معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 210

المقدمـــــــــــــة
الحمد لله الذي تفضل على العباد فجعل الحمد مفتاحاً لذكره ، وسؤالاً لرحمته ، ورجاء لعفوه , وزلفة إليه ، وباب تفقه وإرتقاء في المعارف الإلهية ، وفي التنزيل [وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] ( ).
لقد أنعم الله عز وجل على الناس إذ جعل الحياة الدنيا دار الشكر له سبحانه ، ويدرك فيها الإنسان بالفطرة وجوب الشكر على النعم ، وهذا الإدراك من عمومات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بلحاظ أن الشكر لله من مصاديق عبادته , وأنه سبحانه يقرب الناس إلى طاعته ويلهمهم شكره .
الحمد لله الذي جعل الحمد صراطاً مستقيماً , وشاهداً على الإيمان ، وحرزاً من الظلم والتعدي , ومقدمة للإجتهاد بشكر الله تعالى بأداء الفرائض والعبادات ليكون الحمد لله متاعاً في الدنيا الفانية ، وزاداً للفوز بالجنة العالية.
الحمد الذي جعل الإنسان إذا غادر الدنيا يتمنى العودة إليها ، ليحمد الله ويكبره ويسبحه ويهلل تهليلة فيقول لا إله إلا الله ، ويؤدي ركعتي صلاة ، ويصوم في اليوم الحار ، ويلح بالإستغفار ويقول الكافر [رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ]( ).
الحمد لله الذي جعل الحمد لله تعالى يورث المهابة بين الناس ، ويبعث السكينة في النفس ويقوي القلب ويشد أعضاء البدن ، ويكسي الوجه نوراً، ويكون سبباً للرزق الكريم.
الحمد لله الذي جعل القرآن كتاب الذكر والحمد له سبحانه , وتلاوته مرآة للحمد له سبحانه .
والنسبة بين ذكر الله وبين حمده عموم وخصوص مطلق فالذكر أعم ، وهو من أعظم الطاعات وأسباب التقرب إلى الله تعالى ، والذكر والحمد عبادة سهلة يسيرة ليس لها وقت مخصوص ، ولا حاجب يحجب الإنسان عنها .
وعن خالد بن عمران : أن النبّي صلى الله عليه وآله وسلم خرج على قومه.
فقال : خذوا جُنّتكم ، قالوا : يا رسول الله ، من عدوّ حضر.
قال : بل من النار ، قالوا : وما جنتنا من النار.
قال : الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلاّ الله والله أكبر , ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم؛ فإنهن يأتين يوم القيامة مقدّمات مجنِّبات ومعقِّبات ، وهنّ الباقيات الصالحات ( ).
الحمد لله الذي فتح للإنسان باب الذكر في البيت والعمل ، وحال الجلوس والقيام والمشي ، فهو الصاحب المبارك في المنتديات والمجالس والخلوة ، وهو واقية من الغيبة والنميمة والمكر .
و(عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ قَالَتْ : مَرَّ بِي ذَاتَ يَوْمٍ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ أَوْ كَمَا قَالَتْ فَمُرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ وَأَنَا جَالِسَةٌ .
قَالَ سَبِّحِي اللَّهَ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ فَإِنَّهَا تَعْدِلُ لَكِ مِائَةَ رَقَبَةٍ تُعْتِقِينَهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَاحْمَدِي اللَّهَ مِائَةَ تَحْمِيدَةٍ تَعْدِلُ لَكِ مِائَةَ فَرَسٍ مُسْرَجَةٍ مُلْجَمَةٍ تَحْمِلِينَ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَكَبِّرِي اللَّهَ مِائَةَ تَكْبِيرَةٍ فَإِنَّهَا تَعْدِلُ لَكِ مِائَةَ بَدَنَةٍ مُقَلَّدَةٍ مُتَقَبَّلَةٍ وَهَلِّلِي اللَّهَ مِائَةَ تَهْلِيلَةٍ قَالَ ابْنُ خَلَفٍ أَحْسِبُهُ قَالَ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَا يُرْفَعُ يَوْمَئِذٍ لِأَحَدٍ عَمَلٌ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِ مَا أَتَيْتِ بِهِ)( ).
(وأخرج أحمد عن وهب قال : قال المسيح عليه السلام : أكثروا ذكر الله ، وحمده ، وتقديسه ، وأطيعوه ، فإنما يكفي أحدكم من الدعاء إذا كان الله تبارك وتعالى راضياً عليه أن يقول : اللهم اغفر لي خطيئتي ، واصلح لي معيشتي ، وعافني من المكاره يا إلهي) ( ).
الحمد لله الذي جعل الحمد له رسالة سلام حملها الأنبياء إلى قومهم ، وتفضل الله وافتتح بها القرآن بعد البسملة بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
لتكون حجة متجددة في الأجيال المتعاقبة لقانون (لم يغزُ النبي محمد (ص) أحدا ) ولم يسع للغزو ، وصدرت بخصوصه من هذا السِفر كل من الأجزاء :
الأول : الجزء الرابع والستون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والستون بعد المائة .
الثالث: الجزء السادس والستون بعد المائة .
الرابع : الجزء الثامن والستون بعد المائة .
الخامس : الجزء التاسع والستون بعد المائة .
السادس :الجزء السبعون بعد المائة .
السابع :الجزء الواحد والسبعون بعد المائة .
الثامن :الجزء الثاني والسبعون بعد المائة .
التاسع :الجزء الرابع والسبعون بعد المائة .
العاشر :الجزء السادس والسبعون بعد المائة .
الحادي عشر :الجزء السابع والسبعون بعد المائة .
الثاني عشر :الجزء الثامن والسبعون بعد المائة .
الثالث عشر :الجزء الثمانون بعد المائة .
الرابع عشر :الجزء الواحد والثمانون بعد المائة .
الخامس عشر :الجزء الثاني والثمانون بعد المائة .
السادس عشر :الجزء الثالث والثمانون بعد المائة
السابع عشر :الجزء السابع والثمانون بعد المائة .
الثامن عشر : الجزء الثالث والتسعون بعد المائة .
التاسع عشر :الجزء الرابع والتسعون بعد المائة .
العشرون : الجزء السادس والتسعون بعد المائة.
الواحد والعشرون : الجزء الرابع بعد المائتين .
وقد جاء الجزء السابق وهو التاسع بعد المائتين خاصاً بتفسير قوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ .
وفيه استدلال وتأويل واستنباط من ذات الآية الكريمة مع نحو (177) قانوناً، منها ما تم شرحه في الجزء السابق وعددها (ستة عشر قانوناً) ، والباقي مذكور بالاسم أو معه بيان موجز فقط ليكون دعوة للعلماء في الأجيال اللاحقة للتحقيق بخصوصه.
والقانون مقياس ، وضابطة عامة ، وأمر كلي ينطبق على جميع مصاديقه التي تعرف أحكامها منه كقانون الميراث ، وأن حصة البنت من الميراث نصف حصة الولد , والمترشح عن قوله تعالى [لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ]( ).
وكقانون الأربعة ضعف الاثنين ، وقانون التضاد بين البياض والسواد أو قانون دخول (إن) على المبتدأ والخبر فتنصب الأول وترفع الثاني .
وكذا قوانين النحو والصرف ، وقوانين العبادات والمعاملات والطب ، والأحكام وهو السائد في هذا الزمان.
ويمكن تسمية الحياة الدنيا دار القوانين.
(والمقاناة : حسن السياسة) ( ).
وورد عن عِكرمة قال : لقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا جهل ، فقال : إن الله أمرني أن أقول لك [أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى]( ). قال : فنزع يده من يده ، وقال : ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء.
لقد علمت أني أمنع أهل بطحاء وأنا العزيز الكريم ، فقتله الله يوم بدر وأذله وعيره بكلمته ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ.
ويأتي هذا الجزء خاصاً بقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) وهو مسألة إبتلائية عالمية كبرى في هذا الزمان ، والذي صدر بخصوصه من هذا السِفر كل من :
الأول : الجزء الرابع والثمانون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والثمانون بعد المائة .
الثالث : الجزء الثامن والثمانون بعد المائة .
الرابع : الجزء الخامس والتسعون بعد المائة .
الخامس : الجزء الثامن والتسعون بعد المائة .
السادس : الجزء التاسع والتسعون بعد المائة .
السابع : الجزء الثالث بعد المائتين .
وتضع الحكومات والمؤسسات ، وجهات إنفاذ القانون خططاً للتصدي للإرهاب ، ومناهضته ، وخططاً بعيدة المدى لإستئصاله ، وجاء القرآن قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة لمجابهة الإرهاب ، وانتصر عليه ، وأزاحه من فالمجتمعات والنفوس ، وساد الأمن والسلام ربوع الجزيرة , قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
وقد حارب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيغ القتل والإجرام ، ومنع من التنظيمات التي تحقق مآربها بالغزو والنهب والسطو والنهب , وكانت سنته مرآة للقرآن ,الذي نزل بقوانين حرمة الإرهاب بخصوصه في كل الزمان ، وهو الذي يتجلى من جهات :
الأولى : آيات الفرائض العبادية .
الثانية : قصد القربة إلى الله عز وجل في عالم الأفعال لإكثار الحسنات ، ويتنافى الإرهاب والقتل العشوائي مع قصد القربة .
الثالثة : أوامر الله في القرآن بالعمل الصالح والمعروف للقريب والبعيد، وليس في الإرهاب إحسان لا للذات ولا للغير .
الرابعة : النواهي القرآنية باعث للنفرة في النفوس من الإرهاب.
الخامسة : نشر القرآن لمبادئ السلم ومفاهيم المودة والرفق بين الناس.
السادسة : بيان آيات القرآن لمعاني الإحسان وحب الله عز وجل للمحسنين ولزوم كظم الغيظ وحبس الغضب ، قال تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
السابعة : مجئ القرآن بقوانين حقوق الإنسان وحماية الملكية الفردية ، وحرمة التجاوز عليها ، للزجر عن الإضرار بالممتلكات العامة والخاصة ، قال تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( ) ، وقال تعالى [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ]( ).
الثامنة : بيان قانون الملازمة بين الحكم والعدل إلى يوم القيامة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ).
ويتضمن هذا الجزء قوانين ومسائل تبين التنافي بين آيات القرآن وبين الإرهاب الذي جاءت الكتب السماوية كلها في النهي عنه وتحريمه , ومن الدلائل عليه ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام نَبِيٌّ ) ( ) .
ومن مفاهيم هذا الحديث مجئ الأنبياء جميعاَ بذات النهج من الدعوة إلى السلم والعصمة من الإرهاب في القول والفعل .
لقد كان الأنبياء يحثون أصحابهم , على الصبر وفيه تأديب لهم من جهات:
الأولى : تلقي الإرهاب من الكفار بالصبر ومن الأذى الإضافي الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظهور فئة المنافقين , وكأنهم برزخ بين المؤمنين والكفار , خاصة وأن المنافق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان .
فهذه الحالة لا تظهر إلا عندما يكون الإسلام في حال عز ومنعة كما في حال المسلمين بعد الهجرة إلى المدينة , إذ لم يكن هناك نفاق عندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا في السنة الأولى للهجرة النبوية , إذ كان بإمكان يومئذ الكافر التجاهر بالكفر .
فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يصبرون على أذى الكفار والمنافقين مجتمعين ومتفرقين .
الثانية : الإمتناع عن الإرهاب للناس , إذ أن المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تغني عن هذا الإرهاب , وتمنع منه .
قال تعالى [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ) .
وهذه الآية والآيات التالية لها خاتمة لسورة يوسف , وهذا خطاب موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , مما يدل على أن سورة يوسف ليست خاصة بقصة بيوسف عليه السلام ففيها آيات موجهة من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثالثة : الصبر في أداء الفرائض والعبادات لأنه شاهد على إجتناب المسلمين للإرهاب والإنشغال عنه بإجهاد النفس في طاعة الله عز وجل .
و(عن حذيفة قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة) ( )
والإرهاب شر , ويترتب عليه الإثم لما فيه من الإضرار بالذات والغير.
ودعا القرآن الإنسان إلى إيثار غيره على نفسه ، فينتفع الغير ، وتسود مكارم الأخلاق ، قال تعالى [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
أما الإرهاب فانه ضرر محض لكل من :
الأول : ذات الذي يقوم بالإرهاب .
الثاني : أسرة وعائلة الذي يقوم بالعمل الإرهابي .
الثالث : الجهة التي ينتمي إليها فاعل العمل الإرهابي .
الرابع : الخسارة بالنفوس من جهة القتلى والجرحى ، وهو الأكبر في المقام والأكثر قبحاً والأشد في أسباب ردود فعل قاسية أشد من ذات الفعل الإرهابي .
لذا يلزم العلماء والحكماء ونحوهم بذل الجهد للحصانة من الإرهاب ، وقد يبلغ هذا الجهد مرتبة تقرب من الضرورة ، فهو حاجة في هذا الزمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ).
ولم ينحصر الإبتلاء في هذا الزمان بمفردة الإرهاب إنما يشمل كلاً من :
الأول : التطرف , ومن مصاديق النهي عنه قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] ( ).
الثاني : العنف , وقد نهى الله عز وجل عنه قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
الثالث : الغلو ومجاوزة الحد والتشدد بغير دليل , وعن(ابن عباس قال قال لى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غداة يوم النحر هات فالتقط لى حصى فلقطت له حصيات مثل حصى الخذف فوضعتهن في يده فقال بامثال هؤلاء واياكم والغلو فانما اهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) ( ).
وجاءت الأجزاء 198,195,194,191,183,180,179, من هذا التفسير بقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) مع بيان وتفصيل في الإحتجاج , وكل آية من القرآن باعث سماوي لنشر السلام في الأرض , وسبب لحال الوفاق والوئام بين الناس , فمن أسرار كلام الله عز وجل وحضوره بين الناس جذبهم إلى سبل الهداية , ومنع إشتداد الخصومة والنزاع بينهم .
وهو من اللطف الإلهي في وجود آيات القرآن بين الناس , وتلاوة كل مسلم ومسلمة لها خمس مرات في اليوم بشوق ورضا ورجاء إذ أنها تخاطب وتدعو المسلمين والناس جميعاً لأمور :
الأول : حرمة الإرهاب , قال تعالى[مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ]( ).
الثاني : نبذ الإرهاب .
الثالث : التعاون لإستئصال مفاهيم الإرهاب .
الرابع : الصدّ الخاص والعام عن مقدمات الإرهاب .
الخامس : من مصاديق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : الأمر بالأخلاق الحميدة , والتحلي بالصبر , وخصال الرأفة والرفق , والنهي عن الإرهاب , وسفك الدماء , ومباغتة الناس بالآلات الجارحة لإثارة الرعب والفزع بينهم .
ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إكرام أتباعه وأنصاره وتسميتهم بالمسلمين , وفيه شهادة من الله عز وجل بانقيادهم للأوامر الإلهية , وحسن سمتهم , وحملهم لواء السلم بين الناس , ولين جانبهم , وحسن خلقهم , وعطفهم على الناس , وقد فرض الله عز وجل في السنة الثانية للهجرة على المسلمين كلاً من :
الأمر الأول : الزكاة .
ومع أن المعنى الإصطلاحي للزكاة حصة مقدرة من المال يجب إخراجها وبذلها عندما يبلغ المال النصاب لتعطى إلى الفقراء فإن الله عز وجل سماها بما يدل على النماء والبركة , وفي الزكاة أطراف :
الأول : المُزكي , وهو الذي يخرج مقدار الزكاة من ماله .
الثاني : ذات مقدار الزكاة .
الثالث : مستحق الزكاة .
ومن إعجاز القرآن أن الزكاة لا تكون إلا بمقدار ونصاب مخصوص عند تمام الحول أو الحصاد ويكون متعلق وجوبه على وجوه :
الأول : المال من الدينار الذهبي والدرهم الفضي , وتلحق به العملة الورقية في هذا الزمان لإتحاد الموضوع في تنقيح المناط .
الثاني : الأنعام وهي :
الأولى : الإبل بأنواعها العربية وغيرها .
الثانية : البقر ويشمل الجاموس .
الثالثة : الغنم , وتلحق بها الماعز .
ويشترط فيها أن تكون سائمة في المرعى أغلب أيام السنة , فتأكل من الكلأ ونبات الأرض مما لا يشترى بمال مخصوص , إذ أن المعلوفة التي تتغذى على العلف لا زكاة فيها .
ولكل من الإبل والبقر والغنم نصاب تجب فيه الزكاة , ومقدار الزكاة في كل منه , ومن الآيات أن مذاهب المسلمين متفقة تقريباً في هذا الباب , وقد بينت الأنصبة ومقدار الزكاة في رسالتي العملية الحجة( ).
و(قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) ( ) ومثله عن الإمام علي عليه السلام
الثالث : زروع وثمار مخصوصة وهي الغلات الأربعة : الحنطة والشعير والتمر والزبيب , قال تعالى [وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ] ( ) وتنهى الزكاة عن الإرهاب من جهات :
الأولى : فرض ووجوب الزكاة على المسلمين .
الثانية : أوان فرض الزكاة في السنة الثانية للهجرة , والمسلمون حديثوا عهد بالإيمان , ومع هذا فرض الله عز وجل في أموالهم حق للفقراء , فلم يُعرضوا أو يحتجوا , أو يرتدوا , إنما جاء الجدال والمغالطة من غيرهم , فوثق القرآن هذا الجدال إذ قال [لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ] ( ).
الثالثة : بشارة كثرة أموال المسلمين ودعوتهم للصبر .
الرابعة : دلالة فريضة الزكاة على الرفق والرأفة بين المسلمين والناس .
تسمية الزكاة ، فذات التسمية حرب على الإرهاب لتعدد معنى الزكاة, وكل فرد منها يتضمن معاني الرحمة والبركة والأمل , والأصل فيها زكا يزكو زكاة , ومن معاني لفظ الزكاة :
أولاً : البركة والنماء , يقال زكا الزرع , و(الزَّكْو: مصدر زكا يزكو زَكْواً وزُكُوُّا وزَكاءً، والزَّكاء والنَّماء والأتاء: ما يخرجه الله تعالى من الثمر)( ) أي نما .
ثانياً : الطهارة والنقاء والصفاء , يقال زكا أي طهر .
ثالثاً : الصلاح , والرجل زكي والجمع أزكياء , ونقيض الزكاة الدسوة.
يقال (دسا يَدْسُو دُسُوّاً، ودَسْوَةً، وهو نقيض زكا يزكو زَكاءً وزكاةً، وهو داسٍ لا زاكٍ.
ودَسَّى نفسَهُ ودَسَى يَدْسَى لُغَةٌ. ويَدْسُو أَصْوَبُ. ودَسا كقولك: غَوَى)( ).
قال تعالى [وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا] ( ) ودسّاه أغواه وأفسده .
و(عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة ، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ، وليس فيما دون خمس ذود من الإِبل صدقة .
وأخرج مسلم وابن ماجة والدارقطني عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ، وليس فيما دون خمس ذود من الابل صدقة ، وليس فيما دون خمسة أوْسُق من التمر صدقة) ( ).
الأمر الثاني : لقد فرض الله عز وجل الصيام على المسلمين في السنة الثانية للهجرة وأخبر سبحانه بأنه ليس أمراً جديداً إنما هو مفروض على الأنبياء والأمم السابقة , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ) .
وقيل فرض الصوم في اليوم الثاني من شهر شعبان من السنة الثانية ، ولكن ليس من أمارة أو دليل يبين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا صيّاماً عند الخروج الى معركة بدر , أو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم بالأفطار ليوم المعركة التي وقعت في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وقيل فُرض صيام عاشوراء في السنة الأولى للهجرة ، ثم نُسخ فرضه بفرض صيام رمضان في السنة الثانية .
ويمكن إنشاء قانون من وجوه :
الأول : قانون كل فريضة عبادية نهي يومي متكرر عن الإرهاب .
الثاني : قانون أوان نزول الفريضة العبادية مانع من الإرهاب .
الثالث : قانون فريضة الزكاة نهي عن الإرهاب .
الرابع : قانون فريضة الصيام مانع سنوي متجدد عن الإرهاب .
الخامس : قانون فريضة الحج تهذيب للنفوس ومانع من الإرهاب والإرهاب الموازي بدليل صبغة العموم في وجوبه ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
السادس : قانون فرض الخمس لمنع الإرهاب وإزاحة الضغائن من النفوس.
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحقق فتح مكة بآية من عند الله ، ومن غير قتال يعتد به مع إصرار عدد من رجالات قريش على التصدي والدفاع ، وسرعان ما تخاذلوا وانهزموا لبيان أن عاقبة الإرهاب الإندحار ، وأنه طريق شائكة تجلب الأذى والضرر لأصحابها .
وعندما اشتكى وفد خزاعة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم حلفاؤه من خرق قريش للهدنة بمساعدتهم لبني بكر عليهم ، وعاد وفد خزاعة ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : كَأَنّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَكُمْ لِيَشُدّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدّةِ( ).
فما مرت أيام حتى جاء أبو سفيان إلى المدينة ، وعندما توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة لفتحها تناجى نفر من مشركي قريش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مع أن عددهم عشرة آلاف.
واجتمع جمع من المشركين في الخندمة وهو جبل قريب من المسجد الحرام في الجهة الجنوبية الشرقية من الحرم المكي من جهة المروة ويبلغ طوله ثلاثة كيلو مترات ، وهو قريب من مكتبة مكة العامة وبنيت عليه في هذا الزمان العمارات والأسواق , وقد تجاوزه العمران ويأتي من بعده حي الملاوي .
وعندما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة في اليوم العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة قاتلهم بعض المشركين (وأصيب من المشركين قريب من اثنى عشر رجلا أو ثلاثة عشر رجلا ثم انهزموا.
وقال ابن سعد قتل أربعة وعشرون رجلا من قريش وأربعة من هذيل)( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رائد السلام ، وينهى عن التهديد والعنف وعندما دخلت جيوش المسلمين مكة , كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطأطئاً رأسه خشوعاً لله عز وجل .
وقال سعد بن عبادة : اليوم يوم الملحمه ، اليوم تستحل الحرمه ( ).
فلما بلغ قوله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : اليوم يوم المرحمة، اليوم يوم يعظم الله فيه الكعبة ، اليوم يوم تكسى فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشا( ).لإرادة نشر لواء السلام والأمن .
وليس المدار على قتال قريش للأنصار إنما المدار على تنزيه الجزيرة من الكفر ، إذ أن جلب المصلحة في دحض الشرك ، وما يترشح عنه من الفساد ، إلى جانب ترتب الإثم على قريش لعدوانها على المدينة ، ومجئ الأجر والثواب للصحابة في دفاعهم عن كلمة التوحيد ، وعن النبي والتنزيل ، فهذا الدفاع أسوة للمسلمين ، ومن معانيه أنه نقيض الإرهاب ببركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه أمور :
الأول : بعث الشوق في النفوس للمسجد الحرام خمس مرات في اليوم، فيجب في الصلاة استقبال البيت الحرام , لتعجز قريش عن تحريض الناس على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبنائه المساجد في المدينة , وليكون في تحويل القبلة إلى البيت الحرام تخفيف عن المسلمين ومنهم المستضعفون في مكة .
الثاني : سد الذرائع على الذين كفروا لتجلي قانون وهو كثرة المساجد عمارة للمسجد الحرام ذاته ، قال تعالى [وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ] ( ) .
ليكون من معاني حجب الحجة عن المشركين في موضوع بناء المسجد النبوي والمساجد الأخرى أن المسلمين يتوجهون في صلاتهم إلى المسجد الحرام ، ويتفرع عنه قانون وهو عدم مزاحمة المساجد وكثرتها للمسجد الحرام .
الثالث: دعوة أجيال المسلمين للشكر لله عز وجل بفتح مكة وتنزيه المسجد الحرام من الأصنام , وكان هذا الفتح يسمى الفتح الأعظم , والفتح المبين .
وفي القرآن الحجة والأمر والفعل والبيان الذي يدل على صدق الدعوى وموافقة الواقع , والحجة فُعلة من الحج .
ومنه المحجة وهو الطريق الواضح المسلوك البيّن والمقصود .
واللام في (لئلا) في قوله تعالى [لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ]( ) للتعليل, وتسمى لام كي , ومن مصاديق قطع الحجة في المقام وجوه :
الأول : تحويل القبلة إلى الكعبة لمنع قول الكفار : لمً تركتم التوجه إلى الكعبة التي بناها إبراهيم عليه السلام بأمر من الله عز وجل , وتوجهتم إلى قبلة غيرها .
الثاني : قطع طمع الذين كفروا من إرتداد بعض المسلمين .
الثالث : من إعجاز الآية عموم اللفظ (الناس) إذ تفيد الألف واللام العموم الإستغراقي فلا يختص الأمر بمشركي قريش ولا زمان نزول الآية , وموضوع نسخ القبلة لبيان أن إستقبال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه البيت الحرام في الصلاة بعد توجههم إلى بيت المقدس حاجة ورحمة , ومنع لإحتجاج الناس عليهم ، مع انتفاء أسباب هذا الإحتجاج .
الرابع : إستقلال المسلمين في قبلتهم إلى يوم القيامة , و(عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة نزل على أخواله من الأنصار ، وأنه صلى إلى بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً ، وكان يعجبه أن تكون قبلته إلى البيت ، وأن أول صلاة صلاها صلاة العصر ، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه ، فمر على أهل المسجد وهم راكعون .
فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة ، فداروا كما هم قِبل البيت ثم أنكروا ذلك ، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجالاً وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ( ).
و(عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنمر على المسجد فنصلي فيه ، فمررنا يوماً ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعد على المنبر.
فقلت : لقد حدث أمر ، فجلست . فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية { قد نرى تقلب وجهك في السماء }( ) حتى فرغ من الآية ، فقلت لصاحبي : تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنكون أول من صلى فتوارينا فصلينا ، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ إلى الكعبة) ( ).
الخامس : تعلم قريش وغيرهم أن القبلة هي البيت الحرام .
السادس : قطع أقاويل المرجفين الذين يقولون إذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ملة إبراهيم عليه السلام فلم يتحول عن قبلته ويصلي إلى بيت المقدس , قال تعالى [ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
السابع : بيان مسألة وهي أن هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تقطع صلته بمكة والبيت الحرام ، لأن هذه الصلة ذات صبغة عبادية.
وتحتمل أداة الإستثناء (إلا) في قوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا] ( ) وجهين:
أولاً : إنها إستثناء متصل , والمعنى لتنتفي حجة الناس عليكم إلا الذين ظلموا فإن حجتهم لا تنقطع بسبب إقامتهم على الظلم , ويراد بالحجة هنا الإحتجاج ويعني عدم انقطاعها مع إقامة الحجة أنها مغالطة .
ثانياً : إنه إستثناء منفصل , والمعنى : لكن الذين ظلموا لا يكون لهم عليكم حجة .
وهل تتعلق مسألة نفي الحجة على المسلمين بخصوص موضوع القبلة أم أنها أعم موضوعاً وحكماً , المختار هو الثاني , لذا نزلت الآية خطاباً للمسلمين والمسلمات .
الثامن : إرادة بيان مسألة وهي أن الظالم يعتمد الجدال والمغالطة حتى مع عدم وجود محل وموضوع للجدال .
ولم تقل الآية إلا المعاندين , والنسبة بين الظلم والعناد هي العموم والخصوص المطلق , فالظلم أعم , وكذا بالنسبة لموضوع الجدال.
وهل مغالطة وجدال الذين ظلموا من الإرهاب , الجواب لا , ولكنها قد تكون مقدمة للإرهاب , وقد تكون تحريضاَ عليهم , لذا تتضمن الآية التحذير والإحتراز من أهله , والقبلة أول ما نسخ ليكون من إعجاز القرآن قانون التخفيف في النسخ من جهات :
الأولى : ذات النسخ تخفيف .
الثانية : مصاحبة التخفيف للنسخ .
الثالثة : ترشح التخفيف عن النسخ .
الرابعة : دفاع الله عز وجل عن النسخ , وترغيب المسلمين بالعمل بمضمونه , وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] ( ).
إن وجوب إستقبال المسلمين القبلة خمس مرات كل يوم زاجر عن الإرهاب , ومانع من العنف ، ودعوة للمسلمين للإنقطاع إلى الذكر والتسبيح .
ومن معاني التوجه إلى البيت الحرام الإعراض عن إيذاء الغير , والإمتناع عن الإضرار بالناس , والعفو عمن يظلم نفسه بالتعدي والظلم .
واختصاص المسلمين بإستقبال الكعبة دعوة سامية لهم للشكر لله عز وجل , وكل فرد من أفراد الشكر من معالم الإيمان , ودعوة للرأفة بالناس, كما تفضل الله عز وجل ورأف بالمسلمين وجعلهم يتوجهون بمقاديم أبدانهم إلى البيت الحرام من غير أن يحجبهم الناس عنه , مع صحة الصلاة عند التوجه إلى أي جهة عند جهل القبلة وعند الضرورة , وعن(ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية فأصابتهم ضبابه فلم يهتدوا إلى القبله فصلوا لغير القبله ، ثم استبان لهم بعدما طلعت الشمس أنهم صلوا لغير القبلة .
فلما جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوه ، فأنزل الله { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ( )الآية) ( ).
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار الإمهال .
الحمد لله الذي جعل تلاوة القرآن رزقاً كريماً ، وهي سبب وعلة للرزق.
(عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء ، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء) ( ).
الحمد لله الذي جعل الحمد واقية من ميتة السوء ، وجاءت آية البحث بقوله تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ] ( ) والتي جاء الجزء الواحد بعد المائتين خاصاً بتفسيرها .
وتدل الآية بالدلالة التضمينة على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يموت أيضاً ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ]( ).
وورد لفظ [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ثلاث مرات في القرآن ، ويؤتى بالموت يوم القيامة كبشاً أملح ، والكبش ذكر الضأن ، والأملح أي يخالط صوفه لون أحمر أو أسود أو غيره، فيسأل أهل الجنة والنار عنه فيلقي الله في روعهم أنه الموت ، يعرفونه وقد قبض أرواحهم ، فيذبح هذا الكبش ، ليكون عنواناً لإنقطاع الموت ، فيكون يوم عيد لأهل الجنة ، ويوم شقاء ويأس لأهل النار .
ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه مناسبة للدعاء لجلب الخير والفلاح ، ولصرف البلاء وهل شرور الإرهاب من البلاء , الجواب نعم ، وعن أبي ليلى قال : صليت إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم فمر بآية فقال : أعوذ بالله من النار ، ويل لأهل النار( ).
وعن ابن مسعود قال : إذا مر أحدكم في الصلاة بذكر النار فليستعذ بالله من النار .
وإذا مر أحدكم بذكر الجنة فليسأل الله الجنة ( ).
وليس في مزاولة موضوع الإرهاب أي غاية إلا الغدر والسخط العام , فلابد من هجرانه والعزوف التام عنه , وليس في التأريخ الإسلامي إرهاب وقتل عشوائي .
الحمد لله الذي تفرد بالأولية فلا شئ قبله ولا شئ معه ، كان فكان الله سبحانه ولم يكن معه شئ , ثم خلق الله عز وجل العرش والماء .
و(عن أبي رزين قال : قلت : يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه ، قال : كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء ، وخلق عرشه على الماء قال الترمذي : العماء : أي ليس معه شي) ( ) .
وفي معنى العماء إلى جانب الوجه أعلاه وجوه :
الأول : السحاب الأبيض , قاله الأصمعي( ).
و(وقال الحارث بن حِلِّزة :
وكأنَّ المنون تَردْى بنا أصْ … حَمَ عُصْم ينجاب عنه العماءُ
يقول : هو في ارتفاعه قد بلغ السحاب، فالسحاب ينجاب عنه أي ينكشف.قال أبو عبيد : وإنما تأوّلنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم، ولا ندري كيف كان ذاك العَمَاء) ( ).
الثاني : السحاب مطلقاً من غير أن يتصف بالرقة أو الغلظ .
الثالث : السحاب الأبيض .
الرابع : العماء هو السحابة الكثيفة السوداء ( ) .
والمختار أن المراد من العماء : ليس مع الله عز وجل غيره.
الحمد لله الذي يفعل ما يشاء ، وليس لوجوده بداية ولا نهاية .
و(عن عمران بن حصين قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أن أهل اليمن دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و(قالوا : جئناك نسألك عن هذا الامر .
قال كان الله ولم يكن شئ غيره وعرشه على الماء وكتب في الذكر كل شئ وخلق السموات والارض)( ) .
وتفيد الواو في (وعرشه) الترتيب لما تقدم قبلها من نفي وجود أي شئ مع الله عز وجل , والتقدير ثم خلق الله عز وجل الماء والعرش .
إن التفكر بعظيم مخلوقات الله عز وجل , وبدائع صنعه التي تتجلى للحواس والعقول صارف عن الإرهاب , لما يترشح عن هذا التفكر من تفويض الأمور إلى الله عز وجل .
ومع التكنولوجيا والتقنية الحديثة تبين للعلماء والناس جميعاً سعة الأكوان , ودقة المركز , وإنضباط الكواكب والأجرام السماوية مع ضخامتها, مما يدل على وجود خالق لها وهو يتعاهدها في كل لحظة , وأدرك العلماء حقيقة وجود خالق للأكوان من خارجها , مغاير لها لا تشكله أجزاء المادة , ولا تصنعه الطاقة ، وهو خالق الزمان والمكان , وفي التنزيل [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] ( ) .
وكل ما يخطر على الإنسان في عالم التصور فالله عز وجل أعظم منه , وهو تعالى أبدع العقول , وجعلها تعجز عن درك كنهه , وفي إعتذار عيسى عليه السلام لله عز وجل ورد في التنزيل [تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ] ( ) .
لقد أراد مشركو قريش ومن والاهم الإبادة الجماعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سواء قبل أو بعد الهجرة النبوية , والشواهد عليه كثيرة ومتعددة , وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقابلهم بالصبر والدفاع , ومع قصدهم الإبادة فإنهم يزاولون الإرهاب , ويسعون لإغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولوقف نزول القرآن , ليكون من الإعجاز في نزوله منجماً وعلى التوالي حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يتم نزول القرآن .
وهل هذا الحفظ للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الجواب نعم , ليكون الضمير (الهاء) في الآية أعلاه على وجوه :
الأول : قانون حفظ استمرار نزول القرآن .
الثاني : قانون حفظ آيات القرآن من الضياع .
الثالث : قانون حفظ آيات القرآن في صدور المسلمين والمسلمات .
الرابع : من وجوه تقدير الآية (وإنا للذكر والتنزيل لحافظون).
والذكر : الحفظ , وضد النسيان والغفلة , يقال ذكرت الشئ خلاف نسيته , ومنه ما يجري على اللسان لأنه يصبح مبرزاً خارجياً , والذكر الفخر والشأن الرفيع ، قال تعالى [وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ] ( ) وقال تعالى [وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ]( ) لك شأنك .
والذكر : التوثيق , قال تعالى [رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ) والذكر : التنبيه , والذَكر بفتح الذال , خلاف الأنثى .
وأسمى معاني الذكر هو التنزيل من عند الله عز وجل .
وتكون النسبة بين الذكر والقرآن على وجوه :
الأول : نسبة العموم والخصوص المطلق , وهو على شعبتين :
الأولى : الذكر أعم من القرآن .
الثانية : القرآن هو الأعم .
الثاني : التساوي , عندما يراد من الذكر هو القرآن ، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] ( ) .
وقال تعالى [وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ] ( ) .
الثالث : العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الأول أعلاه ليكون العبد في مندوحة في كثرة الذكر في تلاوة القرآن والصلاة ، والتسبيح في الليل والنهار ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).

حرر في التاسع والعشرين
من شهر محرم الحرام 1442هـ
18/9/2020

قانون النداء القرآني زاجر عن الإرهاب
تتجلى في القرآن ومضامينه القدسية معاني كل من :
الأول : القَسم.
الثاني : الإستفهام.
الثالث : الشرط.
الرابع : الأوامر والنواهي.
الخامس : بيان الحلال والحرام.
السادس : الإستثناء.
السابع : التخصيص والتقييد.
الثامن : صيغ النداء.
التاسع : العام والخاص .
العاشر : الإثبات والنفي.
ويتصف القرآن بتعدد صيغ النداء الشخصي والخاص والعام.
وكل نداء منها دعوة للسلم والأمن ، وحرب على الإرهاب ، وإذ ورد نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تسعاً وثمانين مرة في القرآن فان كل فرد منها دعوة للمسلمين والمسلمات والناس للإمتناع عن الإرهاب وتمويله والإعانة فيه ، ومن وجوه النداء :
الأول : النداء الخاص ونداء الخصوص ، ومن الخاص الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ).
ومن الخصوص توجه النداء إلى المسلمين والمسلمات ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا] ( ) إذ ورد في هذه الآية نداء تشريف ، ونهي ، واستثناء ثم نهي ، وأختتمت الآية بقانون بصيغة الجملة الخبرية لبيان التناسب والتداخل بين النداء والنهي ، وأن النهي رحمة بالمؤمنين ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الثاني : النداء العام المتوجه إلى الناس جميعاً ، إذ ورد لفظ [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] عشرين مرة تتضمن الحث على عبادة الله عز وجل ، والتحلي بالتقوى والخشية منه سبحانه ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً] ( ).
وورد لفظ [أَيُّهَا النَّاسُ]من غير أداة النداء العام في قوله تعالى [إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا] ( ) لبيان أن الله عز وجل [غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ) وأن الله عز وجل قادر على أن يستبدل أهل الأرض بغيرهم .
الثالث : النداء للإنبياء : لقد جعل الله عز وجل الأنبياء صفوة الخلق ، وإختارهم لرسالته ، والجهاد في سبيل الله لتبليغ رسالته وهداية الناس إلى اللبث الدائم في النعيم .
ومن إعجاز القرآن خطابه لآدم وهو في الجنة قبل أن يهبط إلى الأرض، قال تعالى [يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ] ( ) وفيه إكرام لآدم وذريته , كما خاطب آدم وحواء بقوله تعالى [َكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ) .
وهل هذا الخطاب والإكرام دعوة للناس للتنزه عن الإرهاب , الجواب نعم , إذ يلتقي الناس جميعاً بصفة البنوة من آدم وحواء , وتصيبهم رشحات مباركة من سكن والديهم في الجنة , ومنه إتصال حبل التنزيل والنبوة والنفرة العامة من الإرهاب والتبرء منه , كما خاطب الله عز وجل نوحاً بقوله [قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ] ( ) ، وقال تعالى [قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ] ( ) لبيان أن سفينة نوح لواء للسلام ، وتأسيس للأمن والسلم بين الناس .
وفي إبراهيم عليه السلام ورد قوله تعالى [وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ]( ).
كما ورد في موسى عليه السلام [قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ]( ).
[وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى]( ) [قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى] ( ) [وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَامُوسَى]( ).
وبإستثناء النداء والخطاب من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن فإن النداءات الموجهة إلى موسى عليه السلام في القرآن أكثر من النداءات الموجهة إلى غيره من الأنبياء .
وهو من الشواهد على أن موسى عليه السلام كليم الله عز وجل ، وفي التنزيل [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا]( ).
وهناك سور قرآنية ورد فيها اسم موسى متكرراً في آيات متجاورة منها :
الأولى : سورة البقرة , في ثلاث عشرة آية .
الثانية : سورة الأعراف , في احدى وعشرين آية .
الثالثة : سورة يونس , الآيات ثمانية .
الرابعة : سورة طه , في سبع عشرة آية .
الخامسة : سورة الشعراء , الآيات ثمانية .
السادسة : سورة القصص , في ثمان عشرة آية .
السابعة : سورة غافر , في خمس آيات .
وبلحاظ الإحصاء أعلاه تكون سورة (الأعراف) هي أكثر سور القرآن لذكر موسى عليه السلام , ثم سورة (القصص) .
كما ورد اسم موسى عليه السلام في سور أخرى ومجموع السور التي ذكر فيها اسم موسى عليه السلام هو (أربع وثلاثون) سورة .
وقد ورد ذكر موسى عليه السلام في سور أخرى من القرآن ليكون مجموع المرات التي ذكر فيها اسمه (136) .
أما ذكر موسى عليه السلام بالضمير المتصل أو المنفصل والظاهر أو المستتر فهو كثير , مثل [ادْعُ لَنَا] التي وردت ست مرات في القرآن كلها خطاب لموسى عليه السلام بلفظ [ادْعُ لَنَا رَبَّكَ] منها ثلاث في قصة سورة البقرة [قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ] ( ).
وفي زكريا عليه السلام ورد قوله تعالى [يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا]( ).
وفي يحيى عليه السلام ورد قوله تعالى [يَايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا] ( ).
وقد ورد النداء من الله عز وجل إلى عيسى عليه السلام بالاسم ثلاث مرات :
الأولى : قوله تعالى [يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ] ( ).
الثالثة : قوله تعالى [إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ] ( ).
وكل آية من آيات النداء للأنبياء هداية إلى السلم والموادعة والوئام بين الناس , وخاطب الله سبحانه النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة والرسالة .
ولا ينحصر موضوع قوله تعالى [إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا] ( ) بهلاك طبقة وجيل من الناس وفق النظام الكوني والتعاقب في الأفراد والأجيال ، فيموت الأب ويبقى الابن مثلا ، كما في قوله تعالى [إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ] ( ) إنما مراد الآية هلاك من على الأرض دفعة واحدة ، وإيجاد قوم غيرهم سواء من ذات جنس البشر أم من غيرهم .
ويمكن إنشاء علوم تترشح عن آيات النداء العام [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] من وجوه:
الأولى : قانون المضمون القدسي لآيات النداء .
الثاني: قانون الصلة الموضوعية والحكمية بين آيات النداء العام .
الثالثة : قانون الإعجاز الذاتي والغيري في آيات النداء .
الرابعة : قانون النفع الخاص والعام من آيات النداء .
الخامسة : قانون آيات النداء العام حرب على الإرهاب .
وفي النداء من عند الله عز وجل للأنبياء بلحاظ موضوع هذا الجزء وهو (التضاد بين القرآن والإرهاب) مسائل :
الأولى : بيان قانون هو حسن سمعة الأنبياء وتنزههم عن الإرهاب .
الثانية : قانون خلو سيرة الأنبياء من الإرهاب .
الثالثة : قانون تأديب الأنبياء أصحابهم على التنزه عن الإرهاب .
الرابعة : قانون تلاوة آيات الأنبياء تأديب للمسلمين .
وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
الخامسة : قانون قصص الأنبياء في القرآن حجة على الناس للزوم الإقتداء بهم بحسن الخلق .
وتتضمن قصص الأنبياء في القرآن التحلي بالصبر على الأذى في جنب الله عز وجل , وعدم التعدي بمثله وكيف أن الصبر سلاح لبلوغ الغايات الحميدة , ويمكن القول بقانون وهو : كل فرد من أفراد الصبر في القرآن حث للمسلمين على ترك الإرهاب والظلم والتعدي فما يفتخر به المسلمون أنهم أتباع الأنبياء ولابد من تحقيق مصاديق هذا الإتباع بالوقائع والأحداث اليومية وهو من أسرار ذكر قصص الأنبياء في القرآن , قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).

النداء إلى نساء النبي (ص)
لقد أكرم الله عز وجل الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه الكريم والوحي الذي أنزل عليه , والنبوة , وأكرمه الله عز وجل بذكر أزواجه في آيات متعددة ليكون هذا الذكر والبيان موعظة لهن ولعموم نساء المسلمين ، كما ورد النداء لهن الخطاب من الله عز وجل مرتين بينهما آية واحدة وهما :
الأولى : [يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا] ( ) لبيان عظيم شأن أزواج النبي , ولزوم الإحتراز من أي معصية , كالنشوز وذاءة اللسان والمعصية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن ابن عباس النشوز وسوء الخلق)( ).
و(عن جابر . أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، وإن لكم عليهن أن لا يُوطِئْنَ فَرْشَكُم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ( ).
ورزق الله عز وجل الصحابة مرتبة لم ينلها غيرهم بتسميتهم بالمهاجرين والأنصار , قال تعالى [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ) ليتأسى بتقواهم .
الثانية : قوله تعالى [يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا]( ) . لبيان ترشح علو المنزلة على نساء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإقتران المبارك ولم تقل الآية كواحدة لبيان شأن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولأن الأحد عام يقع على الواحدة والاثنين والجمع المذكر والمؤنث.
فقد أنعم الله عز وجل على أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن رزقهن مرتبة عظيمة بنيل صفة أمهات المؤمنين , قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] ( ).
وفي قراءة عبد الله : وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم .
و(في قراءة أبي بن كعب : وهو أبوهم) ( ).
وفيه دعوة لعموم النساء للتحلي بخلق أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التقوى والصلاح وتربية الناشئة على التقوى لقوله تعالى [إِنْ اتَّقَيْتُنَّ]( ) .
ومن التقوى النفرة من الإرهاب والإبتعاد عن التطرف وأسباب العداوة والبغضاء.
ومن معاني أمومة أزواج النبي للمؤمنين حرمة نكاحهن ومع تلك الحرمة الدعوة لأخذ الحديث منهن فيما يخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ، وأنا خَيْرُكُم لأهْلي) ( ).
والمدار على ما مرسوم في المصاحف وأيهما أكبر وأهم الولاية المذكورة في الآية أم الأبوة المقدرة , الجواب هو الأول , وهو أرحم بهم , وأعطف عليهم , وهو الذي يبذل جهده لصلاحهم .
و(عن عبد الرحمن بن أبي عميرة، عن النبيّ صلّى الله عليه، قال : ما من مؤمن إلاّ وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤا إن شئتم {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}( ) فأيّما مؤمن هلك وترك مالاً فليرثه عصبته مَنْ كانوا ، وإن ترك دَيناً أو ضياعاً فليأتني فإنّي أنا مولاه.
{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}( ) يعني كأُمّهاتهم في الحرمة، نظيره قوله تعالى : {وَجَنَّة عَرضها السَّماوات والأَرْض}( ) أي كالسماوات ، وإنّما أراد الله تعالى تعظيم حقّهن وحرمتهن ، وإنّه لا يجوز نكاحهن لا في حياة النبيّ صلّى الله عليه إنْ طلّق ولا بعد وفاته، هنّ حرام على كلّ مؤمن كحرمة أُمّهِ، ودليل هذا التأويل أنَّه لا يحرم على الولد رؤية الأُمّ، وقد حرّم الله رؤيتهنّ على الأجنبيين، ولا يرثنّهم ولا يرثونهنّ، فعلموا أنّهن أُمّهات المؤمنين من جهة الحرمة، وتحريم نكاحهنّ عليهم)( ).
ومن مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان دائم البشر , لطيفاً مع أزواجه , وموسعاً عليهن في النفقة , ومن مصاديقه تحلي الشباب المسلم بحسن العشرة مع الناس جميعاً ، والمحافظة على السلم المجتمعي ونشر مفاهيم المودة والأمن بين الناس .
كما ورد ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن بالأمر من الله سبحانه إليه بإخبارهن عن الحكم الشرعي الخاص في حسن العشرة وخصوص صفة زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
وفيه ترغيب لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإجتهاد بطاعة الله عز وجل ورسوله , وصيرورتهن أسوة للمؤمنات في حسن السيرة والعشرة الزوجية , وقد وردت آيات متعددة بخصوص بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففي قوله تعالى [وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى] ( ).
ومن وجوه الغنى زواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خديجة وكانت ذات مال وتجارة لتتولى إعانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته ، وشؤون المعيشة.
وفي الآية بشارة السعة والغنى للمسلمين ، إذ جاء الخطاب في الآية خاصاً للنبي وهو عام يلحق به الصحابة والأمة.
كما وردت آيات بخصوص أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها قوله تعالى [وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ] ( ).
وورد بخصوص زينب بنت جحش قوله تعالى [وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً] ( ) وورد قوله تعالى في حديث الإفك [إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ).
وفيه نهي عن الإفك والإفتراء وصيرورته مقدمة للإرهاب أو سبباً للجدال والدفاع عنه.
وفي حديث الإفك لم يحد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن أبي سلول تأليفاً له ، ويمكن استقراء مسأله عنه وهي ترك الحد عمن يخشى ترشح الضرر الخاص أو العام عند إقامة الحد عليه ، سواء جاء الضرر منه أو من غيره ، ولو كانت إقامة حد مخصوص تؤدي إلى الفتنة أو الأذى أو التهييج الإعلامي فهل يصح إرجاؤه أو إلغاؤه الجواب نعم.
لقد أراد الله عز وجل أن تكون حياة أسرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدرسة في علم الإجتماع لبناء الأسرة المسلمة وفق قواعد الحوار والمودة والإحسان وتعاهد الفرائض العبادية ، وأسس منع روافد الإرهاب ، كما بينت آيات القرآن فضل الله عز وجل على الناس في الزواج وما يترشح عنه من حسن الصلات والعشرة بين الزوجين ، قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] ( ).
قانون الصلح ضد للإرهاب
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا روضة صالحة للصلح ، ولا يعلم ما صرف عن الناس من البلاء بالصلح والموادعة إلا الله عز وجل , وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
ومن مفاهيم الصلح الدعوة إلى التفكر بالآيات الكونية وإدراك الحاجة إلى الوظائف العبادية ، وهذا الإدراك من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
بتقريب وهو من لطف الله عز وجل جعل الناس يدركون وجوب طاعة وعبادة الله عز وجل .
ومن المعاني والغايات الحميدة لصيرورة العبادة علة لخلق الناس ميل الناس الفطري إلى الصلح عند بروز أسباب الخصومة.
وما من نبي بعثه الله عز وجل إلا وجاء بمسائل وأحكام بخصوص الصلح من جهات :
الأولى : قانون دعوة النبي إلى الصلح ، قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
الثانية : قانون تحبيب النبي الصلح إلى الناس.
الثالثة : قانون سعي النبي إلى الصلح والوئام ، قال تعالى [إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ]( )، وهناك تناف وتضاد بين الإصلاح والإرهاب ، بالمقدمات والسنخية والأثر.
الرابعة : قانون تعاهد الأنبياء الصلح والإصلاح ، قال تعالى [وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ]( ).
لقد بعث الله النبي محمداً في مكة وكانت الرئاسة وولاية البيت الحرام بيد المشركين ، فلم يزاحمهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ولاية البيت الحرام ، ولم يقم بكسر أصنامهم , وهذا الإمتناع من الشواهد على صبغة السلمية في رسالته السماوية , إنما أخبرهم بأن بعثته لإستدامة ولايتهم هذه ولكن مع قيد الإيمان ، والتصديق بالمعجزات التي جاء بها ، وهو الذي تجلى عندما نزل قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ).
وهل صبر النبي النبي وأهل بيته وأصحابه في مكة من مصاديق الصلح والوئام والموادعة ، الجواب نعم ، ليكون مقدمة لصلح الحديبية ، ورضا الصحابة به ، إذ أن طائفة منهم لم يرضوا يوم الحديبية بارجاء العمرة إلى العام التالي وفق بنود الصلح بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين سهيل بن عمرو رئيس وفد قريش ، فكان صبر النبي في مكة وتحمله وأهل البيت الحصار لثلاث سنين من غير أن يشهروا سلاح الجهاد وإن كان دفاعاً محضاً مقدمة للرضا بالصلح ودفع الإرهاب .
وعندما اشتد أذى المشركين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة قبل الهجرة رغبّهم بالهجرة إلى الحبشة ، وقال : إن فيها ملكا لا يُظلم عنده أحد وهي أرض صدق( ).
فكانت هذه الهجرة معجزة حسية غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : قانون تحلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالصبر.
الثانية : تحمل المهاجرين أهوال الطريق ، ومشاق الغربة تصديقاً برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو شاهد على حسن صبرهم ، ليكون من مصاديق الصبر الوارد في القرآن بخصوص يعقوب النبي بقوله تعال [فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ]( ) صفة الصبر الجميل عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة .
الثالثة : ثبات الصحابة على الإيمان وهم في الحبشة ، مع أن أهل تلك البلاد كانوا على دين النصرانية ، فان قلت قد تنصر عبيد الله بن جحش هناك .
الجواب لا عبرة بالفرد الواحد من بين أكثر من ثمانين صحابياً مهاجراً ، وقد مات عبيد الله بن جحش في الحبشة وتزوج امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن كتب كتاباً إلى النجاشي يطلب منه أن يزوجه أم حبيبة ، وأصدق النجاشي منه تسعمائة دينار لينتفع ويتباهى بنو أمية بهذا الزواج .
ولكن عندما جاء أبو سفيان إلى المدينة يطلب الصلح بعد شكوى وفد خزاعة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , دَخَلَ أبو سفيان (عَلَى ابْنَتِهِ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ فَلَمّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَوَتْهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا بُنَيّةُ ؟ مَا أَدْرِي أَرَغِبْت بِي عَنْ هَذَا الْفِرَاشِ أَمْ رَغِبْت بِهِ عَنّي ؟ .
قَالَتْ بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَأَنْتَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ نَجَسٌ وَلَمْ أُحِبّ أَنْ تَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ أَصَابَك يَا بُنَيّةُ بَعْدِي شَرّ) ( ).
الرابعة : صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على غياب أصحابه عنه ، مع حاجته إلى كل واحد منهم ، وهو يعلم أن قريشاً قد يتجرأون في التعدي عليه عندما يرون النقص في أصحابه ، وهجرة آخرين .
الخامسة : في هجرة الصحابة إلى الحبشة بعث لليأس في قلوب المشركين.
السادسة : عندما قام أبو جهل وأصحابه بتعذيب عمار بن ياسر ووالديه وأخيه كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمر عليهم ويقول (اصبرا آل ياسر).
ويحتمل هذا القول في أوانه وجوهاً :
الأول : قبل تعذيب سمية بنت خياط أم عمار .
الثاني : أثناء تعذيب سمية بنت خياط .
الثالث : بعد قتل سمية بنت خياط .
والمختار هو الثاني والثالث ، إذ أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صبراً آل ياسر موعدكم الجنة) ( )، قانون يصدح ويضئ في جنبات الأرض ويدعو المسلمين والناس جميعاً إلى الصبر والتحمل ، والإمتناع عن الإرهاب حتى مع أشق الأحوال، والأذى من الطرف الآخر ، لقد أوذي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه وأهل بيته وأصحابه.
ومن معاني عدم نسخ آيات الصلح الذي نذهب إليه أنه واقية من الإرهاب ودفع له ، وهل فيه إرجاء للإرهاب ، الجواب ليس من موضوعية للإرهاب ،وهو باطل شرعاً وعقلاً .
ويعجز أصحابه عن إظهاره في حال السلم والصلح بل إنه لا يجد له مريدين وحملة ، لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية مستعداً لتقديم التنازلات للمشركين لإمضاء الصلح ، ووقف حال الحرب والقتال بين المسلمين وبينهم.
لقد أراد الله عز وجل بصلح الحديبية إطفاء نار الفتنة وقد قال سبحانه [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( )، والنسبة بين الفتنة والإرهاب عموم وخصوص مطلق ، فالفتنة أعم وأشد من جهات :
الأولى : قانون الفتنة مقدمة للإرهاب .
الثانية : قانون الإرهاب فتنة .
الثالثة : قانون ترشح الفتنة عن الإهاب , قال تعالى [وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا]( ).
قانون الإصطلاحات الشرعية حرب على الإرهاب
يمكن إنشاء قانون وهو : الحياة الدنيا دار الأحكام الشرعية ، فما من أحد من الناس ذكراً أو أنثى إلا ويتوجه له الخطاب الشرعي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
وهناك اصطلاحات وهي :
الأول : الشرع .
الثاني : الخطاب الشرعي .
الثالث : الأدلة الشرعية .
الرابع : النصوص الشرعية .
الخامس : الحكم الشرعي .
السادس : الحكم التكليفي .
السابع : الحكم الوضعي .
والنسبة بين الشرع والخطاب الشرعي هو العموم والخصوص المطلق ، ويمكن أن يقال أنهما مما إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا , كما في قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
والنسبة بين الخطاب الشرعي والحكم الشرعي هو العموم والخصوص المطلق .
وكذا النسبة بين كل من الحكم الشرعي والحكم التكليفي، والحكم التكليفي والحكم الشرعي والحكم الوضعي ، بلحاظ أن الحكم الشرعي مقسم لهما .
وأن الحكم الوضعي قسيم للحكم التكليفي ، ومع التباين الرتبي بين هذه الوجوه فان كل فرد منها حرب على الإرهاب بذاته وبصلته مع أي من الوجوه الشرعية الأخرى ، والواقع العملي للحياة اليومية للناس .
وتعريف الشرع هو ما شرعه الله عز وجل من الأحكام في التنزيل وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد جعل الله عز وجل الدنيا دار الشرع ، ومن يعرض عنه يأتيه طوعاً وقهراً .
وقد يبتعد الناس عن الشرع فتنتشر المفاسد ويقع الظلم ، وهو من مصاديق احتجاج الملائكة عندما أخبرهم الله عز وجل [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فجاء الرد من عند الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فمن علم الله عز وجل أمور :
الأول : قانون الحياة الدنيا دار الشرع .
الثاني : قانون عدم مفارقة الأحكام الشرعية الأرض أبداً .
الثالث : قانون وجود أمة في كل زمان تعمل بالأحكام الشرعية .
أما الخطاب الشرعي فهو الترجمان والبيان للشرع ، لذا تجد الخطاب الإلهي في القرآن على وجوه :
الأول : شمول الناس على نحو العموم الإستغراقي بالخطاب النازل من عند الله كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ] ( ) .
وقد صدر الجزء السابق وهو التاسع بعد المائتين ، وهو خاص بتفسير قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ) وبلحاظ آية [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] هناك مسألة ، وهي : هل هذا اللفظ من الخطابات العامة للناس أم لابد من توجه النداء العام [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] الذي ورد في القرآن عشرين مرة.
الجواب هو الأول ، لبيان قانون وهو أن الخطابات العامة للناس في القرآن كثيرة ، تبلغ آلاف الخطابات ، ويدل عليه قوله تعالى في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ).
مما يدل على أن آيات التنزيل موجهة إلى الناس جميعاً ، وكذا أخبار السنة النبوية أما الحكم الشرعي فهو خطاب الشرع المتعلق بالمكلفين مما اقتضى فعله أو تركه أو التخيير .
الثاني : الخطاب الخاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو على شعبتين :
الأولى : إرادة خصوص شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, منه قوله تعالى [قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ] ( ) ومنها الخطابات التي لا يشاركه فيها أحد من أهل الأرض من حين بعثته وإلى يوم القيامة مثل قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ) ومنها [وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً]( ).
وقد ذكرت في الجزء السابق وهو التاسع بعد المائتين من التفسير هل قوله تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ] من الخطابات الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا…]( ).
الجواب نعم بقرينة ذكر الرسل وحرمة التكذيب بهم .
الثانية : ورود اللفظ خاصاً , ولكن المعنى عام منها [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا]( ) ومنها [قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا]( ).
ترى لماذا لم تقل الآية (قولوا آمنا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) الجواب من إعجاز الآية شهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأجيال المسلمين والمسلمات بالإيمان بالله عز وجل وما أنزل الله عز وجل على الأنبياء , لتكون هذه الشهادة حاضرة يوم القيامة , وهي من مصاديق شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمته يومئذ .
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعُطيت خمساً لم يُعطهنَّ نبي قبلي من الأنبياء وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى بلغ محرابه وأُعطيت الرعب مسيرة شهر يكون بيني وبين المشركين شهر فيقذف الله الرعب في قلوبهم.
وكان النبي يبعث إلى خاصة قومه، وبعثت إلى الجن والإنس، وكان الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار فتأكله، وأمرت أن أقاسمها في فقراء أمتي ولم يبقَ نبي إلا قد أُعطي سؤله وأُخّرت شفاعتي لأمتي) ( ).
الثالث : الخطاب الجامع للمسلمين ولأهل الكتاب بلحاظ الجامع المشترك وهو التنزيل [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] ( ).
وفيه دعوة للمسلمين باجتناب الإضرار بأهل الكتاب وحرمة إرهابهم والتفجير في منتدياتهم وأسواقهم لإشتراكهم باتباع الأنبياء ولا تعني هذه الدعوة الحصر بأهل الكتاب للحرمة الذاتية للإرهاب.
الرابع : النداء والخطاب للمسلمين والمسلمات , والمختار أنه أكثر الخطابات في القرآن , وفيه بيان للأحكام والسنن ، وقد ورد نداء (يا أيها الذين آمنوا) تسعاً وثمانين مرة في القرآن ومنها :
أولاً : قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
ثانياً : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
ثالثاً : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا]( ) .
وتتضمن الآية أعلاه الأمر للمسلمين بالإمتناع عن القهر والإكراه في الحياة الأسرية ، إذ أنها تحرم منع النساء من النكاح طمعاً فيما لهن من الميراث ، وحبس الزوجة عند وفاة زوجها .
وكان العرب في الجاهلية إذا مات أحدهم وله زوجة صارت الزوجة وكـأنها ميراث لقريبه أو لابنه من زوجة أخرى إذ يلقي رداءه عليها فيختار فيها أحد وجوه :
الأول : تزوجها من غير صداق ، إنما يحتسب الصداق الأول من زوجها.
الثاني : تزويجها للغير وقبض الصداق منه .
الثالث : عضلها أي التضييق عليها لتفتدي نفسها بما ورثته من الميت أو مما عندها من المال .
الرابع : التربص بها إلى أن تموت فيرثها .
وقد يقال أن الآية أعلاه خاصة بالرجال لأنها تحذر الأزواج , والجواب هذا هو الغالب , وقد يكون التحذير للأزواج والنساء , والنسبة بين الخطاب والنداء عموم وخصوص مطلق فالخطاب أعم , ومنه قوله تعالى [وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ] ( ).
الخامس : النداء لأهل الكتاب , وقد ورد مرتين بأداء النداء (يا) للبعيد التي هي أكثر أدوات النداء استعمالاً ، وتستعمل للقريب والبعيد .
وجاءت مرة خطاباً من الله عز جل لأهل الكتاب بقوله تعالى [يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] ( )وقال تعالى [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً] ( ).
وجاءت مرة أخرى بالأمر من الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمخاطبة أهل الكتاب بقوله تعالى [قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ] ( ).
كما جاء النداء الخاص لليهود ومنه قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( ).
ومن الخطاب العام في القرآن لأهل الكتاب [قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] ( ).
السادس : الخطاب والنداء للذين كفروا بما يتضمن التوبيخ والوعيد منه, قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ) ومنه قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ *وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] ( ) وتكفي آيات الذم والتوبيخ للكفار بقيام الحجة عليهم , وفيه شاهد على عدم اللجوء إلى الإرهاب .
ووردت خطابات اللوم والتوبيخ للكفار في القرآن ، وتشمل :
الأول : مخاطبتهم في الدنيا بخصوص حالهم في هذا العالم وأيامه الزائلة ، ومنه قوله تعالى[ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ).
الثاني : توجه الخطاب إليهم في الدنيا بخصوص عالم الآخرة ، ومنه ما ورد حكاية عن إبراهيم في التنزيل [وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ] ( ).
الثالث : الخطاب واللوم إلى الذين كفروا في الآخرة على أفعالهم في الحياة الدنيا ، ومنه قوله تعالى [وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ]( ).
الرابع : الخطاب والذم والتبكيت للذين كفروا لما صاروا إليه في النار بسبب كفرهم وجحودهم ، وقد قال تعالى [يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ]( ).
ومما سنّه ووضعه الشرع مما هو متعلق بالحكم الشرعي تنزيه للناس عن إرتكاب المعاصي والمفاسد وعن سفك الدماء .
وهناك ثلاثة أمور :
الأول : الإقتضاء .
الثاني : التخيير .
الثالث : الوضع .
ويدخل التخيير بالوضع لعدم إنحصاره بأمر واحد ، فيكون الحكم على وجهين :
الأول : الإقتضاء وهو الذي يسمى الحكم التكليفي ، وينقسم إلى الأحكام الخمسة وهي :
أولاً : الوجوب .
ثانياً :الإستحباب .
ثالثاً : الإباحة .
رابعاً : الكراهة .
خامساً : الحرمة .
الثاني : الحكم الوضعي ، وهو الحكم الذي وضعه الشارع متعلقاً بالحكم التكليفي مثل مواقيت الصلاة ، فالصلاة حكم تكليفي يتصف بالوجوب العيني ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
أما مواقيت الصلاة فهي حكم وضعي ، وكذا بالنسبة للزكاة والصيام والحج والخمس .
بحث أصولي
قانون التضاد بين الحكم التكليفي والإرهاب
ويقسم الحكم التكليفي إلى خمسة أقسام ، كل قسم يصرخ بالمكلف بالإبتعاد عن الإرهاب ، ويجذبه إلى العمل بمضامين الكتاب والسنة ، وهي تدعو مجتمعة ومتفرقة إلى التنزه عن الإرهاب .
وأقسام الحكم التكليفي هي :
الأول : الوجوب وهو لغة الثابت .
الثاني : الندب .
الثالث : الإباحة .
الرابع : الكراهة .
الخامس : الحرمة .
وقيل من معنى الوجوب : السقوط واستدل عليه بقوله تعالى [فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا] ( ) بخصوص ذبح الهدي من البقر والغنم في الحج ومعناه إذا سقطت على الأرض وخرجت أنفسها وسقطت لجنبها وسكنت حركتها ، ولكن المعنى أعم ، يقال وجب الحائط وجبة أي سقط .
ويقال وجبت الشمس إذا سقطت في المغرب .
(والوَجْبة: صوت الشيء يسقط فيسمع له كالهدة) ( ).
والمراد من الوجوب الفرض واللزوم ، وهو مقتبس من المعنى اللغوي الثابت ، وهو لا يتعارض مع معنى الساقط بلحاظ الواجب يسقط على الإنسان لزومه وأن أداءه يسقط التكليف ويبرء الذمة.
ويقال (ووَجَبَ الشيءُ يَجِب وُجوباً، من قولهم: وَجَبَ عليه الحقُّ. ووَجَبَ البَيع كذلك) ( ).
والواجب في الإصطلاح هو ما أمر به الشارع أمراً جازماً لا يقبل الترديد ، ويثاب الذي يأتي به ، ويؤثم تاركه .
وقيدُ ما أمر به الشارع ليخرج ما يأتي من الشارع مما يكون غير الواجب كالمندوب والنهي ، ولفظ الأمر لبيان العلو في جهة صدور الأمر إذ أنه يأتي من عند الله بأحد طريقين :
أولاً : التنزيل ، قال تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ]( ).
ثانياً : السنة القولية والفعلية التي هي فرع الوحي ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحتج بالقرآن لأنه يعمل بالوحي وليس اجتهاداً من عنده ، وأخرج ابن مردويه عن أبي الحمراء وحبة العرني قالا : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسد الأبواب التي في المسجد ، فشق عليهم ، قال حبة : إني لأنظر إلى حمزة بن عبد المطلب وهو تحت قطيفة حمراء وعيناه تذرفان .
وهو يقول : أخرجت عمك وأبا بكر وعمر والعباس ، وأسكنت ابن عمك ، فقال رجل يومئذ : ما يألوا يرفع ابن عمه .
قال : فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد شق عليهم ، فدعا الصلاة جامعة ، فلما اجتمعوا صعد المنبر فلم يسمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة قط كان أبلغ منها تمجيداً وتوحيداً .
فلما فرغ قال : يا أيها الناس ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها ولا أنا أخرجتكم وأسكنته ، ثم قرأ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى.
ومن خصائص الحكم التكليفي الواجب ما يترتب على إتيانه من الثواب العظيم، وأنه طريق إلى اللبث الدائم في الجنة ، والإرهاب ضد الواجب الشرعي .
أما قول يؤثم تاركه لأن هذا الترك خلاف علة خلق الإنسان ، ولأنه يعرّض صاحبه إلى البلاء في الدنيا والعقاب الأليم في الآخرة ، ويتصف الترك بأنه مطلق لجواز ترك بعض أقسام الواجب ، كما في فرض الكفارة ، وكرد السلام فهو واجب ، ولكن لو رده فرد من الجماعة سقط عن الآخرين .
بلحاظ أن الواجب يقسم إلى قسمين :
الأول : الواجب العيني مثل أداء الصلاة خمس مرات في اليوم .
الثاني : الواجب الكفائي ومنه كفاية رد واحد من الجماعة السلام.
وبخصوص الواجب التخييري يجوز ترك بعض أفراده من بين أشياء محصورة ، فالواجب ليس القدر المشترك بين أفراده ، إنما هو حصة يتحقق معها الإمتثال ، كما في خصال الكفارة ، قال تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
وإجماع المسلمين على أن الواجب في كفارة اليمين أحد الأمور التخييرية ثم الترتيب، ولا تصل النوبة إلى الإجماع لأن الحكم فيها صريح وواضح في القرآن ، كما أن الكفارة ليست بخصوص تشريع عين على المكلفين ، إنما هي لأمر عرضي.
وموضوع هذا القانون هو أن الأحكام التكليفية خالية من الإرهاب والبطش ، وهي تحرمه وتزجر عنه ،وتشغل المكلف عنه.
قانون التنافي بين الإرهاب والفطرة الإنسانية
لقد أكرم الله عز وجل الإنسان بأن خلق آدم في الجنة [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ) ومن رشحات هذا النفخ إصلاح آدم وذريته للخلق الحميد والأدب الرفيع ، والإمتناع عن فعل القبيح ، ومنه الترهيب والإرهاب ، وقال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
فكانت أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسمى مراتب الرفِعة ومكارم الأخلاق .
وهناك تناف وتضاد بين مكارم الأخلاق وبين الإرهاب ، فكل فرد من أفراد السنة النبوية القولية والفعلية دعوة للتسامح والتراحم بين الناس ,
لقد كانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة التقوى ، قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ] ( ).
ومن أبجديات التقوى الإمتناع عن الإرهاب وما فيه من الضرر الخاص والعام ومنه أن ضرر الإرهاب لا ينحصر بالواقعة ذاتها ، إنما يتعداها في المكان والزمان خاصة مع وسائل الإتصال الإجتماعي الحديثة ، وفطرة الناس على انكاره واستهجانه ورفضه.
وهل من معاني الفضل بين المسلمين إجتناب الإرهاب ضد المسلمين مطلقاً أم أن الضرر المتيقن منه الإمتناع عنه بين المسلمين ، الجواب هو الأول، إذ أن قيام من ينسب إلى الإسلام بالعمل الإرهابي أو التفجير العشوائي يضر عامة المسلمين ، وهذا أمر ظاهر بالوجدان.
وما من عمل فيه جرح أو خدش أو قتل أو تفجير عشوائي إلا ويشعر عامة المسلمين منه بالأذى والحرج الشديد خصوصاً الملايين منهم في أوربا وأمريكا ، ليكون تقدير الآية أعلاه : ولا تنسوا الفضل بينكم بالإمتناع عن الإرهاب مطلقاً).
وهذا القانون مستقرأ من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) ( )، قال تعالى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا]( )، وفطرة الله هي الإيمان والتنزه عن الشرك ومفاهيم الضلالة والظلم والتعدي .
(وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : أنا أفصح العرب، ربيت في أخوالي بني سعد، بيد أني من قريش.
وقال رجل من بني سلول: يا رسول الله، أيدالك الرجل امرأته؟
قال : نعم ، إذا كان ملفجاً فقال له أبو بكر : يا رسول الله ما قال لك، وما قلت له .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنه قال : أيماطل الرجل أهله .
فقلت له : نعم، إذا كان مفلساً، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، لقد طفت في العرب ، وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك ، فمن أدّبك .
قال : أدّبني ربي ونشأت في بني سعد) ( ).
قانون إمتناع النبي عن معاقبة الكفار صبر على الإرهاب
لقد تمادى رؤساء قريش في إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويفرع عنه إيذاء أتباعهم وعبيدهم وصبيانهم له ولأهل بيته ، ولم يكن بنو هاشم منفردين ولا ضعفاء ، وكانت لهم أحلاف مع خزاعة وبعض رؤساء ووجهاء القبائل ،وتتقوم كيفية المعاملة في الجزيرة بالثأر وسرعة الإنتقام ، وخفف الله عز وجل عنهم بقانون الأشهر الحرم ، ولكنهم صبروا على الأذى بأمر من النبي محمد .
ولم يكن بنو هاشم في السنين الأولى كلهم مسلمون ، وقد وقع العباس بن عبد المطلب ، وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب أسرى بيد المسلمين يوم معركة بدر (ومن بني المطلب بن عبد مناف: السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف.
والنعمان بن عمرو بن علقمة بن المطلب) ( ).
والمطلب بن عبد مناف هو عم عبد المطلب بن هاشم ، ولابد أن الذين اشتركوا في القتال من بني هاشم مع جمع المشركين أكثر الناس كراهية للقتال وقد أسر جماعة منهم ، كما أن عدداً منهم رجعوا من وسط الطريق مثل طالب بن أبي طالب.
وكان أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أشد الأعداء عليه ، ولكنه لم يحضر معركة بدر بل أرسل شخصاً بديلاً عنه .
ومع هذا كان بنو هاشم مستعدين للدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، وكان أبو طالب ملاذاً له ، ويواظب عنايته اليومية في الليل والنهار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة إلى بني هاشم لحفظه والذب عنه حتى بعد وفاة أبي طالب .
لقد كان الصبر على أذى قريش ملازماً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل وبعد الهجرة .
وهل هذه الملازمة باجتهاد من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنها شعبة من الوحي ، ومعه لطف من الله باخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مستقبل الوقائع وحال الأشخاص .
الجواب هو الثاني ، وفيه موعظة وعبرة ، وبيان منهاج للمسلمين بالتحلي بالصبر الذي يكون العنف والتطرف والإرهاب نقيضاً له.
فمثلاً كان سهيل بن عمرو خطيب قريش ، وكان يذم ويهجو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوقع في الأسر يوم معركة بدر .
(قال عمر : دعني يا رسول الله أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو فلا يقوم خطيباً في قومه أبداً فقال : دعها فلعلها أن تسرك يوماً .
فلما مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفر أهل مكة ، فقام سهيل عند الكعبة فقال : من كان يعبد محمداً فان محمداً مات والله حي لا يموت)( ).
وفيه مسائل :
الأولى : عدم إنتقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من رؤساء الإرهاب .
الثانية : إذا كان حكم عام من العفو أو البدل والعوض ، فيشمل التابع والمتبوع ، والسيد والعبد .
كما في قبول الفدية من أسرى المشركين في معركة بدر .
الثالثة : إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه عن عواقب الأمور ، وما ينتهي إليه الأفراد أهل الشأن من التوبة خاصة وأن الآيات نزلت بالبشارة بفتح مكة ، قال تعالى [لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ) .
وتمر الأيام ويقوم سهيل بن عمرو في مكة خطيباً يمنع الناس من الإرتداد بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة ، وكان هذا الخطاب حاجة لمنع الإرهاب خاصة وأن العامل من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على مكة يومئذ هو عَتاب بن أسيد بن أبي العيص وهو من بني أمية اسلم يوم الفتح خاف على نفسه يوم بلغه نبأ وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان قد اشتكاه أهل مكة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ ورد عن انس أن عَتابا قال (والله لا أعلم متخلفاً يتخلف عن هذه الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه فإنه لا يتخلف عنها إلا منافق فقال أهل مكة يا رسول الله استعملت على أهل الله أعرابيا جافياً.
مع أن عتاباً من أهل مكة ومن بني أمية فقد نعتوه بأنه أعرابي بلحاظ التشدد في الدين بنظرهم .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إني رأيت فيما يرى النائم كأنه أتى باب الجنة فأخذ بحلقه الباب فقلقلها حتى فتح له فدخل) ( ) والحديث ضعيف سنداً .
وورد عن عمرو بن أبي عقرب قال (سمعت عتاب بن أسيد وهو مسند ظهره إلى بيت الله يقول: والله ما أصبت في عملي هذا الذي ولاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثوبين معقدين كسوتهما مولاي كيسان)( ).
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عَفواً حليماً صفوحاً يوذيه قومه فيقابلهم بالصفح ، وقد يصفح الإنسان ولكنه يبقى في حال غضب وكظم الغيظ ، والتذمر والكبر ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منزه عن هذه الصفات .
نعم هذا الصفح ليس مجرداً وفرداً مستقلاً ، إنما يلازمه الإستمرار بالدعوة إلى الله والحث على الإيمان ، ونبذ عبادة الأصنام ، مما يجعل الكفار يمتلئون غيظاً ويعزمون على قتله ليلة المبيت .
واستمر كيدهم بعد الهجرة ، وصار أشد ، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثابت في ذات مقامات الصبر والحلم والصفح ليكون حجة في تحريم الإرهاب وبيان قبحه وضرره وكيف أن عاقبته إلى خسران ، قال تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ]( ).
قانون الصبر حصانة للنفس من الإرهاب
قد تقدم في الجزء الرابع بعد المائتين قانون الصبر فضيلة( ) .
والصبر لغة الحبس ، والصبر نقيض الجزع ، والصبر في الإصطلاح حبس النفس على أداء الفرائض وحبسها عن محارم الله ، ومنعها من السخط والشكاية .
ويتقوم الصبر بالرضا بما كتب الله عز وجل للعبد ، قال تعالى [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا] ( ) أي ما قضى الله لنا .
(عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لكل شيء حقيقة ، وما بلغ عبد حقيقة الإِيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه) ( ).
وقد يحتج مرتكب الإرهاب بالغبن ولحوق الضرر به أو الطائفة أو الملة، فنزلت الآية أعلاه للمواساة والإخبار من الله بإن الذي يصيب الفرد والجماعة والطائفة هو باذن الله عز وجل ، وهو سبحانه أعلم بالمصلحة وعاقبة الأمور ، ثم أن الإرهاب لا يرفع بلاء ولا يحل معضلة ، إنما يكون هو بذاته بلاء على أصحابه وغيرهم ، مما اقتضى البيان والتنبيه بما يوقظ البصائر ونفاذها ، ويجعل الذي يريد الإقدام على فعل إرهابي التفكر بالعواقب في الدنيا والآخرة ، وهذا التفكر مناسبة لرقة القلب ، واللجوء إلى الله ، والرغبة فيما عنده ، وما يأتي منه سبحانه .
وأخرج أحمد عن بشير الدمشقي قال : مرّ عيسى عليه الصلاة والسلام بقوم فقال : اللهم اغفر لنا ثلاثاً فقالوا : يا روح الله انا نريد أن نسمع منك اليوم موعظة ، ونسمع منك شيئاً لم نسمعه فيما مضى؟ فأوحى الله إلى عيسى أن قل لهم : إني من أغفر له مغفرة واحدة أصلح له بها دنياه وآخرته( ).
وهل الآية أعلاه إنذار من العقاب الأخروي على الذي لا يؤمن بقضاء الله ، ويتجه للبطش والإنتقام وسفك الدماء بغير حق ، الجواب نعم .
ولم تكن آية السيف وحدها الناسخة عند المكثرين في النسخ من التابعين وتابعي التابعين ، فهناك آية أخرى ناسخة لبعض آيات السلم والتسامح ، وهي التاسعة والعشرون من سورة التوبة قال تعالى [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( ), ويأتي البيان في جزء لاحق إن شاء الله بـعدم ثبوت النسخ في المقام) .
وكأنه أمارة على أن آيات القتال كلها كُره ومشقة وأذى ، وهو الذي يؤكده الوجدان والشواهد التأريخية ، خاصة وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لا يطمعون في ملك أحد ، ولا يريدون الإحتلال والسلطان ، إنما يسعون لنشر كلمة التوحيد ، وتنزيه الجزيرة من الإقتتال القبلي ونحوه .
وهل يدل وصف القتال بأنه كره على عدم استدامته ، الجواب نعم ، لذا ذهب جمع من العلماء إلى أن الآية خاصة بأيام التنزيل لتعدد هجوم المشركين على المدينة المنورة وإصرارهم على القتال.
قانون حديث النبي (ص) من جوامع الكلم
الحديث لغة هو الجديد من كل شئ ، ويطلق على الكلام لأنه يتجدد ويستحدث ، وكل نطق وكلمات هي غير التي قبلها ، وإن كانت متحدة باللفظ لموضوعية تعدد وتوالي الصدور إلى جانب التعدد في أفراد الزمان، والحديث في الإصطلاح هو ما صدر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القول ، ومشهور العلماء يدخل في تعريف الحديث : أفعال ومعاملة ووصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ويكون التمييز والفصل بينها بلحاظ التقسيم إلى السنة القولية والفعلية والتقريرية وقد أضفت أقساماً للسنة منها :
الأول : السنة التدوينية .
الثاني : السنة الدفاعية ، وكيف أن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان دفاعاً ووقاية من غزو المشركين.
(عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْعَدَّهُ الْعَادُّ لأَحْصَاهُ)( ).
أي أنه يتكلم بتأن ، ويخرج كل كلمة فريدة مستقلة ، يدركها السامعون على تباين أفهامهم واللهجات التي يتكلمون بها خاصة وأن كل قبيلة وبلدة من العرب لهم لهجة خاصة ، أي عدد من ألفاظ مخصوصة ينفردون بها من مجموع اللغة العربية.
والمراد من جوامع الكلم هو الكلام الوجيز والقليل في لفظه , ولكن معانيه كثيرة ومتعددة , ويحتمل المراد من جوامع الكلم وجوهاً :
الأول : آيات القرآن , وكل كلمة وجملة منه تتصف بانها فريدة وجوامع الكلم في ذاتها ومعانيها وتأويلها ودلالاتها وغاياتها ومعانيها التي تتجدد بما يناسب كل زمان , قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثاني : الحديث القدسي والذي ينسبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل ويشمل الخوف والرجاء والإخبار من الله عز وجل عن الخلائق وماهية الفرائض وسنن الأحكام ، ومنه ما ورد (عن جابر : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال ربنا : الصيام جنة يستجن بها العبد من النار ، وهو لي وأنا أجزي به .
قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الصيام جنة حصينة من النار) ( ).
فالحديث القدسي هو إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الله عز وجل فهو يجري على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه إخبار عن قول أمر وفعل ووعد من الله عز وجل ومنه (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) ( ).
ويبين التدبر في دراسة الأحاديث القدسية أنها نعمة من جهات :
الأولى : إنها تهدي إلى الهدى .
الثانية : ترّغب بالفرائض وأدائها .
الثالثة : جذب العبد إلى منازل الإيمان .
الرابعة : تبعث النفرة في النفوس من القبائح ومن الإرهاب , وتدل على قانون وهو أن الله عز وجل لا يرضى بالظلم , وأنه يأمر المؤمنين والمؤمنات بالتنزه عن إرهاب الناس , ونشر الرعب في الأرض , وهذا التنزه من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الثالث : السنة النبوية القولية وما فيها من البيان والكشف , وتفسير آيات القرآن , والسنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع , وتتصف بأنها من جوامع الكلم لأنها شعبة من الوحي .
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدٌ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليه السلام ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ نُصِرْت بِالرّعْبِ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، وَأُعْطِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَأُحِلّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تُحْلَلْ لِنَبِيّ كَانَ قَبْلِي ، وَأُعْطِيت الشّفَاعَةَ خَمْسٌ لَمْ يُؤْتَهُنّ نَبِيّ قَبْلِي) ( ).
وهل القرآن من جوامع الكلم ، الجواب نعم , وهو أكبر وأعظم من جوامع الكلم إذ أن الكلمة الواحدة منه لها معانِ كثيرة متجددة في كل زمان .
ومن أسرار هذا التعدد في معاني اللفظ القرآني , والحديث النبوي إحتواؤه على الموعظة وبيان الأحكام ، وفيه مسائل :
الأولى : الدعوة إلى الصلاح .
الثانية : العصمة من سفك الدماء .
الثالثة : نبذ العنف والمكر والخبث .
لقد أراد الله عز وجل للقرآن التحدي للصيغ التي يتحدث فيها الناس فمثلاً ورد عن (النعمان بن بشير يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الحلال بيّن والحرام بيّن) ( ).
مع قلة كلماته فهو شاهد على تبليغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحكام الشريعة قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ولا يتعارض حكم العقل مع حكم الشريعة , وكل حديث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدرسة في أسباب الهدى والصلاح .
و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ ، وأنا خَيْرُكُم لأهْلي)( ).
لبيان قانون وهو أن الأفضل والأحسن من الناس يحسن سمعته مع عياله وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الإمام والأسوة في حسن التعامل مع الأسرة مما يلزم المسلمين الرجوع إلى سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسرية واقتباس الدروس والأحكام منها , وهل الذي يقوم بالإرهاب يحسن لأهله أم أنه يسبب لهم الضرر والأذى والحرج بين الناس.
الجواب هو الثاني , فمن برّ الوالدين الإمتناع عن الإرهاب , وعدم إيذاء الآخرين ليكون الوالدان في مأمن من المساءلة ومن اللوم .
وورد عن (الإمام علي بن الحسين عن أبيه عليهم السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)( ).
وفيه نجاة من الغيبة والنميمة ، ومنع من تنمية الحقد والبغض في النفس ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ] ( ).
وقال تعالى [قُلْ لاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ] ( ).
والأصل أن مقدمات الإرهاب وذات فعله مما لا يعني المسلم وكذا بالنسبة لأسبابه, فالمسلم في شغل عنها ولم يقف أحد حاجزاً بينك وبين عبادتك لله عز وجل , ولم يغلق الله عز وجل عنك أسباب الدعاء والمسألة , وقد فتح الله عز وجل باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالميسور وبما لا يجلب الضرر على الذات والغير والأهل ونحوهم , والإرهاب ضرر محض .
ومن معاني جوامع الكلم في الحديث أعلاه السعادة والغبطة في ترك المسلم لما لا يعنيه .
ومن جوامع الكلم ما ورد عن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الصيام جنة) ( ).
والمراد أنه أمن وحرز من المعاصي والسيئات ، وحصن يلوذ به العبد من النار يوم القيامة , وقد وردت أحاديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومنه ما ورد (عن معاذ قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فأصبحت قريباً منه ونحن نسير .
فقلت : يا نبيّ الله ألا تخبرني بعمل يدخلني الجنّة، ويباعدني من النار .
قال : يا معاذ، لقد سألت عن عظيم، وإنّه ليسير على من يسّرهُ الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت.
ثمّ قال : ألاَ أدلُّك على أبواب الخير.
الصوم جُنّة من النار والصدقة تطفئ غضب الربّ ، وصلاة الرجل في جوف الليل ثمّ قرأ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}( ) حتّى بلغ {جَزَآءَ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}( ) ثمّ قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كلّه. فقلتُ : بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه.
فقال : اكفف، عليك هذا.
فقلت : يا رسول الله وإنّا لمؤاخذون بما نتكلّم؟
فقال : ثكلتك أُمّك يا معاذ وهل يكبّ الناس في النّار على وجوههم أو على مناخرهم إلاّ حصائد ألسنتهم) ( ).
وأداء الفرائض العبادية حرز من إرتكاب المعاصي والسيئات كما أنه وقاية من الأمراض والعلل .
و(عن عبد الرحمن بن سمرة في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : أن الصيام جنة والصلاة برهان) ( ).
وذكر الصيام لأنه إمساك عن الأكل والشرب , ومنع للجوارح من التعدي والظلم , ومن الآيات أن فريضة الصيام لشهر كامل من كل سنة ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ) لتنمية ملكة الصبر عن الظلم عند المسلم ويمكن إنشاء قانون وهو كل فريضة عبادية جُنة وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) فكل فريضة جاء بها القرآن هي رحمة لمن يؤديها ولغيره من الناس , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) أي أخرجت الأمة بالفرائض والتراحم ونبذ الإرهاب .
قانون السور المكية إعلان للحرب على الإرهاب
لقد أدرك الناس أن النبي محمداً جاء للتغيير التام في السنن والمجتمع والأخلاق .
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الوافدين إلى مكة إلى الإسلام ويتلو عليهم آيات القرآن التي نزلت عليه ،ومن إعجاز القرآن الذاتي أن السور المكية تتصف بخصائص :
الأولى : قصر السورة , فمثلاً سورة الكوثر فيها وجوه :
الأول : تتألف هذه السورة من عشر كلمات،ومجموع حروفها اثنان وأربعون حرفاً .
الثاني : عدد آياتها ثلاثة .
الثالث : سورة الكوثر أقل سور القرآن من جهة عدد الكلمات.
الرابع : لم يرد لفظ [الْكَوْثَرَ] في القرآن إلا مرة واحدة في هذه السورة .
الخامس : سهولة حفظ هذه السورة فيسمعها العربي مرة فيحفظها ليكون شغف العرب بالشعر وحفظه مقدمة لملكة حفظهم القرآن ، ومن الإعجاز الغيري لهذه السورة أنها تبعث الشوق في النفوس لتلاوتها والتدبر في معانيها ودلالاتها .
السادس : بيان المنزلة الرفيعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله عز وجل , ومن معانيه دعوة الناس لإكرامه ، قال تعالى [لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
السابع : ترغيب الناس بالإسلام .
الثامن : حلاوة وعذوبة ما يعد الله عز وجل به النبي محمداً والمسلمين , ليدعو الناس إلى الهدى والإيمان بالكلمة الطيبة والإحسان , والصبر , والإمتناع عن الإرهاب بإتخاذ الصلة بين العلة والمعلول وسيلة للإدراك الذي هو إنشاء صور الأشياء في الوجود الذهني والقوة المدركة وفيه أطراف:
الأول : المِدرك بالكسر , وهو العقل .
الثاني : المَدرك , بالفتح وهو الموضوع أو الحكم .
الثالث : الصورة والشئ المنتزع من ماهيته في الخارج كتصور حرارة ولهيب نار الآخرة وصيرورته باعثاً للإيمان , وزاجراً عن الظلم والتعدي على الأخرين في أنفسهم وأموالهم .
(وعن الإمام الحسين قال : إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله عزوجل) ( ).
وكذا في قصور نعيم الجنة والسبيل إليها بعمل الصالحات , قال تعالى [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى] ( ). التاسع : مجئ السورة خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبشارة ما رزق الله ، وتضمنها لعلم الغيب باندحار عدوه ، فيرجع زوار مكة والمعتمرون بهذا التخويف والوعيد ، وما فيه من الإشارة إلى قرب زوال سلطان رؤساء الشرك من قريش ، فمن معاني قوله تعالى [إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ] ( )، إنقطاع سلطان المشركين وولايتهم للبيت الحرام . العاشر : دعوة الناس للتصديق بعالم الآخرة . الحادي عشر : قصر سورة الكوثر لبيان حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للسرعة والمثابرة في الدعوة إلى الله عز وجل , فتأتي السورة بجوامع الكلمة لتجذب الناس إلى التفكر في براهين القرآن , وتفتح الآفاق وتزيل الحواجز بين الناس وعالم الآخرة . لقد أخبر القرآن والسنة عن الثواب والأجر في تلاوة آيات القرآن, ومنها ما يخص سورة الكوثر وقد ورد (عن أبي أمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}( ) سقاه الله من أنهار الجنة وأعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل قربان قرّبة العباد في يوم عيد ويقربون من أهل الكتاب والمشركين) ( ). وظاهر سند الحديث عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاله في المدينة بعد الهجرة ، وهو لا يمنع من وروده في مكة قبل الهجرة . وأبي بن كعب بن قيس الأنصاري من بني النجار وحضر أبي بن كعب العقبة الثانية ، وبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشهد بدراً . (عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقلت : أسماني لك. قال : نعم . قيل لأبي: أفرحت بذلك. قال : وما يمنعني والله تعالى يقول : قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما تجمعون هكذا قرأها بالتاء)( ). ولو دار الأمر بين سماع أبي بن كعب بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لثواب قراءة سورة الكوثر في بيعة العقبة أم في المدينة ، فالأرجح هو الثاني . وحينما يسمع أهل مكة والوافدين سورة الكوثر يستحضرون سبب وموضوع نزولها ، وهو إيذاء قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتميل القلوب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . (قال ابن عباس : نزلت هذه السورة في العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج من المسجد وهو يدخل فالتقيا عند باب بني سهم وتحدّثا وأناس من صناديد قريش في المسجد جلوس، فلما دخل العاص قالوا له : من الذي كنت تحدث . قال : ذاك الأبتر، يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان قد توفى قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان من خديجة، وكانوا يسمّون من ليس له ابن أبتر، فسمّته قريش عند موت إبنه أبتر وصنبوراً فأنزل الله سبحانه إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. ويتساءل الناس زمن النزول عن [الْكَوْثَرَ] ما هو خاصة ، وأن الآية وردت بصيغة الماضي [أَعْطَيْنَاكَ] ، والكوثر لغة فوعل من الكثرة ، والواو زائدة ، فالكوثر هو الكثير من الشئ . (وتَكَوْثَرَ النَّقْعُ والعَجَاجُ: الْتَفَّ بعضُه على بعض. والكَوْثَرُ: العَجَاجُ والغُبَارُ) ( ). والكوثر : الخير والعطاء الكثير . (والكَوْثَرُ من الغبار: الكَثيرُ. وقد تَكَوْثَرَ. قال الشاعر: وقد ثارَ نقع الموتِ حتَّى تَكَوْثَرا) ( ). والكوثر نهر في الجنة ، تتفجر منه الأنهار . وشانئك : عدوك . ليكون من الإعجاز الغيري للسور المكية مسائل : الأولى : الإخبار الغيبي بانقطاع أعداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الذكر والشأن . الثانية : منع الناس من نصرة قريش عندما تبدأ بمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . الثالثة : لم يُبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقتال والحرب ، إنما جاء بالخير الكثير ومنه أحكام الإسلام وزيادة الأزراق ، ونماء الأموال والبركة ، (أعطيناك) فتنتفع الأمة والناس جميعاً ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ). لقد علم أهل مكة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآمن أفراد من أهلها بنبوته ، ونقل زائروا مكة لأهليهم دعوة ورسالة النبي وآيات القرآن التي جاء بها وتوحي كيفية الدعوة والتنزيل إلى آيات وسور أخرى كثيرة من عند الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , مما يبعث على الرصد والترقب والمتابعة ذات صبغة التفكر , وكثرة السؤال عما ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات . وبعد أن كانت أسئلة أهل مكة وزوار البيت وعرب الجزيرة عن آيات التنزيل تبدل الأمر في المدينة بعد الهجرة واستقرار الإسلام فيها إلى توجههم بالسؤال إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رجاء الإجابة الشافية , والحكم الفيصل . فتكرر لفظ (يسألونك) خمس عشرة مرة في القرآن , وورد لفظ (يستفتونك) مرتين فيه ، قال تعالى [وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا]( ). الرابعة : تضمنت السورة المكية التخويف والإنذار , من غير أن تترك البشارة والأمل قال تعالى في وصف يوم القيامة [يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه]( ).
الخامسة : تأكيد السور المكية على وجوب الإيمان بالله , وهو سر الحياة , وعلة الخلق , وطريق الهداية إلى سبل الخير , قال تعالى [وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
السادسة : الوعيد للذين كفروا بعذاب يوم القيامة , مع ذكر صفحات من قصص الأمم السابقة , ونزول عذاب الإستئصال بالذين كفروا , كما في ذكر قوم صالح , وعقرهم للناقة المعجزة ، قال تعالى [فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا]( ).
فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قانون الملازمة بين أخبار نبوته وبين تلاوة الناس لآيات القرآن .
لقد أمر الله عز وجل إبراهيم بدعوة الناس للحج ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ) .
لتكون رسالة إبراهيم مقدمة وتوطئة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوته آيات القرآن على أهل مكة وغيرهم ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ] ( ).
واللام في [وَلِتُنذِر] لام التعليل أي أن علة نزول القرآن هو الإنذار من الشرك ، ومن إنكار عالم الحساب ، فكان سلاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة هو القرآن ، وبما يفيد بيان قانون وهو ليس عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا القرآن , وهو الهادي والشفيع والحصن من الظلم والإرهاب .
ومن يواظب على تلاوة القرآن يجد فيه الرضا بما قسم الله عز وجل للذات والأمة , ويجعله يدرك قبح الإرهاب .
وفيه حجة على الذين كفروا ، وإخبار عن قانون وهو لم يُبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم للغزو والقتال ، وهذا القانون من المسّلمات عند أهل مكة قبل الهجرة وبعدها ، وفيه مسائل :
الأولى : بعث النفرة في النفوس من القتال .
الثانية : تلقي المشركين النبوة والتنزيل بالمحاربة والقتال خلاف العقل , وفيه منافاة للحكمة .
الثالثة : ترقب الناس لما ينزل بالذين يحاربون التوحيد والنبوة , وهو من مصاديق الخير في قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] ( ).
الرابعة : تجلي قانون وهو بالتنزيل ينقطع الإرهاب , ولما كان القرآن لكل العصور والأزمان إذن هو حرب على الإرهاب أمس واليوم وغداً .
ومن الإعجاز في تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن خمس مرات في اليوم الدعوة اليومية للتقوى ، والأمن والسلم ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وحينما عزم المشركون على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكروا احتمال قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم كسبب لقتله، ومنع هذا القتال إنما كرهوا دعوته للتوحيد ، وتسفيه أحلامهم وبيانه لحرمة عبادة الأصنام ، وإتخاذها وسائط تقربهم من الله عز وجل .
ومع قصرها فان الآيات المكية تضمنت الإنذار والوعيد والزجر عن الإرهاب واشهار السيوف بغير حق .
وتدعو السور المكية إلى إستحضار يوم القيامة ولزوم الإمتناع عن ظلم الغير لحتمية الوقوف بين يدي الله للحساب ، وفي التنزيل [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( ).
إنذار الأقربين واقية من الإرهاب
لقد إبتدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوته لثلاث سنين مستخفياً لا يجهر بالدعوة العلنية لعامة الناس ، فآمن به الإمام علي وخديجة وزيد بن حارثة وأبو بكر وجماعة.
ترى لماذا كانت دعوته سراً ، الجواب لأنه كان يخشى الإرهاب وبطش الكفار، إذ كانوا لا يرضون بذم آلهتهم والأصنام التي يعبدون ، ويصرون على الإمتناع عن كلمة التوحيد والتقيد بسنن الخلق الحميد ، فنزل قول الله [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ).
ومن معاني الآية بلحاظ موضوع قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) وجوه :
الأول : وأنذر عشيرتك الأقربين من الكفر .
الثاني : وأنذر عشيرتك الأقربين من الإرهاب.
الثالث : وأنذر عشيرتك الأقربين من محاربة الإيمان .
الرابع : وأنذر عشيرتك الأقربين من تعذيب المسلمين الأوائل.
الخامس : وأنذر عشيرتك الأقربين لنشر الأمن في ربوع الجزيرة.
السادس : وأنذر عشيرتك الأقربين من عذاب النار والظلم والتعدي.
السابع : وأنذر عشيرتك الأقربين وغيرهم من الناس.
الثامن : وأنذر عشيرتك الأقربين ببيان الملازمة بين الكفر والضرر.
و(عن جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم قال: لما نزلت على النبي: (وأنذر عشيرتك الأقربين) ( )، اشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضاق به ذرعا، فمكث شهرا أو نحوه جالسا في بيته حتى ظن عماته أنه شاك فدخلن عليه عائدات .
فقال: ما اشتكيت شيئا لكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فأردت جمع بني عبد المطلب لأدعوهم إلى الله تعالى قلن: فادعهم ولا تجعل عبد العزى فيهم يعنى أبا لهب، فإنه غير مجيبك إلى ما تدعوه إليه.
وخرجن من عنده فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث إلى بني عبد المطلب فحضروا)( ).
ولا دليل على هذا المكث ، والأصل عدمه إن قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، وعد من الله عز وجل للأمن والسلامة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الإنذار وهو من معاني الجمع بين آيتين (وأنذر عشيرتك الأقربين اليس الله بكاف عبده).
ولا يختص هذا الإنذار بمجلس واحد .
بل أن أحكام هذا الإنذار متجددة من جهات :
الأولى : أوان نزول آية الإنذار هذه .
الثانية : عندما تأتي قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتطلب منه التوقف عن دعوته إلى الله ، وسعيهم في منعه من نشر رسالته .
الثالثة : إفادة الآية معنى التكرار في الفعل ، وهو من إعجاز القرآن بأن يأتي الأمر من الله مرة واحدة ، ولكن العمل به مستمر ومتجدد .
ويحتمل الإنذار في الآية وجوهاً :
الأول : الإنذار القولي .
الثاني : الإنذار الفعلي .
الثالث : الإنذار القولي والفعلي .
والمختار هو الثالث لبيان أن الإنذار أعم من القول ، نعم الإنذار بالقول هو الأصل والأكثر ، وهو شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعث للقتال ، والشدة إنما بعث بالرحمة وأن الإنذار بذاته رحمة.
وحينما نزلت الآية صعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبل الصفا ونادى : يا صباحاه .
ومعناه الندبة أني أتوجع وأتألم من هذا الصباح ، وأن ضراً مسني فيه ، لإرادة المجاز أي ما حدث في هذا الصباح ، فيفزع الناس لإغاثته ، وعادة ما يكون للتحذير من العدو ، فاجتمع الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعل عدواً قد هجم على مكة والبيت الحرام .
ولم يعلموا أنه يحذرهم من الكفر ومن أنفسهم وإقامتهم على الضلالة ، لقد طرأ أمر جديد في الجزيرة ، وهو الإنذار من عداوة النفس لصاحبها ، إذ إن الإقامة على الكفر تقوده إلى اللبث الدائم في النار ، قال تعالى [وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ] ( ) .
وكان بعضهم يرجو رجوع النجم صلى الله عليه وآله وسلم عن دعوته إلى الإسلام ، ومنهم من أرسل رسولاً ليسمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وعندما اجتمع إليه الناس .
قال : يا بني عبد المطلب يا بني فهر .
إبتدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأقرب ثم الأبعد من ذوي القربى .
لقد دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب ، وحضر خمسة وأربعون رجلاً منهم أبو لهب ، الذي طلب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يتكلم بما يريد ، ويدع مسألة الصلاة أي لا يحثهم ولا يدعوهم لأداء الصلاة ، ثم حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بطش العرب بقول (أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة وإن أحب من أخذك فحسبك أسرتك وبنو أبيك إن أقمت على أمرك فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش تمدها العرب، فما رأيت يا ابن أخي أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بشر مما جئتهم به)( ).
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمتثال لأمر الله بانذار قريش بالموعظة والحجة والبرهان وهو من مصاديق قوله [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )، ولكن أبا لهب قابله بالإرهاب والإنذار من التخويف.
ترى ما هي النسبة بين إنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنذار أبي لهب بلحاظ قانون هذا الجزء الجواب من جهات :
الأولى : إنذار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتحقيق السلم المجتمعي ، وإنذار أبي لهب بخصوص القتل والبطش .
الثانية : قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإنذار استجابة لأمر الله الذي يفيد الوجوب ، أما أبو لهب فأراد منع هذا الإنذار ، الذي فيه خير الدنيا والآخرة .
الثالثة : إنذار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة ، وفيه دعوة لقريش لبقاء رئاستهم ، وشأنهم بين العرب ، أما إنذار أبي لهب فهو سبب لذل قريش ، قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ).
الرابعة : لقد أراد الله عز وجل أن ينذر النبي محمد أهله وقبيلته وقومه لما فيه الصلاح والسلم والنجاة في النشأتين ، أما إنذار أبي لهب فقد توجه إلى شخصه وزوجه لشدة إيذائه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة.
قانون إخبار الكهنة عن البعثة النبوية
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُذكر في البشارات النبوية قبل بعثته بأنه رسول من الله ومنه حديث سطيح الكاهن مع ملك اليمن (من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر)( ).
وعن (محمد بن إسحاق : وكان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة ، فرأى رؤيا هالته وفظع بها ، فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم : إنى قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبروني بها وبتأويلها.
فقالوا : اقصصها علينا نخبرك بتأويلها.
فقال : إنى إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم بتأويلها، لانه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها.
فقال له رجل منهم : فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى شق وسطيح، فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانه بما سأل عنه) ( ).
لقد كان ربيعة هذا من أضعف ملوك التبابعة ، وعندما رآى الرؤيا جمع الكهنة والسحرة والمنجمين من أهل مملكته وأخبرهم عن وقوع الرؤيا له ، وأراد منهم ذكر ذات الرؤيا فعجزوا عنه .
والمختار أن الرؤيا سر بين الله والعبد ، لا يطلع عليها أحد من الناس ، إلا أن يكون نبياً يتكلم بالوحي ، وليس بعلم خاص به ، أما التأويل فيكون بمعرفة تأريخ النبوة وبشارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والفراسة بأنه لم يُفزع الملك إلا ما يخص ملكه الذي هو زائل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لتكون الرؤيا باعثاً للتصديق بالنبوات ، وحاجزاً عن محاربة الأنبياء.
فأخبره الملك بأنه يريد أن يسمع منه ذات الرؤيا .
قال سطيح : نعم أفعل ، أنا أخبرك بالرؤيا التي رأيتها أنت أيها الملك (رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة.
فلما قال له ذلك عرف أنهما قد اتفقا وأن قولهما واحد، إلا أن سطيحا قال : وقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة) ( ).
والحممة قطعة من النار والتهمة أرض منخفضة ومنه سميت تهامة ، والمراد من كل ذات جمجة أي أكل أكلت كل حي .
فأمضى الملك كلامه ، وأعلن عن صدق إخباره عن رؤياه ثم سأله عن تأويله .
قال سطيح (أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرّتَيْنِ مِنْ حَنَشٍ لَتَهْبِطَن أَرْضَكُمْ الْحَبَشُ فَلَتَمْلِكَن مَا بَيْن أَبْيَنَ إلَى جُرَش ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ وَأَبِيك يَا سَطِيحُ إنّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ فَمَتَى ، هُوَ كَائِنٌ .
أَفِي زَمَانِي هَذَا ، أَمْ بَعْدَهُ .
قَالَ لَا ، بَلْ بَعْدَهُ بِحِينِ أَكْثَرَ مِنْ سِتّينَ أَوْ سَبْعِينَ يَمْضِينَ مِنْ السّنِينَ قَالَ أَفَيَدُومُ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِمْ أَمْ يَنْقَطِعُ .
قَالَ لَا ، بَلْ يَنْقَطِعُ لِبِضْعِ وَسَبْعِينَ مِنْ السّنِينَ ثُمّ يُقْتَلُونَ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا هَارِبِينَ قَالَ وَمَنْ يَلِي مِنْ ذَلِكَ مِنْ قَتْلِهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ .
قَالَ يَلِيهِ إرَمُ (بْنُ) ذِي يَزَنَ ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنَ ، فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ قَالَ أَفَيَدُوم ذَلِكَ مِنْ سُلْطَانِهِ أَمْ يَنْقَطِعُ .
قَالَ لَا ، بَلْ يَنْقَطِعُ قَالَ وَمَنْ يَقْطَعُهُ .
قَالَ نَبِيّ زَكِيّ ، يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيّ) ( ).
ثم سأل الملك : وممن هذا النبي الذي يقطع الله به ملك الحبشة ونحوهم على اليمن ، ويكون اليمن تحت حكم النبي .
قال سطيع (رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إلَى آخِرِ الدّهْرِ .
قَالَ وَهَلْ لِلدّهْرِ مِنْ آخِرٍ .
قَالَ نَعَمْ يَوْمٌ يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوّلُونَ وَالْآخِرُونَ يَسْعَدُ فِيهِ الْمُحْسِنُونَ وَيَشْقَى فِيهِ الْمُسِيئُونَ قَالَ أَحَقّ مَا تُخْبِرُنِي .
قَالَ نَعَمْ وَالشّفَقُ وَالْغَسَقُ وَالْفَلَقُ إذَا اتّسَقَ إنّ مَا أَنْبَأْتُك بِهِ لَحَقّ) ( ).
لقد جاءت البشارات برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على لسان الأنبياء السابقين ، والكتب السماوية المنزلة عليهم ، فلا غرابة أن يكون معلوماً عند أتباعهم وعند الكهنة والمنجمين الذين يستقرأون الوقائع التي تقع على الأرض لأن ما يحدث في الأرض قد يُرى في السماء على نحو الإجمال برصد حركة الشمس والقمر والأفلاك والنجوم والمذنبات وأقواس قزح للتنبؤ بأيام الخصب والجدب والحروب والبشارات واشتهر به البابليون والآشوريون ومن عظيم قدرة الله في الترابط بين العالم العلوي والعالم السفلي .
وقد كرر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن إتيان الكاهن أو تصديقه ، قال تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وعن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو سحر أو سحر له ، ومن عقد عقدة ، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد( ).
ليتهيئ الناس جميعاً لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن يتبع الأنبياء ، ويصّدق بالتنزيل يتلقى البشارات من الكتب السماوية السابقة، ومن يأخذ بأخبار الكهنة والسحرة والمنجمين يسمع بالبشارات بالنبوة منهم لأنه إنقلاب في الحياة الإجتماعية نحوالإصلاح والأمن والسلم، ولتقوم الحجة على الناس .
ويمكن القول بأن إخبار الكهنة ونحوهم عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرع البشارات النبوية ، وما ورد في الكتب السماوية السابقة ، وهؤلاء الكهنة يتوارثون ما جاء به الأنبياء منها علوم الغيب ليظهروا للناس أنهم يعلمون حوادث المستقبل باجتهادهم وعلمهم , ويضيفون منهم بدعاً .
ومن أخبار الأنبياء ما فُقدت ولم يتوارثها أهل بيتهم وأنصارهم ، ولكن الكهنة تلاقفوها يداً بيد ليتخذوا منه وسيلة لكسب المال ، وللتقرب إلى الملوك ، والإحتراز لقادم الأيام مع تحريفها ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) إذ ينقل الكهنة البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه يأتي بتحريم الكهنة والسحر والتنجيم لأنهم يعلمون أنه ليس من سبيل إلى منع ظهور دولته ، فلابد أن تعلو راية الإسلام خاصة وأن الكهنة ليس عندهم جنود أو دول أو أتباع ، إنما يعتمدون على جهدهم الشخصي في جذب الناس لكشف ما يلقون من الأحداث ، وشطر من أقوالهم غير صحيح ولا أصل له لعدم إطلاعهم على أسرار الغيب ، ولأن الله عز وجل [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] ( ) .
وفي قوله تعالى بخصوص [وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلاَّ مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ] ( ).
(قال ابن عباس : تصعد الشياطين أفواجاً يسترق السمع فينفرد المارد منها فيعلو فيرمي بالشهاب فيصيب جبهته أو جبينه أو حيث شاء الله منه فيلتهب فيأتي أصحابه وهو ملتهب فيقول : إنه كان من الأمر كذا وكذا فيذهب أُولئك إلى إخوانهم من الكهنة فيزيدون عليه تسعاً فيحدثون بها أهل الأرض الكلمة حق والتسع باطل فإذا رأوا شيئاً مما قالوا قد كان صدقوهم بما جاؤوا به من كذبهم.
وقال ابن عباس أيضاً : كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات فكانوا يدخلونها فيأتون بأخبارها فيلقون على الكهنة بأن وُلد عيسى.
ومنعوا عن ثلاث سماوات فلما ولد محمد صلى الله عليه وآله وسلم منعوا من السماوات أجمع فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلاّ رمي بشهاب، فلما منعوا بتلك المقاعد ذكروا ذلك لإبليس فقال لقد حدث في الأرض حدث.
قال : فبعثهم فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتلو القرآن فقالوا : هذا والله حديث وإنهم ليرمون فإذا نوّر النجم عنكم فقد أدركه لا يخطئ أبداً ولكن لا يقتله بحرق وجهة جنبه ويده ، وبعضهم من يخبلّه فيصبر حولاً ، يضل الناس في البوادي) ( ).
لقد أراد الله عز وجل للناس أن يؤمنوا بقانون من الإرادة التكوينية وهو : أن علم الغيب خاص به تعالى لا يطلع الملائكة والأنبياء والناس منه إلا بما شاء ، وما فيه نفعهم ومصلحتهم ، ومنهم أخبار وبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد جاءت هذه الأخبار على لسان الأنبياء ، ومن أيام آدم عليه السلام .
وورد في التنزيل على لسان عيسى عليه السلام [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ) .
ومن معاني الآية أعلاه دعوة أهل الكتاب إلى حسن الصلة مع المسلمين، ودعوة المسلمين إلى حسن المعاملة مع أهل الكتاب ، لتكون هذه الآية زاجراً عن الإرهاب ، وهو من أسرار البشارة في القرآن بأنها طريق إلى الهداية والصلاح والأمن والسلامة .
وعندما صارت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة علنية اشتد أذى قريش له ، وكان هذا الأذى يتناسب طردياً مع إزدياد عدد المسلمين والمسلمات ، وقيام رهط منهم بالتجاهر بالإسلام ، وإن كانوا يخرجون إلى البطحاء خارج مكة جماعات لأداء الصلاة وتلاوة القرآن إعراضا عن قريش ، وطلباً للسلام ، وهروباً من الإرهاب .
ولكن رجال قريش خرجوا إليهم وتوعدوهم وأنذروهم .
ولم يقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساكتاً ، ولكنه لم يرد على قريش إلا بالصبر الوجودي ، وهذا الصبر بأمر من عند الله عز وجل قال تعالى [فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى]( ).
قانون الصبر الوجودي
لقد جعل الله عز جل الحياة الدنيا دار الصبر ، وليس من إنسان إلا وهو يتعرض لما يملي عليه الصبر والتحمل .
وقد يجزع ولا يختار الصبر ، فتكون النتائج ضارة أو العكس ، ولكن الضرر هو الأعم ، إذ أن الصبر والزهد والتواضع ، والرضا بالقلة في الحال أو الجاه فيه السلامة بخلاف التهور ، وصبر الأنبياء معجزة لهم ، لما فيه من الحجة على الذي كفروا ، وبيان قانون وهو اقتران صبر الأنبياء بالدعوة إلى الله وتبليغ الأحكام .
وقد تضمنت آيات القرآن الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى المسلمين والمسلمات بالصبر ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )وقال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
فجعل الله عز وجل الصبر سلاحاً بيد المسلمين ، وإتخاذهم الصبر سلاحاً شاهد على أن المسلمين دين الصبر ، لبيان قانون وهو التضاد بين الصبر والإرهاب .
فالذي يتصف بالصبر لا يتجه صوب الإرهاب الفردي أو الجماعي ، المتحد أو المتعدد .
(عن سهل بن سعد الساعدي . أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعبد الله بن عباس : ألا أعلمك كلمات تنتفع بهن؟
قال : بلى يا رسول الله .
قال : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله، جف القلم بما هو كائن ، فلو جهد العباد أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، ولو جهد العباد أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، فإن استطعت أن تعمل لله بصدق في اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ، وأعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً)( ).
وتحتمل النسبة بين قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) الذي اختص به هذا الجزء وسبعة أجزاء سابقة( ) .
وقانون التضاد بين الصبر والإرهاب وجوهاً :
الأول : العموم والخصوص من وجه ، وأن هناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الثاني : العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : التضاد بين القرآن والإرهاب هو الأعم .
الثانية : التضاد بين الصبر والإرهاب هو الأعم .
الثالث : نسبة التباين .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ، لذا في الصبر ثواب وأجر ، قال تعالى [وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ]( )، أي ليكون صبرك بقصد القربة إلى الله ورجاء رضاه ، والفوز بالأجر والثواب منه سبحانه.
ومن معاني صيرورة القصد من الصبر وتحمل الأذى هو لله عز وجل العفو والصفح والإمتناع عن الثأر والبطش والإنتفاع ، قال تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
قانون صبر آدم دعوة للسلم
لقد بعث الله عز وجل الأنبياء ليدعوا الناس إلى التوحيد , ويبلغوا أحكام الحلال والحرام , ويصلحوا المجتمعات , ويمنعوا من تفشي مفاهيم الكفر والضلالة , ويحاربوا الإرهاب .
وليس من وظيفة ورسالة في الأرض أشرف وأكبر من رسالة الأنبياء , وفيه منع لحسد الناس للأنبياء قال تعالى [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا] ( ).
ومن معاني الصبر في مرضاة الله عز وجل أنه يرفع درجة العبد , ويصلح حاله , ويكفر عنه خطاياه .
و(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما يصيب المؤمن من نصب ، ولا وصب ، ولا هم ، ولا حزن ، ولا أذى ، ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله من خطاياه) ( ).
ولا يعني هذا أن المسلم يسعى لجلب الأذى لنفسه , إنما يتضمن الحديث الإخبار عن نزول الإبتلاء بالإنسان مطلقاً , البر والفاجر , ولكن المسلم مؤمن بالله عز وجل وقضائه وقدره , وأن ما يحل بساحته هو بإذن الله عز وجل الذي يرزق الأجر والثواب حتى على الأذى البسيط كالشوكة , ولو مرض المؤمن وزُرق إبرة فهل فيه ثواب وتكفير من الخطايا الجواب نعم , إذ ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أدنى الأذى وهو الشوكة .
لبيان مسألة وهي أن صبر المسلم نعمة , وحاجب عن إيذاء الناس , إذ ينشغل المسلم بما يبتلى به , ويشكر الله عز وجل على ما يجلبه من الأجر والثواب , ومن معجزات الأنبياء الملازمة بين أمور :
الأول : قانون شدة الإبتلاء الذي يصاب به النبي .
الثاني : قانون صبر النبي على الإبتلاء .
الثالث : قانون صبر النبي دعوة للإيمان .
الرابع : قانون صبر الأنبياء إستئصال للإرهاب من الأرض .
وقد ذكر القرآن أخباراً وشواهد من صبر الأنبياء وأولهم آدم عليه السلام إذ صبر على هبوطه من الجنة ونعيمها , ومصاحبة إبليس ووسوسته له في الأرض أيضاً , ثم أبتلي آدم بقتل ولده قابيل لأخيه هابيل , قال تعالى [فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ]( ).
لقد كانت حياة آدم عليه السلام أبي البشر كلها صبر وإبتلاء إذ إنتقل من النعيم المطلق إلى العمل والكد والتعب في الحياة الدنيا ، وقد رزقه الله عز وجل مرتبة النبوة وهي أسمى المراتب وفيها دعوة للصبر والتحمل في جنب الله عز وجل , ولم يغادر آدم عليه السلام الدنيا إلا وقد بلغ عدد أفراد ذريته أربعين ألفاً ليكون رسولاً لهم , ويؤسس قانون النبوة في الأرض بملاك الصبر , وهناك مسألتان :
الأولى : هل قتل قابيل لهابيل من الإرهاب .
الثانية : كيف تلقى آدم نبأ هذا القتل .
أما الأولى فالجواب نعم , هو أول عمل إرهابي على الأرض حسب توثيق القرآن له , وكان سبب القتل قبول قربان هابيل وعدم قبول قربان قابيل لبيان قانون مصاحب للحياة الدنيا وهو ليس من سبب يدعو إلى القتل وسفك الدماء , وانتفاء السبب في المقام من أسرار إحتجاج الملائكة عندما أخبر الله عز وجل عن إكرام الإنسان بقوله للملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) إذ قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
ليكون من معاني الإحتجاج أن الإنسان قد يزاول الإرهاب ويقتل أخاه بغير حق ومن غير سبب وحالما نزل آدم إلى الإرض , وأنجبت حواء أولاداً لآدم وليس في الأرض من رجل إلا آدم , ولا إمرأة إلا حواء لبيان مسألة وهي قد يختلف الأخ مع أخيه في عالم الدنيا أو يقوم بضربه والتعدي عليه أو قتله , فلا يصح رمي القاتل بأنه ابن حرام لأنه إفتراء والأصل صحة الولادة , فقد حصل القتل بين ولدي آدم عليه السلام لبيان مصداق لقانون صبر آدم حصانة من الإرهاب , وتأديب للناس .
ومن إعجاز القرآن بيانه لعلة إخباره عن قصص الأنبياء منها [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ] ( ).
ومن مصاديق العبرة في المقام إدراك قانون وهو أن الإرهاب لا ينفع ولا يأتي بالخير , ويسبب الخصومة واشتداد العداوة , والذكر غير الطيب ووجود أعداء جدد غير الذين توجه إليهم الإرهاب .
وهو ظاهر في هذا الزمان فتجري عملية إرهابية في بلد فيظهر بلد آخر وأهله إستيائهم ورفضهم لهذا الفعل وإن كان بينهم وبين بلد الواقعة خلاف وشقاق , أي أن تكرار الأفعال الإرهابية والقتل العشوائي والتفجيرات يؤدي إلى تحالف وتعاون الناس لمحاربته وأصحابه مما يعني أن الذين يتبنون الإرهاب ويعضدونه لا يقدرون على مواجهة هذة الجبهة العريضة من المؤسسات والحكومات والشعوب .
قانون طريق الهجرة إعراض عن الإرهاب
ومن قوانين النبوة قانون تعرض الأنبياء للإرهاب , فليس من نبي إلا وقد تعرض للإرهاب والترهيب والتخويف , وتلقى قومه دعوته بالإعراض والهجران والتهديد بالطرد والتهجير , قال تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا] ( ).
وهذه الآية من إعجاز القرآن إذ تتحدى كتب التأريخ الناس بتوثيق قانون عام في حياة الأنبياء وهو تهديد قومهم لهم بالطرد [لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا] وكأن الرسول ليس له بقعة وحصة من الكلي في المعين في هذا الأرض إذ أنها أرضهم جميعاً , وخيّروهم بين الإخراج والعودة إلى ملة الكفر , وليس فيه تهديد بقتل الرسل , أما قريش فقامت بما يلي :
الأول : تهديد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحبس والسجن , كما يحبسون الشعراء الذين يعتدون في شعرهم , ويتمادون فيه .
الثاني : السعي الحثيث لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الوعيد بنفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإخراجه من مكة قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه مسائل :
الأولى : النسبة بين المكر بالنبي وبين إرادة حبسه أو قتله أو طرده عموم وخصوص مطلق , فالمكر أعم .
الثانية : مكر كفار قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مستمر ومتعدد وهو مقدمة لحبسه أو قتله أو إخراجه .
الثالثة : مكر قريش ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إرهاب , وفيه تأديب للمسلمين بالتنزه عن محاكاة الذين كفروا في الأفعال المذمومة .
ولم تقل الآية (وإذ يمكر بك الذين كفروا بأن يثبتوك) إنما وردت الآية بصيغة لام الغاية في [لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) لبيان أن المكر غير الحبس والقتل والطرد , وفيه مسائل :
الأولى : كل فرد من أفراد البطش الثلاثة أشد من مقدماته .
الثانية : هل لهذه الأفراد الثلاثة مقدمة واحدة أم متعددة والجواب هو الثاني لبيان تعدد وكثرة المكر .
الثالثة : إتصال وإستمرار المكر وإن لم يقع البطش من الذين كفروا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ويدل عليه قوله تعالى في الآية أعلاه [وَيَمْكُرُونَ] .
الرابعة : مكر الذين كفروا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإرهاب , لذا تضمنت الآية أعلاه الإنذار لهم بأن الله عز وجل يصرف مكرهم وإذ تضاءل مكر الذين كفروا على نحو التدريج والتوالي إلى أن تم فتح مكة .
ثم جاءت معركة حنين بعدها وهل هي من مكر الذين كفروا الجواب نعم ، وكان المشركون يسعون فيها لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معاني قوله تعالى [وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) لزوم إمتناع المسلمين عن مقابلة الإرهاب بمثله لأنه قبيح بذاته , ولأن النوبة لا تصل إليه , فمن يتبع الحق والهدى ويرجو اليوم الآخر , لا يلجأ إلى الإرهاب والترهيب .
وفي ذكر وعيد المشركين للأنبياء السابقين موعظة وعبرة للمسلمين , ومنع لطرو الشك عليهم بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتنزل الآيات التي تتضمن الإخبار عن تهديد وبطش الكفار بالأنبياء مع انهم من قومهم لتكون مواساة للمسلمين , ودعوة لهم للصبر والتحمل .
وفي شعيب ورد قوله تعالى [قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا] ( ).
لقد كان المشركون يخّوفون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإخراج من مكة , فخرج منها مهاجراً لبيان قانون وهو أن الهجرة نعمة عظيمة وطريق إلى النصر والغلبة على المشركين الذين يظنون أن الأمور تنحصر بأرضهم ولم يعلموا [إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) وأنه سبحانه جعل هجرة الأنبياء والصالحين سبباً للنجاة من كيدهم ومكرهم , وفيه مسائل :
الأولى : قانون هجرة كثير من الأنبياء عن ديارهم وإبتعادهم عن قومهم.
الثانية : قانون إقتران ترشح هجرة الأنبياء عن الأذى الشديد من قومهم.
الثالثة : قانون إزدياد إيذاء الكفار للأنبياء وعلى نحو مطرد إلى أن تصل النوبة للحاجة إلى هجرة الأنبياء , وقد وجه آزر إلى إبراهيم التهديد بالرجم والقتل , كما ورد في التنزيل [لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا] ( ).
لقد خاف وفزع المشركون من أمور :
الأول : قانون صبر الأنبياء وعدم ردهم على أذى المشركين بالمثل .
الثاني : قانون مواصلة الأنبياء الدعوة إلى الله عز وجل , لقانون رفع كل نبي للواء التوحيد .
الثالث : قانون إزدياد عدد المؤمنين والمصدقين بدعوة الأنبياء .
وهو من معجزات الأنبياء , إذ أن الأصل إمتناع الناس عن التصديق بالأنبياء مع شدة إيذاء المشركين للنبي وتخويفهم لمن يؤمن برسالته , بينما يزداد عدد المؤمنين مع تقادم الأيام , ففتح الله عز وجل باب الهجرة للأنبياء وهو ضد ومناف للإرهاب , فالذي يعرض عن قومه الذين يتوعدونه ويتحمل مخاطر الهجرة لا يسعى إلى الإرهاب , ولا يريده .
وهل يطلب النبي العافية بالهجرة الجواب لا , فهو شهيد حي , ولكن ينتقل وينقل دعوته إلى بلد آخر من غير أن تنقطع دعوته في قريته أو بلده الأصلي, وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) .
وقد تجلى هذا القانون بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فلم ينطفأ ضياء الدعوة في مكة , ولم يخمد الإيمان أو يبقى حبيساً في قلوب ذات العدد من المسلمين الذين فارقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة , إنما إستمرت الزيادة في أعداد المسلمين مع ظهور اللوم لرؤساء المشركين على إختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهجرة لأنهم أرادوا قتله.
وهل هذا الإزدياد في أعداد المسلمين في مكة وسخط عامة أهل مكة ومن حولها على كفار قريش بسبب هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبب في تعجيل كفار قريش بمعركة بدر ثم معركة أحد , الجواب نعم .
لقد ذم الله عز وجل الذين أقاموا على الكفر الكفر وأركوا عدم جواز نصرة وإتباع الذين كفروا , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] ( ) .
لتدل الآية في مفهومها على أن إختيار الهجرة نهج سليم , وسبيل نجاة للنفس , وهو مانع من إعانة الظالمين في إرهابهم .
قانون تسمية الأنصار ضد الإرهاب
من إعجاز القرآن عالم الأسماء المستحدثة وبقاؤها إلى يوم القيامة ، فمن خواص الحياة الدنيا تبدل وتغيير في شطر من الأسماء والمسميات إلا أن يشاء الله ، وهذا التغيير من مصاديق قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ) ومنها أسماء القبائل والعرب البائدة والعرب العاربة والمستعربة ونحوه .
وجاء القرآن بأسماء مستحدثة مما لم يسمع به العرب منها :
الأول : رب العالمين ، وفي التنزيل [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
الثاني : تعدد وكثرة الأسماء الحسنى ، وكل اسم منها مدرسة في التدبر والإتعاظ , وعن (عبد الله بن عمر رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائماً على هذا المنبر يعني منبر رسول الله (عليه السلام) وهو يحكي عن ربّه تبارك وتعالى فقال : إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة جمع السماوات والأرضين السبع في قبضته ثم قال هكذا وشد قبضته ثم بسطها ثم يقول : أنا الله.
أنا الرحمن .
أنا الملك .
أنا القدوس .
أنا السلام .
أنا المؤمن .
أنا المهيمن .
أنا العزيز .
أنا الجبار .
أنا المتكبر .
أنا الذي بدأت الدُّنيا ولم يك شيئاً .
أنا الذي اعدتها .
أين الملوك أين الجبابرة) ( ).
ومن الأسماء التي جاء بها القرآن :
الأول : السابقون الأولون .
الثاني : الأنصار .
الثالث : التابعون .
ومن إعجاز القرآن أن هذه الأسماء المستحدثة جمعتها آية واحدة هو قوله تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ).
والأنصار عنوان جامع للصحابة من أهل المدينة الذين آووا ونصروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، وكانوا يسمون بأسماء :
الأول : قبيلة الأوس وقبيلة الخزرج .
الثاني : بنو قيلة نسبة إلى أمهم .
الثالث : ابنا قيلة بالتثنية لأن جد الأنصار أَخَوان أحدهما أوس والآخر خزرج .
(وأمهما قيلة بنت الأرقم بن عمرو ابن جفنة وقيل بنت كاهن بن عذرة من قضاعة فأقاموا كذلك زمانا حتى أثروا وامتنعوا في جانبهم وكثر نسلهم وشعوبهم) ( ).
الرابع : آل جفنة ، وهذا الاسم أعم إذ يشمل الغساسنة ، وجفنة أول ملك من غسان .
ونزل اسم الأنصار من فوق سبع سماوات تشريفاً وإكراماً لهم كما نزل اسم (يحيى) ، لبيان مسألة وهي نبذ القبلية والعصبية ، وفيه هجران للعنف والإرهاب ، إنما تكون أحكام الشريعة هي الضابطة للسلوك ، ومن قواعدها التنزه عن الإرهاب والظلم والتطرف ، وقد خاطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأوس والخزرج بصفة الأنصار .
وفي معركة حنين عندما انهزمت الطلائع الأولى من المسلمين ، أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عمه العباس (أن ينادي: يا معشر الأنصار.
يا معشر أصحاب الشجرة .
وكان العباس جهير الصوت جداً ، وروي أنه أمره أن ينادي: يا معشر المهاجرين) ( ).
فقد بدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنداء والندب للأنصار مع تكرار النداء لهم على نحو الخصوص ثم النداء الأعم لأصحاب الشجرة ، أي الذين حضروا الحديبية ، مما يدل على موضوعيته في تأريخ الإسلام ، وأنهم حضروا صلح الحديبية صابرين مستعدين للشهادة فرجعوا بالنصر والظفر من غير قتال ، إذ قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا] ( ).
ليكون من مفاهيم قوله تعالى [وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ] الصلة بين صلح الحديبية ومعركة حنين، والنصر للنبي في هذه المعركة لأنه من تمام النعمة الذي تذكره آية الفتح هذه .
ومن معاني الجمع بين الآية أعلاه ونداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين : ويتم نعمته عليك يوم حنين بأصحاب الشجرة ، وكذا بالنسبة لذكر المهاجرين في النداء .
تسمية الأنصار
(قال حسان بن ثابت الأنصاري في انتسابه في الأزد:
يا بِنت آلِ مُعاد إِنّي رجلٌ … مِن معشر لهمُ في المجدِ بُنْيانُ
أما سألت فإنّا معشر نُجُبٌ … الأَزد نسبتُنا والماءُ غَسّان) ( ).
ويدل قوله تعالى[ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] ( ) على التقييد والخصوص ، فليس كل أهل المدينة هم أنصار ، ولا جميع المسلمين فيه من الصحابة هم من الأنصار ، إنما يشمل هذا الاسم المبارك وما فيه من معاني الثناء وجوهاً :
الأول : أصحاب بيعة العقبة الأولى في موسم الحج ، وعددهم اثنا عشر رجلاً برواية عبادة بن الصامت ، وهو أحدهم ، إذ قال :
( كُنْت فِيمَنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى ، وَكُنّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ، فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْحَرْبُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاَللّهِ شَيْئًا ، وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِيَ وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا ، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانِ نَفْتَرِيهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا ، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ . فَإِنْ وَفّيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنّةُ . وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَمْرُكُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ إنْ شَاءَ عَذّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ) ( ).
ومن العلماء من يجعل بيعة العقبة ثلاثة ، وفي ثلاث سنوات متعاقبة كل واحدة منها في سنة .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزور وفود القبائل في سوق عكاظ ومجنة وذي المجاز ،وفي محل إقامتها في منى أيام التشريق ، أي بين اليوم الحادي عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة ، وهو من الأشهر الحرم ، تحبس فيه قريش سخطها على النبي ، ولا تريد إفساد موسم الحج بالتعدي عليه ، فيلحقها العار عند العرب لإعتدائها على رسول من الله يدعو لعبادة رب البيت الحرام في الشهر الحرام .
ولكنها سخّرت أبا لهب وجماعة للإفتراء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورميه بالكذب والجنون ، وكان مستخفياً في دعوته السرية أربع سنوات .
ثم صار يدعو الناس والقبائل لمدة عشر سنين قبل الهجرة ، وكان حينما يزور وفود القبائل يقول لهم (قُولُوا : لَا إلَهَ إلَا اللّهُ تُفْلِحُوا وَتَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَبَ وَتَذِلّ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ فَإِذَا آمَنْتُمْ كُنْتُمْ مُلُوكًا فِي الْجَنّةِ وَأَبُو لَهَب ٍ وَرَاءَهُ يَقُولُ لَا تُطِيعُوهُ فَإِنّهُ صَابِئٌ كَذّابٌ) ( ).
لبيان قانون وهو ملازمة إرهاب قريش لبدايات الدعوة الإسلامية ، ولم ينحصر التعدي والأذى الذي يلقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقريش إنما يترشح عنه وبسببه .
إذ كانت وفود القبائل تقول قبيلتك أعلم بك (وَيَقُولُونَ أُسْرَتُك وَعَشِيرَتُكَ أَعْلَمُ بِكَ حَيْثُ لَمْ يَتّبِعُوك وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ وَيَقُولُ اللّهُمّ لَوْ شِئْتَ لَمْ يَكُونُوا) ( ).
ولم تعلم هذه الوفود بوجود أعداد من المسلمين رجالاً ونساءً وأغلبهم مستخفون، ومنهم من يلاقي التعذيب في رمضاء مكة ، ولكن قريشاً لا تزاول هذا التعذيب في الشهر الحرام وبحضور وفد الحاج والمعتمرين ، إنما يأخذونهم خارج مكة .
لبيان المائز الجهادي بين شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين أصحابه في بداية الدعوة الإسلامية ، أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يجاهد بنفسه ، ويدعو الناس وأفراد القبائل ، ووفد الحاج وجهاً لوجه ، لذا وردت بعض الآيات بصيغة الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ).
ليكون من معاني الآية أعلاه وجوه :
الأول : يا أيها النبي جاهد الكفار .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا جاهدوا الكفار .
الثالث : يا أيها النبي أغلظ على الكفار .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا أغلظوا على الكفار .
الخامس : يا أيها النبي أغلظ على المنافقين .
السادس : يا أيها الذين آمنوا أغلظوا على المنافقين .
لبيان قانون من جهات :
الأولى : جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه .
الثانية : جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته .
الثالثة : جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة .
الرابعة : جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار .
لقد اختص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأفراد شاقة من الجهاد وعرّض نفسه للأذى والقتل ، ولكن الله عز وجل حفظه ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) كما أنه اشترك في كل جهة من جهات الجهاد المتقدمة أعلاه ، وهو القائد والإمام ، ويتقوم الجهاد بالصبر والتحمل ، وهو ضد الإرهاب ومانع من التطرف .
ولاقى المهاجرون الأذى في مكة ثم هاجروا ، واختيار الهجرة جهاد وصبر ، وإعراض عن الإرهاب طرداً وعكساً ، تلقيناً وأداء .
وعندما دخلوا المدينة لم يعلموا ماذا يلقون فيها ، ولكن الله أنعم عليهم بأخوة الأنصار ، وهل تعدد جهاد المهاجرين من أسباب تقديمهم ترتيباً في القرآن على الأنصار في آيتين من القرآن وهما :
الأولى : [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] ( ).
الثانية : [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ] ( )، المختار نعم ولأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هاجر بنفسه وأهل بيته .
وإذ ورد لفظ المهاجرين خمس مرات في القرآن ، فلم يرد لفظ الأنصار فيه إلا مرتين .
نعم ورد ذكر الأنصار في آيات أخر ، وقد أكرم الله عز وجل أجيال المسلمين بأن حضّهم على بلوغ مرتبة الأنصار له سبحانه بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ] ( ).
ليكون من معاني ذكر الأنصار أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والآية أعلاه نسبة العموم والخصوص المطلق ، إذ ارتقى الأنصار إلى هذه المرتبة السامية ، وتضمن القرآن دعوة عامة المسلمين إلى بلوغها بالتقوى والصلاح .
وهل منه ترك الإرهاب والقتل العشوائي ، الجواب نعم ، إن إنشغال المسلم ببلوغ أسمى المراتب التي ذكرت في القرآن والسنة يجعل نفسه تنفر من الإرهاب .
قانون مقدمات الحديبية دعوة متجددة للسلم
لقد كان صلح الحديبية معلماً وفيصلاً في تأريخ الإسلام وبدايات الدعوة الإسلامية ، فقد جاء بعد عدة معارك وحروب غير متكافئة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين ، من جهات :
الأولى : كثرة عدد أفراد جيش المشركين وقلة عدد المسلمين سواء في معركة بدر أو أحد أو الخندق ، وكل من هذه المعارك وقعت قبل صلح الحديبية .
الثانية : التباين الواضح من جهة الأسلحة والعدة والخيول ، فعند قريش الرجال والأموال والرواحل ، وهل في قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) إنذار للمسلمين بكثرة خيل وإبل وأسلحة قريش، الجواب نعم ، وهو لا يتعارض مع الإنذار والوعيد لقريش في هذه السورة.
الثالثة : الجاه والشأن لقريش عند القبائل وولايتهم للبيت الحرام ، وصِلاتهم بأهل الروم وفارس واليمن والتجار فيها .
وحتى في المدينة المنورة (يثرب) كانت لقريش صلات كثيرة مع الأوس والخزرج ويهود المدينة .
لقد كانت قريش (تجار الجزيرة ) وهم كالمصرف العام لأهلها بالنسبة للإقراض والمعاملات التجارية ، فقاموا بتسخير شأنهم ومنزلتهم وأموالهم في محاربة النبوة والتنزيل .
وكان شطر من الناس يتوقعون إنتصار قريش ، ولكن ما أن وقعت معركة بدر وإنكفأت قريش خائبة ، وسقط عدد من رجالاتها المعروفين في الأمصار وعند القبائل قتلى يومئذ ، وعدد آخر منهم أسرى حتى تغيرت الحال وحساب الميزان بين الناس ، وهو من مصاديق النصر في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
فلم يكن النصر في الميدان وحده ، إنما كان في توجه عامة الناس للقبول بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أن هذا النصر معجزة وآية وبرهان على صدق نبوته ومن قتلى بدر الذين لهم شأن في الجزيرة وخارجها عتبة بن ربيعة الذي حضر معركة الفجار وهو صبي صغير .
ووقعت معركة الفجار في منطقة سوق عكاظ ، وكانت بين :
الطرف الأول : كنانة وقريش ، وقيل كان رئيسهم حرب بن أمية ، وهو والد أبي سفيان .
الطرف الثاني : قبيلة هوازن .
وسبب المعركة أن شخصاً من كنانة اسمه (البرّاض) قتل ثلاثة رجال من قيس عيلان قوم هوازن ، وسميت حرب الفجار لقتالهم في الشهر الحرام ، وفيه إنتهاك لحرمته .
وكانت الفجارات أربعة وهي :
الأول : يوم شمظة .
الثاني : يوم العبلاء .
الثالث : يوم الشرب عند عكاظ ، وهو أشدها ضراوة وقتالاً ، وفيها قيّد حرب بن أمية وأخوه أبو سفيان بن أمية وأبنه أبوسفيان بن حرب أنفسهم كيلا يفروا من المعركة (قُتل يومئذ سفيان بن أمية ومن كنانة ثمانية رهط) ( ).
(فسموا العنابس) ( ) وفيه إنهزمت قيس وهوازن إلا بني نصر منهم فانهم ثبتوا .
الرابع : يوم الحريرة عند نخلة .
وكان حرب بن أمية يقود الجيش وعندما مات صار أبوسفيان هو الرئيس ،وفي معركة بدر كان أبو سفيان غائباً عن مكة ، فكان الرئيس عتبة بن ربيعة ، وهو جد معاوية بن أبي سفيان لأمه .
وحضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفجار الأخير بين هوازن وقريش ، وحضره وعمره أربع عشرة سنة ، قال : كنت أنَبِّل على أعمامي يوم الفجار( )، أي أجهز لهم النبل ليرموه , ومعركة الفجار من الإرهاب وحال الحرب التي كانت سائدة في الجزيرة لأسباب ساذجة وعصبية فارغة.
وكان سبب إنقطاع حرب الفجار عتبة بن ربيعة وهو صبي يتيم يومئذ في حجر حرب بن أمية الذي أبى أن يخرج عتبة معهم إلى القتال إشفاقاً عليه , ولكن عتبة خرج مع الجيش خفية عن حرب , وعندما إلتقى الجمعان تفاجئوا وإذا عتبة في وسط الميدان , وهو ينادي (يا معشر مضر علام تفانون) ( ) أي أنكم أبناء عمومة واحدة فلماذا تفنون أنفسكم ويشمت بكم عدوكم , فاشرأبت الأعناق ورأوا أن الكلمة حق , فقالت له هوازن .
إذن ما تدعو إليه ، قال الصلح .
قالوا : كيف يكون الصلح , قال : ندفع لكم دية قتلاكم , ونعفو عن دمائنا , فرأوا أن العرض سخي وأنه من جانب واحد ولايخسرون فيه شيئاً.
فسألوا عن كيفية تحقق وضمان الصلح .
قال : ندفع لكم رهناً من أبنائنا .
قالوا : ما هو الضمان , ومن الضامن .
قال : أنا , فقالوا ومن أنت .
قال : أنا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس .
وعندما سمعت هوازن باسمه لم يلتفتوا إلى كونه صبياً , بل قالوا : قد رضينا.
فمن كان من قريش وكنانة إلا أن رضوا وانصاعوا لما عرضه عتبة , ولم يوجهوا له اللوم , ولم ينقضوا قوله , إنما دفعوا أربعين رجلاً منهم لهوازن رهناً منهم حكيم بن حزام , وهو ابن أخ خديجة بنت خويلد , وفي حصار قريش لبني هاشم جاء حكيم بقمح إلى خديجة واعترضه أبو جهل .
وكان ممن حضر فيما بعد معركة بدر مع جيش المشركين واقبل ليلتئذ مع جماعة (حتى وردوا حوض النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اتركوهم ، فما شرب منه رجل إلا قتل يومئذٍ , إلا حكيم نجا على فرس له يقال له الوجيه , وأسلم بعد ذلك فحسن إسلامه) ( ).
ومن أعلام قريش الذين قتلوا في معركة بدر أبو جهل , عمرو بن هشام بن المغيرة , وهو قائد الجيش يومئذ , وكان شخصية معروفة , ومنهم أبو حكيمة , زَمعة بن الأسود , وهو من أزواد الراكب , أي إن سافر معه شخص أو جماعة لا يتزودون لسفرهم بل يتولى نفقتهم , كما قتل فيها أخوه عقيل بن الأسود وكان أبوهما الأسود بن المطلب أحد المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذين نزل فيهم قوله تعالى [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ] ( ) لتدور الأيام وتكون لابنه عبد الله صحبة .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن أولاد الذين قتلوا مشركين في معارك الإسلام صاروا من أخص صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحضرون مشاهده كلها , واستمروا بالدفاع حتى بعد وفاته ولم يفكروا بالثأر والإنتقام مع أن الحياة في الجزيرة العربية آنذاك تتقوم بالثأر والإنتقام , وفيه شاهد على أن الإسلام إستأصل الإرهاب من الجزيرة في رسالة سلام إلى أجيال الناس إلى يوم القيامة مفادها , التضاد بين الإسلام والإرهاب .
لبيان مسألة أخرى وهي أن قريشاً خسرت وجهاءها في معركة بدر , ليكون بداية خسران سلطانها وعزها ، وابتداء نزول الذل بها , وكذا الذين يحاربون الرسالات السماوية , ومبادئ التوحيد , وفيه حجة في لزوم نبذ المسلمين وأهل ملل التوحيد الإرهاب , وعدم اللجوء إليه , لأن الله عز وجل هو الذي يبتلي أهل الباطل .
وقد يظن الإنسان بقوم سوء وإنحرافاً وهو ليس سبباً أو حجة في للعنف والقتل العشوائي ، قال تعالى [لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ] ( ).
إن توالي ابتداء قريش بالغزو والهجوم على المدينة دليل على أنهم يصرون على القتال , ولا يسعون إلى السلم ولا يستحضرون مفاهيم الصلح , وبين معركة الخندق وصلح الحديبية نحو سنة واحدة .
ففي شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة سارت جيوش عظيمة من قريش وحلفائها ومن تبعها من الأحابيش وكنانة وغطفان وأهل تهامة وطائفة من أهل نجد نحو المدينة وقوام الجيش عشرة آلاف رجل لإرادة الإبادة الجماعية , وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستباحة المدينة وقتل طائفة من الصحابة , وجلب أخرى منهم أسرى إلى مكة.
فاحاطت جيوش المشركين بالمدينة ولم يكن مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سوى ثلاثة آلاف رجل , وقيل إنما كان عدد أصحابه تسعمائة .
وهو الذي قطع به ابن حزم , وقال إن عدد ثلاثة آلاف وهم( ) خاصة وأنه كان يبقى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحياناً ثلاثمائة فقط من أصحابه , وورد في التنزيل حكاية عن المنافقين [إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ) وصار المسلمون على فرق وهي :
الأولى : حراس للخندق من أن تجتازه خيل المشركين , وفيها من أحسن جياد العرب الأصيلة .
الثانية : فرقة تحيط بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كالقلب في الجيش .
الثالثة : فرقة للقتال .
الرابعة : فرقة للمقاومة .
وجمعت النساء في أطام وهو نوع بناء عال محصن , وحينما عبر عمرو بن ود العامري الخندق وطلب من المسلمين المبارزة لم يخرج له أحد , وكرر الطلب وكان علي عليه السلام وحده الذي إستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمبارزته فأذن له في ملحمة تتفاخر بها أجيال المسلمين والمسلمات في كل زمان , وكيف أنه من إعجاز النبوة أن فعلاً واحداً من النبي أو من أحد الصحابة يغير مجرى التأريخ .
لقد كان عبور عمرو بن ود العامري الخندق وإصراره على المبارزة من الإرهاب المنكر والقبيح .
وحينما بارزه الإمام علي عليه السلام قتله وخرّ عمرو بن ود العامري صريعاً فانهزمت الخيل التي معه إلى خارج الخندق ، ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) وهذه الآية من الشواهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعث للحرب والقتال .
لقد دخل نبأ قتل عمرو بن ود العامري بيوت المسلمين والمشركين جميعاً, فأما المسلمون فشكروا الله عز وجل وأحسوا بالعز , وقرب إنكشاف الغم , وأما المشركون فقد أصابهم الوهن والفزع , وقال حسان بن ثابت يفتخر بقتل عمرو بن ود :
بَقِيّتُكُمْ عَمْرٌو أَبَحْنَاهُ بِالْقَنَا … بِيَثْرِبَ نَحْمِي وَالْحُمَاةُ قَلِيلُ
وَنَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ بِكُلّ مُهَنّدٍ … وَنَحْنُ وُلَاةُ الْحَرْبِ حِينَ نَصُولُ
وَنَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ بِبَدْرٍ فَأَصْبَحَتْ … مَعَاشِرُكُمْ فِي الْهَالِكِينَ تَجُولُ( ).
لتكون النتائج العامة لمعركة الخندق سواء العسكرية أو الإقتصادية أو الإجتماعية أو النفسية مقدمة لصلح الحديبية , ولا تنحصر هذه المقدمات بها إذ أنها إبتدأت من السني الأولى للبعثة النبوية , وصارت تتراكم .
وأيهما أكثر أثراً في المقام معجزات حال الحرب أم السلم , المختار هو الثاني , فلا يوضع الميزان إلا تترجح كفة السلم في النفع والأثر وهو من الشواهد على عدم وصول النوبة إلى الإرهاب والعنف خاصة وأنه خلاف العقل والنقل .
لقد كانت مقدمة صلح الحديبية بذاتها وسيلة لنشر السلم في ربوع الجزيرة .
وهل من السلم إمتناع قريش وكنانة وغطفان وهوازن والأحابيش عن القتال فيما بينهم بسبب توجههم لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الجواب لا , إنما هو ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض ولإنشغالهم في محاربته ولحوق الخسارة بهم .
ويمكن تقسيم مقدمات صلح الحديبية إلى أقسام :
الأول : أثناء بدايات البعثة النبوية .
الثاني : سني الدعوة العلنية قبل الهجرة النبوية .
الثالث : هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة , قال تعالى [ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ) .
وعجز قريش عن قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه , ثم إخفاقهم في منع الهجرة وقتله وهو في الطريق إلى المدينة شاهد على أن الإرهاب كالسراب في أثره .
الرابع : إظهار الأنصار الولاء والنصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإعلانهم الإستعداد للتضحية والموت دونه , ومعرفة العرب لقانون مستحدث وهو الولاء العقائدي.
فلم تكن بيعة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن منفعة أو ولاء شخصي أو غرض دنيوي إنما عن إيمان وقصد القربة إلى الله عز وجل ، ورجاء الفوز في النشأتين ، قال تعالى [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ] ( ).
ولم يكن العزم على الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل خاصاً بالمهاجرين من مكة والأنصار , بل هناك أفراد كثيرون ومنهم أعراب دخلوا الإسلام وحسن إسلامهم .
وعن(كعب بن عجرة عن أبيه عن جده : بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالروحاء إذ هبط عليه أعرابي من سرب فقال : من القوم وأين تريدون .
قال : قوم بدوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
قال : ما لي أراكم بذة هيئتكم ، قليلاً سلاحكم .
قال : ننتظر إحدى الحسنيين ، إما أن نقتل فالجنة ، وإما أن نغلب فيجمعهما الله تعالى لنا الظفر والجنة .
قال : أين نبيكم .
قالوا : ها هو ذا . فقال له : يا نبي الله ليست لي مصلحة آخذ مصلحي ثم ألحق .
قال : اذهب إلى أهلك فخذ مصلحتك ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر وخرج الرجل إلى أهله حتى فرغ من حاجته ثم لحق بهم ببدر ، فدخل في الصف معهم فاقتتل الناس فكان فيمن استشهد ، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن انتصر فمر بين ظهراني الشهداء ومعه عمر ، فقال : ها يا عمر إنك تحب الحديث ، وإن للشهداء سادة وأشرافاً وملوكاً ، وإن هذا يا عمر منهم) ( ).
والمراد من الحسنيين في الآية الكريمة أعلاه هما :
الأول : النصر وهو مقدمة للفتح وفيه الأجر والثواب .
الثاني : القتل دفاعاً ، وفي سبيل الله وفيه الخلود في النعيم , قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).
وتدل الآية أعلاه على أن المسلمين الأوائل لم يزاولوا الإرهاب ، ولم يقصدوا التعدي والغزو .
الخامس : النصر المبين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر مع أنه وأصحابه لم يتهيأوا أو يستعدوا لها , إنما كانت معركة قريش تحريضاً واستعداداً وإبتداءً , إذ أصر رؤساهم على القتال يومئذ , ليكون من معاني رفع الذلة عن المسلمين من حينها كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
صيرورة المسلمين في حال تكافؤ مع المشركين مما يضطرهم إلى الجلوس للصلح , وعقد الهدنة فمن طبائع الناس أن القوي لا يرضى بالصلح مع الضعيف والذليل .
فأراد الله عز وجل التخفيف عن الناس لذا اختتمت آية ببدر بقوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) ليكون من مباني النفوس الميل إلى الصلح وإن كان مع المشركين , فقد يصر بعض الصحابة على قتالهم لكفرهم وشركهم , فجاءت آيات السلم والصلح رحمة ولطفاً من عند الله عز وجل , وحتى قوله تعالى [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ]( ) يدل على أن المسلمين لا يسعون إلى القتل والشهادة , إنما هم مضطرون إليه بسبب تربص وانتظار المشركين والمنافقين ما ينزل بالمسلمين عند إشتداد القتال .
السادس : كثرة القتلى والأسرى من المشركين يوم بدر إذ فقدوا سبعين قتيلاً وأسر منهم المسلمون سبعين آخرين .
وهل يمكن القول أن نتائج معركة بدر مقدمة لصلح الحديبية , الجواب نعم , لبيان قانون وهو أن الإرهاب والعنف يؤدي في النهاية إلى الصلح والسلم ولا يبقى من أثره إلا الندامة وكثرة الأضرار والحسرة .
ولم تكن نتائج معركة بدر خاصة بميدان المعركة , ولا خصوص طرفي القتال , إنما تشمل أهل مكة والمدينة والقبائل العربية .
لقد وقعت معركة بدر في اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية , أي قبل أشهر الحج باثنين وأربعين يوماً , تكفي لإنتشار الخبر بين القبائل , حتى إذا ما انعقدت أسواق موسم الحج من ذات السنة صارت معركة بدر حديث أهلها , فلم يتفاخروا يومئذ بأمجاد الآباء , ولم يتباروا بالأشعار , ولم يقفوا عند البيع والشراء فقد كان أهل الموسم منشغلين بمعركة بدر من جهات :
الأول : أسباب المعركة .
الثاني : وقائع المعركة .
الثالث : حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المعركة مع عدم إستعداده لها .
الرابع : عدم وجود موطن وبلد آخر للمسلمين غير المدينة , ولو إنهزم المسلمون لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصبح طريق المشركين إليها مفتوحاً , وإن لم يفكروا بغزوها , إذ أنهم كانوا يطلبون شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووقف التنزيل .
الخامس : إبتداء قريش بالقتال .
السادس : تفاصيل معركة بدر .
السابع : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر.
قراءة قرآنية في بداية الإرهاب
لقد جعل الله الحياة الدنيا دار كرامة وعز لآدم وذريته من بين الخلائق، ومن الشواهد عليه أمور :
الأول : خلق الله آدم بيده ، وفي الجنة ، وتشريف الله له بأنه نفخ فيه من روحه ، قال تعالى [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ] ( ) ومن أسرار هذا النفخ قانون نفرة عامة الناس من الإرهاب ، فلا يقوم بالإرهاب إلا أفراد قلائل ، ومن الشواهد عليه أنه مع كثرة وفتك الأسلحة في هذا الزمان ، وتوفر السلاح الشخصي القاتل فان الإرهاب والقتل لا يزال قليلاً ، وما الإحتراز العالمي والدولي والمجتمعي منه إلا من الدلائل على بقاء الإرهاب في ضآلة وإنحسار .
الثاني : سجود الملائكة لآدم ليكون هذا السجود دعوة للناس للألفة بينهم ، وللتنزه عن الإرهاب .
الثالث : خلق آدم حواء في الجنة لبيان قانون إكرام الله عز وجل للمرأة وبشارة ورود المؤمنات إلى الجنة عند المعاد .
الرابع : نسبة أكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عز وجل عنها إلى ابليس ونعته بالشيطان المطرود من رحمة الله عز وجل ، قال تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ..] ( ).
وهذه النسبة لا تمنع من تحملهما جزءً من المسؤولية.
ومن الإعجاز في نظم الوقائع في القرآن وترتب الأثر عليها في الأسماء ما يخص إبليس من جهات ترتيبية وهي :
الأولى : توجه الخطاب إلى إبليس من ضمن الملائكة بالسجود لآدم بقوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ] ( ) وذكر أن اسمه كان الحارث لكثرة عبادته .
و(عن ابن عباس قال: كان إبليس من حَيّ من أحياء الملائكة يقال لهم: الجِنّ، خلقوا من نار السموم، من بين الملائكة، وكان اسمه الحارث، وكان خازنا من خزان الجنة) ( ).
فلم تقل الآية : وإذ قلنا للملائكة وابليس اسجدوا لآدم ، إنما توجه الخطاب من الله إلى الملائكة ومنهم ومعهم إبليس على نحو العموم الإستغراقي .
(عن ابن عباس قال : كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل ، وكان من سكان الأرض ، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً، وأكثرهم علماً .
فذلك دعاه إلى الكبر ، وكان من حي يُسمون جنا) ( ).
الثانية : ولو سجد ابليس مع الملائكة لآدم لم نعرف أن اسمه إبليس ، ولكنه عندما عصى الله عز وجل تغيرت صورته واسمه ، وصار يسمى إبليس لأنه ابعد عن الخير ، ويئس من رحمة الله ، ومن الطاعة .
وإبليس ممنوع من الصرف قيل للعلمية والعجمة وهو قول الأكثر ، ولكن لا عجمة في المقام والمختار أنه لفظ عربي من الإبلاس وهو (الحيرة واليأس) , قال تعالى [فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ]( ), وبه قال الخليل وابن فارس والأزهري , فتكون علة منعه من الصرف العلمية وشبه العجمة لأن العرب لم يسموا به أصلاً .
الثالثة : صدور التوبيخ من الله عز وجل لإبليس وتوعده بسبب ما أظهره من الحسد والإستكبار والمعصية ، قال تعالى [قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ] ( ).
وهل أراد الله عز وجل من هذا السؤال إظهار إبليس الندم والمبادرة إلى السجود ، أم أنه حصر الجواب ببيان أسباب الإستكبار والزهو والتعالي ، المختار هو الأول ، وهو من رحمة الله عز وجل في سكنة الجنة وعامة الخلائق خاصة وأن جواب إبليس لا يختص بالفردين أعلاه من الإستكبار والعلو ، إنما [قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ]( ) .
ومع مجئ الأمر الصريح من الله عز وجل بالسجود لآدم يكون قياس إبليس فاسد الإعتبار ، فقد نظر لآدم بهيئة الجسم الكثيف ، وإبليس روحاني لطيف .
فجمع إبليس بين أمور :
الأول : المعصية في الفعل .
الثاني : الإصرار القولي على الإمتناع عن الطاعة .
الثالث : الإحتجاج بحجة واهية ، إذ أن الله عز وجل هو الخالق لإبليس وآدم ، وهو الذي أمر إبليس بالسجود لآدم .
الرابعة : توجه الأمر من الله عز وجل لإبليس بالهبوط إلى الأرض مع الإبعاد عن رحمة الله إلى يوم القيامة ، قال تعالى [قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ]( )، فلا يقيم في الجنة إلا من يطيع الله عز وجل طاعة تامة مما يدل على أن إبليس هبط إلى الأرض بصفات :
الأولى : الطرد من الجنة .
الثانية : غلق باب التوبة عليه .
الثالثة : حجب إبليس عن الخير ، وحرمانه من الشأن والكرامة ، فهو كالذي يرجم بالحجر أو يرمى بالشهب.
وهل إبتدأ الإرهاب من إمتناع إبليس عن السجود لآدم أم أنه ابتدأ من وعيد وقتل قابيل لأخيه هابيل.
المختار هو الثاني ، فليس من إرهاب في الجنة ، وصحيح أن إبليس أنزل وأغوى وخدع آدم وحواء بالأكل من الشجرة ، إلا أن الإرهاب وفق مصطلح هذا الزمان هو الأفعال العنيفة والبطش غير المشروع الذي يبعث الخوف العام والرعب ويسبب تلف النفس والأضرار بالممتلكات لأغراض سياسية أو دينية أو طائفية أو عنصرية ومنهم من قال أن الإرهاب مصاحب لأيام الإنسان في الحياة الدنيا ، ولكن قد نزل آدم وحواء وليس من إرهاب ، وعاشا في الأرض وكثر نسلهما ، وإبتدأ الإرهاب في ذريتهما وابنائهما الصلبيين.
وكان ويبقى الإرهاب أمراً محدوداً وضيقاً ، تقابله عامة الناس بالإستهجان والإنكار .
قانون الصبر عند البلاء إزدراء للإرهاب
لقد جاء القرآن بمدرسة الصبر بما يبعث على تأديب المسلمين وإصلاحهم لملاقاة الإبتلاء بروية وحكمة وتوسل ودعاء إلى الله عز وجل بلحاظ أن اللجوء إلى الله عند البلاء والفتنة والمصيبة من أسمى ضروب الصبر ، وقد ورد في التنزيل [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ]( )، وليس من فترة بين نزول البلاء وبين اللجوء إلى الله عز وجل .
وجاءت الآية أعلاه بصيغة الجمع لبيان قانون وهو نزول المصيبة الخاصة ، والمصيبة العامة ، ولزوم استعداد المسلمين والناس لها ، وقد يأتي وباء أو حرب أو آفة كونية تنزل بالناس جميعاً فيكون استرجاع المسلمين ، ولجوئهم إلى الدعاء كشفاً لها ، وصرفاً للبلاء ليكون من معاني تلقي المصيبة بالإسترجاع وقول [إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ) في مفهومه زاجراً عن الإرهاب ، ودعوة للمسلمين جميعاً للإمتناع عن التعدي وملاقاة المصيبة بمصيبة أخرى مثلها لما في الإرهاب من الأذى على الذي يرتكبه وعلى الذي ينزل به .
وهل من صلة بين الصبر والزهد في المقام ، الجواب نعم ، إذ يجتمعان في التنزه عن الإرهاب وصرف المؤمنين عنه .
ومن الزهد ثقة الإنسان بالله وتركه ما يشغله عن عبادة الله ، لبيان أمور:
الأول : قانون عدم إجتماع الصبر مع الإرهاب ، فمن يتحلى بالصبر لا يلجأ إلى الإرهاب وإخافة الناس في الطرقات والأسواق والبيوت ، لأنه يدرك قانوناً وهو أنه مأمور بالصبر على الأذى واللجوء إلى الله عز وجل .
الثاني : قانون التنافي بين الزهد والإرهاب ، فاذا اجتمع الصبر والزهد عند الفرد والجماعة ، إنغلق باب الإرهاب .
الثالث : قانون الإيثار نشر لمعاني السخاء والأمن بين الناس ، قال تعالى [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
وأختتمت الآية أعلاه بالفلاح والنجاح للذين يمدون يدّ العون والمساعدة لغيرهم وتقديمهم وتفضيلهم بالميل على أنفسهم حتى مع حاجتهم وفاقتهم ، وبذات الخاتمة جاءت آية المصيبة من سورة البقرة أعلاه، لبيان أن نبذ الإرهاب من الفلاح ، وهو سبب للتوفيق والرشاد.
ولا يتعارض الصبر عند البلاء مع الدعاء قبل حلوله رجاء تفضل الله بصرفه ، وهو من رشحات قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) وكأن العبد ابتلي به ، وهو من عظيم فضل الله عز وجل .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (يتعوذ من جهد البلاء ، ودرك الشقاء ، وسوء القضاء ، وشماتة الأعداء) ( ).
ودرك السقاء أي لحوقه بالإنسان ومصاحبته له .
ومن الإعجاز في آية الإيثار أنها لا تختص بجهة مخصوصة إنما هو عام من جهات :
الأولى : الكم المبذول .
الثانية : الكيف الذي يؤثر به الغير .
الثالثة : الجهة التي تؤثر على الذات ، ويستقرأ من الآية صيغة العموم ، فمتى ما استحضر الإنسان آية الإيثار فانه يمتنع عن الإرهاب .
لأن الإيثار خير محض ونفع للآخرين ، وفيه الأجر والثواب والبدل والعوض من الله عز وجل .
وفي سبب نزول قوله تعالى [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) (أتى رجل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله أصابني الجهد ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً فقال : ألا رجل يضيف هذا الليلة رحمه الله تعالى ، فقال رجل من الأنصار ، وفي رواية فقال أبو طلحة الأنصاري : أنا يا رسول الله ، فذهب به إلى أهله فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تدخرين شيئاً .
قالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية .
قال : فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم ، وتعالي ، فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة لضيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففعلت ثم غدا الضيف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال : لقد عجب الله من فلان وفلانة وأنزل الله فيهما {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}( )( ).
وعلة الإيثار هي الإيمان وقصد القربة إلى الله ، قال تعالى [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا..] ( ) والإيثار من الأخلاق الحميدة ، والآداب الكريمة ، ومن مصاديق السخاء والجود .
لبيان قانون وهو أن القرآن يرسي قواعد الخلق الحميد بين الناس ، ويمنع من الظلم والتعدي .
وهل الإيثار ضد التطرف ، الجواب نعم ، لكبرى كلية وهي أن التطرف إصرار وتشديد في أمر خاص .
والتطرف لغة من الطرف وهو حد وحرف الشئ ، ليترشح عنه المعنى الإصطلاحي ، وهو مجاوزة الحد والإستمرار حتى الحد الأقصى في القول أو الفعل إبتعاداً عن الجماعة والوسطية وإعراضاً عن الحوار وأثره ، ومن مصاديق النهي عنه في القرآن قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ( ).
لبيان أن وظيفة المسلمين الشهادة على الناس في النشأتين ، وليس الإرهاب أو التطرف ، ولا تكون الشهادة إلا بادراك الموضوع والتدبر فيه والعدالة .
قراءة في [فَإِنْ كَذَّبُوكَ] ( ).
تضمن هذا الجزء ذكر للقوانين الواردة في الجزء السابق والخاص بقوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ).
وهل يصح تقدير الآية : يا نبي الله كل نفس ذائقة الموت، الجواب نعم.
ويستدل بالخطابات الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ) ، ويمكن أن نضيف لها [فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَت وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ] ( ).
تقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : فان كذبوك برسالتك .
الثاني : فان كذبوا بالأحكام الواردة في القرآن .
الثالث : فان كذبوك برسالتك والتنزيل الذي جئت به فانهم لا يستطيعون تكذيبك بأن [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ( ).
الرابع : فان كذبوك بعلوم الغيب التي جئت بها ، فقد كذبوا الرسل من قبلك الذين جاءوا بالبشارة برسالتك ، كما في عيسى عليه السلام ، إذ ورد على لسانه في التنزيل [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
الخامس : فان كذبوك بأخبار المعاد وأهوال يوم الحساب , وصيرورة الناس فريقين أحدهما في الجنة والآخر في النار ، فسيغادرون الدنيا ويكون اللقاء في الآخرة ، قال تعالى [إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( ).
السادس : فان كذبوك فأصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ، وهذا الجزء من التفسير خاص بقانون التضاد بين القرآن والإرهاب ، فيكون تقدير قوله تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ] بلحاظ هذا القانون على وجوه :
الأول : فان كذبوك فعلى المسلمين التحلي بالصبر .
الثاني : فان كذبوك فان أمة مسلمة تصدق بك ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثالث : فان كذبوك فقد صبرتَ ولم تنتقم من المشركين بالله الذين يعبدون الأصنام ، فيجب على المسلمين أن لا يلجأوا إلى الإرهاب والتفجيرات والقتل العشوائي ، إنما عليهم بالصبر ، وأداء الفرائض العبادية.
الرابع : فان كذبوا رسول الله فقد كُذب رسل من قبله ولم يلجأوا هم ولا أصحابهم إلى الإرهاب وبث الخوف في الأسواق والمنتديات والطرق العامة.
الخامس : فان كذّبوا رسول الله فان [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( )، حيث يقف الناس للحساب بين يدي الله عز وجل ، وهو سبحانه الذي يحاسب الناس، فلا يصح ملاقاته والوقوف بين يديه بالإرهاب والتفجيرات .
السادس : فان كذبوك فقد أمهلهم الله ، وصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنهم ، مع أنهم يعبدون الأوثان ، وقادوا الجيوش العظيمة لغزو المدينة ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
قانون البشارة النبوية عزوف عن الإرهاب
من معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( )، بشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعاهد الصلات الطيبة بين الناس خاصة في هذا الزمان والأزمنة التالية وتداخل البلدان ، وسيادة مكارم الأخلاق ولغة الحوار بين الناس , والرأي والرأي الآخر .
والإختلاط في السكن والجوار بين أهل الملل المختلفة , وقد أشار اليها القرآن بذكر الجار الجنب بقوله تعالى [وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ]( ).
وعن ابن عباس في قوله (والجار ذي القربى) ( ) يعني الذي بينك وبينه قرابة (والجار الجنب) يعني الذي ليس بينك وبينه قرابة .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن نوف الشامي في قوله { والجار ذي القربى } قال : المسلم (والجار الجنب) ( ) قال : اليهودي والنصراني( ).
وعن أبي شريح الخزاعي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كان يؤمُن بالله واليوم الآخر فليُحسنْ إلى جاره، ومن كان يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر فلْيكُرْم ضيفَه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليَقُلْ خيرًا أو ليصمت( ).
والمختار أن الجار أربعين داراً من كل جهة , وهل يشمل معنى الجوار الدول أم أنه خاص بدور السكن , المختار هو الأول ويكون النفع فيه أعم وأكثر .
وتدل الآية أعلاه ووصايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجار مطلقاً من غير حصر لملته على حرمة إيذاء أو إرهاب الجار ، وأخرج أحمد من طريق أبي العالية عن رجل من الأنصار قال : خرجت من أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا به قائم ورجل معه مقبل عليه ، فظننت أن لهما حاجة .
فلما انصرف قلت : يا رسول الله لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام . قال : أوقد رأيته ، قلت : نعم . قال : أتدري من هو ، قلت : لا .
قال : ذاك جبريل ، ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ، ثم قال : أما أنك لو سلمت رد عليك السلام( ).
وللمواطنة في هذا الزمان موضوعية في الحياة العامة والواجبات والحقوق ، إذ يتساوى الناس أمام القانون مما يلزم حسن المعاشرة ، ونبذ الإرهاب , لتتجلى بشارات وإنذارات النبوة بإشاعة أداب وسنن الصلاح والرجاء بين الناس .
لقد صار التعايش السلمي بين الأديان والطوائف حاجة سياسية واقتصادية وركنا في تعاهد النسيج الإجتماعي , وسبباً في الإرتقاء في العمل والناتج القومي .
إن الهيكل التنظيمي والدولي لا يسمح للإرهاب بأن يكون له موضع قدم في المجتمعات والأعراف ، فلابد من الإنصراف عنه نحو ثوابت النبوة والتنزيل ذات الحسن الذاتي والغيري ، ومنها نشر مفاهيم الرحمة والرأفة بين الناس.
وفي قوله تعالى [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ]( )، قال ابن مسعود : والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته أن يُحِلَّ حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله( ).
و(عن فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ)( ).
وما ورد في حجة الوداع من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يطرأ عليه النسخ إلا أن يكون الناسخ آيات قرآنية ، وقد جاءت آيات القرآن بالعفو والصفح والسلام , و(قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته: ” لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) ( ).
وكرر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديث فضالة أعلاه لفظ الناس ليكون التفضيل في بيان صفات يتحلى بها المسلم وترغيب عامة الناس بالإيمان وخصاله .
والنسبة بين المسلم والمؤمن عموم وخصوص مطلق فالمسلم أعم ، لحث المسلمين على التقيد بالتوصية والأمر في هذا الحديث ، وبيان أنها تستلزم الصبر والسعي ، فمن شرائط الإيمان :
الأول : أمن الناس من المؤمن على أموالهم ، سواء كانوا مسلمين أو أهل كتاب أو غيرهم ، إذ تفيد الألف واللام في (مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ) العموم الإستغراقي بخصوص كل من :
الأولى : أفراد الناس ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( )، ومن التقوى حسن الخلق.
الثانية : أهل الملل والنحل .
الثالثة : المحل سواء محل الإنسان أم محل أمواله ، فقد يقوم شخص في بلد وله مال في بلد آخر .
الثاني : إطمئنان الناس وعدم خشيتهم على أنفسهم من المؤمن ، ليكون من الإعجاز الغيري للصلاة أن السكينة تنزل على الناس حينما يرون المسلمين في صفوف متراصة وخشوع ، وقد يمتنعون عن الإضرار بهم، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ) وصارت هيئة هذه الصفوف سبباً لإسلام الكثيرين , وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج في كتائب استطلاع حول المدينة ليصلي بأصحابه عند مداخل القرى وفي الجادة العامة , لتكون من عمومات الآية أعلاه , ودعوة للناس للإيمان .
وقدم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه أعلاه الأموال على النفوس مع أن النفوس هي الأهم ، ولكن لأن المعاملات والتعدي والظلم يقع في المال أكثر منه في النفوس .
لقد أبتدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذكر صفات المؤمن لحاجة العصمة من الظلم والتعدي في الأموال للإيمان .
الثالث : إتصاف المسلم بسجية التهذيب ، وإمتناعه عن جرح وإيذاء الناس بكلامه ، واحترازه عن شتمهم أو التجاوز على الأعراض.
وهل ينحصر الإرهاب بمفهومه في هذا الزمان بالفعل ، أم يشمل اللسان ، الجواب هو الثاني وقد يكون اللسان مقدمة للإرهاب ، وتحريضاً عليه ، لذا أوصى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحفظ اللسان ، وترك مقدمات الإرهاب القولية والفعلية ، وهذه الوصية من مصاديق قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
إن قبض اللسان عن داء الغيبة والنميمة وإثارة أسباب الكدورة والضغائن تعاهد للألفة العامة ، والتعايش السلمي ، ومانع من التطرف والفرقة والشقاق بسبب الملة أو العِرق ، وفي خطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع أكد على حرمة كل من :
الأول : الدماء .
الثاني : الأموال .
الثالث : الأعراض .
وبالإسناد عن ابن عباس ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيها الناس، اسمعوا من قولي فاعقلوه، فإني لا أدري، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في هذا الموقف.
أيها الناس ، أي شهر هذا ، قال : فسكتوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هذا شهر حرام ، فأي بلد هذا ، فسكتوا ، فقال : بلد حرام ، ثم قال : أي يوم هذا ، فسكتوا، فقال: يوم حرام.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله قد حرم دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، كحرمة شهركم هذا، في بلدكم هذا، في يومكم هذا، إلى أن تلقوا ربكم، ألا هل بلغت؟
قالوا: نعم ، قال: اللهم، اشهد ، ثم قال : إنكم سوف تلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلغت ، قالوا: نعم ، قال : اللهم اشهد ، ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع، وإن كل دم في الجاهلية موضوع.
وأول دماءكم أضع، دم إياس بن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد ابن ليث، فقتلته هذيل ألا هل بلغت.
قالوا : اللهم ، نعم.
قال : اللهم اشهد فليبلغ الشاهد الغائب ، ألا إن كل مسلم محرم على كل مسلم، ولا يحل مال مسلم إلا ما أعطى عن طيب نفس)( ).
ويأتي النهي من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تارة عن تحريم أموال ونفوس وأعراض الناس جميعاً ، وتارة خصوص المسلمين ، مما يدل على بقاء العموم على حاله ، وإجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تنمية عصمة المسلمين والناس جميعاً من التعدي والإرهاب .
مادة رهِبَ في القرآن
من إعجاز القرآن عدم ورود موضوع الإرهاب بمفهومه الحالي في ألفاظ القرآن ، صحيح أنه وردت مادة (رَهِْبَ) فيه سبع مرات ، ولكن ليس من صلة بينها وبين الإرهاب ، إنما هي حرب على الإرهاب وزاجر عنه ، والآيات التي وردت فيها مادة [رَهِْبَ] هي :
الأولى :قوله تعالى [وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ]( ).
السادسة : قوله تعالى [لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ]( ).
السابعة : قوله تعالى [َفاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ]( ).
قراءة في الجزء (209) من هذا التفسير
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا محلاً لعبادته وذكره , فقد بيّن القرآن علة خلق الناس وهي العبادة , قال سبحانه [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) لتدل الآية في مفهومها على أن الجن والإنس مخلوقات ، وكل فرد من أفراد الجن والإنس عبيد لله ، ويحتاجون في وجودهم واستدامتهم إلى رحمة الله ، لتكون عبادتهم لله عز وجل شكراً له سبحانه على هذه النعمة .
وهل يمكن القول بقانون : كل آية من القرآن تدعو إلى عبادة الله عز وجل وتذكر بها , الجواب نعم وهذا التذكير من جهات :
الأولى : الآية القرآنية كلام الله عز وجل الذي أنزله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : ذات المضامين القدسية للآية القرآنية وتلاوتها ذكر لله عز وجل.
الثالثة : تضمن آيات القرآن الأحكام الشرعية .
الرابعة : تلاوة الآية القرآنية عبادة .
الخامسة : العمل بمضامين وأحكام الآية القرآنية عبادة .
السادسة : التدبر والتفكر في مضامين الآية القرآنية عبادة .
وقد أنعم الله عز وجل علينا بصدور الجزء التاسع بعد المائتين من تفسيري للقرآن ويختص بتفسير الآية الخامسة والثمانين بعد المائة من سورة آل عمران وهو قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ).
واستحضار الموت وما بعد الموت عبادة لله عز وجل لما فيه من الإقرار بأمور :
الأول : الحياة والموت بيد الله عز وجل .
الثاني : الموت أمر وجودي وليس عدمياً فهم مخلوق , وتدل عليه آيات منها :
الأولى : قوله تعالى [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ).
الثانية : قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ( ) فالموت له مذاق وطعم يحس.
الثالثة : قوله تعالى[حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] ( ).
الرابعة : قوله تعالى[حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ] ( ).
الخامسة : قوله تعالى [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ] ( ).
قانون آية الرباط دفع للإرهاب
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الرباط لغة الذي يُربط به والجمع رُبُط.
(والرباط : المداومة على الشئ)( ).
والرباط : ملازمة الثغر.
قال الأصمعي : الرِّباط: الخيل.
وأنشد لرجل من عَبْس:
فإن الرباطَ النُكْدَ من آل داحس … جَريْنَ فلم يُفْلِحْنَ يومَ رِهان
فسيَّبْنَ بعد اللّه مَقْتَلَ مالكٍ … وطَرَّحْنَ قيساً من وراء عُمانِ
ويُروى: فقَضيْنَ بعد اللّه، وكان الأصمعي ينشده: قَضَيْنَ بإذن اللّه( ).
وقوله جلّ وعزّ [اصبروا ورابطوا] يريد : رباط الجهاد، ويقال: هو المواظبة على الصّلواتِ الخَمس في مَواقيتها( ).
وابتدأت الآية أعلاه بنداء التشريف والإكرام [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وهو خطاب عام للمسلمين والمسلمات .
وقيل أن المراد من نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في الآية الكريمة المؤمنون على نحو الخصوص.
والمختار أنه أعم وأنه يشمل كل من نطق بالشهادتين لأن الآية في مقام التأديب والإصلاح .
لقد أكرم الله عز وجل أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزل القرآن بنيل كل واحدة منهن مرتبة سامية وهي (أم المؤمنين) ورزق الله عز وجل الذين نطقوا بالشهادتين اسم الصحابة .
والمشهور والمختار أن الصحابي هو اسم الذي رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مسلم , فالذي كان كافراً ورآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فليس بصحابي.
وفي هذا النداء بعث لعامة الصحابة والمسلمين للتهيئ لما يأتي في مضامين الآية الكريمة من الأوامر , وكل أمر بكلمة واحدة لبيان إعجاز القرآن الذاتي، وإرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية ، وهذه الأوامر هي :
الأمر الأول : اصبروا : جاءت الآية مطلقة من جهة الموضوع فلم تقيد الآية الموضوع الذي يجب أن يصبر فيه المسلمون ، فيكون الصبر في العبادات من الصلاة والصوم والزكاة والحج .
وإذا كانت الصلاة تستلزم جهداً بدنياً ، ويلزم الصوم تحمل الجوع والعطش ، فهل تستلزم الزكاة والخمس صبراً ، الجواب نعم لما فيهما من إخراج المال الخاص ودفعه الى الفقراء والموارد المقررة الأخرى بقصد القربة ورجاء الثواب ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ) ، ومن معاني الصبر بلحاظ القانون الذي اختص به هذا الجزء وجوه :
أولاً : قانون أداء الفرائض العبادية حصن من الإرهاب .
ثانياً : قانون كل فريضة عبادية هي جهاد في سبيل الله و(عن الحسن بن علي عليه السلام قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إني جبان وإني وضعيف .
فقال : هلم إلى جهاد لا شوكة فيه : الحج)( ).
فلا تصل النوبة إلى التفجير العشوائي ، وإلى قتل النفس فيه لأنه ظلم للذات والغير ، وحرمان من الثواب الذي يترشح عن طول العمر وتزيينه بالذكر والتسبيح ، روى الإمام الحسن بن علي عن أبيه علي عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : إنَّ اللّه لما أراد أن يخلق الخلق قال للريح الجنوب : إنَّي خالقٌ منكِ خلقاً. فأجعله عزّاً لأوليائي ، ومذلة على أعدائي، وجمالاً لأهل طاعتي.
فقال الريح : أخلق.
فقبض منها قبضةً فخلق فيها فرساً.
فقال له : خلقتك عربياً وجعلت الخير معقوداً بناصيتك ، والغنائم مجموعة على ظهرك ، عطفتُ عليك صاحبك ، وجعلتك تطيرُ بلا جناح ، وأنت للطلب وأنت للهرب ، وسأجعل على ظهرك رجالاً يسبَّحوني ويحمدونني ، ويهلَّلوني ويكبَّروني ، تسبَّحين إذا سبَّحوا ، وتهلَّلين إذا هلَّلوا، وتكبَّرين إذا كبرَّوا.
وقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : ما من تسبيحة ، وتحميدة وتمجيدة ، وتكبيرة يكبّرها صاحبها وتسعهُ إلاّ وتجيبه بمثلها.
ثم قال : لما سمعت الملائكة صفة الفرس عاتبوا خالقها قالت : ربَّ نحن ملائكتك نسبّحك ، ونحمدك فماذا لنا ، فخلق اللّهُ لها خيلاً بلقاء أعناقها كأعناق البخت.
قال : فلما أرسل الفرس الى الأرض فأستوت قدماه على الأرض صهَل ، فقيل : بوركتِ من دابَّة أذلَّ بصهيلهِ المشركين ، أذل به أعناقهم ، أملأ منه آذانهم ، وأرعب به قلوبهم.
فلما عرض الله على آدم من كل شيء قال : أختر من خلقي ماشئت،
فاختار الفرس.
فقال له : اخترت عزّك وعزّ ولدك خالداً ما خلدوا , وباقياً ما بقوا.
(يلقح فينتج منه أولادك أبد الآبدين) بركتي عليك وعليه؛ ما خلقتُ خلقاً أحبَّ الي منك ومنهُ ( ).
ثالثاً : اصبروا بالإمتناع عن الإرهاب .
رابعاً : اصبروا بعدم الإعانة على الإرهاب .
خامساً : اصبروا بتحمل الأذى في جنب الله .
سادساً : اصبروا بالأمر بالصبر والنهي عن الإرهاب.
فمن إعجاز آية البحث أنها تعصم عن الإرهاب ، وكأنها نزلت في هذا الزمان ، وهو من إعجاز آيات القرآن بحضورها عند كل من :
الأول : الفتن والإبتلاء .
الثاني : المحن والشدائد , قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ).
الثالث : الخصب والخير .
الرابع : تحقق مصاديق البشارة .
الخامس : حال السراء والضراء ، قال تعالى [وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ] ( ) وقال تعالى [وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ) ليكون من معاني قوله تعالى [اصْبِرُوا]أي اصبروا في الخير وتوالي النعم بالتقيد بالفرائض والعبادات ، والتنزه عن الإضرار بالذات والملة والناس .
إن كثرة تلاوة القرآن ، وقراءة الأحاديث النبوية ، والتفقه في علوم الشريعة تثبيت للأقدام في منازل التقوى ، وواقية من الربا.
(وأخرج أبو نعيم في الحلية من طريق مالك بن أنس ، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام قال : لما قال له سفيان الثوري : لا أقوم حتى تحدثني قال الإمام جعفر عليه السلام : أما أني أحدثك ، وما كثرة الحديث لك بخير يا سفيان .
إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقاءها ودوامها ، فأكثر من الحمد والشكر عليها ، فإن الله تعالى قال في كتابه { لئن شكرتم لأزيدنكم } ( ).
وإذا استبطأت الرزق ، فأكثر من الاستغفار ، فإن الله تعالى قال في كتابه { استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً . يمددكم بأموال وبنين } ( )يعني في الدنيا والآخرة { ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً } ( ).
يا سفيان ، إذا أحزنك أمر من سلطان أو غيره ، فأكثر من لا حول ولا قوّة إلا بالله ، فإنها مفتاح الفرج وكنز من كنوز الجنة) ( ).
إن كل مسلم ومسلمة مأموران بالصبر ، إنما جاءت الآية بصيغة الجمع لإفادة لزوم تحلي الأمة بالصبر ، والتعاون فيه ، والحث عليه والرضا به ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ).
وهل من صلة بين الصبر والحالة النفسية ، الجواب نعم ، ففيه بعث للسكينة في النفس ، والرضا بما قسم الله ، والشكر لله عز وجل للتوفيق في طاعته .
وهل الصبر من الصراط المستقيم الوارد في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )الجواب نعم ، لتكون تلاوة كل مسلم ومسلمة للآية أعلاه في هذا الزمان حصانة من الإرهاب ، وصدّا عنه ، وبعثاً للنفرة منه .
الأمر الثاني : قوله تعالى [صَابِرُوا] لإرادة التحلي باسمى مراتب الصبر بقهر النفس عن الشهوات ، وإتيان العبادة , والإمتناع عن إرجائها ، مع إجتناب المعصية ، وإن تكررت واقتربت .
ومن معاني [صَابِرُوا] في المقام أظهروا الصبر بكيفية أشد وأظهر من صبر مشركي قريش ، فهم مع كفرهم وعبادتهم الأوثان يصبرون في منازل القتال ، فلابد أن صبر المسلمين أطول وأشد على النفس دفعاً لإرهاب المشركين , واستئصالاً للعصبية الجاهلية .
وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : مثلما صبرتم فصابروا أي استمروا على نهج الصبر ، ويمكن تسمية الدنيا دار الصبر ، ولم يكن الإرهاب والتفجيرات العشوائية معروفة في الأرض ، فيجب أن يستمر المسلمون في صبرهم وتنزههم عنها .
لقد كان المشركون يسعون إلى قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويبعثون إلى المدينة من يغتاله ، ويوفرون له أسباب ومقدمات الجريمة، ويتعهدون برعاية عياله عند قتله من قبل المسلمين .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يرد بالمثل ، ولا يأمر بقتل رؤساء الكفر الذين كانوا يجهزون الجيوش للهجوم على المدينة المنورة.
فبعد المعركة يدخل كفار قريش إلى المدينة ، ولا يتعرض لهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من يأتي رسولاً من قبل قريش أو مفاوضاً لفك أسير أو لقضاء حاجة أو زيارة ذوي قربى ، فلا يتعرض له المسلمون ، وهل يحضر بعض الكفار إلى المسجد النبوي أثناء إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الصلاة ، المختار نعم .
ومع هذا ليس من إرهاب عشوائي يومئذ ، فلا المسلم يشهر سيفه ويقتل جماعة غدراً ، ولا المشرك يباغت المسلمين وهم سجود مثلاً إذ كان المسلمون في يقظة وإحتراز ، وهناك من يقف للتأمين والحراسة اثناء الصلاة حتى في الأشهر الحرم .
وكانوا يرصدون أطراف المدينة , ويعرفون الذي يدخلها أو يدخل المسجد ويريد الشر والإرهاب .
صحيح أن مادة التفجير العشوائي لم تكن ميسرة أو متوفرة آنذاك ، ولكن هناك السيف ، والسيف المسموم ، والنبال والرماح ، كما أدخل وحشي الحربة في فنون القتال ، وهو غلام جبير بن مطعم ، إذ قال وحشي بخصوص قتله لحمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد (والله إني لانظر لحمزة يهد الناس بسيفه ما يليق شيئا يمر به، مثل الجمل الاورق، إذ قد تقدمني إليه سباع، فقال حمزة: هلم يا ابن مقطعة البظور.
فضربه ضربة فكأنما أخطأ رأسه، وهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل نحوى فغلب ، فوقع وأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتى، ثم تنحيت إلى العسكر ولم يكن لى بشئ حاجة غيره) ( ).
أي أنه يسعى للعتق من الرق ، ولم يعلم أن قتله حمزة هو الرق في النشأتين لولا أن منّ الله عليه بالتوبة ، والنطق بالشهادتين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : صابروا بالثبات في مواضع الدفاع ، ولا تنهزموا ولا تفروا أمام مشركي قريش .
لقد كانت مصابرة المسلمين سبباً في هزيمة المشركين في معارك الإسلام الأولى .
ولقد همّ فريق من الصحابة أثناء معركة أحد بالفرار فثبتهم الله ، قال تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ] ( ).
لبيان قانون وهو أن الله عز وجل هو الذي يمد المسلمين بالتمكين ، ويجعلهم يصابرون في فعلهم وفي مواطن الدفاع .
ولقد تخلف الرماة المسلمين عن المصابرة ، وتركوا مواضعهم التي جعلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها فصاروا سبباً للحوق الخسارة الفادحة بجيش المسلمين بعد أن كانت الجولة لهم .
لقد نصب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خمسين من الصحابة ممن يحسنون الرمي بالنبال ، وجعلهم على جبل (عينين) خلف ظهور المسلمين ، ويسمى هذا الجبل الآن جبل الرماة ويبعد عن المسجد النبوي نحو (5) كم .
ويبدو جبل الرماة في هذا الزمان صغيراً غير مرتفع ، بسبب الأتربة وتراكم طبقاتها لأكثر من ألف وأربعمائة سنة إلى جانب صعود مئات آلاف الزوار عليه كل عام لإستحضار ذكرى واقعة أحد ، وصبر ومصابرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يومئذ.
فلم ينهزم ولم يفر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع كثرة الجراحات التي أصابته ، وبقي ونفر من أصحابه في الميدان ، مما بعث اليأس والقنوط في نفوس المشركين ، وجعلهم ينسحبون في ذات يوم المعركة ، لقد تحقق مصداق مصابرة المسلمين أكثر من حال المشركين يوم أحد.
ولم يثبت يومئذ أن للمشركين مصابرة لولا مجئ خيالتهم من خلف جيش المسلمين ، فحالما ابتدأت المعركة أمد الله المسلمين بالنصر وتقهقرت جيوش العدو مع أن عددهم يومئذ أكثر من أربعة أضعاف المسلمين الذين كانوا سبعمائة .
ثالثاً : صابِروا على الإمتناع عن الظلم والتعدي , قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
رابعاً : صابروا فإن في المصابرة أجراً عظيماً , قال تعالى [وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
خامساً : صابروا فإن الله عز وجل يحب الذين يتحملون الأذى في سبيله , لأنه مصداق للإيمان , ودعوة بصبغة الرفق للناس للهداية .
وقد نسب الله عز وجل هذا النصر لنفسه بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ] ( ) لتدل الآية أعلاه في مفهومها على قانون من جهات :
الأولى : قانون وفاء الله بوعده في ساعة شدة ومحنة المسلمين .
الثانية : قانون تجلي مصاديق وعد الله وظهورها للعيان ، فليس هو مدركاً عقلياً ، إنما يدرك بالعين الباصرة وبالسمع .
الثالثة : سبب خسارة المسلمين في معركة أحد من أنفسهم , وقد تقدم أنهم لم ينهزموا , وهل فيه دعوة لهم للصبر والمصابرة ، الجواب نعم , وقد تجلى هذا الصبر في معركة الخندق ومعركة حنين بثبات المسلمين في مواضعهم الدفاعية , وعدم الإنهزام أمام المشركين , وهناك مسألتان :
الأولى : هل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مشمول بالأمر بالصبر والمصابرة .
الثانية : هل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى صلح الحديبية من الصبر والمصابرة أم أن القدر المتيقن منها إرادة أوان الحرب .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم , وهو لا يتعارض مع كون صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي , إذ أنه الإمام في الإمتثال.
وأما الثانية فالجواب أن صلح الحديبية من الصبر والمصابرة خاصة , وأن الصبر والمصابرة يطلبان من وجوه :
الأول : مقدمات وأعباء الصبر والمصابرة .
الثاني : إستهداف المصابرة .
الثالث : موضوع الصبر .
الرابع : أثر ونتائج الصبر العام والخاص .
الخامس : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الأجر والثواب , وعندما خاطب الله عز وجل المسلمين [اصْبِرُوا وَصَابِرُوا]( ) فإنه سبحانه أراد لهم الأجر والثواب مجتمعين ومتفرقين , ويكون الثواب من جهات :
الأولى : تلاوة آية البحث , ففي كل حرف منها عشر حسنات .
الثانية : التحلي بالصبر , ففي كل حال وساعة يصبر بها المسلم يأتيه الثواب.
و(عن الإمام علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الصبر ثلاثة : فصبر على المصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية) ( ).
الثالثة : الأمر بالصبر , والنهي عن الجزع .
الرابعة : المصابرة عن الدخول في الفتن , وعن سفك الدماء , ومن خصائص الفتنة أنها تبدأ صغيرة ومن طرف واحد وإن الإعراض عنها سبب لإنصرافها بلطف ورحمة من الله عز وجل بالناس , وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ).
الجواب نعم , وهل يختص لزوم درء الفتنة بالصبر فيما بين المسلمين أم أنه عام بينهم وبين غيرهم من أهل الملل والناس جميعاً .
الجواب هو الأخير وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فلما نزلت هذه الآية صارت لها مصاديق يومية كثيرة منها التحلي بالصبر , والمنع من تخويف وإفزاع الناس المطمئنين , ويبين القرآن البشارة بالأمن من الفزع والخوف ولزوم السعي لهذه البشارة في الدنيا والآخرة , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
و(قد قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : هذه الآية هي في انتظار الصلاة بعد الصلاة ، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزو يرابط فيه ، واحتج بحديث علي بن أبي طالب عليه السلام وجابر بن عبد الله وأبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ألا أدلكم على ما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟
إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطى إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط)( ).
ويجمع الحديث أعلاه بين الصبر والمصابرة والمرابطة ليكون من إعجاز الآية القرآنية قانون وجود فعل , مصداق للإمتثال لمضامين الآية القرآنية , فتأتي آية قرآنية بعدة أوامر ويجمعها فعل واحد .
وتكرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم القول (فذلكم الرباط) دعوة للمسلمين للتسليم بموضوع الحديث , وعدم الإعراض عنه , أو الإكتفاء بصرف موضوع الرباط لخصوص الثغر والحدود , خاصة وأن المسلمين يقطنون مدناً وقرى متعددة وأغلبها ليست من الثغور وآيات الموادعة والسلم هي الأكثر بينما ورد الخطاب في الآية الكريمة بالمرابطة لهم جميعاً رجالاً ونساءً , فإن قلت إنما يتناوب المسلمون على المرابطة , والجواب هذا صحيح , ولكنه لا يكفي لتقييد وتخصيص عموم الآية الكريمة , خاصة وأن في الإمتثال ثواباً وأجراً .
و(عن أبي أيوب قال : وقف علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : هل لكم إلى ما يمحو الله تعالى به الذنوب ويعظم به الأجر؟
فقلنا : نعم يا رسول الله قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة .
قال : وهو قول الله { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا }( ) فذلكم هو الرباط في المساجد)( ).
ويدل هذا الحديث على الثواب العظيم بتعاهد الصلاة وعمارة المساجد , وهو في مفهومه نهي عن الإرهاب , و(عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تتمنوا لقاء العدوّ وأسالوا الله العافية ، فإن لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله كثيراً ، فإذا جلبوا وصيحوا فعليكم بالصمت)( ).
ليدل الحديث في خصوصه بأنه ليس للمسلم أن يقتل غيره غيلة وغدراً ويجب أن لا يتمنى ويسعى للتفجير ونشر الرعب والفوضى .
وأختتمت آية الرباط بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وقيل(لَعَلَّ مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ) ( ).
وقال الزمخشري (ولعل من الله إرادة) ( ).
و(قال أهل التأويل : عسى ولعلّ من الله جزاء لأنه لايدع أن يفعل لعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على طاعاتهم لأنه ليس من صفته الغرور .
ولو أن رجلاً قال لآخر : اهدني والزمني لعلي أن أنفعك فلزمه ولم ينفعه مع إطماعه فيه ووعده لكان عاراً له وتعالى الله عن ذلك) ( ).
و(عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: “قَوْلُهُ: ” لَعَلَّكُمْ ” يَعْنِي: كَيْ”)( ).
والمختار أن في [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) مسائل :
الأولى : إرادة الفوز بالأجر والثواب .
الثانية : الهداية والتوفيق من الله عز وجل للمؤمنين لفعل ما هو أكثر من الصالحات والمبادرة إليها , قال تعالى [أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ]( ).
الثالثة : المختار أن النسبة بين الثواب على العمل العبادي والتقوى وبين الفلاح هو العموم والخصوص المطلق , فالفلاح أعم وأعظم .
الرابعة : السعي إلى الفلاح جهاد متصل لا ينقطع .
الخامسة : المختار أن الفلاح من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة , لتبعث هذه الآيات المسلمين على بلوغ أسمى مراتب الفلاح والتوفيق .
السادسة : نيل الفلاح في فعل وعمل معين باعث للفوز في غيره , لذا تضمنت الآية الأمر [وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ) فمن معاني قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) أي من غير العمل الصالح الذي تذكره ذات الآية مثلاً قوله تعالى [فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
ليكون إجتناب شرب الخمر طريق للفلاح والرشاد في أفعال الخير الأخرى وفي أداء الصلاة والإنفاق في سبيل الله , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وفي وصية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام (يا علي شارب الخمر كعابد وثن، يا علي شارب الخمر لا يقبل الله عز وجل صلاته أربعين يوما فان مات في الاربعين مات كافرا.
يا علي كل مسكر حرام وما أسكر كثيره فالجرعة منه حرام.
يا علي جعلت الذنوب كلها في بيت وجعل مفتاحها شرب الخمر.
يا علي تأتي على شارب الخمر ساعة لا يعرف فيها ربه عز وجل) ( ).
و(عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : “كل مَخمَّر خَمْر، وكل مُسْكِر حَرَام، ومن شرب مسكرًا بخست صلاته أربعين صباحًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقًا على الله أن يُسقيه من طِينة الخَبَال”. قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله قال: “صديد أهل النار، ومن سقاه صغيرًا لا يعرف حلاله من حرامه، كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال) ( ).
السادسة : جاءت الآية بصيغة الجمع [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) ليكون تقديرها بلحاظ جهة الخطاب على وجوه :
الأول : يا أيها الذي آمن اصبر وصابر ورابط واتقِ الله لعلكَ تفلح .
الثاني : يا أيتها التي آمنت اصبري وصابري ورابطي واتقِ الله لعلكِ تفلحي .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون .
الرابع : يا أيها اللائي آمّن اصبرن وصابرن ورابطن واتقين الله لعلكن تفلحن .
ومن معاني صيغة الجمع في قوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) أن أي فعل عبادي وعمل صالح من المؤمن لبنة في صرح الفلاح العام للمسلمين , والعكس أيضاً فإن هداية الأمة فلاح للفرد الواحد منهم من غير أن يلزم الدور بينهما .
ومن الفلاح العصمة من الإرهاب ، والإبتعاد والتنزه عنه ، قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ]( )، ومعنى الفلاح على وجوه :
الأول : البقاء في الخير( ).
الثاني : الهداية إلى الصراط المستقيم .
ليكون من معاني تلاوة المسلمين لقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، اهدنا إلى الفلاح ومناهجه.
وقد تفضل الله عز وجل بجعل كل مسلم ومسلمة يتلوان الآية أعلاه سبع عشرة مرة في الصلاة ، وحرصوا على الخشوع والخضوع إلى الله عز وجل ، وأداء الصلاة أقرب وأسرع للإستجابة لأن القلب فيها ليس لاه عن ذكر الله عز وجل.
الثالث : من فصول الأذان الذي يؤدى خمس مرات في اليوم (حي على الفلاح ) ومعناه أقبل على النجاة ، أي أنه دعوة ملحة إلى الصلاة ، وتكراره مرتين ، ويأتي قبله (حي على الصلاة مرتين ، وتسمى مجتمعة (الحيعلة).
الرابع : الفلاح هو الفوز والنجاة( ).
الخامس : البقاء مطلقاً وفلاح الدهر بقاؤه ، وقال لبيد :
لو كانَ حَيٌّ مُدْرِكَ الفَلاَحِ … أَدْرَكَهُ مُلاعِبُ الرِّماحِ( ).
السادس : نيل مرتبة صلاح الحال ، وكما يقال مفلحون يقال أفلاح جمع تكسير ، قال ابن سيده : لا أعرف له واحدا. قال:
بادُوا فلم تَكُ أولاهُم كآخرِهِمْ … وهل يُثَمَّرُ أفْلاحٌ بأفْلاحِ( ).
ويقال : هل يثمر أفلاح بافلاح : أي نادراً ما يعقب السلف الصالح إلا الخلف الطالح ، أو أن معناه الزيادة في قوم يعقبها النقص.
وورد قوله تعالى[لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) إحدى عشرة مرة في القرآن , وورد ذات الرجاء في قوله تعالى [فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ]( ).
ومن فضل الله عز وجل إنه لا يجعل المؤمنين يقفون عند منازل رجاء الفلاح , إنما وردت آيات تفيد نيل مرتبة الفلاح السامية , منها قوله تعالى [هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) , [وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
والمختار أن النسبة بين الفلاح والعمل الإرهابي هو التضاد .
وجاءت آيات الفلاح في باب العبادات والمعاملات والأحكام لتكون باعثاً للرأفة في القلوب , ودعوة للإنقطاع إلى الذكر والعبادة , والهمّ بإصلاح الذات ورجاء الفوز بمنزلة الفلاح , والتوفيق والفوز في النشأتين.
وتبين الآيات أنه لا ينال الفلاح إلا بالتقوى والخشية من الله عز وجل في أمور الدين والدنيا , وهل التقوى حاجة , وإذا كانت حاجة فمتى يحتاج إليها الإنسان , الجواب إنها حاجة في النشأتين , والحاجة إليها متجددة في كل ساعة من أيام العمر .
لذا فلابد من العزوف عن مقدمات الإرهاب أو إعانته والتحريض عليه, وما هو حرام فمقدمته حرام .
وهل حرمة مقدمة الحرام نفسية أم غيرية ، الجواب هو الثاني إلا أن يتوقف عليها فعل الحرام ذاته فتكون حينئذ حرمتها نفسية سواء من ذات فاعل الحرام أم من غيره , ويدل عليه قوله تعالى [وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( )، فان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب للزوم التعاون في إتيان الصالحات والإمتناع عن السيئات.
و(قَالَ النَّبِىُّ – صلى الله عليه وآله وسلم : هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ) ( ) .
لبيان قانون وهو : توجه الضعفاء بالدعاء إلى الله عز وجل من المرابطة وأسباب النصر , لبيان أن ضعفاء المسلمين يكفون عامتهم في دفع الإرهاب , فهؤلاء الضعفاء يسعون إلى الغايات الحميدة بدعائهم وصلاحهم , وليس فيه ضرر على أحد , أما الإرهاب فإنه لا يجلب إلا الضرر , ومن يظن أن فيه نفعاً فهو واهم , وتكشف لع ولغيره الأيام والوقائع زيف هذا الظن .
ومن الصلة بين نداء التشريف في أول آية البحث وبين كل أمر من الأوامر الإلهية الواردة في الآية إكرام المسلمين , وبيان جهادهم في سبيل الله في حال السلم والإمساك عن القتال والغزو.
وقد تقدم في جزء سابق ( ) تقدير الآية على وجوه ثلاثة وهي يا أيها الذين آمنوا اصبروا .
يا أيها الذين آمنوا صابروا .
يا أيها الذين آمنوا رابطوا , ترى هل من صلة بين نداء التشريف في أول الآية , وكل من هذه الأوامر الثلاثة بلحاظ بيان مصداق لقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) الجواب نعم .
ومن خصائص الأوامر القرآنية أن بعضها يعضد بعضاً في إصلاح المسلمين والناس جميعاً لعمل الخير والفلاح , وترك التعدي والقهر والظلم.
الأمر الثالث : قوله تعالى [وَرَابِطُوا] ( ) عطفت الآية المرابطة على الصبر والمصابرة , واختلف علماء النحو في واو العطف :
الأول : إفادة الإشتراك والجمع بين المعطوف والمعطوف عليه في معنى مخصوص , وهو مشهور النحويين .
الثاني : إفادة الواو مطلق الجمع إلا مع القرينة التي تدل على الترتيب والتعقيب أو المهلة .
الثالث : إفادة الواو الترتيب كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ]( ) فزمان إبراهيم متأخر عن زمان نوح , وكما في قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ) .
ومن إعجاز القرآن ذكر وفاء الأجور في يوم القيامة على نحو الحصر والتعيين , لأن المعطوف يتعقب المعطوف عليه في المقام .
وممن خالف مشهور النحويين وقال بالترتيب الفراء , وثعلب , وهشام والشافعي .
الرابع : إرادة عكس الترتيب كما في قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا] ( ) .
فبعثة الرسول نوح متقدمة بآلاف السنين على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يقال أن الترتيب بلحاظ علو منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل يمكن الإستدلال بالآية أعلاه على أن الرسل أولي العزم , هم نوح , وإبراهيم , وموسى , وعيسى عليهم السلام , والرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب نعم , ومن الميثاق الذي تذكره الآية أعلاه الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة ونبذ الإرهاب .
المختار أنه ليس من قاعدة كلية ثابتة في إستعمال واو العطف , فقد تكون للجمع , وقد تفيد الترتيب بحسب مناسبة الموضوع والحكم , والقرائن , وتكون ذات الواو في موضوع واحد تصلح للإشتراك وللترتيب في آن واحد ، بحيث تكون في فعل ومصداق خارجي للإشتراك والجمع ، وفي آخر للترتيب ، وهو من الإعجاز في تعدد معاني اللفظ القرآني .
ويجمع الإرهاب بين معاني الواو في المقام ، ليكون على وجوه :
الأول : تارة يكون الإرهاب فساداً .
الثاني : يكون قتلاً للناس وسفكاً للدماء , وهو من مصاديق ما ورد في التنزيل حكاية عن الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ).
الثالث : يجمع الفعل والعملية الواحدة من الإرهاب بين الفساد وسفك الدماء .
وهل هو من الشواهد على أن الملائكة كانوا يقصدون في إحتجاجهم الإرهاب أيضاً ، الجواب نعم , سواء إرهاب الأفراد أو القبيلة أو الدولة .
ولم ترد مادة (ربط) في القرآن بخصوص موضوع الرباط إلا مرتين , إذ وردت في آية البحث في قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ) .
لبيان أن المراد من المرابطة الدفاع المحض ، والتخفيف عن المسلمين والناس جميعاً من جهات :
الأولى : قلة المعارك والحروب ، فاذا كان المسلمون لا يهجمون ولا يغزون ، ولكن يبقون في حال حيطة وحذر فان الكفار يمتنعون عن الغزو والقتال .
الثانية : المرابطة دعوة للناس لدخول الإسلام ، فكثير من الناس كانوا يمسكون ويمتنعون عن دخول الإسلام خشية بطش وإنتقام قريش .
الثالثة : نشر لواء الأمن ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنع الإقتتال بين القبائل ، إذ توقفت الخصومات القبلية ، وصارت الحرب بين طرفين بين المسلمين والمشركين .
وهو من مصاديق ورود لفظ [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ثلاث مرات في القرآن كلها بخصوص القتال بينهما ، ولم يرد هذا اللفظ في القرآن بخصوص المعارك في الأمم السابقة ، ولا الوقائع اللاحقة، وهذه الآية هي :
الآية الأولى : قوله تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ] ( ) لبيان إنسحاب طائفة من المسلمين في معركة أحد لشدة القتال ، ومن إعجاز الآية نسبة إنسحابهم وفرارهم لإزلال وإغواء الشيطان لهم ، كما ورد في نسبة أكل آدم وحواء من الشجرة المنهي عنها بقوله تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ر بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( ).
ثم تفضل الله عز وجل بالعفو والصفح عن الصحابة الذين انسحبوا من معركة أحد ، ولم تنعتهم الآية بالمنافقين ونحوه ، ولم توجه لهم التبكيت والتوبيخ ، إنما ذكرت فعل تراجعهم ليكون في مفهومه ثناء على النبي وعدد قليل من أهل بيته وأصحابه الذين بقوا معه في ميدان المعركة لم ينسحبوا منها( ) .
وعن عاصم عن شقيق في حديث أنه حينما عوتب عبد الرحمن بن عوف على جفائه لعثمان بن عفان أيام خلافته ، أجاب أبلغ عثمان (إني لم أفر يوم عَيْنَيْن , فلما أبلغ عثمان قال : فكيف يعَيرني بذَنْب قد عفا الله عنه، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ }( ) وأما قولُهُ: إني تخلفت يوم بدر فإني كنت أمرض رقَيَّة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ماتت، وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسهم، ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسهم فقد شهِد) ( ).
وفيه بيان لقانون وهو إذا ورد العفو من الله عن فعل وذنب فانه لا يصح التبكيت والتعيير فيه ، ولا يعني هذا إرادة فعل مخصوص كالفرار من معركة أحد ، إنما القانون باق إلى يوم القيامة .
وهل يشمل الذي أقيم عليه الحد وتاب ، أو الذي تاب قبل إقامة الحد والعقوبة عليه ، الجواب نعم .
وقيل المراد بحرمة الفرار يوم الزحف بقوله تعالى [وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ) إنما هو حرام على الصحابة للضرورة في الدفاع عن بيضة الإسلام ، وقيل بالمعنى الأخص ، وأنه حرام على الأنصار دون غيرهم لأنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة ، كما ورد بخصوص بيعة العقبة في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري ، ومنه (فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَامَ نُبَايِعُكَ ؟
قَالَ ” تُبَايِعُونِي عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ فِي النّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَعَلَى النّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللّهِ لَا تَأْخُذْكُمْ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ وَتَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمْ الْجَنّةُ) ( ).
وقد يشكل عليه كعلة في المقام وسبب لعدم العذر من الإنسحاب تقييد الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص قدومه عليهم إلى يثرب ، ولكن إتسع هذا العهد عشية يوم بدر عندما استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه.
والمختار أن المراد هو أهل بدر خاصة ، فليس من فئة وشوكة ومنعة يرجعون إليها ، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم ، وفرارهم يعني تعرضه للقتل ، لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلح ويتضرع في دعائه يوم بدر ، ومما كان يناجي به الله عز وجل (اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ لَا تُعْبَدْ) ( ).
وبه قال عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن عمر ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو هريرة ، وجمع من التابعين ، وفي البحار قال (يا أيها الذين
آمنوا ” قيل: خطاب لاهل بدر، وقيل: عام ” إذا لقيتم الذين كفروا زحفا “( ) أي متدانين لقتالكم ” فلا تولوهم الادبار ” أي فلا تنهزموا “) ( ).
الآية الثانية : قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) ويتعلق موضوع هذه الآية بمعركة أحد أيضاً مما يدل على موضوعيتها وأهميتها( ) في تأريخ وبناء صرح الدولة ، إذ ورد لفظ [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] مرتين بخصوصها من بين ثلاث مرات مجموع ورود هذا اللفظ في القرآن .
وقد ذكرتُ في أجزاء التفسير كيف أن كلاً من معركة بدر وأحد والخندق شواهد على قانون (لم يغز النبي (ص)أحداً) وأن كل معركة لاحقة هي أقرب إلى المدينة من المعركة السابقة بخط بياني ، وفيه حجة وبرهان على صحة هذا القانون ، وأن كفار قريش هم الذين كانوا يزاولون الإرهاب والتعدي ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وترتيب هذه المعارك في بعدها وقربها عن المدينة هو :
الأولى : تبعد معركة بدر عن المدينة 300 كم ، ووقعت هذه المعركة في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة .
الثانية : تبعد معركة أحد 4 كم عن المسجد النبوي ووسط المدينة ، والتي وقعت في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
الثالثة : إحاطة عشرة آلاف من المشركين بالمدينة في معركة الخندق ، والتي وقعت في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة .
وفي كل معركة من هذه المعارك , المسلمون مأمورون بالصبر والمصابرة والمرابطة ، وليس الهجوم والغزو ، وفيه دعوة لأجيال المسلمين للتنزه عن الإرهاب , وعن سفك الدماء , والقتل العشوائي ، خاصة وأن النصر جاء مع الصبر والمصابرة .
ويبين قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) لحوق الخسارة الفادحة بالمسلمين في معركة أحد وسقوط سبعين قتيلاً منهم ، ومع هذا لم يردوا بغزو مكة أو القبائل التي زحفت مع قريش في تلك المعركة .
لقد كانت كل معركة من معارك الإسلام الأولى تأديباً وإصلاحاً لأجيال المسلمين ، ودرءً للفتن والخصومات .
ومن الإعجاز في آية المرابطة مجئ المرابطة بعد الصبر والمصابرة وكأنه من عطف الخاص على العام وبعد التأكيد على لزوم الصبر بأمرين لبيان وجوبه على المسلمين إبتداءً واستدامة ليكون من معاني الصبر في المقام وجوه :
الأول : الصبر في حال السلم .
الثاني : الصبر على العبادة وأداء الفرائض على كل حال .
الثالث : الصبر بالمرابطة .
الرابع : حبس النفس عن الرغبة بالهجوم والغزو .
ومنه لزوم الإمتناع عن الإرهاب وعن القتل العشوائي ، وعن التعدي على الممتلكات الخاصة لعموم الناس لقاعدة السلطنة ولأن الصبر لا يجلب إلا الخير والنفع ، وفيه الأجر والثواب.
وكما تأمر الآية بالمرابطة التي من معانيها الثبات على العقيدة وفي منازل الإيمان ، فانها تتضمن الأمر بالمرابطة على الصبر ، على فرض أن المراد من المرابطة أعم من الإقامة في الثغور , وفيه مسائل :
الأولى : ليس من ثغور كثيرة في بلاد المسلمين .
الثانية : هناك رجال منتسبون للجيش والأمن يقومون بهذه الوظيفة.
الثالثة : حال السلم أكثر بكثير من حال الحرب والقتال .
وجاء الأمر من عند الله عز وجل بالمرابطة لجميع المسلمين لإبتداء الآية بالنداء التشريفي وتقديرها : (يا أيها الذين آمنوا رابطوا) ومن معانيها على الظاهر أن كل مسلم لابد أن يرابط بلحاظ أن الأصل في الأمر الإلهي هو الوجوب ، فهناك مسألتان :
الأولى : كيف يتحقق الرباط على نحو العموم الإستغراقي .
الثانية : هل تشمل الآية المسلمات أم أنها خاصة بالرجال القادرين على المرابطة .
أما المسألة الأولى فالجواب يتحقق الرباط بالعبادة وإقامة الفرائض .
وأما المسألة الثانية فان الآية تشمل المسلمات بالتقوى ، قال تعالى [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا] ( ).
المسألة الثالثة : قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) والمراد من يوم الفرقان في الآية أعلاه هو يوم بدر ، وفيه فرّق الله بين الحق والباطل ، وأظهر صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتجلى بنصره في المعركة من غير قوة مادية ، إنما بفضل الله عز وجل ونزول الملائكة ،وسيأتي قانون معركة بدر دليل صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدل عليه قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) ومنه [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
وقد سمّى الله عز وجل القرآن بالفرقان ، قال تعالى [َبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] ( ).
وهل يمكن القول أن يوم بدر هو يوم القرآن ، الجواب نعم .
لبيان قانون وهو أن يوم معركة بدر يوم القرآن , وفيه بلحاظ موضوع هذا الجزء المبارك ، وهو (التضاد بين القرآن والإرهاب) وجوه :
الأول : صبر المسلمين مناسبة لحفظ القرآن .
الثاني : يؤدي ظلم وتعدي المشركين على القرآن إلى هزيمتهم .
الثالث : يؤدب القرآن المسلمين بأن الصبر طريق النصر .
الرابع : إخبار الناس بأن الإرهاب لا يضر القرآن وأهله .
الخامس : البشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بثبوت آيات القرآن في الأرض إلى يوم القيامة .
السادس : في صيرورة يوم بدر يوم القرآن غنى عن الإرهاب .
السابع : وجوب شكر المسلمين لله عز وجل على يوم القرآن، ومن أصدق ضروب الشكر لله إجتناب إخافة الآمنين ، وسفك الدماء .
وهل يدل قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ] ( ) على حرمة الإرهاب ، الجواب نعم ، لقانون من الإرادة التكوينية يتغشى سنة الأنبياء جميعاً ، وهو تحريمهم الإرهاب ، وإفزاع الناس .
فإن قلت قد ورد قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( ) الجواب المراد دفاع الأنبياء ، وفيه قانون وهو : دفاع الأنبياء حرب على الإرهاب واستئصال له.
لقد قاتل شطر من الأنبياء وأصحابهم لينعم المسلمون وأهل الأرض جميعاً بالأمن ، ويتعاهد المسلمون وأهل الكتاب سنن الأنبياء ، ويتعاونون بدفع أسباب ومقدمات القتال والإرهاب وهو من عمومات قوله تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( ).
الثامن : دعوة المسلمين للتدبر في القرآن وعلومه وأسباب النزول ، والمحكم والمتشابه ،والناسخ والمنسوخ ، وتفسير آيات القرآن .
الأمر الرابع : الأمر لعموم المسلمين والمسلمات بالخشية من الله عز وجل بقوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ) وكل من الأوامر الإلهية الواردة في الآية هو من تقوى الله عز وجل وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله بالصبر .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله بالمصابرة .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله بالمرابطة .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله بالأمر فيما بينكم بالصبر والمصابرة والمرابطة .
السادس : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله بالتنزه عن سفك الدماء وبالإمتناع عن نشر الرعب .
وهل يمكن إنشاء قانون وهو : التضاد بين التقوى والتطرف , الجواب نعم, لأن التقوى سكينة وسلم وباعث على الموادعة , وعلى الإمتناع عن إيذاء الغير إنما هو الإحتجاج والجدال والصبر في منازل التقوى .
وهل من معاني الصبر الإمساك حتى عن الإحتجاج عندما يكون فيه حرج , أو أنه خال من النفع الجواب نعم .
ترى ما هي النسبة بين التطرف والإرهاب , المختار أنها نسبة الأصل والفرع , فالتطرف هو الأصل , ومثلما أن الأصل هنا لا أصل له , فكذا بالنسبة للفرع .
والأمر بتقوى الله عز وجل تعليم وموعظة وهداية , قال تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ] ( ).
ورجاء الأمر بالتقوى مطلقاً في كل الأحوال والأزمنة ومن أسس التقوى إمتثال أوامر الله عز وجل وإجتناب نواهيه , إذ نهى الله عز وجل عن بعث الرعب والخوف في عموم قلوب أهل الأرض , وعن إحداث تفجيرات تجدد هذا الرعب خاصة مع التداخل بين البلدان في هذا الزمان , ومع وسائل النقل السريعة , وشبكات الإتصال الإجتماعي.
فما يحدث في بلد من واقعة وأمر نادر غير متعارف يصل خبره إلى أهل الأمصار الأخرى فإذا كان فيه ضرر يحزن ويخاف الناس خصوصاً وأن العمل الإرهابي يعطي رسالة بأنه عام .
وقد حض الله عز وجل المسلمين على التحلي بالتقوى والخشية منه في العبادات والمعاملات , قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالتقوى ليمدهم بالتمكين ويوفقهم لفعل الخيرات , وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ]( ).
وقد ورد الأمر (اتَّقُوا اللَّهَ) خمساً وخمسين مرة في القرآن , ومنها ما يتعلق بمناسبة الموضوع والحكم , وهو لا يمنع من إرادة المعنى الأعم منه , كما أنها تتضمن الترغيب بالفعل العبادي والبشارة والثواب العظيم على التقوى , كما في قوله تعالى في آية البحث [وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
أو الذي ورد أيضاً في آية النهي عن الربا بقوله تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
وجاء هذا الأمر بصيغة الإنذار [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ).
واختتمت آية المرابطة بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ومن إعجاز القرآن مجئ الأوامر والنواهي المتعددة في الآية وتختتم بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] أو لكي تفلحوا إنما ذكرت الفلاح على نحو الرجاء والرجحان ,لبيان أن الفلاح على نحو الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة وكل مرتبة منه نعمة , ولإرادة الفلاح في ذات مضامين الآية الكريمة قال تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا]( ).
قانون وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرز من الإرهاب
الحمد لله الذي جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصاحباً لوجود الإنسان في الأرض ، فحينما هبط آدم إلى الأرض هبط بصفة النبوة وكان نبياً رسولاً ، وإن قلت صحيح أنه كان يأمر وينهي أبناءه وأحفاده ، ولكن حينما كان هو وحواء منفردين في بدايات هبوطهم فهل هناك أمر ونهي , الجواب فيه وجوه محتملة :
الأول : يقوم آدم بأمر حواء بالمعروف وينهاها عن المنكر فهو رسول من الله عز وجل إليها.
الثاني : تقوم حواء بأمر آدم بالمعروف ونهيه عن المنكر، خاصة وأن حواء لبثت في الجنة واقتبست من الملائكة .
الثالث : ليس من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر بينهما ، فهو واجب معلق إلى حين ولادة الأبناء.
والمختار هو الأول والثاني إلا أن أمر آدم هو الأكثر ، وليكون هذا الأمر والنهي تعاوناً في البر ومقدمة لصلاح الأولاد ، وهل لهذا الأمر والنهي المتبادل من أثر في تقوى هابيل وقبول قربانه ، وإمتناعه عن قتل قابيل ، الجواب نعم.
وقد يقدم الأمر والنهي في الآية القرآنية على الإيمان بالله الذي هو أصل الدين والعقيدة ، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]( ) ( )، ولم يرد لفظ [خَيْرَ أُمَّةٍ] في القرآن إلا في الآية أعلاه مع تقديم وموضوعية الأمر والنهي فيها لبيان أنه وسيلة لتثبيت الإيمان الذاتي وفرع له ، وهداية الناس للإسلام .
وتدل الآية في مفهومها على حرمة الإرهاب لدلالة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إرادة إصلاح الغير ، وهدايته بالقول والفعل والحجة , أما القتل العشوائي فليس فيه أمر لأنه إماتة للغير وإسراف في الدماء بغير حق.

قانون النهي عن الإرهاب قبل خلق آدم
حينما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لقيام طائفة من الناس بالفساد وسفك الدماء.
أجابهم الله عز وجل بالقول [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فأدركوا عجزهم عن إدراك كنه حكمة ورحمة الله في خلق الإنسان وعمارته الأرض بصفة الخلافة ، وهناك مسائل :
الأولى : هل لهذا الرد موضوعية في سجود الملائكة لآدم.
الثانية : هل في هذا الرد إنذار لإبليس من الإمتناع عن السجود لآدم .
الثالثة : هل في هذا الرد من الله فضل على الناس بأجيالهم المتعاقبة أم أنه فضل خاص على آدم ، أم ليس من فضل فيه لأنه سابق لخلق آدم.
الرابعة : هل في هذا الرد نهى عن الإرهاب والقتل العشوائي .
أما المسألة الأولى , فالجواب نعم ، وهو من لطف الله بأهل السموات , وفيه بيان لتداخل قانونين وهما :
الأول : قانون حاجة أهل السموات إلى الإحتجاج والبرهان .
الثاني : تفضل الله عز وجل باقامة الحجة والإحتجاج على الملائكة بالبرهان بلطف منه تعالى وهم المنقادون لأوامره على نحو الموجبة الكلية وصبغة الإطلاق ، قال تعالى [وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلاَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
لقد أخبر الله عز وجل الملائكة بأنه يعلم من الإنسان وخلافته في الأرض من أسباب الصلاح والخير وسنن العبادة والذكر ما يكون معه فساد طائفة منهم مناسبة للإبتلاء والثناء على المؤمنين , لتكون حجة للمؤمنين في تقواهم ، وغلبتهم على النفس الشهوية ، ومن علم الله عز وجل أن آدم لا يهبط إلى الأرض إلا بصفة النبوة والرسالة ، وفيه توطئة وتهيئة لسجود الملائكة لآدم طاعة لله عز وجل.
وهذه التهيئة من رحمة الله بالملائكة وتبين قانوناً وهو أن الله عز وجل يمد الملائكة بالتكليف في استدامة انقيادهم التام لله عز وجل .
أما المسألة الثانية ، فالجواب نعم ، وهو من اللطف الإلهي بالخلائق بأن يسبق الإنذار من الله للعبد الفعل الذي يحتمل أن يكون طاعة أو معصية ، فيكون الإنذار تقريباً , إلى الطاعة وإبعاداً عن المعصية ، فانتفعت الملائكة من الإنذار والإرشاد في قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، بخصوص عمارة الإنسان للأرض بسنن العبادة والذكر ، خاصة وأن احتجاج الملائكة لم يكن على خلافة الإنسان في الأرض ، إنما احتجوا على وجود الذي يفسد ويسفك الدماء فيها .
وقد فتح الله عز وجل للناس باب التوبة ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
وتبين الآية أعلاه وجوهاً أربعة للفوز برضا الله عز وجل بعد إرتكاب المعصية , وكل فرد منها ينهى عن الإرهاب وهي :
الأول : التوبة والإقلاع عن المعصية , وهل تختص توبة العبد بذات المعصية التي سبق أن إرتكبها أم إرادة المعاصي كلها , الصحيح هو الثاني .
الثاني : الإيمان بالله عز وجل والملائكة والأنبياء والكتب السماوية والمعاد .
الثالث : المبادرة إلى العمل الصالح بأداء الفرائض العبادية , وفي الثناء على المؤمنين قال تعالى [أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ]( ).
الرابع : إستدامة الهداية والرشاد وصيرورة التنزه عن المعاصي ملكة وسجية , قال تعالى [وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
ليكون من معاني الرد الإلهي أن منصب الخليفة في الأرض يناله الأنبياء ، الذين يمدهم الله عز وجل بأسباب التأييد والنصر ، وينزل عليهم الوحي والكتب من عند الله عز وجل بما يصلح أحوال الناس مطلقاً ، ويمنع من إتساع الفساد أو زيادته .
ومن وجوه رد الله عز وجل على الملائكة أن الدنيا سريعة الزوال ، وأعمار الناس فيها قصيرة ، وأن الحساب ينتظرهم وإنما خلود الناس في الآخرة ليكونوا فيه على طرفي نقيض ، إما في الجنة وإما في النار والذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء بغير حق مثواه النار , قال تعالى [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
فرضي الملائكة وأقروا بحكمة الله ، وكما أن الآية إنذار لإبليس فانها بشارة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات وهي تحذير ووعيد للمشركين والذين يحاربون النبوة والتنزيل والذين ينشرون الفساد في الأرض ، ويتجرأون في سفك الدماء .
وهل تدل الآية على أن العنف حقيقة ثابتة في الحياة الدنيا ومن المسّلمات , الجواب لا , وإن كان أدنى مرتبة من الفساد وسفك الدماء الذي أشارت إليه الملائكة , إنما فطر الله عز وجل الناس على الصلاح والإستقامة , و(عن عياض بن حمار المجاشعي قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : إنّ الله أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم ممّا علّمني في يومي هذا وأنّه قال : إن كلّ مال نحلته عبادي فهو لهم حلال وإنّي خلقت عبادي كلّهم حنفاء فأتتهم الشياطين فاحتالتهم عن دينهم وحَرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم وأَمَرتُهُم أنْ يشركوا بي ما لم أُنزّلْ به سلطاناً) ( ).
ولم يكن سؤال الملائكة إنكارياً , إنما كان توسلاً وتضرعاً لله عز وجل بأن يجعل الأرض خالية من الفساد والإرهاب وسفك الدماء , ليكون من معاني قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) فتفضل الله عز وجل بصرف كثير من وجوه الفساد .
ويمكن القول بقانون وهو إن قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) إكرام من الله للناس ودعوة للمؤمنين للإمتناع عن الإضرار بالمجتمع ، والحياة العامة للناس وما يقود إليه من سوء العاقبة , قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]( ).
وقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإبطال العادات المذمومة من الثأر والربا والوأد وأخذ البرئ بجناية غيره لأنه أخوه أو من أبناء عمومته ، فقال تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( ).
وتولى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي والتنزيل بناء دولة الحق والعدالة التي لا يظلم فيها أحد , وعندما اشتد أذى كفار قريش عليه وعلى أهل بيته وأصحابه أشار على طائفة منهم بالهجرة إلى الحبشة لعدالة ملكها والأمن في جواره .
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنْ الْبَلَاءِ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْعَافِيَةِ بِمَكَانِهِ مِنْ اللّهِ وَمِنْ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ وَأَنّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمّا هُمْ فِيهِ مِنْ الْبَلَاءِ.
قَالَ لَهُمْ لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ لَكُمْ فَرَجًا.
فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ وَفِرَارًا إلَى اللّهِ بِدِينِهِمْ فَكَانَتْ أَوّلَ هِجْرَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ)( ).
لم ينتفع إبليس من إنذار آية الخلافة وقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فصار إبليس عدواً للناس فيجب أن يحذروا منه ، وهل هذا الحذر والإحتراز من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الجواب نعم , لأن هذا الأمر والنهي وظيفة الأنبياء واتباعهم , إذ حرصوا على إجتناب سبيل المعصية الذي إختاره إبليس وأخذ يسعى في إغواء الناس ليظلموا أنفسهم مثلما ظلم هو نفسه بالإمتناع عن طاعة الله عز وجل في السجود لآدم.
لم يكن الإنسان وإكرام الله عز وجل له سبب معصية إبليس وعداوته، إنما اختار إبليس الحسد والإستكبار وقد خاطب الله عز وجل إبليس [قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ]( ) وفيه إشارة وموعظة للمسلمين بالتنزه عن العناد والإستكبار.
فيجب أن يشكر الناس الله عز وجل على نعمة الإكرام هذه , وسجود الملائكة لآدم , ويتجلى هذا الشكر بمحاكاة الملائكة بالعبادة والطاعة لله عز وجل ، والإحتراز من المعصية والظلم للنفس والغير ، ومع هذا الإكرام للناس فقد خفف الله عز وجل عنهم بأن جعل العبادة لا تستغرق إلا وقتاً قليلاً من يوم الإنسان وليلته كما في أداء الصلاة ، أو الصيام لمدة شهر من مجموع أيام السنة مع الأكل والشرب في الليل , قال تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ] ( ) .
فالخلافة في الأرض امتحان وابتلاء فهي تختلف عن حياة الملائكة ، والنعيم الدائم الذي هم فيه ، وكونهم مجبولين على طاعة الله ، قال تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وأما المسألة الثالثة فالجواب نعم , ومن فضل الله عز وجل على الناس سبق إكرام الله لهم بين معاشر الملائكة قبل أن يخلق آدم وينفخ الله عز وجل فيه من روحه ، ويتجلى إكرام الناس باخبار الله عز وجل الملائكة الذين هم عباد مكرمون عن خلافة الإنسان في الأرض , قال تعالى [وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ]( ).
ويحتمل رد الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( )، وجوهاً :
الأول : إنه من العبادة والتسبيح الذي تذكره الآية أعلاه من سورة الأنبياء .
الثاني : إنه إنقطاع من الملائكة عن العبادة برهة من الوقت في مدة الكلام والإحتجاج.
الثالث : ذات الكلام والمناجاة مع الله عز وجل عبادة .
الرابع : لقد جعل الله عز وجل الملائكة على درجات متفاوتة في الخلق والمرتبة والشأن وإن الإحتجاج جاء من طائفة منهم .
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أُذِنَ لي أن أُحدّث عن ملك من ملائكة الله من حملة عرشه ما بين شحمة أُذنه إلى عاتقه مسيرة سبع مائة عام ( ).
والصحيح هو الأول فان هذا الإحتجاج من العبادة لله والتسبيح , ومن أعظم مصاديق الذكر مناجاة الله عز وجل، وسؤاله ، وصدور الإحتجاج من طائفة من الملائكة دون الجميع , وهو لا يتعارض مع كونه من مصاديق التسبيح والذكر والعبادة لله عز وجل .
ومن الإعجاز في الآية الكريمة أن الإنقطاع للعبادة مانع من الحسد خاصة وأن خلافة الإنسان في الأرض وليس في السماء ، ولكن الملائكة أرادوا للناس جميعاً الصلاح والعصمة من الفساد ومن الإرهاب .
فلا يكون أحدهم يفعل الإرهاب والآخر يتلقاه وكل منهما يتضرر منه ، كما وأن ضرره عام لما يبعثه من الخوف والسخط بين الناس لمخالفته للفطرة وقواعد نفخ الله من روحه في آدم , ليكون من معاني آية الخلافة أن إكرام الناس فيها من وجوه:
الأول : إخبار الله عز وجل الملائكة بخلق الإنسان ففي ذات الخلق , وهذا الإخبار إكرام للناس.
الثاني : تفضل الله عز وجل بصيرورة الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لتبقى وثيقة في السماء والأرض في الدنيا والآخرة .
أما في الدنيا فانها تبعث الناس على العمل الصالح , وأما في الآخرة فانها من التجليات المباركة لأهل الجنة ، ومناسبة للشكر لله عز وجل ، وأما بالنسبة لأهل النار فانها حجة يومية عليهم ، وسبب للتلاوم بينهم ، وفي التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنْ الْعَذَابِ *قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ).
الثالث : بيان القدرة المطلقة لله عز وجل في العالم العلوي والسفلي والأكوان كلها ، وبيان نكتة وهي دلالة تسليم الملائكة بخلافة الإنسان في الأرض على إقرار الخلائق كلها من باب الأولوية القطعية , لكون الملائكة اسمى مرتبة بين الخلائق .
الرابع : يعلم الملائكة مجتمعين ومتفرقين أنه لا مرد لأمر الله , ولا تقدر الخلائق وإن اجتمعت عن رده , قال تعالى [لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ]( ).
فإن قلت قد يرد الدعاء الأمر والقضاء الجواب نعم , هذا صحيح ولكن هذا الرد من عند الله عز وجل , فله سبحانه المشيئة المطلقة , وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) .
ولو دار الأمر بين اختيار الدعاء وبين الإرهاب , فالعقل والشرع يدلان على (قانون إختيار الدعاء ونبذ الإرهاب) ، فلابد من تحققه وتنجزه في الواقع ، وتجتمع الإرادة الكونية التي تخص الربوبية المطلقة لله عز وجل في عالم الأكوان وقدرته على كل شئ ، مع الإرادة الشرعية وهي التكاليف والسنن في علة خلق الله للإنسان ليعمر الأرض بالعبادة , قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الخامس : توسل الملائكة لله عز وجل بصلاح أهل الأرض ، وأن يكونوا مثل الملائكة في العبادة والتقوى ، وأن يكون مثواهم جميعاً إلى الجنة ، فأجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، لبيان أن الله عز وجل يملأ الأرض بالآيات والبراهين التي تجذب الناس لعبادته .
وبعث الله عز وجل الأنبياء [مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، وكل نبي يأتي بالمعجزة التي هي شاهد سماوي على صدق دعوته ووجوب اتباعه بالحق وسبل الهدى ، وأنزل الكتب السماوية على الأنبياء إبتداء من آدم أبي البشر ، وختمت هذه الكتب بالقرآن ليبقى إماماً للناس إلى يوم القيامة ، لا يطرأ عليه التحريف ولا الزيادة أو النقيصة ليكون من معاني وغايات الحفظ في قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، حفظ القرآن في الأرض من جهات :
الأولى : سلامة وحفظ رسم حروف وكلمات القرآن في المصحف .
الثانية : تلاوة آيات القرآن .
الثالثة : نظم آيات وسور القرآن .
الرابعة : عربية القرآن ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الخامسة : سلامة القرآن من التحريف.
السادسة : عمل المسلمين بأحكام القرآن من جهة الواجبات والمستحبات ، والإمتناع عن إرتكاب المعاصي والسيئات والظلم والجور والإرهاب ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وأما المسألة الرابعة فالجواب نعم ، إنه نهي عن الإرهاب سابق لخلق آدم إذ أن الملائكة اشتكوا إلى الله من الفساد الذي سيقع في الأرض ، ومن القتل ظلماً وتعدياً وإراقة الدماء ليكون من معاني شكوى الملائكة سؤالهم لله عز وجل بتنزيه الأرض من الفساد ، ومن سفك الدماء ، لذا تجد عامة الناس ينكرون الفساد ، ويستهجنونه ، ولا يرضون به ، ويذمون الذي يقتل غيره ، ويُعرضون عنه ، ويسعى عامة الناس للصرف والدفع عن القتل ، وترك مقدماته .
فان قلت إن الإرهاب نتيجة الفساد ، ومحاولة انتقام ورد فعل شخصي على فساد عام .
والجواب لم يثبت هذا القول ولا دليل عليه ، قال تعالى [وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ]( )، أي لست بمسلَط عليهم , ولا تكرههم على الهدى إنما أنت داع ومبلغ وهاد .
والقرآن هو سلاح الموعظة والحجة في المقام وليس فيه وفي الدعوة إليه والصدور عنه من إرهاب ، قال تعالى [لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ]( )، في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليدرك المسلمون وجوب التنزه عن الإرهاب.
قانون الدعاء ملاذ من الإرهاب
المواظبة على الدعاء والتوجه بالمسألة إلى الله عز وجل من الصبر والمصابرة وأسباب النصر , فلا تصل النوبة إلى الإرهاب والقتل العشوائي كما أن هذا الإرهاب لا يؤدي إلى نتيجة محمودة سواء للذي يرتكبه أو ملته أو غيرهم من الناس .
فمع عدم وجود المقتضي ومع فقد المانع فلا يجوز الإرهاب وقد تجلى هذا القانون بصيرورة الدعاء مقدمة وسبباً لنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يومئذ , إذ قال الله سبحانه [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
(وعن أنس بن مالك أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : حُفَّت الجنَّة بالمكاره وحُفَّت النَّار بالشهوات) ( ).
فلابد للمسلم أن يصبر على الوقائع والأحداث العامة وإن كانت تجري بخلاف ما يريده أو يتمناه , فإن القيام بالعنف والتطرف والإضرار بالآخرين لا يوقف عجلة الأحداث , ولا يغيّر منها , إنما يرجع ضرره على صاحبه وأسرته وطائفته .
وهناك قانون مصاحب لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الدعوة إلى الإيمان بالحكمة والبرهان والحجة والدليل ولغة الإحتجاج , قال تعالى [لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ] ( ).
فأخبرت الآية أعلاه عن أمرين :
الأول : لكل أمة من الأمم ملة وطريقة في العبادة ومنهاج في السيرة , قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ] ( ).
الثاني : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى الله عز وجل , ثم جاء التقييد بماهية وكيفية الدعوة , قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
ليكون الجمع بين الآيتين من المطلق والمقيد , ويفيد حرمة إكراه الغير على المبدأ والمعتقد , وحرمة الإرهاب والتفجيرات العشوائية مع أن موضوع الإرهاب في عرف هذا الزمان أعم من الإكراه أعلاه فقد يأتي إنتقاماً أو بظن الثأر , ولا يختص صدوره بأهل ملة مخصوصة كأفراد من طائفة من المسلمين , إنما يصدر من جماعات وأفراد متعددين .
ويبين قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وحرمة صدور الإرهاب مطلقاً , ومن أي طرف , وكذا حرمة الإرهاب الموازي , قال تعالى [فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ]( ).
ويتلو كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم سورة الفاتحة وكل آية منها تدعو إلى السلم والأمن , وتنهي عن الإرهاب , وتصون المسلمين منه.
ومن خصائص هذه التلاوة صيرورة عمل المسلم مرآة لمضامين سورة الفاتحة التي نصفها دعاء وتضرع إلى الله ، وتتضمن مكارم الأخلاق وحسن التأديب .
فمن إعجاز القرآن وتلاوته في الصلاة اليومية أنه مؤدب سماوي يومي متكرر للمسلمين والمسلمات ليصلح حالهم ، وينزههم من الإرهاب , ويصرفهم عن الضعف , ويمنعهم من التطرف ، وتكون ذات التلاوة دعاء وتضرعاً إلى الله عز وجل , قال تعالى [وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا]( ).
ومن الصلاح في الأرض إتساع الإيمان , وأداء الصلاة في مشارق الأرض ومغاربها , والخصب والنعم المتعددة كما في هذا الزمان إذ تتجلى النعم في الملبس والمسكن والتنقل بين الأقطار , وكثرة الأموال , وعلاج الأمراض والدرن وكان الطاعون والوباء إذا نزل في الأرض حصد الأرواح ومات فيه الكثير من الناس , وأتى على عوائل كاملة كبيرهم وصغيرهم.
بينما جاءت جائحة كورونا هذه الأيام فتعاونت الحكومات والشعوب للتضييق عليها , واجتهدت المؤسسات الطبية لإكتشاف وقاية وعلاج لها بسرعة فائقة وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ] ( ).
ولا يعني قانون (الدعاء ملاذ من الإرهاب) الإكتفاء العام بالدعاء لصرف الإرهاب ، إنما هو وسيلة مباركة وتعضيد لخطط ومناهج الإصلاح ، وسبب في تحقيق الغايات الحميدة منها ، كما أن الدعاء يهدي إلى أفضل السبل وأحسن النتائج ، ويصرف البلاء والضرر العرضي عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويكون من وجوه تقدير قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، بلحاظ هذا القانون وجوه :
الأول : قل ادعوني في اشاعة وغلبة الأخلاق الحميدة استجب لكم ، إذ أن الإرهاب والقتل العشوائي مناف لها .
الثاني : قل ادعوني للأمن والسلامة من الإرهاب استجب لكم .
الثالث : قل ادعوني لإستئصال الإرهاب من الأرض استجب لكم .
الرابع : قل ادعوني لصرف الإفتراء عنكم استجب لكم ، فليس من صلة بين المسلمين والإرهاب ، وقد يقوم به أفراد خلافاً لأحكام الشريعة.
الخامس : قل ادعوني للعصمة من الإرهاب والإرهاب الموازي استجب لكم .
السادس : لقد صار الإرهاب ظاهرة ضارة , وقد قال الله عز وجل [ادْعُونِي]( ) لأزالتها ومنعها استجب لكم .
السابع : قل ادعوني للتعاون العام للقضاء على الإرهاب ومقدماته استجب لكم , وهل الدعاء من النور الذي ورد في قوله تعالى [قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ *يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
أم أن المراد من النور هو القرآن لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا]( ) وقوله تعالى [وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ]( ).
الجواب هو الأول , إذ أن القرآن يحضّ على الدعاء , ويدعو إليه , ويبين أنه سلاح الأنبياء , وفيه الإستجابة , والأجر والثواب , و(عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} يقول : الدعاء هو العبادة ثم تلا هذه الآية : {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادي}( ) عن دعائي) ( ).
الثامن : قل ادعوني لبذل الجهود والسعي الحثيث للهداية إلى الصلاح وخلو الأرض من الإرهاب استجب لكم .
ويحب الله عز وجل الذين يتوجهون إليه بالدعاء مع سعيهم وعملهم للإصلاح والبناء ، والتنزه عن أسباب الكدورة والشقاء ، فالدعاء باب فتحه الله لخاصة عباده لينتفع أهل الأرض منهم ، ومن لجوئهم إلى الله عز وجل في المهمات .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القانون وهو أن الدعاء أعم من المسألة وبيان الحاجة إذ يشمل الحمد لله , والتسبيح والذكر.
(عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء { الحمد لله })( ).
قوانين الجزء التاسع بعد المائتين والذي يختص بتفسير قوله تعالى
[كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ] الآية 185 من سورة آل عمران .
قد وردت قوانين كثيرة في الجزء السابق والحمد لله , وتتعلق بتفسير الآية أعلاه , وبيان فضل الله عز وجل على الناس , ونذكرها هنا مع إضافات تتعلق بالصلة بين شطر منها وبين (قانون التضاد بين القرآن والإرهاب) الذي يختص به هذا الجزء المبارك .
الأول : قانون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر خمس مرات في اليوم , من ص65إلى ص70 من الجزء السابق .
وتتجلى في هذا القانون بخصوص قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) تفضل الله عز وجل بحصانة المسلمين من الإرهاب بوجوب قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
وهل يصدق على المسلم أنه يأمر بمكارم الأخلاق والأمن , وينهى عن الإرهاب خمس مرات في كل يوم من أيام حياته , الجواب نعم .
الثاني : قراءة في قانون الزحزحة والإبعاد من النار , من ص71 إلى ص76.
قد تقدم في الجزء التاسع بعد المائتين تفسير الآية 185 من سورة آل عمران , وفيها [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ] ( ) ومن كرم وفضل الله عز وجل على الناس أنه لم يقف عند الوعد بالزحزحة عن النار , وإن كان هذا الوعد يعدل الدنيا وما فيها إنما تفضل وقرن الزحزحة بدخول الجنة , ولم يبق المؤمن الذي يعمل الصالحات في برزخ في فضاء وعرصات بين الجنة والنار , فإذا وهب الله عز وجل فإنه يهب بالأتم والأكمل .
لتكون الآية أعلاه وموضوع الزحزحة عن النار تقييداً للاطلاق في قوله تعالى [وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا]( ) وأن المؤمن الذي يعمل الصالحات لا يرد النار , ولا يحس بلهيبها .
وفعل الإرهاب والإعانة عليه حاجب دون الفوز بالنعم الأخروية لما فيه من الضرر الخاص والعام , لقانون : كل ما فيه ضرر وخال من النفع فهو على التحريم .
(وفي الحديثِ : ” لاَ ضَرَرَ ، وَلاَ ضِرَارَ ” ، رواه مالكٌ في : الموطإ مرسلاً) ( ).
(وورد الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) ( ).
الثالث : قراءة في قانون أكثر السؤال عن الساعة , من ص125 إلى ص127 من الجزء السابق.
ويتعلق هذا القانون بسؤال المسلمين وأهل الكتاب وعامة الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، كما في التنزيل [يَسْأَلُونَكَ] والذي ورد في القرآن خمس عشرة مرة ، منها أربعة بخصوص السؤال عن يوم القيامة ، وكلها وردت بلفظ [السَّاعَةِ] و(عن جابر بن عبد الله قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول قبل أن يموت بشهر : تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله ، وأقسم بالله ما على ظهر الأرض يوم من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة) ( ).
ويمكن القول بقانون وهو مصاحبة السؤال عن أوان القيامة للناس في كل زمان ، وما من نبي إلا ويتوجه إليه الناس بهذا السؤال ، وهو مترشح عما يأتي به الأنبياء من الوعد والوعيد ، وهو من علم الغيب الذي اختصه الله لنفسه لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه ، وهذا السؤال عن الساعة وذكره في القرآن زاجر عن الإرهاب ، قال تعالى [وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلاَ يَصُدَّنَّكُمْ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
وفي أشراط وعلامات الساعة ويوم القيامة ورد(عن الحسن عن عُتي( ) السعدي قال : خرجت في طلب العلم حتى قدمت الكوفة فاذا انا بعبد الله بن مسعود بين ظهراني اهل الكوفة فسألت عنه فأرشدت إليه فاذا هو في مسجدها الأعظم فأتيته.
فقلت ابا عبد الرحمن اني جئت اضرب اليك التمس منك علما لعل الله ان ينفعنا به بعدك.
فقال لي ممن الرجل قلت رجل من اهل البصرة قال ممن قلت من هذا الحي من بنى سعد .
فقال لي يا سعدي لأحدثن فيكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتاه رجل .
فقال يا رسول الله ألا أدلك على قوم كثيرة اموالهم كثيرة شوكتهم تصيب منهم مالا دبرا أو قال كثيرا .
قال من هم قال هذا الحي من بني سعد من أهل الرمال.
فقال رسول الله مه فإن بني سعد عند الله ذو حظ عظيم .
سل يا سعدي قلت أبا عبد الرحمن هل للساعة من علم تعرف به الساعة قال وكان متكئا فاستوى جالسا فقال يا سعدي سألتني عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم .
قلت يا رسول الله هل للساعة من علم تعرف به الساعة فقال نعم يا بن مسعود إن للساعة أعلاما وإن للساعة أشراطا ألا وإن من أعلام الساعة وأشراطها ان يكون الولد غيظا وأن يكون المطر قيظا وان يفيض الأشراف فيضا( ).
يا بن مسعود ان من اعلام الساعة واشراطها ان يؤتمن الخائن وان يخون الامين يا بن مسعود ان من اعلام الساعة واشراطها ان تواصل الاطباق وان تقاطع الارحام( ).
يا بن مسعود ان من اعلام الساعة واشراطها ان يسود كل قبيلة منافقوها وكل سوق فجارها يا بن مسعود ان من اعلام الساعة واشراطها ان تحرف( ) المحاريب وان تخرب القلوب يا بن مسعود ان من اعلام الساعة واشراطها أن يكون المؤمن في القبيلة اذل من النقد( ) يا بن مسعود ان من اعلام الساعة واشراطها ان يكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء يا بن مسعود ان من اعلام الساعة وأشراطها ملك الصبيان ومؤامرة النساء يا بن مسعود ان من اعلام الساعة واشراطها ان تكثف المساجد وان يعلو المنابر يا بن مسعود ان من اعلام الساعة واشراطها ان يعمر خراب الدنيا ويخرب عمرانها يا بن مسعود ان من اعلام الساعة واشراطها ان تظهر المعازف والكبر وشرب الخمور يا بن مسعود ان من اعلام الساعة واشراطها ان يكثر اولاد الزنى قلت ابا عبد الرحمن وهم مسلمون قال نعم قلت أبا عبد الرحمن والقرآن بين ظهرانيهم قال نعم قلت أبا عبد الرحمن وأنى ذلك قال يأتي على الناس زمان يطلق الرجل المرأة ثم يجحد طلاقها فيقيم على فرجها فهما زانيان ما أقاما) ( ),( ).
وسيأتي قانون أسئلة القرآن دفع للإرهاب .
الرابع : قانون الكبش الأملح , من ص128 إلى ص 134 من الجزء السابق .
والموت أمرمحسوس بذاته وأثره ، وقد يقال كيف يذبح يوم القيامة وهو عرض فكيف يصير جسماً ، والجواب إن إخبار القرآن عن كونه مخلوقاً مقدمة لعلم من علوم الغيب في الآخرة بأن يحضر الموت على هيئة جسمانية.
وكثير من الأعراض والأمور الجامدة تحضر يوم القيامة ويُنطقها الله عز وجل ، إن الإنسان يدرك بعقله المحدود أن ما يحدث في الآخرة يفوق التصور الذهني .
وذبح الموت إشارة للخلود ، وفي الحديث ترغيب للناس بالإيمان والعمل الصالح ، وباعث للنفرة من الإقدام على قتل الغير وسفك الدماء ، لأن ذات الموت أمر شديد على الإنسان ، وهذا المقتول يحضر في الآخرة ورأسه بأحدى يديه ، وهو ممسك بقاتله ، وقد يقال كيف يكون رأسه منفصلاً عن جسده وأوداجه تشخب دماً لأيام.
الجواب إنه من نواميس يوم القيامة ، وعلوم الغيب التي أخبر الله عز وجل عنها الناس , بواسطة الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وإحياء الموتى وبعثهم جميعاً من قبورهم أعظم .
(عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده ، وأوداجه تشخب دماً يقول : يا رب قتلني هذا حتى يدنيه من العرش : فذكروا لابن عباس التوبة ، فتلا هذه الآية { ومن يقتل مؤمناً متعمداً }( ) قال : ما نسخت هذه الآية ولا بدلت ، وأنى له التوبة) ( ).
وقال رجل لإبن عباس (أرأيت رجلا قتل رجلا متعمدا؟ فأجابه ابن عباس بآية قرآنية : { جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا]}( ).
ثم بيّن فقال : لقد نزلت في آخر ما نزل ، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى؟
قال: وأنى له بالتوبة ، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
يقول: “ثكلته أمه، رجل قتل رجلا متعمدا، يجيء يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره وآخذا رأسه بيمينه أو بشماله تَشْخَب أوداجه دما من قبل العرش يقول: يا رب، سل عبدك فيم قتلني؟)( ).
ويبين كلا الحديثين أعلاه عن رسول الله أنه لم يقيد مذهب وملة القاتل، ويجعل له عذراً ، ولا مذهب وملة المقتول ، بل ورد الحديثان بصفة الإطلاق في ذم القتل وسفك الدماء ، وأن المقتول عن عمد أيا كان انتماؤه يأتي ممسكاً بيده اليمنى بقاتله وحاملاً رأسه بيده الأخرى .
ومن مصاديق هذا البيان قوله تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ) لبيان صفحة من عالم الحساب في الآخرة ، وهو سؤال القاتل عن علة وسبب قتله عمداً لغيره ، وليس عنده يومئذ جواب ، مما يستلزم من المسلمين والناس جميعاً ترك القتل العمد ، والإبتعاد عن الإرهاب ، وما فيه من سفك دماء شخص أو أشخاص ، وقد تكون فيهم النساء والصبيان.
لقد نزلت آيات القرآن بالدعوة إلى السلم ودفع العنف مطلقاً ، ومنه العنف الإرهابي ، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق .
فان قلت قد نزل القرآن بحكم القصاص ، وهو قتل وسفك دم ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
والجواب من جهات :
الأولى : هذا القصاص حكم ، وبينه وبين التنفيذ مرتبة ، إذ قد يعفو المجني عليه أو وليه , قال تعالى [وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ] ( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (“ما نقص مال من صدقة ، ولا زاد الله عبدا بعفو إلا عزًّا ، ومن تواضع لله رفعه الله”)( ).
الثانية : القصاص رد وعقوبة عاجلة على سفك الدماء ، ومن خصائص العقوبة أنها زاجر عن إرتكاب المعصية .
الثالثة : في حكم القصاص حفظ للنفوس ، وأن الذي ينوي القتل يستحضر بالوجود الذهني ما ينتظره من القصاص ، فيمتنع عنه ، فيكون هذا الحكم حفظاً للقاتل والمقتول المحتمل , ومانعاً من كثرة السجون والإنفاق عليها , وحراستها وإدارتها .
الرابعة : تقدير قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) على وجوه :
أولاً : ولكم في تشريع حكم القصاص , وفيه رجاء العفو وتتعدد ضروب هذا الرجاء بالدعاء والسعي عند ذوي وأولياء المجني عليه والبذل لهم .
(عن أنس : عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ينادي مناد من كان أجره على الله فليدخل الجنة مرتين فيقوم من عفا عن أخيه قال الله تعالى : { فمن عفا و أصلح فأجره على الله }( ))( ).
لقد خفّف الله عز وجل عن الأمة وفتح باب الأجر والثواب أذ جعل لأولياء الدم عند القتل العمدي الخيار بين وجوه :
الأول : القصاص .
الثاني : الإنتقال إلى الدية .
الثالث : شطر من الدية .
الرابع : العفو .
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
ثانياً : ولكم في التخويف بحكم القصاص .
ثالثاً : ولكم رحمة من الله عز وجل في حكم القصاص .
رابعاً : ولكم في القصاص تشريعاً أو تنفيذاً حياة , فذات الحكم رحمة , وإن لم ينفذ .
خامساَ : ولكم في الوعيد بالقصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون.
فلا يختص المراد من قوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ) الحصر بتنفيذ القصاص إنما يشمل ذات تشريع القصاص والوعيد به , والحكم به قبل التنفيذ , وإبداله بالسجن أو الدية حسب الحال لمصلحة خاصة مع التداخل في التشريعات والتقارب بين البلدان .
الخامسة : القصاص واقية من الإرهاب ومن قتل الأبرياء .
السادسة : يدعو حكم القصاص الناس إلى حلّ الخصومات دون قوة.
السابعة : يمنع حكم القصاص من النشاط الإجرامي ، وتشكيل عصابات القتل والسرقة والنهب ، وفيه رادع عن التعدي المسلح .
الثامنة :حكم القصاص دعوة للناس لإحترام القانون ، والإمتناع عن الإضرار بالغير ، ولا يختص حكم القصاص بالقتل ، إنما يشمل الجوارح والأعضاء , قال تعالى [وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ]( ).
و(عن عمران بن حصين ، أن غلامًا لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتى أهله النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا أناس فقراء ، فلم يجعل عليه شيئًا) ( ) وليس من قصاص لأن الجاني لم يبلغ سن الرشد .
التاسعة : يبين حكم القصاص حب الله عز وجل للناس ، ودعوة الحكام والملوك إلى تعاهد الأمن والسلم في البلاد .
العاشرة : حكم القصاص مادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وموضوع لتأديب الأبناء والنصح ، وبيان أن الفتك والبطش يضر صاحبه ، ليكون إمتناع المسلم عن الإرهاب سجية ، ومن باب الأولوية .
الحادية عشرة : لقد جعلت آية القصاص الأب يخشى على ابنه ويسعى في اصلاحه ومنعه من الإقدام على الجريمة , أو مخالطة أصدقاء السوء .
الثانية عشرة : حكم القصاص من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) فعندما احتج الملائكة على جعل من يفسد في الأرض ويجعلها تشرب من دماء الناس أخبر سبحانه عن القصاص عقوبة عاجلة , ومانعاً من تفشي القتل بين الناس .
الثالثة عشرة : قد جاء الأنبياء السابقون بحكم القصاص.
الرابعة عشرة : يبين حكم القصاص التنافي بين الإيمان والجناية ، فالمؤمن لا يقدم على القتل والإضرار بالغير بغير حق ، إنما هو يتصف بالأخلاق الحميدة من الرفق والإحسان والعفو ، قال تعالى [وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ] ( ).
الخامس : قراءة في قانون الوارث لآل فرعون , الذي ورد في الجزء السابق من ص135 إلى ص 139.
وهذا القانون مبحث لطيف يبين عظيم قدرة الله وبطشه بالظالمين الذين يفسدون في الأرض ، ويؤذون ذرية الأنبياء وعامة المؤمنين , ويحرمون الناس من حق التنقل والإنتقال وترك خدمتهم .
و(عن ابن مسعود قال : كان أهله( ) حين أرسل إليهم ، فأتوا مصر ثلاثة وتسعين إنساناً ، رجالهم أنبياء ، ونساؤهم صِدِّيقات ، والله ما خرجوا مع موسى عليه السلام ، حتى بلغوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً .
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال : خرج يعقوب عليه السلام إلى يوسف عليه السلام بمصر ، في اثنين وسبعين من ولده وولد ولده ، فخرجوا منها مع موسى عليه السلام وهم ستمائة ألف)( ).
ليكون من طغيان فرعون وملئه أنهم نظروا إلى بني إسرائيل بعنصرية وسخّروهم للأعمال الشاقة والأدنى , ومنعوا من إرتقاء بعضهم إلى مراتب عالية في الحكم والمجتمع والتجارة والكسب لأنهم موحدون ولا يقولون بربوبية فرعون .
وهل من موضوعية لكونهم من غير أهل مصر في هذا التسخير والتضييق , الأقرب نعم , ليكون من نعم الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التساوي في الحقوق والواجبات , ويكون الترجيح والتفضيل بلحاظ التقوى والخشية من الله عز وجل , قال سبحانه [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] ( ).
لقد أنعم الله عز وجل على آل فرعون وجعلهم ملوكاً وآتاهم المال والخدم والمنعة ، فلم يشكروا الله عز وجل إنما ظنوا أنهم أسياد الأرض ، وأن حكمهم مطلق ، ليس من رقيب عليهم ، ويدل عليه قول فرعون [فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى] ( ) من غير رد أو إحتجاج من الملأ أو الحاشية .
فلم يعجل الله عز وجل لهم العقاب ، ولم يؤاخذهم على ظلمهم ، ولم يحبس عنهم النعم ، إنما بعث لهم موسى عليه السلام رسولاً من عنده ، ورزقه المعجزات , وكل معجزة إنذار بالذات والأثر , والجمع بينها وبين المعجزة الأخرى , قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ]( ).
وهل يمكن القول بقانون معجزات موسى عليه السلام رحمة ونعمة على آل فرعون ، أم أنها خاصة ببني إسرائيل .
الجواب هو الأول ، لبيان قانون أعم وهو أن معجزات الأنبياء رحمة للناس جميعاً ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) أن كل آية قرآنية هي رحمة بالناس جميعاً ، لأنها معجزة قائمة بذاتها ، وما دامت الآية القرآنية رحمة للناس فانها تنهى المسلم وغيره عن الإرهاب والإرهاب الموازي , وتبين قانوناً وهو عدم الحاجة للإرهاب إنما هو ضرر محض .
وذكرت آيات القرآن أسماء الله التي تبعث السكينة في النفوس لأن الله عز وجل هو الخالق الرزاق الرؤوف بالناس والذي يحشرهم إليه جميعاً ، ويتولى بنفسه حسابهم ، وهو الذي ورث آل فرعون وغيرهم .
أما الذي يقوم بالإرهاب فلا يرث غيره ، إنما ميراث الأرض ومن عليها لله عز وجل ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ]( ) وفي قانون (الوارث لآل فرعون) إخبار عن عواقب الأمور وأن البطش والظلم لن يدوم .
السادس : قراءة في قانون آيات الموت , وقد ورد في الجزء السابق من ص142 إلى ص149.
لقد ذكر القرآن وفي آيات متعددة منه الموت وذكر بألفاظ أخرى منها الوفاة والمنية والأجل والقتل ، وإن كانت النسبة بين الموت والقتل عموم وخصوص مطلق ، فالموت أعم وأكثر ، إنما يتضمن النهي عن الإرهاب والقتل ومن معاني هذا النهي ترك الإنسان يموت في أجله ، وتارة تجمع الآية الوفاة والموت ، كما في قوله تعالى [حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ] ( ).
وفيه شاهد بأن الموت أمر وجودي (والوفاةُ: المنيّة.. وتُوُفِّيَ فلان، وتوفّاه الله، إذا قبض نَفسَهُ) ( ).
وكأن الوفاة من الموافاة والرجوع إلى الميعاد ، ونسبة الوفاة إلى الله عز وجل زاجر عن القتل ، وصيغ الإرهاب ، فليس للإنسان أن يشيع القتل والإضرار بالناس في مجتمعاتهم ، قال تعالى [نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ] ( ) وليس من مفر من الموت وما بعد الموت ، ويمكن القول بقانون وهو تكرار ذكر الموت وتعدد أسمائه في القرآن نهي سماوي عن الإرهاب وسفك الدماء , وفيه إنذار من يوم الحساب .
وكما يكره الإنسان مباغتة الموت والمنية له فانه يجب أن يجتنب مباغتة الناس الآمنين بالقتل الذي يتفرع عنه إثارة الرعب بين عامة الناس ، فالذي يُجرح أو يُقتل فرد واحد أو عدة أفراد ،ولكن الرعب والإستهجان يعم الجميع ولا عبرة بالقليل النادر .
ولا ينحصر الأمر بالرعب بل يقترن به السخط وإرادة العقاب والتعاون فيه ، بينما فتح الله عز وجل للإنسان باب الدعاء لنيل ما ينبغي من غير اللجوء إلى العنف والإرهاب الذي تترشح عنه النفرة ، وإنفاق الدول الأموال الطائلة لمحاربة الإرهاب وتجفيف منابعه .
فان قلت إن الذي يسمى إرهاباً إنما هو مطالبة بالحقوق بوسائل عنيفة على نحو الإضطرار ، والجواب لا دليل عليه إنما تكون المطالبة بالميسور , والصبر ولعل الحوار والإنصات للرآي الأخر يكشف عن عدم وجود حقوق مسلوبة لذات الشخص .
لقد اختص الجزء السابق بتفسير قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ) لإفادة التذكير اليومي للمسلم وغير المسلم بالموت ، وشدة وطأته على الذات والغير ، فان قلت كيف يكون في هذه الآية تذكير لغير المسلم بالموت، والجواب من جهات :
الأولى : قانون تلاوة المسلمين للقرآن في الصلاة جهراً في أكثر ركعات الصلاة اليومية ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) .
الثانية : حينما ورد الأمر من الله عز وجل بالإستماع والإنصات لآيات القرآن فانه سبحانه يجعل طائفة من الناس تستمع وتنصت وتتدبر في آيات القرآن، ومنها آيات الموت لقانون وهو لابد من تحقيق الإمتثال للأوامر والنواهي القرآنية في كل زمان .
الثالثة : توجه رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس جميعاً وتحقق مصداق واقعي بالإستماع لتلاوة القرآن , قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ) .
وهناك شواهد كثيرة تدل على تعمد المشركين الإنصات للقرآن لقراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن .
الرابعة : إتخاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تلاوة القرآن وسيلة للإحتجاج والتبليغ .
ويمكن القول بقانون وهو آيات الموت في القرآن لطف بالناس ، ودعوة لهم للتعاون في صرف الموت عن الذات والغير ، وليس إشاعة القتل ، وتبذل الجهات الدولية والمؤسسات الطبية الأموال والجهود وتسخر المختبرات لإطالة متوسط عمر الإنسان مما يملي على المسلم الشكر لله عز وجل ، ورجاء إطالة عمره بالذكر والتسبيح والعبادة من غير إيذاء للناس مجتمعين ومتفرقين.
السابع : قراءة في قانون أسئلة المسلمين لقصد الآخرة , وقد ورد في الجزء السابق من ص 151 إلى ص 167.
من خصائص بعثة كل نبي أنها نعمة على أهل الأرض ، وتلقى المسلمون هذه النعمة بالشكر لله ، وبادروا للإمتثال لما في التنزيل من الأوامر والنواهي ، وأدركوا بالحس والوجدان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتكلم عن الوحي وقد أخبرهم الله عز وجل بهذا القانون بقوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
فأكثروا من توجيه الأسئلة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحتمل النسبة بينها وبين عدد الأسئلة الواردة في القرآن وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي ، وأن مجموع أسئلة المسلمين وغيرهم هي خمسة عشر سؤالاً ، كما ورد مرتين بقوله تعالى [يَسْتَفْتُونَكَ] ذكرنا إحداهما وهي الآية 176 من سورة النساء في الجزء (206) ( )، أما الثانية فهو قوله تعالى [وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا]( ).
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبة واحدة بأن أسئلة المسلمين أكثر من التي ذكرت في القرآن , والشعبة الأخرى ممتنعة .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
والمختار هو الثاني فاسئلة المسلمين أكثر , ومنها ما ورد ذكره في السنة النبوية لبيان أن توجيه الأسئلة من المسلمين وغيرهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة وموعظة , ومنها ما يتعلق بعلم الغيب وفيه حجة وبرهان ومناسبة للإحتجاج على صدق نبوته من غير أن تصل النوبة إلى الإرهاب وما فيه من الضرر والإضرار.
ويمكن إنشاء قانون وهو : قصد الآخرة في أسئلة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذكر كل آية من آيات (يسألونك) إذ يسأل المسلمون ماذا ينفقون رجاء الأجر والثواب .
ويسألون عن الأهلة لضبط تواريخ وأوان العبادات والحقوق ، وكذا سؤالهم عن اليتامى لإجتناب الإضرار بهم أو بخس حقوقهم .
ويسأل المسلمون عن الشهر الحرام , وهل فيه قتال , ليس لإرادة القتال فيه ، إنما للإحتراز من غدر المشركين فيه ليكون ذكر هذا السؤال في القرآن مثالاً لأسئلة المسلمين عن أيام السنة وعن الأشهر الحل ، وعن القتال والدفاع.
فيمكن القول بقانون وهو كل سؤال في القرآن مثال لأسئلة عديدة في ذات الموضوع أو الحكم بما يصدق عليه قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ]( )، وورد قوله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا]( ).
ولم يجعل الله عز وجل موضوع السؤال إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً في الموضوع بما يتضمن الأذى فقال تعالى [أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ]( )، وقد بينت آية أخرى سنخية السؤال الموجه إلى موسى عليه السلام بقوله تعالى [يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنْ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً]( ).
وروي عن الضحاك أنه قال : دخل جماعة من كفار قريش فيهم أبو جهل وغيره ، فقالوا لرسول الله : إن كنت نبياً فاكشف عنا الغطاء ، حتى نرى الله جهرة ، فنزلت الآية { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ }( ) حيث قالوا : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } ثم قال : { وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان }( ) ، أي يختار الكفر على الإيمان ، { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل}، أي أخطأ قصد السبيل وهو طريق الهدى ( ).
والضحاك من التابعين ولم يرفع الخبر أو بين سند سبب نزول الآية أعلاه .
ومن الآيات في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تفضل الله بالإجابة حتى على أسئلة المشركين الذين يتوجهون بالسؤال إليه , وفيه موعظة للمسلمين باجتناب العنف والبطش لتحقيق الغايات التي يريدون.
وورد قوله تعالى [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ]( )، وفي الآية وعد من الله عز وجل للمسلمين بأن ما يطلبون ويبتغون يتحقق بالدعاء فلا يصح الإرهاب وما يسببه من الكدورات والأحقاد والضغائن التي تترجم إلى ردود أفعال تلحق ضرراً عاماً.
وأمر الله عز وجل المسلمين أن يتوجهوا إليه بالدعاء , وأن يسألوه من فضله الواسع ، وفي هذا السؤال أجر وثواب وليس فيه أذى وضرر ، أما طلب تحقيق الغايات بالإرهاب فليس فيه إلا الضرر في النشأتين وإذا كانت الغاية حميدة فانها تتحقق بالصبر والدعاء والزهد , والتقيد بسنن التقوى.
الثامن : قراءة في قانون التفسير الموضوعي لآيات السلم , ووردت في الصفحات من الجزء السابق من ص 188 إلى ص 190.
ستبقى آيات السلم وثيقة سماوية في الأرض تمنع من التردد في نشر لواء السلم بين الدول والقبائل وفي المجتمعات , وبعث القرآن المسلمين والناس على عقد الصلح والموادعة , قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ).
وهل الأصل في الصلات والعلاقة بين المسلمين وغيرهم هو السلم أم الحرب , الجواب هو الأول , ولا تختص أصالة السلم في القرآن والشريعة الإسلامية والآيات التي تذكر لفظ السلم وحدها , إنما تستقرأ من آيات كثيرة منها البعث على الإحتجاج وإقامة البرهان , قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ).
وفي الجدال بالأحسن [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
وآيات العفو والتسامح وعدم المؤاخذة على الأذى الذي يأتي للمسلمين .
قال تعالى [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
لقد جاء القرآن بفلسفة الصفح الخاص والعام , ليكون على وجوه :
الأول : العفو والصفح الصادر من الفرد , وصاحب القرار , قال تعالى [وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) والمسامحة بين الزوجين والحياة الأسرية وبر الوالدين .
الثاني : الصفح الموجه للشخص والفرد .
الثالث : وإشاعة العفو والمغفرة الصادرة والتسامح والرضا به , وعدم النفرة من قبوله وفي العفو والمغفرة تنزه عام عن الإرهاب .
أما قوله تعالى [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ] ( ) فالآية خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم للصبر والمصابرة في مواجهة كفار قريش ومن والاهم , ولشد عزائم المسلمين , والإخبار بأنهم أشرفوا على الظفر وقرب الصلح , وهو لا يتعارض مع قبول السلم إن جاءت دعوته من الكفار .
فالآية خاصة بالنهي عن الإعتداء بطلب السلم مع المشركين , أما قبوله فهو أمر حسن , كما تحقق في صلح الحديبية , أما الصلة مع أهل الكتاب فهي دعوة مفتوحة للسلم إبتداء واستدامة .
لقد إنقطعت بعد معركة حنين أيام الدفاع ضد جيوش المشركين , ودخلوا في الإسلام لتبقى آيات السلم وهي تنهى مجتمعة ومتفرقة الفرد عن الإرهاب , وتبين حقيقة وهي أن الإرهاب أجنبي عن الإسلام .
وبين مبادئ الشريعة وبينه تضاد وتناف , إن آيات السلم والعفو والموادعة والرفق والصفح رحمة .
التاسع : قراءة في قانون الإختصاص اللغوي للقرآن , الذي ذكرته في الجزء السابق من ص209 إلى ص212.
ومن أقسام التفسير , التفسير اللغوي والبلاغي للقرآن , وهو لا يعني إنفراد المؤلف أو لزوم إختصاص كتاب التفسير به , فتجد أغلب كتب التفسير تتناول أسرار لغة القرآن وما فيها من الإعجاز , والحقيقة والمجاز , وغريب كلمات القرآن ودلالاتها , وعلوم النحو والصرف والبلاغة ونسق الحروف في كلمات القرآن , وطرائق نظمه , ووجوه تراكيبه ومشكل إعراب القرآن , لتبعث الرغبة في نفس المسلم للتدبر في كلمات وآيات القرآن وما تدعو إليه من الصبر والرضا بما قدّر الله عز وجل من غير أن يتوجه المسلم إلى الظلم والعنف , قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
وعن(سفيان بن عيينة سئل علي عليه السلام عن قول الله عز و جل إن الله يأمر بالعدل والاحسان قال العدل الانصاف والاحسان التفضل وسئل لأي شيء سمى الله عز و جل نفسه المؤمن قال يؤمن عذابه بالطاعة) ( ).
ومن خصائص القرآن أن الكلمة إذا رفعت من محلها لا تحل كلمة أخرى بديلاً لها وإن كانت مرادفة لها .
لبيان قانون وهو ثبوت واستدامة قوانين القرآن اللغوية والبلاغية والنحوية والشرعية والتأديبية , ومنها قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعصمتهم من الإرهاب والظلم .
العاشر : قراءة في قانون لغة الجمع للمنفرد في القرآن خاصة بالله عز وجل , وورد هذا القانون في الجزء السابق من ص213 إلى ص 216.
لقد نزل القرآن بلغة العرب , والتي يصح فيها إطلاق لفظ الجمع على الواحد , مثلما يطلق عليه لفظ الواحد أيضاَ , ويرد لفظ الجمع للمفرد من باب التعظيم .
والمختار أن لغة الجمع في القرآن للمفرد خاصة بالله عز وجل بلفظ نحن , إنّا , نقص , نتلو ، نشأ ، أمرنا ، اهلكنا ، ونحوها قال تعالى [فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ]( )، ووردت صيغة الجمع خاصة بالله في الآية أعلاه خمس مرات ومرتين في قوله تعالى [وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ]( ).
وقد ورد لفظ [إِنَّا نَحْنُ] في القرآن خمس مرات كلها لله عز وجل في بيان للوحدانية وإنفراد الله عز وجل بالمشيئة المطلقة , وهذه الآيات هي :
الأولى : [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
الثانية : [إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ] ( ).
الثالثة : [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ] ( ).
الرابعة : [إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ] ( ).
الخامسة : [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً] ( ).
قال تعالى [وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وورد لفظ (نقصُ) بصيغة الجمع لله عز وجل في القرآن خمس مرات , ولم يرد لفظ (أقص) أما حينما جاء الأمر من الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقص بعض أخبار الأمم السابقة وقصص الأنبياء فأمره الله عز وجل [فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] ( ) بصيغة المفرد .
وقال تعالى [نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
الحادي عشر : قراءة في قانون تأسيس التنزه عن الغلو , وورد في الجزء السابق من ص 245 إلى ص247.
والغلو لغة مجاوزة الحد , والنظر إلى الأمر بأكثر مما هو في حقيقته , كما يطلق الغلو على التشدد والتطرف والتصلب ، وقال تعالى [لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ] ( ).
ويرد الغلو كثيراً في كلام الشعراء كالمتنبي وأبي نؤاس وابن هانئ , وأبي العلاء المعري ومنها قول عضد الدولة بالمبالغة بشخصه فابتلاه الله عز وجل , خرج إلى بستان، وقال : لو ساعدنا غيث، فجاء المطر فقال:
ليس شرب الكأس إلا في المطر … وغناء من جوار في السحر.
غانيات سالبات للهنى … ناغمات في تضاعيف الوتر.
راقصات زاهرات نجل … رافلات في أفانين الحبر.
مطربات محسنات مجن … رافضات الهم أبان الفكر.
مبرزات الكأس من مخزنها مسقيات الخمر من فاق البشر.
عضد الدولة وابن ركنها … مالك الأملاك غلاب القدر( ).
ولم يفلح بعدها , وكان يقول [مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِي * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِي] ( ).
لقد جعل الله عز وجل الإسلام دين الرحمة واليسر , و(عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشئ من الدلجة) ( ).
وفي الغلو ضرر على الذات والغير , وفيه تعد وتجاوز على العقيدة .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في التنزه عن الغلو, وتمنع سنته الغلو بشخصه الكريم .
لقد كانت إمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في الصلاة زاجراً عن الغلو في كل من :
الأول : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الغلو في الأنبياء السابقين وهو خاتمهم , [وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
الثالث : الأئمة والصحابة .
الرابع : الملوك والسلاطين .
ليكون هذا الزجر من مصاديق حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على حضور الصلوات اليومية الخمس في المسجد النبوي كما كان يؤم المسلمين في حال السفر وعند الخروج في الكتائب , ومن منافع ترك الغلو إخلاص العبادة لله عز وجل .
ترى ما هي النسبة بين الغلو والإرهاب , المختار إنها نسبة العموم والخصوص المطلق , فقد نهى الله عز وجل عن الغلو في الدين , وحرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على منع المسلمين من الغلو , قال تعالى [وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي]( )، وكان يظهر التواضع والخشوع لله عز وجل في كل مناسبة .
وعندما يتلو آية سجدة ينزل من المنبر ويسجد لله عز وجل على الأرض ثم يصعد المنبر , ولم يفعلها أحد من قبله ليمتنع المسلمون عن الغلو في شخصه .
ليكون من لطف الله عز وجل في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي هي شعبة من الوحي هداية المسلمين إلى التنزه عن الغلو وعما يتفرع عنه من الإرهاب والظلم والتعدي ويدعو القرآن المسلمين والناس جميعاً إلى التعاون بلطف ممنهج للتنزه عن الغلو والتصلب والتطرف للنظر للأمور بحقائقها من غير مبالغة بالفعل الإرهابي وأثره إنما هو كالسراب في هذا الخصوص .
ويتفرع عن الغلو الفرقة والشقاق ، وتعدد الفرق والطوائف والجماعات والأحزاب ، ويقوم بعضهم بتكفير بعضهم الآخر ، وقد يتفرع عند القتل والشواهد التأريخية كثيرة ، وقد تصاحب الغلو البدعة.
وعن ابن عباس في حديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : واياكم والغلو فانما اهلك من كان قبلكم الغلو في الدين( ).
ومن الغلو الإعراض عن حجة الغير ، وعدم الإستماع له فيما يعتقد به أو يجادل فيه ، وقد أسس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدرسة الحوار وكان ينصت للناس ، للمسلم وغير المسلم ، ويستمع لمشركي قريش فيما يدّعون ويطلبون ويسألون ، ويلتقي رؤساء في المدينة ، ويجيب على أسئلتهم ولا يغضب لإظهار بعضهم التشكيك في نبوته من غير أن يؤاخذهم .
وفيه دعوة نبوية للإمتناع عن الإرهاب وعندما ساد الإسلام في الجزيرة ، وقال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( )، استمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإنصات للغير والتواضع والزهد ، وقبول الإعتذار.
والمختار أن النسبة بين الغلو والتطرف هو العموم والخصوص المطلق ، فالغلو أعم والتطرف والتصلب فرع منه ، وضرره أشد على العباد ، وليس في القرآن لفظ التطرف وهو تجاوز الحد.
وإن قيل أن التعدي أيضاً تجاوز الحد فالمختار أن النسبة بين التعدي والتطرف هو العموم والخصوص المطلق ، فالتعدي أعم .
وقد سئل الإمام علي عليه السلام عن الحرورية الذين خرجوا عليه بعد أن حملوه على التحكيم عند رفع أصحاب معاوية المصاحف : أكفار هم .
قال : من الكفر فروا .
فقيل : فمنافقون ، قال : المنافقون [َلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ) وهؤلاء يذكرون الله كثيرا .
قيل : فما هم .
قال : قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا) ( ).
الثاني عشر : قراءة في قانون القتال كره ومشقة , وورد هذا القانون في الجزء السابق من ص 248 إلى ص 255.
من إعجاز القرآن إخباره عن حال المسلمين عند حدوث القتال وموضوعه وإنه يملى ويفرضه المشركون عليهم , فلم تقل الآية : كتب القتال وأنتم له كارهون .
وقد ذكر لفظ (كارهون) في القرآن بصيغة الرفع ست مرات , قال تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( ).
وورد مرة واحدة بصيغة النصب في قوله تعالى [قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ] ( ) .
فمن إعجاز الآية أنها لم تذكر كراهة المسلمين للقتال إنما ذكرت أن ذات القتال مكروه ومبغوض من المسلمين والكراهة الذاتية أشد من العرضية , فلم قيدت الآية كراهة القتال بالمسلمين لبيان أنهم مضطرون إليه.
وهل تختص هذه الكراهة بالمسلمين .
الجواب لا وفيه شاهد بأن المسلمين لا يسعون للقتال , ولا يطلبونه , فمن يكره أمراً يختار ضده , وتدل مبغوضية القتال للمسلمين على رغبتهم وسعيهم إلى السلام والموادعة , وبما أن الآية نزلت بخصوص القتال بين المسلمين والمشركين فإن القتال مع أهل الكتاب أشد كرهاً , وكذا بالنسبة للإرهاب لأنه فرع القتال , وهل يتفرع القتال عن الإرهاب الجواب لا , لأن القرآن واقية من إتساع الإرهاب .
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بأداء الفرائض العبادية للإصلاح والتأديب العام لهم ولغيرهم , بلحاظ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول للناس جميعاً ولأن عكوف المسلمين على أداء الفرائض باعث للهيبة في النفوس , وزاجر عن الإضرار بالمؤمنين ، قال تعالى [وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا]( ).
و(عن قتادة في الآية قال : كان أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم – وهم يومئذ بمكة قبل الهجرة – يسارعون إلى القتال ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : ذرنا نتخذ معاول نقاتل بها المشركين . وذكر لنا أن عبد الرحمن بن عوف كان فيمن قال ذلك ، فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك قال : لم أومر بذلك) ( ).
الثالث عشر : قراءة في قانون قول الحمد لله منسأة في الأجل , ورد في الجزء السابق من ص267 إلى ص268 .
وقد ورد لفظ (منسأة) في الحديث النبوي وورد عن (عمرو بن سهل قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : صلة القرابة مثراة في المال، محبة في الأهل ، منسأة في الأجل)( ).
لبيان أن صلة الرحم وسيلة ومناسبة لإطالة العمر ، وزيادة وكثرة المال واثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره فالذكر والحمد لله عز وجل صلة وقربة إلى الله ورجاء لرفده وفضله ، ومنه إطالة العمر لعمارة الأرض بالحمد والتسبيح لله عز وجل لا عن حاجة من الله عز وجل للناس في هذا الحمد ، إنما لإصلاح النفوس ، وتعاهد الحمد ، وإرادة الثواب .
فقول الحمد لله توليدي يؤدي إلى المواظبة عليه والأكثار منه ، بأن يمد الله عز وجل في عمر الإنسان ويصرف عند أسباب الإنشغال عن الحمد والنسبة بين المواظبة على الحمد لله وبين الإرهاب هي التنافي والتضاد ، فتفضل الله عز وجل وجعل كل مسلم يتلو قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، سبع عشرة مرة في اليوم ، على نحو الوجوب العيني .
ومن الإعجاز في إطلاق ربوبية الله عز وجل للعالمين في هذه الآية تذكير المسلم بأن الناس جميعاً عبيد لله ، وأن صفة العبودية هذه تملي عليه الصبر عليهم وإرجاء أمرهم إلى الله فما جهة الحساب والعقاب وهو لا يسقط الوعظ والإرشاد وإقامة البرهان ، والإنصات لهم أيضاً.
الرابع عشر : قراءة في قانون سلامة الأرض بفضل الله , وقد ورد في الجزء السابق من ص269 إلى ص272.
والأرض هي الوعاء المكاني الواسع الكبير لسكن وإقامة الناس في أجيالهم المتعاقبة ، خلقهم الله عز وجل منها ليعمروها بالتقوى والصلاح ، والإمتناع عن الفساد ، إذ أن هذا الإمتناع أمر وجودي ، قال تعالى [وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وتحتمل أفعال الإرهاب والتفجيرات بخصوص عمارة الأرض وجوهاً :
الأول : ليس من ضرر على الأرض من الأعمال الإرهابية ، إنما يقع ضررها على أهل الأرض .
الثاني : يقع الضرر والإضرار على ذات الأرض كمحل للسكن من الأفعال الإرهابية .
الثالث : التفصيل فبعض الأفعال الإرهابية والتفجيرات العشوائية تضر الأرض .
والمختار هو الثاني أعلاه ، ولأن الأرض ملك طلق لله عز وجل ، إنما جعل الناس أمناء عليها في إختبار وإمتحان لهم ، فهذه الأمانة مقيدة وليست مطلقة ، فاذا تعدى المؤتمن يأتيه البلاء ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) .
وتبين الآية أن النعمة والتفضيل لطائفة من الناس إمتحان فيجب أن لا يسخّر العبد ما رزقه الله عز وجل للإضرار بالغير .
وهل الرفع المذكور في الآية أعلاه ثابت لأشخاص أو فرقة أو طائفة أو قبيلة ، الجواب لا ، لقوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( )، والمدار على الإيمان والخشية من الله لذا لابد من قيام الحكماء بالنهي عن الإرهاب بالحجة والبرهان .
ومن إعجاز القرآن ذكره لقصص الماضين ، وأخبر في آيات متعددة عن سوء عاقبة الظالمين والمكذّبين .
إن استدامة الحياة على الأرض نعمة عظمى توجب الشكر من الناس لله عز وجل بتعاهد الأمن فيها والتعاون بين أهلها للإنتفاع الأمثل منها , والذي يتضمن الإبتعاد عن الفساد ونشر أسباب العداوة .
وهل التفجيرات والقتل العشوائي من الفساد الذي تنهى عنه الآية أعلاه ، الجواب نعم سواء كان التفجير في محل خاص أو مرفق عام ، وفي مكان مغلق أو مفتوح .
لقد أقام الله الحجة على المسلمين والناس بخصوص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه ذات صبغة القانون :
الأول : قانون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً الموجود والمعدوم .
الثاني : قانون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرب على الإرهاب.
الثالث : قانون رسالة النبي لأجيال الناس كافة ، قال تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( )، مما يدل على لزوم تقيد أتباعه وأنصاره من المسلمين والمسلمات بعدم إيذاء الناس للصلة ذات صبغة الرحمة بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تكون أطرافها :
الأول : الرسول.
الثاني : الرسالة .
الثالث : المرسل إليهم .
وإذ غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى فان القرآن باق في في الأرض ، وكل آية منه رسالة سماوية موجهة إلى أهل الأرض فيجب أن تأتي معها شآبيب الرحمة .
وكما أن الآية القرآنية رسول رحمة ورأفة للناس فكذا وظيفة المسلم بأن يكون رحيماً بالناس ، لا يبدأ الناس بالسوء ، ويتلقى بالعفو والصفح السوء في حال صدوره من الغير , قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] ( ).
وصارت هذه الوظيفة في هذا الزمان ، وانتشار المسلمين في أقطار الأرض حاجة لهم وللناس ليتحمل الذي يقوم بالإرهاب وزر الأذى الذي يلحق عامة المسلمين بفعله .
