابعين , ولم يرفع الحديث .
وكأن ليس من عمل عند المسلمين إلا شرب الخمر إنما كانوا يجتهدون في العبادة والنوافل والتفقه في الدين.
فلم يزالوا بذلك يشربونها حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعاماً ، فدعا ساقيهم رجل من الأنصار ، فشوى لهم رأس بعير ثم دعاهم عليه ، فلما أكلوا وشربوا من الخمر سكروا ، وأخذوا في الحديث ، فتكلم سعد بشيء ، فغضب الأنصاري ، فرفع لحي البعير فكسر أنف سعد ، فأنزل الله نسخ الخمر وتحريمها {إنما الخمر والميسر} إلى قوله {فهل أنتم منتهون}( ).
ويمكن انشاء قانون في علم الرجال من جهتين :
الأولى : قانون إذا تعارض حديث الصحابي مع التابعي من غير أئمة أهل البيت عليهم السلام فالمدار على قول الصحابي, ما لم يعارض بغيره.
الثانية : إذا لم يرد حديث في مو ضوع مخصوص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة الصحابي إنما ورد عن التابعي حديث منفرد فلا يرقى الى مرتبة سند الصحابي الثقة .
ولا يخلو حديث السدي وهو تابعي عاصر أيام بني أمية وقيامهم بسب الإمام علي عليه السلام على المنابر نحو ستين سنة إلى أن تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة سنة تسع وتسعين للهجرة فأبطل هذا السب ، وسعى في نشر العدل وأمر بتدوين الحديث النبوي ، وعزل الولاة الظالمين وعاقبهم ، ولم تدم أيام حكمه سوى سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام إذ مات سنة 101 للهجرة وعمره أربعون سنة ، وقيل مات مسموماً .
مع اضطراب في متن حديث السدي إذ يقول : فدعانا ساقيهم ، فمن القائل .
ومن هم الجماعة ، فحديث السدي ضعيف ومنقطع في موضوعه ، ولا ينهض لمعارضة أحاديث الصحابة المتعددة الأخرى التي تدل في مفهومها على تنزه وامتناع الإمام علي عليه السلام من شرب الخمر وهو الذي لم يسجد لصنم في حياته ، وكان أول من آمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصلى معه في المسجد الحرام هو وخديجة عليها السلام , ولم يسجد لصنم في حياته .
وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة في قوله : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله ) ( ) الآية , نزلت في علي وأبي ذر وسلمان والمقداد وعثمان بن مظعون وسالم، إنهم اتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل، ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم، ولا يقربوا النساء والطيب، ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا، ويسيحوا في الارض، وهمّ بعضهم أن يجب مذاكيره .
فخطب النبي صلى الله عليه واله فقال: ما بال أقوام حرموا النساء والطيب والنوم وشهوات الدنيا ؟ أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا، فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع، وإن سياحة امتي ورهبانيتهم الجهاد إلى آخر الخب.
وعن الإمام الصادق عليه السلام نزلت في علي وبلال وعثمان بن مظعون، فأما علي فإنه حلف أن لا ينام بالليل أبدا إلا ما شاء الله، وأما بلال فإنه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا ، وأما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبداً( ).
وتوفى عثمان بن مظعون في شهر شعبان من السنة الثالثة للهجرة أي قبل معركة أحد وهو أول المهاجرين وفاة في المدينة ، ودفن في البقيع.
وأخته زينب بنت مظعون زوجة عمر بن الخطاب وهو خال عبد الله بن عمر وحفصة زوج النبي.
قال أحد المفسرين المعاصرين (ويقول المنخل اليشكري :
ولقد شربت من المدامة … بالصغير وبالكبير
فإذا سكرت فإنني … رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني … رب الشويهة والبعير
وغير هذا كثير في الشعر الجاهلي ورواية الحوادث التي صاحبت مراحل تحريم الخمر في المجتمع المسلم والرجال الذين كانوا أبطال هذه الحوادث وفيهم عمر وعلي وحمزة وعبدالرحمن بن عوف وأمثال هذا الطراز من الرجال تشي بمدى تغلغل هذه الظاهرة في الجاهلية العربية وتكفي عن الوصف المطول المفصل يقول عمر في قصة إسلامه في رواية كنت صاحب خمر في الجاهلية فقلت لو أذهب إلى فلان الخمار فأشرب وظل عمر يشرب الخمر في الإسلام حتى إذا نزلت آية يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما قال اللهم بين لنا بيانا شافيا في الخمر)( ).
ولم يكونوا هؤلاء الصحابة أبطال هذه الحوادث ، إنما كانوا سادة في الصبر والجهاد ، وأبطالاً في معركة بدر وأحد والخندق.
لقد كان الإمام علي عليه السلام شديداً لا تأخذه لائمة في مرضاة الله، وكان ملازماً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرد أنه يجتمع مع الأنصار في مجالس خاصة بعيداً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسجد النبوي إلا في مرضاة الله والذكر وتدارس القرآن , خاصة وأن كل الأبواب التي كانت مفتوحة على المسجد النبوي قد أغلقت إلا أبواب أزواج النبي ، وباب علي عليه السلام.
والمختار أن آيات الخمر نزلن في أفراد معدودين من الأنصار وكان حاضراً معهم سعد بن أبي وقاص الذي كان بنفسه يذكر أن آية تحريم الخمر نزلت فيه.
ترى هل من صلة بين تحريم الخمر واستدامة الحكم بآيات السلم ، وهذا مبحث عقلي وعقائدي ، الجواب نعم ، لأن الخمر مذهبة للعقل وسبب لإستحواذ النفس الغضبية وكذا بالنسبة لتحريم الربا وتأسيس قانون مستقل لكل منهما في موضوعيته في نشر لواء السلام والأمن والطمأنينة [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
لقد ورد لفظ (يسألونك) مرتين في الآية أعلاه ، كما ورد مرتين في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، مع التباين على نحو الموجبة الجزئية ، فقد تكرر السؤال في الآية أعلاه من سورة الأعراف بخصوص موضوع متحد وهو أوان يوم القيامة ، أما الآية أعلاه من سورة البقرة ، فجاء السؤال بتعدد الموضوع .
وهل من ملازمة بين النهي عن الخمر والميسر وبين العفو الجواب نعم، وهو من مصاديق عدم نسخ آيات السلم لأن الخمر سبب لإستحواذ النفس الغضبية على الإنسان ، والتمادي في الغي والعناد ، وتركه مناسبة ومقدمة للعفو والتسامح واشاعة مفاهيم الرفق بين الناس .
قانون شواهد الدفاع
من الشواهد على أن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للدفاع المحض ورود قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا]( )، فهذه الآيات جامعة لعدوان المشركين ، وتعضيد المنافقين لهم من بين ظهراني المسلمين ومن تحت الحصار ، لتثبيط العزائم والهمم , مع إظهار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أسمى مراتب الصبر.
وعن ابن عباس قال : أنزل الله في شأن الخندق ، وذكر نعمه عليهم ، وكفايته إياهم عدوهم بعد سوء الظن ، ومقالة من تكلم من أهل النفاق [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ]( )، وكانت الجنود التي أتت المسلمين . أسد . وغطفان . وسليما .
وكانت الجنود التي بعث الله عليهم من الريح الملائكة فقال { إذ جاءُوكم من فوقكم ومن أسفل منكم } فكان الذين جاؤوهم من أسفل منهم قريشاً ، وأسداً ، وغطفان فقال : { هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً ، وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً }( ).
يقول : معتب بن قشير ومن كان معه على رأيه [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ]( )، يقول أوس بن قيظي ومن كان معه على مثل رأيه [وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا]( )، إلى {وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً } ( ).
ثم ذكر يقين أهل الايمان حين أتاهم الأحزاب فحصروهم وظاهرهم بنو قريظة ، فاشتد عليهم البلاء ، فقال : [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ]( )، إلى [إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا]( )، قال : وذكر الله هزيمة المشركين ، وكفايته المؤمنين ، فقال وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ.
وكان المنافقون في حصار الخندق يجاهرون بالإستخفاف بالوعد الذي يقوله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتحقيق النصر ودعوته المسلمين للصبر والمرابطة في الحصار ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ففي حصار الخندق عندما زحف عشرة آلاف رجل من المشركين نحو المدينة لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه واستباحتها ، ووصل الخبر الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسل إلى الأنصار لدعوتهم للدفاع ، والإحتراز من المنافقين و(بعث رسول الله صلّى الله عليه سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس أحد بني عبد الأشهل وهو يومئذ سيّد الأوس وسعد بن عبادة بن دليم أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج وهو يومئذ سيّد الخزرج ، ومعهما عبدالله بن رواحة أخو الحارث بن الخزرج ، وخوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف.
فقال : انطلقوا حتى تنظروا أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم؟
فإن كان حقّاً فالحنوا إليَّ لحناً نعرفه ولا تفتّوا أعضاد الناس ، وإنْ كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس ، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم وقالوا : مَنْ رسول الله.
وقالوا : لا عقد بيننا وبين محمّد ولا عهد ، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه ، وكان رجلاً فيه حدّ فقال له سعد بن معاذ : دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة ، ثمّ أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلّى الله عليه فسلّموا عليه ثمّ قالوا : عضل والقارة أي كغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه أصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه.
فقال رسول الله صلّى الله عليه : الله أكبر ، أبشروا يا معشر المسلمين. وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف وأتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ ، ونَجَم النفاق من بعض المنافقين حتى قال لهم معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يقدر على أنْ يذهب إلى الغائط {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} ( ).
حتى قال أوس بن قبطي أحد بني حارثة : يا رسول الله إنَّ بُيُوتَنَا بعورة من العدو وذلك على ملأ من رجال قومه ، فأْذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنّها خارجة من المدينة.
فأقام رسول الله صلّى الله عليه وأقام المشركون عليه بضعاً وعشرين ليلة قريباً من شهر ، ولم يكن بين القوم حرب إلاّ الرمي بالنبل والحصى ، فلمّا اشتدّ البلاء على الناس بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينه بن حصين وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أنْ يرجعا بمَنْ معهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، تجرى بينهم وبينه الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشارهما فيه.
فقالا : يارسول الله أشيء أمرك الله به لابدّ لنا من العمل به أم أمر تحبّه فتصنعه أم شيء تصنعه لنا.
قال : لا بل لكم والله ما أصنع ذلك ، إلاّ إنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد وكالبوكم من كلّ جانب ، فأردتُ أنْ أكسر عنكم شوكتهم.
فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم ولا يطمعون أنْ يأكلوا منها ثمرة إلاّ قري أو بيعاً ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزّنا بك نعطيهم أموالنا ، ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلاّ السيف حتّى يحكم الله بيننا وبينهم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه : فأنت وذاك ، فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثمّ قال : ليجهدوا علينا)( ).
لبيان قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يميل إلى الصلح ويقدم التنازل من أجل السلم والمهادنة لأنه يعلم بتوالي المعجزات بفضل من الله عز وجل وهي سبب لهداية وصلاح الناس.
وهناك آيات كثيرة تتعلق بأحكام العبادات والمعاملات والأحكام والسنن ، ولكنها تدل بالدلالة التضمنية أو الإلتزامية على قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وهذا علم مستحدث منها قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا]( )، إذ أنها مطلقة من جهة صبغة وماهية الأمانة ، وعامة بخصوص الذين يحفظ المسلمون أماناتهم ، ومنه العهد والميثاق والذمة وحسن الخطاب والمعاملة ، ومنه قوله تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ]( ).
ونبين في هذا الجزء شذرات من قانون وهو : دعوة القرآن وآياته وأحكامه إلى السلم والعفو ، ونشر شآبيب الرحمة ، وهو علم جديد لا تصل معه النوبة إلى هل آيات السلم منسوخة أو غير منسوخة ، ما دام الأصل هو الهدى والسلام ويترشح عنه السلم إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا] ( ).
ومن أسماء الله [السَّلاَمُ] ( ) والله برئ من كل آفة أو نقص ، وهو المنزه عن كل مكروه وعيب ، وهو سبحانه الذي يجعل السلام يسود بين العباد .
(عن ثوبان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثاً ثم قال : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإِكرام) ( ).
والسعي إلى السلم محبوب بذاته ، وكذا تنمية ملكة إرادة السلم وإشاعة أسباب السلام (عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : السلام اسم من أسماء الله تعالى فأفشوه بينكم،
فإنّ الرجل المسلم إذا مرَّ بالقوم فسلّم عليهم فردّوا عليه كان له عليهم فضل درجة بذكره إيّاهم بالسلام، فإن لم يردّوا عليه ردّ عليه من هو خير منهم وأطيب) ( ).
ويبين الحديث أن الذي يقوم بالسلام والتحية هو المسلم ، أما الذين يلقى عليهم السلام فقد ذكرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ (قوم) وهو أعم من أن يكونوا مؤمنين .
ونبين في هذه الأجزاء عدم نسخ آية السيف (124) آية في السلم والموادعة , ومن هذا البيان ما هو خاص بذات الآيات , ومنه ما هو عام ومنه :
الأول : قانون نزول القرآن سلم .
الثاني : قانون كل معجزة لنبي سلم .
الثالث : قانون معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حسية وعقلية .
الرابع : قانون الإسلام سلم .
الخامس : قانون القرآن هدىً ورحمة .
السادس : قانون السلم فرع الهدى ومن مصاديق الرحمة ، فلا تصل النوبة إلى مسألة نسخ أو عدم نسخ آيات السلم ، وهذا علم مستحدث يطل على الأرض بصدور هذا الجزء وهو (207) من التفسير والحمد لله .
والأرض وما عليها ملك طلق لله سبحانه , وهو [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( ).
لقد بنيت الشرائع السماوية على التسامح , وتجلى في التنزيل وسنن الأنبياء ، وما صبرهم على أذى قومهم إلا أمارة على هذا التسامح ، والذي تجلى بوضوح في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد تلقى أشد الأذى من كفار قريش ولكن عندما تم فتح مكة عفى عنهم ، وعن ابن عباس قال : أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعضادتي الباب يوم فتح مكّة وقد لاذ الناس بالبيت.
وقال : الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثمّ قال : ما تظنون .
قالوا : نظنّ خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت.
قال : وأنا أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم( ).
ولم تكن آية السيف وحدها الناسخة عند المكثرين في النسخ من تابعي التابعين ، فهناك آية أخرى ناسخة لبعض آيات السلم والتسامح ، وهي التاسعة والعشرين بعد المائة من سورة التوبة , ويأتي البيان بعدم ثبوت النسخ في المقام .

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn