المقدمــــــــــــة
الحمد لله الذي جعل الحمد له سبحانه مكسباً وباباً للرزق ومضاعفة الفضل والعطايا منه تعالى ، ولم يجعل ترك العبد للشكر والحمد له تفويتاً للنعمة ، أو مسبباً لانتقاصها أو مقدمة لنزول البلاء ليكون مفهوم المخالفة لقوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( )، لئن قصرتم في الشكر لم تنتقص النعمة عليكم وهو من مصاديق قوله تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( )، وقيل النعمة موصولة بالشكر أي أنه سبب لإستدامتها ، إنما الموصول بالشكر الزيادة .
وفيه دعوة إلى ترك التفريط بالشكر والحمد لله ، الذي هو مادة الحياة ، وطريق الفوز بمرضاة الله سبحانه.
وقد تفضل الله عز وجل وجعل كل مسلم ومسلمة يتلوان وعلى نحو الوجوب العيني قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) سبع عشرة مرة في اليوم والليلة ، إذ أن قراءة سورة الفاتحة واجبة في كل ركعة من ركعات الصلاة .
الحمد لله الذي جعل الحمد له سبحانه يقود إلى الإستغفار لما فيه من التسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل إذ تفضل الله عز وجل وجعل الحياة الدنيا دار الإمهال مرة بعد أخرى ، قال تعالى [وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ] ( ) لبيان الملازمة بين الرحمة والسلام ، وأن الله عز وجل يحب العبد والملك والأمير الذي يشيع السلم ويتعاهد السلام .
و(عن عبد الله( ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الخلق كلهم عيال الله فأحب الخلق إلى الله انفعهم لعياله)( ).
ولا بد أن يكون الذي يتصدى للتفسير عالماً في السنة النبوية القولية والفعلية لأنها مرآة للقرآن ، وفي علم الفقه والتـأريخ والنحو والبلاغة والأصول وعلم الرجال لا بشرط بلوغ درجة الإجتهاد فيها ، وإنما تكفي الإحاطة الموضوعية ، وهو من أسباب عزوف أغلب العلماء عن علم التفسير إجلالاً له ، ومع هذا فعلم التفسير والتأويل ذخائر وكنوز غير متناهية.
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القرآن . هذا ينزع بآية ، وهذا ينزع بآية . فكأنما فقىء في وجهه حب الرمان فقال : ألهذا خلقتم ، أو لهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، انظروا ما أمرتم به فاتبعوه ، وما نهيتم عنه فانتهوا( ).
وعن عمر بن الخطاب : أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ( ).
وآية البحث مدنية ، والأرجح أنها نزلت بعد معركة بدر ، ولكن آيات عديدة أخرى مكية ومدنية نزلت قبل معركة بدر تدعو إلى الصبر ، وتذكر بالموت وما بعده من عالم الحساب والفوز بالأجر العظيم على الإيمان والتقوى .
وعندما استقر جيش كفار قريش في ماء بدر بعثوا عمير بن وهب الجمحي عيناً لمعرفة عدد المسلمين على نحو التقريب وهو من شياطين قريش قبل أن يسلم فأبلغهم بأن عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو ثلاثمائة( )، بعدم وجود مدد للمسلمين إزدادت همتهم ورغبتهم بالقتال ، ولم يعلموا بما أعدّ الله لهم من أسباب الهزيمة والذل إلى يوم القيامة ، فليس أخزى على الجمع والأفراد من قتال الملائكة لهم ، لأنهم معتدون على كل من :
الأول : مبادئ التوحيد .
الثاني : النبوة .
الثالث : شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : المهاجرون والأنصار.
الخامس : التنزيل ، ليكون من معاني قوله تعالى [طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى] ( ) بشارة الأمن والسلامة يوم بدر وأحد والخندق ، لما في الآية أعلاه من الوعد بدفع الشقاء والتعب والحيرة ، ليكون من باب الأولوية القطعية سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ، ودفع أسباب حجب التنزيل ، ثم أخبرهم عمير عن مسألة تتعلق بحال وهيئة وعزائم الصحابة وخصوص الأنصار ، إذ قال (وَلَكِنّي قَدْ رَأَيْت ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، الْبَلَايَا تَحْمِلُ الْمَنَايَا.
نَوَاضِحُ يَثْرِبَ تَحْمِلُ الْمَوْتَ النّاقِعَ قَوْمٌ لَيْسَ مَعَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ إلّا سُيُوفُهُمْ وَاَللّهِ مَا أَرَى أَنْ يَقْتُلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتّى يَقْتُلَ رَجُلًا مِنْكُمْ فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ أَعْدَادَهُمْ فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَرَوْا رَأْيَكُمْ) ( ).
وقد سمّى عمير الأنصار بنواضح يثرب مع أن هذا اللفظ يطلق على إبل السقي ، يريد الاستخفاف بالأنصار لمبادرتهم للإيمان وإيوائهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين.
قال الخليل (والناضِحُ: جَمَلٌ يُسْتَقَى عليه الماء للقِرَى في الحَوض، أو سِقيْ أرضٍ وجَمعُه النَواضِح) ( ).
(وقال زهير:
كَأَنَّ عَيْنَيَّ في غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ … من النَواضِحِ تَسْقي جَنّةً سُحُقا) ( ).
وحتى عندما حج معاوية بن أبي سفيان ذكرّ الأنصار بإبل السقى والزراعة ومع إرادته التعريض بهم إلا أن كلامه يدل على التسالم بين الناس على أن النواضح إبل سقي المزروعات .
(قال أبو عُبيدة: حجَّ معاوية فلما قرب من المدينة تلقّته قريش على اثني عشرَ ميلاً وتلقّته الأنصار على ميلين فعاتبهم فشكَوا الأَثَرَة، فقال: فأين أنتم عن النواضح فقال له قيس بن سعد: تركناها لقومك عامَ قتلنا حَنْظَلَةَ) ( ) .
يشير إلى معركة بدر ، وقتل حنظلة بن أبي سفيان يومئذ ، وهو أخو معاوية لأبيه .
أي أن عميراً أخبر قريشاً عن قاعدة في المعركة وهي كل أنصاري لا يفارق الدنيا حتى يقتل واحداً من المشركين أو أن مجموع قتل المشركين يكون مساوياً نفس العدد ، وإن بعضهم يقتل اثنين أو ثلاثة من المشركين ، وبعضهم لا يقتل أحداً منهم ، ومن الشواهد على نزول الملائكة مدداً أنه لن يقتل من الصحابة ، وكان عدد قتلى المسلمين أربعة عشر ، منهم ثمانية من الأنصار بينما قُتل من المشركين يومئذ سبعون ، وأسر منهم سبعون ، أي عشرة أضعاف قتلى المسلمين ، وليس من نسبة التساوي ، مع الفارق في النشأتين ، إذ فاز الشهداء بما ورد في آية البحث ، قال تعالى [وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] ( ).
ثم جاءت معركة أحد واستعد لها المشركون لمدة عام كامل ، وتلكأت تجارتهم مدتها إذ انشغلوا بالطواف على القبائل ، وبذلوا لهم الأموال لإجارتهم في قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ومع أن الريح والجولة صارت فيما بعد للمشركين واستشهد سبعون من المسلمين إلا أنهم انسحبوا من ميدان المعركة في ذات اليوم الذي ابتدأت به.
الحمد لله الذي جعل آيات القرآن وتلاوتها ترغيباً لأجيال المسلمين بالعمل بأحكام القرآن التي تتضمن نشر شآبيب الرحمة والمودة بين الشعوب والأفراد ، وهذا النشر من الحمد والشكر لله على نعمة التنزيل ، ومن معاني قوله تعالى [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، أن الأرض وما ينزل من السماء يكفي لأن يعيش الناس ببحبوحة من الرزق والأمن والغبطة ، فقد تكفل الله عز وجل للناس رزقهم وقرّب إليهم أسبابه.
وهل تلاوة آيات القرآن في الصلاة وخارجها ، والتدبر في معانيها من هذه الأسباب ، الجواب نعم ، لبيان قانون وهو أن الله عز وجل أنزل الكتب السماوية لتكون نوع طريق وسبباً للرزق الكريم من السماء وكنوز الأرض ، وحسن الصلات بين الناس.
وهل إنحسار معارك الإسلام الأولى ، وعجز كفار قريش عن مواصلة الهجوم والغزو على المسلمين من الرزق المصاحب والمترشح عن التنزيل ، الجواب نعم ، ومن فضل الله عز وجل والرزق الكريم في المقام توالي أجزاء هذا السِفر بقوانين مستنبطة وإشراقات علمية مستحدثة من مضامين آيات القرآن.
ومن اللطف الإلهي في المقام أني أقوم بتأليف أجزاء التفسير وكتبي الفقهية والأصولية بمفردي ، إلى أن تشرق بحلة بهية ، وتنزل على موقعنا (WWW.MARJAIAA.COM)
وقد صدر الجزء السابق وهو الثامن بعد المائتين خاصاً بقانون (آيات السلمِ محكمة غير منسوخة) وقد تضمن قوانين وعلوماً ومسائل :
الأول : المقدمة .
الثاني : قراءة في قوله تعالى [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( )، بلحاظ أنها من آيات السلم ، وسالمة عن النسخ وهي الآية الخامسة عشرة في نظم منهاج آيات السلم التي قيل أنها منسوخة ولم يثبت هذا النسخ ، وقد تقدم ذكر تسع آيات منها في الجزء السادس بعد المائتين وذكر خمس آيات منها في الجزء السابع بعد المائتين من هذا السِفر ، وتتوالى الأجزاء إن شاء الله بهذا الخصوص بذكر آيات أخرى من آيات السلم.
الثالث : وجوه إنفاق مشركي قريش ، قال تعالى [يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ]( ).
الرابع : قانون شواهد عدم نسخ آية [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ).
الخامس : قانون عموم الدعوة إلى الهدى ،قال تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ]( ).
السادس : سياحة في رياض الصفات الحسنى ، وفي التنزيل [فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ]( ).
السابع : قانون منافع آيات الأنبياء.
الثامن : قراءة في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
التاسع : قانون القسمة الثنائية لأشهر السنة :
الأول : الأشهر الحل .
الثاني : الأشهر الحرم.
العاشر :الإجابة القطعية عن حرمة الشهر .
الحادي عشر : إخبار القرآن عن القتال في الشهر الحرام من الغيب.
الثاني عشر : قانون الشرك غيّ ، وفي وصية لقمان لابنه [لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( ).
الثالث عشر : قانون خصائص آية البحث.
الرابع عشر : قانون عدم التعارض بين آيات الدفاع وإرادة السلم المستديم.
الخامس عشر : قانون إبتداء المشركين بالقتال .
السادس عشر : قانون القتال كبير .
السابع عشر : قانون مكث النبي (ص ) في مكة جهاد وسلم لبيان عدم التعارض بين الجهاد والسلم ، وأن الجهاد لا يعني القتال وحده ، ويمكن تأسيس قانون وهو أن الجهاد واقية من القتال.
الثامن عشر : أسباب النزول .
التاسع عشر : قانون حرمة القتال في الأشهر الحرم.
العشرون : قانون تفسير القرآن بعضه بعضاً.
الحادي والعشرون : قانون إحصاء آيات السلم والسلام وفي التنزيل [وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ]( ).
الثاني والعشرون : لماذا يصدّ المشركون الناس عن البيت الحرام.
الثالث والعشرون : مدة حصار الطائف.
الرابع والعشرون : قانون الأشهر الحرم نعمة متجددة.
الخامس والعشرون : يوم بُعاث وإعجاز القرآن الغيري.
السادس والعشرون : من أسباب معركة بُعاث وأثرها.
السابع والعشرون : قانون التباين بين أيام العرب ومعركة بدر قال تعالى مخاطباً النبي [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
الثامن والعشرون : قانون الصلاة سلم متجدد.
التاسع والعشرون : استحداث قوانين في الإعجاز.
الثلاثون : قانون تعدد موضوع آيات السلم.
الحادي والثلاثون : قانون عدم نسخ آيات الموادعة.
الثاني والثلاثون : قانون إلغاء النسئ ومن مصاديق هذا الإلغاء نعته بالكفر ، قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثالث والثلاثون : قانون تعضيد النبي (ص) للقرآن.
الرابع والثلاثون : قانون شواهد الدفاع .
وفي كل من هذه القوانين علوم مستقرأة من آيات القرآن وما فيها من الكنوز العقائدية والكلامية لتكون فاتحة لمدارس مستحدثة في علوم التفسير، وإظهار لذخائر القرآن ، ليكون من عمومات قوله تعالى [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ]( )، وفي بيان هذه الآية ورد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله [كل يوم هو في شأن] قال : من شأنه أن يغفر ذنباً ، ويفرج كرباً ، ويرفع قوماً ، ويضع آخرين( ).
الحمد لله حمداً دائماً أبداً على نعمة حسن الهيئة , إذ قال تعالى [ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ]( ).
الحمد لله على تمام الصحة وسلامة الأعضاء ، ودرء الفتن ، والوقاية من المكر.
الحمد لله على نعمة الأمن والرزق الكريم الذي أبى سبحانه إلا أن يجعله أضعاف الحاجة الخاصة والعامة لتنتفي معه أسباب الحسد ، فما رزق الله عز وجل غيرك جعل عندك مثله ، وإن اختلف في الماهية أو الكم أو الكيف ، وقال تعالى [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]( ).
الحمد لله الذي جعل كل آية من القرآن سبيلاً للرزق ، والإرتقاء في سلم المعارف.
وقد أنعم الله عز وجل علينا بصدور هذا الجزء من التفسير وهو التاسع بعد المائتين ويختص بتفسير قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ).
وفيه تأويل وبيان واستنباط من رشحات الآية الكريمة التي هي دعوة سماوية جعلها الله عز وجل ذات صبغة يومية متكررة بتلاوة المسلمين لها في الصلاة اليومية ، وهو من الإعجاز في التداخل بين العالم العلوي والخلفاء في العالم السفلي ومنافعه التي لا يحصيها إلا الله ، ومنها المدد للناس مجتمعين ومتفرقين لتحقيق عبادتهم لله عز وجل ، كما في قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ليكون من معاني آية البحث التذكير اليومي للأفراد والجماعات والأمم بالموت ، والإنقلاب إلى عالم الحساب وهو الأمر الذي كان يبينه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس على المنبر ، وعند توجههم إليه بالسؤال.
و(عن ابن عمر ، أن رجلا من الحبشة أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : يا رسول الله ، فضلتم علينا بالألوان والنبوة .
أفرأيت إن آمنت بمثل ما آمنت به ، وعملت بمثل ما عملت به ، إني لكائن معك في الجنة ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : نعم.
ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من قال : لا إله إلا الله ، كان له بها عهد عند الله ، ومن قال : سبحان الله ، كتب الله له مائة ألف حسنة فقال : يا رسول الله ، كيف نهلك بعد هذا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ، إن الرجل يوم القيامة ليجيء بالعمل ، لو وضع على جبل لأثقله ، فتقوم النعمة من نعم الله ، فتكاد تستنفد ذلك كله ، لولا ما يتفضل الله به من رحمته ، ثم نزلت [هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ] ( )، إلى قوله [وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا] ( ).
فقال الحبشي : يا رسول الله ، وهل ترى عيني في الجنة مثل ما ترى عينك ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : نعم.
فبكى الحبشي حتى فاضت نفسه قال ابن عمر : فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدليه في حفرته)( ).
الحمد لله الذي صرف عنا البلاء ، وأمدّ في عمري حتى إتمام هذا الجزء وأسأله تعالى المزيد ومضاعفة الأجزاء كماً وكيفاً ومفاتيح للعلم وأسألكم التفضل بالدعاء ، والله عز وجل هو القائل [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الحمد لله الذي بعزته وعظيم قدرته سخّر لنا هذا العلم وجعل القلم يجري بأيدي العلماء من الأولين والآخرين لتعظيم شعائر وهداية الناس إلى معالم الإيمان .
وعن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء ، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء( ).
الحمد لله الذي جعل ذكره زينة المجالس ، ووسيلة للمغفرة والفوز بالأجر والثواب ، وهو من الدلائل على أن الأجور التي ذكرتها آية البحث تأتي بالذكر والتسبيح أيضاً .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَهُ إِلَّا نَادَاهُمْ مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ قَدْ بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُكُمْ حَسَنَاتٍ( ).
ومعنى سبحان الله أي تنزيهه سبحانه وتعظيمه وتقديسه.
ومن الآيات في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر من التسبيح ويرّغب أهل بيته وأصحابه بالتسبيح مما يدل على أنه لا يسعى إليه.
ورد (عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج من بيته حين صلى الصبح وجويرية( )، جالسة في المسجد ثم رجع حين تعالى النهار فقال لم تزالي في مجلسك قالت نعم قال لقد قلت أربع كلمات ثم رددتها ثلاث مرات لو وزنت بما قلت لوزنتها سبحان الله وبحمده ولا إله الا الله عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلمات)( ).
نعم من منافع الآية التي يختص بتفسيرها هذا الجزء أنها باعث للمسلمين للصبر في ميادين الدفاع ، وهو الأمر الذي أفزع الكفار ، وجعلهم يتقهقرون وينسحبون من الميدان ، وفيه شواهد تأريخية كثيرة بالذات والواقعة والأثر المترتب عليها ، ففي معركة بدر أصر المشركون على القتال.
وفي مرسلة إبن إسحاق (عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، قَالُوا : لَمّا اطْمَأَنّ الْقَوْمُ بَعَثُوا عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ الجُمَحِيّ فَقَالُوا : احْزُرُوا لَنَا أَصْحَابَ مُحَمّدٍ ، قَالَ فَاسْتَجَالَ بِفَرَسِهِ حَوْلَ الْعَسْكَرِ ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِمْ فَقَالَ ثَلَاثُ مِئَةٍ رَجُلٍ يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ وَلَكِنْ أَمْهِلُونِي حَتّى أَنْظُرَ أَلِلْقَوْمِ كَمِينٌ أَوْ مَدَدٌ)( ).
ورجع اليهم ليخبرهم بأنه ليس من مدد للمسلمين وهو من الشواهد على قلة عدد المسلمين مقابل كثرة عدد المشركين الذين كانوا نحو ألف مجهزين بالأسلحة ولو استطاع المشركون هزيمة المسلمين لقتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولصار الطريق بينهم وبين المدينة مفتوحاً ، وليس في المدينة رجال من المسلمين يكفون لصدهم ومنعهم من استباحتها.
فلجأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى سلاح وعدة غير موجودة عند جيش المشركين وهو الدعاء ، فتفضل الله عز وجل وأنزل الملائكة مدداً وعوناً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
ليكون الدعاء طريقاً للسلم والأمن ، ودفع القتال ومنع المشركين من الغزو ، وهذا الدعاء من الصراط في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
حرر في الحادي عشر من شهر محرم الحرام 1442
31/8/2020
قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ] الآية 185.
الإعراب واللغة
قرأ عبد الله بن عمر : الغَرور : بفتح الغين ، وقرأ أبو حيوة والأعمش : {ذائقة} بالتنوين {الموت} بالنصب( ).
والمدار على ما هو مرسوم في المصاحف.
كل نفس : كل : مبتدأ مرفوع بالضمة ، وهو مضاف ، وكل : سور الموجبة الكلية .
نفس : مضاف إليه مجرور بالكسرة .
ذائقة الموت : ذائقة خبر مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
الموت : مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة تحت آخره .
وإنما : الواو حرف عطف ، إنما : كافة ومكفوفة .
توفون : فعل مضارع مبني للمجهول ، مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة ،والواو نائب فاعل .
أجوركم : مفعول به منصوب بالفتحة (وكم) ضمير مضاف إليه .
يوم : ظرف زمان منصوب تتعلق بـ (يوفون ).
القيامة : مضاف إليه مجرور بالكسرة ، ومن إعجاز نظم الفاظ القرآن أن لفظ (القيامة) ورد فيه سبعين مرة ، جاء فيها مضافاً اليه والمضاف فيها جميعاً هو (يوم).
فمن زحزح : الفاء حرف عطف .
من : اسم شرط جازم مبني في محل رفع مبتدأ .
زحزح : فعل ماض مبني للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر جوازاً تقديره هو.
عن النار : عن : حرف جر : النار اسم مجرور ، وعلامة جره الكسرة ، وهو متعلق بـ (زحزح).
وأدخل : الواو حرف عطف : أدخل فعل ماض مبني للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو .
الجنة : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره .
فقد فاز : الفاء رابطة لجواب الشرط .
قد : حرف تحقيق ، فاز : فعل ماض مبني على الفتح ، والفاعل ضمير مستتر جوازاً تقديره هو .
وما الحياة : الواو حرف استئناف .
ما : نافية مهملة .
الحياة : مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
الدنيا : نعت للحياة مرفوع مثله ، وعلامة رفعه ضمه مقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر .
إلا متاع : إلا أداة حصر .
متاع : خبر الحياة مرفوع ، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره ، وهو مضاف .
الغرور : مضاف إليه مجرور وعلامة جرة الكسرة .
و(ذاقَ يذوقُ ذَوْقاً ومَذاقة ومَذاقاً وذَواقاً ، وذَواقُه ومَذاقُه طيب أي طعمه)( ).
وفي سبب نزول قوله تعالى [ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ]( )، أن أبا جهل قال: ايوعدني محمد وأنا أعز من مشي بين جبليها.
في سياق الآيات
صلة آية البحث بالآيات المجاورة على شعبتين :
الشعبة الأولى : صلة آية البحث بالآيات المجاورة السابقة ، ونكتفي بذكرها دون الشعبة الثانية ، وهي صلة آية البحث بالآيات التالية ، ونذكر من الشعبة الأولى وجهان فقط :
الوجه الأول : صلة آية البحث بالآية السابقة [فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية وبيان قانون يحكم الحياة الدنيا وأهلها ، فليس من إنسان إلا ويدركه الموت ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] ( ) وإبتدأت آية السياق وهي الآية السابقة بالجملة الشرطية [فَإِنْ كَذَّبُوكَ] في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل يصح تقدير أول آية البحث : يا نبي الله كل نفس ذائقة الموت ) محاكاة للآية السابقة من حيث جهة الخطاب ، الجواب نعم .
فان قلت وردت آية البحث بلغة الجمع بقوله تعالى [وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ] ( ) .
الجواب لا تعارض بين الأمرين ، إذ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يدخل في الخطاب العام فهو الرسول والإمام وأن الناس جميعاً بما فيهم الأنبياء يذوقون مفارقة الروح للجسد .
المسألة الثانية : لما ابتدأت الآية السابقة بقوله تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ] أخبرت آية البحث عن قانون وهو حلول الموت بالناس جميعاً ، فهو قريب منهم ، وما يمر يوم على الإنسان إلا ويقترب فيه من أجله ، ويدنو منه كرب الموت ، إذ يزحف كل طرف منهما إلى الآخر من غير أن يتعارض هذا المعنى مع قوله تعالى [وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ]( ).
ليترشح عنه التذكير بقانون وهو أن ما بعد الموت حساب من غير عمل، وأن الآيات الكونية والمعجزات تشهد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على صدق رسالته ، وأن التكذيب بالنبوة والرسالة لا يجلب لأهله إلا الأذى والضرر .
ومن معاني الجمع بين الآيتين (فان كذبوك بأن كل نفس ذائقة الموت ) مما يدل على الغفلة والعناد الذي يتصفون به ، فلا أحد يستطيع إنكار طرو الموت على كل إنسان .
ويبيّن القرآن قانون موت الأنبياء مع علو منزلتهم ، وشأنهم عند الله ، وحملهم للرسالة وقيامهم بالتبليغ والجهاد في سبيل الله ، قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( )، للدلالة على موت غير الأنبياء من الناس من باب الأولوية القطعية.
ومن إعجاز آية البحث أنها لم تقف عند ذكر الموت إنما ذكرت ما بعد الموت من الوقوف بين يدي الله للحساب والجزاء وعالم الثواب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
المسألة الثالثة : ابتدأت آية السياق بصيغة الجملة الشرطية [فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ].
أما آية البحث فابتدأت بصيغة الجملة الخبرية [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، والتي تتضمن العموم الشامل لكل الناس ، ومن مصاديق الجمع بين بدايتي الآيتين الإنذار للذين كفروا ، وفيه دعوة للمسلمين للصبر وتحمل الأذى ، وعَنْ خَبَّابٍ قَالَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ مُتَوَسِّدًا بُرْدَةً لَهُ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَنَا وَاسْتَنْصِرْهُ قَالَ فَاحْمَرَّ لَوْنُهُ أَوْ تَغَيَّرَ.
فَقَالَ لَقَدْ كَانَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ حُفْرَةٌ وَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمٍ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ دِينِهِ وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخْشَى إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ( ).
وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصنعاء أو حضرموت من علم الغيب ، وبشارة انتشار الإسلام ، وهل يختص الأمر بجهة اليمن ، الجواب لا، فقد وردت نصوص بخصوص العراق والشام .
وهل قوله تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ] من الخطابات الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا…]( )، الجواب نعم بقرينة ذكر الرسل والتكذيب بهم ، ويحتمل هذا التكذيب من جهة المتعلق وجوهاً :
الأول : إرادة كل الناس المحيطين بالرسول والذين تم تبليغهم ، قال تعالى [وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ]( ).
الثاني : شطر من الناس الذين وصلتهم دعوة الرسول ، وهو على شعبتين :
الأولى : الأكثر هم الذين كذبوا الرسل.
الثانية : الأكثر هم الذين صدّقوا بالرسل.
الثالث : المراد أيام الرسول وما بعدها.
لقد تلقى الدعوة النبوية في بداياتها عدد من المؤمنين ثم صار العدد يزداد بالأفراد والجماعات القليلة إلى أن تم صلح الحديبية فصارت القبائل والجماعات تدخل في الإسلام.
ثم جاء فتح مكة لتدخل قريش في الإسلام وتحاول هوازن وثقيف الوقوف برزخاً دون دخول الناس الإسلام بالسيف والدم فكانت معركة حنين لتنكس شوكتهم ، ويدخل الناس أفواجاً في الإسلام لوجود المقتضي وفقد المانع ونزل قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا]( ).
وإذا كانت الرؤية البصرية لدخول الناس الإسلام جلبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والناس المعاصرين فان السورة أعلاه جعلت رؤية الناس في كل زمان لهذا الدخول بالقلب والإستحضار الذهني للشواهد التأريخية.
وهل من موضوعية لقوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، ومضامين آية البحث وما فيها من البعث على النجاة من مقدمات دخول النار.
الجواب نعم ، لقد أدرك الناس أن الإيمان الطريق إلى الجنة ، فلذا تفضل الله عز وجل وجعل كل مسلم ومسلمة كل يوم سبع عشرة من [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
المسألة الرابعة : تقدير آية السياق ، بلحاظ مضامينها وتكذيب الناس للرسل ، على وجوه :
الأول : فان كذبوك يا رسول الله.
الثاني : فان كذبوك يا نبي الله.
الثالث : فان كذبوا المعجزات التي جئت بها.
الرابع : فان كذبوا نزول القرآن من عند الله.
الخامس : فان كذبوا الوعد والوعيد الذي تنادي به في فجاج مكة ، وأيام موسم الحج ونزلت آيات القرآن بخصوصه .
ومن خصائص السور المكية إتصافها بالقصر والتخويف والوعيد ، وإذ ذكرت آية السياق تكذيب الناس بالرسل ، فقد جاء القرآن بذكر عاقبة التكذيب ، منه قوله تعالى [كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ]( ) .
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما أرسل الله سبحانه من ريح إلاّ بمكيال ، ولا قطرة من ماء إلاّ بمكيال ، إلاّ يوم عاد ويوم نوح ، فإن الماء يوم نوح طغى على الخزائن فلم يكن لهم عليها سبيل ، ثمّ قرأ : بريح صرصر عاتية( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال : لم تنزل قطرة من ماء إلا بمكيال على يدي ملك إلا يوم نوح ، فإنه أذن للماء دون الخزان ، فطغى الماء على الخزان ، فخرج فذلك قوله [إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ]( ).
ولم ينزل شيء من الريح إلا بكيل على يدي ملك إلا يوم عاد فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت ، فذلك قوله {بريح صرصر عاتية}( ) عتت على الخزان( ).
المسألة الخامسة : من معاني الجمع بين الآيتين الوعيد للذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتأكيد قانون وهو أن الرسل السابقين قد ماتوا ، وكذا الذين صدّقو بهم والذين كذبوا بهم في أيام رسالتهم ليبدأ عالم الحساب ، إذ أن الآخرة دار حساب من غير عمل .
وهل قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، من البينات والكتاب المنير الذي جاء به الأنبياء أم لا ، الجواب هو الأول ، ومن خصائص آية السياق أنها مواساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن كثرة البينات التي جاء بها لا تمنع شطر من الناس من تكذيبه وإنكار نبوته .
فابتدأت آية البحث بقانون وهو كل إنسان لابد وأن يغادر الدنيا ، وهذه المغادرة محصورة بهيئة واحدة وهي صيرورته جثة هامدة ، سواء بالموت أو القتل ، وإذ ورد بخصوص السموات والأرض قوله تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] ( ) .
فهل الموت يأتي طوعاً أو قهراً الجواب هو الثاني ، إذ أنه يأتي للإنسان قهراً ، ولا عبرة بالقليل النادر ممن يختار قتل نفسه والإنتحار ، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ] ( ).
ومن معاني [بِإِذْنِ اللَّهِ] أن الأمر خارج عن إرادة الإنسان .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس { كل نفس ذائقة الموت }( ) قال : لما نزلت قيل : يا رسول الله فما بال الملائكة؟ فنزلت { كل شيء هالك إلا وجهه }( ) فبين في هذه الآية فناء الملائكة والثقلين من الجن والانس وسائر عالم الله ، وبريته من الطير والوحش والسباع والأنعام ، وكل ذي روح أنه هالك ميت( ).
المسألة السادسة : من معاني الجمع بين الآيتين أن تكذيب الناس للرسل لم يكن على نحو السالبة الكلية ، بدلالة تصديق المسلمين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ليكون من وجوه تقدير الآية السابقة : فقد كُذب رسل من قبلك وآمن بهم فريق من الناس .
ومن الإعجاز في بعثة كل رسول :
الأول : قانون إيمان جمع أو طائفة من الناس برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فليس من رسول إلا وهناك أمة يؤمنون ، ويصدقون بالمعجزات التي جاء بها .
الثاني : قانون صيرورة الذين يصدقون بالرسول حجة على غيرهم من الناس .
الثالث : قانون شدة الأذى الذي يلاقيه الرسول مع مجيئه بالمعجزة .
الرابع : قانون إيمان رهط من الناس برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد مغادرته الدنيا .
وهل يمكن أن يكون هذا القانون من الشواهد على الفرق بين الرسول والنبي ، المختار لا ، فحتى النبي هناك من يؤمن بنبوته بعد مفارقته الدنيا ، سواء عقب وفاته في الطبقة والجيل الذي بعده ، أو الأمم اللاحقة بورود ذكره أو معجزته في الكتب السماوي المنزلة.
ومن خصائص المسلمين التصديق بنبوة الأنبياء جميعاً ، وفي التنزيل [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ]( ).
وفيه دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالصبر على الذين كفروا ،وعدم الإنتقام منهم ، قال تعالى [وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ]( ).
ليكون من معاني الجمع بين آية البحث والسياق حمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لواء السلام بتحمل الأذى في جنب الله ، مع الإستمرار بالدعوة والتبليغ .
وما دام الله عز وجل هو الذي يأتي بالنصر للرسول فيكون من معاني الآية أعلاه : فأصبر على ما كذبوك وآذوك فسيأتيك نصرنا.
المسألة السابعة : لقد ابتدأت آية السياق بالجملة الشرطية ، وأختتمت بجملة خبرية .
أما آية البحث فابتدأت بجملة خبرية ، ثم جاءت جملة شرطية بقوله تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ]( ).
وهل من دلالة على هذا التباين بين الآيتين أم أنه ينحصر بالإعجاز البلاغي ، وشدّ الأسماع للآية القرآنية ، الجواب هو الأول ، وكل من الجملة الشرطية والخبرية في المقام قانون ، لتكون كالآتي :
الأول : قانون بعثة الرسل قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (عن أبي أمامة قال : قلت : يا نبي الله كم الأنبياء؟
قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً) ( ).
الثاني : قانون فان كذبوك فقد كُذب رسل من قبلك.
الثالث : قانون مجئ الأنبياء بالبينات والبراهين.
الرابع : قانون الأنبياء بشر يطرأ عليهم الموت.
الخامس : قانون مجئ الأنبياء بالزبر .
والزبر جمع زبور وهو الكتاب والمواعظ والتذكير والبشارة والإنذار .
إن عطف (الكتاب المنير) في آية السياق على الزبر يدل على التغاير بينهما ، ولو على نحو الموجبة الجزئية لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجاهد بالوحي ويقوم بالتبليغ.
و(الزَّبُور: الكِتابُ. والزّبور: اسم الكتاب الذي أنزل على داود)( ).
وفي حين ورد لفظ (الزبر) في القرآن خمس مرات.
فقد ورد لفظ (الزبور) فيه مرة واحدة بقوله تعالى [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ]( )، وهو أعم من زبور داود ، لذا ورد عن ابن عباس أنه قال : الزبور ، التوراة والإنجيل والقرآن، والذكر الأصل الذي نسخت منه هذه الكتب الذي في السماء والأرض ، أرض الجنة( ).
وعن مالك بن دينار قال : مكتوب في الزبور- وهو أول الزبور : طوبى لمن لم يسلك سبيل الأثمة ، ولم يجالس الخطائين ، ولم يفيء في هم المستهزئين ، ولكن همه سنة الله عز وجل ، وإياها يتعلم بالليل والنهار ، مثله مثل شجرة تنبت على شط تؤتي ثمرتها في حينها ، ولا يتناثر من ورقها شيء ، وكل عمله بأمري ، ليس ذلك مثل عمل المنافقين( ).
والمختار أن الزبر والزبور أعم من أن يختص بكتاب أحد الأنبياء ، وكأنه فرع اللوح المحفوظ ، قال تعالى [وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ]( ).
وهل يصح تقدير آية السياق ، قد جئت يا محمد بالبينات والزبر والكتاب المبين ،الجواب نعم لتكون معجزات الأنبياء رحمة عامة للناس.
ومن لطف الله أن ما أثر به الأنبياء آيات باهرات ، خارقة للعادة لترغيب الناس بالإيمان ، وتجديد تجليات الحجة والبرهان.
وهل قوله تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ]بشارة سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإغتيال والقتل ، لأن التكذيب أعم أم لا ، المختار هو الثاني، إنما تفيد الآية تحذير النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من المشركين .
وقد قلت في الجزء الواحد بعد المائتين من هذا التفسير والخاص بتفسير هذه الآية الكريمة .
(التكذيب أعم من القتل ، والقتل أشد وطأة ، وليس كل من يكذب الرسل يقوم بقتل الرسول أو يتواطئ على قتله ، وفيه دعوة للمسلمين لعدم استعمال السيف سلاحاً ضد الذين يكذبون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدل عليه الأمر بالجدال الحسن ، ومنه آيات القرآن ، قال تعالى وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( ).
المسألة الثامنة : لقد ورد قوله تعالى [إِنْ كَذَّبُوكَ] ثلاث مرات في القرآن وهي :
الآية الأولى : ما ورد في آية السياق والتي جاءت بعد آية القربان ودعوى أن الرسل السابقين يأتي كل واحد منهم بقربان تأكله النار ، لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت بهذا القربان فأنهم سيكذبونه، لذا قال تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ] فأخبرت الآية عن تكذيب شطر من الناس للرسل مع مجيئهم بما هو أعظم من القربان إذ أظهروا المعجزات التي تدل على صدق نبوتهم .
لتكون آية السياق من آيات شهادة المسلمين على الناس وقوله تعالى [لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ( ) إذ تجعل آية السياق المسلمين يشهدون على أمور :
الأول : تكذيب طائفة من الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها .
الثاني : وجود قانون مع بعثة كل نبي هناك قانون وهو : تكذيب طائفة من الناس برسالته.
فمن إعجاز القرآن أنه يجعل المسلمين مؤهلين للشهادة للأنبياء بقيامهم بالتبليغ بها ، والله عز وجل رزقهم البراهين والمعجزات التي تدل على صدق نبوتهم ، كما يشهدون على الذين أصروا على تكذيبهم.
وروى عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (أن الأمم السالفة تقول لهم : كيف تشهدون علينا ولم تشاهدونا ، فيقولون أعْلَمَنَا نبيُّ الله بما أُنْزِلَ عليه من كتاب الله) ( ) وهناك أمران :
أولاً : قانون صلة بين قانون التكذيب هذا ، وهبوط إبليس إلى الأرض، الجواب نعم .
ثانياً : هل يبقى المكذبون للرسل على حالهم من حيث العدد والجهر بالتكذيب وشدة إيذاء الرسل وأصحابهم ، الجواب لا ، فمن معاني ودلالات قوله تعالى في آية السياق [جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ] ( ) أن الناس يتدبرون بهذه الآيات ، ويزداد عدد المؤمنين مع كل يوم ، ويقابله النقص في عدد المكذبين للرسل .
وهو الذي تجلى في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد زحف عشرة آلاف من المشركين في معركة الخندق في السنة الخامسة للهجرة ليطوقوا مدينة الرسول ويهددوا باقتحامها واستباحتها ، فلما رد الله كيدهم، وقال سبحانه [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) عجز رؤساء الشرك من قريش عن جمع معشار هذا العدد عندما توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكة في السنة الثانية للهجرة ، وكان هذا العجز خزياً للكفار ، ومصداقاً لقانون وهو : أن التكذيب بالرسل لن يضر الدعوة إلى الله.
ولا يمنع من تحقيق أسباب هداية الناس.
لذا جاءت آية البحث بتذكير الناس بأمور :
الأول : قانون وهو مجئ الموت للإنسان سواء آمن وصدّق بالأنبياء أو أنه لم يصدق بهم.
فلابد أن يموت ويغادر الدنيا.
الثاني : قانون هذه المغادرة بداية لعالم جديد.
الثالث : قانون عالم الحساب والجزاء .
(عن المستورد ، قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتذاكروا الدنيا والآخرة ، فقال بعضهم : إنما الدنيا بلاغ للآخرة فيها العمل وفيها الصلاة وفيها الزكاة ، وقالت طائفة منهم : الآخرة فيها الجنة ، وقالوا ما شاء الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم فأدخل إصبعه فيه فما خرج منه فهي الدنيا)( ).
ومن خصائص القرآن أن الآيات التي نزلت بخصوص عالم الآخرة كثيرة ومتعددة المضامين والدلائل بما يجعلها حاضرة في الوجود الذهني عند الإنسان ليستحضرها في عالم القول الفعل ، وتجعله يدرك أنه في عالم سفر ومقبل على الرحيل ، ويحتاج الى متاع في بيداء يكون المدار فيها على العمل فيبادر إلى فعل الصالحات ، ويتجنب إرتكاب السيئات ، قال تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه]( ).
فمن فضل الله عز وجل على الإنسان هدايته لتصور أحوال عالم الحساب والجزاء وهو في الدنيا .
المسألة التاسعة : أخبرت آية البحث عن إيفاء الأجر والثواب يوم القيامة لبيان مسألة وهي أن المؤمن يلقى شطراً من أجره في الحياة الدنيا ، وجاءت الآية بصيغة الجمع لبيان الأجر العام إلى جانب الأجر الخاص ، ومن العام وجوه :
الأول : قانون رفع الضعف والذل عن المسلمين ، كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ…]( ).
الثاني : قانون إنقطاع المعاناة في الأبدان .
الثالث : قانون توالي أفراد الرزق الكريم ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا]( ).
الرابع : قانون تغير أحوال الناس في المدينة ، وإزدهار أسواقها .
الخامس : قانون إحتراز المسلمين من شرور المشركين سواء في مكة قبل الهجرة أو بعد الهجرة إذ يلزم هذا الإحتراز أهلية وتوفيقاً من عند الله.
المسألة العاشرة : وردت مادة [كُذِّبَ] مرتين في آية السياق ، وبينهما عموم وخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما , أما مادة الإلتقاء فمن جهات :
الأولى : صيغة الفعل لكل منهما .
الثانية : إتحاد الموضوع وهو تكذيب الرسل .
الثالثة : صفة التنزيل لكل منهما ولغة الجملة الخبرية .
الرابعة : توجه الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ] وحتى قوله تعالى [فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ]فانه أيضاً خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدليل من قبلك .
وهل يدل هذا اللفظ على إرادة الخطاب الخاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم ، فلا يخاطب بلفظ [رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ] أيام نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلإ هو إذ لا نبي مصاحب لأيام حياته، وليس من نبي بعده .
الخامسة : اتحاد صفة الرسالة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرسل السابقين ، قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (نحن مَعاشِر الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد) ( ).
ومعنى أولاد علات أي كالإخوة لأب واحد وهم من أمهات شتى ، وسميت هذه الأمهات علات لأن الزوجة الجديدة كالعلة بالنسبة للزوجة السابقة ، لبيان وجود وجوه شبه بين الأنبياء وأن النسبة بينهم هي العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء بينهم وأخرى للإفتراق ، ومن مادة الإلتقاء أمور :
الأول : قانون الوحي ، فليس من نبي إلا ويوحي الله عز وجل ، وبين الوحي للرسل والوحي للأنبياء عموم وخصوص مطلق ، فالوحي للرسل أظهر وأبين ، إذ أن الرسول يرى الملك عياناً ، ويسمع منه ، بينما النبي يسمع الوحي من غير أن يرى الملك ، وقد يأتي الوحي إلى النبي برؤيا منام ولكنه يدرك أنها وحي ، نعم لا يقف الأمر عند هذه الكيفية من الوحي إذ يسمع النبي الملك الذي يبعثه الله عز وجل ، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ]( ).
الثاني : قانون المعجزة والأمر الخارق الذي يجري على يد النبي أو الرسول.
وتحتمل المعجزة بين النبي والرسول وجوهاً :
أولاً : التساوي ، إذ تكون معجزة النبي والرسول بمرتبة واحدة .
ثانياً : معجزة الرسول أظهر وأقوى من معجزة النبي.
ثالثاً : معجزة النبي أظهر وأبين من معجزة الرسول.
رابعاً : التباين في الإتحاد والتعدد.
وأن معجزات الرسول أكثر من معجزات النبي ، والمختار هو الثاني والرابع، كما يتبين التعدد في معجزات عدد من الأنبياء عليهم السلام .
السادسة : مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرسل السابقين بالحجج الباهرة التي تدل على صدق نبوتهم بحيث يكون تكذيب أي واحد منهم حجة على الذين يكذب بنبوته ، قال تعالى [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ]( ).
السابعة : مناجاة الذين كفروا بالتكذيب بالرسالة ، لذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الثامنة : ترشح الأذى عن تكذيب الأنبياء ، ولحوق الضرر بالناس خصوصاً ذات الذين يكذبون بالرسل ، إذ أنهم يظلمون أنفسهم وغيرهم ، فلذا تعقبت آية البحث آية السياق بالتذكير بالموت وأنه عاقبة كل إنسان ، ليكون من معانيه أن الذين كذبوا الرسل يلقون العذاب الأليم .
ومن فضل الله عز وجل والحجة على الناس أن النبوة ليست مكتسبة ، ولو اجتهد المؤمن بالعبادة والتقوى والإمساك عن القبائح والمكروهات فانه لا ينال النبوة ، إنما هي باختيار من عند الله ، وفي التنزيل [اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ] ( ) وقال تعالى [يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ] ( ).
والنسبة بين النبوة والحكمة في الآية أعلاه عموم وخصوص مطلق ، فالنبي يؤتى الوحي والتنزيل والحكمة ، و(عن ابن عباس في قوله { يؤتي الحكمة من يشاء }( ) قال : المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله) ( ).
وقال السدي ({يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ}: هي النبوّة) ( ).
ولكن الحكمة أعم من النبوة ، وانقطعت النبوة بوفادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل بدليل آية البحث [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( ) وبقيت نعمة الحكمة فضلاً من الله عز وجل على الناس وأوتاداً في الأرض لتثبيت عبادة الناس لله عز وجل .
(قال الإمام جعفرالصادق (عليه السلام): الحكمة ضياء المعرفة، وميراث التقوى .
وما أنعم الله على عبد من عباده نعمة أنعم وأعظم وأرفع وأجزل وأبهى من الحكمة قال الله عزوجل: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الالباب) ( ).
التاسعة : كل من الرسل جاء بالكتاب المنزل من عند الله عز وجل.
أما مادة الإفتراق فمن جهات :
الأولى : تكذيب الكفار للنبي فهو حال وعند نزول القرآن ، أما تكذيب الكفار للرسل السابقين فقد فات أوانه ، لبيان علم التأريخ في القرآن، والذي ملاكه هداية الناس للإيمان ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
وهل قوله تعالى في آية البحث [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] من القصص التي تشير إليها الآية أعلاه ، الجواب نعم بلحاظ موت الأجيال السابقة وبقاء التراث والأطلال .
الثانية : تكذيب الكفار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو القضية الشخصية لخصوص نبوته ، بينما ذكرت الآية تكذيب الكفار للرسل السابقين على نحو العموم المجموعي ، والذي ينحل إيضاً لإرادة تكذيب كل رسول .
الثالثة : القوم الذين كذّبوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم غير الأقوام الذين كذبوا رسلهم ، قال تعالى [أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الرابعة : التباين في الكتاب المنزل ، فقد اختص الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول القرآن ، وجعله الله عز وجل [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ]( ) ومهيمناً أي شاهداً على الكتب السماوية السابقة بالصحة.
المسألة الحادية عشرة : لقد ذكرت آية البحث يوم القيامة ، وفيه شاهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالإخبار عن الميعاد ، ووجوب استعداد الناس له ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل جاء الأنبياء السابقون بالتذكير باليوم الآخر.
الثانية : هل يعلم الذين كذّبوا الأنبياء باليوم الآخر ، وحتمية الوقوف بين يدي الله للحساب .
أما المسألة الأولى ، فالجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
وأما المسألة الثانية ، فالجواب نعم ، إذ يدل تكذيبهم للأنبياء على التكذيب بالمعاد الذي هو من أصول الدين ، وتدل آية البحث على إتخاذ كل نبي الإخبار عن يوم القيامة وسيلة مباركة لجذب الناس لسبل الهداية والإيمان ، والزجر عن الكفر والضلالة والتكذيب .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قال : ما من عبد مؤمن يدخل الجنّة إلاّ أُري مقعده من النّار لو أساء ليزداد شكراً، وما من عبد يدخل النّار إلاّ أُري مقعده من الجنّة لو أحسن ازداد حسرة) ( ).
ويكون المعاد بالبدن والروح ، إذ يبعث كل إنسان من قبره بذات البدن الذي فارق به الحياة الدنيا ، وليس البدن المثالي الذي تتلبس به الروح في عالم البرزخ كالذي يرى في المنام .
وورد لفظ (المعاد) مرة واحدة في القرآن بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ) .
وعن ابن عباس : المعاد في الآية أعلاه مكة( ).
والمختار أن المعاد في الآية خاص ، وعام ، والعام هو الجنة لبيان أن القرآن يدعو إلى الآخرة ، ويبشر المؤمنين بالثواب باللبث الدائم في الجنة ، وفيه بعث للسكينة في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإخبار بأنه قام بالتبليغ وأداء الرسالة .
المسألة الثانية عشرة : لقد ذكرت آية البحث الثواب والأجر ، وفيه ترغيب بالعمل الصالح ، وفيه دعوة للذين يكذبون الأنبياء بالتوبة والإنابة، ومن خصائص الشريعة الإسلامية وجوب قراءة كل مسلم ومسلمة القرآن خمس مرات في اليوم ، لتكون هذه القراءة على وجوه :
الأول : تثبيت الإيمان في نفوس المؤمنين ، قال تعالى [قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
الثاني : التفكر في عالم الآخرة ، وعظيم الثواب الذي ذكرته آية البحث بقوله تعالى [تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( )، قال تعالى [إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ]( ).
الثالث : ترغيب الناس بالإقرار بيوم القيامة ، والإتيان بالصالحات التي يترتب عليها الثواب.
لقد ذكرت الآية الأجور ، فهل على ذات الإقرار باليوم الآخر أجر وثواب ، أم لابد من عمل واجتهاد .
الجواب هو الأول ، فصحيح تجب الملازمة بين الإعتقاد باليوم الآخر والعمل له ، إلا أن ذات الإقرار فيه أجر وثواب.
المسألة الثالثة عشرة : ذكرت آية البحث الزحزحة عن النار وهو التنحي والإبتعاد عنها .
ومن إعجاز الآية مجئ الفعل بصيغة المبني للمجهول [زُحْزِحَ] لبيان أن الإنسان لا يقدر بنفسه على إجتناب القرب من نار الآخرة، قال تعالى [أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى]( ) فيحرص الإنسان في الدنيا على رفع الأذى عن نفسه ، وإن كان قليلاً ، أما في الآخرة فانه يرجو رحمة الله لابعاده عن النار .
ومن معاني الجمع بين الآيتين أن الذين كذّبوا الأنبياء من قوم نوح وهود وصالح وغيرهم من الأنبياء ليس عندهم من الأجور ، والثواب ما يجعلهم يتزحزحون ، ويبتعدون عن النار بصالح أعمالهم يوم تعطل رغائبهم وقدراتهم .
ومن معانيه التذكير بالموت ، وطرد الغفلة عن الناس بخصوصه ، ومن مسائل هذا التكرار بلحاظ آية السياق مسائل :
الأولى : إن الله عز وجل الذي يخبر عن قانون حتمية زيارة الموت لكل إنسان , وبه بعث الأنبياء والرسل .
الثانية : من وظائف الأنبياء الإخبار عن قانون [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] لتكون آية البحث من الشواهد على وجوه الإلتقاء بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين.
الثالثة : إخبار الأنبياء الناس عن الموت ، وتحذيرهم من مباغتته للعبد من غير أن يأخذ أهبة الإستعداد له ، وهو من مصاديق الحجة في قوله تعالى [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا]( ).
الرابعة : بيان لطف الله المتتالي بالناس ، والذي تأتي مصاديق متعددة منه دفعة ، وتتوالى وتتعاقب أخرى على الناس مجتمعين ومتفرقين ، وهو من تذكير الله الناس بالموت وإن كذبوا الرسل وقتلوا بعضهم ، لقوله تعالى [فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الخامسة : ترغيب الناس بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاذ كذب أقوام برسلهم ودعوتهم إلى الهدى وفعل الصالحات ، فان الله عز وجل يدعو الناس إلى الإنتفاع من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلقيها بالتصديق وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ويبادر الناس إلى الإنتفاع الأمثل من رسالته ، ولا تختص معاني الرحمة بالسنة النبوية القولية والفعلية إذ جعل الله عز وجل لآيات القرآن إعجازياً غيرياً منه هداية الناس لسنن الإيمان.
وتبين آيات القرآن قانوناً وهو : التصديق بالأنبياء والرسل من أركان الإيمان .
وقيل أركان الإيمان ستة :
الأول : قانون الإيمان بالله ، قال تعالى [وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
الثاني : قانون الإيمان بالملائكة ، وهل يلزم معرفة بعض أسماء الملائكة مثل جبرئيل وميكائيل ، الجواب لا ، وفي تعلمها أجر وثواب.
الثالث : قانون الإيمان بالكتب السماوية المنزلة ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ]( ).
الرابع : قانون الإيمان بالرسل.
الخامس : قانون الإيمان باليوم الآخر .
السادس : قانون الإيمان بالقدر خيره وشره ، وفي التنزيل [وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا]( )، [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ]( ).
وقد ورد الإيمان بالقدر خيره وشره في أحاديث نبوية عديدة ، وأخرج أحمد عن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينما هو جالس في مجلس فيه أصحابه ، جاءه جبريل عليه السلام في غير صورته ، فحسبه رجلاً من المسلمين ، فسلم فرد عليه السلام .
ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال له : يا رسول الله ما الإِسلام؟
قال : أن تسلم وجهك لله ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة.
قال : فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال : نعم .
قال : ما الإِيمان؟ قال : أن تؤمن بالله ، واليوم الآخر ، والملائكة ، والكتاب ، والنبيين ، والموت ، والحياة بعد الموت ، والجنة والنار ، والحساب والميزان ، والقدر خيره وشره .
قال : فإذا فعلت ذلك فقد آمنت قال : نعم .
ثم قال : ما الإِحسان؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن كنت لا تراه فهو يراك قال : فإذا فعلت ذلك فقد أحسنت ، قال : نعم .
قال : فمتى الساعة يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سبحان الله، خمس لا يعلمها إلا الله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
المسألة الرابعة عشرة : لقد ورد لفظ [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ثلاث مرات في القرآن ، وتستقرأ منها دروس ومواعظ بلحاظ نظم الآيات التي وردت فيها كما سيأتي في باب (علم المناسبة) ( ).
ويتضمن الجمع بين آية البحث وآية السياق وجوهاً :
الأول : ينتظر الموت الذين قالوا [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ]( )، ليتركوا أموالهم خلفهم ، ويبقى عليهم وزرها إن كانوا جمعوها بالباطل ، وحبسوا ما يترتب عليها من الحقوق الشرعية ، قال تعالى [يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ]( ).
الثاني : تتضمن الآية الإخبار بأن الأنبياء السابقين قد ماتوا وكذا الذين قتلوهم ، ليقفوا بين يدي الله للحساب ، وبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليحيي ذكرى الأنبياء ، ويدعو للتصديق بنبوتهم، وينزل القرآن بالإخبار عن جهادهم.
الثالث : ثقل وكبر وزر قول [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ]( ) يوم القيامة
المسألة الخامسة عشرة : أختتمت آية البحث بقانون وهو الدنيا متاع الغرور ، وفيه وجوه :
الأول : بيان أن إنكار الكفار للربوبية المطلقة لله عز وجل من هذا الغرور.
الثاني : إنخداع الذين كفروا بالحياة الدنيا ، ومباهجها فانشغلوا بها عن التدبر بمعجزات الأنبياء وتصديقهم.
الثالث : دعوة الناس للتفكر في حقيقة الدنيا ، وكيف أنها تخفي عيوبها عن الناس فيظنون أنها دائمة ، وأن زينتها مستمرة ، بينما يتخطفهم منها دون أن تحول دونه ، وليس لها أهلية إرجاء موت شخص ولو لدقيقة واحدة.
الرابع : الدنيا متاع ومنعة ومنفعة للتزود لعالم الآخرة ، يتنعم الإنسان فيها بالمال والملك ولكنه لا يستمر معه إنما يستمر معه وينفعه التصديق بالنبوات ، وليس التكذيب بالأنبياء ومعجزاتهم .
الوجه الثاني :صلة آية البحث بقوله تعالى [لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت كل من الآيتين بالجملة الخبرية ، وبقانون[كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] وهو يفضح ويخزي الجاحدين الذين يقولون [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ]( ).
ومن معاني الجمع بين الآيتين أن الإنسان الذي يقول [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ] يعجز عن دفع الموت عن نفسه ، ومن غنى الله عز وجل أنه وحده الحي الدائم الباقي ، وفي التنزيل [ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا] ( ) .
وفي حين ورد ذكر قول الكافرين [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ] مرة واحدة في القرآن، فقد ذكر الموت وحتمية زيارته الإنسان في آيات كثيرة منه .
المسألة الثانية : ابتدأت آية البحث بالإشراقة اليومية للقانون السماوي وهو [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( ) على النفوس والمنتديات , وهل فيه تعريض وتوبيخ للذين قالوا إن الله فقير ، الجواب نعم ، من جهات:
الأولى : موت الإنسان دليل على فقده وفاقته.
الثانية : لا يقدر على إماتة الخلق إلا الله عز وجل ، وفي التنزيل [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ]( ).
الثالثة : من أسماء الله عز وجل ( الغني) إذ أنه سبحانه يتصف بالغنى المطلق من وجوه كثيرة منها :
الأول : الله عز وجل غير محتاج.
الثاني : كل شيء يحتاج إلى الله سبحانه.
الثالث : إفتقار الخلائق مجتمعة ومتفرقة إلى الله عز وجل.
ومن تحتاج إليه الخلائق ليس بفقير ، ومع هذا فالله سبحانه لم ينتقم من الذين قالوا [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ]( )، ولكنه لم يترك كلامهم سدىّ بل أنزل فيه قرآناً ، لوجوه :
أولاً : الندامة في نفوس الذين كفروا ، وحثهم على التوبة والإنابة ، قال تعالى [يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا] ( ) .
ثانياً : إتعاظ الناس وإمتناعهم عن محاكاة الذين قالوا [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ] خاصة وأن النسبة بين الذين كفروا والذي قالوا [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ] هي العموم والخصوص المطلق ، فالذين قالوا هذا القول فئة وجماعات منهم.
ثالثاً : بيان الأذى الذي يلاقيه الأنبياء والذين آمنوا .
رابعاً : في الآية شاهد على أن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتصف بالسلم والأمن ، فلم ينزل قرآن بالإنتقام ممن قال[إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ] ، ولم يقم المسلمون بمؤاخذتهم ومعاقبتهم ، بل إنهم يتعاهدون تلاوة هذه الآية ، وفيها حفظ للسلم المجتمعي مع إتصافها بأنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
خامساً : إذا كان الله عز وجل لاينتقم من الكافرين الذين يتعدون على مقام الربوبية ، فمن باب الأولوية أن يصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون على الأذى الذي يأتيهم من الكفار.
فان قلت قد ورد إنتقام من الله بالذين كفروا والمكذبين بالرسل في آيات متعددة منها [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ]( ).
الجواب لقد أخبرت الآية أعلاه عن كفر أهل البلدة وجحودهم بالنعم فتفضل الله عز وجل وابتلاهم بما يؤدي إلى هدايتهم ووقف تماديهم في الغي ، وإلى اتعاظ الناس منهم.
الرابع : من أسماء الله الغني ، والمُغني وفي الحديث النبوي (لله تسعة وتسعين اسماً ، مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة ، وورد فيها ذكر اسم المغني واسم الغني( ) .
الخامس : إظهار الفقر الى الله الغني نوع عبادة ومنسأة في الأجل .
السادس : الله الغني الذي يعطي في كل طرفة عين للخلائق من غير أن تنقص خزائنه ، وعن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليه السلام (في العرش مثال كل شيء خلقه الله في البر والبحر ، وهو تأويل قوله تعالى: وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه) ( ).
السابع : التسليم بالفقر إلى الله الغني رضا وغنى وقناعة في الدنيا ، وباب للأجر والثواب .
الثامن : يكون من معاني آية البحث بخصوص اسم (الغني) مسائل :
الأولى : كل نفس ذائقة الموت لأن الحياة والموت بيد الله الغني ، ومن غنى الله عز وجل أن جعل موت الخلائق بيده لم يأذن لملك أو رسول بتعيين الأجل ، وكيفية الموت ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ) .
الثانية : كل نفس ذائقة الموت حتى أولئك الذين يقولون إن الله فقير .
الثالثة : كل نفس ذائقة الموت ، فليمنع الذين يقولون إن الله فقير الموت عن أنفسهم إن استطاعوا ، قال تعالى [إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] ( ).
الرابعة : كل نفس ذائقة الموت ، ولا ينتقص من ملك الله شئ .
الخامسة : سيذوق الذين كفروا مرارة الموت ، وشدة من ملك الموت عند قبض أرواحهم ، وكأنه يذكرهم بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ].
( عن السدي قال : لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً سأل ملك الموت أن يأذن له فيبشر إبراهيم بذلك فأذن له ، فأتى إبراهيم وليس في البيت ، فدخل داره وكان إبراهيم من أغير الناس إذا خرج أغلق الباب .
فلما جاء وجد في بيته رجلاً ثار إليه ليأخذه ، وقال له : من أذن لك أن تدخل داري؟
قال ملك الموت : أذن لي ربّ هذه الدار( ) .
قال إبراهيم : صدقت ، وعرف أنه ملك الموت .
قال : من أنت؟
قال : أنا ملك الموت جئتك أبشرك بأن الله قد اتخذك خليلاً .
فحمد الله وقال : يا ملك الموت أرني كيف تقبض أرواح الكفار؟
قال : يا إبراهيم لا تطيق ذلك . قال : بلى .
قال : فاعرض ، فاعرض إبراهيم ثم نظر فإذا هو برجل أسود ينال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار ، ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل يخرج من فيه ومسامعه لهب النار ، فغشي على إبراهيم ثم أفاق وقد تحوّل ملك الموت في الصورة الأولى .
فقال : يا ملك الموت لو لم يلق الكافر عند موته من البلاء والحزن إلا صورتك لكفاه .
فأرني كيف تقبض أرواح المؤمنين؟
قال : فأعرض .
فاعرض إبراهيم ثم التفت ، فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجهاً، وأطيبه ريحاً ، في ثياب بياض .
قال : يا ملك الموت لو لم ير المؤمن عند موته من قرة العين والكرامة إلا صورتك هذه لكان يكفيه . فانطلق ملك الموت .
وقام إبراهيم يدعو ربه يقول : رب أرني كيف تحيي الموتى حتى أعلم أني خليلك .
قال : أو لم تؤمن؟ يقول : تصدق بأني خليلك . قال : بلى ، ولكن ليطمئن قلبي بخلولتك .) ( ).
وكذا ورد عن الإمام الرضا عليه السلام بخصوص قوله تعالى [قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي] ( ) (إن الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم عليه السلام: أني متخذ من عبادي
خليلا ” إن سألني إحياء الموتى أجبته، فوقع في نفس إبراهيم عليه السلام: أنه ذلك الخليل، فقال : رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ” على الخلة) ( ).
المسألة الثالثة : لقد توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم بدعوته الرسالية إلى الناس جميعاً ، ومن الآيات أنه يدعو الحر والعبد ، والغني والفقير ، والسيد والمملوك ، والعربي والمولى، والرجل والمرأة ، وكذا كانت استجابة الناس له من مختلف الطبقات والأعمار ، لتكون دعوته حرباً على العنصرية والطائفية والطبقية بدليل التساوي في الحقوق والواجبات ، ووقوف الجميع متصافين خمس مرات في اليوم بين يدي الله عز وجل مظهرين فيها العبادة له تعالى ، وفرحين بالأخوة الإيمانية، إذ أن هذا الوقوف في الصلاة وأداء الصيام والحج مظاهر التساوي بينهم ، ومصاديق متجددة لقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) وحينما تنزل فريضة من الله فانها تنزل بقرآن كما في الصلاة والصيام والزكاة والحج والخمس ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
ومع أن الأمر من الله بصيغة التذكير يشمل الرجال والنساء ، إنما يرد التذكير للغائب ، فقد نزل القرآن بالأمر للنساء بالصلاة والزكاة مع قيد خاص ، وهو أن يلزمن بيوتهن ومنع التبرج كما في الجاهلية ، قال تعالى [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا] ( ).
وعن محمد بن سيرين (قال : نبئت أنه قيل لسودة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما لك لا تَحُجِّين ، ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟! فقالت : قد حججت ، واعتمرت ، وأمرني الله أن أقر في بيتي ، فوالله لا أخرج من بيتي حتى أموت قال : فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت بجنازتها) ( ).
(عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لنسائه عام حجة الوداع هذه ، (ثم ظهور الحصر ) ( ).
قال : فكان كلهن يحجن إلا زينب بنت جحش ، وسودة بنت زمعة ، وكانتا تقولان : والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
لقد آمنت طائفة من الناس برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدّقوا بالمعجزات ، ولكن فريقاً من الناس جحدوا بها ، وأقاموا على عبادة الأوثان والتزلف إلى الأصنام .
ولما تفضل الله عز وجل وأنزل فريضة الزكاة ورغّب بها ، وقال سبحانه [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( )، قال بعضهم [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ]( )، إذ أنه يسألنا أموالنا والله سبحانه هو الذي رزقهم ، وهم يعلمون إنما يسألهم الله الصدقة لأنفسهم إذ يعطونها للفقراء فيرزق الأغنياء البركة والسعة والمضاعفة التي تدل عليها الآية الأخرى .
ومن الآيات في التشريع أن الله حرم الربا وأكل المال أضعافاً بالباطل بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، فان الله عز وجل أنعم على الناس وجعل مضاعفة المال بالصدقة ، وهذه المضاعفة على وجوه :
الأول : الرزق الكريم في الحياة الدنيا .
الثاني : النماء والبركة في المال ، بلحاظ أن المراد من المضاعفة في قوله تعالى [يُضَاعِفَهُ لَهُ] أعم من الزيادة والكثرة العددية.
الثالث : مضاعفة الأجر والثواب ليكون قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، بشارة مضاعفة الأجر ، وباعثاً لإفشاء الصدقة والمبادرة إلى الإحسان للغير ، فمن الإعجاز الغيري للقرآن ترغيب الناس بدفع الصدقات ، والمبادرة إلى الإحسان للغير ، والعفو عن الناس والزجر عن الإرهاب ، وتنمية ملكة التنزه عن سفك الدماء ، وتدل عليه الدراسة المقارنة ، والتباين في سوء حال العرب قبل البعثة النبوية ، وسيادة حسن الخلق والإنضباط وحرصهم على الأمن والإيمان بعدها .
المسألة الرابعة : لقد قال الذين كفروا[ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ] ( ) ويريدون بالغنى كثرة الأموال ، إنما كَثرت أموالهم وصاروا أغنياء بفضل من الله ، ولو شاء الله لجعلهم فقراء ولتلقوا آية الصدقات بالرضا والغبطة ، وطلبوا من الأغنياء إعانتهم إمتثالاً لأوامر الله عز وجل ، وهل في قولهم هذا تعريض بالمسلمين أو لا أقل بفقراء المسلمين وأن الله لو شاء لأنزل خزائن الأموال مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويجعل له من الحجر ذهباً.
والجواب قد اتخذ الأنبياء الفقر جلباباً، مع حثهم على السعي والكسب وعن (أبي سعيد الخدرى يقول يا ايها الناس اتقوا الله ولا يحملنكم الغرة على ان تطلبوا الرزق من غير حله فانى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول اللهم احشرني في زمرة المساكين ولا تحشرني في زمرة الاغنياء فان اشقى الاشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة) ( ).
وقال تعالى [فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ] ( ) وحتى على فرض التعريض بالمسلمين ، فلم تمر الأيام والليالي حتى صار المسلمون في حال غنى ونمت أموالهم ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن ، وأراد الله عز وجل بالحضّ على الصدقات ، وإخراج الزكوات الفوز بالرحمة في الدنيا والآخرة لمن يبادر إلى إخراجها .
(عن بلال قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كل معروف صدقة ، والمعروف يقي سبعين نوعاً من البلاء ويقي ميتة السوء ، والمعروف والمنكر خلقان منصوبان للناس يوم القيامة ، فالمعروف لازم لأهله ، والمنكر لازم لأهله ، يقودهم ويسوقهم إلى النار) ( ).
المسألة الخامسة : لقد توجه الخطاب في آية البحث للمسلمين بالفوز بالأجر الكريم يوم القيامة على العمل الصالح ، وهل يشمل الذين كفروا وقالوا (ان الله فقير) بلحاظ أن المراد من الأجور المعنى الأعم .
الجواب لا دليل على هذا المعنى ، والأجر هو (جزاءُ العمل ، أجر يأجُرُ، والمفعول: مأجور.
والأجيرُ : المُستأجُر.
والإجارةُ: ما أعطيت من أجرٍ في عمل. وآجرتُ مملوكي إيجاراً فهو مُؤجر)( ).
ويقال الأجر على حسب ما عملت ، فليس لقول [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ] من أجر أو ثواب مما ذكر في آية البحث والذي يدل في مفهومه على الإنذار للذين كفروا ، وبعث الحسرة في نفوسهم على جهرهم بكل من :
الأول : الجحود والكفر.
الثاني : الصدود عن الدعوة النبوية للإنفاق في سبيل الله.
الثالث : التعدي وظلم النفس بقول (إن الله فقير).
الرابع : إرادة منع الناس من دخول الإسلام وعزوفهم عن إخراج الزكاة والإنفاق في سبيل الله فحينما يقولون (إن الله فقير) يريدو بيان عدم الحاجة للإنفاق في سبيل الله ، وهو سبحانه لو شاء لأنزل الذهب والفضة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فمن معاني قولهم (ان الله فقير) هل الله فقير فيسألنا الصدقة والإقراض ، لقوله تعالى [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] ( ).
الخامس : تفاخر الكفار بكثرة أموالهم ، وهذا التفاخر حجة عليهم من جهات :
الأولى : كثرة الأموال فضل من عند الله تترشح عنه نعم كثيرة في الأبدان والحياة اليومية ، وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (يا أبا ذر ، أترى كثرة المال هو الغنى ؟
قلت : نعم .
قال : وترى أن قلة المال هو الفقر ؟
قلت : نعم يا رسول الله . قال : ليس كذلك إنما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب) ( ).
الثانية : قانون وجوب حق الله في الأموال ، ولا يختص قانون الزكاة بالمسلمين، ولا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي عيسى ورد في التنزيل [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا]( ).
الثالثة : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء ، ومنه المال فهو فتنة واختبار ، أراد الله عز وجل للناس أن يتخذوه وسيلة للنجاة ليكون من معاني آية البحث وجوه :
أولاً : فمن زحزح عن النار بالكسب الحلال ، وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال :
عن شبابه فيما أبلاه.
وعن عمره فيما أفناه.
وعن ماله من أين كسبه.
وفيما أنفقه
وما عمِلَ فيما علم( ).
ثانياً : فمن زحزح عن النار بالإنفاق والبذل في سبيل الله ومساعدة المحتاجين .
لقد أراد الله عز وجل أن يرى إعانة عباد المساكين ، والإحسان إليهم، ليكون نوع طريق لإستدامة حال الغنى ، ولكن الذين كفروا استكبروا وقبضوا أيديهم .
فجاءت آية البحث لإنذارهم بإخبارهم أن الموت ينتظرهم ، كما أنه زاحف إليهم ، لا تمر ساعة من نهار إلا يعرضون عليه طوعاً وكرهاً ، ويتقرب إليهم ليلتقيان بقبض الروح في الأجل المحتوم ، قال تعالى [وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا] ( ).
ثالثاً : فمن لم يزحزح عن النار لإصراره على القول إن الله فقير ونحن أغنياء.
رابعاً : فمن أدخل الجنة بالإنفاق في سبيل الله ورجاء الثواب وفي التنزيل [أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
المسألة السادسة : لقد ابتدأت آية البحث بصيغة العموم (كل نفس) فهل قوله تعالى [َقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ]( )، بذات الصيغة.
الجواب بينهما عموم وخصوص مطلق ، فليس من أحد صدّ عن السبيل بهذا القول إلا وقد سمعه الله ، سواء قاله في سوق أو منتدى أو في البيت .
وهل يشمل النساء في مخادعهن ، الجواب نعم ، إنما جاءت صيغة التذكير للغالب .
وتقدير الآية أيضاً : قد سمع الله قول اللاتي قلن إن الله فقير ونحن أغنياء .
ولو كانت المرأة الكافرة تمنع زوجها عن الإيمان والإنفاق في سبيل الله فهل هو من مصاديق قول [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ]( )، الجواب لا ، صحيح أنها تؤثم خاصة بذات المنع ، وما إذا كانت سبباً لهذا القول ، ولكن موضوع الآية هو جهة صدور قول [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ].
وجاءت آية البحث لوجوه :
الأول : تفكر الناس بالموت ، وهذا التفكر برزخ دون قول [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ].
الثاني : إخبار الآية عن حتمية الموت فضح لبطلان قول (ونحن أغنياء).
الثالث : التذكير بعالم الجزاء ، وأن الكفر وقول الباطل طريق إلى النار، ومانع من إيجاد الشفيع ، قال تعالى [وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ]( ).
والآزفة : القيامة ، من الأزوف والإزدلاف ، وهو القرب ، لقرب يوم القيامة خاصة وأن الإنسان إذا مات قامت قيامته فيغلق باب العمل ويفتح باب الحساب ، مع فضل ولطف من عند الله بثوابه من استغفار الأحياء له وعملهم الصالحات نيابة عنه كالحج والصلاة والزكاة.
ولو كان شخص يقول في حياته [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ]( )، ومات فورث أولاده تركته وانفقوا منها في سبيل الله ، وأخرجوا الزكاة والخمس ، وحجوا نيابة عنه أو استأجروا من يحج عنه ، فهل ينفعه عملهم هذا أم لا ، المختار نعم ينفعه ، ويخفف عنه العذاب .
وهل يزحزحه عن النار إذا مات كافراً ، الجواب لا دليل عليه ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ]( ).
وقد يقال هل من إستثناء لأن المراد من الآية أعلاه الذين ماتوا على الكفر وليس لهم ورثة مؤمنون يدعون لهم ويستغفرون لهم [وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) ، الجواب قال تعالى [وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى] ( ) والأمر موكول لمشيئة الله وسعة رحمته في الآخرة .
وهل قول [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ] من الصدّ عن سبيل الله ، الجواب نعم .
لذا فان آية البحث رحمة بالناس ، ومانع من إرتكاب المعاصي ، ولا يعلم الذين زحزحوا عن الباطل والفواحش لاستحضارهم الموت وما بعده من الأهوال إلا الله عز وجل ، فآية البحث إصلاح في الأرض ، وتنقيح لعالم الأفعال.
المسألة السابعة : لقد تكررت مادة (قال) أربع مرات في آية السياق ، ولم ترد في آية البحث مع أنها ذكرت تمام الأمور لبيان مسألة وهي موضوعية القول في عالم الأفعال وحضورها عند الحساب ، ويدل عليه قوله تعالى [سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا]( ).
وقد تقدم في تفسير [لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا]( )، أن المراد سماع الله عز وجل لكل أقوال الجاحدين , وأنه لا يختص بقولهم [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ]( ) ( )، وفيه وجوه :
الأول : منع الذين كفروا من التمادي في ضروب الجحود والإستكبار ، وتضمنت آية البحث إعانتهم للإنزجار عن هذا التمادي بالإخبار بأن الدنيا دار الغرور فلا يغتروا ولا يركنوا إليها.
الثاني : ذم وتوثيق العناد والإستكبار لتتعظ منه الأجيال المتعاقبة .
الثالث : دعوة الذين كفروا إلى التوبة والإنابة ، وهل يشترط في التوبة في المقام إنفاقهم في سبيل الله ، أم يكفي فيها إظهار الندامة عن قول [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ]( )، الجواب لابد من الإنابة والهدى والصلاح .
وقولهم [نَحْنُ أَغْنِيَاءُ] أي بكثرة الأولاد والأموال والأنعام والأملاك وتعلق الزكاة في أموالنا ، فنزلت آية البحث بعدها بأربع آيات لتخبر عن قانون وهو أن الموت يأتي على أنفسهم ، وينقلهم عن الدنيا إلى غير عودة أبداً كما ينقل الذين يؤدون الزكاة وينفقون في سبيل الله ، مع التباين في أمور :
الأول : إحتمال إرجاء الموت بفضل من الله عن الذي ينفق المال قربة الى الله ، ويساعد الفقراء ويقضي حوائج الناس ، وهو من عمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
عن عمرو بن عوف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن صدقة المسلم تزيد في العمر وتمنع ميتة السوء ، ويذهب الله بها الكبر والفخر( ).
عن أبي بكر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أعواد المنبر يقول : اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فإنها تقيم العوج ، وتدفع ميتة السوء ، وتقع من الجائع موقعها من الشبعان( ).
الثاني : صرف البلاء بالإنابة والبذل في سبيل الله ، وبقصد التجارة مع الله ، وإدخار الحسنات.
الثالث : نيل درجة إكرام وتخفيف في مواطن الحساب بسبب الصدقة والمعروف .
وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات ، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ( ).
المسألة الثامنة : لقد أمر الله عز وجل المؤمنين في كل زمان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإمكان والأمن من الأضرار ، وتتضمن آية البحث في مفهومها ودلالتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ تدعو إلى الإستعداد للموت بالصدقة وإتخاذ المال واقية من العذاب .
فقوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، إخبار عن خروج الإنسان من الدنيا بالكفن وحده ، وعدم أخذه أمواله وتجاراته معه ، وحالما يموت الإنسان تتحول ملكية أمواله إلى الورثة فالذين يقولون [نَحْنُ أَغْنِيَاءُ] يصبحون فقراء بطرفة عين ، ثم جاء قوله تعالى [وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( )، خطاباً للذين آمنوا وعملوا الصالحات ليدل في مفهومه على إخبار [الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ]( )، بحرمانهم من الأجور يوم القيامة .
ومن أسباب الحرمان تدوين الملائكة لقولهم في الدنيا [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ]( ).
ليكون من معاني قوله تعالى [سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا] الوعيد ببعث اليأس في نفوس الكافرين من الأجور يوم القيامة فاذا سألوها أُخرج لهم الكتاب الذي فيه استخفافهم بالنبوة والتنزيل ، واستكبارهم وامتناعهم عن الإمتثال للأوامر الإلهية .
المسألة التاسعة : تجلي التضاد بين ذكر آية البحث للجنة ، وذكر آية السياق للنار ، مع بيان على كل منهما ، فدخول الجنة بالإيمان والتقوى قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( ).
أما دخول النار فبالشرك والضلالة والعتق ، ويكون تقدير أول آية البحث وآخر آية السياق : كل نفس ذائقة الموت ونقول للذين كفروا ذوقوا عذاب الحريق.
وهل يأتيهم العذاب على ذات القول [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ]( )، أم عليه وعلى إغواء الناس به ، وصيرورته سبباً لإمتناعهم عن دفع الصدقات وإخراج الزكاة .
الجواب هو الثاني ، لذا قال الله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ]( ).
المسألة العاشرة : تضمنت آية السياق الوعيد للذين كفروا على قولهم [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ]( )، ليكون من باب الأولوية القطعية الوعيد والذم على تلبسهم بالكفر الذي هو أصل لقولهم أعلاه ، أما آية البحث فجاءت خطاباً للمؤمنين بالوعد الكريم .
وهل يدل قوله تعالى [وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( )، على الشهادة لهم باقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله ، الجواب نعم .
فمن إعجاز القرآن اتحاد الموضوع في الوعد والوعيد ، ومجئ الوعد على الإمتثال في الواجبات وعلى الإمتناع في النواهي ، ومجئ الوعيد على المعصية في الواجبات وعلى إرتكاب المعاصي.
وقد اثنى الله عز وجل على الأنبياء في القرآن لتكون سيرتهم نبراساً ، ومن كان جاحداً بنبوة محمد صلى عليه الإقتداء بالأنبياء السابقين وكل واحد منهم جاء بفريضة الصلاة والزكاة والصيام ، وصحيح أن قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، ورد بخصوص فرض الصوم على أهل الملل السابقة للإسلام ، ولكنه دليل على فرض الصلاة والزكاة إلى جانب الأدلة الخاصة بكل فريضة منهما ، وقد تأتي آية جامعة لها كما في قوله تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ]( ).
قانون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر خمس مرات في اليوم
تضمن قوله تعالى [لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ]( )، الوعيد للذين كفروا بقوله تعالى [سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا] وقد تقدم في تفسيرها أن المراد من قولهم في الآية أعم من ذكرهم إن الله فقير ونحن أغنياء( ).
لبيان أن كتابة القول الذي يتضمن الجحود والإنكار للنبوات والمعجزات برزخ دون الزحزحة من النار ، ليكون من معاني [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، حضور ما كتب الملائكة على الإنسان من الأقوال والأفعال لتكون مادة للحساب.
فان قلت لم تذكر آية السياق إلا القول وكتابته ، والجواب إن الله عز وجل يكتب كل أقوال وأفعال الإنسان إلا أن قرينة المقام جعلت ذكر الكتابة بخصوص القول ، وفيه مسائل :
أولاً : شدة قبح قول ان الله فقير .
ثانياً : الإنذار للكافرين والمنافقين من التعدي في الكلام ، ويحتمل الإنذار بلحاظ قوله تعالى [جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ) وجوهاً:
الأول : تلاوة آية البحث من الإغلاظ والشدة على الكفار والمنافقين .
الثاني : إنها من الجهاد .
الثالث : إرادة الفرد الجامع للوجهين أعلاه .
والصحيح هو الأخير ، لبيان قانون وهو أن تلاوة القرآن جهاد ،ويغني عن العنف وعن القتال ويبين قبح الإرهاب .
وهل تلاوة قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] من هذا الجهاد ، الجواب نعم ، لذا يتلوها المسلمون في صلاتهم كل يوم أو يتلون الآيات التي تذكر بالموت ، وتدعو إلى استقباله بالصالحات ، ومن فضل الله عز وجل كثرة الآيات التي تذكر الموت ، وعددها تسع وخمسون ومائة .
وبلحاظ تكرار مادة (مات)في ثلاث آيات ،وقد تقدم أن مجموع مادة (مات ) في القرآن اثنتان وستون ومائة مرة ، بما يملي على الإنسان استحضاره والرضا به .
ثالثاً : تفقه المسلمين في الدين ، والإحتراز من القول الذي لا يرضي الله عز وجل (عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يطبع المؤمن على كل شيء إلا الخيانة والكذب) ( ).
رابعاً : البعث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهل تلاوة آية البحث منه ، الجواب نعم .
وهو من الإعجاز في فوز المسلم والمسلمة بنيل مرتبة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، ولتكون تلاوة آية البحث من مصاديق الزحزحة عن النار وأسباب دخول الجنة فيفاجئ المسلم يوم القيامة بنيل مرتبة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر خمس مرات في اليوم ، فيندهش إذ أنه يعلم بأن أياماً كثيرة من حياته تمر عليه ولم يأمر أو ينهى فيها ، وكذلك المسلمة تتساءل بأنها كانت تقضي أياماً عديدة حبيسة المنزل فكيف نالت هذه المرتبة العظيمة بالصفة والتعيين بقانون السمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر خمس مرات في اليوم ، فيأتيها الجواب من عند الله إنها تلاوتها للقرآن في الصلاة.
فان قلت قد ورد في القرآن ما يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي بقوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ) .
والجواب المراد في الآية أعلاه المبادرة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نحو القضية الشخصية ولغة المفاعلة بين الأمر والمأمور، والإكتفاء بمن سعى إليه ، وهو لا يمنع من إتصاف المسلمين كأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما في قوله تعالى [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ]( ).
ومن الإعجاز في الصلاة أنها مصداق للأمر والنهي ومنه الجهر بالقراءة فيها لتكون مصداقاً للأمر والنهي ، وبرزخاً دون دخول النار ، وهل تكون قراءة المسلم في الصلاة حجة له وحجة عليه ، الجواب نعم ، للزوم العمل بمضامين ما يقرأ .
(عن جندب بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه) ( ).
و(وأخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الإِيمان وابن عساكر عن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال : يا ابن عباس إني اريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر قال : أو بلغت ذلك؟
قال : أرجو .
قال : فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل .
قال : وما هن؟
قال : قوله عز وجل { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } أحكمت هذه الآية؟
قال : لا .
قال : فالحرف الثاني قال قوله تعالى { لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( )أحكمت هذه الآية؟
قال : لا .
قال : فالحرف الثالث قال قول العبد الصالح شعيب { ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه }( ) أحكمت هذه الآية؟
قال : لا .
قال : فابدأ بنفسك .) ( ).
وعلى فرض صحة سند الحديث فلا تصل النوبة إلى هذه الشروط والمرتبة ، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة يستطيع كل إنسان على أفراد منه ، ولا تتعارض مع إصلاح الذات .
وكما يسمع الله قول الذين كفروا [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ]( )، فانه سبحانه يسمع تلاوة المسلمين والمسلمات لآيات الزكاة والإنفاق في سبيل الله ، كما يسمعها الذين كفروا فتتغشاهم الكآبة ، ويصيبهم الحزن للتخلف عن الواجب الفطري بالإيمان ، وهل يحضر هذا السماع يوم القيامة ليكون حجة عليهم ، الجواب نعم .
(عن أبي بن كعب قال : كانوا أمة واحدة حيث عرضوا على آدم ، ففطرهم الله على الإِسلام وأقروا له بالعبودية ، فكانوا أمة واحدة مسلمين، ثم اختلفوا من بعد آدم) ( ).
ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، هو : وما خلقت الجن والإنس إلا لأعينهم على عبادتي ، ومن وجوه هذه الإعانة الأمر بالصلاة وتلاوة التنزيل فيها ، وسماع الناس لها.
وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في التلاوة منفصل عن قول الذين كفروا [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ] الجواب لا ، إذ هما في تعارض وجدال وإحتجاج من طرف أهل التنزيل ، حتى يغلب الحق ، قال تعالى [لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ]( )، وكما يكتب الله قول الذين كفروا فانه سبحانه يكتب تلاوة المسلمين والمسلمات للقرآن ، وما فيها من التسليم بوجوب الإنفاق في سبيله تعالى ، والوعيد للذين كفروا على أمور :
الأول : الإمساك عن الإنفاق في سبيل الله.
الثاني : إنفاق الذين كفروا أموالهم في المعصية والجحود ، قال تعالى [ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
الثالث : التجاهر بالفسوق والعناد والإستكبار بقول [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ]( )، وفيه شاهد بالحاجة العامة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عامة المسلمين ، فتفضل الله عز وجل وجعل لهم الصلاة دعاء ومناسبة للإنذار من الحرمان من الزحزحة من النار .
وقد ورد التحذير لعامة المسلمين والمسلمات بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ] ( ) ليكون من معاني الآية : لا تكونوا كالذين كفروا ، إذ شغلتهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله ، ولم يرد لفظ [تُلْهِكُمْ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
ومن اللطف الإلهي في الأحكام الشرعية تقديم التيسير وأسباب الغبطة والسعادة فمثلاً قدمت آيات القرآن البشارة على الإنذار ، قال تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
وقد قدمت آية البحث ذكر الموت لأنه حق ويدرك كل انسان وقوعه ثم جاءت مسألة الزحزحة من النار لإستصحاب هذا الإدراك ، والإقرار بأنها من لطف الله ، وأن الإنسان يصرفه إيمانه وعمله الصالحات عن النار ، قال تعالى [وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا]( ).
وقال الإمام علي عليه السلام (ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً ، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلاَ عَمَلَ) ( ).
قانون الزحزحة من النار
الزحزحة : التنحية والإبعاد عن المكان ، وفي المثل : الإيمان يزحزح الجبل.
ولم ترد مادة (زحزح) في القرآن إلا مرتين ، إذ ورد قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ] ( ) لبيان عدم الملازمة بين طول العمر وبين الزحزحة من النار ، فاذا كان الإنسان ممتنعاً عن أداء الفرائض العبادية أيام عمره فانه لا يستطيع التنحي والإبتعاد عن النار ، وأصل الزح هو (جَذْبُ الشَّيْءِ في عَجَلَةٍ، زَحَّه يَزُحُّه زَحّاً. والزَّحْزَحَةُ: التَّنْحِيَةُ عن الشَّيْءِ. والزّحْزَاح: البَعِيدُ) ( ).
(قال ذو الرمَّة:
يا قابِضَ الروحِ عن جِسمٍ عَصى زَمَناً … وغافِرَ الذَنْبِ زَحْزِحْني عن النارِ
وتقول: هو بِزَحْزَحٍ عن ذاك، أي ببُعْدٍ منه) ( ).
ومن معاني الزحزحة تكرار الزح لبيان أن كل فعل عبادي يجذب الإنسان عن النار خاصة وأن شدة حرارة لهيبها يحس بها من مسافة بعيدة .
كما جاءت مادة (زحزح) في الحديث النبوي بأحاديث منها :
الأول : (أخرج أحمد عن ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أحب أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه) ( ).
رواه الثعلبي عن عبد الله بن عمر يرفعه( ) .
الثاني : (عن عبدالله بن عمر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فنزلنا منزلاً فمنا من يضرب خباءه ، ومنا من ينتضل إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الصلاة جامعة فانتهيت إليه وهو يخطب الناس ويقول : أيها الناس إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيراً لهم ، وينذرهم ما يعلمه شراً لهم، الا وان عافية هذه الأمة في أولها سيصيب آخرها بلاء وفتن يرفق بعضها بعضاً .
تجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه تهلكني ، ثم تنكشف ، ثم تجيء فيقول هذه وهذه ثم تجيء فيقول هذه وهذه .
ثم تنكشف فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع ) ( ).
الثالث : عن صهيب قال (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في هذه الآية : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، نادى مناد : يا أهل الجنة ، إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه ، فيقولون : وما هو ؟
ألم يبيض وجوهنا ؟
ألم يثقل موازيننا ، ألم يزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة ؟
فيكشف لهم عن الحجاب ، فينظرون إلى الله عز وجل ، فما شيء أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة) ( ).
الرابع : عن عائشة (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : خلق الله كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاث مائة مفصل فمن كبر الله، وحمده ، وهلل الله ، وسبح الله ، واستغفر الله ، وعزل عظما عن طريق الناس ، وعزل حجرا عن طريقهم ، وأمر بمعروف ، ونهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاث مائة ، فإنه يمسي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار) ( ) .
الخامس : قال (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ زَحْزَحَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ بِذَلِكَ سَبْعِينَ خَرِيفًا) ( ) ويلاحظ في الأحاديث اختصاص موضوع الزحزحة بالنجاة من النار في الجملة .
وورد لفظ زحزح في الخبر عن أنس بن مالك قال (بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس في المسجد وقد أطاف به أصحابه إذ أقبل علي بن أبي طالب عليه السلام ، فوقف فسلم ، ثم نظر مجلسا يشبهه ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وجوه أصحابه ، أيهم يوسع له ، وكان أبو بكر جالسا عن يمين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتزحزح له عن مجلسه وقال : ههنا يا أبا الحسن ، فجلس بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين أبي بكر ، قال أنس : فرأيت السرور في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم أقبل على أبي بكر فقال : يا أبا بكر إنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل) ( ).
ومن إعجاز الآية أنها لم تذكر الزحزحة مرة أخرى إلى الجنة ، فلم تقل الآية وزحزح إلى الجنة لوجوه :
الأول : معنى الزحزحة هو الإبعاد .
الثاني : بيان أن الزحزحة من النار لا تعني دخول الجنة ، لذا جاءت الآية بحرف العطف (الواو) في قوله تعالى [وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ].
لإفادة المغايرة بين الحالتين ، ولم تأت الآية بالفاء ، فلم تقل (فأدخل الجنة) ليكون من السببية وقانون العلة والمعلول .
فلو جاءت الآية بالفاء (فأدخل الجنة) لأفادت ترتب دخول الجنة على الزحزحة من النار ، ولكن المراد من الآية تعدد مواطن الآخرة وعالم الحساب ، وأن بين الزحزحة عن النار وبين دخول الجنة مراحل (عن عكرمة قال : سأل رجل ابن عباس ما هؤلاء الآيات { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة }( ) ويدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، ثم يعرج إليه { في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون }( ).
قال : يوم القيامة حساب خمسين ألف سنة وخلق السموات والأرض في ستة أيام كل يوم ألف سنة ويدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، ثم يعرج إليه { في يوم كان مقداره ألف سنة } قال : ذلك مقدار المسير) ( ).
ومن خصائص القرآن أنه مصاحب لأيام الحياة الدنيا مع سلامته من التحريف والتبديل والتغيير ، ليتفرع عنه قانون وهو ملازمة قانون الزحزحة عن النار للناس في الحياة الدنيا ، فيدعوهم القرآن في كل يوم إلى الزحزحة عن النار ، وهذه الدعوة من تجليات تلاوة المسلمين لآية البحث في الصلاة والآيات التي تبعث النفرة من النار وتهدي إلى النجاة منها .
فان قلت قد تأتي على المسلم عشرات السنين من غير أن يقرأ آية البحث في الصلاة ، والجواب من جهات :
الأول : قد يقرأها خارج الصلاة .
الثاني : يسمع المسلم هذه الآية من غيره ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثالث : استحباب ختم القرآن كل أسبوع ، أو كل شهر وخصوصاً في شهر رمضان (عن سعد بن المنذر الأنصاري أنه قال: ” يا رسول الله، أقرأ القرآن في ثلاث.
قال: “نعم، إن استطعت” ” . قال: فكان يقرؤه كذلك حتى توفي) ( ).
الرابع : من إعجاز القرآن وجود ذات الآية القرآنية في آية أخرى وإن اختلف اللفظ وتعدد المعنى .
الخامس : مجئ النصوص بالترغيب بقراءة سورة آل عمران وآية البحث هي الخامسة والثمانون بعد المائة من آياتها وعن (عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته يقول: ” تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة.
قال: ثم سكت ساعة، ثم قال: ” تعلموا سورة البقرة، وآل عمران، فإنهما الزهراوان، يُظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان أو غيايتان( )، أو فرْقان( ) من طير صَوافّ، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟
فيقول: ما أعرفك. فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة.
فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين، لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟
فيقال: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال: اقرأ واصعد في دَرَج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هَذًّا كان أو ترتيلا “)( ) .
ومن فضل الله عز وجل تلاوة كل مسلم ومسلمة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) سبع عشرة مرة في اليوم ، ومن الصراط المستقيم الزحزحة عن النار ، لبيان قانون وهو أن موضوع الصراط المستقيم عام وشامل لأمور الدنيا والآخرة .
إعجاز الآية الذاتي
تبين آية البحث عظيم قدرة الله عز وجل وأن أرواح الإنس والجن بيده سبحانه يقبض ما يشاء منها آنى يشاء، وهو اللطيف الرحيم ، إذ ينسئ في الأجل ، ويرجئ الموت عمن يشاء ، ولكن لابد وأن يحل الموت بساحة الإنسان ، ومن بديع صنع الله عز وجل وجود متوسط عمر للناس ، بحيث لا يرجو الإنسان تجاوزه في أحسن حالاته من جهة طول العمر ، مما يلزم الإستعداد للموت ، والتهيئ له ، قال تعالى [وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ] ( ) .
ليكون من بديع صنع الله عز وجل أن طول عمر الغير يذكر هو الآخر بالموت ، فاذا ما سمع الإنسان بوجود معمر أو رآه يقول في نفسه ليتني أبلغ هذا العمر ، أو أنى لي أن أبلغه ، خاصة وأنه فرد قليل بين الناس ، ليكون استحضار الموت في كل الأحوال عند المرض وموت أحدهم وعند طول عمر بعضهم ، وكأنه من عمومات قوله تعالى [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ] ( ).
وقد وفرت آية البحث العناء عن الإنسان وكشفت له علوماً من الغيب، وهي:
الأول : طرو الموت على كل إنسان .
الثاني : إنعدام الإستثناء في الموت ، فليس من إنس أو جن أو ملك يستثنى من الموت .
الثالث : وجود النار في الآخرة ، وهل هي مخلوقة الآن أم لم تخلق بعد، المشهور والمختار أنها مخلوقة ، وقد تقدم الكلام فيه .
ومن خصائص آية البحث أنها تخاطب العقول عامة مع إقترانها بالشواهد اليومية ، إذ يفقد الإنسان أباه وأمه وجده وجاره وصديقه تارة بالمرض وأخرى بموت الفجأة الذي هو من علامات آخر الزمان ،وأخرى بالقتل والأوبئة أو الحروب ، فيصل مفهومها إلى الناس مجتمعين ومتفرقين ، ليستحضروا بالوجود الذهني عالم ما بعد الموت .
ومن الآيات أن الإنسان يغادر الدنيا ، ولكن صورته وذكراه لا تغيب عن خواطر وأحاديث الناس .
ومن معاني البرهان إظهار صحة المعنى ،وإبطال نقيضه ، ومن خصائص الآية القرآنية أنها حجة فاصلة وبرهان .
ومن تجليات البرهان في آية البحث وجوه :
الأول : قانون الموت خاتمة ، حياة الإنسان في الدنيا.
الثاني : قانون الموت انتقال إلى عالم آخر .
الثالث : قانون الموت برزخ دون الغلو بالأنبياء والأولياء .
الرابع : قانون الوعد بالأجر التام يوم القيامة .
الخامس : قانون الثواب الأخروي .
السادس : قانون إبعاد المؤمن من النار .
ومن تمام الأجور الذي تذكره آية البحث تعقب دخول الجنة للزحزحة من النار.
السابع : قانون الفوز هو دخول الجنة.
الثامن : قانون الدنيا متاع زائل .
ويمكن تسمية آية البحث آية (زحزح) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث.
وورد لفظ [وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ]( )، في ذم الذين أشركوا ، وبعث اليأس في نفوسهم من النجاة في الآخرة بقوله تعالى [وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ]( ).
إعجاز الآية الغيري
تمنع آية البحث من الغلو بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنها تخبر عن موته ، وهل تدل الآية على أن القرآن ينعى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه ، الجواب نعم ، وتبين الآية قانوناً عاماً وباعثاً للنبي محمد للتبليغ ،ودعوة الصحابة والناس جميعاً للإنتفاع من علوم الوحي التي جاء بها ، وقال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ).
انما ورد النعي جلياً حينما نزلت سورة النصر ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
لقد ابتدأت آية البحث بذكر الموت وكيف أن الناس متساوون فيه كعاقبة لأي منهم في الحياة الدنيا ، وتشير الآية إلى التباين في حياة الناس فمنهم من يعيش حياة رغيدة ، مع كثرة الأموال والخدم ، ولكن النهاية أنه يغادر الدنيا مثلما يغادرها الفقير لا يحرز منها إلآ الكفن ولكن الأعمال تصاحب كلاً منها إلى الأخرة .
وتبعث آية البحث الناس على التفقه والتدبر في حقيقة الحياة الدنيا ولزوم عدم الإغترار بها أو الجري وراء الرغائب والأمال العريضة فيها ، إذا يقطع الموت فجأة هذه الرغائب ، ليكون من معاني تقدير أول الآية وجوه :
الأول : كل نفس ذائقة الموت وأنت أيها التالي أو المستمع منهم.
الثاني : كل نفس ذائقة الموت فليس من حي دائم إلا الله عز وجل .
الثالث : كل نفس ذائقة الموت ، المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، والحر والعبد ، والسلطان والعامل ، والرجل والمرأة ، والصغير والكبير.
وتبعث آية البحث الرأفة والرقة من الوالدين على أبنائهم خشية مداهمة الموت لهم ، كما أنها مواساة لهما عند فقد الابن إذ لا يعلم الحزن والأسى الذي يلحق الوالدين بفقد الابن إلا الله عز وجل.
فمن إعجاز آية البحث الغيري المواساة عند المصيبة ، وقال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( )، وقد بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ابنه إبراهيم عندما كان يجود بنفسه وقال: إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالَقْلَبَ يَحْزَنُ ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يُرْضِي الرَّبَّ ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ( ).
وقال ابن الرومي الشاعر :
توخَّى حِمَامُ الموت أوسطَ صبيتي…فلله كيف اختار واسطة َالعقدِ
على حين شمتُ الخيرَ من لَمَحاتِهِ…وآنستُ من أفعاله آية َ الرُّشدِ
طواهُ الرَّدى عنِّي فأضحى مَزَارهُ…بعيداً على قُرب قريباً على بُعدِ
لقد أنجزتْ فيه المنايا وعيدَها …وأخلفَتِ الآمالُ ماكان من وعدِ
لقد قلَّ بين المهد واللَّحد لبثُهُ …فلم ينسَ عهد المهد إذ ضمَّ في اللَّحدِ.
ومن السلاطين والملوك من يبتلى بموت ابنه ليكون درساً وموعظة وليرأف بالشباب لما يرى من وقع المصيبة بحبسهم أو قتلهم على والديهم.
ويذكر ابن الأثير بخصوص حوادث السنة الأربع والسبعين والأربعمائة (وفيها مات ابن السلطان ملكشاه، واسمه داود، فجزع عليه جزعاً شديداً، وحزن حزناً عظيماً، ومنع من أخذه وغسله، حتى تغيرت رائحته، وأراد قتل نفسه مرات، فمنعه خواصه، ولما دفن لم يطق المقام، فخرج يتصيد، وأمر بالنياحة عليه في البلد، ففعل ذلك عدة أيام، وجلس له وزير الخليفة في العزاء ببغداد)( ).
وهل من إعجاز الآية الغيري جعل الإستعداد عند المسلم والمسلمة لفقد الولد ، ونزول الموت بالابن أو البنت الجواب نعم ، فمن الآيات أن الآية القرآنية تتضمن جملة واحدة مثل [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ( )، وفيها معاني متعددة ، إذ تفيد :
الأول : البيان والإخبار ، قال تعالى هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ .
الثاني : القصة والموعظة من موت الماضين.
الثالث : التهيئ للوقائع .
الرابع : المواساة ، وليس في القرآن مادة (واسى) (عن أنس بن مالك قال : قال المهاجرون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : لقد أتينا قوما ما رأينا قوما أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلا في كثير منهم ، والله لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ ، ولقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : كلا ، ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم) ( ).
الخامس : عدم الشماتة بالموت ، قال تعالى [أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ] ( ) وقال وأبا ذؤيب الهذلي في الرثاء :
(وتجلدي للشامتين أريهم … إني لريب الدهر لا أتضعضع
فإذا المنية أنشبت أظفارها … ألفيت كل تميمة لا تنفع) ( ).
السادس : الإستعداد لمغادرة الدنيا .
السابع : الصبر على الأذى.
الثامن : الأمل والرجاء لما بعد الموت من فضل الله.
التاسع : البعث على الدعاء لإرجاء الموت ، والهداية للعمل الصالح وإدخار الحسنات ، وهو من عمومات قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
مفهوم الآية
تدل آية البحث في مفهومها على قانون وهو ليس من إنسان يبقى حياً في الدنيا ، فهي دار المغادرة ، لا تستطيع الوفاء بالصحبة لأحد ، وإن كان نبياً أو إماماً أو مصلحاً.
ومن بديع صنع الله أنه لم يجعل مغادرة الإنسان للدنيا مفتوحة ، إنما هناك متوسط عمر لعامة الناس ، ولو جاء العلم الحديث باطالة أعمار الناس اليوم أو غداً ، فلا يخرجه من مضمون آية البحث لأن أعضاء البدن التي ترتكز عليها الحياة كثيرة منها القلب والدماغ والكليتان والرئتان والشرايين والأوردة والحواس ، ولكل فرد منها عمر معين ، فقد يستهلك بعضها قبل الآخر ، ومع إصلاحه كالقلب إذ يجعل الطب الحديث للإنسان قلباً صناعياً ، فلا يلبث بعد فترة أن يستهلك عضو أخر وهكذا إلى أن يأتيه الأجل ، قال تعالى [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ).
وأختتمت الآية بنعت الدنيا بأنها [مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ) لبيان أن الترف والرغد يتعقبه الزوال والفناء لكل من :
الأول : صاحب الترف .
الثاني : مادة وأدوات الترف والزينة .
الثالث : حال الترف ، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ) .
وقال تعالى [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ]( )و(عن شداد بن أوس إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت،
والفاجر من إتبع نفسه هواها وتمنى على الله) ( ).
لقد ذكرت آية البحث قانون تمام الأجور يوم القيامة لبيان حرمان الذين كفروا أنفسهم من هذه النعمة العظيمة ، إذ أن الأجر في الآخرة , فلابد أن يعادل الإنسان في الأصل الدنيا وما فيها ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( )، وتترشح هذه الأجور على كل من :
الأول : الإيمان بالله إلهاً ورباً.
الثاني : التصديق بالرسالات والملائكة واليوم الآخر .
الثالث : أداء الفرائض العبادية.
الرابع : التنزه عن الظلم والتعدي وبخس الناس حقوقهم .
ومن معاني حرمان الذين كفروا من الأجور والثواب يوم القيامة ، قوله تعالى [وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا]( )، وقدمت آية البحث الحصول على أجور وجزاء الأعمال قبل الزحزحة من النار ، لبيان موضوعية الأجور في العبور على الصراط المستقيم يوم القيامة ، فمن ليس عنده أجور عمله الصالحات يكون له هذا الصراط كحد السيف.
ومن مفاهيم آية البحث انعدام الوسط والبرزخ بين دخول الجنة وبين الخسران ، فمن يعمل الصالحات في الدنيا وهو مؤمن ينجو من العذاب ، أما الذين أقاموا على الكفر وانشغلوا بملذات الدنيا فانهم محرومون من نعمة دخول الجنة ومقدمات هذه النعمة في الدنيا والآخرة ، وهل من مقدماتها تلاوة القرآن وإقامة الصلاة ، وأداء الزكاة الجواب نعم .
وقد خلق الله عز وجل الإنسان عن حكمة عظيمة أبهرت الملائكة ، وجعلتهم في حيرة من أمرهم لتتجلى عمارة الأرض بالعبادة فأجابهم الله عز وجل بأنه يعلم من أسرار الخلافة وعمارة الإنسان الأرض بالعبادة وسرعة مجئ الموت له ما لا يعلمون ، إذ ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ، ويأتي الموت سريعاً إلى الإنسان ليقف بين يدي الله للحساب .
وهل سرعة الموت هذه ومغادرة الإنسان الدنيا من مصاديق قوله تعالى [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ) ، الجواب نعم.
أيهما أفضل السمع أم البصر
من مفاهيم قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ( ) بعث الإنسان على التفكر بذات الموت ، وكيف أن الآية تدل على كونه أمراً وجودياً ذا صبغة حسية إذ ربطت الآية بينه وبين حاسة الذوق ، ولكن ليس الذوق بآلة الذوق وهي اللسان وحده ، إنما ذات النفس هي التي تذوق الموت ، لتنزل وطأته على الإنسان كله بروحه وبدنه ، ومن فضل الله عز وجل ما رزق للإنسان من نعمة حاسة السمع والبصر .
فينتفع كل إنسان من كل حاسة وهي :
الأولى : حاسة البصر، وهي التي تخص قدرة الإنسان على تمييز الأشياء التي تكون أمامه ، ورزقه الله نعمة حركة الرأس ذات اليمين واليسار ، ليرى من الجهتين ، وتفضل وجعله يستطيع الإستدارة ليرى ما خلفه ، ولا تتم الرؤيا بذات العين وحدها ، إنما بوظائف معقدة بين الدماغ والعين وبعض الأنسجة والاعصاب خصوصاً ، وأن الدماغ هو الذي يتولى الإشراف على الحواس وتنظيم وظائفها ، قال تعالى [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً] ( ).
الثانية : حاسة السمع ، وهي التي تقوم بسماع الأصوات وتمييزها وفصلها ،واستقبال الموجات الصوتية ، ووعاء حاسة السمع هو الإذن.
ومن إعجاز القرآن أنه يذكر نعمة الحواس، كما يبين وجوب تسخيرها في طاعة الله ، ويذم الذين لا ينتفعون منهاويمتنعون عن التدبر في الآيات والمعجزات ، قال تعالى في ذم الذين يكون مصيرهم إلى النار ، ولا يستطيعون التزحزح عنها [لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ] ( ).
الثالثة : حاسة التذوق ، ومحلها اللسان والذي يكون الكلام أهم وظائفه ثم تفتيت الطعام ، ويقوم بنقل إشارات التذوق عند طرو أسبابه من الأعصاب التي فيه إلى الدماغ.
الرابعة : حاسة الشم ، ويتولى المسؤولية عنها الأنف والشعيرات الناعمة التي فيه ، إذ ترسل الروائح التي تعرض لها إلى المخ.
الخامسة : حاسة اللمس : ويتولى جلد الإنسان التمييز بين اللمسات الخفيفة ، والثقيلة ، ويتحسس الشئ الناعم والخشن ، والبرودة والحرارة ، كما ويشعر الجلد بالألم .
وهذا التقسيم نسب إلى ارسطو ، ويلحظ فيه التباين في الكم والكيف بين الحواس وأثرها ونفعها ، إذ أن مرتبة السمع والبصر أعظم وأكبر وهو الذي يتجلى بيانه في القرآن ، وفيه شاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأخذ من الكتب السابقة إنما نزل عليه القرآن بما هو مباين للأقوال المشهورة للفلاسفة.
ومع الشكر لله عز وجل على نعمة السمع والبصر وسؤال استدامتهما والإنتفاع الأمثل منهما أيهما أكثر أهمية السمع أم البصر ، فيه وجوه :
الأول : نسبة التساوي ، وأن كل حاسة تقوم بوظيفتها الخاصة ، وهناك تكامل بينهما ، وقد جعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العين الواحدة نصف الدية ، وفي كتاب الفرائض الذي وبعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل اليمن أن دية العينين دية النفس كاملة ، إذ ورد عن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات ، وبعث به مع عمرو بن حزم ، إذ أخرج الحاكم عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده حديث هذا الكتاب ومنه .
(وكان في الكتاب . إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة إشراك بالله ، وقتل النفس المؤمنة بغير حق ، والفرار في سبيل الله يوم الزحف ، وعقوق الوالدين ، ورمي المحصنة ، وتعلم السحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم .
وإن العمرة الحج الأصغر ، ولا يمس القرآن إلا طاهر ، ولا طلاق قبل املاك ، ولا عتاق حتى يبتاع ، ولا يصلين أحد منكم في ثوب واحد وشقه باد ، ولا يصلين أحد منكم عاقصاً ( ) شعره ، ولا في ثوب واحد ليس على منكبيه منه شيء .
و كان في الكتاب : أن من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود إلا أن يرضي أولياء المقتول .
وأن في النفس الدية مائة من الإِبل ، وفي الأنف الذي أوعب جدعه الدية ، وفي اللسان الدية ، وفي الشفتين الدية ، وفي البيضتين الدية ، وفي الذكر الدية ، وفي الصلب الدية .
وفي العينين الدية ، وفي الرِجل نصف الدية .
وفي المأمومة ( ) ثلث الدية ، وفي الجائفة ثلث الدية ، وفي المنقلة خمس عشرة من الإِبل ، وفي كل أصبع من الأصابع من اليد والرجل عشر ، وفي السن خمس من الإِبل ، وفي الموضحة خمس ، وأن الرجل بالمرأة ، وعلى أهل الذهب ألف دينار)( ).
ومن الإعجاز أن دية فقد العينين يمثل دية النفس كاملة ، وورد ثبوت نصف الدية في الأذن فقد ورد عن الصحابة والأئمة .
الثاني : حاسة السمع هي الأهم لذا قدمها الله عز وجل في أغلب آيات التنزيل ، وأفضلية حاسة السمع لوجوه :
أولاً : أول ما يولد الطفل يسمع الأصوات بينما يتخلف البصر عن ساعة الولادة .
ثانياً : ورود السمع قبل البصر في آيات القرآن ، منها قوله تعالى [مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ] ( ).
ثالثاً : ورود آيات تخص السمع وتبين موضوعيته في إدراك الحقائق والمفاهيم ، قال تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ]( ).
ومن الآيات أن الصحابة ليس فيهم أصم لا يسمع، بينما فيهم الضرير مثل ابن أم مكتوم ،وهو من المسلمين الأوائل ، ومن المهاجرين .
رابعاً : السمع أعم وأكبر ، ويستطيع الإنسان أن يسمع من أكثر من جهة في آن واحد ، ويسمع من خلف حاجز أو جدار .
خامساً : موضوعية حسن الإستماع في مراتب الإيمان ، قال تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا] ( ) (عن عبادة بن الصامت قال « بايعنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ، وعلى أثره علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة) ( ).
سادساً : حتى بالنسبة للجنين فان مكونات آلة السمع تتم قبل مكونات آلة البصر ،وتنموا الأذن الداخلية وتصير تحس بالأصوات في الشهر الخامس ، وهو من الإعجاز في تقديم القرآن لنشأة السمع ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ] ( )وقال تعالى [إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا] ( )وقال تعالى [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ]( ).
ولا تتم طبقة الشبكية إلا بعد الأسبوع الخامس والعشرين من عمر الجنين ، ويحتاج لبضعة أسابيع كي يتمكن العصب البصري من نقل الإشارات العصبية بصورة شبه تامة .
سابعاً : يكون تحصيل العلوم بالسمع أكثر منه في البصر ويدرك به الحاضر والغائب ، بينما لا يرى البصر إلا ما أمامه وإلى أمد محدود.
الثالث : التباين بلحاظ اختلاف العوالم ، فأضرار الحرمان من حاسة البصر في أمور الدنيا أكثر ، أما أضرار الطرش وفقدان حاسة السمع في أمور الدين فهي أكثر .
وذكر الحواس الخمسة من قبل ارسطو ، فهناك تباين فيها ، إذ تمتاز كل من حاسة السمع والبصر على موضوعية وأثر في حياة الإنسان يفوق أضعاف مضاعفة أثر حاسة الشم أو الذوق .
الرابع : حاسة البصر هي الأهم ، وهو المختار ، من جهات منها :
الأولى : لقد جعل الله عز وجل معجزات الأنبياء السابقين حسية مثل ناقة صالح عليه السلام ، وعصا موسى عليه السلام ، وإحياء عيسى عليه السلام لبعض الموتى ، وفيه شاهد عل إنتفاع الإنسان من حاسة البصر للتدبر في المعجزات ، وهو لا يمنع من لحوق حاسة السمع بها ، فمن فقد البصر يسمع الآخرين ، ويستحضر الصورة في التصور الذهني ، وفي الفلسفة قيل : من فقد حساً فقد علماً ، وقد يعوضه الله عز وجل على الحاسة المفقودة .
وقد جاء في ذم الشياطين ، وتسخير الكفار السمع لشياطين الإنس والجن ، قوله تعالى [هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ] ( )وجاء بعدها قوله تعالى [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ] ( ) إنما يتبعونهم بما يسمعون منهم ، ليكون السمع آلة مشتركة للإستماع للحق والتنزيل أو المباح أو الإستماع للغيبة والإفتراء .
فجاءت آية البحث بالتذكير بالموت بقوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] للترغيب بسماع التنزيل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتنزه عن سماع الباطل .
الثانية : كثرة الأعصاب البصرية بالنسبة لغيرها ، ووظيفة البصر في حياة الإنسان أكثر من السمع ، وحتى في تركيب وهيئة الإنسان فان 70% من المعلومات الحسية تصل إلى الإنسان من طريق الجهاز العصبي البصري ، بينما تصل نحو 13% عن طريق الجهاز السمعي ، وأكثر الأعصاب الحسية في البدن هي أعصاب بصرية .
الثالثة : بالبصر جمال الوجه ، وفيه تكون الفراسة من غير انتظار سماع كلام الطرف الآخر.
الرابعة : آية بتقديم البصر كما في قوله تعالى [مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ]( )، وكما في قوله تعالى [وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا]( )، وقال تعالى في آدم وندم الكفار [أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ]( ).
الخامسة : جاءت التقنية الحديثة والشبكة العنكبوتية بعلوم حديثة على نحو دفعي فهل يكون فيها السمع أم البصر هو الأنفع ، المختار أن البصر هو الأكثر نفعاً لأنه ينفع بذاته ، وباختيار المناسب من المنظور والمسموع من شاشة الكومبيوتر أو الهاتف لتكون العلوم الحديثة كاشفاً لأسرار في خلق الإنسان ، وتتضمن إجابة على مسائل خلافية.
السادسة : وفي المثل (ليس المخبر كالمعاين) فالبصر نعمة حاضرة ، وأكمل في القريب ، أما السمع فهو أشمل وأعم وهناك موضوع أهم من التباين والتفاضل بين السمع والبصر وهو المدارك المشتركة للسمع والبصر ، والوظيفة الجامعة لهما والعلوم المستحصلة من التداخل والترابط بين حاسة السمع والبصر للإرتقاء في المعرفة الإلهية ، كما أن فقدهما يحجب العلم عن الإنسان مما يدل على التباين الرتبي بينهما وبين الحواس الأخرى وهي الذوق والشم واللمس .
ويشترك السمع والبصر في جلب المنفعة ودفع المفسدة ، وفي تحصيل المعارف فلابد للعقل من التلقي من الحواس .
وإذ كانت معجزات الأنبياء حسية تعتمد على العين الباصرة ثم الخبر والنقل ، فقد جاءت معجزة النبي معجزة بصرية سمعية عقلية ، إن النقاش في التفاضل بين السمع والبصر لابد أن يكون على أقسام :
الأول : النفع من الحواس .
الثاني : حاجة الإنسان لحاسة السمع والبصر ، فحتى لو قلت بأن النفع من حاسة السمع هو الأكثر فان الإنسان يحتاج البصر في واقعه اليومي أكثر.
وقد تقدم الكلام منا أنه لو خير الأصم بين بقائه أصماً أو يبدل الصم بالعمى ، لاختار البقاء ، ولو خيرّ الأعمى بين بقائه أعمى أو ابدال عماه بالصم لإختار الثاني ، ومن التقصير في الشكر لله الإنشغال بالتفاضل بين السمع والبصر ، بدل الشكر لله عز وجل على كل نعمة منهما ، وعلى نعمة إجتماعهما وسلامتهما كل يوم .
وأخبرت آية البحث عن ذوق النفس الموت لبيان تعطيل الحواس كلها بالموت ليتدبر الإنسان في حياته نعمة الحواس.
الآية لطف
من خصائص القرآن أن الآية القرآنية لطف من عند الله عز وجل من جهة ذكر صيغة العموم الشامل للناس جميعاً في حضور الموت عندهم ، ويدل قوله تعالى [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( )، على أن الموت يزور الأنبياء ويقبض أرواحهم ، فصحيح أن الذي يقبض الأرواح هو ملك الموت وباذن من الله عز وجل ، إلا أن الموت هو أمر محسوس , والحد الفاصل بين حياة الإنسان في الدنيا ومغادرته إلى عالم البرزخ ، فكما أن الموت ليس عدمياً فكذا ما بعد الموت فانه عوالم متعددة، ومختلفة والملاك فيها العمل وسنخيته ، قال تعالى [وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ]( ).
وهل من فرق بين حاسة الذوق ، وبين ذوق النفس للموت ، الجواب نعم، إنما ورد الذوق هنا من باب الإستعارة ، وإلا فان حاسة الذوق قد تخطأ وتجد الحلو مراً أو العكس ، وقد يتعذر على الإنسان ذوق بعض الأطعمة ، ولكن الموت ليس فيه خطأ ، ولا يأتي لغير من كتب الله عز وجل عليه الأجل والمغادرة ، وحاسة الذوق عند الإنسان عون له ، وهي نعمة متجددة ، ولا يعلم عدد ما تذوق الإنسان في مجموع حياته إلا الله عز وجل، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
وفي المثل (على النفس الذائقة للموت أن تهتم بأخراها) أي أن الإنسان مادام سيطرأ عليه الموت أن يعتني بآخرته ، ويستعد لها .
ومن فضل الله عز وجل أنه جعل للموت علامات ورسلاً منها الأوجاع والعلل ، والشيب ، ووهن الأعضاء ، والتقدم بالعمر، والحوادث الطارئة التي يكون الموت أو القتل فيها قريباً من الإنسان فيصرفه الله عز وجل عنه، قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ]( )، وهل تسخير الحواس في مرضاة الله سبب لسلامتها وإطالة أعمارها ، وأن توظيفها في الباطل علة لتقصير عمرها ورميها بالآفات والأمراض ، الجواب نعم ، إلا أن يشاء الله .
فصحيح أن كل نفس تذوق الموت ، ولكن الله عز وجل يصرفه المرة تلو الأخرى عن الإنسان ليتعظ ويتوب ويصلح حاله في الدنيا ، ولأمور الآخرة ، والفوز بتمام الأجر في الآخرة ، وهل صرف الموت والقتل عن الإنسان مرات متعددة من الأجر الدنيوي الذي تشير إليه آية البحث بذكرها، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) .
إفاضات الآية
لقد نزلت آية البحث لتهذيب الأخلاق ، وتنقيح عالم السلوك بالتفقه بأمور :
الأول : حقيقة الحياة الدنيا .
الثاني : قانون مغادرة الإنسان وأسرته وأقاربه الحياة الدنيا ، كما غادرها آباؤه .
الثالث : قانون قرب سلطان الموت ، قال تعالى [إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( )، ولم يرد لفظ (نراه) في القرآن إلا في الآية أعلاه.
الرابع : التساوي بين الناس بحلول الموت في ساحتهم .
الخامس : إتخاذ الإقرار بالموت طريقاً للهداية والتنزه عن الظلم والإرهاب.
وعن (عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح.
قالوا : فهل لذلك من علامة يعرف بها.
قال : الإنابة إلى دار الخلود، والتنحي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لُقي الموت”وقد رواه ابن جرير من وجه آخر، عن ابن مسعود متصلا مرفوعًا فقال : حدثني بن سِنان القزاز، حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي، عن يونس، عن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ }( ) قالوا: يا رسول الله، وكيف يُشْرَح صدره.
قال : يدخل الجنة فينفسح”. قالوا: وهل لذلك علامة يا رسول الله؟
قال : “التجافي( ) عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل أن ينزل الموت.
فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة، يشد بعضها بعضا، والله أعلم.) ( ).
وتبعث آية البحث الرقة والرأفة في القلوب ، وتمنع من استحواذ النفس الغضبية والشهوية على الإنسان ، فحينما يستحضر الموت يشعر بضعفه وفنائه ومغادرته الدنيا ، مثلما جعل الله عز وجل حكم القصاص حياة للذين يهم بالقتل والذي يريد قتله ، إذ يخشى الإنسان إن قتل غير أن يقاد به ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ).
وذكر الموت أعم من مسألة القصاص ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل ذكره مكرراً في القرآن ، وفي مناسبات مختلفة من جهة الموضوع ومن جهة الحكم ، ونظم الآيات ،ويأتي الموت في القرآن على نحو العموم والخصوص من جهات:
الأولى : الذكر العام للموت ليشمل كل إنسان ، كما في آية البحث .
الثانية : إخبار الذين آمنوا وعامة الناس بموت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] ( ).
الثالثة : تذكير الذين آمنوا بموتهم ومفارقتهم الدنيا ، قال تعالى [ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ] ( ).
الرابعة : تكرار إنذار الذين كفروا بالموت وسوء العاقبة ، قال تعالى [وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ*ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ]( ).
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان وجعله [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وحينما احتج الملائكة على هذا الجعل بسبب فساد شطر من الناس جاء الجواب بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فخّر الملائكة سجداً إلى الله عز وجل ومن علم الله في المقام قصر أعمار الناس وطول أعمار الملائكة ، وكثرة تعاقب الناس في الأرض ، وتدوين الملائكة لأعمالهم ورؤية شطر منهم يعملون الصالحات .
وتفضل الله بتذكير الناس بالموت على لسان الأنبياء ، والشواهد الوجدانية ، وإبتلاء الإنسان بالمرض أو الآفات العامة بين لحظة وأخرى ، ويستحضر طوعاً أو قهراً ما فعله في الدنيا ، ومن ظلم فيه غيره ، ويتمنى أنه لم يفعله ، ويتفكر في عالم ما بعد الموت ، ثم يصرف الله عز وجل عنه شبح الموت ، ليتعظ ويعمل لغد .
وقد ذكر الشعراء الموت وسكراته ، وكان لذكر المؤمنين له طعم وعذوبه خاصة ففي قصيدة كعب بن زهير التي أنشدها في مدح بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، والتي يقول فيها من البسيط :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول … متيّمٌ عندها لم يجز مكبول
وما سعاد غداة البين إذ برزت … إلا أغنّ غضيض الطّرف مكحول
هيفاء مقبلةً عجزاء مدبرةً … لا يشتكي قصرٌ منها ولا طول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت … كانه سهلٌ بالرّاح معلول
شجّت بذي شمٍ من ماء محنيةٍ … صافٍ بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرّياح القذى عنه وأفرطه … من صوب غاديةٍ بيضٌ يعاليل
ويل أمّها خلّةً لو انها صدقت … بوعدها أو لو ان النّصح مقبول
لكنها خلّةٌ قد سيط من دمها … فجعٌ وولعٌ وإخلافٌ وتبديل
فما تقوم على حالٍ تكون به … كما تلون في أثوابها الغول
كانت مواعيد عرقوبٍ لها مثلاً … وما مواعيدها إلاّ الأباطيل
وما تمسّك بالعهد التي زعمت … إلاّ كما يمسك الماء الغرابيل
أرجو وآملايعجلن في أبدٍ … وما لهنّ إخال الدهر تعجيل
فلا يغرنك ما منّت وما وعدت … ا الأمانيّ والأحلام تضليل
أمست سعاد بأرضٍ ما يبلّغها … إلا العتاق النّجيبات المراسيل
ولا يبلّغها إلا عذافرةٌ … فيها على الأين إرقالٌ وتبغيل
من كل نضّاحة الذّفرى إذا عرقت … عرضتها طامس الأعلام مجهول
ترمى النّجاد بعيني مفردٍ لهيقٍ … إذا توقّدت الحزا والميل
ضخم مقلّدها فعمٌ مفيّدها … في خلقها عن بنات الفحل تفضيل
حرفٌ أخوها أبوها من مهجّنةٍ … وعمّها خالها قوداء شمليل
يمشي القراد عليها ثم يزلقه … منها لبا وأقرابٌ زهاليل
عيرانةٌ قذفت بالنّحض عن عرضٍ … مرفقها عن بنات الزّور مفتول
قنواء في حرّيتها للبصير بها … عتقٌ مبينٌ وفي الحدّين تسهيل
كا ما فات عينيها ومذبحها … من خطمها ومن اللّحيين برطيل
تمرّ مثل عسيب النّخل ذا خصلٍ … في غارزٍ لم تخوّنه الأحاليلتهوى على يسراتٍ وهي لاهيةٌ … ذوابلٌ وقعهنّ الأرض تحليل
سمر العجايات يتركن الحصى زيماً … لم يقهنّ سواد الأكم تنعيل
يوماً يظلّ به الحرباء مرتبئاً … كا ضاحيه في النار مملول
وقال للقوم حاديهم وقد جعلت … بقع الجنادب يركضن الحصى قيلوا
كا أوب ذراعيها وقد عرقت … وقد تلفّع بالقور العساقيل
أوب يدي فاقدٍ شمطاء معولةٍ … قامت فجاوبها نكدٌ مثاكيل
نوّاحةٌ رخوة الضّبعين ليس لها … لما نعى بكرها الناعون معقول
تفرى اللّبا بكفّيها ومدرعها … مشققٌ عن تراقيها رعابيل
تسعى الوشاة بجنبيها وقولهم … انك يأبن أبي سلمى لمقتول
وقال كلّ صديقٍ كنت آمله … لا ألهينّك اني عنك مشغول
فقلت خلّوا طريقي لا أبا لكم … فكلّ ما قدّر الرحمن مفعول
كلّ ابن انثى وإن طالت سلامته … يوماً على آلةٍ حدباء محمول) ( ).
الآية بشارة
لقد إبتدأت آية البحث بذكر الموت ، وحلوله بساحة كل إنسان ، فليس من مفر منه ، وصحيح أن الإنسان يكره الموت إلا أنه نوع طريق للأمن الدائم لأهل التقوى ، قال تعالى بصيغة الوعد والبشارة [فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : النهي عن تمني الموت، وهذا النهي من الإعجاز في تأديب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ، إذ ورد عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يتمنين أحدكم الموت لضُرٍّ نزل به، فإن كان لا بدّ متمنيا الموت فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي( ).
فما دام الموت قضاءّ من رب العالمين وأن الله عز وجل أعد الدار الآخرة للأجر والثواب فان الذي اكتنز الصالحات لايستوحش من طريق الهدى ، ولا يفزعه الموت إذ أنه يدرك الإنتقال إلى دار رحمة الله عز وجل.
وتأتي البشارة في آية البحث من جهات :
الأولى : طرو الموت بمعنى الذوق ، ليكون ذا حلاوة وسكينة على المؤمن فمن خصائص حاسة الذوق الإحساس بالراحة عند المذاق الحلو والعذب ، وإنبعاث الضيق في النفس عند ذوق ما هو مرّ وضار ، ليقبض ملك الموت روح المؤمن بلطف ، وتصطف ملائكة الرحمة مبشرين له بحسن الإياب إلى الدار اللآخرة.
أما الكافر فان ملك الموت يقبض روحه بشدة ويأتيه بهيئة مخيفة ومرعبة وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن المؤمن إذا قُبض، أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء.
فيقولون: اخرجي إلى روح الله.
فتخرج كأطيب ريح مسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا يشمونه حتى يأتوا به باب السماء، فيقولون ما هذا الريح الطيبة التي جاءت من قِبل الأرض؟ ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك، حتى يأتوا به أرواح المؤمنين، فَلهُم أشدّ فرحًا به من أهل الغائب بغائبهم .
فيقولون: ما فعل فلان؟
فيقولون: دعوه حتى يستريح، فإنه كان في غمّ! فيقول: قد مات، أما أتاكم؟
فيقولون: ذُهب به إلى أمه الهاوية.
وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسْح فيقولون: اخرجي إلى غضب الله، فتخرج كأنتن ريح جيفة، فَيُذْهَب به إلى باب الأرض ( ).
الثانية : تذكير آية البحث بيوم القيامة ، وذكره بالاسم وأنه يوم إيفاء الأجور ، فمن سعادة الإنسان أن يستوفي أجره ، ويحقق ما يتمناه من هذا الأجر ، فتراه يعمل ويفكر إذ قبض أجره ماذا يفعل به يوحفظ للأمر ، فجاءت آية البحث للإخبار عن قبض أجور الصالحات كاملة يوم القيامة ، وهل يفكر ماذا يفعل الجواب ليس من فعل يوم القيامة بل ذات الأجور نعمة غير متناهية ، وفيض مبارك من عند الله عز وجل ، قال تعالى [كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ]( ).
ومن خصائص التذكير ليوم القيامة أنه يحمل قانون تضاد المعنى بلحاظ التباين الجهتي ، فهو بشارة للمؤمن ، وإنذار للكافر .
الثالثة : بشارة استيفاء الأجور كاملة ، وتحتمل هذه الأجور وجوهاً :
الأول : ما يستحق المؤمن من الأجر في عباداته ومعاملاته.
الثاني : الأجر المضاعف من عند الله (عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أدلك عن كنز من كنوز الجنة قلت : بلى يا رسول الله .
قال : لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة .
قلت : فالصلاة يا رسول الله؟
قال : خير موضوع ، فمن شاء أقل ومن شاء أكثر .
قلت : فالصوم يا رسول الله؟
قال : قرض مجزىء .
قلت : فالصدقة يا رسول الله؟
قال : أضعاف مضاعفة وعند الله مزيد .
قلت : فأيها أفضل؟
قال : جهد من مقل وسر إلى فقير) ( ) .
الثالث : الأجر الموعود من عند الله عز وجل .
الرابع : النماء المتصل في الأجر على العمل الصالح في حياة الإنسان وبعد مماته.
الخامس : الزيادة على الأجر من فضل الله .
والصحيح هو الثاني والثالث والرابع والخامس .
وتأتي الأجور لأهل الإيمان فضلاً من عند الله عز وجل ، ليفرح المؤمن في الآخرة فرحة تعادل فرح أهل الدنيا كلهم.
ومن أعظم البشارات البشارة التي تذكرها آية البحث وهي الزحزحة عن النار ، ويراود هذا الأمل كل إنسان ، والذي يجتهد في العبادة وسنن التقوى وهو يخشى ألا ينال مرتبة الزحزحة عن الناس ، وفي التنزيل [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]( )، وهل في قوله تعالى [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ) بشارة ، الجواب نعم ، وفيها مواساة للمومنين ومانع من الظلم والتعدي ، وزاجر عن الإرهاب ، ودعوة للصبر على الأذى ، وعدم إكراه الناس في عالم الأفعال ومسالك الهدى ، وفي التنزيل [وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ]( ).
الآية إنذار
من خصائص القرآن تضمنه لأمور :
الأول : قانون إتحاد اللفظ وتعدد المعنى .
الثاني : قانون إتحاد اللفظ وتعدد المقاصد والغايات .
الثالث : قانون وحدة الخبر وكثرة دلالاته .
فقد إبتدأت آية البحث بقوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، وهي جملة خبرية تتغشى أجيال الناس المتعاقبة ، من جهات :
الأولى : الأمم الماضية وقد حل بهم الموت.
الثانية : الجيل الحاضر زمن كتابة هذه الحروف ، أو زمان قراءتها ، فيدرك أهل الزمان أن الموت سيأتي عليهم ، ولا يعلم أحدهم أنه سابق لقريبه أو لاحق له ، لذا يستحب استحباباً مؤكداً كتابة الوصية ، وقد تكون كتابتها والإيصاء بها واجباً وفي رسالتي العملية (الحجة) الجزء الرابع وفي باب الوصية ذكرت مسائل :
(مسألة 1) الوصية على قسمين:
الأولى: تمليكية وهي ان يوصي الإنسان بشيء من ماله ليكون بعد وفاته لشخص او جهة او عنوان عام.
الثانية: الوصية العهدية: وهي الوصية بشيء يتعلق ببدنه او ماله كالوصية بانتفاع شخص من داره، او تسليط على حق خاص كحق القيمومة على صغاره او فك ملك كأن يوصي بعتق مملوكه، او الوصية بما يتعلق بتجهيزه عند موته.
(مسألة 2) تنقسم الوصية الى الأحكام الخمسة :
الأول : فالواجبة هي الوصية بتفريغ الذمة من الواجبات.
الثاني: الوصية المندوبة ومنها الوصية بالقربات والميراث.
الثالث : والمباحة كالوصية بالمباح بان يصير ابنه مهندساً مثلاً.
الرابع : المكروهة كالوصية بما فيه تفضيل لبعض الورثة على البعض الآخر بدون مرجح شرعي.
الخامس : الوصية بالمحرم مثل قطع الرحم( ).
الآية رحمة
لقد أراد الله عز وجل أن يرحم آدم وحواء وذريتهما فانزل الكتب والصحف من السماء ، وصاحب الوحي الأنبياء فالذي لم يكن في زمانه أو بلدته نبي فان أحكام الوحي تبلغه وتصله ولو على نحو الموجبة الجزئية وبما يدل على وجوب عبادة الله عز وجل [وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ]( ).
وقد نال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اسمى الدرجات في هذا الأمر إذ كانت كل آية من القرآن رحمة متعددة من وجوه :
الأول : تعدد مضامين وموضوع وأحكام الآية القرآنية.
الثاني : مجئ صدر الآية القرآنية في شئ ، ووسطها في شئ ، وآخرها في شئ آخر .
الثالث : ترشح المعاني العقائدية والكلامية والأحكام من الصلة بين أول ووسط وآخر الآية ، وقد أسست باباً في تفسير كل آية قرآنية اسمه : الصلة بين أول وآخر الآية ، لتتجلى منه علوم متعددة( ).
ومن معاني الرحمة بالتنزيل صيرورة كل نبي أرحم الناس بالناس ليقتدي به الأنصار والأتباع ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومنه قيام الأنبياء بالدعوة إلى المعاد والتجهز لعالم الحساب ، والتسليم به من أصول الدين ، وتوارثه الناس من أيام أبينا آدم عليه السلام .
وهل يستقرأ هذا الأصل من قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، وحده، الجواب نعم كما يستقرأ من غيره لأن الآية جعلت الموت أمراً وجودياً ، إذ تتذوقه النفس كما أخبرت ذات الآية عن عالم الجزاء في الآخرة ويكون قبض الروح حلواً للمؤمن ، ومرأ للكافر .
وهل هذه الحلاوة والمرورة من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
الجواب هو الثاني ، فكلما إزداد إيمان الإنسان وإجتهد في فعل الصالحات ، كان قبض روحه أخف وأيسر بخلاف الكافر فكلما أصر على إرتكاب المعاصي وتمادى فيها زادت قسوة ملك الموت عليه في قبض روحه، لذا ذكر الله عز وجل التوكيل لملك الموت ، وتصرفه بمقدار بقوله تعالى [قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ]( ).
ولم يرد في القرآن اسم عزرائيل ، وقيل لم يرد هذا الاسم في حديث نبوي صحيح.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث بقانون يشمل أهل الأرض كلهم ، فكما أن الإنسان خلق من العدم ، ويخرج إلى الدنيا بالنكاح والوطئ بين الزوجين ، فانه يعود ويغادرها ولكن ليس الى العدم إنما إلى عالم آخر أعظم .
وعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام في حديث : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وجاءت التعزية جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كل نفس ذائقة الموت، وإنما توفون اجوركم يوم القيامة إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل ما فات ، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قال علي بن أبي طالب، هل تدرون من هذا ، هذا الخضر عليه السلام( ).
ليمتاز المسلمون من بين الناس بقانون الحضور اليومي للموت في منتديات المسلمين ، والحضور الذهني لكل واحد منهم بتلاوة آيات القرآن التي تذكر بالموت ، والقطع بحلوله في ساحة كل إنسان ، وهل يؤثر هذا الحضور على عالم الفعل والأخلاق الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ثم انتقلت آية البحث إلى الإخبار عن استيفاء المؤمنين أجورهم يوم القيامة كاملة من غير أن يلحق أحدهم غبن أو حيف ، وفي التنزيل [وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ]( ) .
وفيه بعث للسعي وإدخار الصالحات ليوم القيامة ، فقد يتردد الإنسان بالإنفاق في سبيل الله ، ويتوانى في دفع الزكاة أو الخمس فتأتي آية البحث لتبعثه على التبادر ، إذ يدرك أن الدنيا زائلة ، وأنه محتاج للزاد في الآخرة ، وفي التنزيل [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
ومن خصائص آية البحث أن مضامينها من علم الغيب كما سيأتي بيانه.
وتبين آية البحث أن هناك أجوراً على عالم القول والفعل ، وأن الله عز وجل لا ينسى شيئاً إنما تكون الأعمال حاضرة عنده في كل زمان ، وهو سبحانه يعلم بها قبل وقوعها ، ليكون من معاني آية البحث البشارة بتوفيق المسلمين إلى عمل الصالحات.
ومثلما عطفت آية البحث بالواو إيفاء الأجور على مداهمة الموت للإنسان فانها عطفت بالفاء الزحزحة عن النار على الأجور ، ولكن هذا العطف لا يعني الملازمة بين الأجور والزحزحة إنما هو على نحو الإتمام وبلحاظ ذات الأجور كماً وكيفاً ورجحان كفة الحسنات ، لذا وردت الآية بصيغة الجملة الشرطية فمن زحزح ، وفيه دعوة للمسلمين للتفقه في الدين، ومعرفة الوسائل والسبل التي يتزحزح ويدفع معها الإنسان عن النار.
ومن الإعجاز في آية البحث ورود الفعل (زُحزح) بصيغة المبني للمجهول لبيان عجز الإنسان عن الهروب عن النار أو الزحزحة منها إنما تكون الزحزحة عنها بمشيئة الله عز وجل ، وكما أن الموت لا يفلت منه أحد ، فكذا بالنسبة لموضوع النجاة من النار فلا تكون إلا بالأجور على الصالحات ، وليس من محل يختبأ فيه الإنسان يومئذ ، إذ أن مواطن الحساب يوم القيامة مكشوفة وذكرت الآية إيفاء الأجور يوم القيامة لحاجة الإنسان لها ، فليس من سهو أو محو لبعضها ، ولا يأتي بعد ساعة الحساب أمر بأن الحسنة الفلانية لشخص لم تذكر في الحساب وأن إضافتها سبب لرجحان كفة الحسنات أو العكس إن تكون مسيئة لم تذكر ساعة الحساب ، إنما تحضر أعمال الإنسان كلها في ساعة واحدة ، قال تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
وبينت آية البحث حاجة الإنسان يوم القيامة إلى أمرين بينهما نوع ملازمة ، وهما :
الأول : الزحزحة من النار .
الثاني : دخول الجنة.
لبيان قانون وهو يجب على الإنسان أن يجتنب السيئات التي تؤدي إلى العذاب ، وأن يجتهد في فعل الصالحات التي تدخله الجنة ، قال تعالى [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا]( ).
وذكرت آية البحث الفوز بمرتبة الفوز ، ويحتمل تحققه وجوهاً :
الأول : استيفاء الأجور .
الثاني : الزحزحة عن النار.
الثالث : دخول الجنة.
وكل فرد منها فوز ونجاة وخاتمة وتحقق تمام الفوز بدخول الجنة ، فيجب أن لا يكون عمل الإنسان بما يجعله في برزخ بين النار والجنة ، إنما يعمل لينجو من شدة لهيب النار ، ويدخل الجنة .
و(عن أبي أيوب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أول من يختصم يوم القيامة الرجل وامرأته .
والله ما يتكلم لسانها ولكن يداها ورجلاها ، يشهدان عليها بما كانت لزوجها ، وتشهد يداه ورجلاه بما كان يوليها . ثم يدعى الرجل وخادمه بمثل ذلك ، ثم يدعى أهل الأسواق وما يوجد ، ثم دوانق ولا قراريط ولكن حسنات هذا تدفع إلى هذا الذي ظلم ، وسيئآت هذا الذي ظلمه توضع عليه ، ثم يؤتى بالجبارين في مقامع من حديد فيقال : أوردوهم إلى النار .
فوالله ما أدري يدخلونها أو كما قال الله [وإن منكم إلا واردها])( )( ).
وأختتمت آية البحث بالرجوع إلى عالم الدنيا ، وما قبل الموت ، وهو من إعجاز آية البحث بأن تتعلق نهاية الآية ببداية الموضوع وبما يقرب الإنسان من الفوز بالجنة.
فصحيح أن خاتمة الآية تتعلق بالحياة الدنيا إلا أنها تتضمن الهداية إلى الفوز بدخول الجنة ، بقوله تعالى [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ).
ويدل هذا الوصف على أن الدنيا كالمُدلّس في تجارته وبضاعته الذي يظهر ما هو حسن منها ، ويخفي المعيب ليغر ويغش الناس ، ويرغبهم بالشراء وكذا الدنيا فانها تبين للإنسان زينتها لينشغل بها وينقاد إلى مباهجها، ولم تظهر له حقيقة وهي أنها دار زوال وفناء ، وأنها طريق عبور إلى الآخرة ، ومفازة يحتاج معها التزود بالزاد للآخرة ، فتكون آية البحث فضلاً من الله عز وجل على كل إنسان ، وكاشفاً عن حقيقة الدنيا ، ومانعاً من الغشاوة التي تجعلها المنافع الدنيوية على البصائر ، وواقية من الإنقلاب من الدنيا بالحسرة والندامة ، وتدعو الآية إلى نبذ الظلم والتعدي ، وتزجر عن الإرهاب والإضرار بالناس.
وهل من صلة بين حلول الموت وبين معنى وصف الدنيا يمتاع الغرور الجواب نعم ، إذ أن الآية تخدع الناس ، وتبعثهم على البطالة والغفلة حتى يفنى العمر ويأتي ملك الموت الذي ليس عنده تفويض بإرجاء وقبض روح العبد.
ولو علم ملك الموت أن هذا العبد لو قبض روحه دخل النار ، ولكن لو أمهله شهراً مثلاً لعمل صالحاً يدخله الجنة فهل لملك الموت تأخير موته ، الجواب لا ، قال تعالى [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ) ، وجاءت آية البحث للتدارك قبل حلول الأجل .
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان عظيم قدرة الله عز وجل يقبض أرواح الناس كلهم متى يشاء وكيف يشاء .
الثانية : رأفة الله عز وجل بالناس في خلقهم وإرجاء الموت عنهم إلى حين الآجل .
الثالثة : قانون التساوي بين الناس في خاتمة حياتهم بالموت.
الرابعة : اللطف الإلهي بذكر الموت بأنه على نحو الذوق ، وهو من مصاديق قانون الحياة الدنيا دار الغبطة والسعادة.
الخامسة : قانون الموت خاتمة حياة كل انسان في الحياة الدنيا.
السادسة : قانون استيفاء أجور عمل الصالحات يوم القيامة .
السابعة : البشارة بالثواب العظيم يوم القيامة.
ومن معاني صيغة الجمع (أجوركم) شمول الفرد من عمل الجماعة وانتفاع الجماعة من فعل الفرد الواحد منهم.
وعن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا( ).
الثامنة : قانون الحاجة الخاصة والعامة للأجر يوم القيامة .
التاسعة : بعث المسلمين على أداء الفرائض وعمل الصالحات .
العاشرة : تذكير الناس بعالم الحساب ويوم القيامة.
الحادية عشرة : يمكن تسمية آية البحث آية الأمل ، إذ أنها تخبر عن قانون الزحزحة عن النار .
الثانية عشرة : تضمن آية البحث لقانون البشارة بدخول الجنة ، وفيه بعث للسعي إليها .
الثالثة عشرة : قانون كشف حقيقة الدنيا وسرعة إنقضاء أيام الإنسان فيها.
الرابعة عشرة : قانون المبادرة لإكتناز الصالحات ، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
الموت لغة وإصطلاحاً
يقال مات يموت موتاً على وزن قال يقول قولاً ، والمفرد ميت .
والجمع : ميتون وأموات ، وموتى .
أما الممات فهو مصدر ميمي بمعنى حلول الموت ، قال تعالى [إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا] ( ) والميت ضد الحي .
والموت في الإصطلاح هو مفارقة الروح للجسد وصيرورته جثة هامدة .
وقال الغزالي (ومعنى مفارقتها للجسد انقطاع تصرفها عن الجسد بخروج الجسد عن طاعتها) ( ).
وإضافة الخروج للجسد عن طاعة الروح غير تامة ، فهو ليس له فعل او شأن في الموت ، بل الموت يلحقه أيضاً ، فهو خروج قهري للروح من الجسد، وتعطيل تام للجسد ، إذ يتوقف عن العمل والوظائف اليومية الظاهرة والباطنة .
ولا يتعارض تعريف الطب للموت بخصوص توقف أعضاء البدن عن الحركة مع التعريف في الإصطلاح العقائدي بمغادرة الروح للجسد ، وبينهما عموم وخصوص مطلق ، وتتصف اللغة العربية بكثرة المجاز والمنقول للحفظ الذي وضع في الأصل لموضوع مخصوص ، ولكنها تقف عند الموت بندرة المجاز المأخوذ منه ، وهل هو من هيبة الموت في النفوس ، الجواب نعم .
ويطلق الموت على السكون الدائم بعد الحركة (وكل ما سكن فقد مات حتى يقال مات الحر ومات البرد وماتت الريح) ( ) .
ويمكن القول بأن تعريف الموت يكون على وجوه :
الأول : المعنى اللغوي .
الثاني : تعريف الموت في الإصطلاح .
الثالث : معنى الموت في الطب .
الرابع : معنى الموت عقائدياً ، بلحاظ أنه انتقال بالإنسان جسداً وروحاً من عالم إلى آخر .
وتدل آية البحث على مسألة في المعنى الإصطلاحي للموت ، وهي أنه انتقال من عالم إلى عالم آخر ، وأن الإنسان بعد الموت يقف للحساب ، ويأتيه الجزاء ، والموتان : الموت الأرض التي لم تحي بالزراعة .
و(موت) الميم والواو والتاء أصلٌ صحيح يدلُّ على ذَهاب القُوّة من الشيء. منه المَوْتُ: خلاف الحياة. وإنما قلنا أصلُه ذَهاب القُوّة) ( ).
وللموت أسماء متعددة منها :
الأول : المنون .
الثاني : المنية .
الثالث : السام .
الرابع :الحِمام .
الخامس : قتيم : من أسماء الموت( ) .
السادس : الردى .
السابع : الحين .
الثامن : الثكل .
التاسع : الشَّعوب بالفتح (شعبت به الشَّعوب؛ أي ذهبت به المنية، سمعت امرأة مِنّا دعت على رجل، فقالت: رماك اللّه بمهدئ الحركة) ( ).
العاشر : الوفاة .
الحادي عشر : الهلاك ، قال تعالى [يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
وجاءت آية البحث بامس (الموت) للبيان والإنذار ، ومنع تعدد التأويل.
التفسير
قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]
النسبة بين آية البحث ، وبين قوله تعالى [كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ] ( ) العموم والخصوص المطلق ، إذ ان آية البحث أعم، فلا ينحصر موضوعها بالبشر والحياة الدنيا ، فلابد أن يموت المخلوق لأن الحياة الدائمة من الصفات التي يختص بها الله عز وجل ،وفي التنزيل [وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ] ( ) ، أخرج ابن المنذر عن ابن جريج ، قال : لما نزلت { كل من عليها فان}( )، قالت الملائكة : هلك أهل الأرض ، فلما نزلت { كل نفس ذائقة الموت } قالت الملائكة : هلك كل نفس ، فلما نزلت { كل شيء هالك إلا وجهه } قالت الملائكة : هلك أهل السماء وأهل الأرض( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : لماذا وردت الآية بصيغة النفس .
الثانية : لماذا ورد لفظ [ذَائِقَةُ].
أما المسألة الأولى فلبيان أن الموت يأتي على الإنسان روحاً وبدناً ، ويجعله جثة هامدة .
وأما المسألة الثانية فلبيان إحساس الإنسان عند الموت بالكرب ومرارة مفارقة الروح البدن ، ومغادرتهما معاً الحياة الدنيا ، وإدراك الإنسان في تلك الساعة طوعاً أو قهراً بأنه صائر إلى عالم الحساب والخلود .
ومن معاني الآية قانون عدم الشماتة بأحد عند موته لأنه طريق كل إنسان ، وهل تقريب أجل الإنسان ومفارقته الدنيا قبل الأوان أمر مستثنى من القانون أعلاه .
الجواب لا ، ليكون من معاني تقدير الآية : كل نفس ذائقة الموت وعرضة له في أي وقت ، فما أن يخلق الله الإنسان حتى يكون قريباً منه،ويستمر هذا القرب في كل ساعة من ساعات حياته إلى أن يقبض ملك الموت روحه .
وعن (زيد بن ثابت ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو رأيتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره ، وما من أهل بيت إلا وملك الموت يتعاهدهم في كل يوم مرة ، فمن وجده قد انقضى أجله قبض روحه ، فإذا بكى أهله وجزعوا قال : لم تبكون ولم تجزعون ؟
فوالله ما نقصت لكم عمرا ولا حبست لكم رزقا ، ومالي من ذنب ، ولي إليكم عودة ثم عودة) ( ).
صحيح أن الآية جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن معنى الإنشاء الذي يفيد البشارة والإنذار ، ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الرسول إنك ميت ، وقد ورد قوله تعالى [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ]( ).
الثاني : يا أيها الذين آمنوا انكم ميتون.
الثالث : يا أيها الناس انكم ميتون .
الرابع : يا أيها الناس إنكم تجتمعون عند الله سبحانه.
الخامس : ما بعد الموت هو الحساب ، قال تعالى [ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ]( )، وعن أبي أيوب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أول من يختصم يوم القيامة الرجل وامرأته . والله ما يتكلم لسانها ولكن يداها ورجلاها ، يشهدان عليها بما كانت لزوجها ، وتشهد يداه ورجلاه بما كان يوليها.
ثم يدعى الرجل وخادمه بمثل ذلك.
ثم يدعى أهل الأسواق وما يوجد ، ثم دوانق ولا قراريط ولكن حسنات هذا تدفع إلى هذا الذي ظلم ، وسيئآت هذا الذي ظلمه توضع عليه.
ثم يؤتى بالجبارين في مقامع من حديد فيقال : أوردوهم إلى النار . فوالله ما أدري يدخلونها أو كما قال الله { وإن منكم إلا واردها}( )( ).
السادس : كل إنسان يموت ويبعث يوم القيامة سواء الذين يؤمنون بالبعث أو الذين ينكرونه ، و(عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما نزلت هذه الآية { إنك ميت وإنهم ميتون}( ).
قلت : يا رب أيموت الخلائق كلهم وتبقى الأنبياء ، نزلت {كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون}( ))( ).
السابع : يا أيها الذين آمنوا ان رسول الله لابد وأن يموت فاثبتوا على الإيمان ولا ترتدوا عن دينكم ، قال تعالى [وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
الثامن : يا أيها الذين كفروا لا تشمتوا بالمؤمنين إذا مات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان الرسل الذين قبله قد ماتوا ، وهو أيضاً يموت، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
التاسع : يا أيها الذين آمنوا تزودوا بالعلوم ، وانتفعوا من وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيكم فسألوه عن إحكام الشريعة.
لقد جاءت الآية بصيغة العموم في نزول الموت بكل إنسان وانفصال روحه عن جسده وجاءت آيات القرآن والسنة النبوية بالهداية إلى الوقاية من ميتة السوء.
وعن عمرو بن عوف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن صدقة المسلم تزيد في العمر ، وتمنع ميتة السوء ، ويذهب الله بها الكبر والفخر.
وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن أبي ذر قال : ما خرجت صدقة حتى يفك عنها لحيا سبعين شيطاناً كلهم ينهى عنها .
وأخرج ابن المبارك في البر والأصبهاني في الترغيب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله ليدرأ بالصدقة سبعين ميتة من السوء ( ).
ويدل قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، على أن الموت أمر وجودي يحس به ويذاق ، فهو ليس أمراً عدمياً ، قال تعالى [خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ]( )، وقال تعالى [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ]( ).
وتدل الآية أعلاه على بعث الإنسان بعد الموت ورجوع روحه الى بدنه، وحيازته لقواه الفكرية ، واستحضاره لأفعاله في الدنيا ، وإقراره بقبحها وأنها مجلبة للضرر.
وقول [ارْجِعُونِ] ( ) عند إعادة الروح للجسد في القبر وأخرج ابن جرير وابنأبي حاتم عن ابن زيد في قوله {قال رب ارجعون} قال : هذا حين يعاين قبل أن يذوق الموت( ).
وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا حضر الإنسان الوفاة يجمع له كل شيء يمنعه عن الحق ، فيحول بين عينيه ، فعند ذلك يقول رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ.
وجمهور المفسرين بان الواو في [رَبِّ ارْجِعُونِ] لتعظيم المخاطب ، وهو لا يمنع من معنى سؤال الميت لله عز وجل بأن يأذن للملائكة برده لأنه رآهم في حال الموت.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن المؤمن إذا قُبض، أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي إلى روح الله. فتخرج كأطيب ريح مسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا يشمونه حتى يأتوا به باب السماء، فيقولون ما هذا الريح الطيبة التي جاءت من قِبل الأرض.
ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك، حتى يأتوا به أرواح المؤمنين، فَلهُم أشدّ فرحًا به من أهل الغائب بغائبهم.
فيقولون : ما فعل فلان؟ فيقولون: دعوه حتى يستريح، فإنه كان في غمّ.
فيقول : قد مات ، أما أتاكم.
فيقولون : ذُهب به إلى أمه الهاوية. وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسْح فيقولون: اخرجي إلى غضب الله، فتخرج كأنتن ريح جيفة، فَيُذْهَب به إلى باب الأرض( ).
ومن معانيه أن الإنسان رآى الملائكة كيف يشهدون عليه وأدرك أنهم كانوا حاضرين مصاحبين له ، قال تعالى [عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ]( )، فسأل الله عز وجل أن يرجع ويحضر الملائكة معه ليروا كيف يعمل الصالحات ، ويؤدي الفرائض العبادية، ويتجنب فعل السيئات.
وعن الإمام جعفر الصادق عن أبيه (عن علي بن أبي طالب عليه السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ مقعد ملكيك على ثنيتيك، ولسانك قلمهما، وريقك مدادهما، وأنت تجري أظنّه قال : فيما لا يعنيك لا تستحي من الله، ولا منهما)( ) .
لقد كان الإنسان وهو في الدنيا يظن بأنه وحيد يفعل ما يريد بالسر والخفاء ، وحتى على إقراره بأن الله عز وجل يراه فانه لم يحسب أن ملائكة ملازمين له يتناوبون في الليل والنهار يكتبون كل ما يفعل.
وعن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ، فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها ، وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال صاحب اليمين أمسك فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات ، فإن استغفر الله منها لم يكتب عليه شيئاً ، وإن لم يستغفر الله كتب عليه سيئة واحدة( ).
علم المناسبة
ورد لفظ [ذَائِقَةُ] ثلاث مرات في القرآن ، إذ ورد في آية البحث ، وآيتين آخريين وهما :
الأولى : قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] ( ) .
الثانية : قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] ( ).
ومن إعجاز نظم القرآن مجئ هذه الجملة في بداية كل واحدة من هذه الآيات الثلاث .
وإذ تضمنت آية البحث الحث على العمل الصالح ، والترغيب بالثواب والأجر عليه ، فقد وردت الآية أعلاه من سورة الأنبياء للإخبار عن قانون وهو أن الموت عاقبة لعالم الأفعال ، وأن الإنسان يبتلى بتقريب أمور الخير والصلاح ، وباعتراض ضروب من الإبتلاء ، ليكون إختباراً له ، ومناسبة لإختياره ، قال تعالى [أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى] ( ).
وإذ أختتمت آية البحث بالإخبار عن قانون وهو أن الحياة الدنيا دار الغرور فان الآية أعلاه أختتمت بقوله تعالى [إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ]لبيان مسألة وهي صحيح أن الحياة الدنيا دار الغرور ، وأن الموت هو خاتمة حياة الإنسان فيها ، إلا أنها ليست خاتمة المطاف ، فلابد من رجوع الناس إلى الله عز وجل ، وهذا الرجوع ليس اختياراً إذ أنه أمر قهري وحتمي ، وظاهر الآية أنها خطاب للناس جميعاً لتتضمن البشارة والإنذار ، وهذه الآية بيان وتفصيل لما ورد في سورة العنكبوت بقوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] ( ) إذ ابتدأت الآية بصيغة الجملة الخبرية والقانون ثم انتقلت إلى لغة الخطاب .
وبلحاظ نظم الآيات تكون هذه الآية خطاباً للمؤمنين ، فالآية السابقة لها هي [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
وجاءت آيات كثيرة بذوق الذين كفروا العذاب ، فهذا الذوق لا ينقطع بالموت .
أما متاع الغرور فهو الزائل والزائل والخادع كالسراب والباطل ، والذي يتنافى مع علة خلق الإنسان .
ولا يعني هذا تحريم جميع الأموال والإنشغال بالكسب ، فهو من فضل الله عز وجل على الإنسان ، وما تشريع الزكاة والخكر وأمر الله عز وجل الناس بالصدقة إلا إمارة على إباحة واستحباب هذا الجمع والكسب .
ولم تذكر الآية هذا الجمع وحال الإنسان في الدنيا ، إنما اختصت بوصف ماهية ذات الدنيا ، ليكون المسلمون والمسلمات منها في حذر.
لذا جاء هذا الوصف للدنيا في آية ثم ابتدأت الآية الثانية بالأمر بالتسابق والتنافس في طاعة الله وسنن التقوى ، إذ قال الله سبحانه [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ).
ومن فضل الله عز وجل إخبار آية البحث عن الدنيا بأنها متاع الغرور .
(قال ابن عباس : متاع الغرور مثل القدر والقارورة والسكرجة ونحو ذلك ، لأن ذلك لا يدوم ، وكذلك الدنيا تزول وتفنى ولا تبقى . ويقال : هو مثل الزجاج الذي يسرع إليه الكسر ، ولا يصلحه الجبر . ويقال : كزاد المسافر ، يسرع إليه الفناء فكذلك الدنيا) ( ).
ومن إعجاز آية البحث أن أولها يدعو إلى التدبر والإتعاظ من آخرها،فمجئ الموت على كل إنسان شاهد على أن حقيقة الدنيا متاع زائل لا يدوم ، وكذلك العكس فان اختتام آية البحث بأن الدنيا متاع الغرور شاهد على مغادرة الإنسان لها وعدم بقائه فيها .
منها قوله تعالى [وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ] ( ) وكذا في النار ، قال تعالى [يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ] ( ).
قانون أكثر السؤال عن الساعة
ولا يعلم أحد إلا الله ما هي منافع هذه الآية في إصلاح النفوس ، وفي الإنزجار عن الباطل وفعل السيئات ، لقانون إستحضار الموت زاجر عن الظلم والتعدي ، كما صار الناس يسألون عن يوم القيامة وما فيه من الأهوال سواء عند تلاوة الآيات التي تذكر بالموت وما بعده من علوم الغيب ، أو عند الإنصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتناقل سنته من قبل المسلمين وغيرهم ، لذا تكرر السؤال عن الساعة ويوم القيامة أربع مرات في القرآن :
الأولى والثانية : في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
الثالثة : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا] ( ).
الرابعة : قوله تعالى [يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا] ( ).
ليكون السؤال عن يوم القيامة أكثر الأسئلة في القرآن ، فمن بين خمسة عشر لفظ [يَسْأَلُونَكَ] في القرآن جاءت ثلاثة منها عن يوم القيامة ، ولابد أن هذا السؤال متعدد يتعلق بمواطن القيامة ، وكيفية الحساب والفراغ منه ، وترتب الجزاء .
وفي قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ] ( )قيل في ({ وأبشروا بالجنة }( ) الآية . قيل إن بشرى المؤمن في ثلاثة مواطن : أحدها عند الموت، ثم في القبر ، ثم بعد البعث) ( ).
والمختار أن ذات الدنيا هي دار البشارة بالجنة ، وكذا فان الآية أعلاه من البشارة ، وهل آية البحث وقوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]من هذه البشارة ، الجواب نعم فهي بشارة للمؤمن ودعوة له للثبات على الإيمان ، وإنذار للكافر ، وبعث له للتوبة والإنابة .
وتدل كثرة السؤال عن يوم القيامة وذكره بلفظ الساعة على التسليم بنزولها بغتة ، وتكون دفعة لا يؤذن فيها للناس للتهيئ لها .
ومن أسباب تسمية يوم القيامة الساعة وجوه :
الأول : مجئ النفخ في الصور بغتة في ساعة من نهار .
الثاني : هلاك الناس جميعاً في ساعة واحدة .
الثالث : قرب يوم القيامة .
ومع كثرة أسماء يوم القيامة ، وتصل إلى خمسين اسماً منها :
الأول : يوم القيامة ، قال تعالى [وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا]( ).
الثاني : اليوم الآخر ، فليس من يوم بعده ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
إذ ورد هذا الاسم في القرآن ستاً وعشرين مرة ، كلها تتعلق بالإيمان ، وتندب إليه أو تتضمن اللوم للذين كفروا عن العزوف عن الإيمان بالله ويوم القيامة، ومثلاً ورد في آيتين متتاليتين وباقتران الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله عز وجل ، وتتعلق في موضوع الإنفاق بقصد القربة إلى الله ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا] ( ).
قانون الكبش الأملح
لقد جاءت السنة النبوية ترجماناً للقرآن وتجعل أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مضامين الآية القرآنية حاضرة في الوجود الذهني، وتحبب للمسلمين تلاوة القرآن والتدبر في معاني الآيات عند تلاوته في الصلاة وكثرة الآيات القرآنية التي تذكر الموت كما تقدم ذكر عددها موعظة.
ويتساوي الناس في حلول الموت وإنتقالهم الى عالم الآخرة ، وليس من إنسان إلا وفناؤه بالموت وتدل عليه آية البحث التي تخبر عن كون الموت له مذاق يُكره الإنسان على أخذه وتذوقه لمرة واحدة تكون خاتمة لكل ما تذوقه من حلو ومر في الحياة الدنيا.
وفيه دعوة للتفكر ماذا بعد هذا الكائن الحي الذي لا يرى ، وقد يجهل الإنسان أنه يترصده ليهجم عليه في الوقت المحدد من عند الله عز وجل و(عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو رأيتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره ، وما من أهل بيت إلا وملك الموت يتعاهدهم في كل يوم مرة ، فمن وجده قد انقضى أجله قبض روحه ، فإذا بكى أهله وجزعوا .
قال : لم تبكون ولم تجزعون ؟
فوالله ما نقصت لكم عمرا ولا حبست لكم رزقا ، ومالي من ذنب ، ولي إليكم عودة ثم عودة)( ).
إنما ينتقل الى عالم الخلود الذي يبدأ بعالم البرزخ الذي تكون مدته للناس من الكلي المشكك ولكن طرفه في الخاتمة واحد ، فيبقى المتقدم من أجيال الناس مدة أطول من المتأخر ، لذا تضمن القرآن البشارة لهؤلاء المتقدمين بخصوص حالهم في عالم البرزخ ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
وقد ورد حديث الكبش الأملح عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار .
فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون هذا.
فيشرفون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه ، ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا ، فيشرفون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت وكلهم قد رآه ، فيؤمر به فيذبح ، فيقال : يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت.
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ]( )، وأشار بيده وقال : أهل الدنيا في غفلة ( ).
والكبش الأملح الذي في أعلى صوفه بياض والمراد من الملحة : البياض.
و(عن ابن عباس قال عق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحسن والحسين عليهما السلام بكبشين كبشين كبشين)( ).
أي عن كل واحد منهما ذبح كبشين.
وعن ابن عباس قال : الصخرة التي بمنى بأصل ثبير ، هي التي ذبح عليها إبراهيم عليه السلام فدى ابنه إسحاق ، هبط عليه من ثبير كبش أعين، أقرن ، له ثغاء ، وهو الكبش الذي قربه ابن آدم ، فتقبل منه ، وكان مخزوناً في الجنة حتى فدى به إسحاق عليه السلام( ).
ومن الإعجاز في السنة النبوية أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقدم مقدمة عقائدية لبيان الموضوع الخاص ، فحينما أراد وصف خاتمة ذات الموت إبتدأ بذكر عمله.
فذكر الأذى وحال الضيق التي تلحق الإنسان عند الإحتضار ، وحلول الأجل وأنه باعث للندامة على لهث الإنسان وراء الدنيا مدة أيامه وحياته في الدنيا ، ثم أخبرالنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن وظيفة يومية عامة لملك الموت ، وأنه يستعرض كل يوم أهل الأرض كلهم ، ولكن ليس كأفراد فقط ، إنما كعوائل وأسر ، ومعرفة من حان أو أقترب أجله ، وفي النظر للناس كبيوت وأفراد ارتباطية رحمة من عند الله عز وجل ورفق بالناس من جهات :
الأولى : لا يأتي الموت للأسر والعوائل دفعة إلا أن يشاء الله .
الثانية : إتعاظ أفراد الأسرة من موت أحدهم .
الثالثة : حضور الأحياء عند المحتضر ، وتلقي وصيته ، وقراءة القرآن عنده ، وحضّه على الإستغفار بمغادرة الدنيا برداء التوبة .
الرابعة : تغسيل وتكفين ودفن الميت .
الخامسة : الإستغفار للميت ، وقضاء ديونه مع الإمكان ، قال تعالى [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا..] ( ).
السادسة : صيرورة الأسرة هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والإستعداد للموت.
السابعة : قضاء ما على الميت من العبادات .
الثامنة : تقسيم تركة الميت حسب طبقات الإرث ، لبيان مسألة وهي أن الإنسان في موته ينفع من تركه خلفه ليكون إستغفارالورثة له ، وذكره في أدعيتهم وصلواتهم من عمومات (وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان) ( ).
وإن جاءت التركة قهراً على الميت ، ولكنه إجتهد في جمعها ، وهل يعلم أن في أمواله حقاً معلقاً للورثة .
ويؤتى بالموت بعد إنقضاء عالم الحساب ، وسوق أهل التقوى إلى الجنة، والأخذ بالذين كفروا بالأغلال إلى النار مصفدين بالأغلال إلى أعناقهم ، قال تعالى [وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا]( ) ومع كبر الجنة وسعتها كما في قوله تعالى [وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ..]( )، وسعة النار وطبقاتها العمودية فان الموت يوضع في موضع بحيث يراه كل أهل الجنة والنار من المليارات المتعاقبة من أجيال الناس ، وهذا الوضع وحال الرؤيا العامة في آن واحد ليس من حاجب أو برزخ بين الفريقين وبين الكبش ، كما أنه ليس لواحد منهم الإمتناع عن هذه الرؤية .
ثم يكرم الله عز وجل بالإبتداء بالنداء لهم (يا أهل الجنة) فتشرئب أعناقهم ، ويعلمون أن هناك بلاغاً عظيماً ، فيقول : هل تعرفون هذا يسألهم عن الكبش الأملح ، فيلقي الله عز وجل في روع كل واحد منهم انه الموت .
لقد رأوه حينما قبض ملك الموت أرواحهم بهيئة لطيفة ، ومع هذا فانهم عرفوه بهيئته الأخروية .
ثم ينادي ذات المنادي لأهل النار : يا أهل النار ، لبيان أن العنوان العام في عالم الجزاء على قسمين :
الأول : أهل الجنة .
الثاني : أهل النار .
وأنه ليس من برزخ بينهما ، ومع شدة عذاب أهل النار فأنهم ينجذبون إلى النداء ، لبيان قانون في الآخرة ،وهو القطع بسماع النداء الذي يأتي من بطنان العرش سواء كان هذا النداء عاماً أو خاصاً .
فيتطلعون إلى جهة النداء ، وهل يرجون فيه فرجاً وتخفيفاً ، الجواب نعم ، وفي التنزيل [ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنْ الْعَذَابِ] ( ) فيتطلعون وتصغى آذانهم إلى النداء وما بعده ، فيتوجه لهم السؤال ، هل تعرفون هذا.
وهل فيه إشارة باليد من المنادي كي تتوجه الأبصار إليه ، المختار أنه ليس من إشارة ، ولكن من سنن الآخرة توجه الناس إلى الجهة التي يريد الله عز وجل لهم التوجه إليها ، لأن الآخرة دار جزاء من غير عمل ، ولعمومات قوله تعالى [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ] ( ).
فيعرفون بقدرة الله أن هذا الكبش هو الموت جاء بهذه الهيئة ، فيقولون جميعاً : نعم هذا الموت .
وهل يصدر جواب أهل الجنة دفعة واحدة ، وكذا جواب أهل النار أم أنه متفرق .
المختار هو الأول (فيقولون : نعم هذا الموت) ( ).
وكلهم قد ذاق مرارة الموت ، وصار بالنسبة لأهل التقوى طريقاً إلى السعادة الأبدية ، قال تعالى بخصوص أهل الجنة [لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ] ( ) .
أما الذين كفروا فان الموت مصيبة مركبة نزلت بهم ، وبداية لأهوال الآخرة وشدة العذاب ، قال تعالى [وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ] ( ).
وعندما يراه الفريقان وهم [فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] ( )، ويذبح هذا الكبش ليكون عنواناً لإنقطاع الموت ، ويكون يوم عيد عند أهل الجنة للإطمئنان على خلودهم في النعيم .
ويوم حزن أليم على أهل النار لليأس من العودة إلى الحياة الدنيا ، أو دار إمتحان وإبتلاء جديدة .
فجاءت آية البحث لتثبيت هذا العيد ، ولإنقاذ الناس من اليأس الأخروي.
لقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبر ذبح الموت، وهو من علم الغيب ، وأختتم الحديث بآية قرآنية ، إذ قرأ قوله تعالى [وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ] ( ) لبيان قانون وهو أن أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرآة للقرآن ، وأنها مدرسة في البشارة للمؤمنين وإنذار ودعوة للتوبة للذين كفروا ، ثم بيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم في غفلة مما ينتظرهم من العذاب.
وفيه دعوة للمسلمين للصبر عليهم ، وعدم استعمال القسوة والعنف ، قال تعالى [وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ] ( ).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول (إن الله أذل بني آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت ، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء) ( ).
ومن مصاديق الجزاء في عالم الآخرة إعدام ذات الموت بكيفية الذبح إذ يؤتى به على هيئة كبش ، وهو فحل الضأن ، وهو أكبر من الخروف الذي يعني لغة الحمل الذكر .
والملحة لون يخالف لون الكبش في أطراف صوفه سواء كانت حمراء أو سوداء أو بيضاء (والمُلْحَة أيضاً من الألوان: بياضٌ يخالطه سوادٌ. وقد امْلَحَّ الكبشُ امْلِحاحاً: صار أمْلَحَ. ويقال لبعض شهور الشتاء: مِلْحانُ، لبياضِ ثلجه. والزُرقةُ إذا اشتدَّتْ حتَّى تضرب إلى البياض قيل: هو أمْلَحُ العينِ. ومنه كتيبةٌ مَلْحاءُ) ( ).
(والخروفُ : الحَمَلُ، وربَّما سمِّي المُهْرُ إذا بلغ ستَّةَ أشهر أو سبعةَ أشهر خَروفاً) ( ).
فيوتئ بالموت في الآخرة على هيئة كبش كبير يُرى من الجميع .
قانون الوارث لآل فرعون
قال تعالى [كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ] ( ).
وتحتمل الوراثة في الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : إذا كان بنو إسرائيل قد عبروا البحر ، وتوجهوا إلى أرض فلسطين ، فكيف ورثوا أرض آل فرعون ، الجواب بعد تقدم السنين وسؤال بني إسرائيل موسى عليه السلام من نبات الأرض مع المن والسلوى ، أمرهم الله عز وجل أن يتوجهوا إلى مصر للعمل بالفلاحة ، وفي التنزيل [وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ]( ).
الثاني : المراد من الوراثة في الآية أعلاه هو جنس النعيم والزراعات إذ عمّر بنو إسرائيل أرض فلسطين بالزراعة ، وصارت لهم دولة ، فيها ملوك منهم ، ويدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ] ( ).
فالمراد وراثة حال النعمة من غير حصر في بلد مخصوص ، وكأنها انتقلت مع بني اسرائيل كما أصابت المسلمين بايمانهم.
فنعتهم موسى عليه السلام بأنهم ملوك وفيهم أنبياء فنالوا صفة الملك والشأن والأمن بالنسبة لأنبيائهم فليس من فرعون يهددهم بالقتل أو يسخرهم لأعمال وضيعة ، ويمنعهم من أداء الفرائض العبادية ، ومع هذا فان موسى عليه السلام لم يرجع إلى مصر بعد عبوره البحر الأحمر ، ومات هارون في التيه قبل موسى.
وعن ابن عباس عن الإمام علي عليه السلام (في قوله [لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى]( )، قال : صعد موسى وهارون الجبل ، فمات هارون عليه السلام فقالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام : أنت قتلته ، كان أشد حباً لنا منك وألين ، فآذوه من ذلك ، فأمر الله الملائكة عليهم السلام ، فحملته فمروا به على مجالس بني إسرائيل ، وتكلمت الملائكة عليهم السلام بموته ، فبرأه الله من ذلك ، فانطلقوا به فدفنوه ولم يعرف قبره إلا الرُخَّم ، وأن الله جعله أصم أبكم)( ).
(عن قتادة في قوله {وجعلكم ملوكاً } قال : ملَّكهم الخدم ، وكانوا أول من ملك الخدم) ( ).
ولكن آل فرعون ملكوا قبلهم الخدم ، وطائفة من بني إسرائيل كانوا يخدمون آل فرعون ولكن ليس بصفة الملك لذا جاهد موسى عليه السلام لإخراجهم من مصر ، قال تعالى [الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] ( ).
الثالث : أورث الله بني إسرائيل ملك فرعون في الشام.
وقيل : ملك بنو إسرائيل مصر زمن سليمان( ).
الرابع : الذين ورثوا آل فرعون قوم آخرون غير بني إسرائيل ، كما في قوله تعالى [كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ]( ).
الخامس : المراد وراثة المسلمين لأرض مصر ، وصيرورة أهلها مسلمين بما فيهم بقية آل فرعون وأهل النوبة ، فان قلت إذا كان منهم بقية آل فرعون هل ينطبق عليهم الوصف [قَوْمًا آخَرِينَ] الجواب نعم من جهات منها :
الأولى : التباين في الأشخاص والجيل ، فكل قرن من الناس وكل جيل هو أمة.
الثانية : تبدل وتغير الملة وتنزه أرض مصر عن الكفر ومفاهيم الشرك إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق الوراثة ، لأن الوراثة إذا جاءت من عند الله حملت على الإطلاق الزماني إلا مع وجود التخصيص أو الإستغناء ، فتكون هذه الوراثة من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الثالثة : زوال ملك آل فرعون ، وعدم أهليتهم لإسترداد الملك لبيان قانون وهو أن ميراث الملك والنعمة يتم بمشيئة من عند الله ، وأن الذي يصر على الكفر ومحاربة النبوة يستأصل سلطانه ولا يعود إليه وإلى ذريته ، وفي قصة آل فرعون إنذار ووعيد لكفار قريش وأن أيامهم قليلة ومعدودة ما داموا يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأنهم لا يملكون من الشأن والمال والجيوش معشار ما يملك فرعون ، فحينما أراد أبو سفيان التجهز لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، استأجر ألفين من الأحابيش وغيرهم ليكون مجموع الجيش ثلاثة آلاف رجل، بينما سار فرعون خلف موسى بألف ألف رجل أي مليون.
السادس : إرادة التعدد في وراثة النعمة من جهات :
الأولى : وراثة ملك ونعم مصر لقوم آخرين غير آل فرعون ، ولعل بعض نساء آل فرعون بعد هلاك فرعون وجنوده تزوجن العبيد ، وأشترطن عليهم أن الأمر بيدهن ولا يعقد الزوج أي عقد إلا باذن زوجته واستمرت هذه العادة عند أهل مصر طويلاً بأن يرجع الرجل الى زوجته في الإستشارة وإليه أشار المقريزي (764-845 هجرية).
وقال ابن كثير : وهلك الملك وحاشيته وأمراؤه وجنوده ولم يبق ببلد مصر سوى العامة والرعايا فذكر ابن عبد الحكم في تاريخ مصر أنه من ذلك الزمان تسلط نساء مصر على رجالها بسبب أن نساء الأمراء والكبراء تزوجن بمن دونهن من العامة فكانت لهن السطوة عليهم واستمرت هذه سنة نساء مصر إلى يومك هذا( ).
واستدامة هذه السطوة ليست صحيحة فقد نظّم الإسلام الصلة داخل الأسرة وأكرم المرأة ، وهناك من الأمم من يكون شأن المرأة فيها أكثر من غير أن يكون السبب هلاك الأمراء ، ونكاح العامة لأزواجهم.
ويدل الخبر أعلاه بوجود عامة من الناس غير بني إسرائيل يمكن تسخيرهم للمهن والأشغال والفلاحة خاصة بعد رؤية الآيات والمعجزات التي تكون من غاياتها الإذن لموسى بأن يُخرج بني إسرائيل معه من مصر ليصلحهم لعبادة الله ، وتلقي أحكام الحلال والحرام ، والإنتقال للعيش في الأرض المقدسة ويتعاقب الأنبياء فيهم ، ويحملون البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويخبرون الناس عن مضامين آية البحث ، بنزول مصيبة الموت بكل إنسان.
الثانية : جاءت الآية بصيغة الماضي [وَأَوْرَثْنَاهَا] ( ) وهو لا يمنع من إرادة المعنى العام لأفراد الزمان الطولية ، وشمول الآية للحاضر والمستقبل.
الثالثة : تعدد الوراثة والنعم ، ففي الآية بشارة للمؤمنين بهلاك كفار قريش ، وصيرورة الشأن والملك بيد المؤمنين .
الرابعة : دعوة المسلمين لحسن الصلات مع أهل الكتاب ، ومن رشحات قوله تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] ( )التسليم من الجميع بأن [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ( ).
بحث عرفاني
وفي الآية دعوة للمسلمين لنشر لواء السلم وشآبيب الرأفة بين الناس ، والإمتناع عن الإضرار بالغير وعن الظلم ، ففي الآية إخبار عن مغادرة كل من المؤمن والكافر ، والبر والفاجر الحياة الدنيا وأن جيلاً جديداً يأتي من بعدهم لتتوجه لهم آية البحث بقانون ذوق مرارة الموت ، قال تعالى [وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ]( ).
وقيل في سبب نزول الآية أعلاه (أن بعض المسلمين قال : إن محمداً لن يموت وإنما مخلد فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأنكره ونزلت هذه الآية)( ).
ويتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، حجة من جهات :
الأولى : إنذار الذين كفروا .
الثانية : تصديق إخباره عن اليوم الآخر.
الثالثة : دعوة الناس للتفكر بما بعد الموت.
فأخبرت خاتمة الآية بأنها دار متاع إلى عالم آخر وهو عالم الخلود.
فمن أراد الخلود في الدنيا فعليه أن يجتهد بطاعة الله عز وجل ليفوز بالخلود في النعيم المطلق ، فليس في الآخرة تعب أو عناء أو تكاليف.
والموت في الفلسفة هو بلوغ نقطة اللا عودة إلى الحياة الدنيا ، والعجز الشخصي التام عن الرجوع إلى الحياة الدنيا وهو الذي يتجلى بقوله تعالى [قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( ).
ليكون من مصاديق البرزخ الذي تدل عليه الآية أعلاه ، فيتوقف نبض القلب ، وتسكن حركاته ، وتنقطع ضرباته ، ثم تتوقف الدورة الدموية وينغلق الدماغ ، وأثبتت التحريات الطبية الحديثة أن بعض خلايا الإنسان تبقى نشطة لأيام أو أسابيع بعد الموت .
ومن خصائص القرآن أنه يعصم تاليه ومستمعه من اليأس والقنوط ، فاذا ابتدأت آية البحث بالإخبار عن تغشي الموت ومغادرة الدنيا للناس جميعاً فانها تضمنت البشارة بالجنة واللبث الدائم في النعيم ، ولكن هذه البشارة ليست عامة لأهل الأرض.
إذ أخبرت آية البحث أنها خاصة بمن زحزح وأبعد عن النار ، فقد جاءت آيات القرآن لتخبر عن السبيل إلى هذا الإبعاد وهو الإيمان والعمل الصالح.
ولم تقل آية البحث (ومن تزحزح ) لأن هذه الزحزحة وكل حركة في الآخرة لا تكون إلا بمشيئة وإذن من الله عز وجل ، ولأن الإبعاد عن النار نوع حكم وجزاء .
قانون آيات الموت
لقد ذكر الموت في آيات عديدة من القرآن ، ولا ينحصر ذكره بلفظ الموت، فقد يأتي بألفاظ أخرى مرادفة للموت ، كما في قوله تعالى [وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ] ( ) .
إذ تبين هذه الآية أن الموت ليس أثراً طبيعياً لعجز إعضاء البدن عن الحركة ، إنما هو بمشيئة من عند الله ، وأن الناس يتباينون في أوان وكيفية قبض الروح بحسب سنخية الأفعال في الدنيا ، لذا فمن إعجاز آية البحث ورودها بذكر ذوق الموت بقوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ( ).
ووردت الإشارة إلى الموت بصيغة الفعل الماضي ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] ( ) وفي عيسى عليه السلام ورد قوله تعالى [وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا]( ).
وفي الآية أعلاه مصداق للعموم في قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ( ) في آية البحث بأن الموت لابد وأن يأتي على عيسى عليه السلام ، وإن رفعه إلى السماء لا يمنع من موته.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ينزل عيسى ابن مريم فيمكث في الناس أربعين سنة) ( ).
كما ورد فعل الأمر [مُوتُوا]في القرآن مرتين ، كما في قوله تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ) وقوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ] ( ).
وكل مرة يذكر فيها (الموت) في القرآن له دلالات خاصة ، ومن الآيات التي ذكر فيها الموت :
الأولى : قال تعالى [أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ]( ).
الثانية : قال تعالى [قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الثالثة : قال تعالى [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
الرابعة : قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( ).
الخامسة : قال تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
السادسة : قال تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
السابعة : قال تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الثامنة : قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ).
التاسعة : قال تعالى [وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً]( ).
العاشرة : قال تعالى [وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا]( ).
الحادية عشرة : قال تعالى [أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا]( ).
الثانية عشرة : قال تعالى [وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
الثالثة عشرة : قال تعالى [شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ]( ).
الرابعة عشر : قال تعالى [أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ]( ).
الخامسة عشرة : قال تعالى [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ]( ).
السادسة عشرة : قال تعالى [وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ]( ).
السابعة عشرة : قال تعالى [كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ]( ).
الثامنة عشرة : قال تعالى [وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ]( ).
التاسعة عشرة : قال تعالى [يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ]( ).
العشرون : قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ]( ).
الحادية والعشرون : قال تعالى [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ]( ).
الثانية والعشرون : قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ]( ).
الثالثة والعشرون : قال تعالى [قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ]( ).
الرابعة والعشرون : قال تعالى [قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
الخامسة والعشرون : قال تعالى [تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ]( ).
السادسة والعشرون : قال تعالى [فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ]( ).
السابعة والعشرون : قال تعالى [اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
الثامنة والعشرون : قال تعالى [لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ]( ).
التاسعة والعشرون : قال تعالى [وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ]( ).
الثلاثون : قال تعالى [وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ]( ).
الحادية والثلاثون : قال تعالى [نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ]( ).
الثانية والثلاثون : قال تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الثالثة والثلاثون : قال تعالى [قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
الرابعة والثلاثون : قال تعالى [وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ]( ).
الخامسة والثلاثون : قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ]( ).
كما وردت مادة (موت) بصيغ عديدة أخرى منها (موتكم)و(موتها ) و(موتتنا) و(أموات) .
وورد لفظ (الموتى ) في القرآن سبع عشرة مرة منها قوله تعالى [كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] ( ) .
وورد لفظ [الميت] في القرآن سبع مرات منها ما يخص الأرض وأحياءها بفضل من الله عز وجل ، قال تعالى [فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا] ( ).
وفي التنزيل [قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
مجموع مادة مات في القرآن اثنتان وستون ومائة مرة .
قانون أسئلة المسلمين لقصد الآخرة
هل يدل ورود قوله تعالى [ يَسْأَلُونَكَ] خمس عشرة في القرآن على كثرة هذا السؤال ، الجواب نعم ، كما ورد لفظ [يَسْتَفْتُونَكَ] مرتين في القرآن.
وهل في الأمور التي سأل عنها المسلمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما ذكر في القرآن شواهد تدل على تسليمهم بقانون [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، الجواب نعم ومنه :
الأولى : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( )، لبيان أن المسلمين يتخذون من الآيات الكونية مناسبة للعبادة إذ يحدد أوان الصيام برؤية هلال شهر رمضان لقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، وذكرت الآية أعــلاه الحج على نحـــو التعيين.
والمــراد منه أشهر الحـــج كلها لـــقوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( )، ومـــن فلسفة العبادة في الأرض وجــوه :
الأول : قانون كل مصداق للعبادة إقرار باليوم الآخر وهل المراد مثلاً فريضة الصلاة مطلقاً أم خصوص كل فرض منها .
الجواب هو الثاني ، لذا ورد عن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت سعدا يقول : كان رجلان أخوان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أحدهما أفضل من الآخر ، فتوفي الذي هو أفضلهما ، ثم عمر الآخر بعده أربعين ليلة ، ثم توفي ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضيلة الأول على الآخر ، فقال : أو لم يكن يصلي ، قالوا: بلى .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وكان لا بأس به ، قالوا : نعم قال : وما يدريكم أنى بلغت صلاته .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك : إنما مثل الصلوات كمثل نهر غمر عذب بباب رجل ، يقتحم فيه كل يوم خمس مرات ، فماذا ترون ذلك يبقي من درنه ، إنكم لا تدرون ما بلغت به صلاته( ).
الثاني : قانون أداء الفريضة شاهد على التسليم بأن كل نفس ذائقة الموت ، وإقرار بعالم ما بعد الموت.
الثالث : قانون العبادة واقية من النار ، ليكون من مصاديق آية البحث فمن زحزح عن النار بأداء الفرائض العبادية ، فمن إعجاز القرآن كونه [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، فلما ذكر الله عز وجل في آية البحث الحاجة إلى الزحزحة من النار أخبر سبحانه على أن الفرائض العبادية واقية من النار ، وسبيل إلى الجنة.
الرابع : قانون زحزحة العبد عن النار كل يوم بالفرائض والتقوى ، فان قلت إنما وردت الآية بصيغة المبني للمجهول (زُحزح) وليس هو ذاته يزحزح نفسه.
والجواب هذا صحيح إذ أن الفريضة العبادية تحضر يوم القيامة لتشهد لصاحبها ، كما يشهد له المسجد والموضع الذي صلى فيه ، كما يحضر القرآن يوم القيامة ليشهد تاليه والعامل به ، لذا فان وجوب قراءة القرآن في الصلاة كل ركعة رحمة من الله بالعباد ، وفضل عظيم منه لأنها ذخيرة للآخرة .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس عن أبيه( ) عن جده : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يمثل القرآن يوم القيامة رجلاً فيؤتى الرجل قد حمله فخالف أمره ، فيقف له خصماً فيقول : يا رب حملته إياي فبئس حاملي تعدى حدودي ، وضيع فرائضي ، وركب معصيتي ، وترك طاعتي .
فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال : فشأنك ، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار ، ويؤتى بالرجل الصالح قد كان حمله وحفظ أمره ، فيتمثل له خصماً دونه.
فيقول : يا رب حملته إياي فحفظ حدودي ، وعمل بفرائضي ، واجتنب معصيتي ، واتبع طاعتي ، فما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال له: شأنك به ، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الاستبرق ، ويعقد عليه تاج الملك ، ويسقيه كأس الخمر( ).
وأختتمت آية (الأهلة) بالأمر والرجاء [وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، سيأتي بيان وتفصيل في قانون خاتمة آية[يَسْأَلُونَكَ].
ففيها شاهد على أن الغاية من السؤال عن الأهلة هي العبادة ، وقصد القربة إلى الله ، وفيها دعوة سماوية إلى التقيد بمضامين الإجابة الإلهية عن الأسئلة ، فحينما ينزل الله عز وجل الجواب في القرآن فانه يريد من المسلمين العمل بمضامينه ، وفيه النجاح والفلاح .
وآية [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ]( )، هي أول آية من آيات يسألونك في نظم القرآن لبيان لطف الله في تثبيت فريضة حج البيت الحرام والفوز بالثواب على أدائه.
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : هذا البيت دعامة من دعائم الإسلام ، فمن حج البيت ، أو اعتمر فهو ضامن على الله ، فإن مات أدخله الجنة ، وإن رده إلى أهله رده بأجر وغنيمة( ).
الثانية : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( )، من خصائص الإنسان حبه للمال وعدم تفريطه به ، ويُقبح الناس الإسراف في المال ، ولكن سؤال المسلمين عن الإنفاق شاهد على إيمانهم .
ومن إعجاز القرآن أن لفظ [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ]( )، ورد مرتين في القرآن لبيان موضوعية الإنفاق كطريق إلى السعادة في الآخرة ، إذ ورد بقوله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ]( )، لبيان التعاضد والتداخل بين إنفاق المال في سبيل الله ، وبين العفو والصفح عن الناس ، وقد تقدم الكلام في الجزء السابع بعد المائتين ، والمراد بالعفو في الآية أعلاه إذ أنه يتضمن معنيين :
الأول : الزائد عن المؤونة.
الثاني : التجاوز عن الذنوب والسيئات.
ولا يقدر على ذكر هذه الملازمة إلا الله عز وجل ، وهو سبحانه يعلم بأن المؤمنين قادرون عليها إذ أن العفو تنازل عن نوع من الحقوق فلذا جاء في خاتمة الآية أعلاه [وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ).
ترى ما هي النسبة بين فعل الخير وبين الإنفاق الذي تذكره الآية ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ففعل الخير أعم ، وهو من إعجاز القرآن ولبيان نكتة عقائدية وهي قد يتعذر على المسلم الإنفاق ، وربما يكون هو محتاجاً يستحق الصدقة ، ولكن هذا لا يمنع من فعله الخير ، وإثابته عليه.
ليكون من مصاديق قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، أن الموت يأتي على الغني والفقير ، وكل واحد منهما يجب عليه الإستعداد للموت الذي لا يفرق بين الناس فلابد من زيارته لكل واحد منهم.
وترى الإنسان يندم في كبره على أعمال ارتكبها في شبابه ، ويود أن تعود به الأيام ويجتنبها ، أما المؤمن عندما تتقدم به السن فانه يشكر الله عز وجل على تعاهده للعبادة وسنن التقوى.
الثالثة : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( )، قد تقدم في الجزء السابق بيان ودلائل على أن الآية أعلاه من آيات الدفاع المحض ، وبهذا فهي تلحق بآيات السلم، إذ صدر الجزء السابق بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
لقد صدر واحد وعشرون جزءً من تفسيرنا للقرآن بقانون (لم يغز النبي (ص) أحداً)، وفق توالي وقائع ومعارك الإسلام الدفاعية ، ووصل البحث إلى صلح الحديبية الذي سماه الله فتحاً ، وقانون مقدمات صلح الحديبية ، وقانون النسوة في الحديبية ، وقانون صلح الحديبية ، وقانون وهن قريش ، وإبتداء السير نحو الحديبية.
ولقد صدر والحمد لله الجزء الرابع بعد المائتين من تفسيري للقرآن وتضمن اثنين وعشرين قانوناً إلى جانب بحوث أصولية وكلامية وتأريخية منها :
الأول : قانون نزول الآية القرآنية برزخ دون سفك الدماء .
الثاني : قانون المشركون هم الغزاة في معركة بدر.
لبيان المغايرة مع ما يتوارث بأنها غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فخرج المشركون من مكة بقصد القتال ، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة في كتيبة استطلاع ونشر الإسلام وليس معه سيف وأصر المشركون صباح يوم بدر على القتال ، وفي ذات الوقت كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينادي قولوا لا اله إلا الله تفلحوا ، ويأمر أصحابه أن لا يبدأوا بالقتال أو رمي السهام.
الثالث : قانون آيات الدفاع سلام دائم وهو الذي صدر بخصوصه الجزء الثاني والأربعين بعد المائة والجزء الخامس بعد المائتين من تفسيري.
الرابع : قانون آيات السلم محكمة لبيان قانون وهو أن الله عز وجل أنزلها لتكون مناراً وواقية من الإرهاب والقتل العشوائي.
الخامس : قانون شراء النفس بالصبر .
ومنه مبيت الإمام علي عليه السلام في فراش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الهجرة ونزل قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ]( ).
السادس : قانون معجزات نوح زاجر عن الضلالة .
لقد أمضى نوح سنوات عديدة في صنع سفينته وحيث لا نهر ولا بحر بجواره مما زاد في استهزاء قومه منه ولكن جاء أمر الله [فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ* وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ]( )، ماء سماوي ودسر أي مسامير جمع دسار وهو المسمار ، وسفينة نوح تجري بحفظ من الله [تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ]( )، فعال من دسره إذا دفعه يدسر به منفذه لتبين قصة نوح قانوناً وهو وجوب الملازمة بين الإيمان بالله وبين الوجود الإنساني ، ولو على نحو الموجبة الجزئية مع توالي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ليس من زمان إلا وفيه موحدون ، وتبقى قصة سفينة نوح ومعجزات الأنبياء الأخرى سياحة في رحمة الله بالناس ، وهدايتهم الى سواء السبيل ، وزاجراً للناس عن الضلالة ، ومانعاً من الإرهاب ، وقد أكثر قوم نوح من إرهابه وتهديده والإبتداء عليه بالشتم والضرب ويمكن إنشاء قانون بخصوص معجزات الأنبياء من وجوه :
الأول : قانون المعجزة النبوية دعوة للتوحيد .
الثاني : قانون المعجزة النبوية رسالة أمن وسلام .
الثالث : قانون المعجزة النبوية زاجر عن الإرهاب .
الرابع : قانون بقاء منافع المعجزة النبوية إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار كون معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو القرآن عقلية ، قال تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( ).
ويدل قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ] ( )، على أن المسلمين يسلمون بالأمن في الشهر الحرام ، ولا يظنون بحدوث القتال في الأشهر الحرم إذ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهم بالقتال فيه ، فلو كان قد أمرهم بالقتال فيه لما سألوا عنه ، لأنه من تحصيل ما هو حاصل.
ومن الإعجاز في الآية أن الجواب بالإيجاب ووقوع القتال في هذا الشهر من عند الله عز وجل وليس من عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيكون من معاني [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ): يا أيها النبي كُتب عليك القتال وهو كره لك ولأصحابك.
لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج للقتال بنفسه ليتعلم المسلمون أخلاقيات القتال وأنه للدفاع المحض ،ونوع طريق إلى السلم المجتمعي ، وقد يطمع الصحابة بمطاردة فلول المشركين وقتلهم أو أخذ إبلهم وأموالهم غنائم ، وأسرهم رجاء البدل والعوض خاصة وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جعل عوض فكاك الأسير لمن أسّره مثل عوض أسرى بدر ، إذ كان بدل فكاكهم من الأسر 400 دينار أي أربعة آلاف درهم فضة آنذاك ممن كان عنده مال ويقدر على الفداء ، ومنهم أبو وداعة بن ضبيرة السهمي القرشي، وأخُذ من العباس بن عبد المطلب مائة أوقية.
وكان أبو وداعة قد أُسر في معركة بدر ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للذين أسروه (تمسكوا به، فإن له ابناً كيساً بمكة) ( ) فخرج ابنه عبد المطلب من مكة خفية عن قريش لأنهم كانوا يحضون على الإمتناع عن دفع البدل.
وكانت قريش تقول (لا تعجلوا في فداء أسراكم؛ لا يأرب عليكم محمد)( ) لييأس المسلمون ويطلقوا الأسرى ، ومع ما فيه من المجازفة بتعرض الأسرى للقتل فان غايتهم حجب النفع ووصول المال إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
ووصل عبد المطلب إلى المدينة ، ولم يتعرض له الصحابة مع معرفتهم بكفره وبقائه على الشرك ، وفدى أباه بأربعة آلاف درهم ، وعاد إلى مكة ، فكان أبو وداعة أول أسير دُفع فداؤه .
وتوجهت قريش له باللوم فاعتذر بأنه لم يقدر على تحمل بقاء أبيه أسيراً ، عندئذ اندفع الناس لفك أسراهم.
قال ابن إسحاق : حدثنى العباس بن عبدالله بن معبد ، عن بعض أهله، عن ابن عباس، قال: لما أمسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر والأسارى محبوسون بالوثاق، بات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساهرا أول الليل، فقال له أصحابه: ما لك لا تنام يا رسول الله.
فقال : سمعت أنين عمي العباس في وثاقه ” فأَطلقوه، فسكت، فنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال ابن إسحاق : وكان رجلا موسرا ففادي نفسه بمائة أوقية من ذهب.
قلت : وهذه المائة كانت عن نفسه وعن ابني أخويه عقيل ونوفل، وعن حليفه عتبة بن عمرو أحد بني الحارث بن فهر( ).
وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فداء الذين يقرأون ويكتبون تعليم أولاد الأنصار الكتابة ، ويعلم المسلمون عند سؤالهم عن القتال احتمال القتل ، ليكون من معاني [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، رضا الصحابة بما كتب الله عز وجل لهم من القتل في معارك الدفاع أو الموت على السرير ، وكل منهما فيه الأجر والثواب.
لقد كان مشركوا قريش يهددون المسلمين بالقتل والأسر والسبي وقد قتلوا عدداً منهم تحت التعذيب ، ومن الشواهد أن هذا القتل طال حتى النساء المؤمنات إذ قتل أبو جهل أم عمار بن ياسر سمية بنت خياط تحت التعذيب ، فجاءت آية البحث لبعث الطمأنينة في قلوب المسلمين والإستعداد للموت ثم جاءت الآيات التي تثني على شهداء معركة بدر ومعركة أحد ، وفي قوله تعالى [ولا تحسبن الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا] ( ) إلى قوله [أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
قال قتادة والربيع : ذُكر لنا أنّ رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا ليتنا نعلم ما فعل بإخواننا الذين قتلوا يوم أُحد، فأنزل الله تعالى هذه الآية( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث مسائل :
الأولى : الموت بالنسبة للمؤمن إبتداء لحياة جديدة تتصف بالخلود في النعيم.
الثانية : تبدأ حياة جديدة للمؤمن بعد موته .
الثالثة : من معاني الرزق في الآخرة بشارة الخلود في الجنة .
ترى هل الإنفاق في سبيل الله والبر بالوالدين يبعد الأجل ، الجواب نعم، ليكون من معاني قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، إرجاء الله عز وجل الموت عن المحسنين جزاءً ومنسأة في الأجل.
لقد سأل المسلمون عن ماذا ينفقون ليدل بالدلالة الإلتزامية على أمور :
الأول : حرص المسلمين على الإنفاق.
الثاني : التسالم على إرادة الإنفاق في سبيل الله ، وطاعة له.
الثالث : موضوعية الإنفاق في الإسلام ، والملازمة بينه وبين الإيمان.
الرابع : إدراك المسلمين لقانون التكافل الإجتماعي بين المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الخامس : تفقه المسلمين في الدين ، وحبهم لله ورسوله ، ورجاء سماع الإجابة من الوحي والتنزيل ، ولما جاء الذم للكفار وبيان سوء انفاقهم وترتب الضرر عليه في النشأتين بقوله تعالى [فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( )، جاء سؤال المسلمين لإرادة جلب النفع بالإنفاق.
لقد جاء الجواب من عند الله على سؤال المسلمين بالإنفاق من الخير وهو سور الموجبة الكلية لإرادة المال والطعام والزكاة والصدقات المستحبة، وبيان الجهة التي ينفقون فيها وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، إذ ذكرت الآية الإنفاق على كل من:
الأول : الوالدان أي الأب والأم ، وهل يشمل الأجداد أم أن القدر المتيقن من الآية هما الوالدان الصلبيان وأن الأجداد يدخلون في (الأقربين) الذي ذكرتهم الآية ، المختار هو خصوص الوالدين ، خاصة وأن الآية جاءت بصيغة المثنى.
وقد يقال إن تقدير الآية : الوالدان وإن علوا ، إنما خصت الآية الوالدين للفرد الأعم الأغلب ، ولأن كلاً من الأب والأم ينفقان على آبائهم مع الحاجة ، فكون الإنسان ينفق عليه لا يسقط عنه الإنفاق على من تجب عليه نفقته ، نعم له تقديم نفسه ثم زوجه.
وقيل أن [الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ]( )، منسوخة بآية الميراث وحديث (لا وصية لوارث).
والمختار أن السنة لا تنسخ القرآن وقيل المعنى الوصية بتوريث الوالدين والأقربين حسب الفرائض ثم أن الإنفاق غير الوصية ، لأن الإنسان ينفق في حياته ، أما الوصية فتتعلق فيما بعد وفاته ، وبمقدار الثلث من ماله أو أقل من الثلث .
ومن خصائص الإنفاق على الأقربين ، وغاياته الحميدة أنه دعوة للإيمان وأداء الفرائض العبادية ، وتعاهد للسلم المجتمعي الذي جاءت به الرسالات السماوية وتجلى في أحكام القرآن .
وقد ورد قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، لتكون النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق ، فموضوع العشيرة والأقربين أعم وكذا بالنسبة للإنذار لبيان جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة الى الله بالحجة والبرهان ، وقال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]( ).
وتقدير الآية انفقوا الخير على الوالدين ، والنسبة بين بر الوالدين والإنفاق عليها هو العموم والخصوص المطلق ، فالبر أعم ، وهل قوله تعالى [فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ]( )، من هذا الإنفاق الجواب لا ، إنما هو من البر والإحسان للوالدين ، ويفيد حرف التبعيض في قوله تعالى [مِنْ خَيْرٍ] التبعيض وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا]( )، ولبيان أن الإنسان ينفع نفسه من إنفاقه وبذله المال ، لقوله تعالى [وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ]( )، وقدمت الآية الأهم ، فذكرت الوالدين أولاً.
أسباب نزول الآية أعلاه :
وفيه وجوه :
الأول : أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ]( )، الآية . قال : يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة ، وهي النفقة ينفقها الرجل على أهله ، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة( ).
ولا دليل على النسخ ولكن المراد التعدد في النفقة فيشمل وجوه الخير والصدقات المستحبة ، وإلا فان الآية قدمت الوالدين في إنفاق الخير ، بينما الزكاة ليست على الوالدين لوجوب الإنفاق عليهما ، وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أنت ومالك لأبيك) ( ) ، ولأن دفع الشخص الزكاة للوالدين يعود نفعه عليه ، بينما نزل القرآن بتعيين أصناف المستحقين ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
الثاني : ورد عن قتادة قال : همتهم النفقة فسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأنزل الله { ما أنفقتم من خير…} الآية( ).
لبيان إرتقاء المسلمين في مراتب الإيمان ، وحرصهم على الإحسان ونشر شآبيب الرأفة وتطلعهم إلى الفوز برحمة الله عز وجل ، قال سبحانه [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثالث : من خصائص آية البحث أنها تبين اعتراض النار للناس في طريق الآخرة ، ولابد لهم من إجتيازها ، قال تعالى [فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ]( ).
ومن معاني العقبة في الآية أعلاه ما ورد عن ابن عباس وأنها النار( ).
وهل من موضوعية لآية البحث في السعي للإنفاق في سبيل الله ، وفيه شاهد على حال السعة التي صار عليها المسلمون ، قال تعالى [وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا]( )، لبيان الوسط في الإنفاق بين الكرم والتبذير ، وبين الجود والبخل ، وقد خفف الله عز وجل عن المسلمين في المقام وأمرهم بانفاق العفو والزائد عن المؤونة.
وتدل همة المسلمين بالإنفاق على رجاء الثواب والزحزحة عن النار بالنفقة.
ومن إعجاز القرآن هناك ملازمة بين أسئلة المسلمين وبين مضامين آية البحث ، وادراك حتمية الموت ولقاء الله عز وجل وعالم الجزاء ولا يعلم ما هو أجر النفقة في سبيل الله إلا هو سبحانه ، إذ أنها تنمو وتتضاعف مع تقادم الأيام.
وبين الإنفاق ووجوب الزكاة عموم وخصوص مطلق ، فقد لا تجب الزكاة على كثير من المسلمين والمسلمات ، لعدم تحقق النصاب عندهم ، أو أن شطراً منهم يتحقق عنده النصاب لسنوات دون أخرى ، فتأتي آيات البعث على الإنفاق تكليفاً عاماً لجميع المسلمين فتكون واقية لهم من النار ، ومن فضل الله عز وجل عدم وجود حد من جهة القلة للإنفاق بقصد القربة الذي ينجي العبد من النار .
وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليتق أحدكم وجهه من النار ولو بشق تمرة.
وعن المنذر بن جرير عن أبيه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حُفَاة عُراة مُجْتَابي النمار -أو: العَبَاء-مُتَقَلِّدي السيوف عامتهم من مُضَر، بل كلهم من مضر، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى بهم من الفاقة، قال: فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة، فصلى ثم خطب، فقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إلى آخر الآية: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}( )، وقرأ الآية التي في الحشر {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} تَصَدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره حتى قال : ولو بشق تمرة”. قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرة كادت كفه تَعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتهلل وجهه كأنه مُذْهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “مَن سَنَّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن يَنقُص من أجورهم شيء، ومن سَنَّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وِزْرُها ووزر من عمل بها، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء( ).
وأخرج أحمد عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا عائشة ، اشتري نفسك من النار ولو بشق تمرة ، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان .
وأخرج البزار وأبو يعلى عن أبي بكر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أعواد المنبر يقول : اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فإنها تقيم العوج ، وتدفع ميتة السوء ، وتقع من الجائع موقعها من الشبعان.
وأخرج ابن حبان عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تعبد عابد من بني إسرائيل فعبد الله في صومعة ستين عاماً ، فأمطرت الأرض فأخضرت ، فأشرف الراهب من صومعته فقال : لو نزلت فذكرت الله فازددت خيراً ، فنزل ومعه رغيف أو رغيفان ، فبينما هو في الأرض لقيته امرأة فلم يزل يكلمها وتكلمه حتى غشيها ، ثم أغمي عليه ، فنزل الغدير يستحم فجاء سائل فأوما إليه أن يأخذ الرغيفين ثم مات ، فوزنت عبادة ستين سنة بتلك الزينة فرجحت الزينة بحسناته ، ثم وضع الرغيف أو الرغيفان مع حسناته فرجحت حسناته فغفر له( ).
وعن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه ، فاتقوا النار ولو بشق تمرة( ).
قوله تعالى [وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]
في الآية وعد من عند الله عز وجل للمؤمنين ، ويحتمل المراد من الأجور في المقام وجوهاً :
الأول : إرادة الجزاء على الأعمال الصالحة لأن أصل الأجر على العمل.
الثاني : المراد جزاء كل إنسان على عمله سواء من الصالحات أو السيئات ، ويشمل البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، وأن المقصود من الأجور المعنى الأعم الشامل للجزاء .
الثالث : المراد الأجر والثواب الذي يأتي للمؤمنين على نحو العموم المجموعي ، فينهل منه كل فرد منهم بالمقدار الذي كتب الله له ، وهل ينتفع غيرهم من الأجر .
الجواب نعم ، وهو من فضل الله عز وجل في بعثة الأنبياء وعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) إذ تتغشى الرحمة بالبعثة النبوية حتى الذين يحاربونها ، وهي دعوة متجددة لهم كل يوم للإيمان .
وتدل عليه صيغة الخطاب في الآية بقوله تعالى [وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ]( ) وآيات الأجر الواردة في القرآن عديدة كما في قوله تعالى [وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ] ( ) ، ولم يرد لفظ [أُجُورَكُمْ] في القرآن إلا مرتين ، ومن الأجور في القرآن ما يتعلق بالمعاملات بين الناس في الحياة الدنيا وضبط الأنظمة الإجتماعية ، ومنها أحكام الأسرة ، فقد ورد لفظ [أُجُورَهُنَّ] ست مرات في القرآن تتعلق كلها بأحكام النكاح والرضاعة، قال تعالى [وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ]( ).
والثانية قوله تعالى [إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ] ( ).
والمراد ثواب الباقيات الصالحات لذا قال الله تعالى إنه لا يريد منكم انفاق أموالكم التي تديرون فيها معايشكم ، إنما نزل حكم الزكاة ،وهو في الغالب ربع العشر أي نسبة 2.5 % ولا يقع على كل الناس ، إنما يشترط فيه النصاب ، فيكون الناس في الزكاة على وجوه :
الأول : الذي تجب عليهم الزكاة .
الثاني : الذين يستحقون الصدقات و(عن زياد بن الحرث الصدائي قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاء قوم يشكون عاملهم ، ثم قالوا : يا رسول الله آخذنا بشيء كان بيننا وبينه في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا خير للمؤمن في الإِمارة ، ثم قام رجل فقال : يا رسول الله أعطني من الصدقة.
فقال : إن الله لم يكِل قسمها إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى أجزأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت جزأ منها أعطيتك وإن كنت غنياً عنها فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن) ( ).
لقد ذكرت آية البحث يوم القيامة ، وورد بهذا الاسم في القرآن سبعين مرة ، وسمي به لوجوه :
الأول : قيام الناس من ثعورهم ، قال تعالى [لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الثاني : وقوف الناس في المحشر من شدة الأهوال فيه.
الثالث : قيام الرسل والمؤمنين للشهادة على الناس.
الرابع : قيام موازين العدل .
الخامس : وقوف الناس في منازل الإنتظار والحساب وترقب الجزاء.
السادس : حمل الناس لأوزار أعمالهم ، ويكون هذا الحمل عن قيام، قال تعالى [لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ]( ).
السابع : أخذ الناس كتبهم بأيديهم عن قيام.
الثامن : التخاصم بين الناس في الحقوق والظلامات يوم القيامة ، قال تعالى [ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ]( )، ولا يأتي هذا التخاصم إلا عن قيام.
التاسع : لقد سمّى الله عز وجل اليوم الآخر بأنه يوم القيامة ، ولابد أن معانيه وأسبابه ودلالاته أكبر من أن تحيط بها أوهام البشر ، قال تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
العاشر : يمكن استقراء بعض معاني تسمية (يوم القيامة) من المواطن التي ذكرت فيها ، وهو من أسمى وجوه التفسير ، ومنها آية البحث التي يمكن القول أن من معاني يوم القيامة إعطاء المؤمنين أجورهم وثوابهم فيتلقونها عن قيام واستبشار، قال تعالى [يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً]( ).
ووردت الآية بصيغة الجمع (أجوركم) ويحتمل المراد بالنسبة للمفرد ، وجوه :
الأول : وانما توفى أجرك من عملك.
الثاني : وانما توفى أجورك.
الثالث : وإنما توفى أجوراً من غيرك ، ولا تختص أجور المؤمن في الآخرة بعمله في الدنيا بل يأتيه الأجر ممن اقتدى به في الصالحات ، ومن استغفر له ودعا له في حياته أو بعد موته .
و(عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)( )
والمختار هو الثاني لأصالة الإطلاق بفضل الله عز وجل، فان قلت قد ورد الأجر بصيغة المفرد في قوله تعالى [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الجواب لا تعارض بين الأمرين لإرادة الأجر بمعنى الجنس وليس الفرد المتحد ، كما ورد في إبراهيم عليه السلام إذ تفضل الله عز وجل عليه بالأجر في الدنيا وبعلو المنزلة في الأخرة قال تعالى [وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ]( ).
قوله تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ]
يعيش الناس أيامهم في الحياة الدنيا مختلطين ، تتقاذفهم الأهوال ، وتجذبهم المصالح وتفرقهم الخصومة والمعارك والحروب ، ويكون الإنسان في مندوحة في العمل والإختيار لأنها دار امتحان وإختبار .
أما في الآخرة فليس من فرصة للعمل ، وفي التنزيل [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] ( ) .
ومن خصائص عالم الآخرة الجزاء بالثواب الحسن للمحسنين وإقامتهم الدائمة في الجنة ، والعقاب الأليم للذين كفروا وقيام الملائكة بسوقهم إلى النار.
فمما تتصف به الآخرة حضور الأعمال التي عملها كل إنسان في الدنيا، ونصب الميزان ، وقد تقدم في الجزء الثامن والثمانين من هذا السِفر قولنا يفيد الجمع بين قوله تعالى [وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى] ( )وقوله تعالى [فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ]( ).
تحتمل الآية مسألتين :
الأولى : التعدد والإنفصال بين الزحزحة عن النار وبين الدخول في الجنة ووجود برزخ بين الأمرين فقد يزحزح الإنسان عن النار ، ولكنه لا يدخل الجنة.
الثانية : الإتصال والملازمة بين الزحزحة عن النار ودخول الجنة.
و(عن سَبْرَة بن أبي فَاكِه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك ، قال : فعصاه وأسلم.
قال : وقعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطّوَل؟ فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، وهو جهاد النفس والمال، فقال: تقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال.
قال : فعصاه ، فجاهد ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “فمن فعل ذلك منهم فمات، كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، أو قتل كان حقا على الله، عز وجل، أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وَقَصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة)( ).
وسبرة بن أبي فاكه وابن الفاكهة ، وابن أبي الفاكهة( )، ويقال سبرة بن فاكه المخزومي صحابي ، نزل الكوفة.
قوله تعالى [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ]
ما أحلى وأبهج المظاهر التي تخرجها الدنيا للناس ، فلا تختص هذه المظاهر بطلابها ، والذين اتبعوا الشهوات ، تريد أن يفنى العمر بالإنشغال بها كجمع الأموال ، وكثرة اللهو والزراعات والصناعات والرواحل والمركبات والتباري فيها .
وفي كل ساعة هناك فتنة دنيوية للأقبال عليها والتمتع بمباهجها وزينتها ، ومن مصاديق كونها متاع الغرور إنقطاع حياة الإنسان فيها فجأة ، ومغادرته لها من غير إرادة منه ، وهل تسخر منه الدنيا ، الجواب لا ، إنما هي تحزن عليه لإنشغاله بها وعدم استعداده للآخرة.
(وقال عكرمة وغيره : { متاع الغرور } القوارير ، لأن الفساد والآفات تسرع إليها ، فالدنيا كذلك أو هي أشد) ( ).
ترى لماذا لم تقل الآية : وما الحياة الدنيا إلا متاع ، الجواب النسبة بين المتاع ومتاع الغرور هي العموم والخصوص المطلق ، فالمتاع ما ينتفع به مما يباع ويشترى ، وقد يكون فيه حاجة ورزق أو أنه وسيلة لعبادة الله ، وفيه تعظيم لشعائر الله ، قال تعالى [وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُم] ( ).
مدة الحمل بين القرآن والطب الحديث
من إعجاز القرآن ذكره لمدة الحمل بقوله تعالى [وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ َ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ]( ) لبيان أقل مدة للحمل وهي ستة أشهر .
وجاء العلم الحديث ليؤكد هذه المدة وأن أقل مدة الحمل هي ستة أشهر بلحاظ أن مدة الرضاع هي حولان كاملان ، قال تعالى [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
ويسمى الطفل في الولادة المبكرة خديجاً ، ومن الصعب أن يعيش ، ولكن أجهزة الطب الحديث جعلت حياته ممكنة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى]( ) ومدة الحمل هي تسعة شهور ، واختلف الفقهاء في طول مدة الحمل من جهة الكثرة اختلافاً كثيراً منه ما يخالف الكتاب والواقع والطب الحديث.
وسبب هذا الخلاف والخروج من القاعدة العامة قضية شخصية في الغالب مثلاً قيل أن هرم بن حيان ولد لأربع سنين ، وهرم بن حيان من كبار التابعين ، وقيل أنه من صغار الصحابة واستدل عليه ببعث عثمان بن أبي العاص له (إلى قلعة بجرة فافتتحها عنوة وذلك سنة ست وعشرين وقيل سنة ثماني عشرة وكان أيام عمر على ما تقدم أنهم كانوا لا يؤمرون في الفتوح إلا الصحابة)( ).
وتوفى هرم (في حدود الثمانين للهجرة)( )، وأن الضحاك ولد لسنتين .
(عن الحسن بن يحيى قال: حدثنا الضحاك: أن أمه حملته سنتين. قال (وما تغيض الأرحام)( )، قال: ما تنقص من التسعة (وما تزداد) ( )، قال: ما فوق التسعة)( ).
أي أن الضحاك ينقل خبر مدة حمله عن غيره.
ولكن لا عبرة بالفرد القليل النادر من بين ملايين الولادات كل عام ، ومخالفته للنص والعلم .
والأقوال في مدة الحمل :
الأول : تسعة شهور ، وبه قال عمر بن الخطاب ، والإمامية والظاهرية (وعن الإمام الكاظم في حديث قال (إنما الحمل تسعة أشهر)( ).
وهو الموافق للعلم الحديث.
وفي قوله (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الارحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير )( ).
قال الإمام الصادق عليه السلام : هذه الخمسة أشياء لم يطلع عليها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهي من صفات الله عزوجل)( ).
وهو من مصاديق قوله تعالى [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا] ( ).
الثاني : سنة قمرية واحدة ، وهو قول محمد بن عبد الحكم وابن رشد من المالكية ، وابن رشد اثنان :
أولاً : أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد ، والمشهور بابن رشد الجد، ولد في (450-1058) وتوفى في التاسع عشر من شهر ذي القعدة سنة 528 هجرية – 6/5/1126 .
تولى منصب قاضي القضاة لأربع سنوات ، وفي سنة 515 طلب اعفاءه ليتم كتابه (التحصيل والبيان ) في الفقه ، وتوفى في سنة ولادة ميلاد حفيده ابن رشد ، وهو المقصود في المقام .
ومن تلامذته القاضي عياض .
ثانياً : أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد (520-595) هجرية واشتهر باسم ابن رشد الحفيد ، وتولى القضاء في اشبيليه في الأندلس وحفظ موطأ مالك ، وديوان المتنبي .
وقام بتفسير كتب ارسطو ، وتعرض لمحنة إذ اتهمه علماء عصره بالكفر والإلحاد فأبعد الى مراكش ، وتوفى فيها سنة 1198 م.
الثالث : قول سنتان ، وهو قول أبي حنيفة في رواية عنه ، ونسب إلى عائشة قالت (لا يكون الحمل أكثر من سنتين ، قدرٌ ما يتحول فلكة مغْزَل)( ).
الرابع : ثلاث سنين ، قاله الليث بن سعد .
الخامس : أربع سنوات ، عن الشافعي وأحمد بن حنبل ، وفي رواية عن مالك .
السادس : خمس سنوات ، وهو المشهور عن مالك (وروي عن مالك لا حد له ولو زاد على العشرة الأعوام) ( )، وهي الرواية الثالثة عنه.
السابع : (عن الزهري : ست أو سبع سنين) ، قال أبو عمر : ومن الصحابة من يجعله إلى سبع) ( ).
(عن عطية العوفي:(وما تغيض الأرحام) قال: هو الحمل لتسعة أشهر وما دون التسعة (وما تزداد) قال: على التسعة) ( ) والقدر المتيقن من الزيادة على تسعة شهور هي أيام معدودة .
واتجه الفقهاء في هذا الزمان إلى ما يدل عليه الكتاب ويؤكده الطب والوجدان ، وأن مدة الحمل تسعة شهور ، ويكون (280) يوماً ، وقد يستمر الحمل إلى ( 42 ) أسبوعا أو أكثر قليلاً .
إن صريح القرآن قطعي الدلالة ، وكذا أبحاث ونتائج الطب الحديث تقارب القطع ، ولا يتزاحم أو يتعارض القطعيان ، وهو من الشواهد على قانون نؤسسه هنا وهو عدم التعارض بين القرآن والعلم إلى يوم القيامة .
(وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي الأسود الديلي( ) أن عمر بن الخطاب رفعت إليه امرأة ولدت لستة أشهر فهمّ برجمها ، فبلغ ذلك علياً فقال : ليس عليها رجم ، قال الله تعالى { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين }( ) وستة أشهر فذلك ثلاثون شهراً.
وأخرج وكيع وعبد الرزاق وابن أبي حاتم عن فايد بن عباس قال : أتي عثمان بامرأة ولدت في ستة أشهر فأمر برجمها ، فقال ابن عباس : إنها إن تخاصمك بكتاب الله تخصمك ، يقول الله { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين }( ) ويقول الله في آية آخرى { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً}( ) فقد حملته ستة أشهر فهي ترضعه لكم حولين كاملين ، فدعا بها عثمان فخلى سبيلها . وأخرج ابن جرير من وجه آخر من طريق الزهري)( ).
الظاهر أن المراد قائد ابن عباس لأن ابن عباس اصيب بالعمى في آخر أيامه وقائده هو عبد الله بن السائب .
وليس عند عبد الله بن عباس ولد اسمه قائد ، ومن أولاده :
الأول : العباس ، وهو أكبر أبنائه ، وبه يكنى ، وأمه زرعة بنت مشرح بن معدي كرب من كندة ، وهي أم أخيه علي بن عبد الله بن عباس أيضاً ، وروى العباس عن أبيه و(فولد العباس بن عبد الله ، عبد الله وأمه مريم ابنة عباد بن مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، وعون بن العباس وأمه حبيبة بنت الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى)( ).
الثاني : علي بن عبد الله بن عباس ، ولد ليلة استشهد الإمام علي عليه السلام سنة أربعين فسمي باسمه ، وهو أصغر أولاد عبد الله ، وكني بكنية الإمام علي أبا الحسن ولكن عبد الملك بن مروان قال له :
لا والله لا أحتمل لك الاسم والكنية جميعاً، فغيّر أحدهما ، فغيّر كنيته فصيرها أبا محمد، وله يقول الشاعر من الرجز :
يا أيّها السائل عن عليّ … تسأل عن بدرٍ لنا بدريّ
عبنّكٌ في العيص أبطحيّ … سنايله عزته مضيّ
أغلب في العلياء هاشمي … ولين الشيمة شمريّ
ليس بفحّاشٍ ولا بذيّ … مردّد في الحسب الزكيّ
حل محل البيت زمزميّ … قرم لنا مبارك عباسيّ
زمزمت يا بوركت من طويّ … بوركت للساقي وللمسقي
ولما ولد علي بن عبد الله ولد معه في تلك السنة لعبد الله بن جعفر غلام فسماه علياً، وكناه بأبي الحسن، فبلغ معاوية فوجه إليهما أن انقلا اسم أبي تراب وكنيته عن ابنيكما، وسمّياهما باسمي، وكنياهما بكنيتي، ولكل واحد منكما ألف ألف درهم( ).
فلما قدم الرسول عليهما بهذه الرسالة سارع إلى ذلك عبد الله بن جعفر فسمى ابنه معاوية، وأخذ ألف ألف درهم.
وأما عبد الله بن عباس، فإنه أبى ذلك، وقال: حدثني علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال : ما من قوم يكون فيهم رجل صالح، فيموت، فيخلف فيهم مولود، فيسمونه باسمه إلا خلفهم الله بالحسنى، وما كنت لأفعل ذلك أبداً، فأتى الرسول معاوية، فأخبر بخبر ابن عباس، فردّ الرسول وقال: فانقل الكنية عن كنيته ولك خمس مئة ألف. فلما رجع الرسول إلى ابن عباس بهذه الرسالة قال: أما هذا فنعم، فكناه بأبي محمد( ).
وكان يسجد لله كل يوم ألف سجدة أي يصلي خمسمائة ركعة.
توفى علي بن عبد الله بن العباس سنة سبع عشرة ومائة في إمارة هشام.
وإليه يرجع نسب خلفاء بني العباس ، وكان مع عبد الملك بن مروان في حربه مع عبد الملك بن الزبير .
إلى أن اغتاظ منه عبد الملك في زواجه من مطلقته لبابة بنت عبد الله بن جعفر ، فلما تولى الحكم الوليد بن عبد الملك صار يعيبه ثم اتهمه بقتل ابن جارية له واسمه سليط فضربه وأقامة الوليد في الشمس .
الثالث : الفضل بن عبد الله بن عباس ، لم يعقب.
الرابع : عبيد الله بن عبد الله ، لا عقب له.
ولو تعارض قول بعض الفقهاء مع منطوق القرآن ، وشواهد وحقائق العلم فلا يؤخذ بقول هذا الفقيه .
ترى لو كان الفقيه الذي قال أكثر مدة الحمل أربع أو خمس سنوات حاضراً في هذا الزمان ، ورآى كيف أن الطب الحديث والذي يتصف بالدقة مرآة لإعجاز القرآن ، ويخبر بأن أكثر مدة الحمل عشرة أشهر فهل يبقى على قوله ذاك ، المختار لا .
ويسمى الحمل أعلاه في عرف الأطباء الحمل المديد ، وهو قليل قد يصل إلى نسبة 5% أو أقل من مجموع الولادات , وفيه أضرار على الجنين أو عليه وعلى الأم لشيخوخة المشيمة .
وهذه المسألة ذات أهمية في أوان الطلاق ، وفي المواريث ، ونسبة الولد إلى والده شرعاً .
ولم يرد أن مطلقة أو متوفى عنها زوجها بقيت عدتها أربع سنوات بسبب ما في رحمها.
وعلى فرض أنه ولد الولد لسنتين من حين الحمل وأنكر الأب الولد مثلاً ، ورفع الأمر للحاكم فهل يمكن الرجوع إلى تحليل الحامض النووي (DNA) الجواب نعم ، ولا تشمله أدلة (الولد للفراش) إذا ثبت أن الزوج لم يطأ زوجته منذ سنتين ، إنما يتعلق الدليل أعلاه إذا وطأها في المدة المحتملة للحمل أي أنه وطأها قبل الولادة بين ستة إلى تسعة أو عشرة أشهر.
وقيل أن هناك طريقة علمية في هذا الزمان لتحديد اثبات أبوة الرجل لولده وتعيين جنس المولود بعد شهرين من الحمل فتؤخذ مسحة من فم الأب أو الشخص المحتمل للتلقيح ، وسحب عينة من دم الأم الحامل بعد شهرين من الحمل .
ووردت عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تدل على أن المراد من قوله تعالى [وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ] ( ) أعم من جنس المولود ، منها قال عبد الله بن مسعود (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك .
ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات ، بكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد . فوالذي لا إله إلا غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها .
وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها .
وأخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً على حالها لا تتغير ، فإذا مضت الأربعون صارت علقة ، ثم مضغة كذلك( )، ثم عظاماً كذلك( ).
فإذا أراد أن يسوي خلقه بعث إليه ملكاً فيقول : يا رب ، أذكر أم أنثى، أشقي أم سعيد ، أقصير أم طويل ، أناقص أم زائد.
قوته أجله ، أصحيح أم سقيم ، فيكتب ذلك كله .
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي حاتم ، عن ابن مسعود قال : النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك من الأرحام بكفه فقال : يا رب ، مخلقة أم غير مخلقة.
فإن قيل غير مخلقة ، لم تكن نسمة وقذفتها الرحم دماً؛ وإن قيل مخلقة قال : يا رب ، أذكر أم أنثى ، أشقي أم سعيد؟
ما الأجل وما الأثر وما الرزق؟ وبأي أرض تموت.
فيقال للنطفة : من ربك ، فتقول : الله.
فيقال : من رازقك ، فتقول : الله . فيقال له : اذهب إلى أمّ الكتاب ، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة . قال : فتخلق فتعيش في أجلها وتأكل في رزقها وتطأ في أثرها ، حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك المكان)( ).
وفيه شاهد على أمور :
الأول : بيان السنة النبوية للقرآن .
الثاني : تأكيد عدم التعارض بين صريح القرآن والعلم .
الثالث : بقاء علم الغيب فيما يخص ما في الأرحام خاصاً بالله عز وجل إلى يوم القيامة .
الرابع : اختصاص أحوال الجنين ومراحل حياة الإنسان بالله عز وجل رحمة بالفرد والجماعة ، ثم أن قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( )، يجعل غير الله متخلفاً عن سبر أغوار حياة الإنسان.
وهل يشمل هذا التخلف الملائكة ، الجواب نعم ، قال تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ).
الخامس : ترغيب الناس بالإيمان والدعاء لأنفسهم وأولادهم.
السادس : بيان قانون من الإرادة التكوينية وهو لا يقدر على توفير أرزاق الناس قبل أن يخلقوا إلا الله عز وجل، وفي التنزيل [وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ]( ).
السابع : تساوي الناس في العبودية لله عز وجل ، والحاجة إلى رحمته في الخلق والتكوين والنشأة ، وفي قبض الروح ، وهو الذي تدل عليه آية البحث .
لقد نزلت آية البحث بالإخبار عن طرو الموت على كل إنسان ، فما أن يخلق الإنسان حتى يشمله احتمال حضور الموت في كل ساعة من حياته ، وهل يدخل فيه الجنين السقط الجواب نعم ، إذا ولجته الروح لذا فيه الدية كاملة حينئذ وقد تقدم أعلاه حديث عبد الله بن مسعود يرفعه .
دية الجنين
والجنين لغة الشئ المستور ، وكل شء مغطى ومخفي يطلق عليه جنيناً ، وأما في الإصطلاح فهو المخلوق الذي يتكون من رحم المرأة بعقد النكاح والوطئ.
وهل يشمل الإصطلاح في هذا الزمان طفل الأنابيب ونحوه مما يرتقي فيه العلم والطب مستقبلاً الجواب نعم.
(مسألة 1) الإجهاض حرام، وتجب فيه الدية، فاذا أسقطت المرأة جنينها تجب عليها الدية لأبيه أو للورثة الآخرين، وفيها تفصيل على خمسة وجوه:
الأول: مدة الحمل أربعون يوماً ديته عشرون دينارا ذهباً لكونه في حال النطفة، وكل دينار مثقال ذهب عيار (18) حبة.
الثاني: مدة الحمل بين واحد وأربعين إلى ثمانين يوماً ديته أربعون ديناراً ذهباً لأنه علقة.
الثالث: مدة الحمل بين واحد وثمانين وأقل من مائة وعشرين يوماً ديته ستون ديناراً ذهباً لأنه مضغة.
الرابع: تمام أربعة أشهر وكان عظماً لم يكتسِ اللحم فديته ثمانون ديناراً.
الخامس: إذا أكتسى اللحم فديته مائة دينار ذهب،
ولا فرق في هذه الوجوه بين الذكر والأنثى.
السادس: إذا تمت للحمل خمسة شهور فقد ولجته الروح وديته كاملة الف دينار ان كان ذكراً، وخمسمائة دينار ان كان الحمل أنثى، “وورد في المعتبر عن الإمام الصادق عليه السلام: فاذا أكسى اللحم فمائة دينار ثم هي ديته حتى يستهل فاذا إستهل فالدية كاملة”، والمراد من الإستهلال الولادة.
(مسألة 2) يحرم على الطبيبة وغيرها المباشرة في اسقاط الجنين من غير مسوغ ، وكذا يحرم التسبيب، والضمان والدية تكون على الطبيبة ان كانت هي المباشرة لعملية الإسقاط، وليس على الأم او الأبوين إلا إذا كانا هما اللذان طلبا منها الإجهاض، لأن الضمان أما على المسبب أو المباشر بلحاظ الأقوى منهما او الإشتراك، ولو اكتفت الطبيبة بوصف الدواء للزوجة واستعملته الأم وسقط الجنين، فالظاهر ان الدية على الأم لأنها المباشرة مع عدم المسوغ الشرعي.
قانون التفسير الموضوعي لآيات السلم
من خصائص القرآن أن آياته يعضد بعضها بعضاً ، فاذا قال أحد التابعين أو تابعي التابعين أن هذه الآية منسوخة تأتي آية أخرى لتدل على عدم نسخها ، وهو من أسرار احتراز الصحابة من القول بالنسخ ، فلم يكثروا من ذكر آيات منسوخة ، وفيه مسائل :
الأولى : إنه من إعجاز تأديب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه.
الثانية : إعانة العلماء في الأجيال المتعاقبة للإمتناع عن رمي آيات كثيرة بالنسخ من غير دليل .
الثالثة : فيه دعوة للإمتناع عن إتباع ومحاكاة الذي يكثر من تعداد الآيات المنسوخة من غير دليل من القرآن أو السنة.
الرابعة : تأكيد قانون سلامة آيات السلم والصلح والموادعة ، فلا أصل لما قيل بأن آية السيف نسخت نحو (128) آية، وليس في القرآن لفظ السيف، وآية السيف هي [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
وقد صدر لنا بخصوص (قانون آيات السلم محكمة غير منسوخة) الأجزاء التالية من هذا السِفر :
الأول : الجزء السادس بعد المائتين .
الثاني : الجزء السابع بعد المائتين .
الثالث : الجزء الثامن بعد المائتين .
وستة أجزاء أخرى إن شاء الله بهذا الخصوص.
وهل كانت كثرة صعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنبر من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، الجواب نعم.
والمقصود من آيات السلم في المقام وجوه :
الأول : آيات الصبر على أذى مشركي قريش ، ومن والاهم ، منها قوله تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ]( ).
الثاني : آيات العفو والصفح ، قال تعالى [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( ).
قيل نسختها آية القتال( ) ، وهي قوله تعالى [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] ( ).
وتدل بعض الأخبار على عمل المسلمين بمضامين الآية حتى في السلام.
وأخرج ابن أبي شيبة ، عن شعيب بن الحجاب قال : كنت مع علي بن عبد الله البارقي ، فمر علينا يهودي أو نصراني ، فسلم عليه( )، فقال شعيب: قلت إنه يهودي أو نصراني ، فقرأ علي آخر سورة الزخرف وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
الثالث : آيات الصلح والموادعة ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
ومن الإعجاز في السنة النبوية سعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصلح مع الكفار وفيه شاهد بأن معجزات النبوة ترجح كفة الحق ، وتجذب الناس إلى ميادين الهدى.
ويمكن تأسيس علم التفسير الموضوعي لآيات السلم على نحو مستقل , وقوانين أخرى منها :
الأول : قانون إحصاء آيات السلم والصلح والصفح .
الثاني : قانون أسباب نزول آيات السلم والعفو والموادعة ، وموضوعية السنة النبوية فيها.
الثالث : قانون موضوع آيات السلم.
الرابع : قانون عدم نسخ آيات السلم وبيان مصاديق قرآنية ، وشواهد نبوية تدل على هذا القانون.
الخامس : قانون الجمع بين آيات السلم والعفو والصبر .
السادس : قانون منافع آيات السلم في كل زمان .
السابع : قانون المكي والمدني في آيات السلم .
الثامن : قانون آيات السلم في السنة النبوية القولية والفعلية .
شهود صلاة الصبح
من معاني مواظبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات على صلاة الصبح عند طلوع الفجر الرجاء والتوسل إلى الله لإنتشار فجر الإسلام بين الناس ، وهل هو من مضامين قوله تعالى [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ) الجواب نعم ،والمراد من [قُرْآنَ الْفَجْرِ] صلاة الصبح ، قيل لأنها تصلى بسورتين طويلتين ، ولكن المعنى أعم من جهات :
الأولى : شهود ملائكة الليل وملائكة النهار لصلاة الصبح ، فيكتب للذي يصليها في وقتها في ديوان الليل من قبل ملائكة الليل ، ويكتب في ديوان أعمال النهار من قبل ملائكة النهار.
و(عن أبي الدرداء قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { إن قرآن الفجر كان مشهوداً }( ) قال : يشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار) ( ).
الثانية : يحضر جمع من المؤمنين صلاة الصبح مع أنها في وقت يميل الإنسان فيه إلى البقاء في فراشه ، وعدم الخروج من البيت سواء في الصيف وشدة الحر ، أو في الشتاء حيث البرد القارص .
الثالثة : تجليات القدرة الإلهية في النظام الكوني وإطلالة الفجر من رحم الليل ، وهو لا يتعجل بالظهور الأفقي ، ولا تستطيع ظلمة الليل حبسه، قال تعالى [وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ).
الرابعة : قهر حب الصلاة والإمتثال لأمر الله للرغبة في استمرار النوم واللبث في السرير .
الخامسة : عندما يحضر المؤمن صلاة الصبح جماعة يشكر الله في نفسه على فوزه بهذه النعمة ، فتكون شهادة من الذات للنفس والجوارح كيف تغلبت على النفس الشهوية ، ولم تجنح للميل إلى الراحة والفراش ، وفي التنزيل [كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]( ).
السادسة : بيان قانون وهو أن الصلاة من المشهودات ، وان تفرق المصلون بعد أدائها .
فصحيح أنها ليست مثل الأرض والسماء والأنهار ، كآيات ثابتة وجلية، إلا أن الله عز وجل جعل صلاة الصبح أمراً مشهوداً وأثراً باقياً ونفعاً متصلاً ، ليكون من مصاديق آية البحث وقوله تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ]( )، لتحضر صلاة الصبح يوم القيامة فتشهد لصاحبها ، وتكون برزخاً بينه وبين النار ، خاصة وأن فيها تلاوة للقرآن والقرآن شافع ومشفع.
لبيان قانون من اللطف الإلهي وهو أن الفعل العبادي كالصلاة والصيام والزكاة أمر مشهود وباق ، وهو لا يغيب عن الله عز وجل ، إنما تظهر بركاته بأسباب جلب المنفعة ودفع المفسدة.
ليكون من معاني [إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ) ترتب الأثر والخير والفلاح وفق عمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
لغات القرآن
لقد نزل القرآن عربياً في لغته وبصيغ أبهرت الفصحاء ، وجذبت البلغاء، وجعلتهم يشهدون ويقرون بأنه فوق كلام البشر ، لقد نالت اللغة العربية بنزول القرآن شرفاً لم تنله لغة أخرى.
وكل آية من القرآن إنقاذ لها من الإندثار والذوبان في لغات الدول العظمى المحيطة بأرض الجزيرة العربية ، ومنها :
الأولى : اللغة الرومانية .
الثانية : اللغة الآرمية .
الثالثة : اللغة الفارسية .
الرابعة : لغة أهل الحبشة .
وكان من أثر التباعد بين سكان القبائل العربية ، ومجاورة عدد منهم لبلاد العجم وجود ألفاظ مخصوصة لكل قبيلة.
وقد تستعمل ذات اللفظ عدة قبائل مع التباين في المعنى الذي وضع له أو انتقل إليه اللفظ فمثلاً لفظ أدفئ معناه قم بالتدفئة ، ولكنه بلغة كنانة يعني القتل ، قيل كما في حديث قتل مالك بن نويرة ونفر من بني ثعلبة بن يربوع بعد أن نادى خالد بن الوليد : أدفئوا أسراكم( ).
إلى جانب المشترك اللفظي بأن تكون للفظ الواحد عدة معان ، كما في لفظ العين ، إذ يدل على الآلة الناظرة ، والرجل الوجيه ذي الشأن ، والبئر، والجاسوس ، والراصد .
وكان العرب قبل الإسلام يحجون إلى البيت بوقت مخصوص من كل سنة ، ويأتون مكة للعمرة والزيارة وهذا المجئ بلطف من عند الله ، وفي خطاب من الله إلى إبراهيم عليه السلام [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( )، فصارت لغة قريش هي اللغة الأم ، كما أن مكة مركز تجاري عالمي ، وأسواق مكة منتديات يحضرها في الموسم أبرز الشعراء والأدباء ، فنزل القرآن بلغة قريش ، مع وجود عدد من اللهجات وتسمى اللغات ، وتخرج قوافل قريش إلى الشام واليمن ، وتمر بأراضي ومساكن القبائل ويختلطون معهم.
قال أبو بكر الواسطي في كتابه الإرشاد في القراءات العشر: في القرآن من اللغات خمسون لغة: لغة قريش ، وهذيل ، وكنانة ، وخثعم ، والخزرج، وأشعر ، ونمير ، وقيس ، وجرهم ، واليمن ، وأزد شنوءة ، وكندة ، وتميم وحمير ، ومدين ، ولخم ، وسعد العشيرة ، وحضرموت ، وسدوس ، والعمالقة ، وأنمار ، وغسان ، ومذحج ، وخزاعة ، وغطفان ، وسبأ ، وعمان ، وبنو حنيفة ، وثعلب ، وطي ، وعامر بن صعصعة ، وأوس ، ومزينة ، وثقيف ، وجذام ، وبلى ، وعذرة ، وهوازن ، والنمر ، واليمامة.
ومن غير العربية : الفرس ، والروم ، والنبط ، والحبشة ، والبربر ، والسريانية ، والعبرانية ، والقبط( ).
ومن اللغات التي جاءت في القرآن كل من :
الأولى : لغة قريش ، كما في قوله تعالى [مُهْطِعِينَ]( ) أي مُسرعين بلغة قريش .
الثانية : لغة هذيل ، كما في قوله تعالى [ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا]( ) أي صار.
الثالثة : لغة طي ، رجزاً في قوله تعالى [إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ]( )، أي عذاباً.
الرابعة : لغة كنانة ، قال تعالى [سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ]( )، أي الدروع بلغة كنانة.
والسرابيل جمع سربل ، والمراد من السرابيل الأولى التي تقيهم الحر الثياب من القطن والصوف والخز والكتان.
ولم تذكر الآية الوقاية من البرد لدلالتها على الوقاية مطلقاً ، ولأن شدة الحر في الجزيرة هي الغالبة ، ولبيان لزوم الستر في الحر مطلقاً ، كما في ذكر القرآن للمشرق والمغرب بقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ) والمراد جميع الجهات ، فيشمل الشمال والجنوب.
أما السرابيل الثانية فالمراد منها الدروع لأنها واقية من الحرب والقتال ، وصيغة الخطاب [تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ] ( ) موجه للناس جميعاً لبيان قبح الإقتتال بينهم ، كما هو إنذار للمسلمين من القتال بينهم ، وفيه دعوة للسلم والسلام وإستدامة العمل بآياته .
ولم يرد لفظ [سَرَابِيلَ] في القرآن إلا مرتين ، وفي هذه الآية بالخصوص، كما ورد لفظ (سرابيلهم) بخصوص أهل النار ، قال تعالى [سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ]( ).
وهي وإن قيل من لغة كنانة ولكن قريشاً وثقيفاً كانوا يتكلمون بها ، فحينما قال نافع بن الأزرق لابن عباس (أخبرني عن قوله عز وجل {ما له في الآخرة من خلاق}( )، قال : من نصيب . قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم ، أما سمعت أمية بن أبي الصلت وهو يقول :
يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم … إلا سرابيل من قطر وأغلال) ( ).
الخامسة : لغة الأوس والخزرج ، منها اللينة في قوله تعالى [مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ]( )، أي نخلة [انفَضُّوا إِلَيْهَا]( )، أي ذهبوا بلغة الخزرج و[قَاتَلَهُمْ اللَّهُ]( )، أي لعنهم.
السادسة : لغة خثعم ، ومنها شططاً في قوله تعالى [قُلْنَا إِذًا شَطَطًا]( )، أي كذباً.
السابعة : لغة تميم ، كما في قوله تعالى [فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ]أمد: نسيان.
الثامنة : لغة اليمن ، قال تعالى [تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا] ( ) تميلوا ميلاً عظيماً: تخطئون خطأ بينا.
التاسعة : لغة جرهم ،قال تعالى [فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ] ( ) والودق بلغة جرهم المطر ، وقيل المراد البرق .
العاشرة : لغة كندة ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً] ( ) فجاجاً: طرقاً.
الحادية عشرة : لغة حمير ، قال تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( )، تفشلا : تجنباً.
الثانية عشرة : لغة مدين ، قال تعالى [فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ]( ) ، فافرق : فاقض.
الثالثة عشرة : لغة لخم قوله تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ] ( ) الإملاق: الجوع .
الرابعة عشرة : لغة حضرموت ، قوله تعالى [رِبِّيُّونَ]( )،أي رجال ، دمرنا : أهلكنا ، لغوب : إعياء( ).
الخامسة عشرة : لغة الحجاز , وفيها نزل أكثر القرآن .
السادسة عشرة : لغة سدوس ، قوله تعالى [فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] ( ) يعني فلا تحزن بلغة سدوس( ) .
السابعة عشرة : لغة أنمار ، قال تعالى [وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا] ( ) أغطش : أظلم.
الثامنة عشرة : لغة غسان ، قال تعالى [وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ] ( ) طفقا : عمداً .
التاسعة عشرة : لغة بني حنيفة ، قال تعالى [أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] ( ) العقود: العهود .
العشرون : لغة تغلب .
الحادية والعشرون : لغة أسد.
الثانية والعشرون : لغة قيس عيلان ، قال تعالى [وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً] ( ) نحلة: فريضة.
الثالثة والعشرون : لغة عامر بن صعصعة.
الرابعة والعشرون : لغة مزينة، قال تعالى [لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ] ( )لا تغلوا: لا تزيدوا .
الخامسة والعشرون : لغة ثقيف ، الأحقاف: الرمال .
السادسة والعشرون : لغة جذام ، قال تعالى [فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ] ( ) جاسوا خلال الديار: تخللوا الأزقة .
السابعة والعشرون : لغة عُمان : ومنها قوله تعالى [قَوْمًا بُورًا]( )، أي هلكى.
الثامنة والعشرون :اللغة الفارسية ، منها الأرائك ، قال تعالى [هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ] ( ) والأرائك جمع أريكة وهي السرير المنجّد الجميل ، والكلمة فارسية مركبة ، وقوله تعالى [وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ] ( ) أي حجارة من طين بالغة الفارسية .
التاسعة والعشرون : لغة الحبشة ، (وَيا سَماءُ أَقلِعي) ، يعني احبسي (غيض الماء ، يعني نقص. وافقت لغة الحبشة.) ( ).
الثلاثون : لغة الروم : وقال السيوطي (ومن اللغة الرومية: الفِرْدَوْس، وهو البستان.
القُسْطاس وهو الميزان. السَّجَنْجَل: المِرآة. البِطاقة: رُقْعَةٌ فيها رَقْمُ المتَاعِ. القَرَسْطُون: القَفَار. الاصطرلابُ مَعْروف. القُسْطناس: صَلابةُ الطِّيب. القَسْطَرِيّ، والقُسْطار: الجِهْبِذ. القَسْطَل: الغُبار. القُبْرسُ: أَجْوَدُ النُّحَاس.
القِنْطار: اثنا عشر ألف أوقيَّة. البِطْرِيقُ: القائد. القَرَامِيد: الآجر. التِّرْياق: دواء السُّموم. القَنْطَرَةُ معروفة. القيطون: البيتُ الشَّتوي. النِّقْرِس والقُولَنْج: مَرَضان.
سأل عليٌّ شُرَيْحاً مسألة فأجابه بالصواب فقال له: قَالون: أي أصبتَ ، بالرُّومية ، انتهى ما أورده الثعالبي.
وقال ابن دُرَيد في الجمهرة: الكِيمياء ليس من كلام العرب، قال: ودِمَشق معرّب)( ).
ليكون من كلمات القرآن بالرومية أعلاه : الفردوس لقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً]( ).
والقسطاس في قوله تعالى [وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ]( )، أي الميزان.
الواحدة والثلاثون : اللغة القبطية ، القنطار بقوله تعالى [إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ]( )، والقنطار (بالرومية اثنتا عشرة ألف أوقية.
وقال الخليل : زعموا أنه بالسريانية ملء جلد ثور ذهبا أو فضة. وقال بعضهم: إنه بلغة بربر ألف مثقال. وقال ابن قتيبة: قيل إنه ثمانية آلاف مثقال بلسان أهل إفريقية)( ).
الثانية والثلاثون : اللغة العبرية (والقمل) قال الواسطي الدبا بلسان العبرية والسريانية ، وفي قوله تعالى [كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ]( )، قيل بالعبرانية محا عنهم.
الثالثة والثلاثون : لغة العمالقة ((بِعِجلٍ حَنيذ) ، ما يُشوى بخذٍّ في الارض بلغة العمالقة، وما يشوى بالحجارة بلغة هذيل) ( ).
وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى [بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ]( )، لأن تلك الكلمات صارت جزء من العربية , والأرجح أنها كانت عربية وتكلمت بها الأمم الأخرى كما أن لغات القبائل العربية هي عربية ، إنما المراد من لغاتها أي لهجاتها ، وهي ليس لهجات عامية كالتي في هذا الزمان .
وقد يتوافق لفظ بالعربية وغيرها من اللغات كما في الإستبرق فهو بالعربية من الديباج إذ تتفق اللغات في عدد من الكلمات .
وهل هذا الإتفاق فرع قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) الجواب نعم، وهو من معاني مصاديق قوله تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً] ( ).
وقد أحصيت الإلفاظ غير العربية الواردة في القرآن ، وأختلف في عددها قيل (120) وقيل (275) كلمة من مجموع كلماته (77437) كلمة ، وقيل أن عددها من دون تكرار أي باحتساب الكلمة الواردة مرات عديدة في القرآن كلمة واحدة أقل .
وعلى فرض أن هذه الكلمات من لغات أخرى ، فهو بشارة دخول الأمم في الإسلام ، وفيه دعوة للألفة والموادعة بين المسلمين والملل والشعوب الأخرى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الرابعة والثلاثون : اللغة الهندية : المشكاة( ) كما في قوله تعالى [كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ..] ( ) (والمِشْكاةُ: طويق صغير في حائط على مقدار كوة، إلا أنها غير نافذة) ( ).
الخامسة والثلاثون : لغة النبط كما في قوله تعالى [(يَكُن لَهُ كِفلٌ مِنها) يعني بالكفل النصيب. وهي بلغة وافقت النبطية. مثل قوله في سورة الحديد: (يُؤتِكُم كِفلَينِ مِن رَحمَتِه) يعني نصيبين لغة وافقت النبطية.
(وَكانَ اللَهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ مُقيتا)] ( ) وقوله تعالى (إِن إبراهيمَ لَحَليمٌ أَوّاه) ( ) يعني بِأوّاهٍ الدُّعاء إلى الله. بلغة توافق النبطية) ( ).
وقد يتبادر إلى الأذهان أن كل قبيلة لها لغة ، ولكن المقصود من اللغة آنذاك اللهجة والإنفراد بالتلفظ بعدد من الكلمات والأسماء بغير التي ينطقها غيرهم ، وكان الإنسان حينما يتحدث يعرفون من لهجته إلى أي قبيلة ينتمي .
وتختص اللهجة الخاصة بعدة كلمات من العربية أي أثناء الحديث بالعربية تصدر بضع كلمات من المتكلم تدل على لهجته.
ومسألة التباين في اللهجة موجود في أغلب لغات وبلدان العالم إلى يومنا هذا ، فترى كل مدينة تستقل ببعض الكلمات والإصطلاحات ، وقد تكون للقرية الواحدة لهجة خاصة بها .
وهناك كلمات ولهجات لقبائل متعددة ورد بعضها في القرآن.
وتسميتها لغة نوع مسامحة.
واستدل عليه بما ورد (عن ابن عباس قال : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، يقول : أنا ابتدأتها)( ).
ولكن هذا الإستدلال وقلة مثل هذه المفردات لا يعني وجود لهجات هذه القبائل كلها في القرآن.
والإجماع على نزول القرآن بلغة ولهجة قريش ، وفي ورود بعض الكلمات بلهجة عدد من القبائل مسائل :
الأولى : لغة قريش هي الأم والأصل ومجمع لغات العرب ، وهو من أسرار قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( )، فتتداخل وتتلاقح اللهجات في مكة ، لتكون مقدمة لنزول القرآن.
الثانية : إكرام الله عز وجل لقبائل العرب في القرآن خاصة وأن عدداً من المهاجرين من هذه القبائل ، فاذا سمع أفراد القبائل بآيات القرآن لم ينشغلوا بمفردات الألفاظ ، فهي معروفة عندهم ، إنما تكون عنايتهم بوجوه الإعجاز فيها، وكذا بالنسبة للأنصار لوجود كلمات من لغة الأوس ، ولغة الخزرج في القرآن.
الثالثة : وجود لهجات القبائل في القرآن من مصاديق عربيته ، قال تعالى [إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
وتفيد كلمات آية البحث المعنى والدلالة والغرض منها فابتدأت الآية بسور الموجبة الكلية (كل) لبيان قانون وهو عدم استثناء أي شخص من الموت ومغادرة الدنيا ، وذكرت الآية الموت باذاقته وهو من فضل الله بالتخفيف عن المؤمنين عند تلاوة الآية الكريمة.
الآيات التي ذكرت لغة القرآن
الظاهر أن العرب لم يذكروا في القرآن كأمة ، إنما ورد في القرآن ذكر لسان ولغة القرآن وأنها عربية ، لبيان قانون وهو أن لغة وأحكام القرآن هي صبغة سماوية ، ومن الكلي الطبيعي الذي يشترك به كل المسلمين ، لذا تجب قراءة القرآن في الصلاة بالعربية ، والآيات التي ذكرت مادة (عرب) هي :
الأولى : [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الثانية : [وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ]( ).
الثالثة : [وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا]( ).
الرابعة : [قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( ).
الخامسة : [كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ]( ).
السادسة : [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ]( ).
السابعة : [إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الثامنة : [وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ]( ).
التاسعة : [ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ]( ).
العاشرة : [بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ]( ).
كما ذكر القرآن الأعراب في آيات متعددة منها قوله تعالى [مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
[قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
نعم ورد ذكر الروم في القرآن بلحاظ أنهم أهل كتاب قال تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ]( )، وفيه إشارة إلى فارس أيضاً لأن الحرب وقعت بينهما وسميت السورة باسم الروم، و(عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلّى الله عليه : مَن قرأ سورة الرّوم كان له من الأجر ، عشر حسنات بعدد كلّ ملك سبَّحَ لله بين السماء والأرض وأدرك ما ضيّع في يومه وليلته)( ).
قال المفسرون : كانت في فارس امرأة لا تلد إلاّ الملوك والأبطال ببسم الله الرحمن الرحيم ، فدعاها كسرى فقال : إنّي أُريد أن أبعث إلى الروم جيشاً وأستعمل عليهم رجلاً من بنيكِ فأشيري عليَّ أيّهم أستعمل.
فقالت : هذا فلان ، أروغ من ثعلب ، وأحذر من صقر ، وهذا فرخان أنفذ من سنان ، وهذا شهريراز هو أحلم من كذا ، فاستعمل أيّهم شئت.
قال : فإنّي استعملتُ الحليم ، فاستعمل شهريراز ، فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم فقتلهم وخرّب مدائنهم وقطع زيتونهم ، وكان قيصر بعث رجلاً يدعى يحنس وبعث كسرى شهريراز فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فَغَلَبت فارسُ الرومَ .
فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وآله وأصحابه بمكّة فشقّ عليهم ، وكان النبيّ صلّى الله عليه يكره أنْ يظهر الأمّيّون من المجوس على أهل الكتاب من الروم .
وفرح كفّار مكّة وشمتوا ولقوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنّكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أُمّيون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم. فإنّكم إنْ قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم.
فأنزل الله عزّ وجلّ [الم * غُلِبَتْ الرُّومُ]( )، إلى آخر الآيات.
فخرج أبو بكر إلى الكفّار فقال : فرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا فلا تفرحوا ولا يقرّنَ الله أعينكم ، فوالله ليظهرنّ الروم على فارس ، أخبرنا بذلك نبيُّنا.
فقام إليه أُبيّ بن خلف الجمحي فقال : كذبت يا أبا فضيل.
فقال له أبو بكر : أنتَ أكذب يا عدوّ الله.
فقال : اجعل بيننا أجلاً أُناحبُكَ عليه.
والمناحبة : المراهنة على عشر قلائص منّي وعشر قلائص منك ، فإنْ ظهرت الروم على فارس غرمتُ ، وإنْ ظهرت فارس غرمتَ ، ففعل ذلك وجعلوا الأجل ثلاث سنين.
فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره وذلك قبل تحريم القمار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما هكذا ذكرتُ ، إنّما البضع ما بين ثلاث إلى التسع فزايدهُ في الخطر ومادّه في الأجل.
فخرج أبو بكر فلقي أُبيّاً فقال : لعلَّك ندمت قال : لا ، قال : فتعال أزايدك في الخطر وأُمادّك في الأجل فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين.
قال : قد فعلت فلمّا خشي أُبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه فقال : إنّي أُخاف أن تخرج من مكّة فأقم لي كفيلاً ، فكفل له ابنه عبد الله بن أبي بكر.
فلمّا أراد أُبي بن خلف أن يخرج إلى أحُد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه قال : والله لا أدعك حتّى تعطيني كفيلاً فأعطاه كفيلاً ثمّ خرج إلى أحُد.
ثمّ رجع أُبيّ بن خلف فمات بمكّة من جُراحتِهِ التي جرحه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حين بارزه.
وظهرت الروم على فارس يوم الحُديبيّة وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم. هذا قول أكثر المفسِّرين.
وقال أبو سعيد الخدري ومقاتل : لمّا كان يوم بدر غلب المسلمون كفّار مكّة وأتاهم الخبر أنّ الروم قد غلبوا فارس ففرح المؤمنون بذلك ( ).
وقد أكرم الله سبحانه المسلمين عامة بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]( ) .
وعن مجاهد في قوله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس}( ) يقول : على هذا الشرط : أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر ، وتؤمنوا بالله . يقول : لمن أنتم بين ظهرانيه كقوله {ولقد اخترناهم على علم على العالمين}( )) ( ).
قانون الإختصاص اللغوي للقرآن
تتصف اللغة العربية بتعدد معاني ومصاديق اللفظ المتحد فيرد فيها المشترك اللفظي وهو إتحاد اللفظ وتعدد المعاني المقصودة منه ، وتعرف بالقرائن والمرجحات الدلالية.
والمشترك المعنوي ، وهو لفظ جامع يدل على معنى كلي له مصاديق وأفراد متعددة كلفظ الإنسان ، فيدخل فيه زيد ، أحمد ، فاطمة، ولفظ كتاب ولفظ الحيوان الذي ينطبق على الحصان والشاة والأسد والكلب والحمار .
ولا يقبل المشترك اللفظي القسمة مثل العين ، الجاسوس ، البئر .
أما المشترك المعنوي فيقبل القسمة مثل الكلمة فهي مشترك معنوي تنقسم إلى الاسم والفعل والحرف ، ومصاديق المشترك المعنوي كثيرة وغير معدودة بخلاف المشترك اللفظي .
وقد يكون اللفظ مشتركاً لفظياً ، ومشتركاً معنوياً في آن واحد ، ويعرف بالقرائن مثل الصلاة ، والمشهور أنه مشترك لفظي ، وقال ابن هشام أنه مشترك معنوي.
وعرفه ابن فارس ت 375هـ (معنى الإشتراك أن تكون اللفظة محتملة لمعنيين أو أكثر) ( )، والمشترك اللفظي كثير في اللغة.
وقد يميز فيه بين الأصل الذي وضع له اللفظ والمعنى المنقول إليه ، وبين الحقيقة والمجاز ، وبين الأمر والخبر فمثلاً قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ]( )، ورد بصيغة الخبر والمراد منه الأمر والتكليف، وهو لا يمنع من بقاء الخبر على حاله .
ليكون من إعجاز القرآن جمع الآية بين الخبر والأمر ، أو بين الخبر والنهي ، أو الإستفهام والنهي ، كما في قوله تعالى [فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ]( )، وفي قوله تعالى [التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ]( )، ورد عن ابن مسعود قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن السائحين ، فقال : الصائمون( ).
وهو من الإستعارة لبيان أن الصيام حبس للنفس عن الشهوات ، ومناسبة للسياحة في عالم الملكوت ، وتدبر في الآخرة ، وهو أسمى من السياحة في الأرض ، ويدل على هذا المعنى ورود لفظ (سائحات) في القرآن مع أن الأصل أن تقر المرأة في بيتها ، قال تعالى [عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا]( ).
ولابد أن الأصل هو وضع اللفظ لمعنى مخصوص ثم تعدد إنطباقه على معاني أخرى بينها وبين المعنى والمصداق الأصلي وجه تشابه .
وقد يكون تعيين الأصل الذي وضع له اللفظ مشكلاً ، والمراد من المشكل أي أشكل ودخل في هيئة غيره.
ومن المشترك اللفظي لفظ (الأُمة) ويراد منه وجوه :
الأول : الجماعة من الناس.
الثاني : الطائفة والفرقة.
الثالث : الشَعب .
الرابع : الأمة من الناس الأعم والأكبر التي يجمعها جامع مشترك كالدين أو الملة ، كما في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس : الأمة : الحين من الدهر( ).
السادس : القرن من الناس ، فكل جيل من الناس هو أمة وإن تباينت مشاربهم ومذاهبهم.
لقد جعل الله عز وجل اللغة أسمى وسيلة عند الإنسان لأمور الدين والدنيا ، وأحب الله عز وجل أن يعيده الناس، وخبر عبادة هي بالقول والفعل ، لذا تفضل الله و[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) ليكون هذا التعليم بداية عبادة الإنسان لله عز وجل لذا كانت أول كلمة نطق بها آدم هي الحمد لله كما ورد في أهل الجنة قوله تعالى [وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) .
ومن خصائص اللغة العربية أن الذين يتعاهدونها أضعاف الناطقين بها، وهو من إعجاز القرآن الغيري ، فليس من لغة غيرها يتعاهدها مئات الملايين ممن لا ينطقون بها في معاملاتهم الرسمية وفي الأسواق وداخل البيوت ، وكلهم يحرص على تلاوة القرآن بالعربية زيشعر باللذة والرضا عند التلاوة .
قانون لغة الجمع للمنفرد في القرآن خاصة بالله عز وجل
[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
[إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى]( ).
[وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ]( ).
[إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ]( ) هذا ما قاله سحرة فرعون ، ولم يمسي المساء حتى اسلموا.
من أساليب وصيغ اللغة العربية إشارة الإنسان إلى نفسه بصيغة الجمع (أنا) أو بالضمير (نحن) ويراد منه التعظيم أو يقصد غيره .
وعبر الله عز وجل عن نفسه بصيغة الجمع وفق لسان العرب ، ولم يعبر عن نفسه بصيغة التثنية لأنه من المحصور ، وقد يعبر بها الملوك عن أنفسهم ، فيقول (نحن) أو أمرنا ، وليس في القرآن صيغة جمع للمنفرد إلا لله عز وجل.
ولا يدل قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ]( )، على تعدد الإلهة بدليل أن القرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى [وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ]( )، وقوله تعالى [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( ).
وفي سنة (658) هجرية بعث هولاكو بيد أربع رسل من التتار كتاباً إلى ملك مصر سيف الدين (قطز) ونصه (من ملك الملوك شرقاً وغرباً، القان الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء يعلم الملك المظفر قطز، الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمون بإنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك.
يعلم الملك المظفر قطز، وسائر أمراء دولته وأهل مملكته، بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، أنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه. فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر( )، فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ. فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن شكى.
وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد وقتلنا معظم البلاد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب. فأي أرض تأويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم.
فما من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص.
فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال.
فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ومطركم علينا لا يسمع فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفون عند الكلام، وخنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان. فأبشروا بالمذلة والهوان، [فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ]( )، [وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ] ( ).
فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم. فإن أنتم لشرطنا ولأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا.
وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم. فقد حذر من أنذر، وقد ثبت عندكم أن نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سلطنا عليكم من له الأمور المقدرة والأحكام المدبرة، فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل، وبغير الأهنة لملوككم عندنا سبيل. فلا تطلوا الخطاب.
وأسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً، ولا كافياً ولا حرزاً. وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية.
فقد أنصفنا إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم.
والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى.
ألا قل لمصرها هلاون قد أتى … بحد سيوف تنتضى وبواتر
يصير أعز القوم منا أذلة … ويلحق أطفالاً لهم بالأكابر)( ).
وأصاب أهل مصر الخوف خاصة وأن جيش التتر كان ينتصر في كل معركة إلى جانب كثرة جنوده وشدة بأسهم ، ولكن الملك المظفر (قطز) وهو من المماليك كان ثابت الجنان متوكلاً على الله فسيرّ الجيوش ، ودارت معركة عين جالوت في (25 رمضان 1/65 هجرية – 3 ايلول 1260 م) وتقع عين جالوت على نهر الجالود ، وعلى حدود جنين وبيسان .
وكاد التتر أن يخترقوا جيش المسلمين من جهة ميسرة الجيش والإلتفاف عليهم ، ولكن قطزاً نزل بنفسه إلى ميدان المعركة وانضم إلى الأفراد الذين يقاتلون في الميسرة ونادى (واسلاماه واسلاماه) فكان يومئذ سيف الدين اسماً ومسمى ضارباً في أعماق التأريخ .
فلما رآه الجنود اشتدت عزائمهم وقاتلوا اشد قتال فانتصروا في المعركة، ومن يومها توقف الزحف المغولي ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن لأن الدفاع كان باسم الإسلام ، وفيه شاهد على أن المسلمين في هيئة الدفاع عن النفوس والأعراض والممتلكات .
ومن خصائص القرآن أنه لا يخاطب النبي أو الرسول أو الملك إلا بصيغة المفرد ، لأن لغة الجمع للتعظيم في القرآن خاصة بالله عز وجل .
وقد ورد نداء التشريف [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تسعاً وثمانين مرة.
وتقديره بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا كل نفس ذائقة الموت ، وفيه بعث للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح الذات .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا فمن زحزح عن النار بالإيمان والتقوى .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا من أدخل في الجنة بالإيمان والصلاح فقد فاز .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور .
معجزات رضاعة النبي (ص)
قال تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ).
ليثبت وإلى يوم القيامة حكم أخوة الرضاعة , وترتب الأثر عليه، وانتشار الحرمة حسب شروط وأحكام الرضاعة.
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب)( ).
وكان العرب يرسلون أبناءهم إلى أهل البوادي للرضاعة للنشأة في البادية ، وتعلم الفصاحة والفروسية ولتنموا ابدانهم على حليب الإبل ، وإعتياد شظف العيش ، ومن منافعه تفرغ الزوجة لزوجها ، وعدم انشغالها بابنها الرضيع .
ومن الملوك من كان يرسل بعض أولاده إلى البادية ، كما في قصة النعمان بن المنذر ملك الحيرة ، إذ كان له ابن مُسترضع عند سنان بن أبي حارثة ترضعه زوجته سلمى بنت ظالم ، وكان الحارث بن ظالم أخوها عنده خصومة شديدة مع النعمان ، فاحتال على زوجها وعليها فأخذ الصبي وضرب عنقه ، ولحق بمكة فجاور عبد الله بن جدعان .
وقيل نهشته الحية فظن الملك أنهم قتلوه غيلة .
وإرسال الأولاد إلى البادية للإرضاع خاص بالميسورين كما كانت العادة في بعض بيوتات مكة .
وكانت رضاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ثلاث مراحل:
الأولى : رضاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبل أمه آمنة بنت وهب في الأيام الأولى لولادته .
الثانية : رضاعة ثُوَيبَة وهي جارية لأبي لهب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد أرضعته بلبن ابنها مسروح ، وكانت تدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وبعد أن تزوج خديجة ، وكانت خديجة تكرمها وأعتقها أبو لهب بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعث إليها من المدينة بكسوة وصلة حتى ماتت بعد فتح خيبر فبلغت وفاتها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأل عن ابنها مسروح ، وبلبنه أرضعته ، فقيل له قد مات فسأل عن قرابتها فقيل له لم يبق منهم أحد) ( ).
وقال ابن عبد البر : لم تدرك الإسلام( ) .
الثالثة : رضاعة حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي أطول مدة في رضاعته ، كما كانت حاضنة له إذ ردته (ظئره حليمة إلى أمه آمنة بنت وهب بعد خمس سنين ويومين من مولده وذلك سنة ست من عام الفيل فأخرجته آمنة إلى أخوال أبيه بني النجار تزورهم به بعد سبع سنين من عام الفيل ووفيت أمه آمنة بعد ذلك بشهر بالأبواء ومعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقدمت به أم أيمن مكة بعد موت أمه بخمسة أيام)( ).
وسيأتي أنها ردته قبل هذا الوقت .
قال ابن إسحاق : وَحَدّثَنِي جَهْمُ بْنُ أَبِي جَهْمٍ مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ الْجُمَحِيّ : عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، أَوْ عَمّنْ حَدّثَهُ عَنْهُ قَالَ كَانَتْ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ السّعْدِيّةُ ، أُمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ الّتِي أَرْضَعَتْهُ تُحَدّثُ أَنّهَا خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا مَعَ زَوْجِهَا ، وَابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ تُرْضِعُهُ فِي نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، تَلْتَمِسُ الرّضَعَاءَ( ).
وأخوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة هم :
الأول : عبد الله بن الحارث ، وكان يقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (اترى انه يكون بعثٌ بعد الموت فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي والذي نفسي بيده لآخذن بيدك يوم القيامة ولأعرفنك قال فلما آمن بعد موت النبي صلى الله عليه وآله و سلم جعل يبكي ويقول أرجو ان يأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيدي يوم القيامة فانجو) ( ).
الثاني : أنيسة بنت الحارث ، وسماها ابن حجر : آسية بنت الحارث السعدية( ) .
الثالث : الشيماء بنت الحارث ، والتي وقعت في الأسر بيد المسلمين يوم حنين.
وساق الأنصار مع بِجاد رجل من بني سعد بن بكر أحدث حدثاً( ) أهله ، وساقوا معه الشيماء بنت الحارث فعنفوا عليها في الطريق إذ أتعبوها في السياق ، وكان الأنصار أشد الناس على هوازن (فَقَالَتْ لِلْمُسْلِمِينَ تَعْلَمُوا وَاَللّهِ أَنّي لَأُخْتُ صَاحِبِكُمْ مِنْ الرّضَاعَةِ فَلَمْ يُصَدّقُوهَا حَتّى أَتَوْا بِهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السّعْدِيّ ، قَالَ فَلَمّا اُنْتُهِيَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أُخْتُك مِنْ الرّضَاعَةِ قَالَ : وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ.
قَالَتْ عَضّةٌ عَضَضْتَنِيهَا فِي ظَهْرِي وَأَنَا مُتَوَرّكَتُك ؛ قَالَ فَعَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ الْعَلَامَةَ فَبَسَطَ لَهَا ، وَقَالَ إنْ أَحْبَبْت فَعِنْدِي مَحَبّةُ مَكْرَمَةٍ وَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ أُمَتّعَك وَتَرْجِعِي إلَى قَوْمِك فَعَلْت.
فَقَالَتْ بَلْ تُمَتّعُنِي وَتَرُدّنِي إلَى قَوْمِي ، فَمَتّعَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَرَدّهَا إلَى قَوْمِهَا فَزَعَمَتْ بَنُو سَعْدٍ أَنّهُ أَعْطَاهَا غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ مَكْحُولٌ ، وَجَارِيَةٌ فَزَوّجَتْ أَحَدُهُمَا الْأُخْرَى ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مِنْ نَسْلِهِمَا بَقِيّةٌ) ( ).
والظاهر أن هناك علامات وأسئلة أخرى كما حدثته عن تلك الأيام منها أيام الرعي كما مبين أدناه ، ثم أن صدق كلامها يثبت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي ، قال تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
وفي رواية أنها حينما وصلت الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت (يا محمد إني أختك) ( )، أي أنها نادته باسمه ليس لعدم التصديق برسالته إنما لبيان صلة الأخوة بينهما ، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستحضر الوقائع ويعلم بالوحي هل هي أخته أم لا ، ولكنه سألها : ما علامة ذلك (فارته عضة بإبهامها، وقالت: عضة عضضتنيها وأنا متوركتك بوادي السرر ونحن يومئذ نرعى البهم، وأبوك أبي، وأمك أمي، وقد نازعتك الثدى، وتذكر يا رسول الله حلابي لك عنز أبيك أطلان، فعرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العلامة ، فوثب قائما، فبسط رداءه ، ثم قال : اجلسي عليه ، ورحب بها، ودمعت عيناه.
وسألها عن أمه وأبيه، فاخبرته بموتهما.
فقال : إن أحببت فاقيمي عندنا محببة مكرمة، وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك وصلتك ورجعت إلى قومك ، قالت : بل أرجع إلى قومي، فاسلمت.
فاعطاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أعبد وجارية وأمر لها ببعير أو بعيرين وقال لها : ارجعي إلى الجعرانة تكونين مع قومك، فانا أمضي إلى الطائف ، فرجعت إلى الجعرانة ، ووافاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجعرانة فاعطاها نعما وشاء، ولمن بقي من أهل بيتها، وكلمته في بجاد أن يهبه لها ويعفو عنه ففعل صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
مما يدل على أن مدة بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ديار بني سعد أكثر من سني الرضاعة ، وأن العفو هو منهاجه ، فمع أن بجاد قتل مسلماً بغير حق ، ومثّل به حياً وميتاً وحرقه بالنار ، فلم يتعجل في قتله قصاصاً ، وحينما شفعت أخته بالرضاعة بطلب من نساء قومها شفعّها وأطلقه لأنه في حال جهالة ومنطقة حرب لسعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نشر لواء السلم والعفو والتراحم بين الناس ولعله دخل الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وفيه شاهد على موضوعية الأخوة من الرضاعة في التعاضد والتعاون وتعاهد الصلة.
وفي رواية أخرى أنه وهبها أكثر من غلام ، وأنها أسلمت .
الرابع : أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو ابن عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد أرضعته حليمة السعدية أيضاً.
وكان أبو سفيان يكثر من هجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان حسان بن ثابت وهو من الأنصار من بني النجار من الخزرج يرد عليه بهجاء وتوبيخ.
ثم خرج أبو سفيان بن الحارث ومعه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي للقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين السقيا والعرج قريباً من مكة وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريقه إلى فتحها فاعرض عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشدة إيذائه له مع أن النبي كان يحبه حباً جما.
فقالت أم سلمة : لا يكن ابن عمك وأخي ابن عمتك أشقى الناس بك( ).
وتقصد بـ(أخي ابن عمتك) أخاها لأبيها عبد الله بن أمية.
(وقال الإمام علي بن أبي طالب لأبي سفيان بن الحارث. إيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف عليه السلام [تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين] ( )، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولاً منه .
ففعل ذلك أبو سفيان ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين]( ) وقبل منهما وأسلما.
وأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما سلف منه:
لعمرك إني يوم أحمل راية … لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمظلم الحيران أظلم ليله … فهذا أواني حين أهدى فأهتدي
هداني هاد غير نفسي ودلني … على الله من طردته كل مطرد
أصد وأنأى جاهداً عن محمد … وأدعى وإن لم أنتسب من محمد
قال ابن إسحاق: فذكروا أنه حين أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : من طردته كل مطرد ، ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدره وقال : أنت طردتني كل مطرد) ( ).
وأخوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة من ثويبة هم :
الأول : حمزة بن عبد المطلب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أريد على ابنة حمزة ، فقال: إنها ابنة أخي من الرضاعة ، وإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب.
حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن شعبة عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : ألا تتزوج ابنة حمزة ، قال إنها ابنة أخي من الرضاعة( ).
لبيان قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في الإمتثال للأوامر الإلهية ، والأحكام الشرعية كي يقتدي به المسلمون ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
وأرضعت ثويبة حمزة قبل النبي ثم أرضعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم أرضعت أبا سلمة.
الثاني : أبو سلمة ، عبد الله بن عبد الأسد بن هلال من بني مخزوم ، وهو ابن عمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمه برة بنت عبد المطلب بن هاشم .
قال ابن إسحاق : أسلم بعد عشرة أنفس فكان الحادي عشر من المسلمين هاجر مع زوجته أم سلمة إلى أرض الحبشة.
قال مصعب بن الزبي : أول من هاجر إلى أرض الحبشة أبو سلمة بن عبد الأسد، ثم شهد بدراً وكان أخا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واخا حمزة من الرضاعة، أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب، أرضعت حمزة ثم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أبا سلمة.
واستخلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة حين خرج في كتيبة العشيرة وكانت في شهر جمادى الأولى من السنة الثانية من الهجرة.
توفي أبو سلمة في جمادى الآخرة سنة ثلاث من الهجرة وهو ممن غلبت عليه كنيته وكان عند وفاته قد قال: اللهم اخلفني في أهلي بخير، فأخلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على زوجته أم سلمة فصارت أماً للمؤمنين وصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربيب بنيه: عمر وسلمة وزينب( ).
وعن أم حبيبة أنها (قالت يا رسول الله إنا قد حدثنا أنك ناكح درة بنت أبي سلمة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أعلى أم سلمة ، لو أني لم أنكح أم سلمة لم تحل لي إن أباها أخي من الرضاعة)( ).
لبيان الحرمة المركبة إذ يحرم نكاح إبنة الزوجة المدخول بها لما ورد في آية التحريم [وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ]( ).
الثالث : مسروح ، وهو ابن ثويبة مرضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرضعته معه , ومات مسروح في أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحينما سأل عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأنه قد مات .
ولابد أن هناك أخوة آخرين من الرضاعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ثويبة بلحاظ رضاعة حمزة مع أحدهم ، ورضاعة أبي سلمة مع آخر ، ورضاعة حليمة لأبي سفيان بن الحارث وهو ممن يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ويقال إن الذين كانوا يشبهون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل من:
الأول : جعفر بن أبي طالب .
الثاني : الحسن بن علي بن أبي طالب
الثالث : قثم بن العباس بن عبد المطلب
الرابع : أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب .
الثالث : قثم بن العباس بن عبد المطلب .
الرابع : أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب .
وكان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب من الشعراء المطبوعين. وكان سبق له هجاء في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( ).
الخامس : السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف.
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين ولادته أن مهده كان يتحرك بتحريك الملائكة له ، وأن أول ما نطق به هو قوله : الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً( ).
لقد ولد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دار أبيه عبد الله بن عبد المطلب ، إذ قام عبد المطلب عندما ذهب بصره بتوزيع ماله على أولاده ودفعه لهم في حياته فكانت ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دار أبيه وهي إرث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن عقيل بن أبي طالب أو أولاده قاموا ببيعها وحينما حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع قال له أصحابه تنزل بيتك يا رسول الله فقال (وهل ترك لنا عقيل من ظل) ( ).
وفي رواية قيل للنبي (أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي دَارِك بِمَكّةَ ، فَقَالَ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ)( ).
واشترت الخيزران أم هارون الرشيد دار المولد عندما حجت البيت سنة 171 هجرية وجعلته مسجداً يصلى فيه وأشرعت له باباً على الزقاق ، الذي سمي باسم زقاق المولد ، ويقع في شعب أبي طالب , وتقع مكة في تهامة.
وتجلت في رضاعة حليمة بنت الحارث السعدية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم معجزات متعددة ، إذ أنها حدّثت بأنها قدمت مكة في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن الصبيان المولودين حديثاً في مكة للرضاعة واتفق أن كانت السنة شهباء( ).
فقدمت على أتان( ) لها، وجلبت حليمة معها صبياً لها ، وشارفاً ، والشارف هي الناقة المسنة ، قالت حليمة (وَاَللّهِ مَا تَبِضّ بِقَطْرَةٍ وَمَا نَنَامُ لَيْلَنَا أَجْمَعَ مِنْ صَبِيّنَا الّذِي مَعَنَا ، مِنْ بُكَائِهِ مِنْ الْجَوْعِ . مَا فِي ثَدْيَيّ مَا يُغْنِيهِ وَمَا فِي شَارِفِنَا مَا يُغَدّيهِ)( ).
لبيان صورة من أحوال العرب في الجزيرة قبل الإسلام ، ومع هذا فانهم لا يغادرون ديارهم ، وكانوا يرجون نزول الغيث والمطر ، وإن حبست عنهم السماء فانهم يتطلعون إلى العام التالي.
ومن خصائص ديار بني سعد أن غارات القبائل لا تصل إليهم بسهولة لأنهم بين جبال وفي الجزيرة وليس عندهم ما يستحق الإغارة والسلب ، وهو من أسباب إرسال قريش أبناءها إليهم للرضاعة ، وقد تكون هناك عداوات وثارات بين قريش وبعض القبائل مثل كنانة ، فتحبس قريش أبناءها عن البادية للإرضاع خشية التعرض للأسر والخطف.
وقد تمتنع نسوة البادية عن أخذ صبيان الذين في حال حرب وقتال مع غيرهم خشية لحوق الغدر بهم خاصة وأن العرب في الجاهلية يتمادون في رقعة الثأر والإنتقام.
وتقع ديار بني سعد بن بكر بن هوازن أيام الجاهلية شرقي الطائف في بقران والمعدن ووادي الحدب وصلاء وكلاع ، ولا تزال بقية منهم في ذات الديار.
ومرضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حليمة السعدية وهي (حليمة بنت أبى ذؤيب , واسم أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن زام بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن غيلان بن مضر وزوج حليمة اسمه الحارث بن عبد العزى بن رفاعة من بنى سعد بن بكر)( ).
فقدمت حليمة وزوجها مكة المكرمة ، ومعها عدد من نسوة بني سعد وطفن على بيوت قريش يسألن صبياناً للرضاعة ، وقد عُرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النسوة من بني سعد ولم تأخذه واحدة منهن لأنه يتيم ، إنما كن يطمعن بالأجرة الكثيرة من أب الصبي.
وأخذت كل واحدة منهن صبياً ، وبقيت حليمة ليس عندها رضيع ، ولم يبق إلا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقالت لزوجها الحارث بن عبد العزى (والله إنى لاكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معى رضيع، لانطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه.
فقال: لا عليك أن تفعلي، فعسى أن يجعل الله لنا فيه بركة)( ).
فلما سمعت كلام زوجها ، ودلالته بالدلالة التضمنية على رضاه ذهبت الى بيت آمنة وهو في شعب أبي طالب ، وصار هذا البيت في هذا الزمان مكتبة مكة العامة( ).
وكان هذا بعد أن أرضعته أمه آمنة بنت وهب ، وبعد أن أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب ، ودخل السرور والسكينة إلى قلب حليمة السعدية حالما حملت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وعندما وصلت إلى رحلها در ثدياها عليه من غير قصد وإرادة منها بعد أن كان ابنها الرضيع يبكي ليله من الجوع والحرمان من الحليب بسبب قلة غذاء الأم.
فشرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي منذهلة مدركة لتجليات البركة كما ظنّ زوجها وشرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى روي وانفصل عن الثدي ، فشرب ولدها حتى روي أيضاً ، فلم تتعجل وتخبر زوجها لتتدبر بالأمر فقام زوجها إلى الناقة المسنة التي معهم وإذا هي حافل( )، يرُى انتفاخ ضرعها فبادر إلى الحلب منها ، فشرب ، ثم أعطى زوجته حليمة فشربت حتى رويا ، وباتوا ليلتهم بخير بانتظار مغادرة الجماعة مكة عند تمام قضاء العمرة والتزود بما يحتاجون في شبه قافلة.
وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لايقبل إلا على ثدي واحد ، ولا يأخذ من الثدي الآخر مع أنها تعرضه عليه ، كأنه يشعر أن معه شريكاً في لبنها ، ولبيان قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفطور على العدل والإنصاف والفضل من صغره ، مع أن الثدي الآخر لم يدر الحليب إلا ببركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي الصباح قال زوجها : يا حليمة والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة ألم تري ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه.
ولا يستغرب أهل البوادي البركة في مكة وجوار البيت ومن ذرية إبراهيم ، ولكن تجليات البركة برضاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت أكبر مما يظنون .
وتوالت أسباب الخير والبركة عليهم حتى خرجوا من مكة راجعين إلى بلادهم ، وتوقعت النسوة أن تتخلف حليمة عنهن بالمسير مثل حالها في القدوم إلى مكة لتباطئ الأتان التي تركبها ، ولكن ما أن بدأن المسير حتى سبقت أتانها الركب لا يتعلق بها حمار فأخذت صويحباتها ينادين (ويلك أهذي أتانك التي خرجت عليها معنا فتقول نعم والله انها لهي فيقلن والله إن لها لشأنا)( ).
حتى وصلوا جميعاً بسلام إلى أرض بني سعد وكانت جدباء قاحلة ، ولكن عندما تخرج غنم حليمة السعدية لتسرح تروح شباعاً بخلاف شياء وماشية من حولهم التي ليس فيها قطرة لبن قالت حليمة.
(حتى أنهم ليقولون لرعائهم ويحكم انظروا حيث تسرح غنم حليمة فاسرحوا معها فيسرحون مع غنمي حيث تسرح فيروحون أغنامهم جياعا ما فيها قطرة لبن وتروح غنمي شباعا لبنا فلم يزل الله يرينا البركة ونتعرفها حتى بلغ سنتين)( ).
ويدل قولها أعلاه على أن بني سعد عندهم أنعام كثيرة ، ورعاة يسرحون بها أي أنهم لم يأتوا لأخذ الصبيان للرضاعة عن فاقة ، إنما هي عادة موروثة للصلة بين أهل مكة وبينهم وتجددها.
وفصلت حليمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الفطام عند بلوغه سنتين ، وكان يشب أسرع من غيره وكان جِفراً أي غليظاً ، فجاءت حليمة وزوجها بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أمه لانتهاء مدة الرضاعة.
قال ابن اسحاق : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ مِمّا هَاجَ أُمّهُ السّعْدِيّةَ عَلَى رَدّهِ إلَى أُمّهِ مَعَ مَا ذَكَرَتْ لِأُمّهِ مِمّا أَخْبَرَتْهَا عَنْهُ أَنّ نَفَرًا مِنْ الْحَبَشَةِ نَصَارَى رَأَوْهُ مَعَهَا حِينَ رَجَعَتْ بِهِ بَعْدَ فِطَامِهِ فَنَظَرُوا إلَيْهِ وَسَأَلُوهَا عَنْهُ وَقَلّبُوهُ ثُمّ قَالُوا لَهَا : لَنَأْخُذَنّ هَذَا الْغُلَامَ ، فَلَنَذْهَبَنّ بِهِ إلَى مُلْكِنَا وَبَلَدِنَا ؛ فَإِنّ هَذَا غُلَامٌ كَائِنٌ لَهُ شَأْنٌ نَحْنُ نَعْرِفُ أَمْرَهُ فَزَعَمَ الّذِي حَدّثَنِي أَنّهَا لَمْ تَكَدْ تَنْفَلِتُ بِهِ مِنْهُمْ( ). والحديث منقطع.
ولكنهما كانا يرجوان إعادته معهما فترددت آمنة ، فلا زالت حليمة تلح عليها ، وبينت لها البركة التي تغشتهم من أول ساعة أخذته فيها وقالت حليمة : اني أخشى عليه وباء مكة ، وأعانها زوجها في الإلتماس من آمنة بنت وهب ، وتعهدا في الحفاظ عليه وسلامته.
(وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ أَنَا أَعْرَبُكُمْ أَنَا قُرَشِيّ ، وَاسْتُرْضِعْت فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ)( ).
فأقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شهرين أو ثلاثة مع حليمة السعدية ، فبينما هو خلف بيوتهم هو وأخ له من الرضاعة إذ جاء أخوه يشتد ، فسألوه ما بك قال : ذاك أخي القُرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب بياض (فاضجعاه فشقا بطنه) ( ).
تقول حليمة السعدية فخرجت أنا وأبوه أي أبوه من الرضاعة نشتد نحوه فوجداه قائماً منتقعاً لونه ، فاعتنقه أبوه ، وقال : أي بني ما شأنك) فأكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواية الصبي أخيه من الرضاعة وقال : جاء رجلان عليهما ثياب بياض فاضجعاني فشقا بطني ثم استخرجا منه شيئاً فطرحاه ثم رداه كما كان ، أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان بكامل وعيه ويبصر ما يرى .
فرجعوا إلى خبائهم وقال زوجها : يَا حَلِيمَةُ ، لَقَدْ خَشِيت أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغُلَامُ قَدْ أُصِيبَ ، قَالَتْ: فَاحْتَمَلْنَاهُ فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمّهِ فَقَالَتْ مَا أَقْدَمَك بِهِ يَا ظِئْرُ وَقَدْ كُنْت حَرِيصَةً عَلَيْهِ وَعَلَى مُكْثِهِ عِنْدَك( ).
لقد خشي الرجل مسّ الجن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وظهور علامات هذا المسّ عندهم وأزدياده بما يؤدي إلى الإضرار بنفسه وبهم فلم يخطر على بالهم أن الملائكة قد نزلت وأن جبرئيل هو الذي شق صدر وبطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخرج قلبه إلى خارج جسده وغسل تجويفه وبطنه بماء زمزم وحشى قلبه وشرايينه بالإيمان والحكمة ليكون الداعية إلى السلام في الأرض ، ونبذ الإرهاب والشحناء والعصبية.
وهو من الإعجاز في إصلاح الله عز وجل للأنبياء لتولي الإمامة ، نعم ليس كل الأنبياء شقّ صدره وغُسل قلبه ، ولكن لكل نبي معجزة تتعلق باصلاحه للنبوة بفضل ولطف من عند الله ، ومنها ما يكون نوع طريق حسي للعصمة من الذنوب والإحتراز من المعاصي ، وفي نبي الله يوسف عليه السلام ورد قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( ).
لقد استغربت آمنة بنت وهب إعادة ولدها محمد لها من قبل ظئره مع أنها كانت تلح هي وزوجها على إرجاعه إلى ديارهم في بني سعد معها ، وقد شاعت مصاديق البركة التي حلّت بهم وتحسنت أحوالهم .
وتوجهت آمنة بالسؤال لها ولزوجها فقالا (نخشى الاتلاف والأحداث)( ).
خاصة وأنه حدثت بعض الوقائع اثناء الرضاعة.
ولكن آمنة بنت وهب لم تقتنع بجوابهما وتدرك أن أموراً خارقة تحدث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما تريد أن تقف على الحقيقة ، وتطمئن على ولدها ، وفي التنزيل بخصوص إبراهيم عليه السلام ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
فقالت : أصدقاني ، ولم تتركهما إلا أن تعلم الحقيقة ، عندئذ أخبراها بحادثة شق بطنه وصدره (قالت : أخشيتما عليه الشيطان كلا والله ما للشيطان عليه سبيل وانه لكائن لابني هذا شأن إلا أخبركما خبره.
قالا : بلى.
قالت : حملت به فما حملت حملا قط أخف منه فأريت في النوم حين حملت به أنه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام ثم وقع حين ولدته وقعا ما يقعه المولود معتمدا على يديه رافعا رأسه إلى السماء فدعاه عنكما)( ).
أي أتركاه عندي ، وحتى لو سألتهما العودة به فلن أأذن لكما.
وروي حديث شق بطن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ابن عباس وهو أقرب وأوثق من خبر ابن اسحاق إذ (وأخرج البيهقي وابن عساكر من طريق محمد بن زكريا الغلابي عن يعقوب بن جعفر بن سليمان عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده قال كانت حليمة تحدث.
أنها لما فطمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكلم فقال الله اكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا .
فلما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فيتجنبهم .
فقال لي يوما يا أماه ما لي لا أرى اخوتي بالنهار قلت فدتك نفسي يرعون غنما لنا فيروحون من ليل إلى ليل .
قال ابعثيني معهم فكان يخرج مسرورا ويرجع مسرورا .
فلما كان يوما من ذلك خرجوا فلما انتصف النهار إذا بابني ضمرة ( ) يعدو فزعا وجبينه يرشح باكيا ينادي يا أبت ويا أمه إلحقا أخي محمد فما تلحقانه إلا ميتا.
قلنا وما قصته قال بينا نحن قيام إذ أتاه رجل فاختطفه من أوساطنا وعلا به ذروة الجبل ، ونحن ننظر إليه حتى شق من صدره إلى عانته ، ولا أدري ما فعل به.
فأقبلت أنا وأبوه نسعى ، سعيا فإذا نحن به قاعد على ذروة الجبل شاخصا ببصره إلى السماء يبتسم ويضحك .
فأكببت عليه وقبلت ما بين عينيه وقلت فدتك نفسي ما الذي دهاك .
قال خيرا يا اماه بينا انا الساعة قائم إذ أتاني رهط ثلاثة بيد احدهم ابريق فضة وفي يد الثاني طست من زمردة خضراء ملأى ثلجا فأخذوني فانطلقوا بي إلى ذروة الجبل فأضجعوني على الجبل إضجاعا لطيفا ثم شق احدهم من صدري إلى عانتي وأنا أنظر إليه فلم اجد لذلك حسا ولا ألما ثم ادخل يده في جوفي فأخرج احشاء بطني فغسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها ثم أعادها .
وقام الثاني فقال للأول تنح فقد أنجزت ما أمرك الله به فدنا مني .
فأدخل يده في جوفي فانتزع قلبي وشقه فأخرج منه نكتة سوداء مملوءة بالدم فرمى بها .
فقال هذا حظ الشيطان منك يا حبيب الله ثم حشاه بشيء كان معه ورده مكانه .
ثم ختمه بخاتم من نور .
فأنا الساعة أجد برد الخاتم في عروقي ومفاصلي.
وقام الثالث فقال تنحيا فقد انجزتما ما أمركما الله به فيه .
ثم دنا مني فأمر يده من مفرق صدري إلى منتهى عانتي وقال زنوه من أمته بعشرة فوزنوني فرجحتهم ثم قال دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرجح بهم .
ثم اخذ بيدي فانهضني إنهاضا لطيفا .
فأكبوا علي وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا يا حبيب الله لن تراع ولو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك وتركوني قاعدا في مكاني هذا.
ثم جعلوا يطيرون حتى دخلوا حيال السماء .
قالت فاحتملته فأتيت به منازل بني سعد .
فقال الناس اذهبوا به إلى الكاهن حتى ينظر إليه ويداويه فقال ما بي شيء مما تذكرون إني ارى نفسي سليمة وفؤادي صحيح .
فقال لي الناس اصابه لمم أو طائف من الجن فغلبوني على رأيي .
فانطلقت به إلى الكاهن فقصصت عليه القصة ، قال دعيني انا اسمع منه فإن الغلام أبصر بأمره منكم .
تكلم يا غلام فقص قصته من أولها إلى آخرها .
فوثب الكاهن قائما على قدميه ونادى بأعلى صوته يا للعرب من شر قد اقترب .
اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه فإنكم إن تركتموه وأدرك مدرك الرجال ليسفهن أحلامكم وليكذبن أديانكم وليدعونكم إلى ربّ لا تعرفونه ودين تنكرونه .
قالت فلما سمعت مقالته انتزعته من يده وقلت لأنت أعته منه ، وأجن، ولو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به .
أطلب لنفسك من يقتلك فإنا لا نقتل محمدا ، فاحتملته ، فأتيت منزلي فما أتيت به منزلا من منازل بني سعد إلا وقد شممنا منه ريح المسك .
وكان في كل يوم ينزل عليه رجلان أبيضان فيغيبان في ثيابه ولا يظهران.
فقال الناس رديه يا حليمة على جده وأخرجي من أمانتك( ).
قالت فعزمت على ذلك فسمعت مناديا ينادي هنيئا لك يا بطحاء مكة اليوم اليوم يرد عليك النور والدين والبهاء والكمال فقد أمنت ان تخذلي او تخزي أبد الآبدين .
قالت حليمة وحدثت عبد المطلب بحديثه كله .
فقال يا حليمة إن لابني هذا شأنا وددت أني أدرك ذلك الزمان)( ).
وتوفى عبد المطلب وعمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمان سنين ، وسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أتذكر موت عبد المطلب ، قال : نعم ، أنا يومئذ ابن ثماني سنين .
وقال أم أيمن : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ يبكي خلف سرير عبد المطلب ( ).
وهل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاكماً مطلقاً في اصطلاح هذا العصر الجواب لا ، إنما كان يعمل بالوحي والتنزيل إلى جانب أمر الله له بالشورى ، قال تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
وقوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( )، فهل من هذه الرحمة شق صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا دليل عليه.
عدد الرضعات التي تنشر الحرمة
الرضاع في الإصطلاح هو امتصاص الصبي اللبن من ثدي المرأة من غير واسطة ، وفيه أقوال :
الأول : نشر الحرمة بقليل الرضاع أو كثيره ، فتنتشر الحرمة بمصة واحدة يصل فيها لبن المرضعة إلى جوف الطفل، وبه قال الحنفية والمالكية وأحمد في رواية عنه واحتج عليه بقوله تعالى [وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ]( )، فيكفي فيه صرف الطبيعة.
واستدل عليه بحديث (عبيد بن أبي مريم عن عقبة بن الحارث قال وقد سمعته من عقبة ولكني لحديث عبيد أحفظ قال تزوجت امرأة فجاءتنا امرأة سوداء فقالت إني قد أرضعتكما فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته فقلت إني تزوجت فلانة بنت فلان فجاءتني امرأة سوداء فقالت إني قد أرضعتكما فأعرض عني فأتيته من قبل وجهه فقلت إنها كاذبة قال فكيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما دعها عنك)( )، أي دع عنك الزوجة.
ويمكن مناقشة الحديث دلالة ويجوز أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكم فيه بالوحي وكان يتحرى عن الشهود، ويكتب إلى قراهم يسأل عنهم، فان كان ثقاة قبل شهادتهم ، وان جاءت الأخبار بخلافه صرفهم ، ولم يؤاخذهم.
الثاني : لا تنشر حرمة الرضاع إلا في خمس رضعات او أكثر , وبه قال الشافعية والحنابلة ، وبه قالت عائشة وابن مسعود وابن الزبير ، واستدل عليه بما ورد عن عائشة : كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات فَنُسِخْنَ بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن .
وأخرج عبد الرزاق عن عائشة قالت : لقد كانت في كتاب الله عشر رضعات ثم رُدَّ ذلك إلى خمس ، ولكن من كتاب الله ما قبض مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخرج ابن ماجه وابن الضريس عن عائشة قالت : كان مما نزل من القرآن سقط لا يحرم إلا عشر رضعات أو خمس معلومات .
وأخرج ابن ماجه عن عائشة قالت : لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً ، ولقد كان في صحيفة تحت سريري . فلما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها .
وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر : أنه بلغه عن ابن الزبير أنه يأثر عن عائشة في الرضاعة لا يحرم منها دون سبع رضعات . قال : الله خير من عائشة ، إنما قال الله تعالى {وأخواتكم من الرضاعة}( ) ولم يقل رضعة ولا رضعتين( ).
وظاهر كلام ابن عمر أعلاه أن الرضعة الواحدة تحرم ، وعن أم الفضل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئُل عن المصة الواحدة تحرم فقال : لا .
الثالث : لا تنشر الحرمة إلا عشر رضعات ، وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : لا يحرم من الرضاع إلا المخبورة( ) أو خادم أو ظئر ثم يرضع عشر رضعات يروى الصبي وينام( ).
الرابع : خمس عشرة رضعة وهو مشهور الإمامية ، لأنها تنبت اللحم وتشد العظم.
ولو كان رجل وامرأة على مذهب يحرم الرضاعة بالأقل وهو سبب ينشر الحرمة بينهما لانطباقه عليهما فيختارا مذهباً آخر يحلُ لهما النكاح من جهة كثرة عدد الرضعات الجامعة لهما ، وفقدان هذه الكثرة في رضاعها من لبن واحد فهل يحق الإنتقال الى المذهب الذي يجيز لهما النكاح , الجواب نعم ، وهو من مصاديق نفي الحرج في الدين .
ومن معاني التقليد أن المكلف يقلد عمله في عهدة وذمة هذا الذي تصدى للفتوى ، وعلى فرض تمام زواجهما فهل يحق لهما الرجوع إلى المذهب الأول , والبقاء على ذات عقد النكاح ، الأقوى لا ، لإستدامة الحكم , إلا بعد الإفتراق .
وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا رضاع الا ما شدّ العظم وانبت اللحم( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : إنما الرضاعة من المجاعة( ).
وحمل على إرادة شبع الصبي من اللبن وتركه الثدي اختياراً ، وقد يكون معناه أعم لذا ذكرت في رسالتي العملية (الحجة) ( ).
(مسألة 275) تكره الرضاعة المعتبرة بشرائطها إلا عند وجود أسباب تتعلق بالحاجة والمجاعة، وما يشبه الضرورة، وهي معدومة في الغالب الأعم في هذا الزمان الذي يتوفر فيه الحليب البديل لما يترتب عليها من أحكام , ونشر للحرمة , وتفويت لحق في النكاح من امرأة أو زوج مرغوب فيه بسبب تحقق الأخوة الرضاعية.
حديث شق الصدر
هو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صباه بعناية الملائكة به لإصلاح بدنه لحمل وظائف النبوة والإمامة العامة .
قال تعالى [أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ]( )، لقد شرح الله عز وجل صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتلقي الوحي وتبليغ آيات القرآن من غير زيادة أو نقصان والعمل بمضامينها .
لقد ملأ الله عز وجل صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حلماً وعلماً.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن إبراهيم بن طهمان قال : سألت سعداً عن قوله {ألم نشرح لك صدرك}( ) فحدثني به عن قتادة عن أنس قال : شق بطنه من عند صدره إلى أسفل بطنه فاستخرج من قلبه ، فغسل في طست من ذهب ، ثم ملىء إيماناً وحكمة ، ثم أعيد مكانه .
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبيّ بن كعب أن أبا هريرة قال : يا رسول الله ما أول ما رأيت من أمر النبوّة؟
فاستوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً وقال : لقد سألت أبا هريرة إني لفي صحراء ابن عشرين سنة وأشهراً إذا بكلام فوق رأسي وإذا رجل يقول لرجل : أهو هو؟
فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط وأرواح لم أجدها في خلق قط وثياب لم أجدها على أحد قط ، فأقبلا إليّ يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأخذهما مسّاً فقال أحدهما لصاحبه : أضجعه . فأضجعني بلا قصر ولا هصر .
فقال أحدهما : افلق صدره فخوّى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع ، فقال له : أخرج الغل والحسد . فأخرج شيئاً كهيئة العلقة ، ثم نبذها ، فطرحها .
فقال له : أدخل الرأفة والرحمة فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة ، ثم هز ابهام رجلي اليمنى . وقال : اغدوا سلم ، فرجعت بها أغدو بها رقة على الصغير ورحمة للكبير( ).
وقد أورد مسلم في صحيحه بسنده (عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وآله وسلم وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة فقال هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه ثم أعاده في مكانه وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ( يعني ظئره ).
فقالوا : إن محمدا قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون قال أنس وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره) ( ).
ولم تذكر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجود أثر للمخيط في صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يعني هذا نفي حديث أنس لما له من دلالة خاصة وأنهم لم يكذبوه مع أنه كان شائعاً.
لقد ورد حديث شق الصدر عن (أنس بن مالك قال كان أبو ذر يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قال فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل صلى الله عليه وآله وسلم ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغها في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء فلما جئنا السماء الدنيا قال جبريل عليه السلام لخازن السماء الدنيا افتح قال من هذا.
قال هذا جبريل قال هل معك أحد.
قال نعم معي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال فأرسل إليه.
قال نعم ففتح قال فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة قال فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى.
فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح .
قلت يا جبريل من هذا ؟ قال هذا آدم صلى الله عليه وآله وسلم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى قال ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية فقال لخازنها افتح.
فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا ففتح) ( ).
أي هذا يكون حديث شق الصدر قد تكرر مرة في صبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مضارب بني سعد ، وأخرى مقدمة لحديث الإسراء حينئذ لابد من بيان مسألة وهي أن شق الصدر مقدمة للعروج في السماء.
وفي قوله تعالى [أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ] ( ) ورد (عن قتادة ، عن أنس بن مالك أنه قد شق بطنه – يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم – من عند صدره إلى أسفل بطنه فاستخرج منه قلبه فغسل في طست من ذهب ، ثم ملئ إيمانا وحكمة ، ثم أعيد مكانه)( ).
ومنهم من ناقشه علمياً وواقعياً ، وقال لو أجريت عملية جراحية لإنسان فهل تخرج منه هذه العلقة السوداء كما أخرجها جبرئيل من صدر النبي وأن القلب يتنزه ويصل إلى مرتبة العصمة بالغسل بالماء ، ولا تصل النوبة إلى مثل هذا النقاش ، فاذا ثبت سند الرواية فلابد من تأويلها دلالة .
وفي قوله تعالى [وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ] ( ) ورد عن الربيع في المرسل قال (إن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كل آدمي طَعن الشيطان في جنبه غير عيسى وأمه، كانا لا يُصيبان الذنوب كما يصيبُها بنو آدم.
قال : وقال عيسى صلى الله عليه وآله وسلم فيما يثني على ربَه: وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن له علينا سبيلٌ.
وعن الربيع بن سليمان قال، حدثنا شعيب بن الليث قال، حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل بني آدم يَطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه، إلا عيسى ابن مريم، ذهب يطعَن فطعَن في الحجاب) ( ).
وقال المجلسي (قال الكاذروني: روي أن شق صدره صلى الله عليه وآله كان في سنة ثلاث من مولده وقيل: في سنة أربع على ما روي عن محمد بن سعد، عن محمد بن عمر، عن أصحابه قال: مكث صلى الله عليه وآله عندهم سنتين حتى فطم، وكان ابن أربع سنين فقدموا به على أمه زائرين لها به، وأخبرتها حليمة خبره وما رأوا من بركته.
فقالت آمنة: ارجعي بابني فإني أخاف عليه وباء مكة، فو الله ليكونن له شأن، فرجعت به، ولما بلغ أربع سنين أتاه الملكان فشقا بطنه، ثم نزلت به إلى آمنة وأخبرتها خبره، ثم رجعت به أيضا “، وكان عندها سنة ونحوها لا تدعه يذهب مكانا ” بعيدا “، ثم رأت غمامة تظله إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، فأفزعها ذلك أيضا ” من أمره، فقدمت به إلى امه لترده وهو ابن خمس سنين، فأضلته في الناس فالتمسته فلم تجده) ( ).
ومن دلائل شق الصدر عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغل والحسد ومن إستحواذ النفس الغضبية ، وقد تجلت هذه العصمة في سنته على مدى ثلاث وعشرين سنة فترة النبوة مع أنها كانت مليئة بالأحداث والوقائع ، وكان قرار الإمامة والرياسة بيده ، فلم يأمر أو ينهي إلا بالوحي الذي هو رحمة ونعمة على الناس جميعاً , قال تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] ( ).
ومن خصائص معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم تثبيت رسالته ودعوة الناس للتصديق به ، وإرادة زحزحتهم من النار ولهيبها ، وهل تذكر معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالموت ومعاني قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ( )الجواب نعم ، لأنها تدعو للتصديق برسالته والإنصات له .
قانون التنزه عن الغلو
ليس من نبي إلا وقد جاء بالدعوة إلى الإسلام ، وأخبر الناس بأنه من المسلمين المستجيبين لأمر الله لمنع الغلو في شخصه ، ولبيان أن الناس يتساوون في الإسلام والإنقياد إلى أحكام الشريعة ، وهو الذي تجلى بإمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في الصلاة ، فهو مثلهم في أدائها خمس مرات في اليوم ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ).
وصحيح أن الحديث أعلاه يدل على وجوب محاكاة المسلمين والمسلمات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته ، وعدم التغيير والتبديل فيها إلا أنه يتضمن أيضاً الإخبار عن حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أداء الصلاة في أوقاتها ، كما أنه تأسيس لقانون ، وهو منع الغلو في شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والأئمة عليهم السلام .
وتجد آية قرآنية واحدة تكفي لمنع الغلو منها قوله تعالى [وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا]( )، وقوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( )، وقوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( )، وتبين أحاديث النبي اجتهاده في تأكيد حرمة الغلو ولزوم التنزه عنه .
(عن ابن عباس قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غداة العقبة : هات القط لي حصيات من حصى الخذف ، فلما وضعن في يده قال : بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين) ( ).
ويدل النهي عن الغلو بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الغلو عن غيره من الأئمة والأولياء من باب الأولوية القطعية ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما هو أدنى من الغلو وهو الإطراء (عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبدالله ورسوله)( ).
والمختار أن النسبة بين الغلو والإطراء عموم وخصوص مطلق ، فالغلو أشد لأنه يرقى بالإنسان بغير حق .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها قطعت الغلو إلى يوم القيامة ، فليس من مذهب أو طريقة عند المسلمين تغالي بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة والأولياء وتجعلهم بمنزلة ومقام الربوبية ، ولا يعني المدح والثناء والتغني بالفضائل غلواً كما ينعته بعضهم، لقد نزل القرآن لقانون تأسيس التنزه عن الغلو ثم تفضل الله عز وجل وأمر المسلمين والمسلمات بقراءة القرآن كل يوم خمس مرات في اليوم ، وكل مرة واقية من الغلو .
وهل آية البحث من آيات منع الغلو ، الجواب نعم ، إذ أنها تخبر عن نزول الموت بساحة كل إنسان ، وهو شاهد على الضعف والفاقة والحاجة إلى رحمة الله ، والعجز عن استدامة الحياة بقدرة ذاتية ، والله عز وجل وحده الحي الباقي الدائم ، وقد ابتدأت سورة آل عمران بقوله تعالى [الم *اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ] ( ) والآية التي يختص بتفسيرها هذا الجزء من آيات سورة آل عمران .
قانون القتال كره ومشقة
يتضمن القرآن آيات الدفاع المحض ، وحرص المسلمين على التقيد بأحكام الشهر الحرام ، منها قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
وهي تلحق بآيات السلم وتفيد معنى عدم نسخ آيات السلم ، لأن الذي يسأل عن الشهر الحرام لا يريد أن يقاتل فيه .
ومن إعجاز هذه الآية وذخائر نظم آيات القرآن إنها جاءت بعد قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وفيها شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لا يرغبون بالقتال ، وفيه مشقة عليهم ، بما هم بشر ومؤمنون .
وهل هذا الكره من مصاديق احتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عندما قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، الجواب نعم ، إذ أن كراهة المسلمين للقتال نوع طريق للسلم ، ومقدمة للقبول بالصلح والسعي للموادعة ، موضوعاً وحكماً ، إنما ورد التخفيف بقوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا] ( )، وعن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}( ) دخل في قلوبهم منه شيء لم يدخل من شيء فقالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟
فقال : قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا . فألقى الله الإِيمان في قلوبهم ، فأنزل الله {آمن الرسول…} ( )، { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}( )، قال : قد فعلت {ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} قال : قد فعلت { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به}( ) قال : قد فعلت {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا…} ( ) الآية قال : قد فعلت( ).
و({كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}( ) فُرض عليكم القتال ، واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال بعضهم : عنى بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيرهم ، وقال ابن جريج قلت لعطاء : قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}( ) أواجب الغزو على الناس من أجلها أو كتب على أولئك حينئذ.
وأجرى بعضهم الآية على ظاهرها فقال : الغزو فرض واجب على المسلمين كلّهم إلى قيام الساعة ، ولا دليل على هذا القول كما أن ظاهرها لا يدل على هذا المعنى .
روى ابن أبي أنيسة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من أصل الإيمان : الكفّ عمّن قال : لا إله إلاّ الله ما لم يره بذنب ، ولا يخرجه من الاسلام بعمل .
والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أُمتي الدّجال لا يبطنه ضنّ ولا شك ، والإيمان بالأقدار)( ).
ولابد من الفصل ولحاظ النسب الأربعة بين كل من :
الأول : الغزو .
الثاني : الجهاد.
الثالث : القتال .
الرابع : الصبر ، ويشمل المقام قوله تعالى [وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ] ( ) .
فليس في الآية ما يدل على الغزو ، إنما تفيد الآية القتال الدفاعي ، وحال الضرورة ليكون من معاني قوله تعالى [وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] البشارة والنسبة بين القتال والغزو العموم والخصوص المطلق ، فالقتال أعم ، وقد يكون دفاعاً وتدل سنخية الرحمة العامة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على إنحصار قتاله والمؤمنين بالدفاع مع إمتلاكهم الحجة والبرهان ، وهو أقوى من السيف إلى جانب سعادتهم بالإنشغال بأداء الفرائض والعبادات ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ).
وبالنسبة لآية البحث هل يشترط في الزحزحة من النار الغزووالقتال ، الجواب لا ، ومن فضل الله عز وجل على الناس أن أكثر أيام الحياة الدنيا ليس فيها قتال ، وحتى لو كان هناك قتال فانه يتعلق بجهة ومكان مخصوص ثم يعم السلام ، لأن الله عز وجل هو [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( ) ، ففي القتال طرفان كل فرد منهما يقاتل أما في الغزو فهناك أطراف :
الأول : الغازي .
الثاني : الغزو .
الثالث : المغزو .
وهناك تباين بين الأول والثالث ، وحتى الطرف الثاني أعلاه فانه يقع من الأول على الثالث .
وقد وردت آيات القرآن بذكر القتال ، ويستقرأ منه أنه للدفاع.
أما النسبة بين الجهاد والقتال فهي العموم والخصوص المطلق أيضاً ، والجهاد أعم فقد يكون باللسان وقد يكون جهاداً مع النفس ، وقهراً للشهوة لذا قال تعالى [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
(وأخرج البيهقي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقال له خصفة بن خصفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : هل تدرون ما الشديد؟
قلنا : الرجل يصرع الرجل!
قال : إن الشديد كل الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ، تدرون ما الرقوب؟
قلنا : الرجل لا يولد له!
قال : إن الرقوب الرجل الذي له الولد لم يقدم منهم شيئاً ، ثم قال : تدرون ما الصعلوك؟
قلنا : الرجل لا مال له!
قال : الصعلوك كل الصعلوك الذي له المال لم يقدم منه شيئاً) ( ).
ومع كثرة أسماء الله الحسنى وأنها تسعة وتسعون إسماً ، فليس فيها اسم الشديد( ) لأنه هو اللطيف الودود بآيات تبين شدة بطش الله بالكافرين، وهو سبحانه القوي ، منها قوله تعالى [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ] ( )وقوله تعالى [غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ] ( ) وقوله تعالى [إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى]( ).
لقد ورد لفظ (القتال) في القرآن اثنتي عشرة مرة إبتدأت في نظم القرآن بآية [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
لقد ورد قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ] خمس مرات في القرآن كلها في سورة البقرة وهي :
الأولى : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
الثانية : قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ]( ).
وذكر في الآية الأخيرة أعلاه قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ] لبيان الإشتراك في وجوب القتال بين المسلمين وبني إسرائيل في محاربة الطواغيت الجبابرة ومنهم الكفار الذين قاموا باخراجهم من ديارهم ، كما في إخراج كفار قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة ، وإرادتهم إخراج الأنصار من المدينة أيضاً.
وهل من صلة بين آيات القتال وقوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] الجواب نعم ، فهي إنذار للذين كفروا لإصرارهم على القتال والهجوم على المدينة وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وبشارة للمؤمنين بالأجر والثواب ليكون من معاني قوله تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ]( )، فمن زحزح عن النار بقتاله دفاعاً عن بيضة الإسلام ، وأدخل الجنة ثواباً من عند الله عز وجل.
لقد كان المشركون يخوفون الصحابة من المهاجرين والأنصار ، ويتوعدونهم بالأسر والقتل ، فنزلت آية البحث لبيان أن الفوز محصور بطريق الهداية وسنن الإيمان ، قال تعالى [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن ورود اسم [السَّلاَمُ] ( ) وهو من الأسماء الحسنى لله عز وجل ومن معانيه وجوه :
الأول : تنزه وسلامة مقام الربوبية المطلقة من النقائص .
الثاني: الله الذي يسلم العباد من الجور ، لذى ترى أن الظلم لابد وأن تنقضي أيامه .
الثالث : الله الذي يبسط السلم في الأرض ، ويقرب الناس بلطفه إلى السلم .
الرابع : يبعث اسم [السَّلاَمُ] كاسم من الأسماء الحسنى المسلمين إلى الميل إلى السلام وسيادة الموادعة والمواثيق , والحرص على تحقيق السلم ، والكف عن القتل ، لذا قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] ( ) لبيان أن من رشحات اسم السلام ميل الكفار أيضاً إلى السلم والموادعة .
يوم الغدير
إجماع المسلمين على نزول قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ) في السنة العاشرة للهجرة النبوية الشريفة
وهذه الآية من سورة المائدة وهي آخر سورة القرآن نزولاً .
وروي عن (ابن عباس قال : لم ينسخ من المائدة إلاّ هاتان الآيتان وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ]( )، نسختها [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( )، وقوله {فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} نسختها {أن احكم بينهم بما أنزل اللّه})( ).
والمراد من شعائر الله مناسك الحج ، وعلى فرض النسخ في خبر ابن عباس فان المراد خصوص المشركين في سنة نزول الآية أعلاه وما بعد محرم من السنة العاشرة للهجرة .
وعند رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة ، أمسك بذراع علي عليه السلام في غدير خم من الجحفة، وهي مفترق الطرق للمدنيين والمصريين والعراقيين ، وصادف يوم الخميس.
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غدير خم بالصلاة جامعة.
قبل صلاة الظهر ، وقيل بعد أن صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالناس صلاة الظهر.
وقال : أني أوشك أن أدعى فأجيب وأني مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون .
قالوا نشهد أنك قد بلغت ، ونصحت ،وجهدت ، فجزاك الله خيراً ، قال ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن جنته حق ، وناره حق ، وأن الموت حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور .
قالوا : نشهد بذلك .
قال : اللهم اشهد .
ثم قال : يا أيها الناس ألا تسمعون
قالوا : نعم .
قال : فاني فرط على الحوض وأنتم واردون عليّ الحوض .
وفي الإمتداد التأريخي لبيعة الغدير أطراف :
الأول : ما قبل بيعة الغدير وهو على أقسام منها :
أولاً : بداية الخلق .
ثانياً : عهد الأنبياء السابقين والوصاية فيه .
ثالثاً : الولاية قبل الهجرة النبوية ، وعن البراء قال (لمّا نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين}( ) جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً،
الرجل منهم يأكل المسنّة ويشرب العس،
فأمر عليّاً برِجْل شاة فأدمها ثم قال : ادنُوا باسم الله فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا،
ثم دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم : اشربوا باسم الله،
فشرب القوم حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال : هذا ما يسحركم به الرجل،
فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ فلم يتكلّم.
ثمَّ دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ثم أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا بني عبد المطلب إنّي أنا النذير إليكم من الله سبحانه والبشير لما يجيء به أحد منكم،
جئتكم بالدنيا والآخرة فأسلموا وأطيعوني تهتدوا،
ومَن يواخيني ويؤازرني ويكون وليّي ووصيي بعدي،
وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟
فسكت القوم،
وأعاد ذلك ثلاثاً كلّ ذلك يسكت القوم،
ويقول علي : أنا فقال : أنت فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب : أطع ابنك فقد أُمِّر عليك) ( ).
رابعاً : الولاية بعد هجرة النبي إلى المدينة .
خامساً : نزول آية التبليغ ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ) .
الثاني : يوم غدير خم ، وهو على شعب :
الأولى : موضع البيعة .
الثانية : مناداة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالولاية لعلي .
الثالثة : نص خطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم.
الرابعة : بيعة أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي يوم غدير خم وهنّ أول من بايع.
الخامسة : بيعة الصحابة للإمام علي بالولاية.
الثالث : الصحابة الذين ذكروا بيعة الغدير.
الرابع : ترجمة رجال سند حديث الغدير.
الخامس : امتناع حديث الغدير عن المذهبية والطائفية.
السادس : تعدد معاني لفظ (المولى) لأنه من المشترك اللفظي .
وأخرج حديث غدير بطرق كثيرة عن عدد من الصحابة منهم :
الأول : الإمام علي عليه السلام.
الثاني : عمر بن الخطاب .
الثالث : زيد بن أرقم ، وحديث زيد بن أرقم أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين وقال : حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ومراده من الشيخين مسلم والبخاري أي أن اسناده وفق الإسناد في كتابيهما.
الرابع : أبو هريرة الذي (قال : لما كان يوم غدير خم وهو يوم ثماني عشر من ذي الحجة ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من كنت مولاه فعلي مولاه . فأنزل الله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ( ).
الخامس : أبو سعيد الخدري الذي ذكر في قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( )، إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسِيره إلى حجة الوداع. ثم رواه من طريق أبى جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس.
قلت : وقد روى ابن مَرْدُويه من طريق أبي هارون العَيْدي، عن أبي سعيد الخدري؛ أنها أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم غَدِير خُم حين قال لعلي : من كنتُ مولاه فَعَليٌّ مولاه( ).
السادس : عبد الله بن مسعود .
السابع : بُريدة الأسلمي .
الثامن : البراء بن عازب الذي قال : لما نزلنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع كنّا بغدير خم فنادى إن الصلاة جامعة وكسح رسول اللّه عليه الصلاة والسلام تحت شجرتين وأخذ بيد علي ، فقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
قالوا : بلى يا رسول اللّه.
قال : ألست أولى بكل مؤمن من نفسه.
قالوا : بلى يا رسول اللّه.
قال : هذا مولى من أنا مولاه اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه.
قال : فلقيه عمر فقال : هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة( ).
التاسع : عمار بن ياسر إذ أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عنه أنه (وقف بعلي سائل وهو راكع في صلاة تطوّع ، فنزع خاتمه فأعطاه السائل ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعلمه ذلك ، فنزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية [إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ]( ).
فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه ، ثم قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) ( ).
وفي صحيح مسلم ورد حديث غدير خم ، إذ قال يزيد بن حيان : انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين : لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا رأيتَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وسمعت حديثه ، وغزوت معه وصليت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا .
حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال يا ابن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلفونيه.
ثم قال قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب.
وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم.
قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي.
فقال له حصين ومن أهل بيته ، يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته.
قال : نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حُرم الصدقة بعده.
قال وهم ، قال هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس قال كل هؤلاء حرم الصدقة ، قال نعم( ).
وفي الخصائص للنسائي ورد بالإسناد عن زيد بن ارقم قال : لما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع ونزل غدير خم( ) أمر بدوحات( ) فقممن( ) ثم قال : كأني دعيت فأجبت واني تارك فيكم الثقلين احدهما أكبر من الآخر : كتاب الله وعترتي اهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض.
ثم قال ان الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن.
ثم انه اخذ بيد علي عليه السلام فقال : من كنت وليه فهذا وليه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.
فقلت لزيد : سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
فقال : وانه ما كان في الدوحات احد إلا رآه بعينه وسمعه باذنيه( ).
عن الإمام جعفر الصادق عن آبائه عليهم السلام قال : لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغدير خم ، نادى بالناس فاجتمعوا ، فأخذ بيد عليّ فقال : مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه.
فشاع ذلك وطار في البلاد ، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان القهري فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ناقة له حتّى أتى الأبطح ، فنزل عن ناقته وأناخها وعقلها .
ثمّ أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو في ملأ من أصحابه .
فقال : يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله فقبلناه منك .
وأمرتنا أن نصلّي خمساً فقبلناه منك .
وأمرتنا بالزكاة فقبلنا ، وأمرتنا بالحجّ فقبلنا .
وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا .
ثمّ لم ترض بهذا حتّى رفعت بضبعي ابن عمّك ففضلته علينا ، وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه ، فهذا شيء منك أم من الله تعالى.
فقال : والّذي لا إله إلاّ هو هذا من الله فولّى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول : اللهمّ إن كان ما يقوله حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم .
فما وصل إليها حتّى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله ، وأنزل الله سبحانه سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ.
وقال الطبري (ذكر تأييد الله عزوجل نبيه بعلي عليهما السلام) عن ابي الخميس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (اسرى بي إلى السماء فنظرت إلى ساق العرش الايمن فرأيت كتابا فهمته محمد رسول الله أيدته بعلي ونصرته به) ( ).
ومحب الدين الطبري (615-694)هجرية ، ولد وتوفي في مكة ، وكان يعد في زمانه (الفقيه الشافعي.
أجاز له جماعة، وسمع الكثير، وحدث وتفقه، وبرع في المذهب، ورحل وكتب وحصل، وأفتى ودرس) ( ).
وأخرج احمد في المناقب (ذكر ان الله عزوجل جعل ذرية نبيه صلى الله عليه وآله وسلم) في صلب علي عليه السلام قوله صلى الله عليه وآله وسلم (أنت أخي وأبو ولدي).
وعن ابن عباس قال : كنت أنا والعباس جالسين عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ دخل علي بن أبي طالب فسلم فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السلام ، وقام إليه وعانقه وقبّل بين عينيه وأجلسه عى يمينه.
فقال العباس يا رسول الله : أتحب هذا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يا عم والله لله أشد حبا له مني ان الله جعل ذرية كل نبي في صلبه وجعل ذريتي في صلب هذا) اخرجه ابو الخير الحاكمي في الاربعين.
(ذكر انه من كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مولاه فعلي مولاه) عن البراء بن عازب قال كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فنزلنا بغدير خم فنودى فينا الصلاة جامعة وكسح( ) لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت شجرة فصلى الظهر وأخذ بيد علي وقال ألستم تعلمون انى أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى فأخذ بيد علي.
وقال اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.
قال فلقيه عمر بعد ذلك فقال هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة) أخرجه أحمد في مسنده، وأخرجه في المناقب من حديث عمر وزاد بعد قوله وعاد من عاداه وانصر من نصره وأحب من أحبه. قال شعبة أو قال وأبغض من بغضه.
وعن زيد بن أرقم قال استنشد على بن أبى طالب الناس فقال أنشد الله رجلا سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فقام ستة عشر رجلا فشهدوا.
وعن زياد بن أبي زياد قال سمعت علي بن أبى طالب ينشد الناس فقال أنشد الله رجلا مسلما سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم غدير خم ما قال فقام اثنا عشر بدريا فشهدوا.
وعن عمر وقد جاءه أعرابيان يختصمان فقال لعلي اقض بينهما يا أبا الحسن فقضى علي بينهما.
فقال أحدهما هذا يقضي بيننا فوثب إليه عمر وأخذ بتلبيبه .
وقال ويحك ما تدري من هذا هذا مولاي ومولى كل مؤمن ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن. أخرجه ابن السمان في كتاب الموافقة.
وعن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (ان عليا مني وانا منه ، وهو ولي كل مؤمن بعدي) ( ) اخرجه أحمد والترمذي وقال حسن غريب وابو حاتم.
وعن بريدة انه كان يبغض عليا فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم (تبغض عليا قال نعم قال لا تبغضه وان كنت تحبه فازدد له حبا قال فما كان أحد من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحب إلي من علي.
وفي رواية انه قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا تقعن يا بريدة في علي فإن عليا مني وأنا منه وهذا وليكم بعدي) ( ).
وعن أبي رافع قال لما قتل علي أصحاب الألوية يوم أُحد ، قال جبريل عليه السلام يارسول الله ان هذه لهي المواساة ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه مني وانا منه فقال جبريل عليه السلام ، وانا منكما يا رسول الله. أخرجه احمد في المناقب.
ولما كان ليلة يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من يستسقى لنا من الماء فأحجم الناس فقام علي فاحتضن قربة فأتى بئرا بعيدة القعر مظلمة فانحدر فيها فأوحى الله عزوجل إلى جبريل وميكائيل وإسرافيل تأهبوا لنصر محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحزبه فهبطوا من السماء لهم لغط يذعر من سمعه فلما حاذوا بالبئر سلموا عليه من عند آخرهم إكراما وتبجيلا, اخرجه احمد في المناقب .
وعن أبى الخميس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أسرى بي إلى السماء فنظرت إلى ساق العرش الايمن فرأيت كتابا فهمته محمد رسول الله أيدته بعلي ونصرته به)( ).
لقد أنعم الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بحجة الوداع ، وقد استتب الأمن في ربوع الجزيرة ، وسار الناس في الجادة العامة بين المدن بأمان ، ويقفون متراصين في الصلاة جماعة وفراداً ، شاكرين لله عز وجل نعمه وفضله ولتكون أيام الإيمان أعياداً وسعادة وغبطة ، وفيها نبذ للإرهاب ، ومنع من قتل الناس بغير حق.
لقد تفضل الله عز جل وجعل أياما مخصوصة أعياداً , وفيه دعوة عامة لكل مسلم ومسلمة ، وفي كل زمان ومكان بالتسامح والتصالح والوفاق ، ونبذ العنف .
قانون قول الحمد لله منسأة في الأجل
الحمد لله الذي جعل الدنيا دار البشارة والإنذار ، يطرأ كل فرد منهما على الإنسان ، وكل فرد من الحمد لله تقريب للبشارة ، وإرجاء لموضوع الإنذار ، لذا تفضل الله عز وجل على المسلمين والمسلمات وجعل كل فرد منهم يتلو سبع عشرة مرة في اليوم قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
ولم تقف الآية عند [الْحَمْدُ لِلَّهِ] أنما ذكرت الربوبية المطلقة لله عز وجل، وفيه مسائل :
الأولى : إرادة الوقاية من شرور الخلائق .
الثانية : اللجوء إلى الله عز وجل من شر فسقة الجن والإنس .
الثالثة : التضرع إلى الله بالإقرار بربوبيته وملكه للخلائق ، وعالم الأكوان للكفاية منها ، لذا قال سبحانه [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الرابعة : قول العبد [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) شهادة تسمعها الكائنات لإرادة سلامته منها ورجاء خيرها ،فتسمع السموات قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وتنزل الغيث على أهل الأرض وتشفع له بخصوص ذوق الموت ومضاعفة الأجر ، ويسمعها الكويكب الصغير ، فيمتنع عن السقوط في الأرض وإحداث تلف كبير .
الخامسة : تسمع الملائكة قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] فيمتلئون غبطة بذكر وعبادة الإنسان ويستحضرون احتجاج الله عز وجل عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) عندما احتجوا على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، مع أنه يفسد فيها ويسفك الدماء .
ومن أسرار نزول سورة الفاتحة وفريضة الصلاة في مكة قبل الهجرة أنها مقدمة لنزول الملائكة مدداً لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، إذ واظبوا وألحوا على تلاوة سورة الفاتحة كل يوم ، والإجهار بالحمد لله ، والإقرار بأنه رب العالمين ، وأنه القادر على الحيلولة بين الكفار والنصر ، فأنزل الله سبحانه الملائكة مدداً لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والملائكة من العالمين الذين تذكرهم آية الحمد .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )على وجوه ذات صبغة القانون :
الأول : قانون ولقد نصركم رب العالمين ببدر وأنتم أذلة .
الثاني : قانون مقاليد الأمور وعنصر ومادة النصر أو الهزيمة بيد الله رب العالمين .
الثالث : قانون [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] رحمة بالعالمين.
ومنهم كفار قريش أنفسهم ، فلم تمر الأيام والليالي حتى دخلوا الإسلام .
قانون سلامة الأرض بفضل الله
قال تعالى [وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ]( ).
الحمد لله الذي يحب أن يحمد ، ويقرب الناس إلى حمده وشكره والثناء عليه بتوالي النعم ، وحضور البراهين التي تدل على عظيم قدرته [إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( ).
والآية أعلاه حكاية عن يوسف وشكره لله على تعدد النعم منها خروجه من السجن ومجيؤه الى مصر وتوليه الوزارة.
الحمد لله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض ، ولو صار الناس يخشون وقوعها لاحتاجوا إلى أعمدة على سعة الأرض وبين كل عمود وعمود نحو بضعة امتار فيصدون عاجزين عن الحركة ، كما أنهم لا يقدرون على النفقة على تلك الأعمدة ، قال تعالى [وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ]( )، والقيد الأخير إنذار للناس ودعوة للشكر لله على هذه النعمة من أجل إستدامة النظام الكوني العام الشامل للعالم العلوي والسفلي ، والمنع من إنحلال السماء ووصول الفساد إليها.
وتدل خاتمة الآية أعلاه وبيان رأفة ورحمة الله عز وجل بالناس على أن ملكيته المطلقة للسموات والأرض حفظ لها ، لا يقدر على هذا الحفظ إلا هو سبحانه.
ولو أوشك جرم سماوي كبير أن يقع على الأرض بسبب تصاعد الأبخرة أو بفساد ذاتي , ولو كان حجمه أكبر من الأرض ويأتي على الحياة فيها فهل يستطيع أهل الأرض نشر منظومة صاروخية لدفعه.
الجواب لا ، وإن إتحدت الدول والأمم ونسوا الخلافات التي بينهم ، ولصارت الأسلحة التي يخزنون عبأ عليهم خاصة النووية ، ولعجلوا بتلفها، وقد مرت قبل شهر فاجعة مرفأ بيروت وكيف أثر إنفجار أطنان من نترات الامونيوم بدمار للبلدة.
أسمع في هذا الزمان عن افلام خيال علمي وفضائي والتكنولوجيا الحديثة والمستقبلية فليكن منها تصور سقوط كوكب أو شطر منه فمثلاً كوكب المشتري واسمه بالأنكليزية (JUPITER) أكبر كواكب المجموعة الشمسية ويساوي حجمه (1300) ضعفاً حجم كوكب الأرض.
خاصة وأن كوكب المشتري يتصف بأنه عاصف وفوضوي فرياحه عاصفة تصل سرعتها إلى أكثر من 500 كم في الساعة عند خط الإستواء.
ولا تصل النوبة إلى احتمال وقوع كواكب كبيرة ، إنما يدبّ الخوف من إصطدام بعض الكويكبات الصغيرة بالأرض والتي تسير بسرعة فائقة .
فاذا سقط جرم سماوي قطره 100 م على الأرض وسقط في المحيط فانه يؤدي إلى موجة تسونامي ، وإلى الآن ليس من تقنية تمنع من اصطدام محتمل للكويكبات بالأرض ، وينشغل علماء الفضاء باكتشاف مخاطر قرب بعض الكويكبات من الأرض ، وهذه الظاهرة قديمة قدم الإنسان ، ولكن لم يكن الإنسان يلتفت إليها توكلاً على الله في حفظ الأرض وما عليها .
ومن فضل الله عز وجل أن شظايا الكويكبات تنفجر في الغلاف الجوي قبل أن تصل إلى الأرض .
ويخشى علماء الفضاء وقوع اصطدام كبير لبعض الكويكبات بالأرض من غير أن يحددوا موضعه .
كما ينشغل بعض علماء الفلك بمراقبة الجرم السماوي (أومواموا) الذي هو غريب في حركته ومساره ، ويحتمل بعضهم بأنه جسم اصطناعي ومركبة فضائية من حضارة فضائية خارج المجموعة الشمسية ، ولكن التسليم بأنه في السماء من ملايين السنين يدفع هذا الإحتمال ، إذ أن أسرار الخلق أعم من أن يحيط بها البشر حتى مع إرتقاء العلوم وتطوير تلسكوب فضائي للإنذار المبكر ، قال تعالى [إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنْ السَّمَاءِ] ( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : لماذا لم تذكر الآية إمساك السماء من عند الله من غير استثناء الإذن منه تعالى .
الثانية : لماذا ذكره [إِلاَّ بِإِذْنِهِ].
أما الجواب على الأولى فلبيان أن السموات منقادة لأمر الله عز وجل ، وفي التنزيل [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] ( ) ولتذكير الناس بفضله تعالى برفع السموات من غير عمد ، واستدامة هذا لرفع بمشيئة من عند الله عز وجل في كل آن ، فهو سبحانه لم يخلق الخلق والعوالم ويتركها وشأنها تجري وتنتصب بنظام دقيق، إنما مشيئته حاضرة في كل لحظة ليتوجه الأمر منه تعالى في جريان الكواكب والأفلاك وهو لا يتعارض مع الأمر المستديم منه سبحانه لها لتجري وتيسير بانتظام.
والمراد من لفظ باذن الله بيان أن البشر يعجزون عن إنزال الكواكب على الأرض ، وهو من أسرار التباين بين الإذن والمشيئة الإلهية في القرآن.
فتعليق العمل على المشيئة الإلهية عندما يقوم الإنسان بالعمل ورجاء فضل الله بالمدد واللطف والإعانة ، كما في قوله تعالى [إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ]( )، وقوله تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]( )، وقوله تعالى [فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )،وقوله تعالى [وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ]( )، وقوله تعالى [سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ]( ).
كما وردت آيات أخرى تفيد أن السماء تقوم بأمر الله عز وجل ، قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنْ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ]( )، وقال تعالى [لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
لبيان عدم التعارض بين الأمر والإذن الإلهي وفيه نكتة وهي قد يدخل الإذن الإلهي على الأمر المستديم فيقطعه فاذا كان كويكب مستقراً في مكانه بأمر الله ، قد يأذن الله عز وجل بمغادرته مكانه ، ويمثل تهديداً للأرض.
وتدعو المخاطر الفضائية الأعم إلى العناية بالقضاء الخارجي ، وإلى التعاون في الإبحاث والعلوم وتبادل المعلومات والإكتشافات في المقام.
قانون منافع ذكر الموت
من خصائص ذكر الموت أنه باعث على التوبة والندامة وحبس الجوارح عن الظلم والتعدي .
لقد أراد الله عز وجل للمسلم بآية البحث استحضار مرارة الموت ليكون هذا الإستحضار زاجراً عن الإرهاب والقتل العشوائي .
وقد يقدم الإنسان على الظلم والتعدي ، وعندما يبلغ مرتبة استحضار الموت يندم كثيراً على الذي فعله ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل أحكام الكفارة على القتل ، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ) لبيان قانون وهو أن استحضار الإنسان للموت مناسبة للتدارك ، واللجوء إلى الإستغفار ودفع الكفارة ، وقضاء العبادات التي في ذمته .
و(عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ : اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ الْمَوْتُ وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ) ( ).
ولابد من استحداث علوم في باب التذكير بالموت في القرآن من جهات:
الأولى : إحصاء آيات القرآن التي تذكر بالموت .
الثانية : قانون الصلة بين آيات التذكير بالموت.
الثالثة : قانون دلائل الإنذار في آيات الموت .
الرابعة : قانون معاني البشارة في آيات الموت .
الخامسة : قانون منافع ذكرالموت في الحياة الدنيا .
السادسة : قانون المنافع الأخروية لذكر الموت .
لقد أخبرت آية البحث عن قانون من الإرادة التكوينية يدل على ضعف الإنسان ، وملازمة الحاجة له مع احتمال مغادرته الدنيا في كل ساعة ، إلى أن تأتي الساعة التي تنقطع معها صلته مع الدنيا .
السابعة : قانون ذكر الموت قصر للأمل وترك للهث وراء كل فان ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( ) (عن أبي الدرداء قال: من أكثر ذكر الموت قل فرحه، وقل حسده)( ).
الثامنة : ذكر أسماء الموت ودلالتها ، والنسبة بين أسماء الموت في اللغة وبين أسمائه في القرآن عموم وخصوص مطلق ، فأسماؤه في اللغة أكثر ، ومن اسمائه في القرآن :
الأول : الوفاة ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( )وقال تعالى [وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ] ( ).
الثاني : المنون ، لقد كان كفار قريش يتربصون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم ويتوعدونه ويهددونه بحبسه وقتله ، وينتظرون موته ، وإنقطاع التبليغ ، إذ ورد في التنزيل [أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ] ( ) إذ قالوا ترصوا به الموت (حتّى يهلك فيه كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة، وإنّما هو كأحدهم) ( ).
(عن ابن عباس في قوله { ريب المنون } قال : الموت) ( ).
الثالث : الأجل : وبلوغ الأوان الذي يكون فيه قبض الموت ، وبلفظ الأجل يستدل الملائكة ، كما ورد عن ابن عباس (قال : سألت كعباً عن رفع إدريس [مكاناً علياً]( ).
فقال : كان عبداً تقياً رفع له من العمل الصالح ما رفع لأهل الأرض في زمانه ، فعجب الملك الذي كان يصعد عليه عمله ، فاستأذن ربه قال : رب، ائذن لي آتي عبدك هذا فأزوره ، فأذن له ، فنزل قال : يا إدريس ، أبشرْ ، فإنه رفع لك من العمل الصالح ما لا رفع لأهل الأرض ، قال : وما علمك.
قال إني ملك .
قال : وإن كنت ملكاً.
قال : فإني على الباب الذي يصعد عليه عملك .
قال : أفلا تشفع إلى ملك الموت ، فيؤخر من أجلي لأزداد شكراً وعبادة.
قال الملك {لن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها }( ) قال : قد علمت ، ولكنه أطيب لنفسي ، فحمله الملك على جناحه ، فصعد به إلى السماء فقال: يا ملك الموت ، هذا عبد تقي ، نبي رفع له من العمل الصالح ما لا يرفع لأهل الأرض ، وإني أعجبني ذلك ، فاستأذنت ربي عليه ، فلما بشرته بذلك ، سألني لأشفع له إليك لتؤخر له من أجله؛ ليزداد شكراً وعبادة) ( ).
الرابع : الهلاك : لبيان أن الموت خمود للبدن ، وإنقطاع عن عالم الدنيا، فمن يخشى أحداً يطمئن عند موته لأنه هلك وانقطع أثره ، وكذا من يريد أن ينتقم من شخص ويبلغه موته ، وفيه دعوة للإستعداد للموت ، والتواضع في الدنيا التي تنقطع بالهلاك.
وقد وردت مادة (هلك) في القرآن ثماني وستين مرة ، منها ثلاثة بلفظ [هلك] بمعنى الموت :
الأولى : قال تعالى [إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
الثانية : قال تعالى [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ] ( ).
الثالثة : ورد بخصوص يوسف عليه السلام ،قال تعالى [حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً] ( ).
ولعل فيه إشارة إلى إنقطاع وزارة النبي يوسف عليه السلام وبداية استضعاف بني إسرائيل في مصر.
وقد يرد لفظ الهلاك في القرآن بمعنى العذاب ، قال تعالى [وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ] ( )وبمعنى الفناء ، قال تعالى [كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ] ( ).
ويأتي بمعنى الفساد ، قال تعالى [وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ] ( ).
وهل لتعدد أسماء الموت من منافع ، الجواب نعم ، لبيان حضوره في آيات القرآن وفي عالم الألفاظ ودلالتها على المعاني على نحو الحقيقة أو المجاز .
فيذّكر القرآن والسنة بالموت ، كما أن الموت ذاته يذكر بنفسه ، ويدعو للتدبر في ماهيته ، وقد ورد ذكر [مَلَكُ الْمَوْتِ] مرة واحدة في القرآن بقوله تعالى [قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ] ( ).
وملك الموت هو عزرائيل ومعناه بالعبرية الذي يساعد الله.
الحسين (ع) سيد شباب أهل الجنة
لقد أشرقت الأرض في الثالث من شعبان من السنة الرابعة للهجرة بولادة الإمام الحسين عليه السلام ليثبت نهج الإصلاح والعدل ، إذ سرّ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي اختار له اسم الحسين ، ويذكره بعض المؤرخين باسم حسن وحسين من غير لام التعريف ، وأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أذنه اليمنى ، وأقام في أذنه اليسرى ، و(عن ابن عباس وعق عنه في اليوم السابع كبشين ، وكذا عن الحسن أي ذبح عنه عقيقتين كما في سنن النسائي)( ) والكبش ذكر الضأن .
لتكون سنة عند المسلمين إلى يوم القيامة.
وروى الترمذي عن أنس بن مالك سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي أهل بيتك أحب إليك ، قال الحسن والحسين ، وكان يقول لفاطمة أدعي لي ابني فيشمهما ويضمهما إليه.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في الحسن والحسين : اللهم اني احبهما فاحبهما وأحبب من يحبهما( ).
وعن أبي هريرة : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الحسن والحسين هذا على عاتقه وهذا عاتقه ، وهو يلثم هذ مرة ، وهذا مرة حتى انتهى إلينا ، فقال : من أحبهما فقد أحبني ، ومن أبغضهما فقد أبغضني.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم من أحب الحسن والحسين أحببته ، ومن أحببته أحبه الله ومن أحبه الله أدخله الجنة ، ومن أبغضهما أبغضته ومن أبغضته أبغضه الله ، ومن أبغضه الله أدخله النار.
و(عن زيد بن أرقم قال أني لعند رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم إذ مرّ علي وفاطمة والحسن والحسين فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أنا حرب لمن حاربهم سلم لمن سالمهم)( ).
ورورى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : من أراد أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة سوى عيسى ويحيى، فلينظر إلى الحسين بن علي( ).
لقد أخبر الله عز وجل عن علة خلق الناس بقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، وتبين بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأذى الذي لاقاه من الكفار مع تزاحم المعجزات بين يديه أن تحقيق العبادة في الأرض يلزم الصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد كتب الله عز وجل الموت على كل إنسان ، ولنا في مصيبة فقد رسول الله أسوة وموعظة ، قال تعالى [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ]( ).
وعن الإمام الحسين بن علي قال : أتيت على عمر بن الخطاب وهو على المنبر فصعدت إليه فقلت انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك فقال عمر لم يكن لأبي منبر وأخذني وأجلسني معه فجعلت أقلب حصى بيدي فلما نزل انطلق بي إلى منزله .
فقال لي من علمك ، فقلت : والله ما علمنيه أحد .
قال : يا بني لو جعلت تغشانا.
قال فأتيته يوما وهو خال بمعاوية وابن عمر بالباب فرجع ابن عمر ورجعت معه .
فلقيني بعد فقال لم أرك .
فقلت يا أمير المؤمنين إني جئت وأنت خال بمعاوية وابن عمر بالباب فرجع ابن عمر ورجعت معه فقال أنت أحق بالإذن من ابن عمر وإنما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثم أنتم( ).
ماذا على يزيد بن معاوية لو ترك الحسين ولم يكرهه على البيعة.
ولد يزيد بن معاوية في (25) من ذي الحجة من السنة (35) للهجرة أيام عثمان بن عفان ، فلم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأحاديث النبوية التي تدل على عصمة الحسين وعظيم منزلته في الإسلام ولزوم حبه وعدم معاداته ، ولكنه لابد وأن سمعها من الصحابة .
وفي اليوم (15) من شهر رجب من السنة الستين من الهجرة تولى يزيد الحكم بعد أبيه معاوية الذي هو بالأصل من الطلقاء ، وعمر يزيد آنذاك (34) سنة.
مع وجود الصحابة وأهل البيت، وعدم الأهلية الشخصية له ، ومنها إصراره على أخذ البيعة من الحسين.
قال ابن الأثير : ولم يكن ليزيد همة إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعته، فكتب إلى الوليد( ) يخبره بموت معاوية، وكتاباً آخر صغيراً فيه: أما بعد فخذ حسيناً وعبد الله بن عمر وابن الزبير بالبيعة أخذاً ليس فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام.
فلما أتاه نعي معاوية فظع به وكبر عليه وبعث إلى مروان بن الحكم فدعاه. وكان مروان عاملاً على المدينة من قبل الوليد، فلما قدمها الوليد كان مروان يختلف إليه متكارهاً، فلما رأى الوليد ذلك منه شتمه عند جلسائه، فبلغ ذلك مروان فانقطع عنه ولم يزل مصارماً له حتى جاء نعي معاوية، فلما عظم على الوليد هلاكه وما أمر به من بيعة هؤلاء النفر، استدعى مروان فلما قرأ الكتاب بموت معاوية استرجع وترحم عليه، واستشاره الوليد كيف يصنع.
قال : أرى أن تدعوهم الساعة وتأمرهم بالبيعة، فإن فعلوا قبلت منهم وكففت عنهم، وإن أبوا ضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فإنهم إن علموا بموته وثب كل رجل منهم بناحية وأظهر الخلاف ودعا إلى نفسه، أما ابن عمر فلا يرى القتال ولا يحب أن يلي على الناس إلا أن يدفع إليه هذا الأمر عفواً.
فأرسل الوليد عبد الله بن عمرو بن عثمان، وهو غلامٌ حدثٌ، إلى الحسين وابن الزبير يدعوهما، فوجدهما في المسجد وهما جالسان، فأتاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس فقال: أجيبا الأمير. فقالا: انصرف، الآن نأتيه. وقال ابن الزبير للحسين: ما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها؟
فقال الحسين: أظن أن طاغيتهم قد هلك فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر. فقال: وأنا ما أظن غيره، فما تريد أن تصنع؟
قال الحسين: أجمع فتياني الساعة ثم أمشي إليه وأجلسهم على الباب وأدخل عليه. قال: فإني أخافه عليك إذا دخلت. قال: لا آتيه إلا وأنا قادر على الامتناع( ).
ويعلم مروان أن كلامه ليس صحيحاً ، ولكنه يريد الفتنة.
واقعة كربلاء لواء ثورة في حقوق الإنسان ودعوة للسلم المجتمعي ، ورفض الحكم الظالم المخالف للقوانين والأعراف الإسلامية.
ولم يطلب الحسين عليه السلام الثورة ، إنما خرج إلى مكة في 28 من رجب من السنة الستين للهجرة وبقي فيها إلى الثامن من شهر ذي الحجة أربعة أشهر وبضعة أيام وحينما علم أهل الكوفة بأن الإمام الحسين عليه السلام امتنع عن بيعة يزيد وأنه أكره على ترك المدينة ، وفي خطر على حياته في مكة صارت كتب رؤسائهم ورجالاتهم تصل اليه يدعونه للقدوم إليهم ، وقال بعضهم أنها (150) كتاباً ، وبعض نصوصها موجود وثابت .
فبعث ابن عمه مسلم بن عقيل سفيراً لأهل الكوفة الذي رآى إقبال الناس عليه جماعات ليتعهدوا للحسين عليه السلام بالتأييد.
وأمر الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل (أن ينزل على هانئ بن عروة المرادي، وينظر إلى اجتماع الناس عليه، ويكتب إليه بخبرهم، فقدم مسلم الكوفة مستخفياً، وأتته الشيعة، فأخذ بيعته، وكتب إلى الحسين: إني قدمت الكوفة، فبايعني منهم – إلى أن كتبت إليك – ثمانية عشر ألفاً بالدعوة السرية، فعجل القدوم، فإنه ليس دونها مانع. فلما أتاه كتاب مسلم أغذ السير حتى انتهى إلى زبالة( )، فجاءت رسل أهل الكوفة إليه بديوان فيه أسماء مئة ألف)( ).
لم تكن هناك تكافوء في معركة كربلاء إذ كان عدد جيش يزيد ثلاثين ألف ، ومنهم من قال ان عددهم أكثر من ضعف هذا العدد ، في الوقت الذي كان فيه عدد أصحاب الحسين نحو مائة وكانوا نحو خمسمائة ولكن تفرق وانسحب عدد منهم بعد بلوغهم مقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ، ومنهم من غادر ليلة عاشوراء وقد أذن لهم الحسين عليه السلام.
لقد منعت ثورة الحسين من التمادي والتفريط بأحكام الإسلام.
واختلف في عدد أصحاب الحسين عليه السلام يوم كربلاء ولكن المشهور هو (72) وبه رواية أبي مخنف عن الضحاك بن عبد الله ، (32) منهم خيالة و(40) رجالة.
وكان بنو هاشم من ذرية أبي طالب ومواليهم (26) منهم مسلم بن عقيل.
وحتى عندما جعجع الحر بن يزيد الرياحي بالحسين عليه السلام وركبه، عرض عليه الحسين عليه السلام أموراً :
الأول : أن يرجع من حيث أتى .
الثاني : الذهاب إلى يزيد .
الثالث : المغادرة إلى ثغر من ثغور المسلمين يدافع فيه عن الإسلام ، وتنقطع مسألة تجهيزه جيشاً ضد يزيد .
وكان الإمام الحسين عليه السلام لا يريد سفك الدماء ، وعن أنس بن الحارث قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إن ابني هذا يعني الحسين يقتل بأرض يقال لها كربلاء فمن شهد ذلك منكم فلينصره) ( ).
فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء ، فقتل مع الحسين ، وقال بعضهم الحديث مرسل ، ومشهور الرجاليين قالوا بأن له صحبة وذكروه في الصحابة منهم ابن السكن وابن منده وأبو نعيم وغيرهم.
لقد كان خروج الحسين عليه السلام إلى مكة ثم إلى العراق رسالة للسلم ، ودعوة لتثبيت أحكام الشريعة ، وجعل موضوعية للصحابة وأهل البيت آنذاك في تنصيب الخليفة بملاك التقوى.
قانون آية البحث والدعاء
يبعث قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] المسلمين على الدعاء لطول العمر وإقترانه بالرزق الكريم ، وصرف ميتة السوء ، وهل تلاوة آيات الدعاء والرجاء وسؤال المغفرة في الصلاة تنفع العبد في طول عمره ، الجواب نعم .
(عن الحسن بن الحسن قال: زوّج عبد الله بن جعفر بنته، فخلا بها. قال الحسن: فلقيتها، فقلت: ما قال لك.
قالت : قال لي : يا بنية ، إذا نزل بك الموت ، أو أمر تفظعين به، فقولي: لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين) ( ).
وهل يمكن القول بقانون وهو : كل آية قرآنية تبعث على الدعاء ، الجواب نعم ، وهو من ذخائر القرآن ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (لكلّ آية ظهر وبطن ولكل حرف حدّ ومطلع) ( ).
و(عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ” إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر وبطن ولكل حدّ مطلع ويروى لكل حرف حدّ ولكل حدّ مطلع) ( ).
وظاهر الآية هو لفظها ، أما باطنها فهو تأويلها ، أما معنى الحد فهو على وجوه :
الأول : لكل حرف موضوع يتعلق به.
الثاني : لكل حرف منتهى في الحكم .
الثالث : معنى ودلالة الحرف.
الرابع : مقدار الأجر والثواب .
الخامس : بعث الحرف القرآني على العمل بأحكامه .
السادس : للحرف معنى وأثر يمنع الإنسان عن تجاوز الحد ، وعن الطغيان والغرور ، لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ].
أما المطلع فالمراد منه ما يكشف من معانيه ، وما يكتب فيه من الثواب والضياء الذي ينيره للتالي والسامع للحرف.
ومن موارد الدعاء في آية البحث وجوه:
الأول : إخبار الآية عن حلول الموت دعوة للدعاء لإرجائه ، ليس لذات الداعي بل لغيره أيضاً من أهله وأصحابه والمؤمنين .
الثاني : ذكرت آية البحث لفظ [ذَائِقَةُ] وهو من الكلي المشكك ، ومن معانيه التباين كما في المذاق الحلو والمر ، ومرتبة الحلاوة أو المرورة .
الثالث : الدعاء لمضاعفة الأجر في الدنيا والآخرة ، واستيفائه تاماً كاملاً.
معجزات موسى (ع)
قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا] ( ).
الأولى : معجزة العصا قال تعالى [فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ]( ) .
وفي قوله تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ]( )، قال ابن عباس : العصا أول آيات موسى وكانت من آس الجنة ، طولها عشرة أذرع بطول موسى ، قصد باب فرعون فألقى عليه الفزع ، فشاب فخضب بالسواد استحياء من قومه ، فكان فرعون أول من خضب بسواد( ) ومعجزة عصا موسى مصاحبة له ، وقد ضرب بها البحر الأحمر لينفرج له الماء ويعبر منه .
الثانية : معجزة بياض اليد عندما يخرجها من جيبه ، قال تعالى [اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ]( ).
الثالثة : الطوفان.
الرابعة : الجراد .
الخامسة : القمل .
السادسة : الضفادع .
السابعة : الدم.
الثامنة : معجزة سنين القحط ونقص الزراعات إبتلاء لقول فرعون وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو لقريش بالهداية ، وحينما أسرفوا في قتل الصحابة دعا عليهم ليس بسنين موسى عليه السلام ، إنما بسنين يوسف إذ (قَنَتَ فِي صَلَاةِ الْعَتَمَةِ( ) شَهْرًا يَقُولُ فِي قُنُوتِهِ اللّهُمّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللّهُمّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللّهُمَ أَنْجِ عَيّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللّهُمّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللّهُمّ اُشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللّهُمّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ)( ).
التاسعة : انشقاق البحر الأحمر بضرب موسى له بالعصا ليعبر موسى وبنو اسرائيل.
لقد امتنع فرعون والملأ من قومه عن التصديق بنبوة موسى عليه السلام مع مجيئه بالمعجزات وتجلي آية العصا ولم يكن موسى عليه السلام طالباً للحكم والسلطان ، فلو آمن فرعون برسالة موسى لبقي في ملكه وعرشه.
فأرسل الله عز وجل عليهم المطر ثمانية أيام بلياليها مما أدى إلى الطوفان
، ويدل عليه قوله تعالى [فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ]( ).
لقد أدرك قوم فرعون أن هذا الطوفان عقوبة ودعوة للهداية ، وهل كان موسى قد أنذرهم بأنه يحل بكم المطر المستمر والطوفان ، الأقرب نعم، فقد ورد عن ابن عباس أنه (قال : أرسل الله على قوم فرعون الطوفان وهو المطر فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا المطر ، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم ، فأنبت الله لهم في تلك السنة شيئاً لم ينبته قبل ذلك من الزرع والكلأ)( ).
إذ تتصف أرض مصر والسودان وهو ملك فرعون آنذاك بالخصوبة ، فلم يفوا لموسى ولم يأذنوا لبني إسرائيل بالخروج إنما صاروا أكثر حاجة إليهم لتسخيرهم للعمل في الزراعات والحرث والحصاد ، والصناعات المصاحبة للزراعة والمترشحة عنها ، وخدمة المنازل ، فلم يكن آل فرعون يعملون بالفلاحة إنما هي وظيفة بني إسرائيل.
لقد غمر الفرح آل فرعون ، ورآوا معجزة أخرى لموسى عليه السلام وهي وقعت هطول الأمطار ومنع استمرار وزيادة الطوفان بدعائه ، وعندما رآوا وفرة الناتج الزراعي قالوا : هذا ما كنا نتمنى ، وامتنعوا عن إمضاء وعدهم لموسى ، عندئذ أرسل الله عز وجل عليهم الجراد .
والجراد جمع جرادة والاسم العلمي (LOCUSTA) ، وهي حشرة مهاجرة ذات ضراوة وتدمير ، والجراد من أشهر الآفات التي تغزو الناتج الزراعي منذ القدم ، وتحارب الإنسان في قوته وغذائه ، وللجراد آلاف الأنواع ومن مواطن الجراد الصحراوي السودان والجزيرة العربية ، وللجراد الصحراوي القدرة على الطيران والهجرة ، وقطع مسافات طويلة مع صغر جسم الجرادة.
ويمكن لأسراب الجراد أن تطير لمسافة 150 كم في اليوم مع اتجاه الريح ، وتضع الجرادة الواحدة 300 بيضة في مدة عمرها.
وتناول الجرادة الواحدة كل يوم بمقدار وزنها وهو غرامان تقريباً ، وإذا حلّ سرب صغير في محل فانه يستهلك ما يعادل أكل نحو ثلاثة آلاف شخص.
فالجراد تهديد للأمن الغذائي ، وتجتهد الدول والأشخاص في مكافحته، ونزل بآل فرعون كابتلاء ، ولينغص عليهم فرحهم الذي جاء بسبب دعاء الرسول موسى وتأمين هارون بعد تعهدهم له بالأذن لبني إسرائيل بالخروج من مصر ، ويمكن القول أن آفة الجراد إنذار ورحمة لفرعون وقومه ولبني إسرائيل ، إذ أنه والطوفان برزخ دون هلاك فرعون وجنوده في البحر غرقاً.
أي أن الله عز وجل يبتليهم بالمصائب العامة عندما يجحدون بشرائط النجاة من الهلكة العامة ، واقتران جحودهم بارادة البطش كما في لحوق فرعون وجنوده لبني اسرائيل مع أنه في الأصل قد وعد موسى عليه السلام على الإذن بهذا الخروج ، والأصل أنهم لا يحتاجون من فرعون الإذن فهم أحرار مستضعفون وليسوا عبيداً ، إذ كان أول من قدم منهم إلى أرض مصر هو النبي يوسف عليه السلام لتتغشى البركة أجيال بني إسرائيل، إذ جاء بعده أبوه النبي يعقوب وأبناؤه ، وفي التنزيل [وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( ).
وعندما جاءت أسراب الجراد أدرك آل فرعون أنه يأتي على هذا الزرع الوفير الذي لم يروا مثله كثرة ،وكأنهم على موعد معه فهرهوا الى موسى عليه السلام وقالوا له أدع لنا ربك يكشف عنا الجراد ، فنصدق بنبوتك ونستجيب لطلبك في إرسال بني إسرائيل معك .
فدعا موسى عليه السلام الله عز وجل فكشف عنهم أفواج الجراد ، وليس من السهل إنصرافها عن زروع وثمار كثيرة ، ولكنه دعاء النبي كليم الله والإستجابة من عند الله عز وجل ، ليفوز المسلمون بالإستجابة لقوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
ويرى آل فرعون وبنو إسرائيل هذه المعجزات فيزداد بنو إسرائيل إيماناً ويؤمن بعض آل فرعون لذا ورد في التنزيل [وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ]( ).
وما إيمان آسيا بنت مزاحم زوجة فرعون وقيامه بتعذيبها وقتلها ، وذكر مؤمن آل فرعون زوجة فرعون في القرآن من باب المثال وليس الحصر .
ولما صرف الله عز وجل جائحة الجراد عن آل فرعون وما تبقى من زروعهم قالوا لموسى كما ورد عن ابن عباس (قد بقي لنا ما هو كافينا فلن نؤمن لك ، ولن نرسل معك بني إسرائيل) ( ) .
وهل كانت هذه الآيات التسع قبل حادثة السحرة وإسلإمهم أم بعدها، الجواب هو الثاني ، فبعد تلك الحادثة ورؤية فرعون وقومه لمعجزة العصا وخشيتهم منها وعلى فرعون من موسى عليه السلام بأن يرسل معه بني إسرائيل وأخذ يماطله إلى أن جحد بوعده ، فأرسل الله تعالى هذه الآيات ، وإسلام السحرة معجزة أخرى لموسى عليه السلام .
فأرسل الله عز وجل عليهم القمّل وهو الدبا فأخذ يأكل ما تركه الجراد، وينفذ إلى المخزون منه .
والمراد من القُمل هو حشرات صغيرة ليس لها أجنحة تزحف بارتال عظيمة ، ويحتمل :
الأول : أولاد الجراد مما لم تنبت أجنحته بعد .
الثاني : البراغيث .
الثالث : صغار القراد ويسمى الحثمان.
الرابع : القُمل هو السوس الذي يخرج من الحنطة ، عن ابن عباس( ).
قيل أنه قَمَل الرأس ، إذ نفذ إلى ثيابهم وأمتلات منه (وروي أن موسى مشى بعصاه إلى كثيب أهيل فضربه فانتشر كله قملاً في مصر ، ثم إنهم قالوا ادع في كشف هذا فدعا ورجعوا إلى طغيانهم وكفرهم) ( ).
(وعن محمّد بن كعب القرظي قال : سألني عمر بن عبد العزيز عن الآيات التسع،
فقلت : الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، وعصا موسى ويده والطمس والبحر.
فقال عمر : وأنا أعرف إن الطمس إحداهن .
قال محمّد بن كعب : إن رجل منهم كان مع أهله في فراشه وقد صار حجرين .
وإن المرأة منهم لقائمة تختبز وقد صارت حجراً .
وإن المرأة منهم لفي الحمام وإنها تصير حجراً .
فقال عمر : كيف يكون الفقه إلاّ هكذا ثمّ دعا بخريطة فيها أشياء مما كانت اُصيبت لعبد العزيز بن مروان بمصر حين كان عليها من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة مشقوقة (قطعاً) وإنها لحجر وأخرج الجوزة مشقوقة وإنها لحجر وإخرج أشباه ذلك من الفواكة وإنها لحجارة .
وأخرج دراهم ودنانير وفلوساً وإنها لحجارة. فعلى هذا القول يكون الآيات بمعنى الدلالات والمعجزات.
وقال بعضهم : هي بمعنى آيات الكتاب.) ( ).
وهناك فرق بين تحول بعض الفاكهة والنقود إلى حجر وبين الطمس (روى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان بن غسان المرادي : إن يهودياً قال لصاحبه : تعالَ حتّى نسأل هذا النبي .
فقال الآخر : لا تقل نبي لأنه لو سمع صارت له أربعة أعين فأتياه فسألاه عن هذه الآية {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ}( ) .
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : لا تشركوا بالله شيئاً ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا ولا تسحروا ولا تمشوا بالبرىء إلى سلطان ليقتله ولا تسرقوا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا يوم الزحف، وعليكم خاصة في اليهود أن لا يتعدوا في السبت.)( ).
والمقصود من صفوان بن غسان أعلاه هو الصحابي صفوان بن عسال .
ومال الرازي في تفسيره إلى الوجه الأخير أعلاه بخصوص الآيات التسعة ، وقال (وفي تفسير قوله تعالى [تسع آيات بينات]أقوال أجودها ما روي عن صفوان بن عسال ) ( ).
ومع الإختلاف في معنى القّمل فان الجمع بين الأقوال بخصوصه يدل على أنه هجم على محصول الحنطة بعد دوسها وحصادها وإحرازها في البيوت وظنوا أن المحصول السنوي صار بمأمن فلم يلتفتوا إلى وعدهم لموسى .
وعن ابن عباس (فأرسل الله عليهم القمل : وهو السوس الذي يخرج من الحنطة ، فكان الرجل يخرج بالحنطة عشرة أجربة إلى الرحا فلا يرد منها بثلاثة أقفزة ، فقالوا مثل ذلك ، فكشف عنهم فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل) ( ).
لقد كان فرعون وقومه يبتلون بالبلاء والضرر ويصارعون من أجل دفعه، ثم يلجأون إلى موسى ليدعو الله لهم ، فيرفعه الله ، وهل كانوا يظنون انقطاع هذه الآيات وما فيها من الضرر ، الجواب لا ، ولكنهم حريصون على عدم التفريط باليد العاملة الإسرائيلية ، إذ أن مصانعهم تتعطل وأراضيهم تصبح بوراً ، فليس من عدد كاف من الفلاحين عندهم ، وكان بنو إسرائيل يقومون رجالاً ونساءً بالخدمة المنزلية ، وجلب الماء من النهر.
الرجال للرجال ، والنساء في البيوت ومخادع النساء ، ويقومون بتنظيف الطرق العامة ، وإعتاد آل فرعون على الحياة الرغيدة والترف وقلة العمل .
وكان موسى عليه السلام يوماً (عند فرعون إذ سمع نقيق ضفدع من نهر فقال : يا فرعون ما تلقى أنت وقومك من هذا الضفدع؟ فقال : وما عسى أن يكون عند هذا الضفدع)( ).
أي أن فرعون لا يعلم بالزجر وأن حركة الأشياء وأصوات وأفعال الحيوان قد تدل على أمارات ، وتكون إشارات لأمور قادمة ، ولم يحمل صوت الضفدع هذا ، وقد يقال أن مصراً أخذت الكتابة والرسم من العراق ، وصار بامكان الفراعنة تدوين الوقائع والأحداث منذ عام 3000 قبل الميلاد ، وليس في هذا التأريخ ما يدل على غرق فرعون الملك ، وعبور بني إسرائيل ، ولكن القرآن لم يذكر تأريخ هذه الواقعة الضاربة في التأريخ خاصة وأن (30) عائلة من الفراعنة تعاقبت على حكم مصر.
كما تقسم العصور منها العصر العتيق ويبدأ حوالي عام 3200 ق.م ، ويشمل الأسرة الأولى والثانية ، ومن أبرز ملوكها الملك (مينا) وعاصمتها منف وتسمى (من نفر) في محافظة الجيزة في الوقت الحاضر وتقع جنوب القاهرة بنحو (19) كم وهي الآن قرية صغيرة باسم قرية (ميت رهينة) .
ثم عصر الدولة القديمة ويبدأ حوالي سنة (2780) ق.م ، ويشمل الأسر الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة ، ومن أبرز ملوكها (زوسر) وهو صاحب أول هرم في مصر ، ومنهم (خوفو).
ثم عصر الإضمحلال الأول من حوالي سنة (2281) ق.م ويشمل الأسر السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة ، وتوالت الأسر بتعاقب العصور، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
وبينما ينتظر بنو إسرائيل الخروج من أرض مصر سخّرهم آل فرعون لدوس وحصاد الحنطة والشعير ، وعرضها في الأسواق ، وإدخار الفائض في المعاش بطرق خزن أمينة إعتاد بنو إسرائيل على بذل الجهد فيها .
ولما أطمأن آل فرعون إلى نجاح موسم الحصاد والخصب قالوا لموسى : لن نرسل معك بني إسرائيل ، ويلاحظ أن بني إسرائيل لم يسعوا بجد في قتل موسى عليه السلام بخلاف كفار قريش الذين رأوا معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومع هذا عزموا على قتله في فراشه بما يفيد القطع، فليس من تردد عندهم ، ولم يطلب منهم إخراج المؤمنين معه ، لأن قريشاً هم أهله وعشيرته، لذا قال تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ).
بين الرسول والطاغوت
وكانت مصر تكثر فيها تفرعات نهر النيل ، إذ تقومت حضارتهم بنهر النيل والحياة بضفافه ، وهو سر الحياة والعمارة وقيل إتخذ النيل مساره الحالي قبل 30 مليون سنة ، وهو أطول أنهار الكرة الأرضية ، وطوله 6650 كم ويصب في البحر الأبيض المتوسط ، ويقع في قارة افريقيا ، ورافده النيل الأبيض ، والنيل الأزرق الذي ينبع من أثيوبيا ، ويكون نسبة 85% من مجموع ماء نهر النيل في الصيف على نحو الخصوص بسبب كثرة هطول الأمطار ، وتقل هذه النسبة كثيراً في فصول السنة الأخرى .
ويدل ما ورد في التنزيل حكاية عن فرعون [وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي] ( ) على الخلجان الخارجة من النيل والتي تجري تحت قصر فرعون ، إذ كان قصره على جنات وبساتين .
وقيل المراد من تحتي أي حولي ، وفي قبضتي وملكي ( ).
ولم يرد لفظ [مِنْ تَحْتِي] في القرآن إلا في الآية أعلاه مما يدل على النعم العظيمة التي كان يتمتع بها فرعون ، نعم هناك شواهد كثيرة في هذا الزمان بأن تبنى القصور على ضفاف أنهار وبحيرات بحيث تجد القصر يحيط به الماء من جهتين أو ثلاثة أو يكون على الماء بأعمدة ، ليكون من الشواهد على الإعجاز في وصف القرآن لقول فرعون أعلاه ، إذ تدل على انفراد فرعون بالعمارة وسط الأنهار ، وكما كانوا يسخّرون عشرات آلاف الرجال لبناء الأهرامات ، فهم يسخرونهم لشق الأنهر وفق الخرائط والخطط التي يريدون.
وهل كان بنو إسرائيل ممن كان يسخر في شق الأنهر ، الجواب نعم لأنه فرع الفلاحة .
لقد كان آل فرعون مطمئنين بأن الآفة التي تأتيهم ويدعون موسى الله عز وجل لكشفها تكشف ولن تعود إليهم ، وهو حجة عليهم ، ولكنهم حينما يصل الأمر إلى إمضاء وعدهم له بأخراج بني إسرائيل يمتنعون لأن الشلل يصيب العصب الإقتصادي والإجتماعي عندهم ، إذ تتعذر عليهم الإستدامة بذات النعم وكثرة الخدم ، فيبتليهم الله بآية أخرى أشد منها أو مثلها .
لقد كان إبتلاء آل فرعون القمل إذلالاً لهم وتعكيراً لصفو الفرح والمرح الذي يعيشون ، وعندما صرفهم الله عز وجل عنهم فتنفسوا الصعداء ، وعادوا إلى حسن الهيئة والمظهر فأبتلاهم الله عز وجل بالضفادع .
فكانت تقفز على الشخص منهم ، وقد تقع في فمه عندما يتكلم أو تضربه في وجهه و(عن ابن عباس قال : لم يكن شيء أشد على آل فرعون من الضفادع ، كانت تأتي القدور وهي تغلي فتلقي أنفسها فيها ، فأورثها الله برد الماء والثرى إلى يوم القيامة) ( ) .
فابتلاهم الله عز وجل بصيرورة الأنهار دماً ، فهرعوا إلى فرعون وشكوا إليه (فقال : ويحكم قد سحركم ) ( ).
فاكدوا له أنه ليس من السحر والتخيل والأمر الطارئ والمحصور، إنما هو أمر واقعي يتغشى الأنهار كلها ، كما دبّ إلى ماء الآبار مما لم يكن متصلاً بنهر النيل وفروعه ، وأخبروه أنهم يجدون رائحة الدم في الماء ، ودعوا فرعون للتأكد من الحال بنفسه ، وكان السحر منتشراً في مصر لذا جاء موسى عليه السلام بآية العصا ليتجلى لهم ولبني إسرائيل قانون التباين بين المعجزة والسحر ، ونزل القرآن ليخلد هذا القانون إلى يوم القيامة .
عندئذ تدخل فرعون بنفسه وسأل موسى عليه السلام أن يدعو الله ليكشف عنهم الدم ، وفي هذا السؤال إقرار من فرعون أمام الملأ من قومه بالحاجة والضعف ، وأنه ليس رباً أو إلهاً ، وأن قوله [أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى] ( ) تداعى وانكشف بطلانه على نحو متعدد مع ظهور كل آفة وبلاء .
وفيه مسائل :
الأولى : الإنذار لفرعون وقومه ، ومن الإعجاز في نبوة موسى عليه السلام ، أنه لم يطلب إرسال بني إسرائيل معه إلا بعد أن ظهرت البراهين والمعجزات الخارقة على يده ، وبمحضر من فرعون نفسه ، في التنزيل[وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ* حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ] ( ).
الثانية : دعوة قوم فرعون إلى الإسلام ، وأيهما أكثر هم أم بنو إسرائيل، الجواب قوم فرعون أكثر من بني إسرائيل .
الثالثة : تصديق وإتباع بني إسرائيل لموسى عليه السلام خاصة وأنهم يرون كيف يجاهد لإخراجهم من مصر بسلاح النبوة ، ترى ماذا لو لم يخرج بنو إسرائيل من مصر من جهتين :
الأولى : مع كثرة المعجزات والبراهين التي تحض على خروجهم.
الثانية : من غير رؤية آيات وبراهين .
الجواب يبقى بنو إسرائيل في السخرة والأعمال الوضيعة والإستضعاف.
وكان الوزراء والوجهاء من آل فرعون يحرضونه على الإمعان في إيذاء بني إسرائيل وقهرهم ، وفي التنزيل [وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ] ( ) .
لقد أراد الله عز وجل أن ينتقل بنو إسرائيل إلى الأرض المقدسة ويثبتوا الإسلام بدولة النبوة ، وتتجلى معالم الإيمان من غير خشية من سلطان كافر عليهم وأن يحاربوا الجبارين ، وتكون في دولتهم وتعاقب الملوك والأنبياء منهم عمارة الأرض بالذكر وعبادة الله ، ومقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ بُعث في مكة ، وكانت طائفة من اليهود في المدينة تنتظر بعثته وهجرته إلى المدينة ، كما كان اليهود يختلطون مع قريش وكل منهما يزاول مهنة التجارة ، فكان رجالات قريش يسألون اليهود عن صدق نبوته .
وفي حديث ضعيف (عن محمد بن إسحاق، قال: ثني شيخ من أهل مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس ، قال : بعثت قريش النضر بن الحارث، وعُقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة،فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصِفُوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء.
فخرجا حتى قدما المدينة، فسألوا أحبار يهودَ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا.
قال : فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ.
فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل، فَرَأوا فيه رأيكم.
سلوه عن فِتية ذهبوا في الدهر الأوَّل، ما كان من أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب.
وسلوه عن رجل طوّاف، بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك، فإنه نبيّ فاتَّبعوه، وإن هو لم يخبركم، فهو رجل متقوّل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضْر وعقبة حتى قَدِما مكة على قريش، فقالا يا معشر قريش: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهودَ أن نسأله، عن أمور، فأخبروهم بها.
فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا محمد أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أُخْبِرُكُمْ غَدًا بِمَا سألْتُمْ عَنْهُ ، ولم يستثن فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس عشرة ليلة، لا يُحدِث الله إليه في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وَعَدَنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه ، وحتى أحزنَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُكْثُ الوحي عنه، وشقّ عليه ما يتكلم به أهل مكة.
ثم جاءه جبرائيل عليه السلام ، من الله عزّ وجلّ، بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفِتية والرجل الطوّاف، وقول الله عزّ وجلّ [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
قال ابن إسحاق: فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افتتح السورة فقال [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ]( )، يعني محمدا إنك رسولي في تحقيق ما سألوا عنه من نبوّته [وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا] ( ): أي معتدلا لا اختلاف فيه)( ).
عندئذ أذن الله لموسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل من أرض مصر ، وبلحاظ موضوع آية البحث وقوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ( ) فان كل آية من آيات موسى عليه السلام تحذير وإنذار لآل فرعون وتذكير لهم بضعفهم وعجزهم عن دفع هذه الدواب الصغيرة كالجراد والقمل والضفادع ، إذ تأتي على زروعهم وتنغص عليهم صفو أيامهم ، وتجعلهم في حال انفعال واضطراب .
لقد أخبرت آية البحث عن قانون حلول الموت في رحبة كل إنسان فيخطف روحه ، ويجعل من حوله يعجلون بدفن جثته ، ليطل على عالم الحساب .
ولو استجاب فرعون لموسى وأذن بخروج بني إسرائيل من مصر ، هل يكون ممن [زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ] الجواب لا ، فلابد من الإيمان والإقرار بالتوحيد والتصديق بالرسالة ، إنما تستديم عليهم النعم وينجون من الهلاك والغرق في اليم .
فان قلت تتعطل الأعمال عند آل فرعون خاصة مع زراعة أرض مصر، وكثرة الصناعات وبناء آل فرعون للقصور الفارهة ، وإقتناء الخيول والأنعام والتي تحتاج إلى خدمة ورعي ، وكان بنو إسرائيل يتولون أكثر هذه الأعمال ، والجواب من جهات :
الأولى : إن خروج بني إسرائيل بأمر من الله عز وجل فلابد من إمضائه.
الثانية : من قوانين الحياة الدنيا أن الإمتثال لأمر الله يفتح أبواباً من فضله سبحانه ، وهو من رحمة الله بالناس جميعاً .
الثالثة : ظهور النقص في الأيدي العاملة عند آل فرعون خير من هلاكهم في البحر عند إصرارهم على اللحوق ببني إسرائيل.
الرابعة : بامكان فرعون تسريح أفواج من الجيش وتوجيههم للعمل في المزارع والصناعات خاصة مع عدم وجود عدد ظاهر ، وذكر أن فرعون سار خلف موسى بمليون رجل جمعهم خلال ساعة من النهار.
إن إتكال آل فرعون على بني إسرائيل في الأعمال اليدوية والمهن جعل عندهم ترهلاً في الوظائف والجيش.
ومن معاني خروج بني إسرائيل من سلطان آل فرعون قوله تعالى [وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً]( ).