وهل يتضرر القرآن من الإرهاب والإرهاب الموازي ، الجواب لا , لعومات قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
ومن الشواهد دلالة آيات القرآن على النهي عن الإرهاب والتعدي , وكما حفظ الله عز وجل الأرض وجعل خيراتها وكنوزها في متناول الناس كافة , فإن الله عز وجل يحفظ القرآن برسمه ، وآياته ، ودلالاته ، ويمنع من تحريف كلماته.
الخامس عشر : قراءة في قانون منافع ذكر الموت , وقد ورد في الجزء السابق من ص 273 إلى ص277.
قد تقدم في الجزء السابق اقتراح إحصاء آيات القرآن التي تذكر الموت مع تأسيس ثمان قوانين وهي :
الأول : قانون الصلة بين آيات التذكير بالموت.
الثاني : قانون دلائل الإنذار في آيات الموت .
الثالث : قانون معاني البشارة في آيات الموت .
الرابع : قانون منافع ذكر الموت في الحياة الدنيا .
الخامس: قانون المنافع الأخروية لذكر الموت ( ).
السادس : قانون ذكر الموت صارف عن الإرهاب .
السابع : قانون آيات الموت حجة ودعوة للصلاح .
الثامن : قانون ذكر الأنبياء للموت , واتخاذه وسيلة للتوبة طريقاً للهداية والرشاد , (وأخرج أحمد عن وهب بن منبه ، أن عيسى عليه السلام كان واقفاً على قبر ومعه الحواريون وصاحب القبر يدلى فيه ، فذكروا من ظلمة القبر ووحشته وضيقه فقال عيسى : قد كنتم فيما هو أضيق منه في أرحام أمهاتكم ، فإذا أحب الله أن يوسع وسّع) ( ).
إن قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ]( ).
نص جلي بالتذكير بالموت , وهذا التذكير رحمة , وهو من منافع تلاوة القرآن في الصلاة اليومية وأيها أحسن للإنسان :
الأول : ذكر الموت .
الثاني : عدم ذكر الموت .
الثالث : كثرة ذكر الموت .
المختار هو الأخير و(عنِ ابن عُمَرَ؛ أنَّهُ قَالَ : ” كُنْتُ جَالِساً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ المُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟
قَالَ : أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً ، قَالَ : فَأَيُّ المُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟
قَالَ : أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْراً ، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ استعدادا أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ) ( ).
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بأن جعل ذكرهم للموت بصبغة التنزيل ، وهل يمكن القول أن المسلمين أكثر الأمم ذكراَ للموت ، الجواب نعم وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ويدل على كراهية الإنسان لحلول الموت في ساحته قوله تعالى [قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ).
وكثرة ذكر الموت تضييق لهذه الكراهية ، وباعث للسكينة في النفوس , ودعوة ذاتية لإستحضار ماهية العمل , وكيفية النجاة مما بعد الموت .
ومن خصائص الإنسان الإنشغال بأمور الدنيا إن لم يقصدها فهي تطلبه , مما يؤدي إلى نسيان الموت والغفلة عنه , وعن قانون إحتمال مباغتة الموت للإنسان في الليل أو النهار.
فجاءت آيات ذكر الموت دعوة سماوية للمسلم للإمتناع عن إرتكاب المعاصي وعن إلحاق الضرر بالآخرين سواء كانوا من أهل ملته أم غيرهم , وحتى تشريع غسل الميت وتكفينه وتشييعه والصلاة عليه والإستغفار له أمور تدعو مجتمعة ومتفرقة الإنسان إلى إدراك قرب الموت منه.
وفي ذكر الموت طاعة لله عز وجل ورسوله , و(عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أكثروا ذكر هادم اللذات ، فإنه لا يكون في كثير إلا قلله ، ولا في قليل إلا كثره) ( ).
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفظ (هادم اللذات) على ملك الموت عندما جاء ليقبض روحه .
إذ وقف على الباب بهيئة شبه أعرابي واستأذن بالدخول , فقالت عائشة لفاطمة عليها السلام : يا فاطمة اجنبي الرجل , فقالت فاطمة : (آجرك الله في ممشاك يا عبد الله ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشغول بنفسه.
فنادى الثانية فقالت عائشة يا فاطمة أجيبي الرجل فقالت فاطمة عليها السلام عنها آجرك الله في ممشاك يا عبد الله إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اليوم مشغول بنفسه .
ثم دعا الثالثة ثم قال السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة أأدخل فلابد من الدخول.
فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صوت ملك الموت فقال يا فاطمة من بالباب فقالت يا رسول الله ان رجلا بالباب يستأدن بالدخول فأجبناه مرة بعد اخرى فنادى في الثالثة صوتا اقشعر منه جلدي وارتعدت فرائصي) ( ).
فقال لها : أتدرين مَن بالباب , ولم ينتظر جواباً منها إذ أردف :
(هذا هادم اللذات ومفرق الجماعات هذا مرمل الأزواج , ومؤتم الأولاد هذا مخرب الدور , وعامر القبور , هذا ملك الموت عليه السلام ادخل يرحمك الله , يا ملك الموت , فدخل ملك الموت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا ملك الموت جئتني زائرا أم قابضاً قال جئتك زائرا وقابضا) ( ).
وتذكر أجيال المسلمين واقعة قبض روح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أخبر الله عز وجل عنها بقوله تعالى [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ]( ) ولمنع تفسير الآية أعلاه بالعموم وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد يرفع ويتأخر ويرجئ موته نزل قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ( ) .
لبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يموت بين ظهرانيكم , ويغادر الدنيا مثلكم , وعندما دنا أجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخبر عنه .
و(عن ابن عباس قال : لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح }( ) قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعيت إلى نفسي وقرب أجلي) ( ).
إن استحضار المسلمين لإنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى زاجر عن سفك الدماء ، وعن السعي في قتل الغير .
لتفيد الواو في (وقابضاً) التشريك والترتيب أيضاً.
ومن منافع ذكر الموت إقرار الناس بأنه جامع مشترك بين السابق واللاحق , فلا تصح الشماتة فيه , لمنافاتها للإنسانية والواقع , وكذا بالنسبة للإبتلاء , إذ أن الدنيا دار إبتلاء وما يبتلى به عبد قد يقع لمن يشمت به , إنما الحياة الدنيا دار إتعاظ .
وفي قوله تعالى [وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ).
(قيل معناه : مسّني الضر من شماتة الأعداء) ( ) .
أما يوسف عليه السلام (لمّا خرج من السجن كتب على باب السجن : (هذا قبر الأحياء ، وبيت الأحزان ، وحرقة الأصدقاء ، وشماتة الأعداء)، ثمّ اغتسل يوسف (عليه السلام) وتنظّف من قذر السجن، ولبس ثياباً جدداً حساناً، وقصد الملك.
قال وهب : فلمّا وقف بباب الملك قال (عليه السلام) : حسبي ربي من دُنياي، وحسبي ربّي من خلقه، عزّ جاره، وجلّ ثناؤه ولا إله غيره.
ثمّ دخل الدار، فلمّا دخل على الملك قال : اللهمّ إنّي أسألك عزّك من خيره، وأعوذ بك من شرّه وشرّ غيره.
فلمّا نظر إليه الملك سلّم عليه يوسف بالعربية( ).
فقال له : الملك.
ما هذا اللسان؟
قال : لسان عمّي إسماعيل ، ثمّ دعا له بالعبرانية.
فقال له الملك : ما هذا اللسان .
قال : لسان آبائي) ( ).
وكما يكره الإنسان زهوق روحه , ومغادرته الدنيا بالموت , فعليه أن يكره صيرورته سبباً لطرد الموت قتلاً من غيره , وبما تنخرم معه سنوات من عمره , ويطرأ اليتم والترمل على عيال المقتول بسبب ذات فعل القتل , لقانون هو النسبة بين القتل والإرهاب العموم والخصوص المطلق , فالإرهاب وضرره أعم .
وجاءت الكتب السماوية بالنهي عنه , وعندما أشعل رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول فتنة بين صفوف المسلمين ويحرض أصحابه على عدم الإنفاق في سبيل الله اقترح بعض الصحابة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتله ولكنه أبى وامتنع وصبر عليه .
(وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة في قوله : { هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله }( ).
قال : إن عبد الله بن أبيّ قال لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله ، فإنكم لو لم تنفقوا عليهم قد انفضوا ، وفي قوله : { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل }( ) .
قال : قد قالها منافق عظيم النفاق في رجلين اقتتلا أحدهما غفاري والآخر جهني ، فظهر الغفاري على الجهني ، وكان بين جهينة وبين الأنصار حلف ، فقال رجل من المنافقين : وهو عبد الله بن أبيّ ، يا بني الأوس والخزرج ، عليكم صاحبكم وحليفكم.
ثم قال : والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك . والله لئن رجعنا إلى المدينة [لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( )، فسعى بها بعضهم إلى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم , فقال عمر : يا نبي الله مر معاذاً أن يضرب عنق هذا المنافق .
فقال : لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه . وذكر لنا أنه كثر على رجلين من المنافقين عنده فقال عمر : هل يصلي .
قالوا : نعم ولا خير في صلاته . قال نهيت عن المصلين ، نهيت عن المصلين ، نهيت عن المصلين)( ).
لقد جعل الله عز وجل الإسلام دين الرحمة والألفة والتسامح , وحينما تظهر نقاط وثقوب سوداء في الحياة العامة لابد من التعاون لتداركها وإزالتها بالحكمة , ولا يختص هذا التعاون بالعلماء وأولي الأمر أو بخصوص المسلمين وحدهم , إنما هو وظيفة الناس جميعاً إذ يلتقون بتفضل الله عز وجل بخلقهم ورزقهم , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] ( ).
السادس عشر : قراءة في قانون آية البحث والدعاء , الذي ورد في الجزء السابق من ص284 إلى ص285.
قد تقدم الكلام باختصاص الجزء السابق بتفسير قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ).
في آية علمية وفيض من عند الله ، ودعوة للعلماء لإستقراء القواعد واستنباط المسائل ، وتأسيس القوانين من تجليات وتأويل الآية القرآنية وما فيها من الذخائر العلمية .
وذكرت الآية الموت مطلقاً ، وهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة من جهات :
الأولى : التباين في عمر الذي يأتيه الموت , فقد يأتي الموت للصبي والشاب والشيخ .
الثانية : قد يعمر الإنسان ويبلغ الهرم , قال تعالى [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ]( ).
الثالثة : حال الإنسان من حلول الموت , فقد يأتيه فجأة فلا يستطيع التوصية بالتوبة لذا تستحب كتابة الإنسان وصيته , وقد تكون الوصية واجبة كما في تفريغ الذمة من الواجبات , وقضاء الديون .
وقد يرحم الله عز وجل الإنسان فيجعله مستعداً للموت بلحاظ مقدماته وأماراته .
الرابعة : كيفية قبض ملك الموت لروح الإنسان بالرفق واللين بالنسبة للمؤمن الذي يغادر الدنيا بالصلاح والتوبة , أم بالشدة بخصوص الكافر الذي يصر على الكفر والجحود .
ومع هذا التباين في حالات الموت فإن الدعاء والتنزه عن الظلم واقية وحرز وسلاح .
ومنه سؤال طول العمر وإرجاء الأجل , قال تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ]( ).
وهل يصح الدعاء بخصوص الإرهاب في هذا الزمان , الجواب نعم من جهات :
الأولى : إجتناب الإرهاب .
الثانية : عدم نصرة أو تأييد الإرهاب .
الثالثة : التبرء من الإرهاب .
الرابعة : الأمر بالتنزه عن الإرهاب .
الخامسة : النفرة من الإرهاب .
السادسة : التفقه العام في الدين , إذ يتجلى معه القبح الذاتي للإرهاب.
فالدعاء عون لمعرفة الناس جميعاً بأن الإرهاب أذى وضرر محض , وهذا الدعاء لا يتعارض مع لزوم العمل بجد ومثابرة لإزاحة الإرهاب عن الواقع اليومي لأهل الأرض .
وقد بعث الله عز وجل الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لمنع الإرهاب وإخافة الناس في بيوتهم والمنتديات والطرق العامة , فمن حق كل إنسان أن يعيش بأمن وسلام مادام لا يرتكب الجرائم .
و(عبد الله بن مسعود – قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي العمل أفضل؟
قال : الصلاة على ميقاتها .
قلت : ثم ماذا يا رسول الله؟
قال : بر الوالدين . قلت : ثم ماذا يا رسول الله؟
قال : أن يسلم الناس من لسانك .
قال : ثم سكت ، ولو استزدته لزادني) ( ).
وجاء مفهوم النهي عن إيذاء الناس باللسان في الحديث أعلاه عاماً ، لا يختص بأهل ملة دون أخرى , مما يدل بالأولوية القطعية على عدم إيذائهم بالفعل.
(وأخرج البخاري في تاريخه وابن أبي الدينا في الصمت والبيهقي عن أسود بن أبي أصرم المحاربي قال : قلت يا رسول الله أوصني . قال : هل تملك لسانك .
قلت : فما أملك إذا لم أملك لساني . قال : فهل تملك يدك؟
قلت : فما أملك إذا لم أملك يدي.
قال : فلا تقل بلسانك إلا معروفاً ولا تبسط يدك إلا إلى خير) ( ).
وقيّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل اليد بأنه إلى خير وصلاح , وهناك تناف بين الإرهاب والخير في ذات الفعل والأثر , ويدل عليه كل من:
الأول : الشواهد اليومية .
الثاني : آثار الإرهاب والإغتيالات .
الثالث : التباين في السنخية وميل النفوس إلى الخير , ونفرتها من التعدي والإرهاب .
السابع عشر : قانون وهو أن الله عز وجل أنزل الكتب السماوية لتكون نوع طريق , وسبباً للرزق الكريم من السماء وكنوز الأرض ، وحسن الصلات بين الناس , وقد ورد في الجزء السابق ص8.
وتتفرع عن هذا القانون عدة قوانين لأن بركات التنزيل لا تنقطع إلى يوم القيامة , لبيان قانون من وجوه :
الأول : قانون التنزيل حاجة في كل زمان .
الثاني : قانون ملائمة القرآن لكل زمان , وهو من إعجازه والشواهد على نزوله من عند الله عز وجل .
ليكون من وجوه تقدير قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ) إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في كل زمان ومكان , وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن سبع عشرة مرة على نحو الوجوب العيني .
فإن قلت في صلاة الجماعة تجزي قراءة الإمام وهي قراءة للمأموم أيضاً , ومع هذا هناك من الفقهاء من قال بقراءة المأموم قراءة الفاتحة , وقال المالكية بأنها مندوبة في الصلاة الإخفاتية كصلاة الظهر , ومكروهة في الجهرية كصلاة المغرب .
وقال الحنفية بعدم جواز قراءة المأموم خلف الإمام .
ومن الفقهاء من ذهب إلى حرمة قراءة المأموم لتحقق الإجزاء بقراءة الإمام .
وفي رسالتي العملية (الحجة) ذكرت مسألتين :
(مسألة 819) (يتحمل الإمام القراءة في صلاة الجماعة ويكره للمأموم القراءة في الركعتين الأوليتين من الاخفاتية، ويستحب ان يشتغل بالتسبيح والتحميد والصلاة على محمد وآل محمد.
(مسألة 820) في الركعتين الأوليتين من الجهرية اذا سمع المأموم صوت الإمام ولو همهمة وجب عليه ترك القراءة وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، ويجوز في الاثناء الاشتغال بالذكر اخفاتاً وبقصد القربة المطلقة لا بنية الجزئية)( ).
الثالث : قانون التنزيل هو الصلة المباركة الدائمة بين أهل الأرض وأهل السماء.
ومن الآيات أن الملائكة هم الذين ينزلون بالوحي على الأنبياء , لتكون هذه الصلة من مصاديق قول الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في إحتجاجه على الملائكة حين قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ).
الثامن عشر : قراءة في قانون (آيات السلمِ محكمة غير منسوخة) وقد ورد في الجزء السابق ص8.
وهذا القانون بِكر ومستحدث ، وصدر بخصوصه من هذا السِفر كل من:
*الجزء الثاني بعد المائتين .
*الجزء الثالث بعد المائتين .
*الجزء الرابع بعد المائتين .
وسيأتي قانون (التداخل المبارك بين قانون) (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب)
ومن أسماء الله عز وجل السلام , وفي التنزيل [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( ) ونزل القرآن منهاجاً للإسلام ورائداً للسلم وإذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار السلم والأمن لأنها ملكه سبحانه , وفيه بعث للناس جميعاً للألفة وحسن العشرة .
ومن فضل واحسان الله سبحانه تعاهده لملكه واللطف بعباده لأنهم من هذا الملك , وفي التنزيل [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ] ( ).
التاسع عشر : قانون شواهد عدم نسخ آية [لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ]( ) ص9.
العشرون : قانون عموم الدعوة إلى الهدى ،قال تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ]( ) ص9 .
الواحد والعشرون : قانون منافع آيات الأنبياء, ص9.
الثاني والعشرون : قانون القسمة الثنائية لأشهر السنة , ص10.
الثالث والعشرون : قانون الشرك غيّ ، وفي وصية لقمان لابنه [لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( ), ص10 ( ).
الرابع والعشرون : قانون خصائص آية البحث [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ), ص10.
الخامس والعشرون : قانون عدم التعارض بين آيات الدفاع وإرادة السلم المستديم , ص10.
السادس والعشرون : قانون إبتداء المشركين بالقتال , ص10
السابع والعشرون : قانون القتال كبير , ص10.
الثامن والعشرون : قانون مكث النبي (ص ) في مكة جهاد وسلم لبيان عدم التعارض بين الجهاد والسلم ، وأن الجهاد لا يعني القتال وحده ,ص10 من الجزء السابق.
التاسع والعشرون : قانون وهو أن الجهاد واقية من القتال , ص10.
الثلاثون : قانون حرمة القتال في الأشهر الحرم , ص11 .
الواحد والثلاثون : قانون تفسير القرآن بعضه بعضاً , ص11.
الثاني والثلاثون : قانون إحصاء آيات السلم والسلام , وفي التنزيل [وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ]( ) , ص11 من الجزء السابق.
الثالث والثلاثون : قانون الأشهر الحرم نعمة متجددة , ص11.
الرابع والثلاثون : قانون التباين بين أيام العرب ومعركة بدر , قال تعالى مخاطباً النبي [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ) , ص11.
الخامس والثلاثون : قانون الصلاة سلم متجدد , ص11.
السادس والثلاثون : قانون تعدد موضوع آيات السلم , ص11.
السابع والثلاثون : قانون عدم نسخ آيات الموادعة , ص11.
الثامن والثلاثون : قانون إلغاء النسئ , ومن مصاديق هذا الإلغاء نعته بالكفر ، قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) , ص11.
التاسع والثلاثون : قانون تعضيد النبي (ص) للقرآن , ص11.
الأربعون : قانون شواهد الدفاع , ص11 من الجزء السابق.
الواحد والأربعون : قانون [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( ) يحكم الحياة الدنيا وأهلها ، فليس من إنسان إلا ويدركه الموت ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] ( ) , ص19.
الثاني والأربعون : قانون وهو حلول الموت بالناس جميعاً ، فهو قريب منهم ، وما يمر يوم على الإنسان إلا ويقترب فيه من أجله ، ويدنو منه كرب الموت ، إذ يزحف كل طرف منهما إلى الآخر من غير أن يتعارض هذا المعنى مع قوله تعالى [وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ]( ) , ص20.
الثالث والأربعون : قانون وهو أن ما بعد الموت حساب من غير عمل، وأن الآيات الكونية والمعجزات تشهد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على صدق رسالته ، وأن التكذيب بالنبوة والرسالة لا يجلب لأهله إلا الأذى والضرر ( ) وفي التنزيل [قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ *فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
الرابع والأربعون : قانون موت الأنبياء مع علو منزلتهم ، وشأنهم عند الله ، وحملهم للرسالة وقيامهم بالتبليغ والجهاد في سبيل الله ، قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( )،ص20.
الخامس والأربعون : قانون وهو أن الرسل السابقين قد ماتوا ، وكذا الذين صدّقوا بهم والذين كذبوا بهم في أيام رسالتهم ليبدأ عالم الحساب ، إذ أن الآخرة دار حساب من غير عمل , ص24.
السادس والأربعون : قانون وهو كل إنسان لابد وأن يغادر الدنيا ، وهذه المغادرة محصورة بهيئة واحدة وهي صيرورته جثة هامدة ، سواء بالموت أو القتل ، وقد ورد بخصوص السموات والأرض قوله تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] ( ), ص25.
السابع والأربعون : قانون إيمان جمع أو طائفة من الناس برسالة كل نبي، فليس من رسول إلا وهناك أمة يؤمنون برسالته ، ويصدقون بالمعجزات التي جاء بها, ص26.
الثامن والأربعون : قانون صيرورة الذين يصدقون بالرسول حجة على غيرهم من الناس , ص26.
التاسع والأربعون : قانون شدة الأذى الذي يلاقيه الرسول مع مجيئه بالمعجزة , ص26 من الجزء السابق.
الخمسون : قانون إيمان رهط من الناس برسالة النبي بعد مغادرته الدنيا,ص26.
الواحد والخمسون : قانون تعدد وتوالي بعث الرسل قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ص27.
الثاني والخمسون : قانون جحود الكفار المستقرأ من قوله تعالى[فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ] ( ),ص28.
الثالث والخمسون : قانون مجئ الأنبياء بالبينات والبراهين , ص28.
الرابع والخمسون : قانون الأنبياء بشر يطرأ عليهم الموت , ص28.
وورد في القرآن خطاب من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ]( ).
الخامس والخمسون : قانون مجئ الأنبياء بالزبر , ص28.
السادس والخمسون : قانون مع بعثة كل نبي هناك قانون وهو : تكذيب طائفة من الناس برسالته , ص30 من الجزء السابق.
السابع والخمسون : قانون الصلة بين قانون التكذيب هذا ، وهبوط إبليس إلى الأرض، الجواب نعم , ص31.
الثامن والخمسون : قانون وهو : أن التكذيب بالرسل لن يضر الدعوة إلى الله , ص31.
التاسع والخمسون : قانون مغادرة الدنيا بداية لعالم جديد , ص31.
الستون : قانون عالم الحساب والجزاء , ص32.
الواحد والستون : قانون رفع الضعف والذل عن المسلمين ، كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ…]( ),ص33.
الثاني والستون : قانون إنقطاع المعاناة في الأبدان , ص33.
الثالث والستون : قانون توالي أفراد الرزق الكريم ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا]( ), ص من الجزء السابق 33.
الرابع والستون : قانون تغير أحوال الناس في المدينة نحو الأحسن ، وإزدهار أسواقها بعد الهجرة النبوية إليها ليكون من الإستصحاب القهقري بيان قانون وهو : هجرة كل نبي بركة إلى الأرض والبلدة التي هاجر إليها, ص33 من الجزء السابق.
الخامس والستون : قانون إحتراز المسلمين من شرور المشركين سواء في مكة قبل الهجرة أو بعد الهجرة إذ يلزم هذا الإحتراز أهلية وتوفيقاً من عند الله , ص33.
السادس والستون : قانون الوحي ، فليس من نبي إلا ويوحي الله عز وجل له ، وبين الوحي للرسل والوحي للأنبياء عموم وخصوص مطلق ، فالوحي للرسل أظهر وأبين ، إذ أن الرسول يرى الملك عياناً ، ويسمع منه.
بينما النبي يسمع الوحي من غير أن يرى الملك ، وقد يأتي الوحي إلى النبي برؤيا منام ولكنه يدرك أنها وحي ، نعم لا يقف الأمر عند هذه الكيفية من الوحي إذ يسمع النبي الملك الذي يبعثه الله عز وجل ، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ]( ), ص34 من الجزء السابق.
السابع والستون : قانون المعجزة والأمر الخارق الذي يجري على يد النبي أو الرسول , ص35 من الجزء السابق.
الثامن والستون : قانون حتمية زيارة الموت لكل إنسان , وبه بُعث الأنبياء والرسل , ص41 من الجزء السابق.
التاسع والستون : من وظائف الأنبياء الإخبار عن قانون [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] , ص41.
السبعون : قانون وهو : التصديق بالأنبياء والرسل من أركان الإيمان,ص42.
الواحد والسبعون : قانون الإيمان بالله ، قال تعالى [وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ), ص42.
الثاني والسبعون : قانون الإيمان بالملائكة ، وهل يلزم معرفة بعض أسماء الملائكة مثل جبرئيل وميكائيل ، الجواب لا ، نعم في تعلمها أجر وثواب, ص42 من الجزء السابق.
الثالث والسبعون : قانون الإيمان بالكتب السماوية المنزلة ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ]( ),ص42.
الرابع والسبعون : قانون الإيمان بالرسل , ص42.
الخامس والسبعون : قانون الإيمان باليوم الآخر , ص42.
السادس والسبعون : قانون الإيمان بالقدر خيره وشره ، وفي التنزيل [وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا]( )، [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ]( ),ص43.
الثامن والسبعون : قانون : الدنيا متاع الغرور , ص45.
التاسع والسبعون : قانون[كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]أكبر وأعم من قول الجاحدين[إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ]( ), ص45.
الثمانون : الإشراقة اليومية للقانون السماوي [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( ) على النفوس والمنتديات , وهل فيه تعريض وتوبيخ للذين قالوا [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ] الجواب نعم( ), ص46.
الواحد والثمانون : قانون وجوب حق الله عز وجل في الأموال ، ولا يختص قانون الزكاة بالمسلمين، ولا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي عيسى ورد في التنزيل [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا]( ),ص56.
الثاني والثمانون : قانون وهو أن الموت يأتي على نفوس الجاحدين ، وينقلهم عن الدنيا إلى غير عودة أبداً كما ينقل الذين يؤدون الزكاة وينفقون في سبيل الله,ص61.
الثالث والثمانون : قانون وهو أن تلاوة القرآن جهاد ، ويغني عن العنف وعن القتال ويبين قبح الإرهاب , ص66.
الرابع والثمانون : قانون المسلمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر خمس مرات في اليوم ، بتلاوتها للقرآن في الصلاة ( ).
الخامس والثمانون : قانون العلة والمعلول , ص75.
السادس والثمانون : قانون : ملازمة قانون الزحزحة عن النار للناس في الحياة الدنيا ، فيدعوهم القرآن في كل يوم إلى الزحزحة عن النار ، وهذه الدعوة من تجليات تلاوة المسلمين لآية البحث في الصلاة والآيات التي تبعث النفرة من النار وتهدي إلى النجاة منها , ص75.
السابع والثمانون : قانون : موضوع الصراط المستقيم عام وشامل لأمور الدنيا والآخرة , ص77.
الثامن والثمانون : قانون الموت خاتمة حياة الإنسان في الدنيا ,ص78.
التاسع والثمانون : قانون الموت انتقال إلى عالم آخر , ص78.
التسعون : قانون الموت برزخ دون الغلو بالأنبياء والأولياء , ص78.
الواحد والتسعون : قانون الوعد بالأجر التام يوم القيامة ,ص78.
الثاني والتسعون : قانون الثواب الأخروي , ص79.
الثالث والتسعون : قانون إبعاد المؤمن من النار , ص79.
الرابع والتسعون : قانون الفوز هو دخول الجنة , ص79, قال تعالى [وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
الخامس والتسعون : قانون الدنيا متاع زائل , ص 79.
السادس والتسعون : تبين آية [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( ) قانوناً عاماً وباعثاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتبليغ ، ودعوة الصحابة والناس جميعاً للإنتفاع من علوم الوحي التي جاء بها ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ), ص79 من الجزء السابق.
السابع والتسعون : قانون وهو ليس من إنسان يبقى حياً في الدنيا ، فهي دار المغادرة ، لا تستطيع الوفاء بالصحبة لأحد ، وإن كان نبياً أو إماماً أو مصلحاً , ص83.
الثامن والتسعون : قانون تمام الأجور يوم القيامة لبيان حرمان الذين كفروا أنفسهم من هذه النعمة العظيمة ، إذ أن الأجر في الآخرة , فلابد أن يفارق الإنسان الدنيا وما فيها ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( )،ص84.
التاسع والتسعون : قانون مغادرة الإنسان وأسرته وأقاربه الحياة الدنيا ، كما غادرها آباؤه , ص95.
المائة : قانون قرب سلطان الموت ، قال تعالى [إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( )،ص95.
الواحد بعد المائة : قانون تضاد المعنى بلحاظ التباين الجهتي ، ومنه البشارات والإنذارات في القرآن , فهي بشارة للمؤمن ، وإنذار للكافر , ص102.
الثاني بعد المائة : قانون إتحاد اللفظ وتعدد المعنى , ص103.
الثالث بعد المائة : قانون إتحاد اللفظ وتعدد المقاصد والغايات ,ص103.
الرابع بعد المائة : قانون وحدة الخبر وكثرة دلالاته , ص103.
الخامس بعد المائة : إبتدأت آية [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( ) بقانون يشمل أهل الأرض كلهم ، فكما أن الإنسان خُلق من العدم ، ويخرج إلى الدنيا بالنكاح والوطئ بين الزوجين والحمل ، فانه يعود ويغادرها ولكن ليس إلى العدم إنما إلى عالم آخر أعظم , ص107.
السادس بعد المائة : قانون الحضور اليومي للموت في منتديات المسلمين ، والحضور الذهني لكل واحد منهم بتلاوة آيات القرآن التي تذكر بالموت ، والقطع بحلوله في ساحة كل إنسان يكون.
وهل يؤثر هذا الحضور على عالم الفعل والأخلاق الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ), ص107.
السابع بعد المائة : قانون يجب على الإنسان أن يجتنب السيئات التي تؤدي إلى العذاب ، وأن يجتهد في فعل الصالحات التي تدخله الجنة ، قال تعالى [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا]( ), ص109 من الجزء السابق.
الثامن بعد المائة : قانون التساوي بين الناس في خاتمة حياتهم بالموت,ص111.
التاسع بعد المائة : قانون الحياة الدنيا دار الغبطة والسعادة,ص112.
العاشر بعد المائة : قانون الموت خاتمة حياة كل انسان في الحياة الدنيا,ص112.
الحادي عشر بعد المائة : قانون استيفاء أجور عمل الصالحات يوم القيامة , ص112.
الثاني عشر بعد المائة : قانون الحاجة الخاصة والعامة للأجور يوم القيامة,ص112.
الثالث عشر بعد المائة : قانون الزحزحة عن النار لبيان أنه لطف ورحمة من الله عز وجل , ص112.
الرابع عشر بعد المائة : قانون البشارة بدخول الجنة ، وفيه بعث للسعي إليها ,ص112.
الخامس عشر بعد المائة : قانون كشف حقيقة الدنيا , وسرعة إنقضاء أيام الإنسان فيها ,ص112.
السادس عشر بعد المائة : قانون المبادرة لإكتناز الصالحات ، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ),ص112.
السابع عشر بعد المائة : قانون عدم الشماتة بأحد عند موته لأن الموت وأوانه وكيفيته بأمر الله عز وجل , وهو طريق كل إنسان ،ص116.
الثامن عشر بعد المائة : قانون وهو أن الموت عاقبة لعالم الأفعال ، وأن الإنسان يبتلى بتقريب أمور الخير والصلاح ، وبتزاحم ضروب من الإبتلاء ، ليكون إختباراً له ، ومناسبة لإختياره ، قال تعالى [أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى] ( ),ص122.
التاسع عشر بعد المائة : لقانون إستحضار الموت زاجر عن الظلم والتعدي ، كما صار الناس يسألون عن يوم القيامة وما فيه من الأهوال سواء عند تلاوة الآيات التي تذكر بالموت ما بعده من علوم الغيب ، أو عند الإنصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتناقل سنته من قبل المسلمين وغيرهم ، لذا تكرر السؤال عن الساعة ويوم القيامة أربع مرات في القرآن , ص125.
العشرون بعد المائة : قانون في الآخرة ،وهو القطع بسماع النداء الذي يأتي من بطنان العرش سواء كان هذا النداء عاماً أو خاصاً ,ص132.
الواحد والعشرون بعد المائة : قانون وهو أن أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرآة للقرآن ، وأنها مدرسة في البشارة للمؤمنين وإنذار ودعوة للتوبة للذين كفروا ، ثم بيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم في غفلة مما ينتظرهم من العذاب , ص134.
الثاني والعشرون بعد المائة : قانون وهو أن ميراث الملك والنعمة يتم بمشيئة من عند الله ،ص138.
الثالث والعشرون بعد المائة : قانون ذوق مرارة الموت ، قال تعالى [وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ]( ),ص140 من الجزء السابق.
الرابع والعشرون بعد المائة : قانون كل مصداق للعبادة إقرار باليوم الآخر وهل المراد مثلاً فريضة الصلاة مطلقاً أم خصوص كل فرض منها,الجواب هو الثاني , ص151.
الخامس والعشرون : قانون أداء الفريضة شاهد على التسليم بأن كل نفس ذائقة الموت ، وإقرار بعالم ما بعد الموت,ص152.
السادس والعشرون بعد المائة : قانون العبادة واقية من النار ، ليكون من مصاديق آية البحث فمن زحزح عن النار بأداء الفرائض العبادية ، فمن إعجاز القرآن كونه [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )،ص152.
السابع والعشرون بعد المائة : قانون زحزحة العبد عن النار كل يوم بالفرائض والتقوى ، فان قلت إنما وردت الآية بصيغة المبني للمجهول (زُحزح) وليس هو ذاته يزحزح نفسه,ص152.
الثامن والعشرون بعد المائة : قانون خاتمة آية[يَسْأَلُونَكَ],ص153.
التاسع والعشرون بعد المائة : قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة),ص156.
الثلاثون بعد المائة : قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً)،ص156.
الواحد والثلاثون بعد المائة : قانون مقدمات صلح الحديبية ,ص156.
الثاني والثلاثون بعد المائة : قانون النسوة في صلح الحديبية ,156.
الثالث والثلاثون بعد المائة : قانون صلح الحديبية , ص156.
الرابع والثلاثون بعد المائة : قانون وهن قريش ,156.
الخامس والثلاثون بعد المائة : قانون نزول الآية القرآنية برزخ دون سفك الدماء ,ص156.
السادس والثلاثون بعد المائة : قانون المشركون هم الغزاة في معركة بدر,ص156.
السابع والثلاثون بعد المائة : قانون آيات الدفاع سلام دائم ,ص156.
الثامن والثلاثون بعد المائة : قانون آيات السلم محكمة لبيان قانون وهو أن الله عز وجل أنزلها لتكون مناراً , وواقية من الإرهاب والقتل العشوائي,ص157.
التاسع والثلاثون بعد المائة : قانون شراء النفس بالصبر ,ص157.
الأربعون بعد المائة : قانون معجزات نوح زاجر عن الضلالة ,ص157.
الواحد والأربعون بعد المائة : قانون وجوب الملازمة بين الإيمان بالله وبين الوجود الإنساني ، ولو على نحو الموجبة الجزئية مع توالي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ,ص157.
الثاني والأربعون بعد المائة : قانون بخصوص معجزات الأنبياء,ص158.
الثالث والأربعون بعد المائة : قانون المعجزة النبوية دعوة للتوحيد,ص158.
الرابع والأربعون بعد المائة : قانون المعجزة النبوية رسالة أمن وسلام,ص158.
الخامس والأربعون بعد المائة : قانون المعجزة النبوية زاجر عن الإرهاب,ص158 من الجزء السابق.
السادس والأربعون بعد المائة : قانون بقاء منافع المعجزة النبوية إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار كون معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو القرآن عقلية ، قال تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( ),ص158.
السابع والأربعون بعد المائة : قانون التكافل الإجتماعي بين المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ),ص 162 من الجزء السابق.
الثامن والأربعون بعد المائة : قانون نؤسسه هنا , وهو عدم التعارض بين القرآن والعلم إلى يوم القيامة ,ص179.
التاسع والأربعون بعد المائة : قانون من الإرادة التكوينية وهو لا يقدر على توفير أرزاق الناس قبل أن يخلقوا إلا الله عز وجل، وفي التنزيل [وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ]( ),ص186.
الخمسون بعد المائة : قانون سلامة آيات السلم والصلح والموادعة من النسخ ، فلا أصل لما قيل بأن آية السيف نسخت نحو (128) آية، وليس في القرآن لفظ السيف ، وآية السيف هي [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ),ص188.
الواحد والخمسون بعد المائة : قانون إحصاء آيات السلم والصلح والصفح ,ص191 من الجزء السابق.
الثاني والخمسون بعد المائة : قانون أسباب نزول آيات السلم والعفو والموادعة ، وموضوعية السنة النبوية فيها,ص191.
الثالث والخمسون بعد المائة : قانون موضوع آيات السلم,ص191.
الرابع والخمسون بعد المائة : قانون عدم نسخ آيات السلم وبيان مصاديق قرآنية ، وشواهد نبوية تدل على هذا القانون,191.
الخامس والخمسون بعد المائة : قانون الجمع بين آيات السلم والعفو والصبر ,ص191.
السادس والخمسون بعد المائة : قانون منافع آيات السلم في كل زمان,ص191.
السابع والخمسون بعد المائة : قانون المكي والمدني في آيات السلم,ص191.
الثامن والخمسون بعد المائة : قانون آيات السلم في السنة النبوية القولية والفعلية ,ص191.
التاسع والخمسون بعد المائة : قانون وهو أن الصلاة من المشهودات ، وإن تفرق المصلون بعد أدائها , قال تعالى [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ),ص192 من الجزء السابق.
الستون بعد المائة : قانون من اللطف الإلهي وهو أن الفعل العبادي كالصلاة والصيام والزكاة أمر مشهود وباق ، وهو لا يغيب عن الله عز وجل ، إنما تظهر بركاته بأسباب جلب المنفعة ودفع المفسدة,ص193.
الواحد والستون بعد المائة : قانون عدم استثناء أي شخص من الموت ومغادرة الدنيا ، وذكرت الآية الموت باذاقته وهو من فضل الله بالتخفيف عن المؤمنين عند تلاوة الآية الكريمة,ص204.
الثاني والستون بعد المائة : قانون لغة وأحكام القرآن هي صبغة سماوية ، ومن الكلي الطبيعي الذي يشترك به كل المسلمين ، لذا تجب قراءة القرآن في الصلاة بالعربية ,ص204.
الثالث والستون بعد المائة : قانون : النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام في الإمتثال للأوامر الإلهية ، والأحكام الشرعية كي يقتدي به المسلمون ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ),ص224.
الرابع والستون بعد المائة : قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفطور على العدل والإنصاف والفضل من صغره ، كما في رضاعته من ثدي حليمة السعدية , مع أن الثدي الآخر لم يدر الحليب إلا ببركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم,ص229.
الخامس والستون بعد المائة : قانون ، وهو منع الغلو في شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والأئمة عليهم السلام,ص246.
السادس والستون بعد المائة : قانون تأسيس التنزه عن الغلو ثم تفضل الله عز وجل وأمر المسلمين والمسلمات بقراءة القرآن كل يوم خمس مرات في اليوم ، وكل مرة واقية من الغلو ,ص247.
السابع والستون بعد المائة : قانون وهو أن استحضار الإنسان للموت مناسبة للتدارك ، واللجوء إلى الإستغفار ودفع الكفارة ، وقضاء العبادات التي في ذمته ,ص273.
الثامن والستون بعد المائة : قانون الصلة بين آيات التذكير بالموت,ص274 من الجزء السابق من التفسير.
التاسع والستون بعد المائة : قانون دلائل الإنذار في آيات الموت,ص274.
السبعون بعد المائة : قانون معاني البشارة في آيات الموت,ص274.
الواحد والسبعون بعد المائة : قانون منافع ذكرالموت في الحياة الدنيا,ص274.
الثاني والسبعون بعد المائة : قانون المنافع الأخروية لذكر الموت,ص274.
الثالث والسبعون بعد المائة : قانون من الإرادة التكوينية يدل على ضعف الإنسان ، وملازمة الحاجة له مع احتمال مغادرته الدنيا في كل ساعة ، إلى أن تأتي الساعة التي تنقطع معها صلته مع الدنيا ,ص274.
الرابع والسبعون بعد المائة : قانون ذكر الموت قصر للأمل وترك للهث وراء ما هو فان وزائل ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( ),ص275.
الخامس والسبعون بعد المائة : قانون وهو : كل آية قرآنية تبعث على الدعاء ,ص285.
السادس والسبعون بعد المائة : قانون التباين بين المعجزة والسِحر ، ونزل القرآن ليخلد هذا القانون إلى يوم القيامة ,ص298.
السابع والسبعون بعد المائة : قانون حلول الموت في رحبة كل إنسان فيخطف روحه ، ويجعل من حوله يعجلون بدفن جثته ، ليطل على عالم الحساب ,ص301.
الثامن والسبعون بعد المائة : قانون المستقرأ من آية (ببدر) [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ),ص268.
التاسع والسبعون بعد المائة : قانون مقاليد الأمور وعنصر ومادة النصر أو الهزيمة بيد الله رب العالمين,ص268.
الثمانون بعد المائة : قانون[وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ), رحمة بالعالمين.
ومنهم كفار قريش أنفسهم ، فلم تمر الأيام والليالي حتى دخلوا الإسلام ص268.
قانون ترك العداوة والشحناء
لقد أنذر القرآن الناس من العداوة ومن وسوسة وإغواء وتحريض الشيطان , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) , وقال تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ] ( ).
فبينت الآية أعلاه أضرار الخمر والميسر والقبح الذاتي للعداوة بين المسلمين , وجاء القرآن بالتحذير من صيرورة العداوة لغة بين الناس , والإرهاب سبباً لنشر العداوة والبغضاء بين الناس , وكأنه دعوة للغير بالرد.
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين بترك العداوة , ومع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاض معارك عديدة فإنه حينما مات حزن عليه المسلمون والناس جميعاً , وكان من الصحابة من قُتل أبوه كافراً , ولكنه دخل الإسلام , ولازم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يفكر بثأر أو غيلة .
وأحد الصحابة كان واقفاً إلى جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر عندما قُتل أبوه وأخوه الوليد وعمه شيبة وهم كفار أصروا على القتال وطلب المبارزة .
وهو أبو حذيفة بن عتبة وعندما سُحب أبوه إلى القليب , فطن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحذيفة وقد تغير لونه , فلم يتركه بحاله , إنما سأله قائلاً : يا أبا حذيفة لعلك دخلك في شأن أبيك شئ , أي أصابك الحنق والغضب لقتله .
قال أبو حذيفة : لا .
(وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا شَكَكْتُ فِي أَبِي وَلَا فِي مَصْرَعِهِ كُنْتُ أَعْرِفُ مَنْ أَبِي رَأْيًا وَحِلْمًا وَفَضْلًا ، فَكُنْت أَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهُ ذَلِكَ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَمّا رَأَيْتُ مَا أَصَابَهُ وَذَكَرْتُ مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ بَعْدَ الّذِي كُنْتُ أَرْجُو لَهُ أَحْزَنَنِي ذَلِكَ) ( ).
أي أن أبا حذيفة ألقى باللائمة على أبيه , الذي تحدى المسلمين بطلب المبارزة , ومن عادة العرب وخطط الجيش مطلقاً إجتناب التضحية بأفراد أسرة واحدة أو قبيلة معينة .
ولكن عتبة بن ربيعة إبتدأ القتال بالتقدم هو ومعه ابنه وأخوه , وكان ابنه الآخر أبو حذيفة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من المسلمين الأوائل وسبق وإن هاجر إلى الحبشة .
ويقصد أيضاً من طلبهم المبارزة قتله وأصحابه , وكان حذيفة قد طلب مبارزة أبيه فمنعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وقالت أخته هند بنت ربيعة زوجة أبي سفيان تهجوه
(فما شكرت أبا رباك من صغر … حتى شببت شباباً غير محجون
الأحول الأثعل( ) المشؤوم طائره … أبو حذيفة شر الناس في الدين)( ).
(قال ابن الكلبي : لما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، شمتت به نساء كندة وحضرموت ، وخضبن أيديهن ، وأظهرن السرور لموته ، وضربن بالدفوف ، فقال شاعر منهم :
أبلغ أبا بكر إذا ما جئته … أن البغايا رمن شرَّ مرام
أظهرن من موت النبي شماتة … وخضبن أيديهن بالعنام
فاقطع هديت أكفهن بصارمٍ … كالبرق أو مض في متون غمام) ( ) .
ولا أصل لهذا الخبر , وعلى فرض وقوع مثل هذه الشماتة فالشعر أعلاه يتضمن الإفتراء ونعت النساء بالبغايا , ويمكن القول بقانون : ليس من أحد أظهر العداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا ندم على هذه العداوة , وتاب عنها , ولا عبرة بالقليل النادر .
لقد أثنى الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقال [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) لتكون سنته وما تتضمنه من الصفح والرفق والرحمة مانعاً من دبيب مفاهيم الإرهاب إلى المسلمين ومنتدياتهم وكتبهم.
قانون (تُرْهِبُونَ بِهِ) زاجر عن الإرهاب
قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ) .
لم يرد في القرآن لفظ (العنف) أو (التطرف) أو (الإرهاب) بمعناه وتعريفه ومصداقه الخارجي المتكرر .
وهو أعمال القتل وحجز الرهائن , والإختطاف وتفجير المفرقعات , وإثارة الخوف والفزع بين الناس , ومنهم من عَرّفه بأنه فعل منظم من أفعال العنف أو التهديد به , ولا ينسب الإرهاب إلى دين أو مذهب , وإن صار ظاهرة عالمية إلا أنه محدود في الأشخاص والفعل .
ووردت مادة (رهب) في القرآن في الخشية والخوف من الله عز وجل , قال تعالى [وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ).
لتدل في مفهومها على نهي المؤمن عن إرهاب غيره إنما يكون خائفاً مرتعباً من الله عز وجل مشغولاً بنفسه , ويستعد للقاء ربه والوقوف بين يديه .
وليس في قوله تعالى [ُ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ) إرهاب ولا تهديد ولا عنف ولا وعيد .
والقرآن يفسر بعضه بعضاً , ومن وجوه تفسير آية [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ] ( ).
مضامين قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وهل الصبر أو المصابرة أو المرابطة التي تذكرها الآية أعلاه من الإرهاب الجواب لا .
وليس من أحد يقول أنها من الإرهاب , وكل دولة ونحوها تستعد وتحشد الأسلحة , ولها جيش نظامي وآخر إحتياطي عند الطوارئ والشدائد مع عقوبات صارمة لمن يتخلف عن الدعوة للحضور .
ولم يكن عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جيش نظامي أو إحتياطي , إنما يدعو المسلمين للنفير عند الضرورة القصوى , فعندما صار ثلاثة آلاف من المشركين مدججين بالسلاح على بعد أربعة كيلو مترات من المدينة , دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه إلى الخروج لمواجهتهم ودل عليه قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) مع أن أخبارهم كانت تصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أول خروجهم من مكة .
نعم كان بعض الصحابة يزاولون التدريب على الرمي والسلاح , ومع هذا ترك الرماة مواضعهم , فوقعت خسارة فادحة في صفوف المسلمين , ولم يوجه لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم اللوم , ولم يقم بذمهم على المنبر , خاصة وأنه أوصاهم بعدم ترك مواضعهم في أي حال , وأخبرهم أن سهامهم من الغنيمة محفوظة .
وقال لهم : (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو و أوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم) ( ).
لقد وضع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خمسين من أصحابه الذين يجيدون الرمي على جبل الرماة , وكان عبد الله بن جبير أميرهم , وهناك مسألتان :
الأولى : هل هذا الوضع من مصاديق قوله تعالى [تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ] ( ).
الثانية : هل تحقق في وضع الرماة ترهيب للعدو .
والجواب نعم , إذ منع هذا الوضع خيالة المشركين من التقدم من خلف المسلمين , وكانت خيالتهم برئاسة عِكرمة بن أبي جهل , وخالد بن الوليد , وكلما تقدموا رشقهم الرماة بالسهام فرجعوا وفيه منع للمشركين من الإرهاب والإسراف في القتل خاصة وأنهم زحفوا أربعمائة وخمسين كيلو متر حتى وصلوا مشارف المدينة لإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وقد بينت أن تسمية معركة أحد بأنها غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا أصل له , ودرسنا في المدارس عدد غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنها (26) غزوة أو أكثر , ولا أصل لهذا القول , إنما كان المشركون هم الغزاة أو كانوا يحشدون الجيوش ويهمون بغزو المدينة وأكبرها وأكثر تأثيراً في التأريخ كل من :
الأولى : غزوة بدر .
الثانية : غزوة أحد .
الثالثة : غزوة الخندق .
الرابعة : غزوة حنين , قال تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] ( ).
وكل من هذه المعارك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون فيها مدافعين وليسوا غزاة إنما يذبون ويدفعون عن كل من :
الأول : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : النبوة .
الثالث : التنزيل .
الرابع : النفوس , بما فيهم عموم أهل المدينة , وكان فيهم المسلم والمنافق والكتابي والكافر .
الخامس : أموال أهل المدينة عامة , وليس عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أموال أو أنعام أو زروع , ولكن كان يدافع عن أموالهم جميعاً .
ويجري تحقيق في هذا الزمان عن أغنى رجل في العالم , ولو أجري تحقيق عن أقل قائد من العظماء مالاً في التأريخ لكان الأنبياء , لبيان قانون وهو أن الأنبياء لا يتركون خلفهم الذهب والفضة وبإمكانهم أن يكونوا أصحاب الأموال كما في سليمان عليه السلام الذي كان ملكه شاهداً على عظيم فضل الله عز وجل على الأنبياء .
ومن الإعجاز في الوزن الصرفي لكلمة (تُرْهِبُونَ) أنه يختلف عن الإرهاب , إذ أن معناه : تخيفون , وليس مزاولة ذات الإرهاب .
يقال رَهِب يرهب ضد رغِبَ , فمعنى يُرهب أي يُخيف مع الإحجام عن الفعل وعدم إتيانه , وكأنه يضع تصوره في نهج ومخطط لا يقوم بتنفيذه ومنه الرهبانية , واسم راهب , وهو المتعبد اسم فاعل صفة مشبهة من ترهيب يرهب , فيكون متقيداً بالخوف والخشية من الله عز وجل .
والحيطة من الوقوع في المعصية فقوله تعالى [تُرْهِبُونَ بِهِ] أي تجعلونهم يترددون بالهجوم والإغارة عليكم .
ولم تصف آيات القرآن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أو المسلمين بأنهم مرهبون لغيرهم بأفعال عدائية , إنما هو الإحتراز من أعداء الله , وهم مشركوا قريش .
والرهبة : الخوف والفزع .
فقوله تعالى [تُرْْهِبُونَ] أي تُخوِفون من غير غزو أو هجوم عليهم إذ أن كلمة [َأَعِدُّوا لَهُمْ] أي في موضعكم , وعملكم ويدل عليه قوله تعالى [وَرَابِطُوا].
وهل يدل قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ) إلى سباق تسلح بقصد التفوق على المشركين في العدة والسلاح.
الجواب لا , لتقيد الآية بالإستطاعة وبصيغة الماضي بقوله تعالى [مَا اسْتَطَعْتُمْ] ولم تقل (ما تستطيعون) .
فلا تدعو الآية إلى الإجتهاد والسعي في جمع الأسلحة وحتى بالنسبة للصدقات والأموال , والأصناف التي تصرف عليها الزكاة فجعلت هذا الإعداد والإنفاق العسكري جزءً يسيراً من ثمانية أجزاء , قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ) وفي رسالتي العملية (الحجة) ذكرت :
(السابع: سبيل الله وهو جميع وجوه البر الخير مما فيه تعظيم لشعائر الله كبناء المساجد وترميمها واعانة الحجاج ونشر الكتب الدينية واعانة العلماء وطلبة العلم ودفع الفتن بين المسلمين ونحوها)( ).
ومنهم من حصره بالجهاد والقتال , ونطرح مسألة مستحدثة وهي هل يصح الإنفاق من الزكاة في طبع الكتب التي تبين براءة الإسلام والنبوة والقرآن من الإرهاب الجواب نعم , إذ يصدق عليه أنه من مصرف [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ).
قانون (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) حصانة من الإرهاب
من أظهر مصاديق الإرهاب ثقافة الخوف العام وإرادة نشر الرعب , وهو قبيح ذاتاً , ويتنزه عنه القرآن والسنة النبوية , ليكون من إعجاز قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وجوه :
الأول : قانون النهي المتقدم زماناً عن الإرهاب , ففي كل زمان تطل الآية أعلاه على الناس لمنع الإرهاب.
الثاني : قانون ذم الإ رهاب والبراءة العقائدية منه في حال وقوعه .
ليكون من معاني الآية أعلاه توفير الأموال على الحكومات والأمم.
الثالث : قانون الدعوة لخلو الأرض من الإرهاب من غير أن تصرف مليارات الدولارات في محاربته وإستئصاله ومنع لحوق الضرر بعامة الناس وزهوق الأرواح .
الرابع : الحساب والعقاب الأخروي على الإرهاب .
الخامس : تبعث الآية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
السادس : قانون التعاون العالمي لنشر مكارم الأخلاق , ولغة الرفق والمودة , ونبذ العنف .
السابع : من مصاديق آية الرحمة العامة أعلاه قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يرضى عن الإرهاب والتجرأ في الدماء والإسراف في القتل , ومن صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
الأولى : لا يبدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتال .
الثانية : لا يخرج لقتال إلا إذا سمع بقدوم العدو أو علم أنه يجمع الجيوش للإغارة على المدينة , وهو لا يتعارض مع خروجه بسرايا استطلاعية حول المدينة .
الثالثة : إذ إلتقى المسلمون مع المشركين في موضع ولم يقع بينهم قتال يفرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويشكر الله عز وجل .
ومن أوائل سرايا المسلمين سرية حمزة بن عبد المطلب إذ عقد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم راية وبعثه إلى سيف البحر في ثلاثين راكباً من المهاجرين ليس فيهم أنصاري ، في شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة , أي بعد سبعة أشهر على هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فلقوا أبا جهل في الساحل في قافلة ومعه ثلاثمائة راكب من أهل مكة (فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ مَجْدِي بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيّ . وَكَانَ مُوَادِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا ، فَانْصَرَفَ بَعْضُ الْقَوْمِ عَنْ بَعْضٍ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ) ( ).
وتكرر لفظ (أسوة حسنة) في ثلاث آيات من القرآن مع التعدد في موضوع الأسوة واتحاد الموضوع وصفة الحسن وهي حسب نظم القرآن :
الأولى : [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]( ).
الثانية : [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ]( ).
الثالثة : [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
والمراد من الأسوة القدوة والإمامة , قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( )، ومن الإقتداء في المقام :
الأول : اليقين .
الثاني : الصبر .
الثالث : التقيد بأحكام الشريعة .
الرابع : الرأفة والرحمة للناس وحبس الغضب .
الخامس : أداء الفرائض العبادية في أوقاتها .
السادس : العفو والصفح .
وتجلت في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أبهى مصاديق العفو والصفح ، وهو من الشواهد على أن خلقه كان القرآن وفي كتيبة ذات الرقاع كما ورد عن جابر بن عبد الله في حديث( )، أنه كان مع النبي راجعين من نجد ، فأدركتهم قائلة الظهر في واد كثير العضاه ، بكسر العين ، وهو شجر كثير الشوك في الجملة ، وكان العرب يقيلون قبل الزوال آناً ما خاصة في حال السفر وشدته .
فنزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وتفرقوا يستظلون بالشجر .
ونزل رسول الله تحت سمّرة والجمع سمّر ، والسمّرة شجرة تنمو في الكثبان الرملية والسطوح الصخرية ، وفي بطون الأودية ، لتكون تذكيراً للناس في الفيافي والمفازة ببديع قدرة الله عز وجل ، وهي من اللطف الإلهي بالمسافرين لأنها عنوان الحياة ، واستدامتها ، وعبور الصحراء ، ليكون من معاني تسمية العرب الأسماء بضدها تفاؤلاً ، كما في:
الأول : تسمية الصحراء المفازة أي أنها مادة للفوز باجتيازها بسلام مع رجحان كونها مهلكة .
الثاني : تسمية الأعمى البصير ، وأبا بصير .
الثالث : تسمية المسحور (المطبوب) أي المداوى .
الرابع : تسمية الملدوغ السليم .
الخامس : تسمية القافلة تفاؤلاً بقفولها أي عودتها , لبيان أن لغة العرب لغة أدب وتفاؤل وأمل , وهو من أسرار نزول القرآن بالعربية قال تعالى [وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ]( ) وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتفاءل بالأسماء .
وعندما نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم علّق سيفه بالشجرة التي اضطجع في ظلها ونام قليلاً وإذا بأعرابي قد أخذ سيفه من على الشجرة واخترطه , وشهره فاستيقظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإذا السيف موجه نحوه , وقال الأعرابي مَن يمنعك مني .
فأجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الله , ثلاثاً .
فسقط الأعرابي على قفاه وفي رواية أن جبرئيل دفع في صدره .
وعن(جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وآله وسلم – قِبَلَ نَجْدٍ ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وآله وسلم – قَفَلَ مَعَهُ ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِى وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وآله وسلم – وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وآله وسلم – تَحْتَ سَمُرَةٍ وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ وَنِمْنَا نَوْمَةً ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وآله وسلم – يَدْعُونَا وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِىٌّ)( ).
فقص عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخبر , ولم يعاقب الأعرابي مما يدل على قانون التضاد بين السنة النبوية والعنف والإرهاب.
وتدل آية الأسوة أعلاه في مفهومها على أن الإرهاب خلاف نهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا فإن الإرهاب لا يأتي بخير ولا يجلب لأهله إلا الأذى .
وقد يقال إن بعض الجهات إتخذت من الإرهاب وسيلة لنشر الخوف بين الناس , أو لتأجيج الحنق على المذهب الذين ينتمون إليه , والجواب إنما يقع اللوم على الذي يقوم بالإرهاب ويفزع الآمنين وبالإمكان التدارك والإمتناع عنه .
ومن فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً وجود مصاديق وتجليات كثيرة لرحمة الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل زمان وصيرورة المسلمين وعددهم يفوق المليار فاعلين للخير , ينشرون ألوية السلام , ويميلون إلى الصلح والموادعة , ويبغضون العنف والظلم والتعدي , ولا عبرة بالأفراد القلائل الذين يخرجون عن المسار العام لمضامين الآية أعلاه .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقاء آيات القرآن غضة طرية إلى يوم القيامة لبيان قانون عدم طرِو التحريف على آيات القرآن رحمة بالناس في كل زمان , وهو من مصاديق الرحمة في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
ومن معاني الآية أعلاه بعث العلماء على التصدي للإرهاب بالحجة والبرهان وعلى الحجز والفصل بين الناس وبينه , ولا يختص الأمر بعلماء الإسلام أو علماء الشريعة وحدهم , وتتجلى صبغة العموم بالإطلاق في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
وليس من الصعب أو العسير على العلماء إيجاد الدليل على حرمة الإرهاب , فآيات وسور القرآن تتبرأ منه وتبعث النفرة منه .
وسيأتي قانون الآيات التي تنهى عن الإرهاب
و(عن العُرْس -يعني ابن عَميرة-عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شَهِدَها فكَرِهَها -وقال مرة: فأنكرها-كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فَرَضِيَها كان كمن شهدها)( ).
وهل القتل العشوائي للناس والتعدي في الأسواق والأماكن العامة والحافلات وغيرها من الخطيئة وخلاف منهاج النبوة , الجواب نعم , لذا فكراهية المسلم لهذه التفجيرات ونحوها وعدم رضاه بها نجاة له من الإثم بسببها , إنما يترتب الإثم على فاعلها , والذي رضي بفعله وإن كان بعيداً عنه في المكان والسكن .
و(عن أبي سعيد الخدري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام خطيبًا، فكان فيما قال: “ألا لا يمنعن رجلا هَيْبَةُ الناس أن يقول الحق إذا علمه)( ).
قانون المرابطة نقيض الإرهاب
يتضمن في هذا الجزء قراءة خاصة بلحاظ قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
وكيف أن النداء التشريفي الذي إبتدأت به الآية زاجر عن الإرهاب , وكل أمر من الأوامر الثلاثة الواردة فيها عصمة للمسلمين من الإرهاب والإرهاب الموازي , وعندما يتحلى الإنسان بالصبر تنكشف له حقيقة القبح الذاتي للإرهاب , ويشكر الله عز وجل على إجتنابه والإمتناع عنه , وليس من عاقبة لصاحب الإرهاب إلا أمور :
الأول : الخسارة العامة والخاصة .
الثاني : السخط من عامة الناس على مرتكب الإرهاب .
الثالث : الندامة والحسرة من قبل فاعل الإرهاب , ولو بعد حين .
الرابع : ترتب الضرر على ذوي الذي يقوم بالإرهاب , وصيرورتهم بحال من الإستحياء والحرج الشديد .
وهل يمكن القول بقانون وهو كل آية من القرآن تنهى عن الإرهاب الجواب نعم , إذ أن القرآن كلام الله عز وجل الذي أنزله رحمة للناس جميعاً , وجعله وسيلة الهداية والصلاح , وطريقاً مستقيماً للفوز باللبث الدائم في النعيم الأخروي .
وسيأتي في الأجزاء اللاحقة قانون الإرهاب خلاف الصراط المستقيم فالمسلم الذي يتلو قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) سبع عشرة مرة يجب أن يتنزه عن الإرهاب ومقدماته وتعضيده .
لقد ورد اسم (الرحيم) في القرآن 114 مرة عدا وروده في البسملة في بدايات سور القرآن بذات العدد ، كما ورد اسم (الغفور) إحدى وتسعين مرة في القرآن ، وذكرت اسم العفو في القرآن (خمس مرات) منها قوله تعالى [إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا]( ).
إذ تحث الآية أعلاه على نشر الفضيلة والتحلي بمكارم الأخلاق والعفو والتجاوز عن سيئات الغير طلباً لمرضاة الله ، وسعياً للفوز بعفوه ، وليس من إنسان بِراً أو فاجراً إلا وهو محتاج إلى عفو الله عز وجل ، لتبين الآية أعلاه قانوناً وهو أن الله عز وجل يأمر بالعفو مطلقاً التماساً ورجاءً لعفوه ، وفي التنزيل [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
أما كلمة (العنف) و(التطرف) فلم تذكرا في القرآن ، ولم يذكر لفظ أو معنى لمفهوم الإرهاب في هذا الزمان في القرآن ، وهي من شواهد على أن القرآن دين الرحمة .
نعم وردت آية واحدة بقوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( )، ويبين التدبر في هذه الآية الكريمة أنها ضد الإرهاب.
وقوله تعالى [تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ]( )، زجر للمشركين عن الإرهاب ، ومنع للمسلمين منه إذ : انها تبعث الخوف في قلوب المشركين من الهجوم على المسلمين ، وغزوهم لأنهم في حال تهيئ واستعداد للدفاع ، وأنهم يزاولون التدريب على السلاح ، ويضعون الحراس والعيون على أطراف المدينة وفي الثغور .
ومن إعجاز الآية أعلاه تعقبها بقوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( )، وفيه تأكيد لكون الإستعداد للدفاع مقدمة لصرف شرور المشركين ، ودعوتهم للمبادرة للسلم والرضا به.
وهل لآية [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ) موضوعية وأثر في حمل كفار قريش على الموافقة على عقد صلح الحديبية , الجواب نعم , لبيان أن قوله تعالى [تُرْهِبُونَ بِهِ] لا يتعدى معنى تخيفون .
أي وإن كان إعدادهم للسلاح والجيوش كافياً لهزيمة العدو , أو أنه أدرك قوتكم ومال إلى السلم فارضوا به , وهو من الشواهد على أن الآية أعلاه لا تدل على الإرهاب ولا طلب القتال .
والقرآن يفسر بعضه بعضاً فمن وجوه تفسير آية (وَأَعِدُّوا) قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) والذي يأتي بيان تفصيلي له في هذا الجزء( ).
إذ أن المرابطة ترهب العدو وليس فيها إرهاب ، كما أن قوله تعالى [تُرْهِبُونَ بِهِ] أي وأنتم في مدنكم وفي أماكنكم لا تسلون السيوف ، ولا ترمون السهام والنبال ، ولا تقصدون المشركين في ديارهم , وفيه تخفيف عن المسلمين , وهو من عمومات قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( ).
وقد اثنى الله عز وجل على آل زكريا بعد أن استجاب لهم قال تعالى [إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ]( )، فالمؤمن في حال رهبة وخوف ووجل من الله عز وجل ، وفي شغل عن إرهاب غيره ، وفي التنزيل [وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ).
ولما نزل قوله تعالى [أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ]( )، سأل رسول الله ( يا جبرئيل ما بقاء أمتي على ذلك ، فقال له جبرائيل : إنما أنا عبد مثلك ، فسل ربك .
فقام رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وتوضأ وصلى وسأل ربه فأعطي آيتين ومنع واحدة .
قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : سألته أن يبعد عن أمتي عذاباً من فوقهم ومن تحت أرجلهم فأعطاني ذلك ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني ، وأخبرني جبرئيل عليه السلام أن فناء أمتي بالسيف)( ).
وهل تؤدي مزاولة الإرهاب إلى الفتنة بين المسلمين ، الجواب نعم , ومن أقسام الإرهاب ما هو فرع التكفير الذي لا أصل له شرعاً وعقلاً ، لذا لابد من إصلاح النفوس للمنع منه ، وبيان أن الهدى بخلافه ، وأنه لا يؤدي إلى الصراط المستقيم.
ومن بين 6236 آية في القرآن ذكرت آية واحدة إرهاب العدو من غير فعل يضره ، إنما هو زجر لمشركي قريش ومن والاهم عن مواصلة الهجوم على المسلمين ، وإخافة الآمنين من المسلمين وغيرهم من سكنة المدينة .
ومن بين سبع وسبعين ألف وأربعمائة وتسع وثلاثين كلمة في القرآن وردت كلمة واحدة [تُرْهِبُونَ] فهل يصح الوقوف عندها , والإعراض عن مئات الكلمات التي تدعو إلى الرحمة والعفو والصفح وعدد حروف القرآن (323671) الجواب لا مانع من هذا الوقوف ، وهو مناسبة لكشف معناها ودلالاتها ، وكونها حرباً على الإرهاب .
فمعنى قوله تعالى [تُرْهِبُونَ] على وجوه :
الأول : إرادة التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بدفع كيد ومباغتة العدو من غير قتال , لفضل الله عز وجل في التخفيف عن المدينة وصرف كثرة القتال عنهم , ولعمومات قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ]( ) .
بلحاظ إرادة المعنى الأعم للآية أعلاه , وعدم إختصاصها بإباحة نكاح الإماء وضعف الإنسان امام المرأة .
الثاني : إحراز الأمن والسلامة للمسلمين ، ولمن معهم من أهل المدينة ومنهم اليهود .
الثالث : استمرار الحياة اليومية الرتيبة ، والعمل التجاري في المدينة من غير إرباك أو خوف .
الرابع : أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الصلاة بأمن وسكينة ، سواء في المسجد النبوي أو المساجد الأخرى التي أنشئت في المدينة قبل وبعد بناء المسجد النبوي ، وهو من الإعجاز في الهجرة النبوية .
الخامس : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة آيات القرآن التي تنزل عليه , وتبليغ المسلمين أحكام الحلال والحرام فتفضل الله عز وجل وأنزل تحت لواء السلم والأمن , قال تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وهل هو من أسباب معركة بدر وأحد ومن أسباب خيبة الكفار في قوله [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) الجواب نعم ، إذ شعرت قريش بالحنق على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة يدعو الناس إلى الإسلام .
وزاد حنقهم وغيظهم بأن استجاب له نفر وعدد من أهل مكة ، مع أن هذا العدد ليس كثيرا مع نزول سور قصيرة من القرآن تتضمن البشارة والإنذار والوعد والوعيد فعرضتّهم قريش لأشد ضروب العذاب ، وأرادت قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فاقترح على طائفة من أصحابه الهجرة إلى الحبشة ليكونوا في منآى وسلامة من أذى قريش ، ولأعطاء قريش رسالة بأنه لا يسعى لإغاظتهم باقامة أصحابه في المدن القريبة من مكة كالطائف ويثرب .
ولكن قريشاً تمادوا في غيهم ، وشرعوا بالتنفيذ الفعلي لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليهاجر في ذات ليلة التنفيذ ، ويبني المسجد النبوي في وسط المدينة ، وتتعدد مساجد المسلمين فيها ، وتصبح هذه المساجد حديث أهل مكة والوافدين إليها مع رجحان انتشار هذه المساجد في عموم الجزيرة لأصالة الإستصحاب , وهو دليل عقلي قبل أن يكون من مسائل علم الأصول ، فلم يطق رجالات قريش هذه الأنباء ، مع أن هذه المساجد خاصة لوجه الله في سنخيتها ووظيفتها ، قال تعالى [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا] ( ) أي أنها خالصة للعبادة ، وتكون رياضاً تبعث ضياء التوحيد في عموم الأرض ، وتزيح الشرك عن القلوب .
وهذا المعنى لا يتعارض مع إرادة أعضاء السجود من لفظ المساجد ، وذكر الزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرسلاً (أمرت أن أسجد على سبعة آراب( ) وهي الجبهة ، والأنف ، واليدان ، والركبتان، والقدمان وقيل : هي جمع مسجد وهو السجود) ( ).
واحتج بالآية أعلاه الإمام محمد الجواد عليه السلام عندما سأله الخليفة العباسي المعتصم عن موضع قطع اليد في السرقة ، عندما جاء سارق وأقر على نفسه عند الخليفة بالسرقة ، وقد قال الله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاًمِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ) فسأل الخليفة المعتصم سأل الإمام محمد الجواد عليه السلام عن موضع القطع فقال له : إنه من أصول الأصابع ، ويترك الكف ، فسأله الخليفة (وما الحجة في ذلك.
قال : قول رسول الله صلى الله عليه وآله : السجود على سبعة أعضاء : الوجه ، واليدين ، والركبتين ، والرجلين ، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وقال الله تبارك وتعالى : وأن المساجد لله ( ) يعني هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها ” فلا تدعوا مع الله أحدا( )، وما كان لله لم يقطع.
فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف) ( ).
وليس في بناء المساجد في المدينة المنورة ضرر على قريش كما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على إكرام البيت الحرام ، والبيان بالقول والفعل المائز بينه وبين عامة المساجد ، ومنه تفضل الله بتحويل قبلة المسلمين إلى المسجد الحرام .
لنبين هنا أن تطلع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتحويل القبلة في السنة الثانية للهجرة ، وتفضل الله عز جل بالإستجابة ، كما ورد في التنزيل [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ] ( ) ليكون هذا التحويل حجة على قريش بأن بناء المسجد النبوي والمساجد الأخرى إنما هو لتثبيت قدسية المسجد الحرام ، فلأول مرة يتوجه الناس من الأمصار إلى المسجد الحرام في صلاتهم .
والإستقبال لغة مصدر استقبل نحوه أي واجهه ، وصار قباله ، ويأتي بمعنى الإبتداء والإستئناف .
لتبرز إلى عالم الوجود حقيقة مستحدثة ، وهي استقبال أهل الأمصار للبيت الحرام وهم في حال خشوع وخضوع في الصلاة ، وعند ذبح الشاة ونحوها , ذكرت في رسالتي العملية الحجة مسائل :
(مسألة 16) يشترط في تذكية الذبيحة أمور منها :
الأول : جعل مذبح الذبيحة ومقاديم بدنها إلى القبلة.
(مسألة 17) لو ذبحها الى جهة غير القبلة فان كان عامداً حرمت الذبيحة وان كان ناسياً أو جاهلاً أو خطأ في ظن جهة القبلة أو في العمل لم تحرم.
(مسألة 18) لو لم يعلم جهة القبلة ويشق عليه انتظار السؤال أو لم يتمكن من توجيه الذبيحة اليها سقط هذا الشرط، ولا يشترط استقبال الذابح على الأقوى وإن كان هو الأولى.
الثاني: التسمية من الذابح بان يذكر اسم الله تعالى على الذبيحة حينما يشرع وينشغل بالذبح.
(مسألة 19) لو ترك التسمية عمداً حرمت الذبيحة وان كان نسياناً لم تحرم ما دام الذابح مسلماً وعليه النص والإجماع، أما لو لم يأت بالتسمية جهلاً بالحكم , وظناً بعدم وجوبها , فهل يلحق بالنسيان وتحل الذبيحة أم يلحق بالعمد وتحرم ، الجواب تلحق بالنسيان.
ومذاهب المسلمين على عدم حلية الذبيحة إذا ترك تسمية الله عز وجل عليها عمداً إلا الشافعية إذ قالوا بحلية ما ترك تسمية الله عز وجل عمداً.
الثالث : صدور حركة من الذبيحة بعد تمامية الذبح بلحاظ انها كاشفة عن وقوعه على الحي ولو كانت جزئية مثل ان تطرف عينها او تحرك اذنها او تركض برجلها او تحرك ذنبها ونحوه، ولا عبرة بالتقلص والإنقباض والإختلاج كالذي قد يحصل في المسلوخ.
(مسألة 20) لا يشترط خروج الدم المعتدل مع الحركة فلو تحركت الذبيحة بعد تمام الذبح ولم يخرج الدم او خرج متثاقلاً او متقاطراً لا ســائلاً ومعــتدلاً كفى في التذكية.
والأقوى كفاية أحد الأمرين من الحركة أو خروج الدم المعتدل وهو قول الأكثر، والظاهر موضوعية الحركة بعد الذبح( ) .
وقال الحنفية والمالكية والحنابلة باستحباب استقبال القبلة ، عند ذبح الذبيحة .
وعن الشافعي في المجموع / شرح المهذب (والمستحب أن يوجه الذبيحة إلى القبلة لانه لابد لها من جهة فكانت جهة القبلة أولى والمستحب أن يسمي الله تعالى على الذبح) ( ).
ومن خصائص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنزلة والشأن الرفيع للبيت الحرام في الموضوع والحكم ، وفي قوله تعالى [لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ ] ( )، ورد عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكبشين أملحين أقرنين، فسمَّى وكبر، ووضع رجله على صِفَاحهما) ( ).
قانون [ُُ تُرْهِبُونَ بِهِ] دعوة للسلام
إن قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ) أجنبي عن الإرهاب في إصطلاح هذا الزمان الذي يعني أفعال الرعب والقاء المتفجرات والتخريب عن تطرف , ولم يرد في كتب التفسير ومعاجم اللغة العربية القديمة كلمة (إرهابي) ولا الإرهاب بمعناه المتعارف.
(وعنِ ابن الأَعرابيّ أَرْهَبَ الرَّجُلُ إذَا طَالَ رَهَبُهُ أَيْ كُمُّهُ( ) والأَرْهَابُ بالفَتْحِ: مَا لاَ يَصِيدُ مِنَ الطَّيْرِ كالبُغَاث والإرْهَابُ بالكَسْرِ ؛ الإِزعاجُ والإِخَافَةُ تقُولُ :
ويَقْشَعِرُّ الإِهَابُ إذَا وَقَعَ مِنْهُ الإِرْهَابُ والإِرْهَابُ أَيْضاً : قَدْعُ الإِبِلِ عن الحَوْضِ وذِيَادُهَا وقد أَرهب وهو مجازٌ ومن المَجَازِ أَيضاً قَوْلُهُمْ : لَمْ أَرْهبْ بك أَي لَم أَسْتَرِبْ كذا في الأَساس)( ).
والتي تسبب الذعر العام ، وتؤدي إلى تعبئة الناس ضد الإرهاب مع بيان منبعه وأصله ويحاول بعضهم نسبته إلى الإسلام للفتنة والإضرار وهو برئ منه فقوله تعالى [تُرْهِبُونَ بِهِ]( )، لا يعني التوجه إلى جهة قتال أو إلى محل وموضع العدو ، أو مباغتته والهجوم عليه إنما هو زجر للعدو من داخل المدينة ومجتمع المهاجرين والأنصار فيها .
وهل يمكن تسميته بالإرهاب السلبي لأنه خال من معنى الهجوم والغزو، الجواب لا ، فلا صلة لقوله تعالى [تُرْهِبُونَ بِهِ] بالإرهاب بأي معنى من معانيه ، إنما تمنع هذه الآية من الإرهاب والإرهاب الموازي ، لتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على الدعوة لسلاح البرهان والمعجزة والإحتجاج ، وليس من حصر للآيات التي تنهى عن الإرهاب سواء في منطوقها أو مفهومها .
وتبين الآية وظيفة الحاكم ، وأولي الأمر بارهاب المشركين الذين هم أعداء الله والإيمان ليرتدعوا عن القتل والسبي وإتلاف الممتلكات .
وانتقلت آية [وَأَعِدُّوا لَهُمْ] إلى الإنفاق في سبيل الله ، لبذل المال في دفع الإرهاب ومنع العدو من الهجوم والإغارة ، ويدل قوله تعالى [وَمَا تُنفِقُوا]( )، على توالي انفاق المسلم في سبيل الله ، ويدل هذا التوالي على الإمتناع عن الإرهاب وأسباب ظلم النفس , وتعريض الذات والغير للضرر والتلف.
ومن إعجاز القرآن وحمله الناس على العناية به ، أن تجدهم يقفون عند كلمة واحدة منه من بين مجموع كلماته وآياته وسوره ، ليستقرئوا منها المسائل ، وتكون مادة للإحتجاج أو الجدال .
وقد يكون هذا الجدال شبهة بدوية تزول بأدنى تأمل وبالرجوع إلى كلمات وآيات القرآن الأخرى ، وبيان العلماء لمعنى تلك الكلمة ومناسبة الحكم والموضوع .
سواء في الإطلاق أو التقييد ، أو التوسعة والتضييق ، خاصة وأن إصطلاح الإرهاب ومعناه في الوقت الحاضر أمر مستحدث في ذاته وفي مصداقه الفعلي.
وسيأتي بيان قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
فلم تذكر الآية كراهية المسلمين للقتال فقط إنما ذكرت قانوناً وهو ذات القتال مكروه ومبغوض من قبل المسلمين والمسلمات.
وتبين الآية الكريمة الحاجة أيام التنزيل إلى الإحتراز من هجوم المشركين وكثرة الأعداء من جهات :
الأولى : أعداء الله الذين لا يتورعون عن الإرهاب ويبطشون بكل مؤمن وعامة أهل المدينة , ومنهم يهود بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع لتكون كلمة [تُرْهِبُونَ بِهِ] دفاعاً عن أهل المدينة جميعاً رجالاً ونساءً ومنهم اليهود ، وعن أموالهم.
الثانية : أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين امتنعوا عن التصديق برسالته ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، وحينما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مهاجراً إلى المدينة ، بقي عزمهم على قتله الذي ذكرته الآية أعلاه .
الثالثة : المنافقون الذين كانوا في المدينة وحولها , قال تعالى [وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ] ( ) لتكون النسبة بين الضمير (هم) في (وَأَعِدُّوا لَهُمْ) وبين الذين يرهبهم هذا الإعداد وهم أعداء الله عز وجل وأعداء المسلمين وغيرهم عموم وخصوص مطلق , فالذين يتهيأ ويستعد المسلمون لهم , أخص لبيان إخافة المشركين وأنصارهم والذين يكيدون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وصارت قريش تسعى لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وينفقون الأموال الطائلة لتحقيقه فقامت بتجهيز الجيوش لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن الدلائل على أن مشركي قريش هم الإرهابيون أن عدد أفراد جيشهم في كل معركة لاحقة أضعاف عددهم في المعركة السابقة كما في البيان المقارن الآتي :
المعركة الأولى : معركة بدر ، وعدد جيش المشركين فيها نحو ألف رجل ، وهم أكثر من ثلاثة أضعاف عدد المسلمين في ميدان المعركة ، ومع هذا أطلق الله اسم (الجمع) على كل منهما بقوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، أي أنهما بلحاظ وعرض واحد .
وكأّن الفارق والتباين الكبير في العدد والسلاح غير موجود ، وهو بشارة للمسلمين بالنصر وإنذار للمشركين بالهزيمة ، ومع هذه البشارة فان النبي محمداً لم يبدأ القتال ولم يدع اليه ، إنما كان يتطلع إلى منع القتال ، وكان يرقب الحركة داخل جيش المشركين .
ورآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صباح يوم معركة بدر أحد رؤساء المشركين راكباً جملاً أحمر وهو يطوف عليهم ويحدثهم فقال : إن يك في أحد من القوم خير فعند صاحب هذا الجمل الاحمر، إن يطيعوه يرشدوا( ).
إذ كان عتبة بن ربيعة يطوف على كتائب جيش المشركين يطلب منهم الإنصراف وإجتناب القتال.
وهل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا بالإجتهاد والفراسة والظن المعتبر والخبرة العسكرية أم بالوحي ، المختار هو الثاني.
وما المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم (يرشدوا) الجواب المقصود الإمتناع عن القتال ويمكن حمل الرشاد بخصوص المحل بلحاظ القرائن ، وفيه إشارة لقانون إمتناع المشركين عن القتال سبب ومقدمة لنجاتهم من القتل ، ولدخولهم الإسلام .
ومن الشواهد أن من بقي من المشركين حياً بعد معارك وغزو المشركين للمدينة دخل الإسلام ، سواء قبل فتح مكة أو بعدها .
وممن حضر معركة بدر ثم أسلم حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد القرشي الأسدي ابن أخي خديجة بنت خويلد إذ أسلم عند فتح مكة ، وهو من المؤلفة قلوبهم وممن أعطى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل واحد منهم مائة ناقة ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
ثم حسن إسلامه وكان من المعمرين ، ومات سنة أربع وخمسين للهجرة وكان عمره نحو مائة وعشرين سنة.
(عن الزهريّ أن حكيماً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عما يدخل الجنَّة، قال:لا تسأل أحداً شيئاً.
فكان حكيم لا يسأل خادمه أن يسقيه ماءً، ولا يناوله ما يتوضأ به.
وقيل أنه حضر يوم عرفة ومعه مائة رقبة( ) ومائة بدنة , ومائة بقرة , ومائة شاة , وقال: هذا كلُّه لله.
فأعتق الرقاب، وأمر بذلك فنحر.
وباع دار الندوة من معاوية بمائة ألف درهم، وقيل بأربعين ألف دينار وقال : والله إن أخذتها في الجاهلية إلا بزقِّ خمرٍ واشهدوا أن ثمنها في سبيل الله)( ).
وذكر أن الذي باعها هو عكرمة بن عامر بن هاشم من بني عبد الدار وهو معدود في المؤلفة قلوبهم( ).
وكان قد تخلل الإعداد السريع للنفير , والخروج إلى بدر كراهية ذوي الرأي هذا الخروج ، إنما أبطأوا وأظهروا النية على القعود ومنهم :
الأول : الحارث بن عامر.
الثاني : أمية بن خلف.
الثالث : عتبة وشيبة ابنا ربيعة.
الرابع : حكيم بن حزام.
الخامس : أبو البختري .
السادس : علي بن أمية بن خلف.
السابع : العاص بن منبه( ).
ولكن أبا جهل نعتهم بالجبن وصار يوبخهم وأعانه كل من عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث بن كلدة.
المعركة الثانية : معركة أحد : وهي التي وقعت في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة على مشارف المدينة المنورة بعد أن أطل عليها ثلاثة آلاف رجل من المشركين مدججين بالسلاح ويلقون هم والنساء اللاتي معهم القصائد والأشعار الحماسية مع هجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والوعيد بقتلهم ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل زحف قريش هذا من الإرهاب.
الثانية : هل نزل القرآن لمنع مثل هذا الزحف ، أم أن نزول القرآن هو السبب بحدوثه ، فلولا نزول القرآن ما تقاتلت قريش مع أهل يثرب من الأوس والخزرج .
أما المسألة الأولى فالجواب عليها أن هذا الزحف من الإرهاب العام والإخافة لكل من :
الأول : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : القرآن بشخصيته المعنوية وإرادة إيقاف نزول آياته التي كانت تتوالى بالبشارة والإنذار , وبيان الأحكام .
الثالث : المهاجرون .
الرابع : الأنصار .
الخامس : أهل المدينة .
السادس : المسلمون والمسلمات الذين بقوا في مكة ، وتعذرت عليهم الهجرة .
السابع : عامة أهل مكة لمنعهم من دخول الإسلام ، ومحاولة إيقاف سخريتهم من قريش لهزيمتهم في معركة بدر ، مع رجحان كفتهم في العدد والعدة ، وإصرارهم على القتال فيها ، فاذا كان طرف يحتمل هزيمته في المعركة فعليه أن يطلب العافية ، ولا يصر على دخولها .
الثامن : رجال القبائل والقرى في الجزيرة ، ليكون من معاني [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ) موضوعية مكة في أحوال الناس في الجزيرة ، فأرادت قريش الحفاظ على شأنها ، وطرق قوافلها بالبطش والإنتقام من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
لقد كان إرهاب قريش يشتد ويتسع مكاناً وأثراً مع نزول كل سورة من القرآن ، ولكنه لم يمنع من توالي نزول الآيات والسور ، وفي التنزيل [وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ).
ليكون هذا النزول سبباً لقهر قريش وإرجاع كيدهم إلى نحورهم ، ومنه رجوعهم خائبين من معركة أحد بعد أن كانوا يتوعدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لسنة كاملة ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وإلى جانب المدد من الملائكة الذين نزلوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بفضل ورحمة من الله عز وجل فقد ورد (عن ابن عباس أن أربعين من أصحاب النجاشي قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشهدوا معه أحداً فكانت فيهم جراحات ولم يقتل منهم أحد ، فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا يا رسول الله : إنا أهل ميسرة فائذن لنا نجيء بأموالنا نواسي بها المسلمين فأنزل الله فيهم { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون }( ) إلى قوله : { أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا }( ) فجعل لهم أجرين ، قال : { ويدرءون بالحسنة السيئة }( )
قال : أي النفقة التي واسوا بها المسلمين فلما نزلت هذه الآية قالوا : يا معاشر المسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم }( ) فزادهم النور والمغفرة) ( ).
أما المسألة الثانية أعلاه فان القرآن نزل لوقف ومنع زحف جيوش المشركين على المدينة ، وعدم الحاجة لموضوع زحف المسلمين على المشركين لصيرورة الأمر سالبة بانتفاء الموضوع ولم يكن نزول القرآن سبباً للمعارك إنما رحمة وخير محض , ولكن المشركين أصروا على عبادة الأصنام والظلم والقتال دونه , ويمكن إنشاء قانون وهو حرمة القتال والتفجيرات ظلماً وتعدياً .
فمن فضل الله عز وجل على الناس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغادر الدنيا إلى الرفيق الأعلى حتى دخل أهل الجزيرة الإسلام ، وسميت السنة التاسعة من الهجرة النبوية (عام الوفود).
قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] ( ).
المعركة الثالثة : جمع قريش الجيوش من أهل مكة والقبائل والقرى للهجوم على المدينة , وتبين الوقائع أن المشركين كانوا مصرين على إقتحام المدينة بدليل توجههم مباشرة إليها لولا أنهم تفاجئوا بحفر المسلمين خندقاً حولها .
وتبين آيات القرآن هذه الحقيقة بما يفيد دعوة الله عز وجل المسلمين للشكر له سبحانه , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ] ( ).
لقد زحف عشرة آلاف رجل من المشركين على المدينة مما يدل على أنهم هم الغزاة في هذه المعركة وحتى تسميتها من عند الله عز وجل بالأحزاب حجة على الذين كفروا وبراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغزو .
قال تعالى [يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ]( ) وسميت السورة باسمها لتأكيد أن المشركين هم الذين قاموا بتجنيد الأحزاب وغزو المدينة .
قانون بعثة الأنبياء حصن من الإرهاب
قال تعالى [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا]( ).
لقد تفضل الله عز وجل بخلق آدم أبي البشر في الجنة وهو من الشواهد على إكرام الله عز وجل للناس جميعاً ، وحينما أكل وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عنها نسب المعصية إلى إبليس ، قال تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ]( ).
وهذه النسبة من الشواهد على أن القرآن نازل من عند الله فلا تجرأ أو تقدر العقول على هذه النسبة وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( )، لأن الأصل في الجناية تحمل المباشر لها وليس المسُبب إلا مع القرينة الصارفة ، كما مثلاً لو ضربت سيارة كبيرة سيارة صغيرة واقفة من الخلف فدهست هذه السيارة الصغيرة شخصاً ، فتكون نسبة الجناية إلى المسبب بالدهس ولا تعفي نسبة الإزلال إلى إبليس آدم وحواء من جزء من مسؤولية الآكل .
لقد أشار إبليس على آدم وحواء بالأكل من الشجرة وأنه ناصح لهما وفي التنزيل [وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ]( )، وفيه بخصوص موضوع الجزء السادس بعد المائتين من تفسيرنا للقرآن (التضاد بين القرآن والإرهاب) مسألتان :
الأولى : التحذير للمسلمين والناس جميعاً من التحريض على الإرهاب ، ومن الإعانة عليه ، وإن ألبسه بعضهم من غير دليل : رداء النصح والإيمان.
الثانية : الإنذار للشباب بأن لا يلتفتوا لمن يدعو إلى التطرف ، أو يحرض على العنف والإرهاب .
الثالثة : التحلي بالصبر والتقوى ، والإحتراز من الإضرار بالغير.
لقد كان آدم عليه السلام نبياً رسولاً مما يدل على أنه أول المبشرين والمنذرين ، ومع هذا قام أحد ولديه وهو قابيل بقتل أخيه هابيل .
وهل تلقى أولاد آدم البشارة والإنذار الجواب نعم ، ومع هذا لم ينتفع قابيل منها ، وصار يترصد هابيل وهو الذي يسمى في العلم الجنائي بالترصد وسبق الإصرار ، وقد حزن آدم عى هابيل .
وهل ابتدأ الإرهاب من إمتناع إبليس أم من قتل قابيل المختار هو الثاني.
وعن عبد الله بن مسعود عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : لا تُقتَل نفس ظلمًا، إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، لأنه كان أول من سن القتل( ).
وفي الحديث تحذير من مزاولة الإرهاب وافتتان بعضهم به.
ولقد لازمت النبوة الوجود الإنساني في الأرض فلم يهبط آدم إلا وهو نبي رسول فهل لهذه الملازمة من موضوعية , في الزجر عن الإرهاب ، الجواب نعم ، لأن الأنبياء يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة ويتحملون الأذى في تبليغ الأحكام ، قال تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ]( )، وقال تعالى[وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ]( )، ليكون هذا الصبر حصناً وواقية من الإرهاب وإخافة الناس , قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
ويمكن إنشاء قانون وهو كل رسالة نبي دعوة للتعايش السلمي ونبذ للعنف وموضوعية المواطنة في هذا الزمان إذ يتساوى أبناء البلد الواحد في الحقوق والواجبات أمام القانون وهو من عمومات قوله تعالى[وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] ( ).
لقد كان المشركون يقصدون الإبادة الجماعية للمسلمين وقال أبو جهل في معركة بدر أن محمداً وأصحابه أكلة جزور ولما بعثت قريش عشية معركة بدر عمير بن وهب الجمحي ليحرز لهم أصحاب محمد.
(فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون ولكن امهلوني حتى انظر أللقوم كمين أو مدد قال فضرب في بطن الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا فرجع إليهم.
فقال ما رأيت شيئا ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب( ) تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ الا سيوفهم والله ما أرى ان يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم فإذا اصابوا منكم عدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة فقال يا ابا الوليد انك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها هل لك إلى ان لا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر.
قال عتبة وما ذلك يا حكيم .
قال ترجع بالناس وتحمل امر حليفك عمرو بن الحضرمي قال قد فعلت انت علي بذلك انما هو حليفي فعلى عقله وما اصيب من ماله فائت ابن الحنطلية يعنى ابا جهل بن هشام.
ثم قام عتبة خطيبا : فقال يا معشر قريش انكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا صلى الله عليه وسلم واصحابه شيئا والله لئن اصبتموه لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه وابن خاله ورجلا من عشيرته فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب فان اصابوه فذاك الذى اردتم وان كان غير ذلك الفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون .
قال حكيم فانطلقت حتى جئت ابا جهل فوجدته قد نثل( ) درعا له من جرابها .
فقلت له يا ابا الحكم( ) ان عتبة ارسلني اليك بكذا وكذا للذى قال فقال انتفخ والله سحره حين رأى محمدا واصحابه كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وما بعتبة ما قال ولكنه قد رأى ان محمدا واصحابه اكلة جزور وفيهم ابنه قد تخوف عليه)( ).
ثم حرض أبو جهل جيش المشركين على القتال ، وقطع طريق الهدنة والفصل بين الجيشين ، وهذا التحريض من أشهر ضروب الإرهاب .
قانون إتصال بشارة وإنذار الأنبياء
قال تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
اليوم هو السبت الأول من شهر صفر من السنة 1442 للهجرة النبوية إذ ثبتت عندي رؤية الهلال البارحة بالعين المجردة( ).
لوقوع الغزو بين القبائل فيه بعد الحرام فيجعلون البيوت صفراً من المتاع وهو من أسباب تطير العرب من هذا الشهر , ولكن بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين , ومن مصاديق الرحمة والأمن والسلام في هذا الشهر وعموم أشهر السنة الحل والحرم الأمن العام في الأشهر الحرم والأشهر الحل , فيجب أن يشكر المسلم الله عز وجل على نعمة الأمن هذه ويتجنب التعدي والإرهاب والظلم
ومن قوانين الإرادة التكوينية في الأرض الملازمة بين النبوة وعمارة الإنسان للأرض ، فأول من هبط إليها آدم وحواء ، وكان آدم رسولاً نبياً ، كلمه الله عز وجل قُبلاً ، وسكن في الجنة فترة وجيزة ، واتصل بالملائكة ، وأكرم الله عز وجل المرأة إذ خلقها في الجنة ، وهبطت مع آدم إلى الأرض بعد أن أكلا من الشجرة .
ولو كان آدم وحده قد أكل من الشجرة ، لصارت النساء تعيّر الرجال ، وتنسب لهم علة مغادرة الجنة ، وتحمل مشاق الدنيا ، قال تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ]( )، والأصل في الجناية المباشر ، ولكن هذه النسبة لا تعفي آدم وحواء من المسؤولية تماماً ومما يتحمله إبليس هو الإزلال والغواية والتسبيب بإخراج آدم وحواء من الجنة لقوله تعالى [فَأَخْرَجَهُمَا] ليتعظ ويتوقى الناس من نزغ ووسوسة الشيطان ، ومنه العداوة والبغضاء بينهم والتكفير بغير حق .
وهناك مسألتان :
الأولى : التحذير من التحريض على الإرهاب .
الثانية : الإنذار للشباب بأن لا يلتفتوا لمن يدعو إلى التطرف والعنف والإرهاب ، ويقوم بتكفير مئات الملايين من المسلمين وأهل الكتاب .
وكان آدم مبشراً ونذيراً ، وهل أنذر أولاده من الإرهاب ، الجواب نعم ، ومع هذا قام قابيل بقتل هابيل بسبب قبول قربان هابيل وعدم قبول قربانه .
وهل ابتدأ الإرهاب من استكبار ابليس عن السجود لآدم ، أم من قتل قابيل لهابيل ، المختار هو الثاني ، وليس من نبي إلا وقد تعرض للإرهاب والطرد من القرية أو المصر هو ومن معه ، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه تعرض وأصحابه للإبادة الجماعية وكان قتاله دفاعاً وضرورة قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وهل الذي يقوم بالإرهاب ممن ذكرته الآية [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، الجواب إنما اشترطت الآية الإيمان والإصلاح وهو فرع الصلاح ، والإرهاب نقيض الإرهاب .
وفي النهي عن التشديد على النفس والغير ورد (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ ، وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ) ( ).
لقد جاء القرآن بتوثيق صبر الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل بالبشارة والإنذار لتكون حاضرة في الواقع اليومي للمسلمين والمسلمات , وهي رافد للتنزه عن الإرهاب والظلم .

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn