معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 211

المقدمـــــــــــــة
بسم الله خير الأسماء ، بسم الله [الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ] ( ) .
الحمد لله الذي أحاط بكل شئ علماً , فضلاً منه على الخلائق ورحمة بهم , ومن علمه تعالى أنه يمنح الإنسان الخلافة في الأرض , ويمده بأسباب التمكين , وتنجيز العلة الغائية من هذه الخلافة , وهي عمارة الأرض بعبادة الناس لله عز وجل ، وترتب الثواب العظيم عليها , قال تعالى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
ومن معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) جذب الناس إلى سبل الهداية والرشاد ويكون هذا الجذب بلطف وعون من الله عز وجل , قال تعالى [وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ) ويكون العمل الصالح مناسبة للإقتداء سواء كان واجباً عينياً أو كفائياً ، ومندوباً ذاتياً أو غيرياً .
ويكون الذنب على نحو الفرد والقضية الشخصية في الغالب, أما المغفرة من الله عز وجل فليس من حصر لها من جهات :
الأولى : أوان المغفرة .
الثانية : كيفية المغفرة .
الثالثة : سعة المغفرة وصيغة العموم فيها , فإذا أنعم الله عز وجل فإنه ينعم بالأتم الأكمل ، ومنه غفران الذنوب وهو من عمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
الحمد لله رب السموات والأرض وما بينهما , وإله الخلائق جميعاً الذي تفضل بإيجادها من العدم رحمة منه , وبياناً لعظيم قدرته وإنفراده بالسلطان وفي التنزيل [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
الحمد لله الذي جعل كل فرد من الإنس والجن وعموم الخلائق محتاجاً إليه وهل من ملازمة بين هذه الحاجة وبين تسبيح الخلائق ، الجواب نعم , قال تعالى [يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
وهل تدخل وتشترك السموات والأرض بهذا التسبيح , الجواب نعم، واستجابتها من معاني إطلاق الآية أعلاه وشمول الضمير (ما) لكل جزء منها , ويدل عليه قوله تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ]( ).
الحمد لله الذي أنزل الكتب السماوية على الأنبياء وجعل الناس يدركون بالفطرة أنها من عند الله عز وجل , وينجذبون إليها ويجتهدون بالعمل بأحكامها , وتلقي البشارات التي وردت فيها بالتصديق والسعي في مسالكها ، وهذه البشارات ليست مجردة إنما هي منهاج للعمل , وخارطة طريق في سبيل الهدى والرشاد .
وكانت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من البشارات التي جاءت بها الكتب السماوية ليكون من معاني البشارة برسالته توارث وجوب التصديق بها , ومن الآيات أن أمر الله عز وجل إبراهيم وإسماعيل ببناء البيت الحرام , قال تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
ليكون دعوة لأجيال الناس للعبادة ، وإنشاءً لمدينة مكة وبداية الضياء الذي ينبعث منها إلى يوم الدين , ومقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولبيان قانون عدم الإنحصار المكاني أو الزماني في الدعوة إلى الله عز وجل ، إذ تعاهد أبناء إبراهيم عليه السلام في الشام ثم في مصر سنن التوحيد ، وأقام إسماعيل وأبناءه عند البيت الحرام لتوارث الإيمان .
وقد بذل العلماء الوسع في إستقراء آيات الأحكام القرآنية، وحصرها وبيانها وقيل أنها نحو خمسمائة آية، ولكنا أكثر وأعم، بلحاظ أن العدد أعلاه يخص الآيات التي تتضمن أصول التشريع، وموضوعات علم الفقه الذي هو حاجة وضرورة للناس مجتمعين ومتفرقين .
وقد أدخلتُ علم سياق الآيات , وعلم الصلة بين أول ووسط وآخر الآية في التفسير ، وكل فرد منهما مناسبة لإستنباط المسائل وتأكيد للأحكام ومنع للخلاف والشقاق .
وكل آية من القرآن فيها حكم أو تأكيد لحكم سواء بمنطوقها أو بلحاظ مفهوم الموافقة أو مفهوم المخالفة .
وتتجلى في المنهجية الجديدة في هذا السِفر المبارك إشراقات موضوعية وحكمية في الجمع بين الآيات ، وإستنباط الأحكام من الصلة بين كل آيتين من القرآن، وفيه إستظهار لعلوم ودرر من ذخائر القرآن، لتكون رؤية الناس لشواهد التنزيل آيات يومية أخرى من بديع صنع الله عز وجل ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ).
فيرى المسلمون آيات الآفاق والنفوس، ويأتي القرآن لبيانها وتوكيدها والدعوة للإلتفات إليها، وإستخراج الدروس منها بما ينفع الناس في الدنيا والآخرة، ويمنع أسباب الضلالة من الإستيلاء على النفوس .
وفيه شاهد على صدق نبوة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وبيان للإعجاز الذاتي والغيري للقرآن ، قال تعالى [قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
وسيأتي قانون الآيات التي تنهى عن الإرهاب ، ومنها قوله تعالى [وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ).
و(عن أبي ذر أنه قال : يا رسول الله ، من أين نتصدق وليس لنا أموال.
قال : إن من أبواب الصدقة التكبير ، وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله واستغفر الله ، وتأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، وتعزل الشوك عن طريق الناس ، والعظم والحجر ، وتهدي الأعمى ، وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه ، وتدل المستدل على حاجة له قد علمت مكانها ، وتسعى بشدة ذراعيك مع الضعيف ، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك ، ولك في جماعك زوجتك أجر .
قال أبو ذر : كيف يكون لي أجر في شهوتي .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أرأيت لو كان لك ولد فأدرك فرجوت أجره فمات أكنت تحتسب به ، قلت : نعم . قال : فأنت خلقته ، قلت : بل الله خلقه .
قال : فأنت هديته ، قلت : بل الله هداه .
قال : فأنت كنت ترزقه ، قلت : بل الله كان يرزقه .
قال : فكذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه ، فإن شاء الله أحياه وإن شاء أماته ولك أجر)( ).
وهل نشر الأمن في الأرض والإمساك عن العنف والإرهاب فيه أجر ، الجواب نعم ، لأن هذا الإمساك أمر وجودي عام النفع , وبه جاء هذا الجزء المبارك .
والحمد لله على نعمة الهداية والشكر لله عز وجل (عن أبي الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يؤتى بصاحب المال الذي أطاع الله فيه وماله بين يديه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله : أمض فقد أديت حق الله فيّ .
ثم يُجاء بصاحب المال الذي لم يطع الله فيه وماله بين كتفيه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله : ويلك ألا أديت حق الله فيّ ، فما يزال كذلك حتى يدعو بالويل والثبور) ( ).
سبحان الله الذي جعل الحياة الدنيا دار الوحي والتنزيل ، إذ صاحب كل منهما وجود الإنسان في الأرض ، فان قلت سلّمنا أن آدم نبي رسول أوحى الله عز وجل له ، فان النبوة انقطعت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي فارق الدنيا في شهر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة ، ووافق يومئذ شهر حزيران (يونيو) سنة 632 للميلاد .
والجواب من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقاء الوحي وآيات القرآن بعد مغادرته الحياة الدنيا وإلى يوم القيامة ، وزاد الله عز وجل من فضله في المقام بأن حفظ المسلمون السنة النبوية القولية والفعلية لتكون مرآة وتفسيراً للقرآن ، وباعثاً على ذكر الله ، والبركة والثواب في القليل منه .
(عن أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرّ به وهو يحرك شفتيه فقال : ماذا تقول يا أبا أمامة قال أذكر ربي .
قال ألا أخبرك بأفضل أو أكثر من ذكرك مع النهار والنهار مع الليل أن تقول سبحان الله عدد ما خلق ، سبحان الله ملء ما خلق ، سبحان الله عدد ما في الارض والسماء ، سبحان الله ملء ما في السماء والارض ، سبحان الله ملئ ما خلق ، سبحان الله عدد ما أحصى كتابه ، وسبحان الله ملئ كل شئ ، وتقول الحمد لله مثل ذلك) ( ).
سبحان الذي جعل علوم التفسير من اللامتناهي ، وقد جاء تفسيري هذا مصداقاً لهذا القانون ، وبداية لتأسيس علوم مستفيضة في تفسير القرآن بفضل وفيض من عند الله عز وجل .
سبحان الله كما يجب أن يذكر ويسٌبَح ، وسبحان الله كما هو أهله ، وما ينبغي لكرم وجهه ، وسبحان الله كلما سبّح له شئ .
والحمد لله حمداً كثيراً دائماً متصلاً في الدنيا والآخرة .
وأسأله تعالى أن يجعل الحمد له سبحانه دعاءً وتضرعاً ، وصرفاً للبلاء والوباء .
الحمد لله الذي أسبغ نعمة ظاهرة وباطنة على الفرد والجماعة والطائفة والفرقة والأمة والناس جميعاً ، لينال وينهل الفرد الواحد من النعم على كل فئة وطرف أعلاه ، وهو من مصاديق سعة رحمة الله ، وتعدد الجهات والطرق والمنافذ التي تأتي فيها للعبد ، لتكون سبيل هداية ورشاد .
وكل نعمة مادة للأمن في الدنيا ، وطريقاً لأداء الوظائف العبادية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
الحمد لله على نعمة القرآن ، وكل آية منه نعمة مستقلة ، وهي نعمة بصلتها مع الآية القرآنية الأخرى ، ليكون النفع من الآية القرآنية متصلاً في أيام الحياة الدنيا .
وتكون ذات الآية والإنتفاع منها حاضرَين يوم القيامة .
ومن أفراد ومصاديق هذا الحضور الشهادة والشفاعة لتالي الآية القرآنية، والعمل بأحكام الآية القرآنية رجاء فضل الله عز وجل وإحسانه .
الحمد لله الذي علّم بالقلم ، وجعله وسيلة الثناء والشكر له سبحانه ، وأداة في الصالحات ، والترغيب بفعل الخيرات ، والتفقه في الدين .
فان قلت قد يستعمل القلم في المحرمات ، وأسباب الكفر ، والجواب هذا من الجحود بالنعم ، وهو سبب لنزول البلاء ، قال تعالى [الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ] ( ).
وتدل الآية أعلاه على أن الجماعة من الكفار يضرون قومهم وطائفتهم مما يلزم التعاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإجتناب الضرر العام الذي يجلبه الجحود الشخصي ، وقد جاءت مواضيع متعددة من هذا الجزء خاصة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحاجة إليها ، والنفع العظيم المترشح عنهما مجتمعين ومتفرقين على الآمر والمأمور والسامع ، ولا يختص عنوان السامع بحال وأوان ومكان صدور الأمر ، إنما يشمل غيره سواء في موضع وبلد آخر أو في زمان آخر ، لذا فمن مصاديق نعمة القلم توثيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وهل يلحق المستجيب للأمر والنهي ثواب في المقام ، الجواب نعم .
الحمد لله الذي جعل الحمد طريق استدامة الرزق ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ) وصرفاً للعنن ، ودفعاً للنقم ، وواقية من الضرر ، وهو من أسرار جعل الدنيا دار الحمد والثناء لله عز وجل, ولا يحمد في السراء والضراء غيره سبحانه .
الحمد لله الذي يلتقي الغني والفقير ، والملك وعامة الناس , والسيد والعبد بالحمد والثناء عليه سبحانه .
وهل كثرة وتوالي النعم على الملك والغني والسيد والمعافي تملي عليهم أن يكونوا أكثر حمداً لله من الفقير والعبد والمريض ، الجواب من فضل الله عز وجل أنه يرضى بالقليل ، ويعطي عليه الكثير .
الحمد لله الذي بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لمنع صيرورة الإرهاب وباءً وجائحة ولو مؤقتة، فكل آية من القرآن تبين قبح الإرهاب وتبعث النفرة في النفوس منه .
الحمد لله الذي جعل مصاديق الحمد متكثرة ، وهي على وجوه:
الأول : الحمد القولي ،وهو على شعب ، منه ما يؤدي في الصلاة ، كما في قول المسلم في صلاته [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) ومنها لفظ الحمد لله ، والشكر لله .
الثاني : الحمد الفعلي ، ومنه أداء الفرائض العبادية ، وخشوع الجوارح والأركان ، وظهور أمارات التقوى على الإنسان ، قال تعالى [وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا] ( ) .
الثالث : الحمد الجامع للقول والفعل ، فيسخر الإنسان بدنه ولسانه في الشكر لله عز وجل ، وهو من اتباع مرضاته ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
الحمد لله الذي ليس من إله غيره ، ولا معبود سواه ، وأعوذ به سبحانه من شر الحسد والمكر .
اللهم صل على محمد وآل محمد وأرزقنا دوام العافية , والسلامة في الدين والدنيا ، واغننا بحلالك ، وأبسط علينا فضلك ، وتفضل علينا بادامة الإحسان النازل منك ، اللهم وخفف عنا فانه لا طاقة لنا بالبلاء ، ولا مصاحبة الهّم والعناء ، فانت وحدك مفرج الغم والهّم ، ولا يصلح ما في القلوب إلا أنت سبحانك .
اللهم لا تكلني إلى نفسي ، واجعل حاجتي عندك مقضية ، فقد أنزلت حاجاتي كلها برياض عرشك .
اللهم اكشف ضري وفرّج عني وأنت وحدك سبحانك فارج الكروب يا من كشف الضر عن أيوب ، ونصر الأنبياء ، وأعز المؤمنين ، وأنت القائل [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ( ).
اللهم أنت حسبي ومالك أموري ووكيلي وصاحبي في وحدتي ، فتفضل علي وشدّ عضدي في كربتي ، وأغفر لي ذنبي ، وأصلحني للمسارعة في الخيرات بقصد القربة إليك ، وفي التنزيل [فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى] ( ) .
اللهم إليك أشكو قلة حيلتي ، وضعف قوتي ، وأنت سبحانك ناصر المستضعفين ، ولك سبحانك العزة جميعاً ، فأكفني ما أخاف وأحذر ، اللهم أني أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، ولاذت به الملائكة، أن تصرف عني الكيد والأذى ، وأن تمدني بعونك ولطفك ، لتوالي تأليفي لأجزاء التفسير ، وصدورها والإنتفاع العام الأمثل منها .
وارزقني من فضلك ، واجعل النماء والبركة فيما رزقتني , وضاعف في حسناتي وامح عني سيئاتي [فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا] ( ).
اللهم لك الحمد أن تفضلت وجعلت هذا الجزء وهو الالحادي عشر بعد المائتين يرى النور في آيات من جودك ومنّك وكرمك ، ولا يقدر على هذه النعمة العقائدية العامة إلا أنت سبحانك وانت القائل [قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).

حرر في التاسع والعشرين من شهر صفر الخير 1442هـ
17/10/2020

قانون الأمر بالتوحيد سلام وأمن عام
لقد اتخذ المسلمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلاحاً لتعاهد سنن التوحيد في الأرض، وهو من هدى الله من وجوه :
الأول : معرفة مصاديق كل من المعروف والمنكر، فلا يأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا عن معرفة وتفقه في أمور الدين والدنيا، وإخبار القرآن عن قيام المسلمين بالأمر والنهي شهادة من الله للمسلمين في بلوغ هذه المرتبة التي هي فضل من الله ومن معاني الهدى والصلاح .
فتنزل آية قرآنية تأمر المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ) .
وتضمنت الآية ثلاثة أوامر :
الأول : الدعوة إلى الخير .
الثاني : الأمر بالمعروف .
الثالث : النهي عن المنكر .
ترى ما هي النسبة بين الخير والمعروف في الآية أعلاه ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، والخير أعم وذات النسبة بين الدعوة والأمر ، فقدمت الآية الدعوة إلى الخير لبعث المسلمين على التعاون والمناجاة في فعل الخير والحضّ على الصالحات ، وفيه برزخ دون لغة التكفير ، وزاجر عن الإرهاب .
ثم تأتي آيات قرآنية تخبر أن المسلمين يمتثلون لما ورد في الآية أعلاه كما في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ]( ) ( ).
لبيان قانون وهو ينزل الله عز وجل الأمر ويهيئ له من يمتثل له إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق المشيئة المطلقة لله عز وجل وملكه للأرض والسموات وعامة عالم الممكنات والخلائق ، قال تعالى [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) وملك الله سبحانه مطلق من جهات :
الأولى : سعة الملك , بما يفوق التصور .
الثانية : إنه ملك تصرف ومشيئة .
الثالثة : حاجة الممالك لله عز وجل في وجودها واستدامتها .
الرابعة : من ملك الله للأكوان والأشياء والإنس والجن حفظها وحمايتها والذب عنها ، لذا أنزل سورة الناس بالترغيب بالإستجارة بالله عز وجل ، قال سبحانه [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ* إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ] ( ).
الخامسة : ملك الله من صفات العظمة والكمال .
السادسة : بعث المسلمين للإرتقاء في المعارف الإلهية .
السابعة : حضّر المسلمين على الدعاء والمسألة رجاء النهل من ملك وخزائن الله التي لا تقل .
الثامنة : تثبيت مفاهيم التوحيد ومعالم الإيمان في الأرض .
التاسعة : الناس وما يملكون من ملك الله سبحانه , وفيه نكتة وهي لزوم الإمتناع عن التفجيرات العشوائية والعبث بملك الله .
الثاني : ذات الأمر بالمعروف هدى وتوكيد لعمارة الأرض بالإيمان، وفيه نوع تعليق لمفاهيم الباطل، وإزاحة للأخلاق المذمومة ، قال تعالى [بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ] ( ).
الثالث : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسائل منها :
الأولى : إنه مقدمة لجذب الناس لسبل الهدى .
الثانية : الدعوة للصلاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ).
الثالثة : الإرشاد لأداء الوظائف العبادية .
الرابعة : إنه مانع من الغلو والتطرف وسفك الدماء بغير حق .
الخامسة : إنه برزخ يومي متجدد دون الجحود والكفر .
لقد تفضل الله عز وجل على الملائكة والناس والخلائق بأن أخبر الملائكة عن فساد طائفة من الناس وسفكهم الدماء بغير حق كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
وعلم الله عز وجل بوجود أمة تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر في كل زمان من هبوط آدم عليه السلام إلى الأرض وبلحاظ أنه كان نبياً رسولاً , ومن وظائف الأنبياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ونزلت الكتب السماوية , ومنها القرآن لتعاهد هذا الأمر والنهي إلى يوم القيامة , وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) بلحاظ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر زاجر عن الفساد, ومانع من سفك الدماء .
وهل يدخل فيه حكم القصاص بقوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ) الجواب نعم , والمختار أن حكم القصاص المذكور في الآية أعلاه أعم من أن يختص بتنفيذه إنما يشمل ذات تشريع الحكم , والتخويف بتنفيذه وحق قبول ولي المجني عليه الدية في حال القتل العمد( )
الرابع : في الأمر والنهي عمارة للأرض بسنن التقوى، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بلحاظ أنه بذاته عبادة لله، ويدعو إلى العبادة.
الخامس : من خصائص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن كل واحد منها برزخ دون شيوع مفاهيم الضلالة.
وهما حرب علنية على الكفر والجحود، لذا يصدق على كل واحد منهما أنه على وجوه :
الأول : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هدى وخير محض ، وكل فرد من الأمر والنهي مصداق للهدى .
الثاني : الأمر مقدمة للهدى والرشاد .
الثالث : قانون الملازمة بين البركة وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من رشحات الهدى والإيمان، وهل هو مصاديق زيادة الهدى ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ] ( ).
الخامس : الأجر والثواب للأمر بالمعروف لقيامه بالأمر والنهي ، والأجرلإستماع الغير له .
وفي المرسل(عن الحسن أنّ النبي (عليه السلام) قال : أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً وأيما داع دعا إلى ضلالة،فاتبع عليها وعمل بها فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً ثم قرأ الحسن {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} .) ( ).
والتوحيد سور الموجبة الكلية والدستور العام الذي يجتمع عليه الناس ، ويبعث على الأخوة والمودة بينهم ويمنع من الفرقة والشقاق وسفك الدماء وفي التنزيل [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ]( ) .
وتمنع الآية أعلاه من الغلو بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينما ذكر التباين والخلاف بين المؤمنين والكفار ، قال تعالى [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ]( ).
قانون إفاضات الأمر بالمعروف
لقد جعل الله عز وجل قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رحمة عامة للناس , ويحتمل أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سعة وتقييداً وجوهاً:
الأول : إنحصار أثرهما على المتلقي والمخاطَب بهما.
الثاني : شمول المستمع للأمر والنهي بالنفع لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
الثالث : سعة أثر الأمر والنهي، وتعدد المنتفع من الفرد والحصة الواحدة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع : يأتي الأمر بالمعروف على نحو القضية الشخصية المحصورة بزمان ومكان القول أو الفعل ذاته.
الخامس : بقاء أثر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أزمنة أخرى غير زمان صدوره.
والصحيح هو الثاني والثالث والخامس، فيصدر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن المؤمن فيكون ضياء ينير دروب السالكين سبل الهدى والرشاد , وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) ليكون من الإعجاز فرض الصلاة على كل مسلم ومسلمة يومياً وتلاوة سورة الفاتحة فيها سبع عشرة مرة ومنها الآية أعلاه , ليكون من المعاني بخصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوه :
الأول : تفقه المسلمين في الدين لأنه مقدمة واجبة للأمر والنهي .
الثاني : التعاون بهذا الأمر والنهي , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
الثالث : الإستجابة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع : الفوز بالثواب العظيم لهذا الأمر والنهي , والعبور على الصراط المستقيم في الآخرة .
وبخصوص يوم القيامة ورد حديث طويل عن أبي هريرة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه (ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم كدقة الشعر وكحد السيف عليه كلاليب وخطاطيف وحسك كحسك السعدان( )، دونه جسر دحض مزلة فيمرون كطرف العين وكلمح البرق وكمر الريح وكجياد الخيل وكجياد الركاب وكجياد الرجال فناج مسلم وناج مخدوش ومكدوش على وجهه في جهنم .
فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة فدخلوها.
فو الذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم إذ دخلوا الجنة فدخل كل رجل منهم على اثنتين وسبعين زوجة مما ينشىء الله في الجنة واثنتين آدميتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله لعبادتهما في الدنيا .
فيدخل على الأولى منهن في غرفة من ياقوتة على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ عليه سبعون زوجا من سندس واستبرق ثم إنه يضع يده بين كتفيها فينظر إلى يدها من صدرها ومن وراء ثيابها ولحمها وجلدها وإنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في الياقوتة كبدها له مرآة.
فبينما هو عندها لا يملها ولا تمله ولا يأتيها مرة إلا وجدها عذراء لا يفتران ولا يألمان .
فبينما هو كذلك إذ نودي فيقال له : إنا قد عرفنا أنك لا تمَل ولا تمُل وإن لك أزواجا غيرها فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة كلما جاء واحدة قالت له : والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك ولا شيئا في الجنة أحب إلي منك .
قال وإذا وقع أهل النار في النار وقع فيها خلق من خلق الله أوبقتهم أعمالهم فمنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ، ومنهم من تأخذه النار في جسده كله إلا وجهه ، حرم الله صورهم على النار .
فينادون في النار فيقولون : من يشفع لنا إلى ربنا حتى يخرجنا من النار ، فيقولون : ومن أحق بذلك من أبيكم آدم ، فينطلق المؤمنون إلى آدم فيقولون: خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وكلمك.
فيذكر آدم ذنبه فيقول : ما أنا بصاحب ذلك ولكن عليكم بنوح فإنه أول رسل الله فيأتون نوحا عليه السلام ويذكرون ذلك إليه فيذكر ذنبا فيقول : ما أنا بصاحب ذلك ولكن عليكم بإبراهيم فإن الله اتخذه خليلا
فيؤتى إبراهيم فيطلب ذلك إليه.
فيذكر ذنبا فيقول : ما أنا بصاحب ذلك ولكن عليكم بموسى فإن الله قربه نجيا وكلمه وأنزل عليه التوراة فيؤتى موسى فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول : ما أنا بصاحب ذلك ولكن عليكم بروح الله وكلمته عيسى بن مريم عليه السلام .
فيؤتى عيسى بن مريم عليه السلام فيطلب ذلك إليه فيقول : ما أنا بصاحب ذلك ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم
فيأتوني ولي عند ربي ثلاث شفاعات وعدنيهن فأنطلق حتى آتي باب الجنة فآخذ بحلقة الباب فاستفتح فيفتح لي فأخر ساجدا فيأذن لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه ثم يقول : ارفع رأسك يا محمد اشفع تشفع وسل تعطه فإذا رفعت رأسي قال لي – وهو أعلم – ما شأنك ، فأقول : يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني.
فأقول يا رب من وقع في النار من أمتي .
فيقول الله : أخرجوا من عرفتم صورته فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد ثم يأذن الله بالشفاعة فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع .
فيقول الله : أخرجوا من وجدتم في قلبه زنة دينار من خير فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد وحتى لا يبقى في النار من عمل خيرا قط ولا يبقى أحد له شفاعة إلا شفع حتى أن إبليس ليتطاول في النار لما يرى من رحمة الله رجاء أن يشفع له .
ثم يقول الله : بقيت وأنا أرحم الراحمين فيقبض قبضة فيخرج منها ما لا يحصيه غيره فينبتهم على نهر يقال له نهر الحيوان فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل فما يلي الشمس أخضر وما يلي الظل أصفر فينبتون كالدر مكتوب في رقابهم : الجهنميون عتقاء الرحمن لم يعملوا لله خيرا قط يقول مع التوحيد فيمكثون في الجنة ما شاء الله وذلك الكتاب في رقابهم ثم يقولون : يا ربنا امح عنا هذا الكتاب فيمحوه عنهم) ( ).
ومن مصاديق المعروف بيان وجوه الخير تدويناً وقولاً وفعلاً وإظهار قواعد من الأمر والنهي في مرضاة الله ومنه التأليف بسبل المعروف إذ يموت الإنسان ولكن أثره باق ، ومنه بناء المسجد وتحفيظ القرآن وفعل الخير ذي النفع الجاري , قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا عن ثلاث ولد صالح يدعو له وصدقة جارية و علم به ينتفع بعد موته)( ).
لقد جعل الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شجرة تدخل أغصانها كل بيت من بيوت أهل الأرض في كل زمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) .
ولا يعلم منافع وإفاضات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا الله عز وجل في إصلاح النفوس وتهذيب الأفعال ، وفي تعاهد صرح الإيمان وإستدامة رفع راية التوحيد ، وليس من نبي إلا وقد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرثاً بين أصحابه ليقوموا بتعاهده .
قانون الدنيا دار براهين الوحدانية
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الآيات والبراهين الدالة على وحدانيته وربوبيته، وسخّر فريقاً من الناس في كل زمان للدعوة إليه كما يتجلى في بعث الأنبياء ووجود أتباع وأنصار لهم.
ليتفضل بإصلاح أتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمقامات التقوى ويجعلهم يقيمون الفرائض العبادية لتثبيت مفاهيم الهدى في الأرض.
ومن أدلة وحدانية الله عز وجل قوانين كثيرة منها :
الأول : قانون التمانع وعدم إمكان إلهين في الكون ، قال تعالى [وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ]( ).
الثاني : دليل خلق الأكوان و(عن أنس قال : نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ، فجاء رجل من أهل البادية فقال : يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك!
قال : صدق .
قال : فمن خلق السماء؟
قال : الله .
قال : فمن خلق الأرض؟
قال : الله .
قال : فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟
قال : الله .
قال : فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال ، الله أرسلك؟
قال : نعم .
قال : وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟
قال : صدق .
قال : فبالذي أرسلك ، الله أمرك بهذا؟
قال : نعم .
قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا؟
قال : صدق .
قال : فبالذي أرسلك ، الله أمرك بهذا؟
قال : نعم .
قال : وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا؟
قال : صدق .
قال : فبالذي أرسلك ، الله أمرك بهذا؟
قال : نعم .
قال : وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً .
قال : صدق .
قال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا انتقص منهن .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لئن صدق ليدخلن الجنة) ( ).
الثالث : قانون الإتقان فقد خلق الله عز وجل كل شئ بإبداع وإتقان وإعجاز للخلائق حتى في التفكر بماهية وسنخية وكيفية الخلق ودقته , وفي التنزيل [وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ]( ).
الرابع : مكنون النبوة بأن أرسل الله عز وجل الأنبياء بالمعجزات الخارقة التي تدل على تجلي مصاديق حسية وعقلية من عظيم قدرة الله عز وجل لجذب الناس إلى الإيمان والتصديق بعلوم الغيب وعالم الحساب , قال تعالى [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
الخامس : قانون الفطرة إذ فطر الله عز وجل الناس والخلائق كلها على الوحدانية والإنقياد له سبحانه طوعاً وكرهاً , لتكون دعوة الرسل موافقة ومطابقة للفطرة فيسهل على الناس الإيمان , وفي التنزيل [فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
ومن أدلة قصد القربة في العبادات كما في أصول الفقه قول الله عز وجل [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ]( ).
السادس : قانون الملك المطلق , فكل شئ هو ملك لله عز وجل لا يشاركه فيه أحد , واتخذ الأنبياء هذه الملكية مادة للإحتجاج وبرهاناً على الوحدانية , ونوع طريق وبيان لوجوب الفرائض العبادية ، قال تعالى [قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ]( ) .
ومعنى (فَأَنَّا تُسْحَرُونَ) أي من أين تُخدَعون وتتوهمون بعد تجلي المعجزة .
السابع : هلاك وانقطاع المكذبين بالتوحيد والنبوة واليوم الآخر , وصيرورة ديارهم أطلالاً وموعظة للناس , وفي التنزيل [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
الثامن : تجدد خزائن الله عز وجل وعدم نفادها ، قال تعالى [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ]( ) .
التاسع : نصر الأنبياء والرسل وعلو كلمة التوحيد في الأرض , وخفق راية الإيمان في ربوع الأرض , قال تعالى [وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ) .
ولم يرد لفظ (كَلِمَةُ اللَّهِ) و (كَلِمَةَ الَّذِينَ) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وهل تدل قوانين الوحدانية على نبذ العنف والإرهاب , وتزجر عن سفك الدماء , الجواب نعم ، فهي رحمة ودعوة للتآخي والوفاق والوئام ، وترك أسباب الخصومة والشقاق .
ويقوم المسلمون في كل زمان بالإعلان عن حقيقة وهي أن هدى الله هو الهدى بوجوه:
الأول : الإيمان بالله عز وجل والنبوة والكتاب المنزل والإقرار بيوم القيامة قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا]( ).
الثاني : تــلاوة آيات القرآن ، وما تتضمنه من القطع بـأن الفــلاح والصلاح بإتباع الهدى الذي تفضل به الله عز وجل على الناس في أجيالهم المتعاقبة، لذا نال الذين آمنوا برسالته الرفعة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ]( ).
الثالث: أداء الفرائض والعبادات التي أمر الله عز وجل بها ، قال سبحانه[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( )، وصيغة الأمر أعلاه تحمل على الوجوب.
وإحتاج الناس إلى سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي هي شعبة من الوحي لبيان أوقات وكيفية وأجزاء الصلاة ، والأعيان التي تتعلق بها الزكاة، ونصابها، ومقدارها .
فجاء كل فرد من السنة القولية والفعلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية في الدقة والضبط والبيان والإعجاز , وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
ومن الدلائل عليه إستدامتها وبقاؤها سالمة من التغيير والتحريف , وهذه الإستدامة والسلامة من خصائص وصبر وزهد المسلمين , قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
ويبين القرآن فضل الله عز وجل على المسلمين بالإذن لهم للإحتجاج على أهل الملل في الدنيا والآخرة، وبما يتضمن البرهان والدليل على صحة إختيارهم، وسلامتهم بإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته، وورد في اللوم بين بعض أفراد الطوائف بقوله تعالى[أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ]( ).
وفيه دلالة على إقرار أهل الكتاب باليوم الآخر ، ووقوف الناس بين يدي الله للحساب ، وهو من الشواهد على وجوه الإلتقاء بين أتباع الأديان السماوية .
ومن خصائص الإيمان التسليم بالبشارات والمعجزات ، وهو من الأمور التي يحتج بها على الأجيال المتعاقبة من الذين يجحدون بها.
ومن مصاديق تصديق المسلمين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التحلي بالأخلاق الحميدة وصيرورتهم أسوة كريمة للناس في مسالك الهدى، وأئمة في الإحتجاج وبيان الحق ، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى]( ) بلحاظ أن المسلمين هداة مهديون، فهم يقومون بهداية الناس وجذبهم إلى الإيمان بالبيان والموعظة والحجة القاطعة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم نصرته، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وتتضمن آيات القرآن كيفية الرد بالبرهان والحجة والبينة على منع الناس من دخول الإسلام إذ أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بــ[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ). وفيه شاهد على أن الإسلام إنتشر بالحجة والموعظة، والإستعانة بالله عز وجل والتبرأ من الإرهاب قال تعالى [لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ]( ) وأن الله عز وجل هو الواسع الكريم الذي لا تنفد خزائنه يؤتي الحكمة من يشاء من عباده.
وفيه دعوة للناس بالرجوع إلى التنزيل ومضامينه القدسية لأنه هدى من الله سبحانه .
قانون الملازمة بين الهدى واستدامته
الهدى اسم مذكر ، قال تعالى [قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى] ( ) (وقال الكسائي بعض بني أَسد يؤنثه يقول هذه هُدًى مستقيمة) ( ).
فاز المسلمون بالهداية وجاءت الشهادة من الله عز وجل لهم بالإيمان (وتؤمنون بالله)( )، وهذا الإيمان بذاته رد على مشركي قريش الذين إمتنعوا عن دخول الإسلام ولم يكتفوا بهذا المنع بل قاموا بتعذيب طائفة من الصحابة منهم آل ياسر , وبلال فأشار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على شطر من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة .
والثبات على الإيمان علة لمجيء نصر الله عز وجل للمسلمين، للملازمة بين النصر الإلهي والإيمان، قال تعالى[وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
فإن قلت قد يتعرض المؤمنون إلى الخسارة، وينهزمون أمام عدوهم , كما في معركة أحد [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( ).
والجواب إن النصر أعم من الإنحصار بمعركة وحادثة ، والأمور بخواتيمها، ولابد أن تكون العاقبة النصر النهائي للمؤمنين.
ومن خصائص هدى الله الثبات والإستدامة والإستغراق في القول والفعل، لأن الله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم، وفيه وجوه:
الأول: بعث السكينة والطمأنينة في قلوب المؤمنين ، إذ أن الهدى كنز يحمله الإنسان في جنباته ويسري في كل أعضائه ومفاصلة ، وهل له مبرز خارجي مثل كنوز الأموال.
الجواب نعم ، وهو طريق إلى كسب المال الوفير بالحلال ، وعن الإمام علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى[وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا] ( )، قال : لوح من ذهب مكتوب فيه : شهدت أن لا إله إلا الله ، شهدت أن محمداً رسول الله .
عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح .
عجبت لمن تفكر في تقلب الليل والنهار ويأمن فجأتهما حالاً فحالاً( ).
الثاني : بعث اليأس إلى قلوب مشركي قريش من المسلمين ، فهم لا يتبعون ديناً غير الإسلام الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ .
و(عن السدي في قوله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا]( ) الآية . يقول : إن تطيعوا أبا سفيان بن حرب يردوكم كفاراً)( ).
الثالث : توكيد حقيقة وهي قدرة الله عز وجل على هداية الناس، وجذبهم لمنازل الإيمان، وهو من اللطف الإلهي، ورحمة الله بالناس جميعاً في الحياة الدنيا .
(عن النّواس بين سمعان سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الميزان بيد الرحمن . يرفع أقواماً ويضع آخرين إلى يوم القيامة ، وقلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن . إذا شاء أقامه ، وإذا شاء أزاغه .
وكان يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)( ).
والله عز وجل لا يوصف بحد وليس له أصابع إنما جاء الحديث لبيان عظيم قدرة الله، كما في قوله تعالى[يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ] ( ) أي قدرة وسلطان الله.
الرابع : ترغيب الناس بالهدى والإيمان ، وإزاحة الحواجز التي تحول دون دخولهم الإسلام.
الخامس : بيان نيل المؤمنين الأجر والثواب لأنهم على هدى ثابت ودائم من الله عز وجل.
ومن مصاديق استدامة الهدى العصمة من الإرهاب ، واجتناب مقدماته ، والهدى ملكة تجعل موضوعية لقصد القربة في القول والفعل ، وتمنع صاحبها من الظلم والتعدي ، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( )، وتدل الآية أعلاه في مفهومها على أن كل فرد من الصبر والصلاة اليومية مانع من الإرهاب .
قانون مودة المؤمنين
إن الله عز وجل بعث الأنبياء لجذب الناس إلى منازل التوحيد، وهدايتهم إلى مقامات الإيمان، وإعانتهم في كيفية أداء الوظائف العبادية ، وفي التنزيل [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ]( ).
ويكسب المؤمن مودة الناس لصلاحه ، ودعوته الموافقة للفطرة ، وإطمئنان الناس وأمنهم جانبه ، وفيه تخفيف ورحمة بالناس بأن يلتفتوا إلى ما يجب عليهم ، ويتدبروا بآيات التنزيل وما فيها من الأسرار ومصاديق الحكمة .
وأخبر الله عن المودة بقوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( )، لبيان لزوم عنايتهم بالعلم ، وسعة صدورهم ، ووجود علماء بين ظهرانيهم ، وإنصاتهم للقرآن , وتنزههم عن الحرص على الدنيا وزينتها .
ويحتمل هذا الثناء في سعته وضيقه وجوهاً :
الأول : إنحصار الثناء بالنصارى دون أهل الكتاب الآخرين .
الثاني : ورد ذكر النصارى من باب المثال الأمثل .
الثالث : إرادة التباين الرتبي بين أهل الكتاب في مودتهم للمسلمين ، وأن أكثرهم مودة لهم هم النصارى .
والمختار هو الأخير مع عموم مودة أهل الكتاب للمؤمنين ومن الشواهد عليه أن مشركي قريش كانوا يشنون الهجوم تلو الهجوم على المدينة لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعل أصحابه بين قتيل وأسير كما في معركة بدر وأحد والخندق ، بينما كان اليهود في حلف وميثاق مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
و(عن سعيد بن جبير في قوله [ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا]( )، قال : هم رسل النجاشي الذين أرسل سبعين رجلاً اختارهم من قومه الخيِّر الخيِّر ، فالخير في الفقه والسن .
وفي لفظ : بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثين رجلاً ، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخلوا عليه ، فقرأ عليهم سورة يس ، فبكوا حين سمعوا القرآن ، وعرفوا أنه الحق، فأنزل الله فيهم [ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا]( )، الآية .
ونزلت هذه الآية فيهم أيضاً {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون}( )، إلى قوله {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا}( ).
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن عروة قال : كانوا يرون أن هذه الآية نزلت في النجاشي [وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ]( )، قال : إنهم كانوا برايين يعني ملاحين ، قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة ، فلما قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن آمنوا وفاضت أعينهم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا رجعتم إلى أرضكم انقلبتم عن دينكم ، فقالوا لن ننقلب عن ديننا ، فأنزل الله ذلك من قولهم وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ.
ويدل عليه بيان موضوع أسرار التنزيل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ومن أهم مصاديق المعروف الدعوة إلى الإسلام، وإشاعة السلام ، ونبذ الإرهاب والفتك .
ليؤسس قانون الأمر بالمعروف الصلات الحسنة وصيغ المعاملة بين الناس وفق قواعد سماوية نزل بها القرآن، ليخرج المسلمون بها وبالسنة النبوية للناس جميعاً بعيداً عن الإرهاب والتفجيرات والتطرف وكراهية الآخر .
قال تعالى [وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاَء مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ]( )، فمن إعجاز القرآن ، ومضامين الصلة والإلتقاء بين المسلمين واليهود والنصارى اتحاد سنخية الكتاب السماوي المنزل .
إذ تكرر لفظ الكتاب في الآية أعلاه مرتين ، وبينهما عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء في الآية أعلاه على وجوه:
الأول : فضل الله عز وجل على الإنسان بخلق آدم عليه السلام في الجنة, والنفخ فيه من روحه , قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ) ولو خلق الله عز وجل الإنسان في الأرض فهل ينفخ الله عز وجل فيه من روحه أم أن الأمر خاص بالخلق في الجنة .
الجواب إن الله عز وجل قادر على كل شئ [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ) والمختار أن هذا النفخ خاص بالخلق في الجنة .
الثاني : فضل الله عز وجل على الإنسان بنعمة العقل بما يختلف بها مع المخلوقات الأرضية .
الثالث : بعثة الأنبياء والمرسلين للناس بالوحي , قال تعالى [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا] ( ).
الرابع : نزول الكتب السماوية من عند الله عز وجل , ومن الإعجاز بقاء مضامينها والعمل بها , بعد مغادرة الأنبياء الحياة الدنيا ثم أنعم الله عز وجل على الناس بنزول القرآن ليبقى في الأرض سالماً من النقص أو الزيادة أو التحريف , قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ) ويتلى كل يوم من قبل كل مسلم ومسلمة .
ومن الإعجاز في المقام زيادة عدد الذين يتلون القرآن كل يوم وتعدد البلدان والأمصار التي يتلى فيها القرآن لإزدياد عدد المسلمين وعموم أهل الأرض كل عام .
وهل من موضوعية وبركة للقرآن في هذه الزيادة .
الجواب نعم , لتجلي مصداق لقانون بركات التنزيل من جهات :
الأولى : تسمية القرآن بالكتاب وذات التسمية للتوراة والإنجيل , وكذا بالنسبة للكتب السماوية السابقة ، قال تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ) .
لبيان مسألة وهي أن الكتاب اسم جنس للكتب السماوية .
وتقدير الآية أعلاه من سورة العنكبوت وكذلك وكذلك أنزلنا إليك القرآن فالذين آتيناهم التوراة والإنجيل والزبور .
الثانية : إبتداء الآية بأداة التشبيه الكاف , واسم الإشارة (َذَلِكَ) للبعيد الذي يفيد التشريف والإكرام .
الثالثة : الشهادة من عند الله عز وجل بأنه سبحانه هو الذي أنزل القرآن وهو الذي تفضل على اليهود والنصارى بالتوراة والإنجيل .
الرابعة : يهدي كل كتاب سماوي إلى الصراط المستقيم , وهو نور وفيض وبركة ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ] ( ) .
أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
الأول : التباين في الكتاب المنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الأنبياء السابقين , إذ نزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأنزلت التوراة على موسى عليه السلام , وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام , وورد ذكرها مرتبة بلحاظ الزمان بقوله تعالى [وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ]( ).
الثاني : لقد خاطبت الآية الكريمة النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاَء مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ] ( )بينما ذكرت أهل الكتاب بصيغة الغائب .
الثالث : ذكر القرآن بلفظ [أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ] بينما ورد ذكر أهل الكتاب بلفظ آتيناهم بلحاظ أوان نزول القرآن .
الرابع : نزل القرآن على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أما الكتب السماوية السابقة فنزلت على الأنبياء السابقين وليس على أتباعهم أهل الكتاب , وقد أكرمهم الله بقوله تعالى [وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ] ( ) وفيه شاهد على وجود آيات الكتب السماويةالسابقة عند أهل الكتاب من غير أن يغير ما طرأ على بعضها من التحريف من حقيقة التنزيل هذه.
الخامس : ورود ذكر الكتاب بالنسبة للكتب السماوية السابقة مرة واحدة , بينما ورد ذكر القرآن في الآية باسم (الْكِتَابَ) مع ضمائر تدل عليه كما في قوله تعالى [يُؤْمِنُونَ بِهِ][ يُؤْمِنُ بِهِ] وهل المراد من لفظ [بِآيَاتِنَا] خصوص آيات القرآن أم أنه أعم .
الجواب هو الثاني .
قانون الآيات الكونية دليل التوحيد
لقد خلق الله عز وجل الكائنات ، وصور الموجودات ، وخلق الأرض والسموات ، وأجرى الأنهار والبحار ، بالكاف والنون ، وفي التنزيل [إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( )ومع أنه تعالى جعل من الماء [كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ] ( ) .
فأنه أهلك قوم نوح الذين أصروا على الكفر بالطوفان ، وأغرق فرعون وجنوده في البحر ، لبيان قانون من وجوه :
الأول : قانون وجوب شكر الله عز وجل على النعم .
الثاني : قانون شكر الله سبب لإستدامة النعم ، وزيادتها كماَ وكيفاً ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
الثالث : قانون نزول البلاء بالمقيمين على الكفر عناداً واستكباراً .
ومن معاني الجحود بآيات الله إنكار نسبة خلقها وتعاهد الله عز وجل.
وهل الذي يقول بأن الله عز وجل خلق الكون وتركه وشأنه كافر , الجواب لابد من إقامة الحجة والبرهان عليه لصبغة الجهالة في هذا القول , وهناك اصطلاح في هذا الزمان اسمه (الحياد الإلهي) ومعناه أن الله عز وجل لا يتدخل في شؤون الكون والخلائق , إنما خلقها وتركها وشأنها .
ولم يجعل الله عز وجل للإنسان خلافة في أمور الكائنات , وعواقبها , ولا يقدر الناس على أي فرد منها وإن إجتمعوا ، إنما يتعاهدها الله عز وجل كل لحظة ، وهي في قبضته لا تنفك عن مشيئته ، وهي محتاجة إلى تقديره وتدبيره ، قال تعالى [إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ] ( ).
والله سبحانه يعلم ذرات التراب ، وحبات الرمل وعدد قطرات المطر ، ومتى وأين تسقط ويجري الشمس والقمر بمشيئته ، وفي التنزيل [خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ] ( ) .
وسيأتي قانون (آيات تدبير الله للخلائق كل ساعة ) .
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ] اربع عشرة مرة في القرآن ، كلها في ذم الكفار والجاحدين , والمنافقين ، ومنكري الآيات القرآنية والنبوات ، وهي حسب نظم وسور القرآن :
الأولى : قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ]( ).
الثانية : قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الثالثة : قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
الرابعة : قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ]( ).
الخامسة : قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا]( ).
السادسة : قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ]( ).
السابعة : قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ]( ).
الثامنة : قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا]( ).
التاسعة : قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ]( ).
العاشرة : قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الحادية عشرة : قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
الثانية عشرة : قال تعالى [إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
الثالثة عشرة : قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ]( ).
الرابعة عشرة : قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ]( ).
وقد عجز الناس عن الإتيان بمثل آيات من القرآن الذي هو كلام الله عز وجل , قال تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ) لبيان عجز الخلائق عن حفظ الآيات الكونية أيضاً أو الإتيان بجزء يسير منها .
وليس من خلافة الإنسان تعاهد وحفظ الكون فهذا الأمر لا يقدر عليه في كل لحظة إلا الله عز وجل , وقد تضمن القرآن نفي وجود إله غير الله عز وجل لبيان إستدامة إلوهية الله عز وجل للخلائق وعبودية الناس لله عز وجل .
وهل عبادة الإنسان لله عز وجل شكر له سبحانه على تعاهد الحياة الدنيا الجواب نعم , فهذا الشكر من وجوه ومنافع العبادة فخلافة الإنسان ليست على الأرض , أو الكون والتصرف المطلق فيهما , إنما هي خلافة الإنسان على نفسه بما يجلب له النفع , ويدفع عنه الضرر في النشأتين, قال تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ]( ) أي في مكابدة ومشقة وعناء وتعب, يكابد الشدائد , ويسعى بجد واجتهاد في طلب المعاش , يبذل الوسع في التعلم واكتساب المعارف , والمراد من لفظ الإنسان في الآية أعلاه جنس الناس .
ولا ينقطع تعب الإنسان بموته وانتقاله إلى الدار الآخرة وعالم القبر الذي هو أول منازل الآخرة , إذ أنه يتعرض إلى ضغطة القبر , ثم السؤال الإبتدائي في القبر من قبل منكر ونكير ثم أهوال يوم القيامة من النشور والحوض والصراط والميزان وغيرها ثم يسعد الذين يدخلون الجنة لجعلهم التعب في الدنيا في مرضاة الله عز وجل , ومنه ملاقاتهم الأذى من الذين كفروا والإقامة على الهدى والثبات على الإيمان ، قال تعالى [فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وقال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
وكون الإيمان من الفطرة لا يعني عدم الحاجة إلى التبصرة والسعي في الإهتداء , كما أن الإستقامة التي تذكرها الآية أعلاه تستلزم المكابدة والتعب لتأتي الراحة والثواب عليها في الآخرة أضعافاً مع انقطاع التعب بدخول الجنة .
وهل يمكن القول بأن كل آية من القرآن دليل نقلي على التوحيد ، الجواب نعم , وقد تفرد الله سبحانه بالخلق والتدبير والملك والتصرف المطلق والمشيئة ، وهو سبحانه منزه عن المثيل في الذات والصفات وعالم الأفعال .
وفي التنزيل [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ] ( ) [فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] ( ) .
ومن الأدلة العقلية على التوحيد بدائع الخلق والأكوان الثابتة والمتحركة والمتجددة ، وفي التنزيل [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ]( ).
ومن رحمة الله عز وجل بالناس قانون قدرة كل إنسان على إستنتاج التوحيد بأدنى تفكر في الخلائق ، فمع الإختلاف والتباين بين الناس في المدارك فان كل إنسان يستطيع التوصل إلى التوحيد بالآيات في الذات والغير وعالم الأفلاك والأكوان .
قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ) وقال تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] ( ).
ويمكن إنشاء قانون من وجوه :
الأول : تدعو كل آية كونية إلى الألفة بين الناس .
الثاني : كل آية كونية مانع من الإرهاب .
الثالث : قانون التوحيد تأديب للناس .
الرابع : قانون إلتقاء الناس بالعبودية والخضوع لله عز وجل سبيل للرأفة والرحمة بينهم وزاجر عن الإرهاب .
قانون أهوال القبر زاجر عن الإرهاب
بين الآخرة ويوم القيامة عموم وخصوص مطلق , فالآخرة أعم , إذ أنها تشمل عالم القبر , وهو أول منازل الآخرة .
ووردت هذه التسمية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال عثمان بن عفان (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ الْقَبْرُ أَوَّلُ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ فَإِنْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ قَالَ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ) ( ).
وأول منازل يوم القيامة , البعث ، والإجماع على أن البعث من القبورحق , لبيان موضوعية القبر في الأهوال التي يتعرض لها الإنسان , من جهات :
الأولى : دخول القبر أول منازل الآخرة .
الثانية : القبر عالم فيه ضغطة القبر والحساب الإبتدائي , وصيرورة القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران( ).
الثالثة : البعث من القبور أول وقائع يوم القيامة , وموضوع القبر خاص وعام , أما الخاص فهو مفارقة الإنسان الدنيا وما زالت الحياة عامرة والناس من حوله , ويتولون دفنه , وأما العام فهو النفخ في الصور إذ يهلك كل من على الأرض دفعة واحدة قال تعالى [وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ] ( ).
وفي حديث ضعيف ورد (عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّ الله عزّ وجلّ لمّا فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل وهو واضعه على فيه، شاخص بصره إلى العرض ينتظر متى .
قال : قلت يا رسول الله : وما الصور .
قال : القرن .
قال : قلت : كيف هو .
قال : عظيم .
والذي بعثني بالحقّ إنّ أعظم داره ( ) فيه كعرض السماء والأرض،
فينفخ فيه بثلاث نفخات : الأُولى نفخة الفزع .
والثانية نفخة الصعق .
والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين .
فأمر الله عزّ وجل إسرافيل (عليه السلام) بالنفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع فيفزع من في السموات والأرض إلاّ من شاء الله .
فيأمره فيمدّها ويطيلها وهو الذي يقول الله عزّ وجلّ {وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلا صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ}( ) فيسيّر الله عزّ وجلّ الجبال فيمرّ من السحاب فيكون سراباً .
وترجّ الأرض بأهلها رجّاً فيكون كالسفينة الموثّقة في البحر .
تضربها الأمواج وتلقيها الرياح .
أو كالقنديل المعلّق بالعرش يرجّحه الأرواح وهي التي يقول الله عزّ وجلّ {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوبٌ يومئذ واجفة}( ) فتمتدّ الأرض بالناس على ظهرها فتذهل المراضع وتضع الحوامل ويشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى يأتي الأقطار فتلقّاها الملائكة تضرب وجوهها ، فيرجع ويولّي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً .
وهو الذي يقول الله عزّ وجلّ {يوم التناد يوم يولّون مدبرين ما لكم من الله من عاصم}( ) فبينا هم كذلك إذ تصدّعت الأرض من قطر إلى قطر فرأوا أو أمراً عظيماً لم يروا مثله .
وأخذهم من الكرب والهول ما الله به عليمٌ .
ثمّ نظروا إلى السماء فهي كالمهل( ).
ثمّ انشقّت فتناثرت نجومها وانكشفت شمسها وقمرها.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والأموات يومئذ يعلمون بشيء من ذلك.
قال أبو هريرة : يا رسول الله فمن استثنى الله عزّ وجلّ حيث يقول {ففزع من في السموات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله}( ).
قال صلى الله عليه وآله وسلم : أُولئك هم الشهداء وإنّما يصل الفزع إلى الأحياء وهم أحياء عند ربّهم يرزقون ووقيهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم ، وهو عذاب بعثه الله تعالى إلى شرار خلقه .
وهو الذي يقول الله {يا أيّها الناس اتّقوا ربّكم إنّ زَلزَلة الساعة شيءٌ عظيم}( ) إلى قوله {وإنّ عذاب الله شديد}( ) فيمكثون في ذلك البلاء ما شاء الله إلاّ أنّه يطول عليهم، ثمّ يأمر الله عزّ وجلّ إسرافيل فينفخ نفخة الصعق {فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الأرض إِلا مَن شَآءَ اللَّهُ}( ) فإذا اجتمعوا جاء ملك الموت إلى الجبّار ويقول : قد مات أهل السماء والأرض إلاّ من شئت ، فيقول الله سبحانه وهو أعلم من بقي فقال : أي ربّ بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت، وبقي حملة العرش، وبقي جبرائيل وميكائيل وإسرافيل.
وبقيت أنا فيقول الله عزّ وجل فيموت جبرائيل وميكائيل فينطق الله العرش فيقول : أي ربّ يموت جبرائل وميكائيل .
فيقول : اسكت إنّي كتب الموت على كلّ من تحت عرشي فيموتان.
ثمّ يأتي ملك الموت فيقول : أي ربّ قد مات جبرائيل وميكائيل فيقول وهو أعلم بمن بقي فيقول : بقيت أنتّ الحيّ الذي لا تموت ، وبقيتْ حملة عرشك فيقول ليمت حملة عرشي فيموتون .
فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل فيموت. ثمّ يأتي ملك الموت فيقول : يا ربّ قد مات حملة عرشك فيقول وهو أعلم بمن بقي فيقول : بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت وبقيت أنا فقال : أنت خلقٌ من خلقي خلقتك لما رأيت فمتْ فيموت فإذا لم يبق إلاّ الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد وكان آخراً كما كان أوّلا طوى السموات كطيّ السِجِلِّ للكتب.
ثمّ قال : أنا الجبّار .
لمن الملك اليوم .
ولا يجيبه أحد .
ثمّ يقول تبارك وتعالى جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه : لله الواحد القهّار {يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات}( ) مطويّات( ) فيبسطها بسطا ثمّ يمدّها مدّ الأديم العكافي {لا يرى فيها عوجاً ولا أمتاً}( ).
ثمّ يزجر الله الخلق زجرة واحدة .
فإذا هم في هذه الأرض المبدّلة في مثل ما كانوا فيه من الأوّل .
من كان في بطنها .
كان في بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها .
ثمّ ينزل الله سبحانه عليهم ماء من تحت العرش كمني الرجال .
ثمّ يأمر السحاب أن تُنزل بمطر أربعين يوماً حتى يكون من فوقهم إثنا عشر ذراعاً .
ويأمر الله سبحانه الأجساد أن تنبت كنبات الطراثيث( ) وكنبات البقل حتى إذا تكاملت أجسادهم كما كانت .
قال الله سبحانه : ليَحيَ حملة العرش .
فيحيون. ثمّ يقول الله تعالى : ليَحيَ جبريل وميكائيل. فيحييان .
فيأمر الله إسرافيل .
فيأخذ الصور فيضعه على فيه .
ثمّ يدعو الله الأرواح فيؤتى بها .
تتوهّج أرواح المؤمنين نوراً والأخرى ظلمة .
فيقبضها جميعاً ثمّ يلقيها على الصور .
ثمّ يأمر الله سبحانه إسرافيل أن ينفخ نفخة للبعث فتخرج الأرواح كأنّها النحل قد ملأت ما في السماء والأرض .
فيقول الله سبحانه : ليرجعنّ كلّ روح إلى جسده .
فتدخل الأرواح الخياشم .
ثمّ تمشي في الأجساد كما يمشي السمّ في اللديغ .
ثمّ تنشق الأرض عنهم سراعاً .
فأنا أوّل من ينشق عنه الأرض .
فتخرجون منها إلى ربّكم تنسلون عُراة حفاة عزّلا مهطعين إلى الداعي .
فيقول الكافرون : هذا يومٌ عَسِر( )( ).
وفي قوله تعالى [قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] ( ).
وورد (عن ابن عباس في قوله { قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون}( ) قال: أراد إبليس أن لا يذوق الموت ، فقيل { إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم }( ) .
قال : النفخة الأولى يموت فيها إبليس ، وبين النفخة والنفخة أربعون سنة .
قال : فيموت إبليس أربعين سنة .
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله { قال فإنك من المنظرين }( ) قال : فلم ينظره إلى يوم البعث ، ولكن أنظره إلى الوقت المعلوم.)( ).
ومن إعجاز القرآن التذكير المتعدد بأحوال الإنسان في الآخرة , وكثرة مواطنها , والمشقة والعناء والعطش الذي يلقاه الإنسان فيها , مع طول إنتظار وترقب , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ]( ).
ولم يرد لفظ (زَلْزَلَةَ) (تَذْهَلُ) (مُرْضِعَةٍ) (بِسُكَارَى) إلا في الآيتين أعلاه والزلزلة : الحركة الشديدة السريعة .
و(عن عمران بن حصين قال : لما نزلت { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم }( ) إلى قوله : { ولكن عذاب الله شديد }( ) أنزلت عليه هذه وهو في سفر فقال : أتدرون أي يوم ذلك .
قالوا الله ورسوله أعلم .
قال : ذلك يوم يقول الله لآدم : ابعث بعث النار .
قال : يا رب ، وما بعث النار .
قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار ، وواحداً إلى الجنة فانشأ المسلمون يبكون .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قاربوا وسددوا فإنها لم تكن نبوّة قط ، إلا كان بين يديها جاهلية ، فتؤخذ العدة من الجاهلية ، فإن تمت ، وإلا أكملت من المنافقين ، وما مثلكم : إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة) ( ).
وهذه الوقائع حق وصدق , ليكون الإنسان على بينة من أمره , ويستعد لعالم الآخرة بالإيمان والعمل الصالح فيخاف من هذه الأهوال في الدنيا , ويحضر هذا الخوف مع الرجاء في عمله وإختياره في مواطن الإبتلاء , ليكون إجتماع الخوف والرجاء عند الإنسان على وجوه :
الأول : إنه دعوة للإيمان والخشية من الله عز وجل ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا]( ).
الثاني : تعاهد الفرائض العبادية رجاء الأجر والثواب ، وخشية العذاب عند التفريط والمعصية ، وعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام قال : إن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وآخرين عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار وقوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار( ).
والمراد التباين الرتبي مع صحة عبادة كل فرقة لتحقق قصد القربة فيها، وقد تجتمع هذه الوجوه الثلاثة عند المؤمن .
الثالث : العصمة من التعدي والظلم .
الرابع : الإمتناع عن مسالك الإرهاب , وإخافة الناس .
الخامس : خشية الإنسان على نفسه من ظلمة القبر , وإبتداء الحساب فيه , والعجز عن التدارك والإستغفار يومئذ , فجاءت آيات القرآن رحمة بالناس جميعاً للإحتراز من ضيقه والحساب فيه ، قال تعالى [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ).
والقبر نهاية الدنيا وبداية الآخرة , وهو من الإعجاز في قوله تعالى [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى]( ) وإجتناب ظلم النفس واجب عقلي وشرعي , ومنه السلامة من الإضرار بالناس وممتلكاتهم ومصالحهم .
ولقد تفضل الله عز وجل وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليذكر الناس بالموت والقبر والبرزخ وأهوال الآخرة , ليكون هذا التذكير دعوة للإيمان وأداء الفرائض العبادية , والتحلي بالصلاح في القول والفعل, ومن مصاديق هذا الصلاح قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) والذي صدرت بخصوصه الأجزاء 179 , 180 , 183 , 191 , 194 , 195 , 198 , 206 من هذا السِفر المبارك .
مادة الإلتقاء بين الواجب العيني والكفائي
وهي من جهات :
الأولى : كل من الواجب العيني والكفائي يسمى واجباً ولازماً وفرضاً .
الثانية : استقراء الوجوب من القرآن والسنة ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
الثالثة : يتعلق موضوع كل من العيني والكفائي بالواجبات والمندوبات .
لذا يمكن تقسيم المندوب في المقام إلى وجهين :
أولاً : المندوب العيني والمستحبات مثل صلاة الشفع والوتر ، والنوافل اليومية والصدقة المستحبة ، وصيام التطوع.
ثانياً : المندوب الكفائي ، مثل الأذان ، والسلام على الغير ،وتسميت العاطس .
الرابعة : الأجر والثواب في إتيان كل من الواجب العيني والكفائي .
الخامسة : مصاحبة الواجب العيني والكفائي لأيام الحياة الدنيا , ويمكن تسمية الحياة الدنيا دار الواجب .
السادسة : كل منهما من مصاديق الخطاب الإلهي والنداء التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] والذي ورد في القرآن تسعاً وثمانين مرة , وقد تتضمن آية النداء عدة أوامر واجبة ومندوبة , كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) وقد تتضمن واجباً عينياً كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ) وقد يتقدم النهي على الأمر كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) ، قد تتضمن آية النداء واجباً فردياً وعاما مع إتحاده الموضوعي كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] ( ).
وقد تختص آية النداء بالنهي المتحد أو المتعدد ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
وكل فرد من الأوامر في الآية أعلاه يشمل الواجب والمندوب , وهي :
أولاً : الصبر الواجب , والصبر المندوب .
ثانياً : المصابرة الواجبة في ملاقاة مشركي قريش , والمصابرة المستحبة .
ثالثاً : المرابطة الواجبة في أداء الصلاة بعد الصلاة والمرابطة المستحبة .
رابعاً : التقوى والخشية من الله عز وجل في الواجبات وإجتناب المحرمات , وتقوى الله عز وجل في إتيان المندوبات وترك المكروهات خاصة وأن التقوى من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في الموضوع والكيفية ، ومنه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
قال تعالى [وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ] ( ).
السابعة : كل من الواجب العيني والكفائي والمستحب من طاعة الله عز وجل , والإمتثال للأوامر , ومن عمومات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( ).
الثامنة : الواجب العيني والكفائي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وفيه جذب للناس للهداية والإيمان .
التاسعة : كل من الواجب العيني والواجب الكفائي واقية من الظلم والإرهاب .
وعندما أخبر الله عز وجل الملائكة أنه سيجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
احتجوا بأن شطراً من الناس يفسدون في الأرض , ويسفكون الدماء أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ، وفي هذا الجواب وجوه :
الأول : الإحتجاج ، وبيان مصداق حاضر للخليفة وهو آدم , وكيف أنه قام بتعليم الملائكة الأسماء ، قال تعالى [يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( ).
ليستقرأ الملائكة مسألة وهي يستطيع الإنسان عصمة نفسه من الفساد ، وأن أهل الإيمان يبذلون الوسع ويظهرون التعاون لتنزيه الأرض من الفساد وسفك الدماء والإرهاب لذا جعل الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً ، قال تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
الثاني : الوعد الكريم .
الثالث : كشف جانب من الغيب لا تعلمه الملائكة .
الرابع : بعث السكينة في نفوس الملائكة في عمارة الإنسان الأرض بالذكر وصيغ التقوى .
الخامس : فضل الله في إصلاح الناس ، ومنعهم من إشاعة الفساد .
السادس : بعث الله الأنبياء وإنزاله الكتب من السماء لدفع الناس من مزالق الفساد ، قال تعالى [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ]( ).
السابع : وقوف الناس جميعاً بين يدي الله للحساب في الآخرة .
وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفاً يوم القيامة لازماً به لا يفارقه ، وإن دعا رجل رجلاً . ثم قرأ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ.
العاشرة : ينبسط أداء الواجب العيني على كل المكلفين على نحو العموم الإستغراقي ، بينما يكفي تحقق صرف الطبيعة في الواجب الكفائي، فالصلوات اليومية الخمس واجب عيني .
والذي يؤديها لا يسقطها عن غيره ، إنما تسقط عنه بالذات ، بينما تغسيل الميت واجب كفائي ، مطلوب تحققه من أي فرد من المسلمين ، فاذا أداه أحدهم سقط عن الجميع .
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية عدم الإتكال على الغير في الواجب الكفائي ، حتى يترك ويهمل ، إنما يلزم التعاون من أجل أدائه كيلا يؤثم الجميع ، ليكون الواجب في الإسلام من مصاديق التكافل الإجتماعي ، وهو مدرسة في الأخلاق الحميدة والصلاح ، قال تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( )، أنها ذكرت كلاً من :
الأول : المؤمنون .
الثاني : الفرقة .
الثالث : الطائفة .
الرابع : القوم .
الأول : المؤمنون : لم تقل الآية : وما كان الذين آمنوا لينفروا كافة ) إنما ذكرت خصوص المؤمنين ، وهناك سورة بذات الاسم أولها قد افلح المؤمنون ، والمختار أن النسبة بين الذين آمنوا والمؤمنين هي العموم والخصوص المطلق .
إذ يشمل لفظ [أَيُّهَا الَّذِينَ] عموم المسلمين ومنهم المنافقون والعصاة، خاصة وأن النفاق عرض متزلزل , ألا ترى أن الخطاب التكليفي بالفرائض يتوجه إليهم كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) .
(وسُئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن قول الله عزوجل: ” يا أيها الذين آمنوا ” في غير مكان في مخاطبة المؤمنين أيدخل في هذه المنافقون ؟
قال: نعم يدخل في هذه المنافقون والضلال وكل من أقر بالدعوة الظاهرة) ( ).
لبيان وجه من الإعجاز القرآني وهو أن الذين يتصدون للفقاهة والفتوى من أهل الإيمان والورع ويهدون الناس لأموردينهم ، ولا يفتنون بالمال ، ويزجرون عن الإرهاب ، ولا يدعون إلى الفتنة والفرقة ، ومنهم من قال أن [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ] هو الأخص ، ويراد منه المسلمون الأوائل ، وقد يتداخلان ويأتي أحدهما محل الآخر ، قال تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ) .
وهل تحصر الآية النفرة إلى الدفاع بالمؤمنين ، الجواب لا ، فاثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، ولكن خصوص الذين ينفرون للفقاهة والإفتاء هم من المؤمنين.
والدفاع والمرابطة فرض كفاية ، (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ” ” انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا ” وَقَوْلُهُ: ” إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ” فَنَسَخَ هَؤُلاءِ الآيَاتِ ” وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ” يَقُولُ: لِتَنْفِرَ طَائِفَةٌ، وَلْتَمْكُثَ طَائِفَةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ”)( ).
ويمكن الجمع بين الآيتين من غير أن تصل النوبة إلى النسخ ، إنما هو من المطلق والمقيد ، نعم كان القدماء يجعلون المقيد ناسخاً للمطلق .
الثاني : الفرقة ، وهي الجماعة التي يجمعها أمر أو أمور ، وهي والطائفة، وهما مما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا ، وقد افترقا في الآية ، وتكون النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق ، فالطائفة أعم من الفرقة ، والفرقة من الإفتراق .
وتشير الآية إلى التخصيص في أبواب الفقه والتفسير والأصول .
ترى لماذا لم تقل الآية فلولا نفر من كل فرقة طائفة ، من غير الجار والمجرور ( فرقة منهم ) .
وورد حرف الجر (من) مرتين في الآية بينهما كلمتان (من كل فرقة منهم) والضمير (هم) أعم من (كل )وإن كان كل سور الموجبة الكلية إذ أنه ينحصر بالفرقة بينهما الضمير هم ليشمل المؤمنين كلهم.
ولا يمكن لإنسان أن يأتي بالجار والمجرور في المقام ، إذ قد يقال بأن الظاهر استقامة المعنى من غير (منهم) ولكن عند التدبر في الآية تتجلى مسألة وهي ورود الجار والمجرور إعجاز سماوي ، إذ تقيد الآية الذين يتفرغون للفقه بأنهم من المؤمنين على نحو الحصر ، فيعود الضمير (هم) إلى المؤمنين .
فلا يجوز أن يتفرغ للفقه الضال والعاصي والمنافق ، والمحدود إلا أن يتوب توبة نصوحاً ، لبيان قدسية هذا المنصب الرفيع وشروط الفتوى فيه لتعلقه بأمور الدين والدنيا وأحكام الفقه وضبط معايش الناس ، وسيادة الأمن ، وفيه حفظ لأحكام القرآن وسنن النبوة ، وهو واقية من التحريف .
الثالث : الطائفة وهي الجماعة من طاف حول الشئ ، وقيل قد يراد من الطائفة الفرد الواحد ، ولكن آية النفرمنعت من هذا القول ، لقوله تعالى بصيغة الجمع [لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ] ( ).
وكما في قوله تعالى [يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] ( ).
وقد تقدم أن صيغة الجمع في القرآن للمنفرد خاصة بالله عز وجل ، فيحمل لفظ الجمع أعلاه على الحقيقة ، والمراد الجماعة والكثرة في الذين ينفرون إلى طلب العلم ، ويختصون بالفقاهة والفتوى بحسب السكن والإقامة والتجمع .
وهل تدل الآية أعلاه على جواز التقليد في الفروع ، الجواب نعم، وهي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
وتبين الآية أن التفقه والتكليف به يقع على طائفة ، فصحيح أنهم لا ينفرون في الدفاع ولكنهم ينفرون للتفقه لبيان أن التفقه جهاد وواجب كفائي مشروط بالإيمان والتقوى ، وملكة الحفظ والتدبر والذكاء والتي تستقرأ من الوظيفة المناطة بهم من التبليغ وبيان الأحكام والإنذار ، فمعنى [ليتفقهوا] ليكونوا مؤهلين للفتوى ، وبيان الأحكام .
والمختار أن الإجتهاد هو في الفقه والتفسير إلى جانب الإلمام على نحو الإجمال ، في علم الأصول والكلام والنحو والصرف والبلاغة .
الرابع : القوم وهو أعم الأفراد الأربعة التي ذكرت من المؤمنين والفرقة والطائفة ، والمراد من القوم أعم ، وأن الذي يتفقه من الفرقة لا يختص بذات الفرقة ، إنما يعمل بين المسلمين والناس جميعاً ، وهو فروع قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ) وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ومن معاني [إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ] أي رجوع القوم للفقهاء ورجوع الذين في النفر الدفاعي إلى الفقهاء ، ويشمل الرجوع إليهم في حال السلم التي هي أطول وأكثر من أيام الحرب والقتال في حياة الناس في كل زمان ومكان ، ولم تذكر الآية القبيلة أو القرية أو البلد ، إنما ذكرت الطائفة لبيان الإلتقاء في العمل بأحكام الشريعة ، والأخذ من الفقيه ، وإن كان من قبيلة أخرى ، ولأن الجامع المشترك بين الفقهاء واحد وهو اقتباس واستنباط الأحكام من الكتاب والسنة ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) .
الحادية عشرة : لا يختص الواجب الكفائي بالأداء الفردي له ، مثل رد السلام ، فقد يلزم أتيانه من قبل جماعة أو طائفة كما في التفقه في الدين ، وهو من إعجاز القرآن بقوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] ( ).
وهل يدل قوله تعالى [وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ]على عدم حصر وظيفة الفقيه لطائفته ومذهبه ، الجواب نعم ، ومن معانيه حرمة تكفير الفقيه لفرق المسلمين ، والمختار أن لفظ الكفار لا يصدق على أهل الكتاب ، إنما هو خاص بالذين يجحدون بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
وهل معنى اللام في [لِيَتَفَقَّهُوا] و[وَلِيُنذِرُوا] متحد أو متعدد فمثلا الأولى للتعليل والثانية للغاية .
المختار كلاهما للتعليل والغاية .
الثانية عشرة : كل من الواجب العيني والغيري من الضروريات مع التباين ، فالضروريات في الواجب العيني هي الأكثر وفيها حفظ للنفس وأداء للتكاليف .
الثالثة عشرة : كل من الواجب العيني والكفائي حسن ذاتاً .
الرابعة عشرة : مقتضى الأصل العملي في كل من الواجب العيني والكفائي أصالة الإشتغال ، لإقتضاء الإشتغال اليقيني الفراغ اليقيني .
الخامسة عشرة : كل من الواجب الكفائي والعيني مشمول بحديث الرفع وأحكام الضرورة .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : رفع عن امتي تسعة. الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة( ).
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : رُفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما أُكرهوا عليه( ).
السادسة عشرة : كل فرد من الواجب حاجب وزاجر عن المعصية في ذات موضوعه وغيره كما في قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ).
السابعة عشرة : وقد تلتقي أقسام الواجب بمصداق مخصوص كما في إلتقاء الواجب العيني والكفائي في معاني ودلالات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
الثامنة عشرة : يؤتى بكل من الواجب العيني والواجب الكفائي بقصد القربة إلى الله عز وجل .
التاسعة عشرة : كل من الواجب العيني والكفائي امتحان واختبار .
العشرون : في تنجز الواجب العيني والكفائي والإمتثال لهما جلب للمصالح ودفع للمفاسد .
الواحدة والعشرون : كل من الواجب العيني والكفائي لأمور الدين والدنيا ، وخالف أبو حامد الغزالي الذي اقتصر الواجب الكفائي بأعمال الآخرة دون شؤون الدنيا بحجة أن الطبع يقود إليها مثل الزراعات والصناعات والبيوع والمناكحات .
الثانية والعشرون: يلتقي كل من الواجب العيني والكفائي بعلم المقاصد، وهو الغايات السامية من الحكم الشرعي والمنافع منه التي تعود على كل من :
الأول : ذات المكلف الذي يتوجه إليه الخطاب الشرعي .
الثاني : المكلف الذي يمتثل لأمر الشارع ، قال تعالى وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ .
ومن معاني الجمع بين الآية أعلاه وقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) أن الأمر بالصلاة والزكاة هو من عند الله عز وجل.
الثالث : الجماعة والطائفة والأمة ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]( ).
مادة الإفتراق بين الواجب العيني والكفائي
وهي من جهات :
الأولى : يطلب الواجب العيني من كل مكلف ، أما الواجب الكفائي فالمقصود إيقاع فرد مخصوص من الفعل .
الثانية : إذا أدى الفعل الكفائي أحدُهم سقط عن الآخرين ومنه القضاء بين الناس والإفتاء وإطفاء الحريق ، أما الواجب العيني فيجب على كل مكلف مثل الصلوات الخمس .
الثالثة : يأتي كل منهما بصيغة الفرض ولكن التباين في الموضوع ، كما في قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]( )، فانه فرض عين على كل مكلف ، أما قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ]( )، فهو فرض كفاية في الدفاع ، ويجب على النساء الصيام بينما يسقط عنهن الدفاع ، وورد التكليف بالصيام والدفاع بصيغة المذكر [كُتِبَ عَلَيْكُمْ] لتغليب المذكر ، ويكون التباين في الشمول والتخصيص بين الرجال والنساء بلحاظ آيات القرآن الأخرى والسنة النبوية.
الرابعة : يعرف الواجب هل هو عيني أو كفائي بلحاظ صيغة الخطاب ، ومضمونه ودلالته ، وبيان الآيات القرآنية الأخرى والسنة النبوية القولية والفعلية له .
الخامسة : التباين النوعي بين الواجب العيني والكفائي ، إذ تتكرر المصلحة في الواجب العيني كالصلاة ، والصوم وليس من تكرار للمصلحة في الواجب الكفائي ، وقد ينتفي موضوع الواجب الكفائي بأوانه مثل إنقاذ الغريق ورد السلام .
السادسة : تعود منفعة الواجب العيني على صاحبه ، ومنه تترشح على الغير ، أما أداء الواجب الكفائي فتعود منفعته على الجميع .
السابعة : يتوجه الخطاب في الواجب العيني إلى كل مكلف ذكراً أو أنثى، أما الواجب الكفائي فان المطلوب منه تحقق حصول الفعل كانقاذ الغريق .
الثامنة : لا يسقط الواجب العيني إلا بأداء ذات المكلف له ، أما الواجب الكفائي فان أداء واحد من الجماعة يكفي عن الجميع .
التاسعة : ليس من نيابة في الواجب العيني ، نعم يكون القضاء عن الميت في موارد عبادية متعددة منها : حج البيت ، والصلاة ، والصيام .
العاشرة : اتيان العبد للواجب العيني يمنع عنه الإثم دون غيره ، أما أداء الواجب الكفائي فإن أداء الفرد يمنع الإثم عنه وعن غيره من المكلفين الذين يتوجه إليهم الخطاب كالصلاة على الميت .
الحادية عشرة : يتعلق الواجب الكفائي بصرف وجود الطبيعة ، ولا يلزم صدوره من كل مكلف إنما يكفي صدوره عن فرد واحد منهم لأن المطلوب ذات الفعل .
الثانية عشرة : الواجبات الكفائية من التكافل الإجتماعي والتضامن العام ، واستقراء المجتمعات ، وهو مناسبة للذكر وتعظيم شعائر الله .
وهل هو من الواجب على أحد المكلفين لا بعينه الذي ينطبق على كل واحد منهم ، الجواب لا ، إنما المراد إتيان ذات الفعل .
وتتجلى بتسمية الواجب الكفائي الذي يقوم بالفعل كي يجزي عن الجميع ، فمثلاً الصلاة على الميت واجب كفائي ، فالذي يتصدى لها لابد أن يؤديها حسب الشرائط كي يكفي عن الآخرين ، ويجزي عنهم لتحقق صرف الطبيعة .
نطرح مسألة مستحدثة في علم الأصول وهي : هل الأحكام التكليفية الخمس ، الوجوب ، والندب ، والإباحة ، والكراهة ، والحرمة من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة في الحكم والكيف والأثر والتكليف على النفس أم أنها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، الجواب هو الثاني ، فالوجوب أعلاها رتبة وأشدها من جهة الحكم.
وهناك ملازمة بين الواجب العيني والكفائي , لأن كل واحد منهما قسيم الآخر .
وقد يستقل الواجب العيني ويمر اليوم على الإنسان وليس فيه واجب كفائي متوجه إليه ، أما الواجب العيني فيتوجه إليه خمس مرات في اليوم بالصلاة اليومية ، كما يتوجه إليه في غيرها , وترك الإرهاب واجب عيني .
الثالثة عشرة : يتكرر الخطاب في الواجب العيني ، ويراد مصداقه على نحو متكرر كما في الصلاة فانها تجب خمس مرات في اليوم ، أما الواجب الكفائي فانه قد لا يتكرر ، فان قلت الخطاب والتكليف بالحج لا يتكرر إذ تكفي مرة واحدة في العمر .
والجواب من وجوه :
الأول : قد ثبت أن الحج واجب عيني كتاباً وسنة واجماعاً .
الثاني : جاء الوعيد في خاتمة آية الحج [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( )، ويحتمل الوعيد في هذه الخاتمة وجوهاً :
أولاً : التعلق والإنتظام بما قبله ، وتقدير الآية : فمن جحد فريضة الحج، فقد كفر والله غني عنه ، وعن عبادته ، ويبقى البيت الحرام عامراً بوفد الحاج إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ثانياً : بيان قانون عام ، لا يتعلق بما قبله ، وتكون الواو في (ومن كفر) للإستئناف .
ثالثاً : العنوان الجامع للعطف والإستئناف .
والمختار هو الثالث .
وهل يشمل الكفر في المقام من كان قادراً على الحج ولم يحج أم أن القدر المتيقن منه هو الذي يجحد بالحج وفرضه .
المختار هو الثاني ، إنما يكون الذي يؤخر أداء الحج مع الإستطاعة عاصياً وبه قال ابن عباس.
ويتكرر خطاب التكليف نحوه كل عام ، وهل هذا التكرار مجرد أم أنه مقرون بضروب من اللطف الإلهي والتذكير والبرهان.
الجواب هو الثاني ، وهو من معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) واحتجاج الله عز وجل على الملائكة حينما تساءلوا عن علة وموضوع هذه الخلافة مع أن طائفة من الناس يفسدون في الأرض وأخرى تسفك الدماء .
فقد قال لهم الله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) وكان هذا القول خاتمة للآية أعلاه لترى الملائكة مصاديق متجددة منه كل ساعة في الدنيا والآخرة ، وإبتدأت بالنفخ من روح الله في آدم ، وتعليم الله عز وجل له الأسماء وقيامه بتعليم الملائكة ذات الأسماء .
وهل منها مصاديق قوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ) .
الجواب نعم ، فمن الأسماء التي علّمها آدم للملائكة بتعليم الله له بلحاظ الآية أعلاه :
الأول : الحج ، والمراد حج بيت الله الحرام لورود آيات أخرى تبين المقصود من ألف ولام العهد في لفظ [الحج] في الآية أعلاه ، منها قوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ] ( ) فذكرت الآية أعلاه جبلي الصفا ، وهما لايوجدان إلا بجوار البيت الحرام ، كما ذكرت الآية حج البيت ، ووردت آيات أخرى بالتعيين ، وأنه البيت الحرام والكعبة ، كما في قوله تعالى [جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ…]( )كما تضمنت آيات القرآن تعيين أوان الحج الوقوف في عرفة بقوله تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ]( ) لبيان أنه مقدمة للحج الأكبر الذي هو في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة ، كما يتجلى بقول تعالى [وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ]( ) .
وهو الذي تدل عليه السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية .
الثاني : تعليم الأشهر لقوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ] ومنه تعليم الشهر ، وإكمال عدته وعدد أشهر السنة والأشهر الحرم ، وتعاقب الليل والنهار على أهل الأرض ، وعدد السنين والحساب ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( )
وهل قيام المشركين بالقتال في الشهر الحرام من الفساد والقتل ظلماً والذي احتجت به الملائكة ، أم أنه خاص بسفك الدماء ، الجواب هو الأول، ليكون الإنذار لمشركي قريش من محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد صدر من خلق الله عز وجل آدم ، وكذا فان الملائكة استعدت لنصرته قبل أن يأكل آدم وحواء من الشجرة ويهبط إلى الأرض ، قال تعالى بخصوص معركة بدر [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
ويدل على استعداد الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الجملة ما ورد في حديث الإسراء .
ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح ، فقيل : من هذا؟
قال : جبريل .
قيل : ومن معك؟
قال : محمد ، قيل : وقد بعث إليه؟
قال : قد بعث إليه .
ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور) ( ).
ويدل على تعليم آدم للملائكة في المقام أشهر الحج وهي شهر شوال وذو القعدة وذو الحجة ، ما ورد في خطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع (ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والارض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مفطر الذي بين جمادى وشعبان ” وأراد عليه السلام بذلك أن الاشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وأعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسئ ” ليواطؤا عدة ما حرم الله ” ( ).
أي إنهم لم يحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام ليكون موافقة في العدد.) ( ) أي أن أوان الحج كان ثابتاً قبل أن يخلق الله آدم .
الثالث : قيام آدم بإخبار الملائكة عن أشهر الحج ، وذكره لأسمائها بقرينة [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) .
وهل يمكن القول بقانون جميع الأسماء الواردة في القرآن قد ذكرها آدم للملائكة ، الجواب نعم ، لبيان قانون فرض الله حج البيت من حين خلق آدم عليه السلام .
ومن الإعجاز في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) فرض الحج على الناس جميعاً على نحو العموم الإستغراقي ليشمل آدم وحواء ، وهل حج آدم البيت .
الجواب نعم ، إذ أنه حجه وهو خيمة , ثم حجه عندما بناه جبرائيل .
(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أول من لبى الملائكة قال الله { إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء }( ) قال : فزادوه فأعرض عنهم ، فطافوا بالعرش ست سنين يقولون :
لبيك لبيك اعتذاراً إليك ، لبيك لبيك نستغفرك ونتوب إليك .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن سابط( ) إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : دحيت الأرض من مكة ، وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أوّل من طاف به ، وهي الأرض التي قال الله { إني جاعل في الأرض خليفة }( ) .
وكان النبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتاها هو ومن معه ، فيعبدون الله بها حتى يموتوا فيها ، وأن قبر نوح ، وهود، وشعيب ، وصالح، بين زمزم وبين الركن والمقام) ( ).
و(قال ابن عبّاس : حجّ آدم أربعين حجّة من الهند إلى مكّة على رجليه فهذا بدء أمر الكعبة فكانت على ذلك إلى أيّام الطّوفان فرفعه الله إلى السّماء الرابعة فهو البيت المعمور يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ثمّ لا يعودون إليه إلى يوم القيامة) ( ).
(عن ابن عباس قال : إياكم والرأي فإن الله تعالى رد الرأي على الملائكة ، وذلك أن الله تعالى قال { إني جاعل في الأرض خليفة }( ) قالت الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها . . . قال إني أعلم ما لا تعلمون}( ))( ).
وورد حديث لم تثبت صحته عن ثابت عن أنس قال (قال رسول الله : يأتي على الناس زمان يحج أغنياء الناس للنزهة، وسائلهم للتجارة وقرّاؤهم للرياء والسمعة وفقرائهم للمسألة) ( ).
والحديث لا أصل له إذ أن أكثر رواته مجاهيل غير معروفين .
الرابع : وجوب الحج على المكلف عند الإستطاعة ، لقوله تعالى [فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ]( )، ليكون وجوب الحج من الأسماء التي علمها أدم إلى الملائكة ، ومن أسرار هذا التعليم أنه مصداق لقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وفيه إخبارحاضر وقبل أن يهبط آدم إلى الأرض بأن الناس سيؤدون حج بيت الله طاعة له سبحانه ، وهو حرب على الفساد ، وزاجرعن قتل النفس ظلماً وتعدياً .
الخامس : من الأسماء تهذيب أفعال المسلمين من الكلام الفاحش والفجور والفسوق واليمين الغوي .
ومن الأسماء التفقه في الدين ، وزيادة المعرفة وإتقان المناسك ، إذ أن أصل حرص المؤمن على أداء الفرائض العبادية هو المعرفة والتسليم بالتوحيد والنبوة والتنزيل والإقرار باليوم الآخر .
السادس : إشراقة أيام الحج على الناس بحسن السمت والأخلاق الحميدة وفيه تهذيب وواقية من الفساد أيام الحج ، كما يترشح هذا التهذيب على أيام السنة الأخرى ، ومن وفد الحاج إلى غيرهم .
السابع : قيام المسلمين بفعل الخير لقوله تعالى [وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ) والدعوة إلى السعي في سبل التقوى والصلاح والهّمة العالية في سبل الطاعة ، وفيها طمـأنينة للنفس ، وعصمة من البغضاء .
فان قلت إن القدر المتيقن من قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) إرادة الأسماء ، والجواب المراد أعم من الأسماء ، فيشمل أسماء الأفعال والأحوال .
والأسماء جمع اسم وهو ما دل على معنى في نفسه غير مقترن بزمن .
وكل في قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) سور الموجبة الكلية.
(عن أبي رافع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مثلت لي أمتي في الماء والطين ، وعلمت الأسماء كما علم آدم الأسماء كلها .
وأخرج وكيع في تاريخه وابن عساكر والديلمي عن عطية بن يسر مرفوعاً. في قوله { وعلم آدم الأسماء كلها }( ) .
قال : علم الله في تلك الأسماء ألف حرفة من الحرف وقال له : قل لولديك وذريتك يا آدم إن لم تصبروا عن الدنيا فاطلبوا الدنيا بهذه الحرف، ولا تطلبوها بالدين فإن الدين لي وحدي خالصاً . ويل لمن طلب الدنيا بالدين ويل له) ( ).
(وأخرج أبو الشيخ عن عوف قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أنبئت بكل مستقر ومستودع من هذه الأمة إلى يوم القيامة كما علم آدم الأسماء كلها ) ( ).
لقد أخبرت آية الحج عن علم الله بفعل الخير والصالحات التي يقوم بها المؤمنون ، فأخبر بها آدم عليه السلام ليفاخر بها الملائكة ، ويكون من مصاديق احتجاج الله عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الثامن : علّم آدم الملائكة حال التقوى التي يتصف بها المؤمنون ، ليكون من معاني علّم في الآية : أخبار آدم الملائكة عن الأسماء والأحوال ، إذ أن الملائكة آئمة التقوى ، وفعلهم خير محض ، وفي الثناء على الملائكة وعبادتهم وخشيتهم من الله ، قال تعالى [يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
التاسع : إخبار آدم عليه السلام للملائكة باقراره بقانون [خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ).
وورد حديث ضعيف الإسناد عن الإمام علي عليه السلام قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِى كِتَابِهِ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ( ) .
قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِى إِسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَهِلاَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ فِى الْحَدِيثِ ( ).
و(عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من مات ولم يحج حجة الإسلام ، لم يمنعه مرض حابس ، أو سلطان جائر ، أو حاجة ظاهرة ، فليمت على أي حال شاء يهودياً أو نصرانياً)( ).
وذكره ابن الجوزي في الموضوعات ، وقال العقيلي والدارقطني لا يصح فيه شئ .
ولكن يتسامح علماء الإسلام في رواية الحديث في باب الفضائل والمستحبات وفي الترغيب والترهيب( ) .
العاشر : تكرار الخطاب التكليفي العيني بالحج ، كل سنة عند التخلف عنه سواء عن تقصير أو عن عذر .
من تقسيمات الواجب الكفائي
يمكن تقسيم الواجب الكفائي إلى قسمين :
الأول : الواجب الكفائي الديني ، ويتعلق بالفروض الكفائية الخاصة بالعبادة مثل صلاة الجنازة فاذا أداها أحد المسلمين أجزأ ، وإن لم يصل أي أحد منهم عليها ، فان الجميع ممن علم وكان بامكانه الصلاة عليها يؤثم ، ومنها التفقه في الدين ، قال تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] ( ) .
الثاني : الواجب الكفائي الدنيوي : وهي المهن والعلوم والصنائع والحرف والطب والهندسة التي تفيد الأمة وانتظام المجتمع ، والبناء ، والحضارة ، وسلامة الأشخاص .
وأيهما أكثر نفعاً في حفظ الدين والنفس الواجبات العينية أم الكفائية ، المختار أن الواجب العيني هو الأكثر نفعاً ليكون من معاني وتقدير قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) فما من إنسان ذكراً أو أنثى إلا ليعبد الله بالتكاليف العينية التي تجب عليه .
قال تعالى في الثناء على المتقين الذين يخشون الله [الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]( ).
يطلب فعل الواجب العيني من كل مكلف بعينه كما في الصلاة والصيام والحج ، فلا تصح فيه النيابة أو التطوع من الغير أو التسويف أو الإرجاء لما بعد الموت .
أما الواجب الكفائي فهو الذي يتعلق بتحقق المصداق والمطلوب دون النظر إلى الذي يفعله ، فيجزي من أي واحد من الجماعة , كما في رد السلام .
من آيات الأحزاب
قال تعالى [جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الأَحْزَابِ] ( ) وهذه الآية هي الحادية عشرة من سورة (ص) وهي سورة مكية ، وتسلسل هذه السورة في القرآن هو (38) .
وتبدأ الآية بالثناء على القرآن بقوله تعالى [ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ] ( ) مما يدل على أن النسبة بين القرآن والذكر عموم وخصوص مطلق .
ومع أن الآية نزلت في مكة قبل الهجرة فان قوله تعالى [جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الأَحْزَابِ] ( ) فيه مسائل :
الأولى : إرادة مشركي مكة فهم الأحزاب ، بدليل الآية التي بعدها [كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ] ( ).
الثانية : إخبار الآية عن كون قريش متحزبين ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : الإخبار من علم الغيب بأن قتالاً سيقع بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين .
الرابعة : بعث السكينة في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونفوس أصحابه .
الخامسة : ترغيب أهل مكة وغيرهم بدخول الإسلام وعدم الخشية من الذين كفروا ، وإن كانوا ذوي شأن وهيبة , قال تعالى [وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ).
السادسة : هل تدل الآية أعلاه [جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الأَحْزَابِ] ( ) على البشارة بنصر المسلمين وفتح مكة .
الجواب نعم ، إذ أن [هُنَالِكَ] يشار بها للبعد المكاني ، كما تفيد في المقام التوبيخ والذم للذين كفروا ، وتأليفهم الأحزاب ، فقد نزلت الآية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو بين ظهراني قريش ، فاشارت الآية لهم بالبعد ، ومنه البعد عن رحمة الله من وجوه :
الأول : صيرورة المشركين أحزاباً ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل الإيمان .
الثاني : البعد عن رحمة الله سبب لهزيمة المشركين .
الثالث : هزيمة المشركين سبب لبعدهم عن رحمة الله .
وهل يلزم الدور بين الوجه الثاني والثالث أعلاه ، الجواب لا ، للتباين الموضوعي في كم وكيفية ونوع وأسباب البعد ، وتجدد إصرار المشركين على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابعة : إخبار الآية عن بشارة من علم الغيب من وجوه :
الأول : صيرورة المشركين بهيئة الأحزاب .
الثاني : ائتلاف القبائل مع قريش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فقريش وحدها لا يصدق عليهم أنهم أحزاب .
الثامنة : إرادة أصالة الإستصحاب ، فكما انهزم المشركون من أعداء الرسل السابقين فان أعداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن صاروا أحزاباً فإنهم مكسورون منهزمون .
وهل ذكر الآية التي بعدها لقوم نوح وعاد وفرعون من باب التعيين والحصر أم أنه من باب المثال الأمثل ، المختار هو الثاني .
التاسعة : تفيد آية البحث معنيين :
الأولى : أن الجند من المشركين مهزومون ، ويفيد حرف الجر (من) التبعيض .
وتقدير الآية : جند الأحزاب هناك مهزومون .
الثانية : إفادة معنى الباء السببية ، وتقدير الآية : جند ما هنالك مهزوم بالأحزاب .
والصحيح هو الأول ، وفيه نكتة وهي أن الأحزاب التي تهيئ للحرب وقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من الجنود الذين يحضرون في المعركة كما في معركة بدر إذ كان عدد جيش المشركين نحو ألف ، وفي معركة أحد كان عددهم ثلاثة آلاف .
أما في معركة الخندق فقد حضر الأحزاب إذ كان عددهم عشرة آلاف رجل ، لتكون آية البحث بشارة هزيمتهم وإن جاءوا كلهم ، وصدق عليهم اسم الجند والأحزاب في آن واحد ، فكانت هزيمتهم إنقطاعاً لهم .
كما في قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( )أي بعض الناس وشطر منهم .
العاشرة : بيان قانون وهو أن المشركين يألبون الناس ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويعقدون المواثيق فيما بينهم للهجوم على المدينة وغزوها وإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الحادية عشرة : من دلائل آيات القرآن البشارة بنجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كيد المشركين في مكة ، وإرادتهم سجنه أو قتله ، فينما كان كفار قريش يذهبون إلى أبي طالب يسألونه أن يكف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن فضح آلهتهم .
ويتوعدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يشتم آباءهم مع أنه لم يتعرض لهم ولم يسبهم أو يشتمهم ، ولكن المشركين يقولون أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يذم عبدة الأصنام ، ويخبر بأن الذي يموت على عبادتها يدخل النار .
(عن قتادة قال : ذكر لنا ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم الاحزاب لن يغزوكم المشركون بعد اليوم فلم تغزهم قريش بعد ذلك)( ).
وصدر هذا القول من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم إنصرفت الأحزاب في معركة الخندق ، وأجلاهم الله بفضله .
وحتى على القول الآخر (الآن نغزوهم ولا يغزونا ، نحن نسير إليهم ) فانه لا يدل على الغزو ، إنما يتضمن الحديث عالم الإمكان ، وصيرورة المسلمين بحال القدرة على الهجوم والإشارة إلى صلح الحديبية بدليل قوله صلى الله عليه وآله وسلم (نحن نسير إليهم ) أي أنه سير ومشي دون سلاح ولا إرادة قتال .
الثانية عشرة : دعوة أهل يثرب وغيرهم لإيواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه ، إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطوف على وفود القبائل التي تأتي إلى الحج فيدعوهم إلى التوحيد ، ويخبرهم أنه رسول من عند الله ، ويسألهم إيوائه ، وحمايته من بطش قريش ، وكان يتلو عليهم آيات من القرآن .
وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو عليهم سورة (ص) وقوله تعالى [جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الأَحْزَابِ]( )، الجواب نعم ، لبعث الطمأنينة في نفوسهم لتصديق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته وإعانته في تبليغ رسالته إذ تبشرهم الآية بأن المشركين وإن صاروا أحزاباً فهم مهزومون .
الثالثة عشرة : لابد من وجود طرف آخر منتصر مقابل المنهزم ، ويبين القرآن هذا الطرف ، وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قال تعالى [وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا]( )، وقال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) ،
ولم يرد لفظ [مَهْزُومٌ] في القرآن إلا في قوله تعالى [جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الأَحْزَابِ]( ).
وكما تضمنت الآية الإنذار من إجماع الأحزاب وتحزبهم على النبي ، وتكذيبهم لنبوته ، وهجومهم على المدينة وسوء عاقبتهم في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ]( ).
لقد أبى الله إلا كشف الحقائق للناس بما يمنع اللبس فقد ابتدأت سورة (ق) بقوله تعالى [ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ]( )، ومن أسماء الله (المجيد) كما في قوله تعالى [قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ] ( ) .
وكما في الحديث عن رسول الله( ) ، ولم يرد لفظ المجيد في القرآن إلا مرتين ، إذ ورد مرة أخرى في وصف عرش الله ، قال تعالى [وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ] ( ).
وورد مرتين من غير تعريف إحدهما في وصف القرآن أيضاً [بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ] ( ).
إن نعت القرآن بالمجيد تشريف له من بين الكتب السماوية ، إذ وصفه الله بذات اسم من الأسماء الحسنى ، وإن اختلف المعنى ، ومن معاني القرآن في المقام :
الأول : (الكريم ) ( ).
الثاني : الشريف .
الثالث : الباقي مع أيام الحياة الدنيا .
الرابع : العالي من بين الكتب السماوية .
وجاءت الآية للقسم ، وجوابه محذوف لعموم وتعدد المعنى ، ومنه ما بعده ودلالته .
أي الذكر ليكون من الذكر الذي يبينه القرآن وجوه :
الأول : صيرورة الكفار أحزاباً في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : شدة الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين .
الثالث : لم يمنع تألف أحزاب المشركين الناس من دخول الإسلام ، والإنصات لآيات القرآن .
الرابع : بيان شأن ومنزلة أهل البيت والصحابة الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع تخويف ووعيد الأحزاب ، وتعذيبهم لطائفة من الصحابة من الرجال والنساء .
الخامس : ولم يرد لفظ (ذي الذكر) في القرآن إلا في هذه الآية ، وليس فيه (ذو الذكر) بصيغة الفاعل أو المبتدأ وتذّكر هذه السورة بخلق الإنسان ، وسجود الملائكة لآدم وإمتناع إبليس عن السجود له, وسخط الله عز وجل عليه كما في قوله تعالى [وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ]( ).
قانون الواجب الكفائي نهي عن الإرهاب ( )
الواجب الكفائي مطلوب منه صرف الطبيعة وأداء ذات الفعل ، من غير تعيين لفاعله , ولكن لو تركه الجميع أثموا كرد السلام ، وإنقاذ الغريق .
ويرد مثل وجوب إنقاذ الغريق من غير حصر لدينه أو مذهبه أو لغته ، مطلقاً ، وكذا بالنسبة لإطفاء الحريق ليس بخصوص شخص أو بيت المسلم أو المؤمن خاصة .
وهل فيه شاهد على لزوم الإمتناع عن الإرهاب والتفجيرات العشوائية، الجواب نعم ، فاذا كان الإسلام يأمر على نحو الواجب الكفائي بأطفاء الحريق وانقاذ الغريق ، فانه يدل بالدلالة الإلتزامية والمفهوم على أن التفجيرات والإرهاب ليس منه .
وقد صدر لي والحمد لله الجزء العاشر بعد المائتين من تفسيرنا للقرآن في ذات عنوان هذا الجزء (التضاد بين القرآن والإرهاب ) وذكرتُ فيه مادة الإرهاب أكثر من خمسمائة وخمسين مرة .
وهل تكون حرمة الإرهاب بلحاظ وجوب إنقاذ الغريق ونحوه من العمل الصالح العام من مفهوم المخالفة والذي يراد به استقراء حكم المسكوت عنه المخالف للمنطوق في الحكم ، بلحاظ الوصف كما في الزكاة ، وقيد الرعي والسوم في العشب وما ينبت الربيع في الأرض المباحة .
الجواب نعم ، فمثلاً ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (وفي سائمة الغنم الزكاة) ( ).
إذ يدل مفهوم الخطاب على أنه لا زكاة في غير السائمة في المرعي المباح .
وكذا بالنسبة للوجوب الكفائي في دفع القدر الخاص والعام ، ومنه المبادرة إلى إطفاء الحريق ، وإنقاذ الغريق ، فانه يدل في مفهومه على لزوم إجتناب الإرهاب ، والدعوة له أو التحريض عليه ، لما في الواجبات الكفائية من الدلالة على أن الإيمان خير محض ، وله سلطان على الجوارح بحبسها عن الإضرار بالغير ، ولا يعلم ما امتنع عنه المؤمنون والمؤمنات من المكر والكيد والإضرار بالغير إلا الله عز وجل سواء من جهة الكم الواسع أو الكيف والتعدد والتباين .
ولو أراد شخص القيام بعمل إرهابي أزاء بيت مخصوص ، فاتفق أن نشب حريق فيه ، وليس من أحد يقدر على إطفاء الحريق إلا هو ، ففيه وجوه محتملة :
الأول : ترك النار تأكل البيت ومن فيه .
الثاني : القيام باطفاء الحريق ، وصرف النظر عن العمل الإرهابي .
الثالث : تنفيذ عمله الإرهابي .
والصحيح هو الثاني لأنه مأمور به ، أما العمل الإرهابي فهو منهي عنه, وقد يستنتج منه أنه لو قام بعمل إرهابي وحريق فعليه أن يقوم بالإطفاء .
قانون ذكر الله أكبر
قد يتبادر إلى الذهن أن كل أمر وكلمة تكليف مستقل ، ولكنها متداخلة، وكل فرد منها يؤثر بالآخر ويعين للعمل به ، مما يدل عليه قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ] ( ) أي والذكر من جهات :
الأولى : ذكر الله أمر عظيم .
الثانية : أكبر في عمارة الأرض .
الثالثة : في سنخية الخيرات والفضل (عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا أنبئكم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم .
قالوا : بلى . قال : ذكر الله) ( ).
الرابعة : ذكر الله أكبر بذاته من غير أن تصل التوبة إلى تقدير جار ومجرور متعلق به .
الخامسة : ذكر الله أكبر عند الله عز وجل.
السادسة : ذكر الله أكبر في الدنيا .
السابعة : ذكر الله أكبر في الآخرة .
الثامنة : ذكر الله أكبر بين الناس .
التاسعة : ذكر الله أكبر في طلب الرزق .
العاشرة : ذكر الله أكبر في إصلاح النفوس .
الحادية عشرة : ذكر الله أكبر في ميزان الصالحات .
الثانية عشرة : ذكر الله أكبر في طاعة الله ، والتنزه عن الغيبة والمحرمات، (عن معاذ بن جبل : أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أفضل الإِيمان .
قال : أن تحب لله وتبغض لله ، وتعمل لسانك في ذكر الله .
قال : وماذا؟
قال : وأن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما تكره لنفسك ، وأن تقول خيراً أو تصمت) ( ).
الثالثة عشرة : ذكر الله أكبر سواء في السراء أو الضراء ، وفي السر والعلانية .
الرابعة عشرة : ذكر الله أكبر من الصدقة ، وقيل لسليمان المحمدي (أي الأعمال أفضل .
فقال أما تقرأ القرآن [وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ]).
الخامسة عشرة : قيل من معاني [وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ] أن الصلاة أكبر من غيرها من الطاعات وسماها بذكر الله لأن ذكر الله أعظم ما فيها) ( ).
والمختار أن النسبة بين ذكر الله والصلاة هو العموم والخصوص المطلق، فذكر الله أعم .
السادسة عشرة : ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له في الصلاة وخارجها.
السابعة عشرة : إرادة الترغيب بالنوافل والتسبيح .
الثامنة عشرة : ذكر الله أكبر من المرابطة والدفاع والقتال .
التاسعة عشرة : إرادة قانون وهو من يمد الله في عمره أفضل له من أن يقتل في سبيل الله إذا أقام على ذكر الله.
(عـــن عامر بن سعيد قـــال : سمعت سعداً وناساً مـــن الصحابة يقولون : كان رجلان أخوان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان أحدهما أفضل من الآخر ، فتوفي الذي هو أفضلهما ، ثم عمر الآخر بعده أربعين ليلة ، ثم توفي فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضيلة الأول .
فقال : ألم يكن الآخر يصلي؟
قالوا : بلى ، وكان لا بأس به .
قال : فما يدريكم ما بلغت به صلاته؟
إنما مثل الصلاة كمثل نهر جار بباب رجل غمرٌ ، عذبٌ يقتحم فيه كل يوم خمس مرات ، فماذا ترون يبقى من دونه؟
لا تدرون ماذا بلغت به صلاته .
وأخرج أحمد وابن ماجة وابن حبان والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : كان رجلان من بني حي من قضاعة أسلما مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فاستشهد أحدهما وأخر الآخر سنة ، قال طلحة بن عبيد الله : فرأيت المؤخر منهما أدخل الجنة قبل الشهيد ، فتعجبت لذلك فاصبحت .
فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أليس قد صام بعده رمضان ، وصلى ستة آلاف ركعة، وكذا وكذا ركعة صلاة سنة؟) ( ).
وقال حاتم الطائي:
(إذا ما أتى يوم يفرق بيننا … بموت فكن أنت الذي تتأخر) ( ).
وفيه أمارة على أن كرمه حتى في الفداء ودنو الأجل ، وليس في بذل الطعام وحده ، ولم يعلم أن الآجال بيد الله عز وجل ، وليس بالرغائب ، مما يدل على الحاجة إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليسلم ولده عدي بن حاتم ، ويكون من فضلاء الصحابة.

بحث أصولي
يكون الخطاب الشرعي على قسمين : الطلب والتخيير .
القسم الأول : طلب الفعل ، وهو على وجهين :
الشعبة الأولى : طلب الفعل القطعي والجازم أي لابد من اتيان الفعل ، وهو الوجوب مثل الصلاة والزكاة والصيام ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ) أي واجباً ولم يرد لفظ موقوتاً في القرآن إلا في الآية أعلاه .
الشعبة الثانية : طلب الفعل غير الجازم ، وهو المندوب والمستحب مثل صلاة النوافل، والصدقة المستحبة وافشاء السلام .
الوجه الثاني : طلب الترك ، وهو على شعبتين أيضاً .
الشعبة الأولى : طلب الترك الجازم وهو المحرم .
الشعبة الثانية : طلب الترك غير الجازم وهو المكروه .
القسم الثاني : التخيير وهو المباح الذي لا يتعلق به أمر أو نهي ، فيجوز فعله أو تركه ، نعم قد يكون المباح مما يتقرب به إلى الله كما لو كان مقدمة عقلية للعبادة كما في المشي للمسجد، ومنه ما ورد عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قَالَ : قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُور( )ِ بِالْأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً وَبِكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً .
وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةً .
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ يَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ .
قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ وَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ) ( ).
مثلاً : المندوب العيني صلاة النوافل والشفع والوتر وصيام التطوع والصدقة المستحبة .
المندوب الكفائي : مثل السلام على الغير ، والأمر في المستحبات ، والنهي في المكروهات .
الرابعة : الأجر والثواب في كل من الواجب والمندوب .
الخامسة : مصاحبة الواجب العيني والكفائي لأيام الحياة الدنيا ، ويمكن تسمية الحياة الدنيا دار الواجب .
والنسبة بين العمل وكون الحياة دار عمل من غير حساب ، وبين الواجب عموم وخصوص مطلق .
السادسة : كل منهما من مصاديق النداء التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] والذي ورد في القرآن تسعاً وثمانين مرة وقد يشمل ذات الأمر الواجب والمندوب كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ) .
إذ يتضمن الأمر في الآية الكريمة وجوهاً :
الأول : التحلي بالصبر في حال السراء والضراء .
الثاني : الصيام الواجب .
الثالث : الصيام المستحب .
الرابع : الصلاة الواجبة .
الخامس : الصلاة المندوبة .
(وابن عساكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ هذا الحرف { وكفى الله المؤمنين القتال}( ) بعلي بن أبي طالب) ( ).
وذكر أن أول من قال (جعلت فداك) هو الإمام علي عليه السلام في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي ساعة شدة عندما برز
(عمرو بن ود العامري فارس جيش المشركين يــوم الخنــــدق (دعا عمرو بن عبد ود العامري إلى البراز يوم الخندق فلم يجبه أحد ، فخرج إليه فقتله ) ( ) .
وحينما قُتل انهزمت خيله التي اقتحمت الخندق هاربة .
ومن خصائص الخطاب الشرعي أنه خير محض ورحمة للناس جميعاً ، وليس فيه دعوة للإرهاب والتفجيرات إنما لإرشاد الناس لإستئصالهما ، قال تعالى [وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
قانون السكينة
ذكرت آية الريح في معركة الخندق لطول الحصار الذي فرضه المشركون على المدينة ، أما في معركة حنين فقد التحم الجيشان في الحال ، فذكرت الجنود ، وبدل سلاح الريح ذكرت الآية نعمة أخرى ، وهي نزول السكينة على الرسول محمد وعلى المؤمنين ، وأيهما أعظم نعمة السكينة هذه أم نعمة الريح لكشف العدو .
الجواب كل منهما نعمة عظيمة ، ولكن السكينة أكبر وأطول وأسمى درجة ، لذا خص الله عز وجل بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وإذا أنعم الله عز وجل بنعمة فهو أكرم من أن يرفعها .
وتحتمل هذه النعمة في سعتها وضيقها وجوهاً :
الأول : إرادة خصوص الذين حضروا معركة حنين .
الثاني : عموم الصحابة من المهاجرين والأنصار .
الثالث : الصحابة من الرجال والنساء ، فصحيح أن القتال موضوع عن النساء ، ولكن الثواب يشملهن ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ).
الرابع : إرادة المؤمنين من الأجيال المتعاقبة .
والمختار هو الأخير لعظيم فضل الله وبركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمدافعين معه عن النبوة والتنزيل .
والمراد من السكينة في المقام الطمأنينة ، على وجوه :
الأول : إنها نور يقذفه الله سبحانه في القلب .
الثاني : السكينة ملكة التصديق بالمعجزات .
الثالث : إنها مدد وعون للثبات في مقامات الإيمان .
الرابع : السكينة وسيلة وحرز ومادة في التنزه عن الشك والطيرة ، وعن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إن أحدنا ليجد في نفسه الشيء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : الله أكبر ، الحمد لله الذي رد أمره إلى الوسوسة( )، وقد ذم الله عز وجل المشركين بقوله [بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ]( ).
الخامس : من معاني السكينة الإرتقاء في منازل التقوى ، وسلامة المنطق، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا]( ) .
السادس : السكينة مادة للتعاون في الخير والبر وسبل الصلاح ، وواقية من الإرهاب وارتكاب المعاصي ، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
السابع : السكينة سلاح في الإحتجاج بالبرهان وعصمة من الغضب ، وهي وسيلة لكظم الغيظ ، قال تعالى وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
والسكينة حاجة للإنسان عند شدة الخوف ، وصيرورة الصحابة في ميدان المعركة في حال طمأنينة وسكينة معجزة غيرية للنبي محمد ، وهي سلاح عند المؤمنين ، معدوم عند المشركين .
وأيهما أشد أثراً يوم الأحزاب ويوم حنين : السكينة التي أنزلها الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
أم كثرة العدد والعدة عند المشركين .
الجواب هو الأول، وهو من أسرار هزيمة المشركين في الواقعتين .
وهل تختص السكينة التي عند الصحابة بمعركة الأحزاب وحنين جموداً على النص باستثناء السكينة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة بقوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ) .
المختار مصاحبة السكينة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة في معارك الإسلام كلها خاصة وهم في حال دفاع عن ملة التوحيد وبيضة الإسلام ، ليكون معاني وتقدير [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) بخصوص معركة بدر ومعركة أحد : يوم التقى الجمعان : جمع نزلت عليهم السكينة ، وجمع مضطرب مع كثرة عدته وعدده .
وهل لنزول الملائكة مدداً للمسلمين يومئذ موضوعية في هذه السكينة ، الجواب نعم ، ومن فضل الله عز وجل نزول النعم المتعددة منه تعالى على نحو دفعي وتدريجي لتنجز ونزول السكينة عنواناً لرضا الله عز وجل وسلاحاً لتلقي البلاء والمصيبة بصبر ، وفيه صلاح للبال والحال .
وهي مناسبة لأداء الفرائض العبادية والمناسك بخشوع ، وقصد القربة وآلة للتحلي بالزهد والخلق الحميد ، وواقية من إتباع الهوى وإتيان الشهوات المحرمة ، وهل يتضمن قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) سؤال المسلم السكينة من الله سبع عشرة كل يوم ، الجواب نعم .
فان قلت عندما تقول إن الله عز وجل أنزل السكينة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لتبقى عند أجيال المسلمين ، فكيف يكون سؤالهم عنها .
الجواب إن السكينة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً في سنخيتها وحضورها ونفعها ، فيأتي الدعاء لتقريبها ، والإنتفاع الأمثل منها ، والشكر لله عز وجل على نعمة السكينة .
وقد ورد لفظ السكينة في القرآن في الآيات :
الأولى : قال تعالى [وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
الثانية : قال تعالى [ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] ( ).
الثالثة : قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
الرابعة :قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ).
الخامسة : قال تعالى [إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا] ( ).
وفيه دلالة على أن السكينة قد نزلت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهل صاحبت السكينة آدم عليه السلام ، أم أنها خاصة بأحوال الحرب والقتال بين الأنبياء وأصحابهم من جهة وبين المشركين ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
المختار أن السكينة مصاحبة للنبوة ، فكل نبي رزقه الله عز وجل سلاح السكينة ، ليقوم بالتبليغ على أتم وجه ، ويتحلى بالصبر في طاعة الله ، وفي تلقي أذى المشركين ، قال تعالى في خطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ]( ) .
لفظ (سيق) في القرآن
من عذوبة القرآن التشريع المتجدد لقوانين في بلاغة القرآن منها التضاد في معنى اللفظ المتحد ،ويلحق بالمشترك اللفظي بأن يستعمل اللفظ في معنى مشترك مثل الحميم وهو الماء البارد أو الحار وجاء في القرآن بمعنى الماء الحار الذي يقطع الأمعاء من شدة حرارته ، قال تعالى [وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ] ( ) بينما جاءت البشارة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات بقوله تعالى [وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا] ( ) .
والمولى : العبد والسيد إنما يعرف المراد بالقرائن وهو غير ما تستعمله العرب في التفاؤل مثل :
والمفازة : للصحراء والفلاة التي لا ماء فيها للتفاؤل بقطعها ورجاء الفوز بالنجاة منها لأنها مهلكة .
والمفازة الصحراء الممتدة التي قد يهلك فيها الإنسان جوعاً وعطشاً ، وقد يتيه فيها لعدم وجود علامات ودلائل على الإتجاة وجهة البلاد التي يقصد ، سميت المفازة تفاؤلاً للفوز والنجاة ، وقيل (سُمَيَت لأنَّ الناسَ يُفَوِّزُوْنَ فيها لا يَهْتَدُونَ، من فَوَّزَ الرَّجُلُ: إذا ماتَ) ( ).
البصير وأبو بصير : للأعمى .
السليم : للملدوغ .
ويدل هذا التضاد في المعنى على جمال العربية وعلى إرتقاء العرب في معرفة المعنى المقصود من اللفظ ، وإن كان ضداً له ، والتمييز بين مواضع إفادة اللفظ ، المعنى الحقيقي أو المعنى المجازي أو المعنى المضاد تفاؤلاً ورجاء, والأشباه والنظائر .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم يتفاءل بالأسماء ويكره التشاؤم ، وقد يكون العكس ، فمثلاً أجمل جواري المتوكل اسمها قبيحة للتعمية عليها .
الريان والمنهل : للعطش .
اطلاق لفظ العاقل تهكماً على المعتوه .
والضدان هما اللذان لا يجتمعان وقد يرتفعان معاً، مثل البياض والسواد ، وارتفاعها باللون الأحمر أو الأزرق ونحوهما .
والمشترك اللفظي هو كل لفظ وضع لمعنيين أو أكثر مثل لفظ القرء ، ولفظ العين الذي يصدق على العين الباصرة ، والعين الجارية والجاسوس سواء وضع لكل واحد منها على حدة أم أنه وضع لأحدهما وصار من المنقول أو المجاز .
أما المشترك المعنوي فهو اللفظ الذي وضع لمفهوم ينطبق على مصاديقه المتعددة التي تشترك في ذات اللفظ مثل الإنسان فانه يصدق على زيد ، وعمر ، وغيرهما .
والسَوق مصدر سقته أسوقه سوقاً .
وفي معنى السوق أقوال :
الأول : إنه الحث على السير من غير شوق ورغبة .
الثاني : حشر أهل النار مع الشدة والإهانة.
الثالث : ينتظر أهل الجنة أصحابهم فلا يستحجلون لأن الآية أخبرت عن دخولهم زمراً أي جماعات وأفواجاً .
الرابع : يشتاق المتقون للقاء الله ولا يرضون بالجنة وحدها .
قال تعالى [وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ] ( ) وقال تعالى [وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ]( ).
ويسأل بعضهم عن ورود مفردة سيق بالنسبة لأهل النار وأهل الجنة ، ولماذا لا يكون اللفظ الذي يخص أهل الجنة غير سيق ، والجواب : من إعجاز القرآن أن تعدد وكثرة الأسئلة على أي موضوع منه أو إثارة اشكال يكون سبباً لإستظهار واستقراء علوم ومسائل مستحدثة منه .
فمثلاً كلمة [تُرْهِبُونَ] لم ترد هذه الكلمة في القرآن إلا مرة واحدة وقد خصصتُ محاضرة بعنوان قانون (ترهبون به زاجر عن الإرهاب) وهي على اليوتيوب ، لأن تمام الآية هي [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] .
لبيان أن [تُرْهِبُونَ بِهِ] حرب على الإرهاب ، وزجر عن الظلم والتعدي، لأنها عنوان الإستعداد من غير مزاولة غزو أو قتال ، فمتى ما أدرك كفار قريش أن المسلمين في حال يقظة وتهيئ للدفاع فانهم يمتنعون عن الغزو على المدينة وأطرافها ومثله [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
زمراً : جماعات في تفرقة ،والزمرة هي الجماعة من الناس ، ومنه زمرة المتقين .
ولم يرد لفظ سيق في القرآن إلا في هاتين الآيتين والتقدير :
سيق الذين كفروا : سوقاً شديداً بقسوة وغلظة وعنف .
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة : برفق واستعجال وبشارة للبث الدائم في النعيم .
ومن إعجاز القرآن بخصوص اشتراك الفريقين بذات اللفظ أن الآخرة دار حساب بلا عمل ، فحتى أهل الجنة بعد إنتهاء الحساب ورجحان كفة الحسنات ، وتحقق دخولهم الجنة لا يستطيعون التوجه إليها إلا أن يساقوا سوقاً .
وهذا السوق هنا بمعنى الإسراع إذ أن الملائكة تسرع بأهل الجنة إلى الجنة ترغيباً وإكراماً وسياقون إلى الجنة بلطف وقيل راكبين .
ولابد من الوقوف عند مسألة مستحدثة وهي : لماذا قدم في نظم الآيات سوق الذين كفروا إلى النار في الآية الحادية والسبعين من سورة الزمر، بينما جاء سوق أهل الجنة في الآية الثالثة والسبعين منها ،وهل من موضوعية لهذا التقديم .
المختار نعم ، ولبيان أن زمر المجرمين والكفار يساقون إلى النار ، ولا زال المؤمنون في المحشر ينتظرون تمام الحساب ليكونوا شهداء على الذين كفروا وسوء عاقبتهم ، ومنهم من تدركه الشفاعة ، وقد وردت أحاديث بخصوص الزمر الذين يدخلون الجنة، منها
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على صورة أشد كوكب دري في السماء إضاءة .
وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن راهويه وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والبيهقي في البعث والضياء في المختارة عن الإمام علي بن أبي طالب قال : يساق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا انتهوا إلى باب من أبوابها وجدوا عنده شجرة يخرج من تحت ساقها عينان تجريان ، فعمدوا إلى احداهما فشربوا منها ، فذهب ما في بطونهم من أذى أو قذى وبأس ، ثم عمدوا إلى الأخرى فتطهروا منها ، فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلن تغير أبشارهم بعدها أبداً ولن تشعث أشعارهم كأنما دهنوا بالدهان ، ثم انتهوا إلى خزنة الجنة فقالوا { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين }( ).
ثم تلقاهم الْوِلْدَان يطوفون بهم كما يطيف أهل الدنيا بالحميم ، فيقولون : ابشر بما أعد الله لك من الكرامة ، ثم ينطلق غلام من أولئك الولدان إلى بعض أزواجه من الحور العين ، فيقول : قد جاء فلان باسمه الذي يدعى به في الدنيا فتقول : أنت رأيته؟
فيقول : أنا رأيته ، فيستخفها الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها ، فإذا انتهى إلى منزله نظر شيئاً من أساس بنيانه فإذا جندل اللؤلؤ فوقه أخضر ، وأصفر ، وأحمر ، من كل لون .
ثم رفع رأسه فنظر إلى سقفه فإذا مثل البرق . ولولا أن الله تعالى قدر أنه لا ألم لذهب ببصره)( ).
وكما يجمع لفظ (سيق) أهل الجنة والنار في توجه كل منهم إلى مثواه ، فقد ورد لفظ نحشر بذات المعنى المشترك ، إذ قال تعالى [يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا]( )، وقال تعالى [وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا]( ).
فيتجلى التباين بصفة التقوى وأن المتقين يتوجهون إلى ضيافة الرحمن على هيئة الوفد الذين يكونون في حال إكرام وركوب على النجائب والوسائط ، بينما تبين الآية أعلاه من سورة طه صفة الكفار وأن وجوههم زرق من شدة الخوف وطول الفزع والعطش في المحشر ، وفي آية أخرى أن الكفار يحشرون عمياً ، قال تعالى [وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا]( ).
ويدل إتحاد لفظ (سيق) في المتضادين في الجزاء ووجهته على لزوم تمييز الإنسان بين الحق والباطل ، وبين الهدى والضلالة ، ولزوم التنزه عن الظلم والتعدي والإضرار بالناس في أنفسهم وأموالهم وحقوقهم .
قانون التفسير العلمي
يتعلق هذا القانون بتجلي مصاديق آيات القرآن بالظواهر العلمية والإكتشافات المستحدثة في العلوم المختلفة سواء في الأكوان ، قال تعالى [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ] ( ) أو خلقة الإنسان ، قال تعالى [ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( ) .
والعلم هو إدراك الأشياء كما هي وعلى حقيقتها، والمراد من الإعجاز العلمي إخبار القرآن عن حقائق اكتشفها العلم الحديث، ولم تكن معروفة للناس أيام التنزيل ، فليس من تكنولوجيا وأقمار صناعية آنذاك ، ولكن القرآن أخبر عنها ، وبشر بها .
وقد يشمل هذا العلم بعض الفروض والنظريات في هذا الزمان للإضاءة والبيان ، وإعانة علماء الفلك والطب والجيولوجيا وغيرهم .
وقد ذكرت في كتابي تفسير سورة يوسف المطبوع قبل ثلاثين سنة.
وفي قوله تعالى [وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ]( )، أن الآية تفتح باباً للدراسات الخاصة بالدم وتحث عليها كما يتجلى في هذا الزمان ، وكأن الآية تتضمن الإخبار عن الفصل في الدم بين الناس واكتشاف الجريمة والجناية بواسطته .
وهل يأتي العلم الحديث بصناعة الدم المختار نعم ، ولكنه لا يرقى إلى الدم الحقيقي ويمكن التمييز بينهما في المختبر في الماهية والأثر، قال تعالى [صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ]( ) لبيان قانون وهو أن التصنيع للشبه والمثل لا يرقى إلى الأصل .
ويشمل الحقائق العلمية الثابتة والدائمة والمتغيرة ، إذ أن القرآن شاهد عليها ، ومبين لفضل الله في استدامتها ، وفي التنزيل [وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ]( ) .
ولا تختبر الآية القرآنية بلحاظ المسائل العلمية ، إنما الأصل هو القرآن وآياته لبيان قانون وهو عدم التعارض بين الإرتقاء العلمي وبين آيات القرآن بعيداً عن الحدس والظن غير المعتبر .
ومنهم من عارض المنهج العلمي هذا بدعوى أن القرآن كتاب هداية وأحكام شرعية ، وأنه لم ينزل للإخبار عن دقائق العلوم وأسرار الكون ، وأنواع المعارف والفنون .
وقال أن العلوم في تطور مستمر ، فلا يصح جعل القرآن مرآة لها ، وأن في هذا الجعل تكلف وتأويل بعيد عن الغايات والمقاصد السامية للقرآن .
والمختار أن التفسير العلمي لآيات القرآن مبحث صحيح على أن يكون وفق الضوابط الشرعية ، إذ لا تعارض بين الوحي والحقائق العلمية والإكتشافات في كل زمان .
لقد جعل الله عز وجل القرآن شاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا فان نبوته شاهد على نزول القرآن من عند الله من غير أن يلزم الدور بينهما للتباين في مضامين وأفراد الشهادة ، فمن شهادة القرآن هذه إخباره عن الإكتشافات العلمية ، وهي جزء يسير مستحدث .
ومن إعجاز القرآن مصاحبة الإعجاز لأيام تنزيله ، وملازمته له وتجدد مصاديقه إلى يوم القيامة وهو من أهم أسباب دخول الأفراد والجماعات في الإسلام من بدايات الدعوة ، وحينما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الناس في موسم الحج إلى الإسلام فانه يقرأ عليهم القرآن لبيان قانون ، وهو أن آيات القرآن هي الشاهد على صدق نبوته ، مما يدل على المضامين الإعجازية للقرآن ، وتسليم الناس بهذه الآيات والتدبر في معانيها الخارقة من جهات :
الأولى : السبك والحبك والإتساق والإنسجام بما تتجلى معه الدلالة وتعدد المعنى .
والسبك : هو الترابط والتداخل بين التراكيب والصيغ اللغوية والإستعمال السليم والمناسب لأسماء الإشارة ،والضمائر ،والعطف ، والحذف ، والإستثناء ،والإستدراك .
والحبك : الإتقان وإحكام الفعل ، يقال حبك يحبك حبكاً فهو حابك ، وحبك الأمر أي أحسن تدبيره .
الثانية : المعنى والإصطلاح السماوي .
الثالثة : البلاغة ، قال تعالى [فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ]( ).
الرابعة : السمو والإرتقاء عن الشعر وعامة كلام العرب .
الخامسة : تجليات علوم الغيب .
السادسة : حاجة الناس إلى التنزيل والنبوة والمعجزات الحسية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابعة : الإعجاز العلمي في الآيات الكونية وبدائع الخلق ، وإخبار القرآن عن تجددها والتحدي المتجدد بها وأن كل فرد منها أمر خارق للعادة، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
الثامنة : تسليم بلغاء العرب بإعجاز القرآن وأنه فوق كلام البشر .
لقد اثبت القرآن صدق تنزيله بذاته ، وصار آله سماوية لعصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى والضرر ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ).
ومن خصائص الإعجاز العلمي للقرآن أنه من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
وتبين الآية أعلاه قانوناً وهو تجدد إعجاز القرآن في كل زمان ، وفي كل ميدان وعلم مع ثبوت الأصل المتعدد لإعجاز القرآن المصاحب لأيام الحياة الدنيا ، قال تعالى [ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ]( ).
و(عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا) ( ) .
ولا يختص الإعجاز والإخبار الغيبي عن الآيات الكونية وذخائر العلم بالقرآن إنما جاءت السنة النبوية بصفحات مشرقة من العلم التجريبي وأسرار الكون ، وأخبار آخر الزمان .
وعن طارق بن شهاب قال (كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ جُلُوسًا فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ قَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ فَلَمَّا دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ رَأَيْنَا النَّاسَ رُكُوعًا فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ فَكَبَّرَ وَرَكَعَ وَرَكَعْنَا ثُمَّ مَشَيْنَا وَصَنَعْنَا مِثْلَ الَّذِي صَنَعَ.
فَمَرَّ رَجُلٌ يُسْرِعُ فَقَالَ عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ( ) صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ .
فَلَمَّا صَلَّيْنَا وَرَجَعْنَا دَخَلَ إِلَى أَهْلِهِ جَلَسْنَا فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ أَمَا سَمِعْتُمْ رَدَّهُ عَلَى الرَّجُلِ صَدَقَ اللَّهُ وَبَلَّغَتْ رُسُلُهُ أَيُّكُمْ يَسْأَلُهُ فَقَالَ طَارِقٌ أَنَا أَسْأَلُهُ.
فَسَأَلَهُ( ) حِينَ خَرَجَ فَذَكَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ تَسْلِيمَ الْخَاصَّةِ , وَفُشُوَّ التِّجَارَةِ حَتَّى تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ , وَقَطْعَ الْأَرْحَامِ , وَشَهَادَةَ الزُّورِ وَكِتْمَانَ شَهَادَةِ الْحَقِّ , وَظُهُورَ الْقَلَمِ) ( ).
ومنه مشاركة المرأة زوجها في التجارة وعمل النساء في المؤسسات الحكومية والشركات ، أما ظهور القلم فهو قلة الأمية , وتعدد مراحل الدراسة , كثرة الكتب المطبوعة ، وتوفرها للناس ، كما في هذا الزمان ، وهل منه الأنترنيت وشبكة التواصل وإعتماد الناس الرسائل القصيرة ، الجواب نعم .
ليكون من إعجاز القرآن في قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ) تنزه المؤمنين عن الإنشغال بأسباب اللهو والحرام في شبكة التواصل، إنما تتخذ الكتب والقراءة والإطلاع في مرضاة الله ، وإصلاح النفوس ، وتهذيب الأخلاق .
والقلم هو الأداة للتوثيق وكشف علوم الغيب ، ومنه المحافظة على العلم التراكمي ، وتكرار طبع الكتب بحلة جديدة ، وهل من ظهور القلم طبع ملايين نسخ القرآن ، وكتب التفسير ، الجواب نعم .
إذ يستخرج القلم ذخائر العلم التي في ثنايا القرآن ، وفي هذا الحديث دعوة لنبذ العنف والكراهية ، وبيان النفرة من الظلم والتعدي والإرهاب ، وضرره العام والخاص ، إذ أن القلم وسيلة للإحتجاج ، وأداة إظهار البرهان وكشف حقائق التأويل .
وقيل يدل الحديث على كثرة الكتبة وقلة العلماء ، وأنه يتجلى بالسعي لنيل الشهادة والتفاخر بها ، وإحراز المنافع المادية بواسطتها ، ولكن الحديث أعم موضوعاً وحكماً وبياناً لمنافع نعمة القلم .
(عن ابن عباس، قال: أوّل ما خلق الله من شيء القلم، فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء، فخلقت منه السموات، ثم خلق النون فبسطت الأرض على ظهر النون، فتحرّكت الأرض فمادت، فأثبت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض، قال: وقرأ:( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ )) ( ) .
(عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتي على الناس زمان ما يبالي الرجل من أين أصاب المال من حلال أو حرام) ( ) .
ومن نعمة ظهور القلم زمان العولمة ، والتداخل بين الأمم بالكتابة فيجب تغليب لغة الحوار والإنصات إلى الآخر ، واتخاذ الحجة والبرهان سلاحاً ودفاعاً ، والنفرة من الإرهاب ووسائله .
قانون الحسن الذاتي للتوبة
التوبة لغة الإنابة والإقلاع والكف ، والتوبة : الرجوع .
ويقال تاب إلى الله توبة ومتاباً ، وقيل (أصل التوبة في اللغة الندم ) ( ) وهي إذ أن الندم كيفية نفسانية ، والتوبة إمساك وكف .
فان قلت ( أخرج الترمذي عن ابن مسعود قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الندم توبة) ( ) .
والجواب إنه من لطف الله عز وجل بالعباد وجعل الندم بمرتبة التوبة ، كما أن الندم أمر وجودي .
والتوبة النصوح هي عدم عودة الإنسان إلى الذنب الذي تاب منه ، أي أنها لا تقبل النقض .
( قال زر : قلت لأبي بن كعب وما التوبة النصوح؟
قال : سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال هو الندم على الذنب حين يفرط منك ، فتستغفر الله بندامتك عند الحافر ، ثم لا تعود إليه أبداً) ( ) .
ولا يقدر على قبول التوبة وترتب الأثر على هذا القبول إلا الله تعالى ، قــال سبحانه [غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ] ( ).
وبلحاظ الأحكام التكليفية تكون التوبة واجباً ، ويتصف هذا الوجوب بوجوه :
الأول : الوجوب العيني ، قال تعالى [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) فلا تقبل توبة الغير عن فاعل الذنب .
الثاني : الوجوب الفوري ، فلا يصح الإبطاء والإرجاء في التوبة .
الثالث : التوبة واجب معين ، مطلوب بذاته ، وليس هو واجباً تخييرياً .
الرابع : أنه واجب مطلق غير مقيد بصفة ، ولا معلق بشرط مخصوص .
الخامس : التوبة واجب محدد ، ومن فضل الله أن طريق التوبة ظاهر وجلي ، وأنها تأتي بالقول أو الفعل أو كلاهما معاً .
ومن بديع صنع الله عز وجل إصلاح الإنسان للخلافة في الأرض ، أن جعل التوبة وقبولها مصاحبة لوجوده ، وكما ابتدأت عبادة الإنسان لله عز وجل بآدم وحواء فان التوبة إبتدأت بهما ، وفي التنزيل [فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] ( ) .
ومع تفضل الله عز وجل بنسبة أكل آدم وحواء من الشجرة إلى إزلال الشيطان لهما كما في قوله تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( ) فانهما اعترفا بالذنب وتوجها إلى الله رجاء المغفرة والتوبة عليهما ، كما ورد في التنزيل [قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( ) .
لبيان مسألة وهي أن إزلال الشيطان لهما لا يعفيهما من الذنب وحقيقة إرتكاب المعصية ، إذ أقرا بظلم النفس ، لبيان قانون وهو أن الله عز وجل حينما نهاهما عن الأكل من الشجرة إنما أراد نفعهما ومصلحتهما ، وأنهما إرتكبا معصية ، إذ أن الأصل وجوب عدم الإصغاء لإبليس ووسوسته .
ومن لطف الله عز وجل أنه أعان ولقّن آدم وحواء التوبة لتبقى ميراثاً عند ذريتهما والأنبياء هم الأئمة في كل من :
الأول : اللجوء إلى التوبة .
الثاني : الإخبار عن قبول الله التوبة .
الثالث : الدعوة إلى التوبة والندب إليها .
الرابع : بيان قانون وهو حب الله للتائبين ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( ) ، وقال تعالى [التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الخامس : سرعة قبول التوبة وعدم حصرها بأوان ويوم مخصوص من عمر الإنسان (عن عبد الرحمن (السلماني) قال : اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أحدهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم) ( ).
السادس : بيان الأنبياء للمنافع الدنيوية والآخروية للتوبة ، وهل هذا البيان يحيط بوجوه ومصاديق هذه المنافع ، الجواب لا ، فمع أن كلام الأنبياء من الوحي ، إلا أن فضل ورحمة الله في النشأتين أعم منه .
علم المقاصد
لابد من التعرض للأحكام التكليفية الخمسة وأقسام الواجب ولو على نحو الإجمال عند علم المقاصد ، وهذا العلم لا يُدرس في الحوزات العلمية لذا فاني أضيفه للدارسين ، إذ ابينه للفضلاء في البحث الخارج الأصولي ، وأذكره في الجزء الثالث من (معراج الأصول) .
والقَصْدُ: اسْتِقامَةُ الطَّرِيْقةِ، قَصَدَ يَقْصِدُ قَصْداً. وأخَذَ قَصِيْدَ الوادي: أي قَصْدَه( ).
والمختار أن القصد أعم من الإستقامة إنما يشمل الغاية والهدف ، وما يتخذ القول أو الفعل بلغة له ، ويقال قصده قصداً أي سار إتجاهه .
والقصد : الوسط والإعتدال في الأمور ، وعدم الإسراف .
وفـــي الحديث : القصد القصد ، إذ ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وســلم أنه قال : لن ينجي أحداً منكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله.
قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة ٍ سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيءٌ من الدلجة القصد القصد تبلغوا( ).
و(قَصَدَه قَصْداً : قَسَرَه أَي قَهَره)( ).
وهل في قوله تعالى [وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ]( )، دعوة لتشريع هذا العلم والعناية به ، الجواب نعم ، إذ تبين الآية أعلاه أن الله عز وجل يبين المنهج السليم ويضئ للناس سبل الهداية ، ويقربهم إليها بالحجة والبرهان ، ومن الإعجاز في الواجبات العينية على المسلمين والمسلمات أن كل واحد منهم يقول سبع عشرة مرة [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، ليكون الصراط المستقيم مقصداً للمسلمين ، وهو وسيلة وطريق لتحقيق مقاصد دنيوية وأخروية ، ولم يذكر المتقدمون من العلماء علم المقاصد كمبحث مستقل مع بيان لمضامينه ومعانيه ومقاصده .
وموضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية .
والعوارض جمع عرض والعرضي وليس المراد في المقام العرض الموجود في محل ، والذي يقابل الجوهر ويكون قسيمه كلون الجدار ، فهذا اللون عرض إنما المراد العرض المنطقي الذي يصلح أن يكون ذاتياً ، وقد يكون العرض العام جوهراً ومحمولاً على الجوهر .
فمثلاً العرض العام المشي وهو لا يميز الإنسان عن سائر الحيوانات لأنها تمشي أيضاً أما (النطق) فهو يفصل ويميز الإنسان عن غيره لذا سمُي في علم المنطق (الفصل) و(الخاصة).
وقد أشكلنا على تسمية الإنسان (الحيوان الناطق) لورود خواص وفصل متعدد يميزه عن الحيوانات من غير حاجة إلى تسميته بالحيوان وإن قيّد بالناطق ، ويمكن أن يكون التعريف أحد وجوه :
الأول : الإنسان خليفة في الأرض .
الثاني : العاقل المميز .
الثالث : الناطق بما يُفهم .
أي أن النطق وحده يصلح أن يكون تعريفاً وفصلاً للإنسان عن غيره من الحيوانات .
والمقاصد الشرعية على أقسام :
الأول : إرادة طاعة الله والإستجابة لأمره لذا فان قصد القربة شرط في أداء الفرائض العبادية ، وهذا القصد ليس جزء من الواجب .
الثاني : إرادة الأجر والثواب ، والسعي للفوز برضوان الله عز وجل ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
الثالث : إكتناز الحسنات ، والتقيد بالأخلاق الحميدة .
الرابع : السعي الحثيث للفوز باللبث الدائم في النعيم الأخروي .
الخامس : النجاة من عذاب النار يوم القيامة ، قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ) ( ) .
وورد (عن أبي ذر : قال : تركنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علما قال فقال صلى الله عليه وآله وسلم (ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بيّن لكم)( ).
ولو أجرينا احصائية أيهما اكثر الواجب العيني أم الواجب الكفائي ، المختار أن الواجب العيني هو الأكثر موضوعاً وكماً وكيفاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بلحاظ إرادة عبادة الناس على نحو العموم الإستغراقي لله عز وجل وليس على نحو العموم البدلي والفرد المتحد ومن رحمة الله بالناس أن الواجب العيني هو الأكثر .
الواجب العيني والكفائي في القرآن ، وكذا اقسام الواجب الآخر ، الواجب الكفائي المراد منه تحقيق المطلوب ، وصرف الطبيعة من غير النظر إلى الفاعل .
ثم تقسيم الواجب العيني اليومي الواجب العيني كالصلاة , والواجب السنوي كالحج , ويمكن تقسيمه تقسيماً آخر مثل الواجب العيني الذي ليس له بديل كالحج , والواجب العيني الذي له بديل كافطار يوم من شهر رمضان يؤتى به في أشهر السنة الأخرى , قال تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( )، وهل تشمل الآية الذي أفطر عن عمد ، والذي مات ولم يصم [وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى]( )،
ويقسم إلى الواجب العيني الفوري ، والواجب العيني الموسع .
السادس : الحرص على تعاهد سنن الإيمان ، وتجلي الإعتقاد بسنن الشريعة ، وهو من رشحات قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، لبيان عجز الخلائق عن معرفة مصاديق النعم في هذا النفخ إلا الله سبحانه وتعالى، ومنه ميل الإنسان إلى العبادة وإلى الإحسان للغير ، وحب الصلح والموادعة .
ومنه قانون : الملازمة بين الإيمان وكره القتال , ويتجلى بقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
السابع : كسب المعاش بطرق شرعية بعيداً عن السلب والنهب وسفك الدماء ، ومن الإعجاز في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) على وزن صَبور ، سميت البحوث لأنه آياتها تتضمن البحث والكشف عن أسرار المنافقين والتفتيش عنهم .
الثامن : إجراء المعاملات وفق صيغ العدل والإنصاف وضمان الحقوق .
التاسع : إشاعة الإحسان وتبادل المنافع وتعاهد استقراء الأحوال العامة، وانتظام أمور المجتمع .
العاشر : الزيادة والنماء في الخير والبركات للفرد والجماعة .
الحادي عشر : التمتع بالمباحات والتزود من الطيبات في المأكل والمشرب والملبس .
الثاني عشر : التوقي من الشرور والأمراض والأوبئة .
الثالث عشر : السعي فيما تحتاج إليه الجماعة والطائفة والأمة .
الرابع عشر : الحفاظ على الأعراض ، وتعاهد الإنساب .
الخامس عشر : الزجر عن المفاسد ودفع الظلم والتعدي ، لذا جاءت الشريعة بالأحكام الجنائية منها القصاص من القاتل عمداً وظلماً ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( )، ومنها عقوبة السرقة والزنا.
السادس عشر : التنزه عن المعاصي والذنوب .
السابع عشر : حسن التوكل على الله ، قال تعالى [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ] ( ).
الثامن عشر : إقامة العدل : وحفظ مصالح العباد ونشر الأمن ، وإشاعة الرحمة بين الناس .
ومن الفقهاء من قيّد نيل درجة الإجتهاد ، وهو الشاطبي بأمرين:
الأول : فهم مقاصد الشريعة .
الثاني : الإستنباط من مقامات مقاصد الشريعة على كمالها .
والخطاب الشرعي على قسمين :
القسم الأول : الطلب وهو على شعبتين :
الشعبة الأولى : طلب الفعل القطعي والجازم ، وهو الواجب أي لابد من إتيانه كالصلاة والصيام ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ).
الشعبة الثانية : طلب الفعل غير الجازم وهو المندوب .
الوجه الثاني : طلب الترك وهو على شعبتين :
الشعبة الأولى : طلب الترك الجازم ، وهو المحرم كالزنا والربا ، قال تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ] ( ).
القسم الثاني : فهو التخيير .
وهل الأحكام التكليفية الخمس على مرتبة واحدة ، وهل كل فرد منها مستقل عن الآخر أم أنها متداخلة . الجواب انها ليست على مرتبة واحدة من جهة الكثرة والقلة , والأهمية , وكل فرد منها مستقل .
قوانين التوبة
التوبة هو الرجوع إلى الله ، وترك فعل المعصية ، وفي القرآن سورة باسم سورة التوبة ، كما تسمى سورة البَحوث بفتح الباء .
وضد التوبة الإقامة على الذنب والإصرار عليه ، والقنوط ولكن النسبة بين الإصرار والإقامة عموم وخصوص من وجه فقد يكون إصراراً من غير إقامة وتكراراً للمعصية .
لبيان مصداق لمحو التوبة لقبيح الفعل والأثر المترتب عليه ، قال تعالى [قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( )، ومن وجوه تقسيم الواجب أنه يقسم بلحاظ أوان إتيانه إلى قسمين :
الأول : الواجب المضيق : الذي يؤتى به بوقت مخصوص مثل صيام يوم من شهر رمضان أو صيام الشهر كله لقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، ومنه [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ]( ).
الثاني : الواجب الموسع : الذي تكون مدة الأداء التي يجوز أداء الواجب فيها أوسع وأكبر مما يستغرقه الفعل العبادي فوقت صلاة الصبح موسع بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، بينما تستغرق الصلاة بضع دقائق .
ومن الإعجاز في التوبة أنها تجمع بين الواجب المضيق والموسع ، فتصح في أي وقت والواجب الإسراع والمبادرة إليها قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وهل هو مثل الأداء في الوقت والقضاء خارجه ، الجواب لا ، إنما يقبل الله عز وجل التوبة في أي وقت ، الأقرب فالأقرب .
وعن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه، ثم قال : إن السنة لكثير ، من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه .
ثم قال : إن الشهر لكثير ، من تاب قبل موته بجمعة تاب الله عليه ، ثم قال : إن الجمعة لكثير ، من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه .
ثم قال : إن الساعة لكثير من تاب قبل موته قبل أن يُغرغر بها تاب الله عليه( ).
والحاجة عامة وفي كل زمان للتوبة الشخصية ، إذ يلزم إشاعة مفاهيم الصلاح ، والأخلاق الحميدة ، ومنها التوبة من جهات :
الأولى : التوبة خلق كريم ، وصفة حسنة .
الثانية : يدعو الإنسان في توبته إلى الأخلاق الحميدة .
الثالثة : يقتدي الناس بالتائب عن الذنب .
الرابعة : تدل توبة العبد على إقراره بالتوحيد والخشية من الحساب يوم القيامة
الخامسة : الفوز بالثواب العظيم على التوبة ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى] ( ).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : التوبة تجب ما كان قبلها( ).
وقد يتبادر الى الذهن إنحصار التوبة بارتكاب المعصية ، إنما هي مستحبة في كل آن ، بذاتها وكذا تكرارها وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني لأتوب في اليوم سبعين مرة( ).
وفي رواية حذيفة وغيره مائة مرة إذ ورد عن حذيفة أنه قال (اتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت إني ذرب اللسان قد أحرقت أهلي بلساني قال فأين أنت من الاستغفار إني لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة)( ).
وتصدق التوبة بالقول : استغفر الله وأتوب اليه ، أو القول أتوب إلى الله ، أو اللهم إني تائب إليك ، ونحوه .
وعن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر قبل موته أن يقول : سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله ، وأتوب إليه ، قالت : فقلت : يا رسول الله ، إنك لتكثر من دعاء ، لم تكن تدعو به قبل ذلك ، قال : إن ربي جل وعلا أخبرني أنه سيريني علما في أمتي ، فأمرني إذا رأيت ذلك العلم أن أسبحه ، وأحمده ، وأستغفره ، وإني قد رأيته [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] ( )، فتح مكة ( ).
وستبقى التوبة زينة الحياة الدنيا ، وهي شاهد على الحكمة والحلم ، وفيها البهجة والغبطة ، وينابيع الأمل والتدارك .
قانون مناداة النبي بصفة النبوة سلم وأمن
لقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إذ خاطبه بصفة النبوة وصفة الرسالة ولم يخاطبه باسمه , فلم يقل له : يا محمد مع أنه ذكر في القرآن باسم (محمد) أربع مرات وهي :
الأولى : قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( ).
الثانية : قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا] ( ).
الثالثة : قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ] ( ).
الرابعة : قال تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا] ( ).
كما ورد باسم (أحمد) مرة واحدة وبصيغة البشارة التي جاء بها عيسى عليه السلام إلى أهل الأرض [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ) ليكون اسم محمد وأحمد من أكثر الأسماء شيوعاً بين أهل الأرض.
بينما ورد الخطاب للأنبياء والرسل بأسمائهم كما تقدم [وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( ) [يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ]( )، [يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ]( ).
ترى ما هي العلة بانفراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب بالصفة دون الرسل الآخرين , فيه مسائل :
الأولى : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاضر أيام التنزيل .
الثانية : دعوة المسلمين والناس لإكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم مخاطبته باسمه , وفي التنزيل [لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
الثالثة : بعث المسلمين للعمل بالسنة النبوية .
الرابعة : ترغيب الناس بدخول الإسلام .
الخامسة : إرادة الأجر والثواب للذين يصدّقون برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
السادسة : بعث السكينة في نفوس المسلمين في حال السلم والحرب .
وإخبارهم بأن الرسول معهم ، وهو الإمام في الصلاة وفي الميدان , وما يأمرهم به إنما هو من الوحي والتنزيل قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ).
السابعة : البشارة للمسلمين بنزول الملائكة لنصرتهم لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم , وفي معركة بدر اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عشية ويوم المعركة بالدعاء فأنزل الله عز وجل الملائكة لنصرته وأصحابه .
وعن (ابن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه وهم ثلثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة ، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم مد يده وجعل يهتف بربه : اللهم أنجز لي ما وعدتني .
اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض . فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر ، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله تعالى { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين }( ))( ).
الثامنة : نشر الطمأنينة بين الناس من دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فمن خصائص النبي الحكم بالعدل والإنصاف والتنزه عن الظلم .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وعن(أبي سعيد الخدري قال : بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقسم قسماً إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال : اعدل يا رسول الله . فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ائذن لي فيه فاضرب عنقه .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر في نضيه فلا يرى فيه شيء ، ثم ينظر في رصافه فلا يرى فيه شيء ، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء ، قد سبق الفرث والدم آيتهم رجل أسود إحدى يديه – أو قال ثدييه – مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة ، تدردر يخرجون على حين فرقة من الناس , قال : فنزلت فيهم [وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ..] الآية ( ) .
قال أبو سعيد : أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأشهد أن علياً حين قتلهم وأنا معه جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
و[يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ] أي يطعن عليك , ولا يرضى بقسمتك .
التاسعة : دعوة المسلمين للإقتداء بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصدور عن القرآن والسنة , ومن مصاديق هذا الإقتداء الإبتعاد والنفرة عن الإرهاب والظلم والتعدي ، قال تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
العاشرة : الشهادة من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة ، وفيه حجة على الناس ، وقطع لدابر الإرهاب ، والصدّ عن سبيل الله الذي لجأ إليه المشركون ، وفي التنزيل [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
وكل يوم تطل هذه الآيات على أهل الأرض بذاتها وتلاوة المسلمين والمسلمات , لها لتكون صفة النبوة حاضرة بين الناس.
وفيه دعوة للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي هذا التدبر بلحاظ مناسبة ، وموضوع هذا الجزء المبارك وجوه :
الأول : قانون كل معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم غنى عن الإرهاب .
الثاني : قانون تدبر المسلمين وغيرهم بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صارف عن الإرهاب .
الثالث : قانون ذات المعجزات تبعث على التدبر فيها لتكون وسيلة للعصمة من الإرهاب .
الرابع : قانون تعضيد المعجزة للقرآن في تثبيت قواعد السلم المجتمعي والتعايش الآمن بين الناس .
الخامس : قانون المعجزة النبوية نعمة سماوية حاضرة للحرب على الإرهاب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
قانون تسخير طول العمر للصالحات وفعل الخير
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار النعيم والهبات العامة والخاصة وليس من حصر لأي فرد منها ، إذ يعجز الناس عن عدّ النعم والفضل الإلهي على الفرد الواحد منهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
لتكون هذه النعم زاجراً عن العنف والإرهاب ، بلحاظ أن العصمة من الإرهاب من الشكر لله عز وجل على هذه النعم , وامتناع عن منع وصولها إلى الناس جميعاً ، ومنها طول عمر الإنسان ، كما أن هذه العصمة واقية منسفك الدماء ، وإنخزام آجال بعض الناس بالتفجيرات .
وفي قوله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا] ( ).
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الإمام الباقر عليه السلام في حديث أنه كان لذي القرنين صديق من ملائكة السماء اسمه رزافيل يتعاهد ذي القرنين بالسلام عليه .
فسأله ذو القرنين مرة : هل تعلم شيئاً يزيد في طول العمر ، قال لم هذا السؤال ، أجاب لنزداد شكراً وعبادة لله عز وجل، عندئذ استجاب له الملك فقال : ما لي بذلك علم ، ولكن سأسأل لك في السماء .
ولو لم يذكر ذو القرنين هذه العلة لطول العمر هل يعده الملك بالسؤال والسعي لإيجاد جواب على سؤاله ، الجواب لا .
ولبث الملك مدة ثم هبط فقال لذي القرنين (إني سألت عما سألتني عنه فأخبرت أن لله عيناً في ظلمة هي أشد بياضاً من اللبن وأحلى من الشهد ، من شرب منها شربة لم يمت حتى يكون هو الذي يسأل الله الموت .) ( ).
عندئذ جمع ذو القرنين العلماء وسألهم هل تعلمون أن لله عيناً في ظلمة.
أي لا يستطيع الناس الوصول إليها لشدة الظلمة التي تحيط بها .
فأنكروا معرفتهم بها ، ولكن شاباً نهض من بينهم وقال ما حاجتك إليها أيها الملك ، أي أنه خاطبه بصفة الملك وليس النبوة ، ولم يضطر الملك إلى الإجابة على سؤاله ، ولكنه لم يعرض عنه أو يتجاهله إكراماً للعلم والعلماء ، ولعله يجد عنده جواباً ، إذ قال بايجاز : لي بها حاجة .
قال الشاب فاني أعلم مكانها ، سأله ذو القرنين : من أين علمت مكانها) ( ).
خاصة وأن كبار العلماء لم يعلموا عنها شيئاً .
(قال : قرأت وصية آدم عليه السلام فوجدت فيها : إن لله عيناً خلف مطلع الشمس في ظلمة ، ماؤها أشد بياضاً من اللبن وأحلى من الشهد ، من شرب منها شربة لم يمت حتى يكون هو الذي يسأل الله الموت) ( ).
فشد ذو القرنين الرحال وسار من موضعه اثنتي عشرة سنة فأطل على الظلمة ثم عسكر وجمع العلماء ، وأخبرهم أنه يريد أن يسير بهم في هذه الظلمة ، فحذروه وأنذروه ، واستعاذوا بالله أن يسلك مسلكاً لم يسلكه أحد من بني آدم قد يعرضهم جميعاً للتلف والهلاك .
ومن وظائف العلماء التحذير من الأفعال مجهولة العواقب ، ومن التهور والغرور , ولكن ذا القرنين قال : لابد أن أسلكه وأخبرهم أنه لم يقحم الجيش كله بالمخاطرة .
ترى لماذا خالفهم ، الجواب لأن ملكاً من السماء أخبره عن هذه الظلمة مما يترجح معه السلامة في الوصول إليها ، ثم جاء التأكيد من الخضر ، أن آدم عليه السلام ذكرها في وصيته ، ولم يمانع العلماء بل قالوا فشأنك ، إنما عليهم المشورة وإبداء الرأي .
فسألهم أي الدواب أبصر في الظلمة .
قالوا الخيل ، قال : فأي الخيل أبصر .
قالوا :الإناث .
قال : فأي الإناث أبصر .
قالوا : الأبكار .
ومن خواص الخيل أنها ترى في الظلام والعتمة أحسن من البشر ، ولكنها تحتاج إلى وقت للتكيف بالإنتقال من الضوء إلى الظلام وبالعكس .
وعيون الخيل من أكبر عيون الحيوانات ذات الثدي .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة .
قيل : يا رسول الله وما ذاك .
قال : الأجر والغنيمة) ( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (ارموا واركبوا الخيل ، وان ترموا أحب إليَّ ، كل لهو لهاية المؤمن باطل إلا ثلاث خلال .
رميك عن قوسك ، وتأديبك فرسك ، وملاعبتك أهلك فإنهن من الحق) ( ).
فانتقى ذو القرنين ستة آلاف فرس ثم انتخب من عسكره ستة آلاف رجل ، ودفع لكل واحد منهم فرساً ، وجعل الخضر في المقدمة على ألفي فارس ، وقال له : سر أمامي ، فقال له الخضر إني أخشى على هؤلاء الذين معي التيه ، وأن يضلوا الطريق ويتفرقوا عني ، فأعطاه ذو القرنين خرزة تتصف بأنها تضئ وتبعث صوتاً ليجتمعوا إليه .
واستخلف ذو القرنين خليفة على عسكره ، وقال له : أقم في العسكر اثنتي عشرة سنة بقدر المدة التي قطعناها للوصول إلى مطلع الشمس ، فان لم أرجع إليكم أطلب من الناس التفرق إلى بلدانهم .
وكان الخضر إذا وصل إلى موضع يقيم فيه إلى أن يصله ذو القرنين ، فيغادر الخضر لإرادة الإتصال بين الجيشين ، فبينما الخضر يسير إذ تفرق عنه أصحابه ، فطرح الخرزة من يده فاذا هو شفير العين التي يطلب ، وهي في وادِ ، فانكشف له ما حولها ، فنزل الخضر ونزع ثيابه ودخل العين فشرب منها وأغتسل ثم خرج .
وفيه نكتة وهي أن صحبة الملوك والعمل عندهم قد يجلب منفعة مستديمة أكثر مما عند الملك وقد يكون العكس .
وخالفه ذو القرنين في غير الطريق الذي سار فيه الخضر.
وسار ذو القرنين في طريق ست ليال وأيامهن في شبه ظلمة من الضباب، حتى خرج هو وأصحابه إلى أرض ذات نور ، ولكن ليس فيها شمس ولا قمر ولا نجم ، فعسكر ذو القرنين ، ثم سار وحده حتى دخل قصراً في حديث طويل .
فالذي شرب من ماء الحياة هو الخضر وحده ، ورجع ذو القرنين ومن معه من الجيش وقطعوا ذات الظلمة ، ولكن بحال الرجوع إلى قومهم .
(فجعلوا يسمعون خشخشة تحت سنابك خيلهم فقالوا : أيها الملك ، ما هذه الخشخشة التي نسمع تحت سنابك خيلنا؟
قال : من أخذ منه ندم ومن تركه ندم ، فأخذت منه طائفة وتركت طائفة ، فلما برزوا به إلى الضوء نظروا فإذا هو بالزبرجد ، فندم الآخذ أن لا يكون ازداد وندم التارك أن لا يكون أخذ .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : رحم الله أخي ذا القرنين ، دخل الظلمة وخرج منها زاهداً .
أما إنه لو خرج منها راغباً لما ترك منها حجراً إلا أخرجه .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فأقام بدومة الجندل فعبد الله فيها حتى مات .
ولفظ أبي الشيخ قال أبو جعفر : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : رحم الله أخي ذا القرنين ، لو ظفر بالزبرجد في مبدأه ما ترك منه شيئاً حتى يخرجه إلى الناس ، لأنه كان راغباً في الدنيا ، ولكنه ظفر به وهو زاهد في الدنيا لا حاجة له فيها) ( ).
ومن العلماء من أنكر وجود بئر فيه ماء الحياة ، وأن الخضر شرب منه، خاصة مع وصول الإنسان إلى أطراف الأرض في هذا الزمان ، وكشف الطائرات والمركبات والأقمار الصناعية لجوانب الأرض .
وهل يحتمل أن هذه البئر كانت موجودة ورفعت أو نضب ماؤها أو فقد خاصيته مع تقادم آلاف السنين ، الجواب نعم ، وقال تعالى [كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ] ( ).
وقد يكون من الناس من أنعم الله عز وجل عليه بالعمر المديد ، ومن يعمركما في نوح الذي ذكر أن عمره هو ألفان وخمسمائة سنة ، قبل وبعد الطوفان ، وما ورد في القرآن مدة بعثته ورسالته ، قال تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ] ( ).
إن طول عمر نوح ومصاحبة النبوة والصبر والرفق له ، وتحمله الأذى دعوة للمسلمين وأهل الملل كافة بالصبر والتنزه عن الإرهاب ، والإمتناع عن الإقتتال وسفك الدماء وقيل أن نوحاً أبو البشر الثاني بعد آدم ، ويتصف نوح بخصال :
الأولى : جاء بشريعة مبتدأة .
الثانية : التجاهر بالإنذار من الشرك.
الثالثة : نزول الوحي عليه على نحو التوالي .
الرابعة : شدة الأذى الذي لاقاه من قومه .
قانون الزهد مانع من الإرهاب
لقد أدّب الله عز وجل الأنبياء بمصاحبتهم للزهد والقناعة طواعيةً واختياراً ومن غير تكلف ، وهو ملكة ثابتة عندهم في حال السراء والضراء، والفقر والغنى .
والزهد ضد الحرص على الدنيا ، وهو إمتناع عن اللهث وراء لذاتها ومباهجها ، وإدراك لقانون أنها دار فانية زائلة ، قال تعالى [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ]( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام والأسوة في الزهد والعزوف عن الدنيا ، وحينما كثرت الغنائم التي صارت تفد إلى المدينة تباعاً لم يسخّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسماً منها ، أو الأنفال أو الخمس لبناء دار أو قصر له ولعياله ، أو لعمارة المسجد النبوي ، إنما كان يوزعها على المسلمين ، وقد يوزع في النهار مائة ألف درهم ليمسي هو وأهله دون قدر تحته نار .
ليمتنع المسلمون عن الطمع بالدنيا ويتنزهون عن السرقة والخيانة والغدر، وأسباب الإرهاب وسفك الدماء .
(قال قتادة : كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن اللَّه أذل بني آدم بالموت ، وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت ، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء) ( ).
ليستحضر الإنسان عند الهّم بالفعل حقيقة الدنيا وأنها دار فانية , ولابد أن يأتى بعدها عالم حساب وجزاء دائم , وأن الله عز وجل لا يرضى الإسراف بالقتل , وإصابة الناس بالعوق والجراحات , لذا حينما إحتجت الملائكة على تولي الإنسان الخلافة في الأرض لم يحتجوا على الفساد وحده, إنما احتجوا على سفك الدماء مطلقاً [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
ومن خصائص ما يسمى بالإرهاب في هذا الزمان أنه يخلف الدمار في الممتلكات والقتل والجراحات بين الناس مما يولد حنقاَ ومناجاة بالرد وعداوة لا تختص بطرفي الفعل وحدهما .
وفي قوله تعالى [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] ( ) أي أيكم أزهد في الدنيا , وأسرع إلى طاعة الله عز وجل الذي يكون حريصاً على إجتناب المحارم , ومن يكون زاهداً في الدنيا يتنزه عن الإرهاب ويمتنع عن مقدماته وعن تعضيد أهله , وإذا ما تحلى الإنسان بالزهد فإنه يحظى باحترام الناس , ويأتي الثناء على الملة والمعتقد الذي يحمله , والطائفة التي ينتمي إليها.
التضاد بين العمل بالأحكام الشرعية والإرهاب
لقد أخبر الله عز وجل عن علة خلق الناس وعالم الجن بأنها عبادته تعالى والإنقياد إليه سبحانه .
وابتدأ خلق آدم وبداية دخوله عالم الحياة بعد نفخ الروح فيه بتعليم الله عز وجل له الأسماء ، قال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ).
لبيان أن عمل الإنسان في الحياة الدنيا ليس مطلقاً ، إنما هو مقيد بالأوامر الإلهية ، والأحكام الشرعية ، لذا كان آدم أول الأنبياء نزل عليه الوحي ليفوز بالتعليم الإبتدائي من عند الله قُبلاً من غير واسطة ملك مقرب , وهو من إكرام الله عز وجل لآدم وذريته جميعاً مما يملي عليهم الإمتناع عن العنف والإرهاب , وهذا الإمتناع من الشكر لله عز وجل على نعمة الإكرام هذه .
وعند هبوط آدم للأرض صارت الملائكة تنزل عليه ، وكان يراهم فهو نبي رسول ، ويشتاق إليهم ، وقد قام وهو في الجنة بتعليمهم الأسماء وصحبهم في الجنة ، فينزلون لمواساته وتعليمه أمور الحياة في الدنيا ،ونطرح هنا مسألة مستحدثة في علم الكلام والتفسير وهي : من المواساة من أسرار تفضل الله عز وجل بنسبة أكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عز وجل عنها إلى إبليس ، قال تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( ).
ومن عظيم نفع هذه الآية عدم هجران الملائكة لآدم ، وعدم توجيه اللوم والتوبيخ له ، وهذا من أسباب استدامة الصلة بين العالم العلوي والعالم السفلي ، ومعنى [فَأَزَلَّهُمَا] أي أغواهما بالوسوسة والمكر لتنحيتهما وإخراجهما عن الجنة .
وهل الإرهاب والقتل العشوائي من إزلال الشيطان الجواب إنما هو من فعل البشر ويتحمل صاحبه الوزر , أما بخصوص آدم وحواء فقد كانا في الجنة وأحكام ونواميس الجنة تختلف عما في الأرض ، سنن الإبتلاء فيها ، وكان النهي عن الأكل من الشجرة نهياً تنزيهياً .
وقد إبتدأ الإرهاب في الأرض بقتل قابيل بن آدم لأخيه هابيل من غير حق , فجاء القرآن ببيان قبح هذا القتل , وبيان ضرره مطلقاً ، قال تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ] ( ).
قانون حفظ العهود نبذ للإرهاب
يبعث القرآن وآياته المسلمين للإصلاح في باب العهود والمواثيق, قال تعالى [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً] ( ).
وفيه دعوة للمسلمين لحفظ العهود، وعدم نقض الأيمان، ليكون هذا الحفظ من مصاديق فوز المسلمين بالأجر والثواب، وقد انتفع المسلمون والناس من ذم الذين ينقضون العهود في الكتاب السماوي والتلاوة .
وقد أنعم الله سبحانه عليهم ببيان أحوال الأمم وتخلف بعضهم عن مراتب السمو والرفعة التي تترشح عن التقيد بالمواثيق وعدم نقضها، وفيه وجوه:
الأول : تفقه وإرتقاء المسلمين في المعارف , قال تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
الثاني : إنه عون لهم في كيفية جذب الناس للإسلام.
الثالث : إعراض المسلمين عن أهل الشك والريب فقد يكون الشك فرع نقض العهود، لذا جاءت آيات القرآن لأمور:
الأول: دفع أصل الشك والريب , وفي بعض المنافقين مثل الجدّ بن قيس وأوس بن قيظي ، وأخيه يربع بن قيظي وأبي عرابة بن أوس ، و(عن ابن عباس في قوله [وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ] ( )، قال : هم بنو حارثة قالوا : بيوتنا مخلية نخشى عليها السرق .
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : إن الذين قالوا بيوتنا عورة يوم الخندق : بنو حارثة بن الحارث)( )، ونزل قوله تعالى [إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ]( ).
الثاني: فضح أسباب الوهم والضلالة، وبيان علتها وبداياتها.
الثالث: من منافع التلاوة اليومية للمسلمين للقرآن أمور:
الأول: إزاحة الغشاوة عن الأبصار.
الثاني: إبطال المغالطات , وفي التنزيل [لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ] ( ).
الثالث: الحرص على التنزه عن نقض العهود، ليكون المسلمون أسوة حسنة للناس، ودعاة إلى التقيد بالمواثيق ، ومنها مبادئ الإسلام والإنقياد لأوامر الله عز وجل , وفي التنزيل [مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
وفي عهد ووصية الإمام علي عليه السلام إلى مالك الأشـتر (وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة ، فحط عهدك بالوفاء ، وارع ذمتك بالامانة ، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت ، فإنه ليس من فرائض الله شئ الناس أشد عليه اجتماعا مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم
من تعظيم الوفاء بالعهود.
وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر.
فلا تغدرن بذمتك ، ولا تخيسن بعهدك ، ولا تختلن عدوك ، فإنه لا يجترئ على الله جاهل شقي ) ( ).
الرابع : تنمية ملكة الإيمان .
الخامس : التفقه في الدين .
السادس : الأجر والثواب في قراءة كل حرف وكلمة من القرآن .
السابع : الوقاية من الإفتتان ، قال تعالى [وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا]( ).
الثامن : بيان مصاديق لقانون (لم يغز النبي محمد (ص) أحداً) .
التاسع : تجلي شواهد لقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب).
العاشر : شفاعة القرآن يوم القيامة لمن يواظب على تلاوته .
وهل أداء الصلاة اليومية من مصاديق هذه المواظبة ، الجواب نعم ، لبيان قانون أمر الله عز وجل العباد بالتكاليف ليثابوا ويؤجروا لبيان أن قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، أي ليعبدوني ليثابوا ويفوز بالنعيم في النشأتين .
قانون حفظ العهود سلام
تعاهد العهود من الكمالات الأخلاقية ومن سنن التقوى , وقد أثنى الله عز وجل على إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى [وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى]( ) .
وأسمى العهود ما بين العبد وبين الله عز وجل وفي التقيد بالعهود تخفيف عن المسلمين، وهو من فلسفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليكون سلاحاً وقائياً ودفاعياً في آن واحد من غير دخول معركة أو خوض غمار حرب، أما الوقاية بالأمر والنهي فمن وجوه:
الأول: الإحتراز من نقض العهود.
الثاني: الإعراض عن الذين ينقضون العهود والمواثيق ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
وعن أنس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ألا لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له ( ).
و(عن حذيفة قال : حدّثني رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ، حدّثنا : إنّ الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ونزل القرآن فتعلّموا من القرآن وتعلّموا من أصل السّنة.
ثم حدّثنا عن رفعهما فقال : ينام الرّجل النومة فينزع الأمانة من قلبه فيظل أثرها كأثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فتراه منتثراً وليس فيه شيء ، ثم أخذ حذيفة حصاة فدحرجها على ساقه .
قال : فيصبح النّاس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتّى يقال له : فلان رجلا أميناً ، وحتّى يقال للرّجل : ما أجلده ، ما أعقله ، وأظرفه وما في قلبه مثقال حبّة خردل من إيمان.
ولقد أتى عليّ حين ولا أبالي أيّكم بايعت لئن كان مسلماً ليردّن على إسلامه ولئن كان يهودياً أو نصرانياً ليردّنّ على ساعيه فأنا اليوم فما كنت لأبايع رجلاً منكم إلاّ فلاناً وفلاناً.
وقيل : أكمل الدّيانة ترك الخيانة ، وأعظم الجناية خيانة النّاس)( ).
الثالث: التفقه في الدين والتقيد بأحكام السنن والمواثيق التي أخذها الله عز وجل على الناس.
الرابع: يعقد المسلمون المواثيق مع أهل الكتاب وغيرهم , مع الحرص على الوفاء بها ، قال تعالى [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً] ( ).
وفيه تحذير من القيام بالتفجيرات العشوائية بين عامة الناس ، لأنه خرق للطمأنينة العامة ، وبعث للفزع والخوف في النفوس ، والضرر العام ، والرد العكسي ، إذ أن الطرف الآخر لا يقف مكتوف الأيدي ، وقد لا يحصر رده بخصوص الذي قام بالإرهاب ، مما يدل على أن الإرهاب فتنة ، ومن عمومات قوله تعالى [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً] ( ).
ومن خصائص هذه العهود أمور :
الأول : إنها شاهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد غزو أحد ، فهو لم يعمد إلى تأجيل العهود والإمتناع عنها حتى تصبح دولة الإسلام ذات قوة ومنعة ، إنما اتجه للمواثيق مع اليهود ، والقبائل التي حول المدينة حالما وصل إليها مهاجراً .
الثاني : توكل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الله عز وجل في توالي المعجزات ، وهداية الناس إلى الإيمان .
الثالث : العهود والمواثيق برزخ وحاجب دون الإرهاب والغدر والإغتيالات .
الرابع : تنمية ملكة الميل إلى العهود والمواثيق عند المسلمين والناس كافة والإمتناع عن الخصومة والشقاق ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ءوَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
الخامس : طلب وقبول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العهود والمواثيق من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
السادس : مواثيق النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع يهود المدينة والقبائل مقدمة لعقد صلح الحديبية ، ورضا المسلمين به ، وعدم إصرارهم على العمرة أو التشديد في بنود الصلح ، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا]( ).
وأما الدفاع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمن وجوه :
الأول : صرف الكيد والمكر ، لبيان قانون وهو وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، من مصاديق مكر الله في إصلاح المجتمعات ، وعمومات قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الثاني : من وجوه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعوة الناس للإيمان، وبيان قبح الإقامة على الكفر والضلالة .
الثالث : حصانة النفوس من الوسوسة والصوت الخفي في الروع في الإقدام على الفواحش والمعصية ، وورد في التنزيل حكاية عن ابليس [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ]( ).
الرابع : المناجاة بأداء الفرائض العبادية ، وتعاهد المواثيق بما يبعث على السكينة والإستقرار في المجتمعات ، وهذه السكينة هي الأخرى مناسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
والعهود باب لمعرفة الطرف الآخر ، وكنهه ونواياه للرفق به ، وإزاحة الكدورة والبغضاء ، والنفرة ، وإرجاء للخصومة والشقاق ، ومناسبة لكشف قبح الإرهاب ولزوم التنزه عنه .
قانون استدامة الحيطة
تتضمن آيات القرآن الترغيب بالصلح والعهد والوئام ، كما أنها تجعل المسلمين في حيطة وحذر بعد عقد المواثيق لإحتمال نقضها من قبل مشركي قريش ، ومن باب الأولوية، فمن ينقض عهد الله لا يتورع من نقض ما يعقده مع الناس، قال تعالى[أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ] ( ).
إن استدامة الحيطة طريق إلى السلم واستتباب الأمن ومنع للإقتتال , وقهر للنفس الشهوية وغلبة نزغ الشيطان على كفار قريش بحمية الغدر , قال تعالى [إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
لقد بلغ المؤمنون مرتبة من اليقظة والفطنة بفضل من الله، ومضامين آيات القرآن وما فيها من المواعظ، فتجد في القرآن القصة ولكن معانيها ودلالاتها دروس وحكمة , وهو من مصاديق تسميتها بالأحسن والأفضل , قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
وهناك أمور :
الأول : استدامة قانون قصص القرآن الأحسن في كل زمان .
الثاني : قانون من حسن قصص القرآن أنها مانع من الإرهاب .
الثالث : قانون وجوب التوكل على الله ، والإقرار بعظيم نفع هذا التوكل .
وهل يحتاج المسلمون هذه المرتبة , الجواب نعم، من جهات:
الأولى: قانون تعاهد وإستدامة الإيمان والوفاء بالعهد طمأنينة في الدنيا وسكينة وغبطة في الآخرة , وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قال: المسلمون عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما) ( ).
الثانية: قانون إستمرار أداء الفرائض والواجبات العبادية إرتقاء ورفعة , وفي التنزيل [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ) أي أنها واجب عيني متجدد في كل زمان .
الثالثة: قانون منع غلبة أهل الفسوق والضلالة .
ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه برزخ دون هذه الغلبة , سواء بتلاوتها أو العمل بأحكامها.
الرابعة: إحتراز المسلمين من مباغتة العدو، وما فيها من الخسارة العظيمة لهم، وكم من دولة زال حكمها بسبب مباغتة العدو لها، فقد يطمئن أرباب الحكم مع مرور الزمن وإرتفاع أسوار البلد ، وكثرة السلاح والجنود، فيداهمها العدو ليلاً وهم نيام فيأخذهم بغتة وعلى غفلة والإشتغال بالإحتراز واقية من التعدي على الغير في ديارهم وموطنهم .
ومن إعجاز القرآن الغيري في المقام , قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ) ليدخل الحذر والإحتراز في هذا الإعداد .
الخامسة: زجر الكفار والفاسقين عن التعدي وغزو المدينة ، قال تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]( ).
السادسة: بيان آية حسية للتنزيل في سنة المسلمين وحذرهم وفطنتهم، وإدراك الجميع أن هذا الحذر ليس من تدبير وحيلة بل هو مدد وتوفيق من عند الله ورشحة من رشحات آيات القرآن للوحي فيه موضوعية وأثر جلي في قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتدبير وحسن سمت المسلمين , وفي التنزيل[وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
قانون الصلاح بالأمر والنهي
من خصائص المؤمنين في كل زمان إدراك وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( )، ويكون حال المؤمن على وجوه :
الأول : آمر بالمعروف .
الثاني : ممتثل للأمر بالمعروف .
الثالث : ناه عن المنكر ، ومبين لأضرار المعصية .
الرابع : مستجيب للنهي عن المنكر .
الخامس : المسلم فاعل للمعروف , وصيرورته أسوة لغيره .
السادس : العصمة من فعل المعصية بالإنزجار , بما في آيات القرآن من النهي عن فعل المعاصي والسيئات .
وعن جرير قال : بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والنصح لكل مسلم( ).
و(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَبُّ مَا تَعَبَّدَنِي بِهِ عَبْدِي إِلَيَّ النُّصْحُ لِي)( ).
وأما كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر دفاعي فهو من وجوه :
الأول : إعانة المسلمين في جمع صفوفهم، وبذل الوسع في تعاهد أحكام الشريعة , وهذه الإعانة من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
الثاني : تنمية ملكة التقيد بأحكام القرآن وآياته، فكل آية هي عهد بين الله وبين المسلمين في حفظها والعمل بمضامينها القدسية.
الثالث : في الجمع بين الآيتين دعوة للمسلمين لإتخاذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة لبعث معاني الأخوة بينهم، والتمسك بالقرآن والسنة ، ونشر لواء السلام ومفاهيم الإستقامة بين الناس ، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
ليكون من أسرار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعاهد أحكام القرآن وهذا التعاهد من الوفاء بالعهود والمواثيق.
الرابع : وقاية المسلمين من الجدال والمراء، فلا يستطيع أحد رميهم بنقض العهود، إذ أن المواظبة على العبادات ، وإظهار المسلمين الخشوع لله عز وجل دليل على حسن سمت المسلمين، وصدق تقيدهم بالسنن والأحكام , وفي التنزيل [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( ).
وقد يكون ذات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الجدال بالحق، ومن مصاديق [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( )، وفيه فضح للفعل القبيح مطلقاً , ونقض العهود خاصة، فلا تصل التوبة إلى الجدال وإثارة الشبهات ضد الإسلام والمسلمين.
الخامسة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موعظة للناس في لزوم إجتناب الذين نقضوا العهود، وإشتروا بأيمانهم ثمناً قليلاً.
لقد أمر الله عز وجل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ليكون سفينة نجاة ، وسبيل صلاح عام وتدارك ، وهل هو من الصراط المستقيم ، الجواب نعم .
وقد تفضل الله عز وجل فجعل كل مسلم ومسلمة يتلو هذه الآية ليكون آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر ، ومستجيباً لمن يأمر بالمعروف ، وممتنعاً عما نهى عنه الشارع .
والإرهاب وقتل الناس بغير حق من المنكر الذي يجب النهي عنه ويلزم الإلتزام بهذا النهي .
وورد الإطلاق والعموم في الألف واللام في كل من المعروف والمنكر في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) وليس من حصر لموضوع الأمر والنهي هذا ، ولا أفراده وهو شرعي وعقلي .
ومن إعجاز القرآن ذكره لقانون وهو وجود أمة من أهل الكتاب تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، قال تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ] ( ).
(عن ابن مسعود قال : أخر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة صلاة العشاء ، ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة .
فقال : أما أنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم .
ولفظ ابن جرير ، والطبراني ، وقال : إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب .
قال : وأنزلت هذه الآية { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة } حتى بلغ { والله عليم بالمتقين }( ) )( ).
مما يدل بالدلالة التضمنية على نزول هذه الآيات بحق أهل الكتاب ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعوة للصلاح والإحسان ،وزاجر عن الجناية قبل العقوبة وحائل دونها .
قانون النهي عن المنكر أمن
يأتي النهي عن المنكر مصاحباَ ومتعقباَ للأمر بالمعروف في القرآن ، وهو علم وواجب قائم بذاته , وله محله وموضوعه , وقد يشترك مع الأمر بالمعروف في الموضوع ويكمل أحدهما الآخر , وقد ينفصل عنه .
ويدل على استقلاله ما ورد (عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان)( ) .
وعن قيس (قام أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}( ) إلى آخر الآية .
وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك الله عز وجل ، أن يَعُمَّهُمْ بعِقَابه)( ).
لقد تحمل المؤمنون مسؤوليات النهي عن المنكر في الميادين المختلفة، وهو من عمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) ( ).
وهل يحصل تعارض أو تزاحم بلحاظ تعدد ميادين النهي، الجواب لا، فالمسلمون ينهون في وقت واحد عن المنكرات والقبائح، وهو الذي يدل عليه ظاهر الآية الكريمة[وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ) إذ جاء بصيغة الإطلاق في أطرافه وهي:
الأول : طرف الناهين وهم المسلمون فليس من تعيين لطائفة منهم تقوم بالنهي، بل توجه الإخبار التكليفي إلى المسلمين مجتمعين ومتفرقين ، نعم إنه من الواجب الكفائي الذي إن قام به فرد أو جماعة منهم سقط عن الآخرين ويدل عليه قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
الثاني : الموضوع المنهي عنه ، وهو المنكر مطلقاً ، فمع أن المنكر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً في قبحه وضرره، فإن الآية أخبرت عن قيام المسلمين بالنهي عن أفراده كلها مع التباين بينها, وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث : الذين يتوجه لهم النهي والزجر عن المنكر، وليس من تحديد لإنتمائهم وجنسهم إذ يتوجه النهي بلحاظ التلبس بالمنكر، ومن يتنزه عن فعل السيئات لم يعد موضوع لذمه ولومه وزجره.
وعن جماعة من الصحابة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الهجرة هجرتان : إحداهما أن تهجر السيئات ، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله ، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة ، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب ، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه . وكفي الناس العمل)( ).
والإرهاب وإشاعة الفوضى من المنكر ، ويدل على لزوم التعاون لمنعه وبيان قبحه الذاتي والعرضي ، والحضّ على إجتنابه ، مع الثناء على الذي يتقيد بأحكام الشريعة والقانون .
قانون الملازمة بين الإيمان والأمانة
لقد مدح الله عز وجل المؤمنين ، قال تعالى[وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ]( ) فمن خشية الله صيانة وتعاهد الأمانة.
وتدل الآية أعلاه على أن رعاية وحفظ العهود أمر وجودي، وفعل متجدد ملاكه الإيمان لذا وعد الله عز وجل عليه الجنة ، بقوله تعالى[الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
وفيه مسائل :
الأولى : بيان النفع العظيم والبركة التي تصيب الناس إذا آمنوا، للملازمة بين الإيمان وحفظ العهود والمواثيق، ومن وجوه الأمانة كفرع من الإيمان الإمتناع عن الإضرار العام ، ومباغتة الناس غفلة بالإرهاب .
الثانية : ترغيب الناس بالإيمان، وأنه خير محض، وليس فيه إلا الصلاح والإصلاح ، قال تعالى [وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ) وهو باعث على السكينة والأمن ، وفي التنزيل [فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقًا] ( ).
الثالثة : من الآيات في خلق الإنسان أن فطرته تميل إلى الصلاح، ومن الذين يفعلون المنكر من يرى أنه يفعل المعروف أو يحاول أن يظهر به، ولكن الله عز وجل يقيم عليه الحجة ومنه تعاهد المسلمين الأمر والنهي بدأب ، وهو الذي ورد بقوله تعالى [تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] ( ) ، وهذا الدأب حاجة للصلاح العام ، وليس فيه إلا الأجر والثواب ، وهو برزخ دون مفاهيم الضلالة والفسوق وقد ذم الله الذين يرتكبون جادة المعاصي .
قال تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ] ( ).
ليكون من مصاديق الآية منع الناس من التمادي في المعاصي وفعل الفواحش.
ولابد في الأمر والنهي من أمور :
الأول : التفقه في الدين .
الثاني : العلم بوقوع موضوع الفعل ، وعدم الإكتفاء بالظن والأمارات.
الثالث : العلم بآداب كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحسب الحال والمقال .
الرابع : إجتناب الضرر للذات أو الغير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
(عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا ضرر ولا ضرار ، من ضار ضاره الله ، ومن شاق( ) شاق الله عليه) ( ).
قانون الإيمان رفعة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار العز والرفعة ، وقيده بشرط وهو الإيمان بالله وأداء الواجبات العبادية ، إذ لا يزيد الخشوع لله عز وجل الإنسان إلا سمواً وعلواً بين الناس ورزقه المتقين ، ورفعة مقاماتهم بإختيارهم الإيمان ، فمن فضل الله عز وجل أن باب الرفعة هذا مفتوح للناس جميعاً بشروط الإيمان ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( )أنه سبحانه يقرب الناس إلى منازل الإيمان بلطف منه سبحانه ،ويدلهم على مسالكه .
(عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُوقَدَ لَهُ نَارٌ فَيُقْذَفَ فِيهَا) ( ) ، وهناك مسائل :
الأولى: جاء القرآن لتوثيق الدعوة إلى الله ، ومن أهل الكتاب من أثنى عليهم القرآن ، قال تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ] ( ).
الثانية : بيان جهاد المسلمين، وما كانوا يلاقونه من الأذى في جنب الله، فمع أنهم على الحق والهدى فإن الناس لا يتركونهم ، قال تعالى [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ] ( ) ومن الفتنة إصرار قريش وحلفائهم على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فأظهر المسلمون الصبر ، ودافعوا عن النبوة والتنزيل وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان المشركون يغزون المدينة .
الثالثة : من مصاديق الإيمان التصديق بالكتب السماوية كلها ، واتباع نهج الأنبياء ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ) .
الرابعة : من خصائص الإيمان نزول السكينة في النفس والرضا بما قسم الله ، (عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسّم الله الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسماً،)( ).
الخامسة : الملازمة بين الإيمان والدعاء ، وما يترشح عنه في قضاء الحاجات ، وفيه رفعة وعز ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
قانون الإنجذاب إلى الإيمان
لقد بعث الله سبحانه الأنبياء لهداية الناس وجذبهم إلى الإيمان وتعاونهم في سبل الصلاح ومنها ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ] ( ) من وجوه :
الأول : نزول القرآن من عند الله , وأجراء الله عز وجل على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمارات ظاهرة بأنه وحي ، وفيه دعوة إلى التقوى وإقامة الفرائض العبادية ولزوم تعاهدها من غير تحريف أو زيادة أو نقصان ، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (صلوا كما رأيتموني أصلي)( ).
الثاني : العموم في التكاليف العبادية ، وفيه جلب للمنفعة ودفع للمفسدة.
الثالث : الآية شاهد على سلامة أحكام الإسلام من الإرهاب ، للتنافي بينه وبين الهدى .
الرابع : إقامة الحجة على الناس بوجود أمة تصف بالصلاح بينهم وفيه ترغيب بالإقتداء بهم ، ومن وسائل الترغيب حسن السمت المسلم وتحليه بمكارم الأخلاق .
الخامس : بيان قانون وهو أن الهداية خير ونفع لذات الإنسان الذي يؤمن ، قال تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ).
والإيمان زاجر عن الإرهاب وأحكامه تحرم سفك الدماء والظلم والتعدي ، وإخافة الناس في بيوتهم وفي الأسواق والمنتديات والمساجد ودور العبادة ، ونشر خطاب الترويع والكراهية .
و(عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من أشار إلى أخيه بحديدة فلا تزال الملائكة تلعنه حتى يضعها ، وإن كان أخاه لأبيه وأمه) ( ).
وكل فريضة عبادية سبب لجذب الناس للإيمان ، وفي التنزيل [قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] ( ).
السادس : بيان البركة والفلاح الذي يأتي للمؤمنين بالإيمان ، قال تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] ( ).
ومن مصاديق قانون الإنجذاب إلى الإيمان تحلي المسلمين بمكارم الأخلاق والمبادرة إلى الإحسان ، وفي التنزيل [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإحسان ، الجواب نعم فهو إحسان للذات والغير ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
ولما تفضل الله عز وجل ورزق الناس الخلافة في الأرض فانه سبحانه جعل من الفطرة الميل إلى الإيمان ، وعذوبة وحلاوة في ملاكات القول والفعل، ولا يورث ما هو ضد الإيمان إلا الحسرة والندامة ، وعندما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ] ( ) لأن شطراً من الناس يفسدون في الأرض ومنهم من يسفك الدماء .
أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
فمن علم الله عز وجل رجحان كفة الإيمان وجعل القلوب تميل إلى الإيمان وأهله ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا] ( ).
ويحتمل أوان إبتداء هذا الرجحان وجوهاً :
الأول : يوم خلق الله الناس في عالم الذر .
الثاني : يوم خلق الله عز وجل آدم ونفخ من روحه .
الثالث : حينما علم الله عز وجل آدم الأسماء ، قال سبحانه [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( )ومن الإيمان وحسنه ، والكفر وقبحه .
الرابع : عندما يخلق الله عز وجل الإنسان يجعل في سجيته الميل إلى الإيمان ، قال تعالى [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا] ( ) والسبيل الخير والصلاح ، وتقدير الآية ، إما شاكراً للهداية للسبيل ، وإما جاحداً بها ومعرضاً عن السبيل .
ومن الدلائل عليه ما ورد عن (عياض بن حمار المجاشعي قال : قال رسول الله صلّى الله عليه : إنّ الله أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم ممّا علّمني في يومي هذا وأنّه قال : إن كلّ مال نحلته عبادي فهو لهم حلال وإنّي خلقت عبادي كلّهم حنفاء فأتتهم الشياطين فاحتالتهم عن دينهم وحَرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم وأَمَرتُهُم أنْ يشركوا بي ما لم أُنزّلْ به سلطاناً) ( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، والأصل هو الأول ، ويتجدد رجحان كفة الإيمان ، والميل إليه في الوجوه الأخرى أعلاه ، بل يتجدد في كل يوم من حياة الإنسان ولكن منهم من يعرض عنه (عن مسلم بن يسار الجهني ، أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم . . . }( ) الآية .
فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عنها فقال: أن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون . فقال الرجل : يا رسول الله ففيم العمل؟ .
فقال : إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الله الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله) ( ).
(وقال السدي : أخرج الله آدم من الجنّة ولم يهبط من السماء ثمّ مسح ظهره وأخرج ذريته. قالوا : فأخرج من صفحة ظهره اليسرى ذرية سوداء فقال لهم : ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال.
وقال لهم : جميعاً أعلموا أن لا إله غيري وأنا ربكم لا رب لكم غيري فلا تشركوا بي شيئاً فإنّي مرسل إليكم رجالاً يذكرونكم بعهدي وميثاقي، ومنزل عليكم كتباً فتكلّموا وقالوا : شهدنا بأنك ربنا وإلهنا ولا رب لنا غيرك .
فأقرّوا يومئذ كلهم طائفة طائعين. وطائفة على وجه التقدير تقيّة.
فأخذوا بذلك مواثيقهم ، وسُمّيت آجالهم وأرزاقهم وحسابهم ، فنظر إليهم آدم.
ورأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك،
فقال : رب لولا سويت بينهم،
فقال : إنّي (أحببت أن) أشكر.
قالوا : وفيهم الأنبياء يومئذ أمثال السرج فرأى آدم نوراً ساطعاً .
فقال : من هذا .
فقال : هذا داود نبي من ذريتك ، قال : كم عمره؟
قال : ستّون سنة قال : رب زده.
قال : جرى القلم بآجال بني آدم .
قال : رب زده من عمري أربعين سنة .
فأثبت لداود أربعين وكان عمر آدم ألف سنة .
فلما استكمل آدم تسعمائة وستين سنة جاء ملك الموت .
فلما رآه آدم قال : مالك؟
قال : استوفيت أجلك،
قال له آدم : بقي من عمري أربعون سنة،
قال : أليس قد وهبتها لداود؟
قال : لا فجحد آدم،
فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته،
وخطأ فخطئت ذريته،
فرجع الملك إلى ربه فقال : إن آدم يدعي أنه بقي من عمره أربعون سنة،
قال : أخبر آدم أنه وهبها لابنه داود (عليه السلام) والأقلام بطيئة فأثبتت لداود) ( ).
وهل يختص قانون الإنجذاب إلى الإيمان بطائفة من الناس أو يلزم شروطاً لتحقيقه ، الجواب لا ، فهذا الإنجذاب من الفطرة ، ومن رشحات قوله تعالى [نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) ليكون واقية من إشاعة الظلم ، وسبباً لمحاصرة الإرهاب.
قانون الجذب ليس مطلقاً
الإنجذاب إلى الإيمان غير قانون الجذب الذي ظهر عنوانه في هذا الزمان، وهو موضوع فلسفي يشير إلى إمكانية تحقق ما يلح عليك بالتفكير به سواء كان بلغة أو غاية قريبة أو بعيدة المنال ، أو مخــاوف وأوهام لا أصل لها ، وإذ يحملك هذا التفكير المتكرر به واستحضاره في الوجود الذهني ورسوخه في العقل الباطن على السير إليه بخطوات متتابعة أو متباعدة .
ولا أصل للإطلاق في هذا القانون ، وهو لا يعدو أن يكون نظرية ، ومنهم من استدل عليه بقول الإمام علي عليه السلام (كُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ) ( ) .
ولكن الحديث يدل على المتوقع وفي الأسباب وإجتماع الشرائط ومنها إذ ينتظر العقلاء ما يمكن وقوعه ، وهو يأتي طوعاً وإنطباقاً وقهراً ، وهو المستقرأ من سياق خطبة الإمام علي عليه السلام وتعلقها بأمور الدنيا والآخرة ومنها (اُنْظُرُوا إِلَى اَلدُّنْيَا نَظَرَ اَلزَّاهِدِينَ فِيهَا اَلصَّادِفِينَ عَنْهَا فَإِنَّهَا وَ اَللَّهِ عَمَّا قَلِيلٍ تُزِيلُ اَلثَّاوِيَ اَلسَّاكِنَ وَ تَفْجَعُ اَلْمُتْرَفَ اَلآْمِنَ لاَ يَرْجِعُ مَا تَوَلَّى مِنْهَا فَأَدْبَرَ وَ لاَ يُدْرَى مَا هُوَ آتٍ مِنْهَا فَيُنْتَظَرُ سُرُورُهَا مَشُوبٌ بِالْحُزْنِ وَ جَلَدُ اَلرِّجَالِ فِيهَا إِلَى اَلضَّعْفِ وَ اَلْوَهْنِ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ مَا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا رَحِمَ اَللَّهُ اِمْرَأً تَفَكَّرَ فَاعْتَبَرَ وَ اِعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ .
فَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ اَلدُّنْيَا عَنْ قَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ .
وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ اَلْآخِرَةِ عَمَّا قَلِيلٍ لَمْ يَزَلْ وَ كُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ وَ كُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ وَ كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ دَانٍ ، انظروا إلى الدّنيا نظر الزاهدين فيها لكيلا تأسوا على مافاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم) ( ).
ولا يقدر العقل الباطن أن يقود الوقائع والأحداث ، وقد يصاب الإنسان بالخيبة والقنوط بسبب إلحاحه بالتفكير بمسألة مخصوصة شوقاً أو خوفاً ، وقد يكون سبباً لتفشي المرض في بدنه ، ولعل في عيادات الطب النفسي شواهد عديدة في هذا الموضوع .
وكما يشمل قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) الوقائع العامة والخاصة ومقدماتها ونتائجها ، فهل يشمل ما يفكر به الإنسان فيزيح عن المؤمن الهمّ والتفكير الملًح فيما ينفعه ويزيحه عنه وإن اجتمعت أسبابه، الجواب نعم ، وفي التنزيل [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( ).
ويدلنا ما يسمى قانون الجذب على مسألة وهي لزوم إصلاح الأفكار الشخصية ، وكشف الحقائق ، وإزاحة الكدورة والحقد ، والمنع من إبتلاء القلب بالغيظ على الآخرين بسبب مبنى أو مدرك أو فهم أو اعتقاد أو فعل، فلابد من الحوار والإنصات إلى الطرف الآخر ، وإظهار لسان الحجة والبرهان .
قانون كشف المنافقين بعالم الأقوال والأفعال ، قال تعالى [وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ] ( ) وما راود الذهن على الوجه يلوح، وقد يبتلى الله الإنسان فيجعله يخرج ما يخامر قلبه من الرغائب والنوايا ، لذا قال تعالى [أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ] ( ).
قانون الإسلام دين العبادة
جاء القرآن بما الدعوة إلى الهدى والصلاح و يفيد بطلان مفاهيم الشرك والإلحاد ، قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( )، فإن قلت لماذا توكيد البطلان , والجواب من وجوه :
الأول: لقد أخذ الله عز وجل الميثاق على الناس وهم في عالم الذر بلزوم عبادته، قال تعالى[وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى]( ).
الثاني : جاءت الكتب السماوية السابقة كلها بوجوب عبادة الله ، ونبذ الشرك والضلالة ، وفي التنزيل [وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ) ومــن مصــاديق البيان في القرآن ذكره لــدعوة الأنبياء قــومهم إلى التــــــوحيد ، وصبرهم وجهادهم لتثبيت مفاهيم الإيمان في الأرض ، وسيأتي بيانه في قانون [يا قَوْمٍ].
الثالث : لقد تفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء رحمة بالناس، ومن أهم مصاديق الرحمة في بعثتهم جهادهم وبذلهم الوسع بين الناس في الدعوة إلى الله عز وجل، وتحملهم الأذى في محاربة الشرك ومفاهيم الكفر ، وفي قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) .
ورد عن ابن عباس قال (هم قوم قتل نبيهم ، فلم يضعفوا ولم يستكينوا لقتل نبيهم) ( ).
الرابع : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار الآيات الدالة على الوحدانية) وتفضل ورزق الإنسان العقل، وجعل عنده الحواس لتكون آلة معرفة الإعجاز والعظمة في خلق الله عز وجل ، والدلائل على وجوب طاعته.
عن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أول ما خلق الله القلم ثم خلق الدواة وهو قوله تعالى [ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ]( ).
النون الدواة ثم قال للقلم خط ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة من خلق أو أجل أو رزق أو عمل أو ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة من جنة أو نار .
وخلق العقل فاستنطقه فأجابه ثم قال له اذهب فذهب .
ثم قال له أقبل فأقبل ثم استنطقه فأجابه ثم قال وعزتي وجلالي ما خلقت من شيء أحب إلي منك ولا أحسن منك ولأجعلنك فيمن أحببت ولأنقصنك ممن أبغضت .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته ، وأنقص الناس عقلا أطوعهم للشيطان ، وأعملهم بطاعته)( ).
الخامس : ترشح خروج المسلمين للناس بالموعظة والمودة من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتعاهد الإيمان في الأرض ، وهل يدل قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ] ( ) على مبادلة المسلمين ذات المودة ، المختار نعم ، لتكون هذه المودة برزخاً دون الظلم والإرهاب .
الخامسة : لقد إستحق المؤمنون سمو المرتبة لأنهم لم يشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً كان أو كثيراً، إذ يحاول أعداء الإيمان وأهله من كفار قريش إغراء المؤمنين، ودفع بعضهم للتفريط بالمبادئ والقيم الإيمانية.
فيبذل أعداء الإسلام الأموال ويمارسون سياسة الترغيب والترهيب ويرسلون الرسائل إلى المهاجرين والأنصار لجعل المسلمين يتركون التقيد بالسنن والمواثيق، ويتبعون نهج المسلمين من الأمم السابقة، ولكن مكرهم هذا يذهب أدراج الرياح، ولا يلقون إلا الخيبة والندامة قال تعالى[يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا* فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا]( ).
ومن إعجاز القرآن وتفسيره الذاتي بيان رجوع كيدهم إلى نحورهم بفضحهم وخزيهم ومجيء الوعيد لهم بحرمانهم من النصيب والحظ , وأسباب الفرح والسعادة في الآخرة بقوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
قانون الفرائض العبادية لواء سلام
لقد أكرم الله عز وجل المسلمين في القرآن ونالوا منزلة رفيعة من جهات:
الأولى : التباين بين المسلمين وكفار قريش ، ويتجلى هذا التباين بتعاهد المسلمين للمواثيق والوعود ,وأدائهم للفرائض العبادية ومنها الصلوات الخمس , قال تعالى [ِ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]( ).
الثانية : تفقه المسلمين في أحكام وسنن الإيمان ولزوم الوفاء بها، وعدم نقضها.
الثالثة : المدد والعون من الله عز وجل للمسلمين للتوفيق في الحفاظ على المواثيق، ولمّا إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد عنهم في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، جاء الرد من الله عز وجل عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، لتتجلى مصاديق هذا العلم الإلهي في المقام بأمور:
الأول : خروج أمة مؤمنة للناس تحافظ على المواثيق، وتمتنع عن نقض الأيمان والوعود.
الثاني : جهاد المسلمين بسلاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث : اللطف الإلهي في إعانة المسلمين لمرتبة حفظ المواثيق والعهود , قال تعالى [فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ]( ).
الرابع : نزول القرآن بفضح الذين يفرطون بالعهود والأيمان بثمن بخس وقليل.
الخامس: توكيد النشور ووقوف الناس للحساب يوم القيامة .
(عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، فإما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد ، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً) ( ).
وفي الآيات الأخيرة من سورة يس وقوله تعالى [وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ] ( )ورد عن (ابن عباس، أن العاصي بن وائل أخذ عظما من البطحاء ففتَّه بيده، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيحيي الله هذا بعد ما أرى؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “نعم، يميتك الله ثم يحييك، ثم يدخلك جهنم”. قال:
ونزلت الآيات من آخر “يس) ( ) .
وقال الواحدي أن قوله تعالى [خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ] ( ) نزل في (أبي بن خلف الجمحي حين جاء بعظم رميم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رم نظيرة هذه الآية، قوله تعالى في سورة يس (أَوَلَم يَرَ الِإنسانُ أَنَّا خَلَقناهُ مِن نُّطفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصيمٌ مُّبينٌ) ( ) إلى آخر السورة، نازلة في هذه القصة) ( ).
وروي عن مجاهد ولا مانع من تعدد أسباب نزول الآية لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، وكثرة جدال مشركي قريش مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، نعم لو كان لابد من التفاضل .
فما ورد عن عبد الله بن عباس باسناد صحيح أعلى طبقة وأوثق مما ورد عن مجاهد بذات الرتبة من الإسناد من جهة وثاقة الراوي .
وحينما أنكر بعض المشركين البعث لم يبطش بهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما أكد البعث والنشور ، ودخول المشركين النار ، وعضدّه القرآن لتبقى آياته إلى يوم القيامة التذكير بالبعث دعوة للناس لدخول الإسلام وتزجر عن الكفر والضلالة ، لذا لجأ رجالات قريش لإنكاره ، وموضوعه باق إلى يوم القيامة .
وفيه نهي عن الإرهاب والقتل ، لأن الله عز وجل يبعث القاتل والمقتول للحساب يوم القيامة .
الرابعة : تعاهد المواثيق والعهود أمر متجدد في كل آن، وأهل الضلالة الأمم السابقة لم ينقضوا العهود من رأس وعلى نحو الدفعة الواحدة، بل تعاهدتها فرق وأجيال منهم ثم أخذ بعضهم ينقضونها فرداً فرداً لتغليب حب الدنيا، والمنافع العاجلة والتي وصفتها الآية بكونها [ثَمَنًا قَلِيلاً] ( ).
ومن خصائص الإيمان إستمرار وإتصال تعاهدها للمواثيق والعهود، والمناجاة بالوفاء بها .
قانون الميثاق نعمة
قال الله سبحانه في خطاب للمسلمين[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ]( ) .
بلحاظ أن عطف الميثاق على النعمة من عطف الخاص على العام، ونعمة الميثاق في المقام مركبة من وجوه:
الأول: ذات الميثاق مع تعدد الأقوال فيه، وعن ابن عباس: ما أخذ عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند إسلامهم وبيعتهم بأن يطيعوا الله في كل ما يفرضه عليهم مما ساءهم أو سرهم)( ).
الثاني: تشريف وإكرام المسلمين بمعاهدة ومواثقة الله بالميثاق.
الثالث: تلاوة المسلمين لآيات الميثاق، وهذه التلاوة نعمة أخرى.
الرابع: قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه الحث على التقيد بالميثاق سواء فيما بينهم أو بينهم وبين عامة الناس .
الخامس : إقامة الحجة على أهل الكتاب بتقيد المسلمين بالميثاق.
السادس : البشارة للمسلمين بالسعادة الأخروية، وهو الذي يدل عليه مفهوم الذم والوعيد للذين ينقضون الميثاق، قال تعالى[فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ]( ).
السابع : الإقرار بالمعاد من أصول الدين , وهو ضرورة لابد من التسليم بها، كما أنه أمر واقع وحتمي سواء آمن أو جحد به الناس , وفي التنزيل [زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ]( ).
والإيمان باليوم الآخر نفع وخير محض للناس من وجوه:
الأول: الإيمان بالبعث والنشور إعتقاد يجلب الأجر والثواب لصاحبه، فلا ينحصر الثواب بعالم الأفعال بل يشمل الإقرار والإعتقاد بالجنان بأن النشورحق وصدق أخبر الله عز وجل عنه ، قال تعالى[اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ] ( ).
الثاني: الإقرار باليوم الآخر علة للإستعداد له بالعمل الصالح، وأداء الوظائف العبادية وهو وسيلة لتعاهد منزلة الإيمان والرفعة والعز والحفاظ على السنن الإيمانية ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ] ( ).
الثالث: من شرائط الإيمان التسليم باليوم الآخر، والإقرار بأنه حق وصدق، وإعلان هذا الإقرار لذا جاءت آيات القرآن بالبيان الإجمالي والتفصيلي لمواطن يوم القيامة، وشدة وطأة الحساب فيه.
ومن الإعجاز في التشريع الإسلامي تلاوة هذه الآيات كل يوم في الصلاة اليومية الواجبة , أو على نحو الإستحباب والنذر ونحوه خارج الصلاة ، وفي الليل والنهار ، وفي إتصال التلاوة تجديد لهذا الإعلان، وشاهد على إتخاذ المسلمين الدنيا مزرعة للآخرة.
الرابع: الإقرار باليوم الآخر مقدمة للأمن يومئذ، قال تعالى في الوعد الكريم للمؤمنين [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، وفيه مصداق لقانون ثابت وهو ما من أمر فرضه الله عز وجل إلا وفيه نفع عظيم وأن الإعتقاد الصحيح مقدمة للثواب العظيم الذي يأتي على الأعمال التي تترشح عنه.
ومن خصــائص المتقين أن عالم المــوت وما بعده دائــم الحضور عنــدهم، وفي الوجود الذهني للأفــراد ، وعن أنس بن مالك قال : (مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوم من الأنصار يضحكون ، فقال : أكثروا ذكر هادم اللذات) ( ).
وعـنه صلى الله عليه وآله وسلم :أكثروا ذكر الموت) ( ).
الخامس: معرفة التباين بين المؤمنين والكفار يوم القيامة، وترشح هذا التباين عن عالم الأفعال في الدنيا، وفيه ترغيب للناس لدخول الإسلام ، والفوز بالسكينة والطمأنينة في الدنيا والآخرة.
فإن قلت إن السكينة في الآخرة مصاحبة للأمن من الخوف والعذاب ولدخولهم الجنة، فكيف تكون السكينة في الدنيا وظاهر الحال أن شطراً من المسلمين يصيبهم الفزع والخوف من الظالمين.
والجواب من وجوه:
الأول: قانون الملازمة بين الإيمان والسكينة، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الثاني: قانون معرفة المسلمين بالثواب والجزاء الحسن على إيمانهم وصلاحهم.
الثالث: قانون إن الخوف من الظالمين عرض زائل، لذا تفضل الله عز وجل وجعل الصلاة واجباً متعدداً ومتكرراً في اليوم الواحد، ليكون فيها أمور :
الأول: قانون الإلتجاء إلى الله عز وجل.
الثاني: السكينة مناسبة السؤال لنصرة الله ورجاء لنزول رحمته.
الثالث: قانون عقيدة الإيمان سلامة من الكيد والخوف قال تعالى في البشارة والوعد في الدنيا للمسلمين[وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا]( )، وليكون هذا الأمن على وجوه:
الأول: إنه شاهد على عظيم قدرة الله.
الثاني: توكيـــد قانون ثابــت وهو أن الدنيــا والآخرة ملك لله عز وجل.
الثالث: هذا الأمن مقدمة ومثال دنيوي للأمن للمؤمنين في الآخرة , قال تعالى[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ]( ).
قانون الفقاهة إرتقاء في المعرفة
من خصائص الآية القرآنية أنها مناسبة لتفقه المسلمين في الدين، ومعرفة أحوال الدنيا والآخرة سواء بمضمون ذات الآية أو بصلتها مع غيرها من الآيات ( ).
وتترشح هذه المعرفة عن الإيمان بالله واليوم الآخر فبعد الأمر بالإقرار بالبعث والنشور وعالم الحساب، تأتي آيات القرآن بالبيان التفصيلي لمواطنه وما يتصف به، ومنه أن الله عز وجل يحجب فضله عن الذين ينقضون العهود والمواثيق ويرتكبون المعاصي ، فلا ينظر إليهم، والله عز وجل لا يوصف بحاسة.
فالمراد من النظر الرحمة والمغفرة كما يقال(فلان لا ينظر إلينا هذه الأيام) أي لا يعطف علينا كما كان يفعل ، قال تعالى[نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ]( )، والله عز وجل لا ينسى ولكن لا تتغشاهم آيات الفضل الإلهي.
وليس من عبد إلا وهو بحاجة دائمة ومتجددة لرحمة الله في الدنيا والآخرة، ومن رحمته في الدنيا وقاية الناس من الحرمان من النصيب في الآخرة، لذا ورد قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن الآيات أن كل آية في القرآن رحمة بالمسلمين والناس جميعاً ، ومنها الآيات التي تحذر من ترك العهود.
ترى كيف تكون آيات النهي عن نقض العهود رحمة ، الجواب من وجوه :
الأول: جاءت آية بصيغة الفعل المضارع(الذين ينقضون) وفيه إشارة إلى إرادة المستقبل، وإمكان التدارك.
الثاني: التوبيخ والتبكيت على الذنب بيان وقبحه الذاتي، وفيه دعوة لتركه، وعدم الإقامة عليه.
الثالث: بقاء باب التوبة مفتوحاً إلى يوم القيامة، ولا تختص التوبة بالمسلمين بل هي عامة وشاملة للناس ، ومنهم الذين ينقضون العهود والمواثيق، سواء التوبة عن ذات النقض وكتمان البشارات أو عن الذنوب مطلقاً ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا] ( ).
لقد أحدث نزول القرآن ثورة ورحمة في كل من :
الأول : العلم بفروعه ، ليكون من معاني قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ) فضل الله عز وجل بنقل الناس بالنبوة والتنزيل من ظلمة الجهالة إلى الهدى ، ومراتب العلم ، وفيه حاجز دون الإرهاب وسفك الدماء .
الثاني : بيان عقيدة التوحيد وتجلي حسنها ، وفضح وذم المشركين ، والحيطة والحذر منهم ، قال تعالى [اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
الثالث : فتح أبواب علم الكلام والفلسفة والفلك والطب ، وإشاعة القراءة والكتاب في الجزيرة والعالم .
الرابع : تأصيل منهجية التنزيل ذات صبغة الشمول وما يتفرع عنها من التحقيق والإستقراء والإستنباط .
وانقسم الفلاسفة في باب المعرفة إلى أقسام :
الأول : إمكان إتساع معرفة الإنسان ، وكسبه المتجدد للعلوم ، ويسمون: الاعتقاديين .
الثاني : حال الشك وعجز الإنسان عن المعرفة ، حتى يشك الإنسان في وجوده ، وصولاً إلى المعرفة ، إذ أن المعرفة التي تترشح عن الشك تكون أقرب إلى الصواب ، ويسمى الشك المنهجي .
الثالث : حصر المعرفة بما يدرك بالحواس .
الرابع : تتعلق المعرفة بالإحتمال والترجيح من غير أن تصل النوبة إلى اليقين .
الخامس : التسليم بما جاء به التنزيل من الأصول والفروع والبديهيات ، إذ تدعو الكتب السماوية إلى اليقين والتصديق بالغيب ، قال تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ] ( ) والصحيح هو الأخير .
وجعل القرآن الناس في غنى عن هذه المباحث إذ أنه يهدي إلى المعرفة ، وهو بذاته مدرسة في اليقينيات ، ويطرد عن الإنسان الشك ، ويمنع دبيبه إلى النفس ، ويبين قانوناً من جهات :
الأولى : عدم حصر المعرفة بالحسيات ، فلابد من توظيف العقل ، والإنتفاع منه ، وإتخاذه بلغة وسبيلاً للمعرفة أكثر نفعاً من الحواس ، كما أنه أميرها .
الثانية : يجعل القرآن موضوعية للمعرفة الإلهية .
الثالثة : المعارف الإسلامية حصن من الإرهاب والظلم ، ولما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) أجابهم الله بالبرهان المتجدد [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علم الله عز وجل الذي أبهر الملائكة إرتقاء المؤمنين في سلم المعارف ، وتنزههم عن الإرهاب ، وبيان قانون وهو التضاد بينه وبين القرآن( ).

قانون التقوى طريق الثواب
والوفاء بالعهد أمر حسن شرعاً وعقلاً وعرفاً، ويكون الوفاء بالعهد سبباً لزيادة الرزق بأطمئنان وثقة الناس بمن يغي بعهوده لأن النفوس تسكن إليه.
وقد جاءت الواجبات لتكون وسيلة لتنمية ملكة الوفاء بالعهد عند المسلمين، وتتجلى في باب العبادات والمعاملات وهو من مصاديق قوله تعالى[وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً] ( ).
ومن إعجاز القرآن أمور:
الأول: مصاحبة البعث على الصالحات للغة الإنذار، فيأتي التوبيخ والتبكيت على الفعل القبيح ، وتأتي معه الدعوة إلى الهدى ، وبيان مسالك الإيمان، وهو من عمومات رحمة الله عز وجل بالناس في الحياة الدنيا وإذا كان قوله تعالى[بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ] ( ) من رحمة الله بالناس جميعاً لما فيها من اللطف الإلهي وتقريب الناس إلى منازل الطاعة ، لبيان أن الكتاب السماوي المنزل رحمة عامة ، وليس رحمة خاصة بالمسلمين على نحو الحصر والتعيين.
لما فيه من البيان والتفصيل ودعوة الناس للدخول في مسالك الإيمان، والفوز بالوفاء بالعهد للملازمة بين الإسلام والوفاء بالعهد قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ).
الثاني: البيان التفصيلي للحسن الذاتي والغيري للفعل العبادي ومصداق الطاعة، والقبح الذاتي والغيري للمعصية والجحود.
الثالث: بيان المنافع الدنيوية للعمل الصالح، والأضرار والمتعقبة للفعل السيء ، قال تعالى [حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] ( ).
الرابع: مجيء القرآن بالبشارة على فعل الصالحات، والإخبار عن الثواب العظــيم الذي ينتظر المؤمنين الذين يعملون الصالحات، والعذاب الأليم الذي يحــل بالكفار والذين ينقضون العهود يوم القيامة.
وفاز المؤمنون بالإتعـــاظ من مدرسة البشارة والإنذار، لتكون آية من بديع صنع الله عز وجل وهو من عمومات قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، بلحاظ أن أتباع سيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتعاهدون سنن الخلافة، ويحرصون على الوفاء بالعهود.
ومن مصاديق هذا الوفاء أداء الفرائض العبادية والأخلاق الحميدة وحسن العشرة ، والتقيد بالآداب العامة والقوانين .
قانون خلق الإنسان نعمة
لقد كان خلق آدم آية عظمى لا يقدر عليها إلا الله ، وتتجلى فيه ضروب من مصاديق بديع الصنع ، وإنبهار الملائكة بخلقه ، وصيرورته في [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فبينما ينقطع الملائكة إلى التسبيح والتهليل في السماء ، تلقوا الإخبار من عند الله بأنه سيخلق آدم ويجعله خليفة في الأرض .
وهل يحتمل أن الملائكة قد فهموا بقاء آدم في الجنة مع توليه الخلافة في الأرض ، أو أنه يهبط إليها لشؤون الخلافة ثم يعود إلى السماء وصحبة الملائكة ، الجواب لا ، إذ أن القرآن ينفي هذا الإحتمال لقول الملائكة لله عز وجل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
وللتبادر بارادة معنى الإقامة في الموضع والمكان الذي يكون فيه الإنسان خليفة ، ويكون الخليفة على نفسه وغيره ، فهل كانت الملائكة تقصد من سفك الدماء المعنى الأعم من قتل الإنسان لأخيه الإنسان ، ومن ذبح الحيوانات لأكلها ، الجواب لا .
إذ أن القدر المتيقن من قولهم [وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) أي قتل الإنسان لأخيه الإنسان بغير حق , إذ أباح الله الطيبات للناس .
وهل أفزعت الملائكة صورة الحروب التي تقع على الأرض ويذهب ضحية الواحد منها ملايين البشر ، وحوادث الإرهاب أم أن الله عز وجل رأف بهم وبالناس ولم يطلعهم على صور الحروب الطاحنة وأسبابها البسيطة التي لا تعادل دم فرد واحد .
المختار هو الثاني ، إنما أطلعهم على إجتماع العقل والشهوة عند الإنسان ، وأنه يختلف عن الملائكة الذين هم عقل مجرد لا تخالطه شهوة ، وبعض سلوك البشر ومنه القتل على نحو الإجمال .
ولو دار الأمر بين أمرين :
الأول : استقراء الملائكة لقيام الإنسان بالفساد وسفك الدماء .
الثاني : إطلاع الملائكة على بعض أحوال الناس من الفساد والقتل .
فالمختار هو الثاني إذ لا يخاطب الملائكة الله عز وجل بالقطع بقيام الإنسان بالفساد والقتل نتيجة استقراء واستنتاج .
والمختار أن نفخ الله من روحه في آدم جاء بعد إخبار الله للملائكة بجعل خليفة في الأرض لقوله تعالى [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ] ( ) وهذا النفخ بداية دبيب الحياة في الإنسان، وحال التفكر والتدبر عنده لبيان بديع صنع الله عز وجل ، وحسن المخلوق .
وفي سفر التكوين:
2: 7 و جبل الرب الاله ادم ترابا من الارض و نفخ في انفه نسمة حياة فصار ادم نفسا حية .
2: 8 و غرس الرب الاله جنة في عدن شرقا و وضع هناك ادم الذي جبله
2: 9 و انبت الرب الاله من الارض كل شجرة شهية للنظر و جيدة للاكل و شجرة الحياة في وسط الجنة و شجرة معرفة الخير و الشر
2: 10 و كان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة و من هناك ينقسم فيصير اربعة رؤوس
2: 11 اسم الواحد فيشون و هو المحيط بجميع ارض الحويلة حيث الذهب
2: 12 و ذهب تلك الارض جيد هناك المقل و حجر الجزع
2: 13 و اسم النهر الثاني جيحون و هو المحيط بجميع ارض كوش
2: 14 و اسم النهر الثالث حداقل و هو الجاري شرقي اشور و النهر الرابع الفرات
2: 15 و اخذ الرب الاله ادم و وضعه في جنة عدن ليعملها و يحفظها
2: 16 و اوصى الرب الاله ادم قائلا من جميع شجر الجنة تاكل اكلا
2: 17 و اما شجرة معرفة الخير و الشر فلا تاكل منها لانك يوم تاكل منها موتا تموت) ( ).
وأختلف في موضع جنات عدن وهي ( حديقة الرب ) في التوراة التي ورد في الكتاب المقدس أنها مكان خلق آدم وحواء ، ومنهم من رجح كونها في جنوب العراق ، لما يتصف به من الخصب ، ولوصف عدن بأنها شرق فلسطين ، وفيه دجلة والفرات ، ونهر كوثر القريب منها ، وهي عيلام والتي كانت تسمى باسم كاشو ، وكان سهل بابل يسمة (عدنو) .
وموضع الحويلة المذكور أعلاه في سفر التكوين (ارض الحويلة حيث الذهب) هو جزء من الجزيرة العربية .
والمراد من الذهب المذكور أعلاه على وجوه :
الأول : إرادة غزارة النفط وملايين الأطنان منه( ) التي تستخرج من أرض الجزيرة كل يوم .
الثاني : المقصود البيت الحرام ، فهو ذهبٌ لأهل الحرم ، ومن حوله ، ففي أيام كل يفد الناس من كل حدب ومصر لحج البيت الحرام أو للإعتمار.
وعندما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبياً سألته قريش أي يجعل لهم جبل الصفا ذهباً كي يصدقوا برسالته .
فأخبر الله عز وجل بأن ذات جبل الصفا من شعائر الله فيجب ألا يزول، قال تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ] ( ) ليجعل الله عز وجل موسم الحج ذهباً كل عام في آية أعجازية ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فيأتي وفد الحاج والمعتمرون لينفقوا الأموال الكثيرة في الحج للإقامة والنقل والطعام ، ويمكن القول أن موسم الحج من أكبر أسواق التبضع وشراء التجزئة في العالم ، كما أن أسواق مكة معروفة قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنها سوق عكاظ ومجنة وذي المجاز وغيرها ، والتي صارت محلاً لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقبائل إلى الإيمان .
الثالث : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، فهذه البعثة ذهب يتلألأ ويشع على قلوب الناس ، ويبعث فيها السكينة والغبطة .
الرابع : إخراج الذهب والمعادن من أرض الجزيرة والعراق في الأزمنة اللاحقة .
ويملي التدبر في نعمة خلق الإنسان وهيئته وما سخّر الله له لزوم نشر لواء المودة والرأفة واللطف بين الناس ، والتنزه عن الإرهاب ، والإمتناع عن القتل العشوائي ، وعن إخافة الناس في منتدياتهم وبيوتهم ، وحلهم وترحالهم .
خصائص انفرد بها آدم عليه السلام
لقد كان خلق آدم آية من بديع صنع الله إذ أنها لم تنحصر بخلقه وحده، فقد خلق الله عز وجل السموات والأرض والملائكة وغيرها ، ولكن آدم خلقه الله ليكون [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) .
ويتصف آدم عليه السلام بخصائص وصفات كريمة وهي :
الأولى : خلق الله عز وجل آدم بيده (عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض .
جاء منهم الأحمر ، والأبيض ، والأسود ، وبين ذلك والسهل ، والحزن ، والخبيث ، والطيب) ( ).
الثانية : تكّون آدم من التراب ، وليس من بويضة ملقحة من حيمن (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن اللّه خلق آدم من تراب جعله طيناً ثم تركه حتى كان حمأً مسنوناً خلقه وصوّره ثم تركه حتى إذا كان صلصالاً كالفخار (فكان ابليس يمرّ به فيقول)خلقت لأمر عظيم ثم نفخ اللّه فيه روحه{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ}( ) .) ( ).
فان قلت قد ورد قوله تعالى [إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) والجواب جاء التشبيه لبيان الإعجاز إذ خلق الله عز وجل عيسى من غير أب ، والضمير الهاء في خلقه يعود إلى آدم .
وتقدير الآية : أن مثل خلق عيسى من غير أب مثل آدم الذي خلقه الله من تراب ، ثم قال له الله [كُنْ فَيَكُونُ] فخلق آدم أعظم من خلق عيسى الذي تكون في رحم امرأة وهي مريم عليها السلام ، وقد خاطب الله عز وجل الناس بقوله [وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ] ( ) للتذكير ببداية خلق الإنسان .
الثالثة : شهود الملائكة لخلق آدم ، وأمر الله عز وجل لبعضهم بأن يأتي بالطينة التي يخلق منها آدم ، (وأخرج ابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات وابن عساكر عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا : بعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض : أعوذ بالله منك أن تنقص مني ، فرجع ولم يأخذ شيئاً وقال : يا رب إنها أعاذت بك فأعذتها .
فبعث الله ميكائيل كذلك .
فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال : وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره ، فأخذ من وجه الأرض وخلط ولم يأخذ من مكان واحد ، وأخذ من تربة حمراء ، وبيضاء ، وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين فصعد به ، فبل التراب حتى صار طيناً { لازباً }( ) واللازب : هو الذي يلزق بعضه ببعض ثم قال للملائكة : إني خالق بشراً من طين ، فخلقه الله بيده لئلا يتكبر عليه إبليس ، فخلقه بشراً سوياً ، فكان جسداً من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة ، فمرت به الملائكة ، ففزعوا منه لما رأوه ، وكان أشدهم منه فزعاً إبليس ، فكان يمر به فيضربه ، فيصوّت الجسد كما يصوّت الفخار يكون له صلصلة فيقول : لأمر ما خلقت!
ويدخل من فيه ويخرج من دبره ويقول للملائكة : لا ترهبوا منه فإن ربكم صمد وهذا أجوف ، لئن سلطت عليه لأهلكنه .
فلما بلغ الحين الذي يريد الله أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة : إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له ، فلما نفخ فيه الروح فدخل في رأسه عطس فقالت الملائكة : الحمد لله فقال : الحمد لله فقال الله له : يرحمك ربك .
فلما دخلت الروح في عنقه نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخلت إلى جوفه اشتهى الطعام ، فوثب قبل أن تبلغ إلى رجليه عجلاً إلى ثمار الجنة .
وذلك قوله تعالى { خلق الإِنسان من عجل }( ) .) ( ).
الرابعة : خلق آدم في الجنة .
الخامسة : سجود الملائكة لآدم تكرمة من عند الله ، وأقراراًَ ببديع صنعه تعالى ، ولم يكن هذا السجود اختيارياً ، إنما كان بأمر من عند الله عز وجل، قال تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا] ( ).
السادسة : بقاء آدم في الجنة برهة من الوقت ، وأكله من ثمارها .
السابعة : خلق حواء زوجة لآدم في الجنة .
الثامنة : تفضل الله عز وجل بتكليم آدم قُبلاً من غير واسطة أحد من الملائكة أو غيرهم .
التاسعة : تعليم الله عز وجل آدم الأسماء كلها .
العاشرة : قيام آدم بتعليم الملائكة الأسماء .
ويحتمل تعليم حواء جهات :
الأولى : تعليم الله عز وجل حواء الأسماء .
الثانية : تعلم حواء الأسماء من تعليم آدم للملائكة .
الثالثة : قيام آدم بتعليم حواء الأسماء .
ويحتمل هذا التعليم وجوهاً :
أولاً : وقوع هذا التعليم دفعة .
ثانياً : حصول تعليم آدم لحواء الأسماء على دفعات .
ثالثاً : تعليم آدم حواء شطراً من الأسماء دون الجميع لإرادة مقدار الحاجة .
الرابعة : صيرورة حواء تعلم بالأسماء من حين خلقها .
والمختار هو ثانياً من الجهة الثالثة أعلاه .
وإلى جانب نفخ الله عز وجل من روحه في آدم وسجود الملائكة له وعيشه في الجنة ، يتصف آدم عليه السلام بأنه الأول من جهات :
الأولى : أول إنسان يخلقه الله عز وجل .
الثانية : أول من هبط إلى الأرض هو وحواء .
الثالثة : أول من استغفر الله .
الرابعة : أول نبي في الأرض .
الخامسة : أول رسول في الأرض وقال أبو ذر (يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟
قال : مائة وأربع كتب،
منها على آدم عشر صحف،
وعلى شيث خمسين صحيفة،
وعلى أخنوح،وهو إدريس ثلاثين صحيفة، وهو أوّل من خطّ بالقلم،
وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان) ( ).
السادسة : أول من عمّر الأرض وأحياها بالزراعة .
السابعة : أول من أنزل عليه الوحي.
الثامنة : أول من ذكر وعبد الله في الأرض من الناس .
التاسعة : أول من ولد له في الأرض ، وقد عاش مع الملائكة برهة من الوقت ، وهم يتزوجون ، ولا يولد لهم .
العاشرة : أول من لجأ إلى التوبة ، قال تعالى [فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] ( ).
الحادية عشرة : أول من رآى أولاده وأحفاده .
الثانية عشرة : أول من صلى وصام في الأرض .
الثالثة عشرة : أول من قتل ولده في حياته .
الرابعة عشرة : أول من بشّر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وسيكون شأن لآدم يوم القيامة .
وهل إكرام الله عز وجل لآدم ,وفضله عليه بخصائص على نحو القضية الشخصية أم أنه إكرام له ولذريته إلى يوم القيامة ، الجواب هو الثاني ، وفيه دعوة للناس بالإنزجار عن العنف والإرهاب والقتل الذي تشمئز منه النفوس .
ويمكن القول أن الحياة الدنيا دار إكرام الناس جميعاً ، وهذا الإكرام من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ولابد من مقابلة هذا الإكرام بالشكر لله عز وجل بالإنقطاع إلى العبادة والذكر ، والتحلي بخصال التقوى .
وأبى الله عز وجل أن يحصر الإكرام بآدم ، إنما أخبر تعالى على إكرام الناس بقوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ) .
لبيان فوز كل إنسان بحصة من إكرام الله عز وجل له ، ومن معاني رحمة الله عز وجل للناس في الحياة الدنيا .
الدنيا دار العهود
يمكن تسمية الحياة الدنيا (دار العهود والوفاء) لأن الله عز وجل أخذ فيها على الناس العهود والمواثيق ، ولا بد من تحقيق مصداق في كل زمان ومكان لما أخذه الله عز وجل على الناس من الميثاق .
وأمرهم بالوفاء بها وهذا الأمر متجدد ويتجلى بتلاوة المسلمين لآيات القرآن، لتكون التلاوة على وجوه:
الأول: قانون التلاوة من خصال الإيمان وفوز المسلمين بتلاوة التنزيل وإدراكهم لوجوب التقيد بالمواثيق الإلهية التي جاءت في القرآن (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أعربوا القرآن واتبعوا غرائبه ، وغرائبه فرائضه وحدوده .
فإن القرآن نزل على خمسة أوجه : حلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه، وأمثال .
فاعملوا بالحلال ، واجتنبوا الحرام ، واتبعوا المحكم ، وآمنوا بالمتشابه ، واعتبروا بالأمثال .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إن القرآن ذو شجون ، وفنون ، وظهور ، وبطون . لا تنقضي عجائبه ، ولا تبلغ غايته .
فمن أوغل فيه برفق نجا ، ومن أوغل فيه بعنف غوى . أخبار وأمثال وحرام وحلال ، وناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ، وظهر وبطن . فظهره التلاوة ، وبطنه التأويل . فجالسوا به العلماء ، وجانبوا به السفهاء ، وإياكم وزلة العالم) ( ).
الثاني: مناسبة كريمة لوفاء المسلمين أنفسهم بتلك العهود والمواثيق.
الثالث : جاء القرآن بقانون وجوب الإيمان بالله واليوم الآخر ، وبيان الأجر والثواب على الوفاء بالعهود ، وعلى حسن السمت ، قال تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا] ( ) وتدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على حرمة الإرهاب والعنف والتفجيرات .
الرابع : بيان ضرورة الوفاء بالعهود، وعدم التفريط بها، وجاءت آيات القرآن لتتضمن أموراً بلحاظ موضوع العهد وهي:
الأول: الثناء على المسلمين لوفائهم بعهد الله ، ومن الآيات في الفطرة الإنسانية أن الذي يفي بالعهد يميل إليه الناس ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
الثاني: بيان حقيقة وهي أن التصديق بنبوة محمد من عهد الله، وقد إنفرد المسلمون بالوفاء به، والتقيد بآدابه وسننه.
الثالث: من أراد الوفاء بالعهود فعليه التحلي بالإيمان ، فمن صفات المؤمنين أنهم يطيعون الله ويأمرون بالمعروف ويدعون إلى الخير.
الرابع: دعوة الناس للإنصات لأهل التقوى والخشية من الله، فمن وظائفهم العبادية الأمر بالمعروف، ومنه الوفاء بالعهد، لأنه معروف وخير محض .
وعن (أسامة بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولُ : يُجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق به أقتابه ، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه ، فيطيف به أهل النار فيقولون : يا فلان ما لك ، ما أصابك ، ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر . . . ؟! فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه .
وأخرج عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : اطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فقالوا : بم دخلتم النار ، وإنما دخلنا( ) بتعليمكم؟! قالوا : إنا كنا نأمركم ولا نفعل) ( ).
وهل المواطنة وشروطها في هذا الزمان من العهود أم أن القدر المتيقن من العهود هي عهد العبد مع الله عز وجل ، والعهود بين الناس ، الجواب هو الأول ، فان التقيد بالقوانين الوضعية ذات النفع والمصلحة العامة من تعاهد العهود لما في هذا التقيد من دفع للمفسدة ، ومنع من الجريمة .
منافع الأمر بالمعروف
تتعدد أطراف الأمر والنهي في المقام من وجوه :
الأول : الذي يأمر بالمعروف .
الثاني : الذي يتلقى الأمر بالمعروف .
الثالث : موضوع الأمر بالمعروف ، ومنه أداء الفرائض العبادية ، والخلق الحميد ، وحسن الجوار .
الرابع : الذي يستمع ويعلم بالأمر بالمعروف وبخصوص موضوع معين .
الخامس : الذي ينهى عن المنكر .
السادس : الفعل المنكر المنهي عنه .
السابع : الذي يتلقى النهي عن المنكر .
وهل يختص هذا النهي بمن يفعل المنكر فينهى عنه ، كما لو كان الإنسان يسرق مال الآخرين فينهى عن السرقة بالزجر ، وبيان عفوية السرقة في الدنيا والآخرة ، أم أن النهي عام ، الجواب هو الثاني .
ومن النهي عن المنكر النهي عن نقض المواثيق والعهود، وجذب الناس لمنازل التوبة والإنابة.
وتتجلى منافع قيام المسلمين بالأمر بالمعروف بدخول الناس في الإسلام إبتغاء وجه الله ، والعمل بمضامين العهود ، قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( )، وفيه شاهد على أن أمر المسلمين بالمعروف يعطي ثماره، وتكون له نتائج وآثار حميدة بين الناس تتجلى بأمور ذات حسن منها :
الأول: الصلاح العام .
الثاني: كشف الحقائق ، وبيان المعجزات النبوية وآيات الله ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الثالث: بيان البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت في الكتب السماوية السابقة.
الرابع: وهن الباطل وخيبة أهله ، قال تعالى [وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ]( ).
فحينما أمر الله عز وجل المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه تعالى ضمن لهم ترتب الأثر والنفع على أمرهم ونهيهم، ومنه تجدد التمسك بالعهود وزيادة عدد الذين يتقيدون بها، وحصول النقص والإرباك في صفوف الذين ينقضونها ، وفيه نشر لألوية السلام في الأرض ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] ( ).
ومن خصائص هذا التغيير نحو الصلاح أمور:
الأول: إنه أمر مبارك ومتجدد , ومن أسرار الحياة الدنيا والشواهد على إستدامة أسباب الهداية وسبل الرشاد.
الثاني: إنه من اللطف الإلهي في تقريب الناس إلى منازل الطاعة.
الثالث: فيه بعث للفزع في نفوس الذين يصرون على المعاصي، ومحاربة الإسلام وما يدعو إليه من الوفاء بالعهود والأيمان .
والأمر بالمعروف حسن بالذات ، وسبب لنشر شآبيب الرحمة بين الناس .
وفي قوله تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا] ( ) ورد (عن ابن عباس في قوله {وقولوا للناس حسناً}( ) قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أمرهم أن يأمروا بلا إله إلا الله من لم يقلها .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {وقولوا للناس حسناً} قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)( ).
والمعروف كل ما هو حسن من الأقوال والأفعال ، وفق أحكام الشريعة والتي من خصائصها عدم معارضتها للمدركات العقلية ، وتطمئن النفس إلى المعروف ويدل قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
لبيان فضل الله في إعانة المؤمنين للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكـــر ، وعن تلقيه بالقبول والرضا وفي كل منهما الأجر والثواب .
لقد أراد الله عز وجل لأهل الأرض الصلاح بالمناجاة بينهم بالمعروف ، والنفرة من المنكر .
وكل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مصاديق الشكر لله عز وجل وسبب للبركة والخير والصلاح العام والخاص ، قال تعالى [وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ]( ).
و(عن درة بنت أبي لهب قالت : قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ، فقال : يا رسول الله أي الناس خير ، فقال : خير الناس أقرؤهم وأتقاهم لله عز وجل وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم)( ).
وهل من صلة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين استدامة الحياة في الأرض ، الجواب نعم ، وهو من اسرار مصاحبتهما لوجود الإنسان في الأرض ، لما فيهما من البحث على أداء الفرائض العبادية ، وإجتناب إرتكاب المعاصي .
و(عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)( ).
ومعنى القائم على حدود الله أي المؤمن الذي يتعاهد فعل الصالحات ويتقيد بأحكام الشريعة أما (الواقع فيها) أي المرتكب للمعاصي .
والاستهام : أخد السهم والنصيب أي أن ركاب السفينة كانوا فريقين وكانت السفينة من طابقين ، والطابق الأعلى هو الأحسن فاقترعوا بينهم ، فخرج سهم فريق في الطابق الأعلى ، وفريق في الطابق الأسفل وفيه جواز القرعة للفصل والأمر المشكل، ولزوم القبول بها .
وبعد أن سارت السفينة في البحر صار الذين في الطابق الأسفل إذا احتاجوا ماء البحر للشرب أو الطبخ أو الغسل صعدوا إلى أعلى السفينة ومروا بالفريق الآخر ليأخذوا من الماء لأن الطابق الأسفل مغلق لا يتصل بماء البحر ، فقالوا إننا نؤدي الذين فوقنا بصعودنا نحوهم ، ونبذل الجهد بالصعود والنزول فلو تثقب ثقباً في الطابق الأسفل لنستقي الماء ، ونأخذ الماء من البحر فاذا تركهم أهل الطابق الأعلى وشأنهم غرقوا جميعاً ، إنما وظيفة الذين في الطابق الأعلى منعهم ، وتأكيد رضاهم بصعودهم إليهم لأخذ الماء من الماء متى شاءوا .
فلئن يتحمل أهل الطابق الأعلى الأذى من صعودهم خير من الهلاك ، ولأهل الطابق الأعلى أن يعرضوا عليهم التعاون معهم لجلب الماء إليهم إذا اضطروا إليه لنجاة أهل السفينة جميعاً ، ليبين الحديث الحاجة للتكافل الإجتماعي , الذي يكون الإرهاب ضدا له .
ويبذل القائمون بالمعروف والناهون عن المنكر الوسع ويصبرون ، ويتحملون الأذى في اصلاح المجتمعات .
وقد ينفقون المال في سبل الهداية والصلاح ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
بتقريب وهو أن ما ينفقه المؤمنون في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجبين هو من الإنفاق في سبيل الله وفيه الأجر والثواب ومضاعفة الرزق خاصة وأن الصلاح سبب للرزق الكريم لكل من الآمر بالمعروف والناهي المنكر ، والذين يتلقونه ، فمن فضل الله عز وجل على الناس إشاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وفي حديث السفينة أعلاه دلالة على أن فوز أحدهم بالنصيب الأوفر والسهم الأعلى لا يعني الإعراض عن حاجة غيره ، وجعله يلاقي الأذى وفيه دعوة للإنسان أن يتحمل أذى جاره لإجتناب ما هو الأشد من الأذى العام .
ويبين الحديث أن الذين يعظمون شعائر الله يجاهدون بأنفسهم وأموالهم، ويؤثرون على أنفسهم من أجل استدامة الأمن والصلاح ، وفي وصية لقمان لابنه ورد في التنزيل [يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ]( ).
ومع قلة كلمات الآية الأخيرة أعلاه فقد وردت فيها كلمات لم ترد في غيرها من آيات القرآن وهي :
(اقصد) (مشيك) (اغضض) (انكر) .
وهل يدل هذا الإنفراد على قلة وعظ ووصية الآباء لابنائهم باقامة الفرائض والأمر بالمعروف .
الجواب لا ، فمن الفطرة وصية الآباء لأبنائهم إنما تبين الآية وجوب نصح وتأديب وإرشاد الآباء لأبنائهم في عمل الخيرات ، واجتناب الظلم والأفعال القبيحة ، والإضرار بالناس وممتلكاتهم .
قانون الهداية إلى التقوى لطف
لقد أنزل الله القرآن لتعاهد كلمة التوحيد ، وبيان الأحكام الشرعية ، واصلاح النفوس والمجتمعات وتوثيق قصص الأنبياء بما يكون لطفاً بالناس لهدايتهم إلى تقوى الله، وإدراك وجوبها، وحضورها في عالم الأقوال والأفعال، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
ومن صفات الحياة الدنيا قانون الإرتقاء بالتقوى والمحافظة على هذه المنزلة بفضل الله ، وندب الناس إليها، لذا قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( )، وفيه حث للمسلمين على تقوى الله وطاعته والوفاء بالعهود والمواثيق .
وأخرج أحمد عن ابن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحب أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه( ).
وتفيد الألف واللام في (الناس) في الحديث أعلاه الجنس والإستغراق أي كل الناس من غير موضوعية للملة أو المذهب أو الشعب مما يدل على حرمة الإرهاب ، لأن الإنسان يكره أن يتعرض إلى الإرهاب ، أو أن يفاجئ بالتفجيرات العشوائية ويصاب هو وعياله ، فكذا يجب على الذي يؤمن بالله ويالوقوف بين يديه للحساب أن يمتنع عن الإضرار بالغير لأنه سيحاسَب عليه ، ومن أشد ضروب الإضرار العام الإرهاب وتبعاته .
وليكون المسلمون ورثة الأنبياء في مسالك التقوى، فقد إنقطعت النبوة بإنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى , ولكن آياتها وسننها لم ولن تغادر الأرض , لأن الله عز وجل جعل المسلمين ورثة الأنبياء في التقوى، من وجوه :
الأول : إستحضار قصص الأنبياء والإتعاظ منها، قال تعالى[إنَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( )، وهذا الإستحضار مدرسة للمسلمين والمسلمات، وموعظة وحجة على أهل الكتاب والناس جميعاً لأنه من مصاديق التقوى والخشية من الله بلحاظ أن أفعال الأنبياء بوحي وتوفيق من الله عز وجل ، وفي احتجاج الأنبياء على قومهم ورد في التنزيل [قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن يرد فيه هذا الإحتجاج على وجوه :
الأول : احتجاج الرسول على قومه ، كما في قوله تعالى بخصوص نوح [لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) .
وفي الرسول صالح ورد قوله تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، ومنها الإحتجاج المتكرر لإبراهيم عليه على قومه كما جاءت الآية أعلاه من سورة إبراهيم لبيان احتجاج الرسل جميعاً لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
الثاني : احتجاج الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قومه .
الثالث : احتجاج الرسل مجتمعين على قومهم وإن تباينت أفراد الزمان الطولية بينهم ، كما في سورة إبراهيم أعلاه ولم يختص الإحتجاج على الذين كفروا بالأنبياء والرسل بل جاء القرآن باحتجاج الأولياء الصالحين كما في قوله تعالى [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ]( ) .
وجاء ذات اللفظ بخصوص الذي سارع لإخبار موسى بأن وجهاء آل فرعون يريدون قتله وأن عليه الهرب منهم بقوله تعالى [وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ]( )، وهذا الرجل هو مؤمن آل فرعون ، وسمته الآية رجلاً لأنه اختار سبيل الهدى ، وجاء بطريق يخالف آل فرعون ليصل الى موسى قبل الطلب ولبيان أن الهجرة منهاج الرسل ، وأن الله عز وجل أكرم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأن نزل جبرئيل عليه السلام ليأمره بالهجرة ومبيت الإمام علي عليه السلام في فراشه ، ولم يلجأ الأنبياء الى القتال والدفاع من أجل البقاء في ذات المصر والموضع ، إنما كانوا يختارون الهجرة فيفتح الله عز وجل لهم الآفاق ، ويجعل أمة من الناس تؤمن برسالتهم ، وفي التنزيل [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ]( ).
الثاني : تلاوة المسلمين لآيات القرآن، والتدبر في مضامينها، ومنها جهاد الأنبياء، وتحملهم الأذى في دعوة الناس للإسلام، وقد جاء في التنزيل ذم بعض الأمم السابقة [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ] ( ).
فتظهر الآية أعلاه قبح نقض الميثاق وصيرورته سبباً للتعدي على مقامات النبوة والإضرار بأهل الإيمان ، لذا جاء القرآن بالحث على الوفاء بالعهود لأنه مطلوب بذاته، وهو واقية من التعدي والظلم للنفس والغير.
الثالث: حسن سمت المسلمين ، ومحاكاتهم للأنبياء في أفعالهم وإخلاصهم العبادة لله عز وجل، وإظهارهم أسمى معاني التقوى ووفاؤهم بالعهود والمواثيق العامة والخاصة .
قانون حديث عرض الأمم يوم القيامة
لقد أكرم الله عز وجل الأنبياء ورزقهم الوحي والتنزيل وجعلهم وسائط بينه وبين الناس ، وقد اجتهدوا في تبليغ الرسالات وصبروا على الأذى ، وهم شهود على قومهم يوم القيامة ، لبيان مسألة وهي لزوم حرص المؤمن على طاعة الله ورسوله بسنن التقوى والصلاح ، ليكون شاهداً وشفيعاً له يوم القيامة .
(عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يدعى نوح يوم القيامة فيقال له : هل بلغت؟
فيقول : نعم .
فيدعو قومه فيقال لهم : هل بلغكم؟
فيقولون : ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد .
فيقال لنوح : من يشهد لك؟
فيقول : محمد وأمته ، فذلك قوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً }( ) قال : والوسط العدل ، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ وأشهد عليكم) ( ).
ومن خصائص الشاهد العدالة ، وفي الحديث تنزيه للمسلمين وفوزهم بمرتبة الشهادة على الأمم في الآخرة ، مما يدل على تصديقهم بالتنزيل والنبوة ، والعمل بأحكام الشريعة وإجتناب الظلم والغدر والخيانة .
وورد حديث عرض الأمم عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عُرضَتْ عَلَيَّ الأمَمُ ، فَرَأيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ( ) والنَّبِيَّ ومَعَهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ والنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أحَدٌ ، إذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، فَظَنَنْتُ أنَّهُمْ أُمَّتِي.
فَقِيلَ لِي : هَذَا مُوسَى وقوْمُهُ، وَلَكِنِ انْظُرْ إلَى الأفقِ. فَنَظَرتُ، فَإذا سَوَادٌ عَظِيمٌ ، فَقِيلَ لِي : انْظُرْ إلَى الأفُقِ الآخَرِ، فَإذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ.
فَقِيلَ لِي : هَذِهِ أُمَّتُكَ ومعَهُم سَبْعُونَ ألْفًا يَدْخُلُونَ الجنة بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلا عَذَابٍ .
ثم نهَضَ فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلِدُوا في الإسلام فلم يُشْرِكوا بالله شيئا، وذكروا أشياء .
فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : مَا الَّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ .
فأخبروه ، فقال : هُمُ الَّذِينَ لا يَرْقُونَ وَلا يَسْتَرقُونَ وَلا يَتَطيرونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، فقام عكاشة بن مِحصن( ) فقال: ادع الله أن يجعلني منهم قال : أنْتَ مِنْهُمْ .
ثم قام رجل آخر فقال: أدع الله أن يجعلني منهم.
قال : سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ( ).
ويدل الحديث على بيان حال الأنبياء وعظيم منزلتهم في الآخرة، والتباين الكبير بينهم من جهة الأتباع قلة وكثرة، وإتصاف أتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم المسلمون بالكثرة المطلقة، وتعدد الآفاق والنواحي التي يكونون فيها.
ومن خصائص أهل التقوى والرشاد في الآخرة الأمن والطمأنينة والرضا قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، وهو من الشواهد على إستدامة وبقاء الإسلام إلى يوم القيامة وإتصاف المسلمين بخصوصية وهي دخول أمة منهم الجنة بغير حساب ، ويحتمل ذكر السبعين ألفاً وجوهاً :
الأول : إرادة ذات العدد.
الثاني : ورد ذكر السبعين ألفاً من باب بيان الكثرة , والجم الغفير لأن العرب كانت تستعمل السبعة ومضاعفاتها لإرادة الكثرة.
الثالث : إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، ويحتمل وجود أفواج كثيرة من المؤمنين يدخلون الجنة بغير حساب أيضاً، وورد ذكر هؤلاء من باب المثال والبيان ولكن ذكر السبعين ألفاً ورد على لسان الملك الذي أخبر النبي وليس هو مما رآه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والصحيح هو الثاني ويكون الثالث في طوله والله هو الرؤوف الرحيم ، ويدل عليه البيان الذي ذكره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صفتهم وأنهم الذين لا يرقون.
الرقية: العوذة التي يلجأ إليها المبتلى بآفة أو حمى، وقد اختلفت الأخبار في جوازها والنهي عنها .
ويفيد الجمع بينها الجواز بما كان إلتجاء إلى الله وذكراً له سبحانه، والمراد بالحديث صفة المؤمنين والأولياء الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها وأحسنوا التوكل على الله، وفوضوا أمورهم له سبحانه ، والمراد النهي عن الرقية في غير كتاب الله والدعاء ، والمنع من الإعتقاد بأن الرقية بذاتها وماهيتها هي التي تسبب الشفاء كما كانوا يظنون في الجاهلية .
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك ومن استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) ( ).
ومعنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ولا يسترقون) اي لا يسألون غيرهم أن يرقيهم .
ومن الدلائل في آخر الحديث أمور :
الأول : العناية الفائقة التي أبداها الصحابة لحديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : تلقي الصحابة والمسلمين عموماً الحديث النبوي بالقبول والتصديق ، وهو من الشواهد على بلوغ المسلمين مراتب التقوى.
الثالث: شوق المسلمين لمراتب دخول الجنة بغير حساب.
الرابع: قيام الصحابة بدراسة الحديث وإستعراض الوجوه المحتملة فيه، فبعد أن ذكروا إحتمالين قال ابن عباس(وذكروا أشياء) أي توسعوا في دراسة الحديث وإستنباط المسائل منه، ولم تمض على نطق النبي به دقائق معدودات.
الخامس : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه مرة أخرى للبيان والتعقيب في ذات الحديث ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
ومن الآيات في السنة أن النبي قام بالبيان والتفصيل الذي يبعث المسلمين للسعي لمراتب دخول الجنة بغير حساب , والإستعداد لبذل الوسع للفوز بهذه المرتبة العظيمة , من غير تفريط بالعمل للدنيا , قال تعالى [رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ]( ).
وفيه دلالة على لزوم السعي الحثيث إلى الجنة والتفقه في الدين.
السادس : دلالة الحديث على إختصاص المسلمين بدخول أمة منهم بغير حساب وهم على وجهين :
الأول : لهذه الأمة مواطن خاصة آمنة في المحشر يختصون بها.
الثاني : إنهم مع عموم المسلمين والسواد العظيم الذي ورد في الحديث.
والصحيح هو الثاني للإخبار الملكوتي عن مصاحبتهم للمسلمين (هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً) ويشمل السواد العظيم من المسلمين قوله تعالى[لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
السابع : مبادرة أحد الصحابة بسؤال النبي ليدعو له أن يكون من هؤلاء السبعين ألفاً.
الثامن : تضمن جواب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له آية إعجاز من الوحي، إذ أخبره بأنه منهم ، وبما يفيد القطع بالبشارة، وورد في رواية (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ)( ).
التاسع : رد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الذي سأل ذات مسألة عكاشة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم (قد سبقك بها عكاشة).
قيل إن ذلك الرجل كان منافقاً فأجابه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعاريض من القول وكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يكاد يمنع شيئا يسأله إذا قدر عليه) ( ) .
ولكن قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : سبقك بها عكاشة) لا يعني غلق باب المسألة ولعل فيه إشارة أنه سبقه في المسألة التي تتضمن ذات الجواب والتقدير(وأنت منهم) أيضاً .
وكأن عكاشة سبقه للسؤال وذات النتيجة، وقد إستشهد عكاشة مما يدل على عظيم منزلته خصوصاً وأنه ذكر في بعض الأخبار أن الرجل الآخر هو الصحابي الجليل سعد بن عبادة نقيب الخزرج.
ومن سبل الهداية إلى الفوز بالمرتبة الأخروية [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، حبس النفس عن الإضرار بالآخرين وعن الغدر والغيلة والإرهاب .
لقد جعل الله عز وجل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلاماً وأمناً ، وتبعث رسائل المودة في المشرق والمغرب ، وتنفذ إلى البيوت والمساكن بتلاوة القرآن وبالحجة والبرهان ، والدعوة إلى التوحيد التي تجد الآذان صاغية لها ، ولا تبعث النفرة في النفوس .
قانون العبادة مرآة التقوى
تحتمل النسبة بين التقوى والعبادة وجوهاً :
الأول : التساوي، فالتقوى هي ذاتها العبادة.
الثاني : العموم والخصوص المطلق وهو على شعبتين :
الأولى : العبادة جزء من التقوى، وكل عبادة هي تقوى وليس العكس.
الثانية : التقوى جزء من العبادة .
الثالث: العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء، وأخرى للإفتراق بين العبادة والتقوى.
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه .
فالتقوى ملكة نفسانية تتجلى بالخشية من الله عز وجل في السر والعلانية، وطاعته وطاعة رسوله , قال تعالى[أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ]( )، وهو من عطف العام على الخاص , وقال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) لبيان الحاجة إلى الخشية من الله عز وجل وإجتناب الإعتداء .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يبدأ قتالاً إنما ينادي (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا)
وقال تعالى[وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَاتَّقُوهُ] ( )، مما يدل على التعدد والتباين بين الصلاة والتقوى ، وأن الآية أعلاه من عطف العام على الفرد الأهم منه (وهذا الإصطلاح مستحدث هنا) فالصلاة عمود الدين وتؤدى في أوقات مخصوصة وهي إما واجبة أو مندوبة ، ولكن التقوى تتغشى الأحكام التكليفية الخمس ، من جهات :
الأولى : التقوى والخشية من الله في أداء الواجبات .
الثانية : التقوى في المستحبات والمندوبات .
الثالثة : التقوى في المباحات ، وعدم الإسراف أوالتفريط .
الرابعة : الخشية من الله في المكورهات ، والتقوى في إجتناب الوقوع في الشبهات في إجتناب الوقوع في الشبهات ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
وعن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “إن الحلال بين وإن الحرام بين ، وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه.
وفي السنن عن الحسن بن علي ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك( ).
وجاء القرآن بالإخبار عن حب الله للمتقين بخصوص موضوع الوفاء بالعهد بقيد التقوى وقصد القربة إلى الله عز وجل , قال تعالى [بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ) كما ورد حب الله للمتقين في قوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ) وقوله تعالى [كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ).
ومن معاني حب الله أنه يعطي بالأوفى والأتم، وهو سبحانه الذي تفضل بإصلاح المؤمنين لإتباع سنن التقوى ، وفيه وجوه :
الأول: فعل الصالحات وجني الحسنات.
الثاني: تعاهد منزلة التفضيل بالتقوى.
الثالث: إصلاح الأرض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع: التحلي بسنن التقوى.
الخامس: سيبقى المتقون أسوة حسنة حاضرة بين الناس إلى يوم القيامة، وحجة في لزوم أداء المناسك، قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ]( ).
السادس: الفوز بمرتبة حب الله، نعمة عظمى، وشاهد على صحة إختيار المؤمنين التقوى والخشية من الله عز وجل ، وفيه مسائل:
الأولى: إنه خير محض ونفع عام , و(عن ابن عباس في قوله { وقولوا للناس حسناً }( ) قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أمرهم أن يأمروا بلا إله إلا الله من لم يقلها) ( ).
الثانية: إنه فعل صالح، يتصف بالإستدامة والتجدد.
الثالثة: إنه صلاح، وفيه دعوة إلى الإستقامة والرشاد .
ومن معاني القول الحسن وجوه :
الأول : إنه عصمة من الإرهاب .
الثاني : فيه منع من الظلم والتجرأ على الحقوق .
الثالث : القول الحسن شاهد على حبس النفس عن الغضب والسخط .
الرابع : القول الحسن من الأخلاق الحميدة ، وشاهد عليها .
الخامس : من رشحات التقوى القول الحسن .
السادس : الصبر والرضا بما قسم الله مقدمة وطريق للقول الحسن .
قانون أداء الفرائض من التقوى
تحمّل الأنبياء والمؤمنون في الدعوة إلى الله عز وجل الأذى والبلاء، وبذلوا الوسع من أجل دخول الناس في الإسلام، وكانت النتيجة شيوع الأمن في ربوع الأرض، وعمارة أقطارها من كل لسان بذكر الله، وانقطع الوأد ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ *بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( ).
وما أن يحل شهر رمضان إلا وتجد أمارات التقوى والعبادة ظاهرة في عالم الأقوال والأفعال لقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، من غير حصر ببلاد المسلمين أو أقطار مخصوصة، بل جاء الخطاب للمسلمين كافة أينما كانوا وأقاموا .
مما يدل على إنتفاء التقية بخصوص الصيام في عموم الأرض، وهو الذي تدل عليه الشواهد التأريخية والظاهر.
ويأتي موسم الحج ليكون آية بشرية وعقائدية أخرى، ففيه تعيين لموضع مبارك مخصوص لأداء المناسك والحرص على التحلي بالأخلاق الحميدة معه ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ) .
ويأتي المسلمون من كل أصقاع الأرض لأداء الفريضة ، ليكون هذا المجيء على وجوه :
الأول: إنه ثمرة وأثر متجدد لنزول آيات القرآن , وصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني: فيه تذكير بجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ).
الثالث: إنه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ووراثته للأنبياء , وقد حج آدم والأنبياء عليهم السلام من بعده البيت الحرام, و(عن ابن عباس قال : لما أهبط الله آدم إلى الأرض من الجنة كان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض ، وهو مثل الفلك من رعدته ، فطأطأ الله منه إلى ستين ذراعاً .
فقال : يا رب ما لي لا أسمع أصوات الملائكة ولا حسهم؟
قال : خطيئتك يا آدم ولكن اذهب فابن لي بيتاً فطف به ، واذكرني حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي ، فأقبل آدم يتخطى فطويت له الأرض .
وقبض الله له المفاوز( ) فصارت كل مفازة يمر بها خطوة ، وقبض الله ما كان فيها من مخاض أو بحر ، فجعله له خطوة , ولم يقع قدمه في شيء من الأرض إلا صار عمراناً وبركة ، حتى انتهى إلى مكة فبنى البيت الحرام ، وأن جبريل عليه السلام ضرب بجناحه الأرض ، فأبرز عن أس ثابت على الأرض السابعة ، فقذفت فيه الملائكة الصخر ، ما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلاً .
وأنه بناه من خمسة أجبل : من لبنان ، وطور زيتا ، وطورسينا ، والجودي ، وحراء ، حتى استوى على وجه الأرض .
فكان أول من أسس البيت وصلى فيه وطاف به آدم عليه السلام.
حتى بعث الله الطوفان فكان غضباً ورجساً ، فحيثما انتهى الطوفان ذهب ريح آدم عليه السلام ، ولم يقرب الطوفان أرض السند والهند ، فدرس موضعه الطوفان حتى بعث الله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، فرفعا قواعده وأعلامه ، ثم بنته قريش بعد ذلك وهو بحذاء البيت المعمور ، لو سقط ما سقط إلا عليه)( ).
الرابع: مجيء الناس للحج من كل أنحاء الأرض ، وهو مطلوب بذاته، ووسيلة وآلة لإستدامة الحياة على الأرض بالصلاح والتقوى، والفوز بحب الله عز وجل للمسلمين، ومصداق لإعجاز آيات التقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامس: إنه مصداق عملي لإخبار الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام بمجيء المؤمنين للبيت الحرام، قال تعالى[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( )، وفي الآية أعلاه وجوه:
الأول: لم تقيد الآية مجيء الرجال من جهة المكان والزمان فلم تقل يأتوك رجالاً من بلد أو قرى مخصوصة كما في تسمية مكة (أم القرى)، بل جاءت الآية مطلقة زماناً ومكاناً لتشمل مجيئهم لأداء مناسك العمرة أيضاً، وما فيه تعظيم شعائر الله.
الثاني: بذل الناس الوسع، وتحمل الأذى والعناء وإنفاق المال للوصول إلى البيت الحرام لذا فإن الحج عبادة بدنية ومالية.
الثالث: جــاء القرآن بما هو أعظــم من دعــوة إبراهيــم للنــاس، فالله عز وجل هو الذي أمر بالحج وقيده بالإستطاعة في الزاد والراحلة بقوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
لتكون سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المصداق والدليل والتشريع في سنن الحج، وليتحقق قوله تعالى[يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ).
وهو من الدلائل السنوية المتجددة على إتصاف المسلمين بالتقوى ، وتعاهدهم للعبادة ، وهذا التعاهد برزخ دون الظلم والعدوان ، بلحاظ أن الأمر الإلهي يتوجه إلى إبراهيم والناس، فيتحقق الإمتثال في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويستمر إلى يوم القيامة بأداء المسلمين والمسلمات مناسك الحج بذات الكيفية التي علمها جبرئيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قانون الوديعة من العهود
من معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) التعاون بين الناس لإستقرار المجتمعات والطمأنينة العامة وصيغ الصلح والهدنة وقطع الفتنة ، وإستئصال الغدر والغيلة ونقض العهود والمعاهدات .
ومن منافع الإستقرار والألفة نشاط الأسواق والتجارات والزراعات والصناعات ، فتترشح عنها الوديعة والنسبةبينها وبين العهود هي العموم والخصوص المطلق .
وفيه تذكير بالعهود والمواثيق والعقود ، والعقد نوع مفاعلة بين أطراف .
الأول والثاني : طرفا العقد .
الثالث : موضوع العقد .
الرابع : شرائط العقد .
أما العهد فقد يكون بين طرف واحد كالوصية ، ويقدم إلى شخص أو جماعة بشئ ، وقد يكون العهد مثل العقد بين طرفين ، والمختار أن النسبة بين العقد والعهد العموم والخصوص المطلق ، قال الخليل (العَقْدُ مَثل العَهْدِ، عاقَدْتُهُ عَقْداً مِثلُ عاهَدْتُهُ عَهْداً)( ).
وفي التنزيل في ذم المنافقين [وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً]( ) .
لقد نسب الله عز وجل العهد إلى نفسه للزوم حرص الناس على تعاهده ، والتقيد به ، وفيه إنذار لكفار قريش من الإستحواذ على أموال المسلمين المهاجرين سواء الذين هاجروا إلى الحبشة أو إلى المدينة ، ومن نقض بنود صلح الحديبية والوديعة على وزن فعيلة ، من ودع الشئ إذا سكن واستقر ، وقيل من الودع وهو الترك ، قال تعالى [وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ] ( ).
فمن إعجاز الآية أن خاتمتها جاءت ببيان قبح وضرر خيانة الأمانة بلحاظ أن الأمانة عهد ، وتسليط للغير على المال وتوكيل في الحفظ تبرعاً .
والضرر الذي يأتي للمسلمين في خيانة شطر من الناس لأماناتهم فادح ففي الآية وجوه :
الأول: جاءت الآية لسلامتهم ووقايتهم من هذا الضرر.
الثاني: إذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه تحذره الآية، وهو الذي يعلم من يحفظ الأمانة والعهد فيودع عنده، ومن يخون الأمانة فيتجنبه لعمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
فمن باب الأولوية القطعية أن يأتي التحذير والإنذار للمسلمين والمسلمات جميعاً، والقرآن نزل بلغة إياك أعني وأسمعي يا جارة، وأن المراد بالخطاب هم المسلمون.
وقد تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمحاولات إغتيال من قبل كفار قريش ، وجرت محاولة قتله بالسم في قصة الشاة المسمومة عندما ذهب إلى خيبر بخصوص إستدانة مال لدية.
(وأخرج احمد وابن سعد وأبو نعيم عن ابن عباس أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاة مسمومة فأرسل إليها فقال ما حملك على ما صنعت .
قالت : أردت إن كنت نبيا فإن الله سيطلعك عليه وإن لم تكن نبياً أريح الناس منك) ( ).
الثالث : الآية من الشواهد على أن أحكام القرآن ومضامين آياته باقية إلى يوم القيامة، لتصاحب صيغ الحذر والحيطة في الإيداع فلابد أن يكون عند الثقة الأمين خاصة ، وأن الوديعة عقد جائز لا يضمن الذي أستودع على المال إلا مع التعدي أو التفريط لأنه أمين .
وعلى جواز الوديعة الكتاب والسنة والإجماع ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] ( ) إذ تبين الآية أعلاه الإطلاق في حفظ الأمانة بغض النظر عن ملة وانتماء صاحب المال .
وتدل الآية أعلاه على لزوم تعاهد الأمانة وحفظها إلى أن تعاد إلى أصحابها ، والوديعة على قسمين :
الأول : الوديعة المالكية مثل النقود والذهب يجعلها المالك أمانة ووديعة عند غيره لسبب خاص أو عام .
الثاني : الأمانة الشرعية بالإستئمان ، وفق الحكم الشرعي مثل اللقطة والضالة .
لقد أراد الله عز وجل تنمية ملكة الأمانة عند الناس ، وقد يكون حفظ الأمانة بقصد القربة ، وفيه الأجر والثواب ، وهو شعبة من التقوى ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] ( ).
ومن فضل الله عز وجل في هذا الزمان كثرة الأموال والمعاملات التجارية ، إنشاء المصارف والبنوك ، لان الوثائق والأنظمة والسجلات والأعراف المصرفية والقوانين ضابطة كلية تمنع الذي يفكر بالضرر وخيانة الأمانة في الجملة.
لقد أراد الله عز وجل للمؤمن الحرص على الوديعة وتعاهد الأمانة والمواثيق ، وهل الحرص على الأمن العام , والتعايش السلمي وديعة عند الناس لخلافتهم في الأرض , وخصوص المؤمنين .
الجواب نعم , مما يملي عليهم الاتصاف بالتنزه عن الغدر وقصد الضرر العام , ونشر الرعب والهلع , قال تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ] ( ).
قانون حفظ الوديعة خلق حميد
نزلت آيات القرآن بدعوة الناس للتقيد بالمعروف الذي يتجلى في الآية الكريمة بحفظ الأمانات، وردها إلى أهلها، وما فيه من المنافع والمحاسن منها:
الأول: إشاعة الأخلاق الحميدة عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام (يوشك أن يأتي على الناس زمان عضوض ، يعض الموسر فيه على ما فيه يديه وينسى الفضل ، وقد نهى الله عن ذلك قال الله تعالى { ولا تنسوا الفضل بينكم })( ) .
وهل حفظ الوديعة من الفضل ، الجواب إنها من الواجب وليس من النافلة والفضل وحده ، ولكن من معاني الحديث في المقام أن وجوب أداء الأمانة وعدم التعدي على الوديعة في حال السراء والضراء ، قال تعالى [الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنْ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ] ( ).
الثاني: السلامة من الضغائن والكدورات ، ومساوئ الأخلاق.
الثالث: المسارعة في الخيرات ، وفي الثناء على الأنبياء والحض على الإقتداء بهم واتباع سنتهم ، قال تعالى [إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ] ( ).
إن أداء الأمانة وإعادة الوديعة عند طلبها من الخير الذي يجب المسارعة فيه و(عن الإمام علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء ، قيل : وما هي يا رسول الله؟
قال : إذا كان المغنم دولاً ، والأمانة مغنماً ، والزكاة مغرماً ، وأطاع الرجل زوجته ، وعقَّ أمه ، وبرَّ صديقه ، وجفا أباه ، وارتفعت الأصوات في المساجد ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، وأكرم الرجل مخافة شره وشربت الخمور ، ولبس الحرير ، واتخذوا القيان والمعازف ، ولعن آخر هذه الأمة أولها ، فليرتقبوا عند ذلك ثلاثاً : ريحاً حمراء ، وخسفاً ، ومسخاً) ( ).
ومن رحمة الله عز وجل بالناس تذكيرهم بوجوب رد الأمانة ولو بالواسطة وتحذير المسلمين من الإئتمان عند الذي يعد الأمانة غنيمة ، ولا يحافظ عليها ، وهذا التحذير دعوة لإتساع وإزدياد عدد وأفراد الفريق الذي يحفظها ويردّها , قال تعالى [فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ] ( ).

قانون تضاؤل النفاق معجزة
النفاق لغة من النفق وهو السرب في الأرض الذي تحفره بعض الحيوانات الصغيرة مثل الضبّ واليربوع إذ تجعل له مسلكاً خفياً من الجهة المقابلة للباب فاذا واهمها عدو من جهة خرجت من الفتحة الأخرى .
والنَفَقُ: سربٌ في الأرض له مَخْلَصٌ إلى مكانٍ. والنافِقاءُ: إحدى جِحَرَةِ اليربوع، يكتُمها ويُظهر غيرها، وهو موضعٌ يرقِّقه، فإذا أُتِيَ من قِبَلِ القاصِعاءِ ضربَ النافِقاءَ برأسه فانْتَفَقَ، أي خرج. والجمع النَوافِقُ. والنُفقَةُ أيضاً، مثال الهُمَزَةِ: النافِقاءُ. تقول منه: نَفَّقَ اليربوع تَنْفيقاً، ونافَقَ، أي أخذ في نافِقائه. ومنه اشتقاق المُنافِقِ في الدينِ( ).
والنفاق في الإصطلاح إظهار الإيمان وإخفاء الكفر ، ويظهر في القول والعمل لذا قسّم بعض العلماء النفاق إلى قسمين :
الأول : النفاق العقائدي ، وهو الأكبر ويعني إخفاء الكفر مع إظهار الإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر ، وقد ذمهم الله تعالى في آيات متعددة منها [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
الثاني : النفاق العملي ، وهو النفاق الأصغر الذي يظهر بعالم الأعمال.
وعن عبد لله بن عمرو : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها . إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر( ).
ولا يعني الحديث إرادة المطابقة والحصر بين المنافق وهذه الصفات من جهات :
الأولى : كثرة الصفات المذمومة للمنافق ، وقد أفرد القرآن سورة كاملة باسم سورة المنافقون .
الثانية : هناك آيات أخرى في سور القرآن تتعلق بالمنافقين ، منها ما ذكرت المنافقين بالصفة والاسم مثل [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا]( )، [فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً]( ).
الثالثة : ذكر المنافقين بلحاظ خصالهم المذمومة سواء في العقيدة أو العبادات أو المعاملات ، منها قوله تعالى [ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ) .
وقوله تعالى [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] ( ).
الرابعة : مجئ السنة النبوية بذم وتوبيخ المنافقين والتحذير منهم ، منه حديث عبد الله بن عمرو أعلاه الذي يرفعه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو مشهور ومستفيض عند المسلمين .
الخامسة : إعتراض المنافقين على أوامر ونواهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن فضل الله أن هذا الإعتراض قليل ، لأن الحجة والبرهان وآيات القرآن حاجز دون تكراره .
إذ أن المنافق يظهر الإسلام ، ولكنه ما أن يجد فرصة أو يداهم المسلمين أذى حتى ينفق نفسه من سرب الكفر الذي يقيم عليه ، ويخفيه ، وقد يطلق النفاق في أيام النبوة على فعل المعصية والغفلة والجهالة و(عن حنظلة الأسيدي وكان من كتاّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لقيني أبو بكر الصديق فقال كيف أنت يا حنظلة قال قلت نافق حنظلة يا أبا بكر قال سبحان الله ما تقول قلت نافق حنظلة يا أبا بكر.
قال : ومم ذاك .
قال : نكون عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيذكرنا بالجنة والنار حتى كأنا رأي عين أو كأنا نراهما فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وعافسنا الأزواج والضيعات نسينا كثيرا ففزع أبو بكر وقال إذا نلقى مثل ذلك فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال كيف أنت يا حنظلة أو ما شأنك يا حنظلة .
فقلت نافق حنظلة يا رسول الله قال سبحان الله ما تقول قلت نافق حنظلة يا رسول الله قال سبحان الله ما تقول قلت نافق حنظلة يا رسول الله قال : ومم ذاك .
قلت نكون عندك فتذكرنا بالجنة والنار حتى كأنا رأى عين أو كأنا نراهما فإذا خرجنا من عندك عافسنا( ) الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)( ).
وكان عدد المنافقين في المدينة نحو أربعمائة بين من الرجال والنساء ، بلحاظ أن عدد الذين رجعوا من وسط الطريق إلى معركة أحد ثلاثمائة من المنافقين برئاسة وتحريض عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، وسيأتي قانون آيات ذم النفاق , ثم أخذ بالتناقص , وهذا التناقص معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويحتمل عدد المنافقين بلحاظ أفراد الزمان الطولية وجوهاً :
الأول : ليس من منافقين قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : ابتداء النفاق بعد معركة بدر .
الثالث : إزدياد عدد المنافقين على نحو مطرد .
الرابع : بقاء عدد المنافقين على حاله في أيام النبوة المتعاقبة .
الخامس : ذات النسبة للمنافقين بين عدد المسلمين ، فكلما إزداد عدد المسلمين ، إزداد عدد المنافقين كما لو كان عددهم 7% من عدد المسلمين .
السادس : النقص في عدد المنافقين مع تقادم الأيام وتجلي صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : توالي نزول آيات القرآن وكل آية معجزة عقلية .
الثانية : جريان المعجزات الحسية على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : تجدد النصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معارك الإسلام الدفاعية .
والصحيح هو الوجه السادس أعلاه ، وهو معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وشاهد على صدق نبوته .
وكان المشركون هم الغزاة في معارك الإسلام الأولى وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كانوا في حال دفاع سواء في معركة بدر أو معركة أحد ، أو معركة الخندق أم حنين ، قال تعالى بخصوص حصار المشركين للمدينة في معركة الخندق [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ] ( ).
وقد ذكرت في الجزء العاشر بعد المائتين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ليسوا غزاة ، إنما كانوا يذبون ويدفعون عن كل من :
الأول : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : النبوة .
الثالث : التنزيل .
الرابع : النفوس , بما فيهم عموم أهل المدينة , وكان فيهم المسلم والمنافق والكتابي والكافر .
الخامس : أموال أهل المدينة عامة , وليس عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أموال أو أنعام أو زروع , ولكن كان يدافع عن أموالهم جميعاً)( ).
تجليات منهاجنا في التفسير
من إعجاز القرآن الغيري تعدد مناهج التفسير لأن كنوز القرآن من اللامتناهي ، ولأن سبر أغوار القرآن يستلزم التفسير والإجتهاد في التأويل، والبيان بصيغ وأساليب مناسبة لمدارك الناس على اختلافها وتباينها.
والطرق والكيفية التي يتبعها المفسرون لبيان العلوم في الآية القرآنية ، ووجوه التأويل فيها ، وقد يختار عالم التفسير منهجاً معيناً يبرع أويختص به ، وقد تتعدد المناهج وأحوال العلوم التي يستحضرها في التفسير ، وهو الأولى، إذ قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
ومن وجوه تقدير هذه الآية : تبياناً لكل شئ بالتدبر فيه .
تبياناً لكل شئ للناس جميعاً ، إذ يسير عالم التفسير مع المضامين القدسية للآية الكريمة ، ويستقرأ العلوم التي فيها ، وجاء هذا السِفر المبارك (معالم الإيمان في تفسير القرآن) شاملاً لوجوه التفسير ، وفيه إضافات علمية عليها ، ووجوه مستحدثة منها ، قال تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ).
وترد أقسام التفسير أدناه بما يفيد الوصف والبيان.
والتفسير لغة هو البيان والكشف ، أما في الإصطلاح فهو أظهار معاني وألفاظ القرآن ، وبيان دلالاتها ، والتحقيق في مناهج التفسير ، وتقسيمها ، إنما هو تقسيم استقرائي ، إذ تتداخل مناهج وأقسام متعددة من التفسير في تفسير واحد ، وهو من إعجاز القرآن لمجئ آياته بالمضامين القدسية المتعددة .
ومن مناهج التفسير :
الأول : تفسير القرآن بالقرآن .
الثاني : تفسير القرآن بالسنة والمأثور ، وهل يختص هذا التفسير بالسنة القولية ، الجواب لا ، إنما يشمل السنةالفعلية لبيان أنها مرآة للقرآن .
الثالث : التفسير اللغوي ، وهو من أسرار قوله تعالى [قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] ( ).
الرابع : التفسير الفقهي الذي يتعلق بآيات الأحكام ، وعددها نحو خمسمائة آية ، بالإضافة إلى آيات أخرى كثيرة يتصل موضوعها بالفقه .
الخامس : التفسير التأريخي ، وإستعراض الوقائع التأريخية التي يذكرها القرآن ، وكذا استقراء شواهد ومصاديق للتفسير من الأحداث من جهات :
الأولى : ما سبق في زمان نزول القرآن .
الثانية : ما صاحب أيام النبوة ، ونزول القرآن، وقد صدر لنا واحد وعشرون جزء في قانون : لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً ( )، فهل تدخل مواضيع هذه الأجزاء في هذا الباب ، الجواب نعم .
الثالثة : الأحداث التي وقعت بعد مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
الرابعة : الوقائع والأحداث التي ستقع وسوف تحدث فيما بعد ودلالتها على إعجاز القرآن في بيانه ، وهدايته إلى الصلاح والرشاد ، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (للقرآن تأويل يجري كما يجري
الليل والنهار، و كما تجري الشمس والقمر، فادا جاء تأويل شئ منه وقع، فمنه ما قد جاء، ومنه ما يجئ) ( ).
السادس : التفسير الكلامي ، وعلم الكلام هو علم اثبات التوحيد والعقائد الإيمانية والنبوة والتنزيل والمعاد بالدليل الجلي والبرهان العقلي ، وصيغ الإحتجاج لإبطال الشبهات ، وتفرع عن علم الكلام الرد على الفرق المستحدثة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإجتهاد أرباب تلك الفرق المستحدثة عن منهاجها ، والتعدي يرد عليها ، وفيه إنشغال عن أصل علم الكلام ، ولزوم الإنتفاع العامل الأمثل منه في نشر لواء الإيمان ، وإستئصال مفاهيم الكفر ، وعبادة غير الله ، ومن خصائص القرآن الرد على الكفار والملحدين .
السابع : التفسير البلاغي والأدبي الذي يبين الإعجاز في بلاغة القرآن .
الثامن : التفسير الموضوعي ، والموضوع هو جعل الشئ في مكان مخصص من الإلقاء في المكان ، ومنه التفسير الموضوعي الذي يختص بمضامين موضوع معين ، وذُكر بآيات وسورة مختلفة .
وقد يشمل هذا التفسير المقصد المتحد من مقاصد القرآن السامية ، وهذا التفسير موجود من أيام التنزيل ، وتجلى باصطلاح وعنوان مخصوص في الدراسات الحديثة .
والنسبة بين التفسير الموضوعي وتفسير القرآن بالقرآن هو العموم والخصوص المطلق ، وعمدة التفسير الموضوعي اللجوء إلى آيات القرآن والسنة النبوية ، وأول من فسر القرآن بالقرآن هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسع : ويتضمن بيان معنى اللفظ ، وتركيبه ونظم الكلمات في الآية الواحدة ، والآيات المجاورة لها .
ولا يختص هذا التفسير بموضوع مخصوص من الفقه أو النحو أو البلاغة، وهو يشمل قصص القرآن ، والآيات الكونية ، وتجليات العلوم والإكتشافات الحديثة بما يؤكد إعجاز القرآن ، وكيف أن آياته ضياء ينير دروب العلماء .
العاشر : التفسير الأدبي ويشمل اللغة والنحو والصرف والبلاغة وعلوم البيان ، وما يسمى بالتفسير البياني .
الحادي عشر : التفسير الترتيبي لآيات القرآن ، وهو الغالب في مناهج التفسير ،بأن يتم تناول القرآن آية آية حسب نظم القرآن ابتداء من سورة الفاتحة ، وتدخل مناهج التفسير فيه أيضاً للسعة ، ومن فضل الله عز وجل والتوفيق في هذا السِفر ورود أجزاء كثيرة منه على النحو الآتي :
أولاً : صدور خمسة أجزاء في تفسير آية واحدة من القرآن ، كما في قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) وهذه الأجزاء هي:
الأول : الجزء الواحد بعد المائة .
الثاني : الجزء الثاني بعد المائة .
الثالث : الجزء الثالث بعد المائة .
الرابع : الجزء الرابع بعد المائة .
الخامس : الجزء الخامس بعد المائة .
ثانياً : صدور أربعة أجزاء في تفسير آية واحدة من القرآن ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) وهذه الأجزاء هي :
الأول : التاسع والثمانون .
الثاني : التسعون .
الثالث : الحادي والتسعون .
الرابع : الثاني والتسعون .
ثالثاً : صدور ثلاث أجزاء في تفسير آية واحدة من القرآن ، كما في قوله تعالى [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] ( )وقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( )وهذه الأجزاء هي :
الأول : السادس والتسعون .
الثاني : السابع والتسعون .
الثالث : الثامن والتسعون .
رابعاً : صدور جزئين في تفسير آية واحدة من القرآن ، كما في قوله تعالى [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ( ) وقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) وهذه الأجزاء هي :
الأول : الجزء الحادي عشر بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والخمسون بعد المائة .
خامساً : إختصاص جزء كامل في تفسير آية واحدة من القرآن ، ومنه أكثر أجزاء هذا السِفر المبارك في آية علمية لم تحدث في علم التفسير ، وفيه إظهار لكنوز الآية القرآنية ، وشمول أجزاء تفسيرنا لمناهجه المتعددة مع زيادة ونافلة عليها .
وآخر جزء من هذا التفسير صدر بخصوصه هو الجزء التاسع بعد المائتين ، ويقع في تفسير الآية (185) من سورة آل عمران ، وهو قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ).
ويمكن أن نضيف وجوهاً أخرى في علم التفسير منها :
الأول : تفسير الصفات والأسماء الحسنى ، والذخائر العلمية فيها ، ويدعو قوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( ) العلماء على الإختصاص في هذا العلم حتى على القول أنه من علم الكلام , والمختار أنه أعم .
الثاني : تفسير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكيفية الإنتفاع من كل آية من القرآن بهذا الباب من العلم , بأن تذكر الآيات التي يشمل موضوعها الأمر والنهي سواء في منطوقها أو مفهومها .
الثاني عشر : تفسير الصلة بين الآيات : وهو علم جديد في تأريخ الإسلام بوجوه متعددة منها :
الأول : صلة آية قرآنية بآية قرآنية مجاورة لها كما في الجزء الخامس والعشرين بعد المائة والجزء السادس والثمانين بعد المائة من تفسيرنا للقرآن.
الثاني : صلة شطر من آية قرآنية بشطر من آية قرآنية مجاورة لها ، كما في الجزء الخامس والعشرين بعد المائة والجزء الواحد والخمسون بعد المائة من تفسيرنا هذا للقرآن ، إذ تضمنت الصلة بين شطر من الآية ( 161 ) بشطر من الآية( 164 ).
الثالث عشر : تفسير علم المناسبة : وهو مستحدث تم إنشاؤه في هذا التفسير والحمد لله إذ تؤخذ كلمة من الآية محل البحث ويتم التفسير بلحاظ ذات الكلمة وموضوعها في آيات القرآن الأخرى ، إذ تتضمن الأجزاء التي تخص تفسير آيات القرآن باستقصاء معنى الكلمة واللفظ المتحد في القرآن بالآيات والسور المتعددة ، ودلالتها بخصوص كل آية وردت فيها .
وفي تفسير كل آية من القرآن في كتابنا هذا نجد علم المناسبة لكلمة أو أكثر من الآية لتتجلى فيه وجوه إعجازية متعددة .
الرابع عشر : الصلة بين أول ووسط وآخر الآية، وهو علم مستحدث في التفسير، يتجلى في تفسير كل آية في هذا السفر المبارك، وفيه نكات علمية دقيقة ولطائف إعجازية، وورد في هذا التفسير بخصوص كل آية من :
الأولى: آيات سورة الفاتحة.
الثانية : آيات سورة البقرة.
الثالثة : آيات سورة آل عمران، والتي جاء الجزء (209) من هذا التفسير في تفسير الآية(185) منها.
الخامس عشر : تفسير سياق الآيات بأن تؤخذ الصلة بين آية البحث والآيات المجاورة لها.
وقد جعلت هذا القسم من التفسير بعد باب الإعراب واللغة، وتجلت فيه علوم مستنبطة، ومسائل ودلالات إعجازية.
قانون بشارة الكتب السابقة بالنبي محمد (ص)
لقد بعث الله عز وجل الأنبياء [مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، وأنزل عليهم الكتب من السماء وتركوها وديعة عند أتباعهم وأنصارهم فدبّ إلى بعض آياتها التحريف والتغيير ، فكانت الحجة لله عز وجل في بعثة رسول للناس جميعاً قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، إذ تفضل وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مبشرا ونذيرا.
ومـــن خصــائص الأنبياء والكتــب السابقة البشارة بنبوته وفي عيسى عليه السلام ورد في التنزيل [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ]( ) .
وفي سفر التثنية من التوراة (اقيم لهم نبيا من وسط اخوتهم مثلك و اجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما اوصيه به * و يكون ان الانسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي انا اطالبه * واما النبي الذي يطغي فيتكلم باسمي كلاما لم اوصه ان يتكلم به او الذي يتكلم باسم الهة اخرى فيموت ذلك النبي)( ).
وجعل الله عز وجل المعجزات تترى على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فدخل الناس في الإسلام كما قال تعالى[وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( )، وهذا الدخول وحده من الشواهد على أن الذي يدخل الإسلام يتصف باختار الهدى ، إلا أن الأمر لا ينحصر بالدخول وحده، فيحتاج المسلم لإصلاح النفس والذات، بالمجيء بالفرائض والأفعال الصالحة عن ملكة وقصد القربة، والخروج للناس بسنن التقوى ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وهل من موضوعية لبشارات الأنبياء والكتب السماوية السابقة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم في حسن صلات أهل الكتاب مع المسلمين ،وحفظ الودائع ،وأدائهم الأمانة ، وتعاهد الأمن الجواب نعم .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بلحاظ قانون وهو ان أداء الأمانة رحمة للمودع والمستودع ، وفيه الأجر والثواب وبسط السلم والأمن في الأرض ، ونبذ النزاع والخصومة والإقتتال .
قانون وجوب الشكر لله على نعمة الشأن والأمن
من مصاديق قوله تعالى [يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ) توالي النعم على المؤمنين , وبيان لحقيقة وهي أن المسلمين نالوا هذه المرتبة بمشيئة الله وفضل منه سبحانه، وفيه دعوة للشكر لله عز وجل، لأن إرتقاء المسلمين لهذه المنزلة العظيمة ليس بجهد وسعي منهم بل بإرادة ومشيئة من الله وتتجلى بتفضله بأمور:
الأول: بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس جميعاً ، وعن معاوية بن حيدة قال : قلت يا رسول الله ما الذي بعثك الله به ، قال : بعثني الله بالإِسلام ، قلت : وما الإِسلام؟
قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة( ).
الثاني: نزول القرآن كتاباً جامعاً للأحكام إلى يوم القيامة.
الثالث: نصرة المؤمنين بمدد سماوي في معارك الإسلام الأولى ، قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
وفي يوم حنين قال تعالى[وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] ( )، إذ أنزل الله عز وجل ملائكة من السماء لنصرة المؤمنين(وقيل إن الملائكة نزلوا يوم حنين بتقوية قلوب المؤمنين و تشجيعهم ولم يباشروا القتال يومئذ ولم يقاتلوا إلا يوم بدر خاصة عن الجبائي)( ).
ويرد على هذا القول إشكال من وجوه :
الأول: لم يرد هذا القول عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو الصحابة أو أهل البيت، بل جاء متأخراً عن تابع للتابعين.
الثاني: الأصل في وظيفة الجنود هي القتال ، وينصرف المعنى في المقام إلى ضروب متعددة ، وهل يتم النصر بالسلم والصلح ، الجواب نعم لذا صار صلح الحديبية فتحاً , قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
الثالث: إن الله عز وجل هو الواسع الكريم وقد إختص المسلمين بنزول الملائكة بصفة الجنود فيحمل على المعنى الأعم، ومن الآيات أنه جاء في ذكر الذين نزلوا من السماء في معركة بدر بصفة الملائكة .
ومع هذا فالإجماع على أنهم قاتلوا، قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( )، وكذا في معركة أحد( ).
بينما جاء ذكر الملائكة في معركة حنين بصفة الجنود مما يدل بالأولوية على قتالهم في المعركة.
الرابع: كان المسلمون يوم حنين أكثر حاجة للنصرة إذ إنهزموا مع كثرتهم إلا قليلاً من بني هاشم بقوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان مجموع المسلمين على أشهر الروايات أثني عشر ألفاً وقيل عشرة آلاف وقالوا : لن نغلب اليوم عن قلة ولكن سرعان ما تراجعوا لولا فضل الله عز وجل.
(قال سعيد بن المسيب حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال لما التقينا نحن و أصحاب رسول الله لم يقفوا لنا حلب شاة فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم .
حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء يعني رسول الله فتلقانا رجال بيض الوجوه.
فقالوا لنا شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا و ركبوا أكتافنا فكانوا إياها يعني الملائكة) ( ).
وليس في الحديث أعلاه ما يدل على قيام الملائكة بالقتال، إلا أن عدم الإيجاد أعم من عدم الوجود، ولم يستوف هذا الخبر حال الملائكة في المعركة يومئذ إلا أنه يؤكد حضورهم ونصرتهم وموضوعية عملهم وفعلهم في تغيير مسار المعركة ومجريات الأحداث.
وتكرار الأمر الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل) مرتين في قوله تعالى[وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
ويمكن تأسيس قاعدة وهي :
لو دار الأمر بين الإطلاق في جهة الخطاب في الآية، أو التقييد بإرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فالأصل هو الإطلاق خصوصاً وأنه جاء في بداية آية كريمة.
ليكون قوله تعالى[يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ] ( ) قاعدة كلية وقانوناً متجدداً , قال تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
وجاء قوله تعالى[يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ] بصيغة المضارع وفيه دلالة على نزول الرحمة الخاصة على الأفراد والجماعات من بين عموم الناس، وعلى نحو متجدد، فإذ إنقطعت النبوة ونزول الوحي بإنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى فإن موضوع(الرحمة الخاصة) باق وهو على وجوه :
الأول: إستدامة رحمة خاصة للفرد.
الثاني: حصول رحمة خاصة للفرد من الناس.
الثالث: بقاء ودوام رحمة خاصة لأمة مخصوصة.
الرابع : إستحداث رحمة لفرد أو أفراد أو أمة معينة.
ومن الآيات على كون محل نزول(الرحمة الخاصة) متحداً أو متعدداً مجيء الآية بالاسم الموصول(من) الذي يحمل معنى المفرد والجمع، فلم تقل الآية(يختص برحمته الذين يشاء).
ومن معاني المفرد في الآية توكيد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول من عند الله عز وجل، وهو لا يتعارض مع إرادة الجمع , وتوالي فضل الله .
إن إستدامة الرحمة الخاصة أو العامة من عمومات قوله تعالى[يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ] فكل آن رحمة ونعمة من عند الله , ومناسبة للامتناهي من الرحمة
وليس من حصر لأفراد رحمة الله على أهل المؤمنين بلحاظ أنها رحمة متجددة، على الفرد والجماعة والأمة.
وفي إستدامة وتجدد هذه الرحمة أمور:
الأول: إنه ضياء يبعث الأمل في نفوس المسلمين.
الثاني: فيه طرد اليأس عنهم.
الثالث: إنه واقية من كل فتنة وسبب للفرقة وإن إتسع موضوعه، وطال أمده.
فلابد له من إضمحلال وزوال، ليرجع المسلمون إلى إتحادهم الذي يتجلى بقوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
ويحتمل إختيار المؤمنين للفضل وجوهاً:
الأول: إنه رحمة خاصة بالمسلمين على نحو الحصر والتعيين.
الثاني: إنه رحمة بأجيال المسلمين المتعاقبة وبأهل الكتاب.
الثالث: إنه رحمة بالمسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً.
والصــحيح هو الثالث، وتلك آية في الخلق، وشاهد على أن الدنـيا (دار الرحمة) وأن الله عز وجل لم ينزل رحمة خاصة إلا إنتفع منهــا الخاص والعام إذ يأتي النفع للعام بالتبعية والترشح والإلحــاق .
ومنه إجتباء الأنبياء والمؤمنين فقد أراده الله عز وجل رحمة لأهل الأرض جميعاً.
فإن قلت إن ذكر التخصيص دليل على إرادة التحديد والتعيين في نزول الرحمة، والجواب من جهات :
الأولى : التخصيص أعم من الحصر.
الثانية : يتعلق موضوع التخصيص بالرحمة الإلهية، وهي واسعة بالذات والماهية، قال تعالى[فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ]( )، فقد يظن بعضهم بالملازمة بين تكذيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين العقوبة العاجلة، أو أن التكذيب باعث على الشك بنبوته.
وقد يتطلع فريق من المؤمنين إلى بطش الله بالكفار لتكذيبهم بالمعجزات الباهرات التي جاء بها، فذكرت الآية أعلاه قانوناً يدل على الإمهال وأن الله عز وجل الحليم الذي يرحم المكذبين بأن يؤخر عنهم العقاب عسى أن يتوبوا .
وفي الآية أعلاه وجوه:
الأول : حصانة النبوة والمسلمين من أضرار تكذيب الكفار، وهذه الحصانة من رحمة الله الواسعة.
الثاني : في الآية نوع تحد للكفار، لما فيها من الإخبار عن رحمة الله بالمسلمين، وسلامتهم من تكذيب غيرهم للنبوة.
وهل يتعارض هذا التحدي مع دلالة الآية على رحمة الله بالكفار بالإمهال، الجواب لا، وهو من إعجاز وصف رحمة الله في الآية بالسعة وتغشيها للناس جميعاً ، وفي التنزيل [وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى] ( ) .
ويدل الجمع بين الآية أعلاه وقوله [فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ] ( ) على أن الله يمهل الناس ولا يهملهم.
الثالث : تفقه المسلمين في الدين، وإرتقاؤهم في سلم المعارف، ومعرفتهم لسعة رحمة الله، وأنها تشمل الكفار وهم متلبسون بالتكذيب بالنبوة والتنزيل ، قال تعالى فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ.
الرابع : ترغيب الكفار بالتوبة والإنابة، وبيان حقيقة أنهم لم يعجزوا الله ولكنه سبحانه يمهلهم ويؤخرهم إلى عالم الحساب والجزاء، قال تعالى[فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا] ( ).
الثالثة : إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، فإن إختصاص المؤمنين برحمة الله لا يعني نزول رحمة خاصة بغيرهم، إذ أن حلم الله عز وجل عن الكفار وعدم إلتحاقهم بهم هو رحمة منه تعالى.
وفي إختصاص رحمة الله بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، رحمة ولطف بالناس جميعاً لما فيه من دعوتهم للإسلام.
وتقدير الآية: والله يختص برحمته من يشاء لينتفع منها الناس جميعاً.
وتلك آية في عظمة رحمة الله، ومعانيها التي تفوق التصور الذهني فهو سبحانه حينما إختص النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة الخاتمة فإنها رحمة بالناس جميعاً، قال ســبحانه[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وفيه آية من فضل الله عز وجل على الناس , وشاهد على كون الرحمة الإلهية توليدية في ذات المحل وغيره، وليس لها حد وأحل ومنتهى .
وإذا كانت أيام رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم محدودة ومنقطعة بمغادرته الدنيا، فإن لفظ(العالمين) متجدد في أفراده وموضوعاته وإلى يوم القيامة، وهو من عمومات رحمة الله عز وجل، وما في إختصاص رحمته تعالى بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن هذا الإختصاص إنما هو عام وشامل للناس جميعاً، وفيه تعريض وذم للذين يحاربون النبي محمداً وينفقون الأموال لمنع التنزيل ، إذ أنه جاء بالقرآن من الله لنفع الناس جميعاً ومنهم الكفار .
(عن سعيد بن جبير في قوله { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل . . . }( ) الآية .
قال : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من بني كنانة يقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوى من استجاش من العرب ، فأنزل الله هذه الآية ، وهم الذين قال فيهم كعب بن مالك:
وجئنا إلى موج من البحر وسطه … أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن نصية … ثلاث مئين إن كثرن فأربع) ( ).
وتحتمل رحمة الله بالناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً:
الأول : إنها خاصة بالحياة الدنيا.
الثاني : تختص رحمة الله بالنبوة بعالم الآخرة، وما فيه من الحساب والجزاء.
الثالث : رحمة الله بالبعثة النبوية شاملة للحياة الدنيا والآخرة.
والصحيح هو الأخير لوجوه:
الأول : أصالة الإطلاق.
الثاني : نزول الآيات والنصوص الدالة عليه , إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إختبار وإمتحان.
الثالث : إقامة الحجة على الناس , قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الرابع : طريق النجاة لعامة الناس هو إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا نال المسلمون مرتبة الهداية لأنهم إهتدوا إلى هذا الطريق، وفازوا بالرحمة التي إختص الله بها الذين يصدّقون بنبوته ويتبعونه.
فصحيح أن رحمة الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عامة وشاملة للناس جميعاً إلا أن تلقي الناس لها وقبولهم لها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ومتباينة .
ويكون إنتفاع الناس من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه:
الأول : يكسب المسلمون في الحياة الدنيا النصيب الأوفر من منافع نبوته، وما فيها من البركات، قد مدح الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في خطاب قرآني للمسلمين بقوله تعالى[حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
ومن أسرار وكنوز القرآن أن لفظ(رؤوف) من أسماء الله الحسنى وجاء في القرآن عشر مرات في الثناء على الله وبيان عظيم فضله وسعة رحمته بالمسلمين والناس جميعاً منها قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ءوَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
وجاء هذا اللفظ مرة واحدة في قوله تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ) في وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه آية في إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوكيد موضوعية الوحي في كلام وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إنتفاع أهل الكتاب من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس من حصر لمصاديق هذا الإنتفاع، منها الإقرار والشهادة بصدق بعثة موسى وعيسى وتثبيت معجزاتهما ، وفي قوله تعالى [وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ] ( ) أي أن القرآن مصدقاً للتوراة والإنجيل .
ومن الآيات أن إنتفاع أهل الكتاب من الإسلام والقرآن متجدد في كل زمان، مما يملي على أهل الكتاب الشكر لله على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشكر له وللمسلمين، وعدم مقابلة نبوته بالصدود والجحود، ومنها توكيد تفضيل بني إسرائيل قال تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : إنتفاع الناس جميعاً من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإشراقة شمس التوحيد الأرض على نحو دائم بنزول القرآن، وتوالي البركات على الناس بإقامة المسلمين الفرائض ومنه أداء الصلاة في أوقاتها ، قال تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( )، وتعظيمهم لشعائر الله، وإجتنابهم المعاصي والسيئات وضروب الظلم ، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
قانون الإمتناع عن الخصومة خلق حميد
ترى ما هي الصلة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقوله تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]( ).
من فضل الله عز وجل على المسلمين أنه يتفضل وينهاهم عن التنازع ليقوموا بالمناجاة بالصلح وتعاهد معاني الأخوة بينهم، والتناهي عن الخصومة والشقاق , وما فيه من الوهن وتجرأ الأعداء على المسلمين وثغورهم.
ويدل قوله تعالى [تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] على النفع العظيم الذي يناله المسلمون من الأمر والنهي الذاتي أي الذي يكون فيما بين المســـلمين فكــل من الآمر والمأمور من المسلمين ويدرك كل منهمــا الحاجــة إلى الأمــر والنــهي وأنه من فضل الله عــز وجل عليهما وعلى المسلمين عموماً مما يجعلهم يأتون بالأمر والنهي شكراً لله عز وجل على هذه النعمة العظيمة، التي هي سلاح بأيديهم إلى يوم القيامة.
فان قلت إن القدر المتيقن من السلاح هو الآلة التي تستعمل ضد الأعداء، والجواب من وجوه:
الأول:السلاح أعم في مفهومه، إذ يستعمل للوقاية ويقتنيه الإنسان للإحتراز.
الثاني: يبعث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الفزع والخوف في قلوب الكفار، ويجعلهم يمتنعون عن التعدي على المسلمين، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين بأن يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم فيصاب عدوهم بالفزع والخيبة، ويدرك أن هذا الأمر والنهي سلاح بيد المسلمين، قال تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( ).
فيأتي الأمر بالمعروف مقدمة ووسيلة لإحراز القوة والمنعة، ويكون النهي عن المنكر برزخاً دون الضعف والوهن والتشتت، وكل من الأمر والنهي أعلاه سبب لإرهاب العدو، وجعله خائفاً من المسلمين.
الثالث: يعلم الناس أن المسلمين عندهم سلاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستعملونه عند الحاجة إليه، وظهور علامات الخطر والأذى على المسلمين.

قانون سلاح الدعاء واقية
لا ينحصر السلاح والوقاية في المقام بالموجود والحاضر منه، بل يشمل إمكان إيجاده وحضور مقدماته وأسبابه، فحالما ينوي مشركوا قريش التعدي على المسلمين يتناجى المسلمون بالدفاع، ويجهرون بسلاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه البعث على الصبر والإنفاق في سبيل الله بصيغ وكيفيات لم يكن العدو يتوقع معشارها، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين، بأن تكون عندهم أسلحة ظاهرة وباطنة وأخرى معلقة هي من فضل الله موضوعاً وكماً وكيفاً، ومن مصاديق سلاح الصبر قوله تعالى [اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وهل الدعاء من هذه الأسلحة الجواب نعم، وهو سلاح يلجأ إليه المسلمون في حال الرخاء والشدة لجلب المصلحة ودفع المفسدة قال تعالى [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( ).
وعن الرضا عليه السلام أنه كان يقول لاصحابه: عليكم بسلاح الأنبياء، فقيل: وما سلاح الأنبياء ، قال: الدعاء) ( )، والدعاء والتوجه إلى الله عز وجل وسيلة مباركة لتحقيق النصر على الأعداء، وهو من فضل على المسلمين لإقامتهم في منازل التصديق بالنبوة , وبيان حقيقة وهي أن جور وتعدي الظالمين على المسلمين وثغورهم لا يفّرق بين المسلمين وهذه المنزلة الرفيعة.
ويتجلى سلاح الدعاء في ميدان الدفاع بأبهى صورة بقوله تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، فليس من سلاح أعظم من الدعاء الذي يكون سبباً لنزول المدد الملكوتي الحاسم للمعركة والجالب للنصر.
وهو من الإنعام والعطاء الإلهي بالأوفى والأتم الذي أشرنا إليه في أول هذه المسألة، ومن عمومات قوله تعالى[وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ) من وجوه :
الأول: توكيد قانون( عموم فضل الله) وإستقرار هذا الوصف المبارك عند المسلمين.
الثاني: من خصائص التطلع لنزول الفضل الإلهي عليهم وعلى الناس قال تعالى [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
الثالث: تفقه المسلمين في الدين، وإرتقاؤهم في المعارف الإلهية بإدراكهم مجتمعين ومتفرقين لقرب الفضل الإلهي منهم والنهل منه بما يجعلهم يتعاهدون صبغة الصلاح، ولا يغادرون مراتب الرفعة والعز.
ويفيد الجمع بين قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ) وقوله تعالى [تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] ( ) أن الفضل الإلهي يأتي على وجوه:
الأول: ما يكون إبتداء ومباشراً يتنعم به المسلمون بذاته كالرزق الكريم، وكثرة المال والولد.
الثاني: ما يكون بالواسطة فيأتي الأمر الإلهي بفعل مخصوص ليترشح عن هذا الفعل النفع والنماء وأسباب الصلاح، فلا يستطيع الناس إحصاء منافع وبركات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذا جعله الله رداء للمسلمين، وصاحباً ملازماً لهم يحرصون ذكوراً وإناثاً على عدم الإنفكاك عنه.
فإن قلت إن الأمر بالمعروف ذاته فضل إلهي جاء الأمر به بالذات وليس بالواسطة.
والجواب هذا صحيح إلا أنه لا يتعارض مع مضامين الفضل التي تأتي معه ومترشحة عنه، ليكون من عمومات قوله تعالى[وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( )، تعدد النعم اللإلهية في الأمر والموضوع المتحد، فيأتي أمر إلهي في موضوع مخصوص لتتجلى فيه النعم الإلهية على المسلمين، خاصة وعلى الناس عامة، قال تعالى[وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
الثالث: ما يكون علة وســبباً لتحصيل الفضل الإلهي في النشأتين، فترى التكــاليف العبادية مثــلاً عنواناً لطاعة الإنســان لله عز وجل.

قانون طاعة الله كنز
تتقوم الحياة الدنيا بطاعة الله ، وهي خزينة تخرج منها الدرر واللآلئ كل يوم لذات المكلف الذي يؤديها ولغيره وهو من رشحات قوله تعالى [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ]( ).
وفيه دلالة على أمور:
الأول: التكـــاليف العبادية من عمومات قوله تعالى[وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ] ومن حــــق المســلمين أن يفتخروا بما فرض الله عز وجل عليهم من العبادات كالصلاة والصيام والزكاة والحج، ويتجلى هذا الإفتخار بحال الغبطة والسعادة التي تظهر عليهم.
الثاني: أراد الله عز وجل للمسلمين بلوغ أسمى مراتب الكمالات الإنسانية، فأنعم عليهم بفضله العظيم، ومنه أداء العبادات والفرائض لما فيها من الصلاح والتهذيب والسلامة من الأدران النفسية، والآفات التي تغزو المجتمعات في معاملاتها وأخلاقها ، قال تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ]( ).
الثالث: من فضل الله عز وجل على المسلمين الوقاية من فعل السيئات، فأنعم عليهم بالعبادات لتكون حرزاً منها، وشاهداً على الإنابة والتوبة.
لقد جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، ليعمر الأرض بالعبادة ، ويظهر التقوى ، وتتزين بها نفسه إذ أن الله عز وجل يعلم ما يدور في خلد الإنسان ، قال تعالى [إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( )، ولم يترك الله عز وجل الإنسان وحيداً في مواجهة الإبتلاء إنما رزقه العقل ، وأمده بالتنزيل وبعث الأنبياء [مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، لجذبه إلى منازل الطاعة، وإجتناب المعصية والفسوق والتعدي على الغير , ونشر الرعب , وجعل الدار الآخرة دار الثواب والجزاء .
لقد جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، ليأتيه فضل الله عز وجل في الليل والنهار ، وفي السراء والضراء ، وليس من حصر لوجوه وكم وكيفية فضل الله على الفرد والجماعة والأمة والناس مجتمعين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، وفضل الله عز وجل رحمة ونعمة في الدنيا ، ونوع طريق إلى الخلود في النعيم في الآخرة ترى ما هي النسبة بين الرحمة والفضل من الله ، المختار هو العموم والخصوص المطلق ، فرحمة الله عز وجل أعم .
والصلة بين رحمة الله والفضل الإلهي على وجوه:
الأول: الملازمة بينهما، فتأتي الرحمة ويلازمها الفضل الإلهي، من غير أن ينفك أحدهما عن الآخر، فحينما تنزل الرحمة الإلهية يصاحبها الفضل الإلهي.
الثاني: تعقب الفضل الإلهي للرحمة من عنده تعالى، فيأتي الفضل الإلهي متعقباً للرحمة، ويكون على شعب:
الأولى: الفضل الإلهي من ذات موضوع وحكم الرحمة الإلهية.
الثانية: يكون الفضل الإلهي أثراً للرحمة الإلهية.
الثالثة: التباين بين موضوع الرحمة والفضل الإلهي.
الثالث: ترشح الفضل الإلهي عن الرحمة على نحو الإنطباق.
الرابع: تعلق مجيء الفضل الإلهي مصاحباً أو متعقباً للرحمة الإلهي على الشكر لله على رحمته والدعاء والمسألة لنزول الفضل الإلهي، وهو من عمومات قوله تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
الخامس: مجيء فضل الله على نحو مستقل وهو من عمومات قوله تعالى [وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ] ويدل عليه ظاهر الآية الكريمة.
السادس: من رحمة الله تهيئة مقدمات الإنتفاع العام من فضل الله، وإزاحة الموانع التي تحجبه، قال تعالى[وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ]( ).
وكأن خاتمتها بيان وتفسير لإختصاص شطر من الناس برحمة الله، وبعث للناس جميعاً للنهل من رحمته وتوكيد بأن خزائن رحمة الله لا تنفد.
و(عن أبي موسى الاشعري قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزاة فجعلنا لا نصعد شرفا , ولا نهبط واديا , إلا دفعنا أصواتنا بالتكبير .
قال فدنا منا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أيها الناس أربعوا على أنفسكم , فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا , إنما تدعون سميعا بصيرا إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته , ثم قال يا عبد الله بن قيس إلا أدلك على كلمة هي من كنوز الجنة : لا حول ولا قوة إلا بالله) ( ).
السابع : الفضل والرحمة من الله عز وجل مما إذا إجتمعا افترقا وإذا افترقا إجتمعا .
ولو كانت رحمة مخصوصة لا تصح إلا لفرد واحد متحد أو متعدد، فهل المراد من فضل الله في المقام نيل الغير ذات الرحمة، كما في قوله تعالى [نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ] ( ) فإن هذا الوصف لطف بعباد، لم ينله غيرهم.
والجواب يحجب الله عز وجل عن الملحدين المعاندين ذات الرحمة , ولكن الجميع ينتفع منها , وإن كانت خاصة ومستقلة والله واسع كريم ولا تستعصي عليه مسألة.
وبخصوص المسألة أعلاه فإن رحمة الله الخاصة مفتوحة وتسع الناس كلهم بالإيمان , فإن قلت إن هذا المعنى العام يتناقض مع إختصاص الرحمة الذي تذكره الآية .
ومن خصائص رحمة الله عز وجل أنها تتغشى الناس طوعا وقهرا عليهم .
والفضل الإلهي على أقسام منها :
الأول: المكتوب الذي تفضل الله عز وجل، رزقاً مكتوباً للفرد والجماعة.
الثاني: يفوز به الإنسان بالدعاء والمسألة والصدقة والصبر والحلم والإستغفار, وفي التنزيل[اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا *يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا]( ).
الثالث: غير المكتوب الذي يأتي بالدعاء والمسألة والعمل الصالح، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] ( ).
قانون الدنيا دار الفضل الإلهي
وفي التعدد في الفضل الإلهي وعدم إنحصاره بالمكتوب وجوه:
الأول: إنه من رحمة الله بالناس، فالله عز وجل كتب للناس فضلاً منه ثم يزيدهم رأفة منه بالناس ومن الآيات أن كلاً من ذات الفضل وزيادته يتصف بمسائل :
الأولى : الإتصال بين أفراده الإرتباطية المستقلة .
الثانية : التجدد حسب الحال والزمان والمكان .
الثالثة : أفراد الفضل الإلهي تفوق حدود تصور الإنسان وهو من مصاديق تخلف الناس عنها عدها وإحصائها وقوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) لأن العقل بنفسه لا يدرك في الغالب إلا كليات الأشياء .
قال تعالى[وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
الثاني: أصل الفضل هو الزيادة والنفل , قال تعالى بخصوص إبراهيم[وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً] ( )، والفضل الإلهي أعم من الزيادة والنافلة أي أن المعنى اللغوي للفظ لا يحيط به عندما يكون أمراً من الله عز وجل.
ليكون هناك معنى إصطلاحي يختص بالمقام، وتعريف للفضل الإلهي على نحو الخصوص، لذا وثقت آيات القرآن الفضل الإلهي ونعتته بأنه(عظيم) للدلالة على عجز البشر عن إحصائه والإحاطة به ، ومعرفة أوانه وكيفيته ومكانه , وهذا العجز فضل آخر من عند الله عز وجل .
الثالث : وصف فضل الله بأنه(عظيم) باعث للناس للنهل والإغتراف منه، والتفقه في سبل نيله، وأن هذه السبل الإسلام والتصديق بالنبوات , والعمل الصالح.
الرابع: توكيد الملك المطلق لله عز وجل، قال سبحانه [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( )، فإن الفضل العظيم دليل على الإرادة ووقوع ما يريده الله عز وجل فلا تستطيع الخلائق منع فضله عن عباده، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( )، والذي يدل على إنعدام العوائق والبرزخ وأسباب التأخير عن وصول فضل الله عز وجل للناس .
ويمكن القول بقانون وهو الدنيا دار الفضل الإلهي وهو لا يتعارض مع فضل الله عز وجل في خلق آدم وحواء في الجنة , ولا مع فضل الله عز وجل في الآخرة الذي هو أعظم وأكبر , قال تعالى [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] ( ).
ومن مصاديق المعنى الإصطلاحي للفضل مجيؤه إبتداء وإبتداعاً مما لم يكن مكتوباً للفرد والجماعة ، وربما هناك فترة بين كتابته ونزوله، وقد يكون ذات النزول غير مكتوب ، وهو لا يتعارض مع إحاطة الله عز وجل علماً بكل شيء وإن علمه أزلي وسابق للفعل ونزول الفضل , قال تعالى في ذم الكفار , وكتابة قولهم لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ.
فالله عز وجل يعلم بأن الفضل والنافلة ستصيب العبد بالدعاء والتقوى، أو إبتداءً من غير سبب من العبد، ليكون هذا الإبتلاء من فضل الله العظيم .
ومن قوانين الحياة الدنيا أن الصلاح والتنزه عن الظلم والإرهاب طريق سالكة للفوز بفضل الله سبحانه .

بحث كلامي في فلسفة النبوة
من وظائف الأنبياء دعوة الناس للتصديق بالرسول اللاحق، لقد جعل الله بعثة كل نبي رحمة وخيراً محضاً، ومن مصاديق الرحمة في نبوة عيسى عليه السلام البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وترك عيسى هذه البشارة أمانة عند النصارى، وحثهم على التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجتناب محاربته، وقد تجلى على نحو الموجبة الجزئية في مجئ وفد نصارى نجران، فحينما رأوا الآيات صالحوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على الجزية.
وتجلى على نحو الموجبة الكلية بدخول فريق من النصارى الإسلام، وإعلان تصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ] ( ).
ومن فلسفة النبوة وتوالي بعث الأنبياء الإخبار بأن الله عز وجل لن يترك الناس وشأنهم بل يجذبهم لمنازل الإيمان، ويدعوهم للسلم والسلام والمحبة ونبذ الكراهية , قال تعالى [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ]( ).

قانون بقاء معالم النبوة
لما إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض، وكان موضوع الإحتجاج هو فساد الإنسان، كما ورد حكاية عنهم في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
جاءت بشارات الأنبياء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رداً عملياً متجدداً على إحتجاجهم، ومصداقاً متعدد الأفراد لقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فبعثة كل نبي مصداق لعلم الله عز وجل في المقام، وشاهد على حكمة الله عز وجل ورد على الملائكة في إحتجاجهم أعلاه، فليس من رد على إحتجاج أكثر في موضوعه عدداً وأبين دليلاً وأعم زماناً من رد الله عز وجل على الملائكة في المقام ، مما يدل على عظيم منزلة الإنسان عند الله عز وجل وكثرة المصاديق والشواهد الحسية والعقلية لهذا الرد الكريم.
وهل تعدد هذا الرد وشواهده ببعث الأنبياء وبشاراتهم وحسن سمتهم وأصحابهم وأتباعهم من عمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وأسباب إعتذار الملائكة ولجوئهم إلى تنزيه مقام الربوبية، كما ورد في التنزيل [سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( ), وفيه وجوه :
الأول: بقاء معالم النبوة في الأرض في الفترة ما بين عيسى والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها أحكام الحنيفية الإبراهيمية، وعمارة البيت الحرام بالحج، والإقرار بأنه بيت الله.
الثاني: وجود أتباع لعيسى عليه السلام ودولة للنصارى في بلاد الروم، والحبشة، ومزاحمة اليهود للمشركين في المدينة.
لتكون نوع وسيلة لمعرفة أهل المدينة بالبشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي مقدمة لهجرته ووجود الناصر في المدينة وهو من الإعجاز في تسمية الأنصار ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
الثالث: تعاهد أهل الكتاب للبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتطلعهم لبعثته، وحلول زمانها والعلامات الخاصة بأوانها، سواء العلامات الكونية أو الإجتماعية.
الرابع: هذه الفترة آية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على حاجة الناس لها , وتملي تلك الحاجة على أولي العقول والنهي المبادرة إلى التصديق بنبوته ونصرته.
الخامس: توكيد التباين بين أيام تلك الفترة، وأيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من الصلاح ورفع لواء الجهاد في سبيل الله، فكان الناس على الشرك والضلالة وعبادة الأوثان، وما لبثوا أن حملوا السيوف جهاداً في سبيل الله، ومنهم من قتل في ميدان المعركة دفاعاً كما يدل عليه قوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).
إذ نزلت الآية أعلاه في شهداء معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وعددهم سبعون أربعة من المهاجرين وهم :
الأول : حمزة بن عبد المطلب ، من بني هاشم.
الثاني : مصعب بن عمير ، من بني عبد الدار.
الثالث : عثمان بن شماس ، من بني مخزوم .
الرابع : عبد الله بن جحش ، من بني أسد.
والباقي من الأنصار للدلالة على التضحيات الجسيمة التي قدمها الأنصار قربة الى الله تعالى وإكرام الله لهم ، خاصة وأن معركة أحد دفاعية محضة إذ زحف ثلاثة آلاف من المشركين لإرادة غزو المدينة حتى إذا صاروا على بعد نحو ( 5 ) كم خرج لهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وعن أنس أن الآية أعلاه نزلت في شهداء بئر معونة وعن (إسحق بن أبي طلحة .
حدثني أنس بن مالك في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بئر معونة قال : لا أدري أربعين أو سبعين وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل ، فخرج أولئك النفر حتى أتوا غاراً مشرفاً على الماء قعدوا فيه ، ثم قال بعضهم لبعض : أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل هذا الماء؟
فقال أبو ملحان الأنصاري : أنا .
فخرج حتى أتى خواءهم فاختبأ أمام البيوت ، ثم قال : يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فآمنوا بالله ورسوله .
فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر .
فقال : الله أكبر فزت ورب الكعبة ، فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم عامر بن الطفيل . فحدثني أنس أن الله أنزل فيهم قرآناً : بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه .
ثم نسخت فرفعت بعدما قرأناه زماناً ، وأنزل الله وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ( ).
وأما المسألة الثانية فالجواب عليها من وجوه:
الأول: جاءت آيات القرآن للدلالة على بقاء أحكام النبوة في الأرض بوجود أمة مؤمنة في كل زمان ، وتعاهد أجيال المسلمين لهذه المرتبة السامية.
الثاني: وراثة المسلمين لسنن النبوة، وشهادتهم على صدق الأنبياء على نحو العموم المجموعي.
لبيان قانون وهو أن تكذيب الكفار بالأنبياء لن يضرهم ، فقد جعل الله عز وجل المؤمنين في كل زمان يصدقون بنبوتهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ]( ).
وهذه الآية وإن كانت جملة شرطية تتضمن الخبر والذم للذين كفروا ، فانها تدل في مفهومها على الثناء على المسلمين للتصديق بالأنبياء والتسليم بانهم جاءوا بالمعجزات والكتاب من عند الله( ).
الثالث: حفظ آيات القرآن وسلامته من التحريف إلى يوم القيامة، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، وليس من حصر لمنافع حفظ وبقاء القرآن إلى يوم القيامة، وما يترشح عنه من حضور النبوة بأحكامها وسننها وكأن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يغب ولم يغادر الأرض، ومن الشواهد أنك ترى المسلمين يذكرون سنته القولية والفعلية وكأنه موجود بين ظهرانيهم ، وهل من مصاديق عموم الخطاب الإلهي المتوجه إلى أجيال المسلمين بقوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
قانون تعاهد مواريث الأنبياء
من خصائص أهل الإيمان تعاهد ما جاء به الأنبياء، والجهاد من أجل العمل بمضامينه لذا جاء القرآن بالأمر للمسلمين بقوله تعالى [تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار النبوة) فتكون أحكامها حاضرة في كل زمان ، وتتجلى فيها معاني غلبة ونصر الأنبياء وأتباعهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما ينفرد به المؤمنون من التصديق بالأنبياء جميعاً، والمحافظة على هذا التصديق إلى يوم القيامة، وهو من عمومات رد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، لأن تعاهد المسلمين للنبوة وأحكامها وسننها أعظم شهادة تصدر من أهل الدنيا كثرة في أفرادها وأجيالها وأحقابها ، وفي التنزيل [لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ]( ).
وتتضمن هذه الشهادة التصديق بنبوة نبي من أنبياء الله عز وجل، وهذا التصديق مستمر إلى يوم القيامة، وفيها إشارة إلى أن أحوال الخلافة في الأرض لا تنحصر بفساد شطر من أهل الأرض.
ولكن هناك أمور وسنن عظيمة في الأرض يستحق معها الإنسان نيل مرتبة الخلافة، منها مرتبة النبوة، ووجود المؤمنين في الأرض ينهون عن الفساد والإرهاب .
ومن صيغ محاربتها للفساد تصديقها ببعثة الأنبياء وعمارتها الأرض بسنن الأنبياء ومن مصاديقه أداء المسلمين والمسلمات للفرائض كما أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي ( )، ليكون المسلمون مرآة النبوة.
لقد تحمّل المسلمون الأذى في حفظهم لسنن النبوة، وفيه تثبيت نبوة الأنبياء السابقين ، وفيه وجوه:
الأول : هذا الأذى في جنب الله.
الثاني : في هذا الأذى الأجر والثواب للمسلمين.
الثالث : إنه سبيل لهداية الناس، ودعوة لنبذ الكفر والشرك.
الرابع : بقاء مضامين النبوة، وأشخاص الأنبياء بأفعالهم التي يذكرها القرآن ويتلوها المسلمون، قال تعالى [انَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
وعظمة فضل الله حجة على الناس ، ودعوة للهداية للرشاد , وليس من حصر لمصاديقه , لأن الأمر يتعلق بنعم متعددة في المقام:
الأولى : فضل الله ونعمته على الناس، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] ( )، وهذه الآية من الشواهد على كون القرآن حجة على الناس جميعاً،وسبيلاً مباركاً للصلاح والإصلاح.
والنسبة بين الآية أعلاه وقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] هي العموم والخصوص المطلق، ويفيد الجمع بينهما أموراً:
الأول : وجود نعم عامة ينتفع منها الناس جميعاً برهم وفاجرهم، منها نعمة الخلق والرزق والعافية، وبعثة الأنبياء، ونزول الكتب السماوية وصرف الأهوال ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ]( ).
الثاني: وجود نعم خاصة على المسلمين إلى جانب النعم العامة، منها الهداية إلى الإيمان، والتوفيق للصلاح وأداء الفرائض.
الثالث: يحتمل إنتفاع المسلمين من النعم العامة بالنسبة لإنتفاع غيرهم وجوهاً:
الأول: التساوي.
الثاني: إنتفاع الكفار من النعم العامة أكثر من إنتفاع المسلمين منها.
الثالث: إنتفاع المسلمين وأهل الكتاب أكثر وأعظم.
والصحيح هو الثالث، لأن المؤمنين يتخذون من النعم وسيلة لطاعة الله، ويحرصون على التنزه من الرذائل والأخلاق المذمومة.
لقد خاطب الله تعالى الناس جميعاً بالقول [وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً]( ) .
وعن ابن عباس قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة}( ) قال : أما الظاهرة؛
فالإِسلام وما سوى من خلقك ، وما أسبغ عليك من رزقه ، وأما الباطنة؛ فما ستر من مساوىء عملك ، يا ابن عباس إن الله تعالى يقول : ثلاث جعلتهن للمؤمن : صلاة المؤمنين عليه من بعده .
وجعلت له ثلث ماله أكفر عنه من خطاياه .
وسترت عليه من مساوىء عمله ، فلم أفضحه بشيء منها، ولو أبديتها لنبذه أهله فمن سواهم( ).
الثانية : إتصاف الفضل الإلهي بأنه عظيم, حضّ على الشكر لله سبحانه بالإمتناع عن الإضرار بالناس , قال تعالى[وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
الثالثة : وجود أمة بين الناس تتصف بالتقوى.
الرابعة : خروج المسلمين للناس بصفة الإسلام والإيمان.
الخامسة : إختصاص المؤمنين برحمة الله في نيل مراتب الهدى .
وهذه النعم من الفضل العظيم الذي تفضل الله عز وجل به على الناس لبيان حقيقة وهي الإطلاق في فضل الله وأنه من اللامتناهي الذي ينهل منه الناس جميعاً ، ويفوز المؤمنون بالنصيب الأوفر، مع الثناء على المسلمين من وجوه :
الأول: آمن المسلمون بالله وصدّقوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من عند الله.
الثاني: لقد جعل الله عز وجل المسلمين المبادرين إلى التوبة والإنابة والدعاة إليها.
الثالث: باب نيل صفة المسلم والدخول في الإيمان مفتوح للناس جميعاً وفي آنات اليوم والليلة.
لقد خلق الله عز وجل الناس لطاعته وإتيان الواجبات والفرائض قال سبحانه [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ومن فضل الله في المقام أمور:
الأول: ذات الخلق فضل ونعمة عظيمة من الله عز وجل، والله سبحانه الغني، وغناه مطلق , قال تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ) .
وفي الآية أعلاه مسائل :
الأولى : توكيد نعمة خلق الإنسان.
الثاني : بديع صنع الله عز وجل.
الثالث : حاجة الإنسان إبتداء وإستدامة إلى الله عز وجل.
الرابع : بديع صنع الله، وأنه خلق آدم وذريته في أبهى وأحسن صورة، وجعلهم منتصبي القامة وباقي الحيوان مكباً على وجهه، ورزق الإنسان العقل والحواس ليتم أحدهما الآخر.
الخامس : بيان عظيم قدرة الله وسلطانه.
الثاني : علة خلق الناس، وهي العبادة فضل من الله عز وجل، فلم يجعلهم يضيّعوا أيام الحياة الدنيا بالبطالة والتعطيل، بل تفضل الله سبحانه وجعل غاية خلقهم والجن عبادته وطاعته.
الثالث : نعمة بيان علة الخلق وهي العبادة في الكتاب السماوي الخالد وهو القرآن , وفيه منافع منها:
الأول : علم الناس بوظائفهم في الحياة الدنيا.
الثاني : الإجتهاد في الدخول إلى مسالك الإيمان ، قال تعالى في الثناء على آل زكريا [كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ]( ).
الثالث : بذل الوسع في المسارعة في الخيرات.
الرابع : بعث الناس على عبادة الله، وحثهم على دخول الإسلام بمعرفة علة خلقهم ، وهي الذكر والعبادة , وفي التنزيل [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( ).
الخامس : إقامة الحجة على الناس، لقبح العقاب بلا بيان، فلا يأتي بعض الكفار يوم القيامة، ويقول لم أعلم أني خلقت من أجل العبادة.
السادس : بيان معنى فضل الله وأن أصل الخلق ليس للدنيا، والتنعم بطيباتها وزينتها، بل علة الخلق هي عبادة الله، وإن كانت لا تتعارض مع التنعم بها، قال تعالى[قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ]( ).
قانون الثناء من الله عطاء
لقد أنزل الله عز وجل القرآن رحمة للناس , وعلة وسبيلا لهدايتهم وإستدامة للحياة على الأرض بالصلاح والتقوى، فيتلو المسلم الآية القرآنية في الصلاة وخارجها فينزل الفضل على الناس، وتخرج الأرض كنوزها، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ]( ).
ليكون الإيمان حياة للأرض مثلما هو حياة للقلوب، ومنسئة في الأجل، وهو لا يتعارض مع حياة الأرض والنماء في الثمرات بفضل وفيض من الله عز وجل على نحو الإبتلاء، وقد أخطأ بعض قدامى الفلاسفة ممن قال أن الله عز وجل خلق الناس وتركهم وشأنهم.
فالله عز وجل قريب من الناس، يجذبهم إلى مقامات الإيمان والصلاح، ويدفعهم بلطف عن منازل المعصية والرذيلة، وهل يعني قوله تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ) أن هذه الرحمة خاصة بالذين آمنوا وعملوا الصالحــات أم أنها قريبة من غيرهم من الناس .
الجـــواب هــو الثاني، وإثبــات شــيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، ومن رحمــة الله عز وجل بالناس نزول الآية أعلاه، وإخبارها عن قرب رحمته تعالى من المحسنين لأنه ترغيب للناس بالإسلام ونشر معاني الإحسان في الأرض .
وفي الآية أعلاه ثناء على المسلمين خاصة لأنهم أحسنوا إلى أنفسهم وغيرهم بالتصديق بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفازوا بالثناء من الله عز وجل والإخبار السماوي بإيمانهم , وقد ورد نداء التشريف [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تسعاً وثمانين مرة لإكرام المسلمين , والشهادة لهم بالإيمان , ولتثبيتهم في مقامات الهدى والصلاح .
وقرب رحمة الله عز وجل من المسلمين خاصة والناس عامة من عمومات رد الله على الملائكة حينما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض بفساد الإنسان وسفك الدماء، فقال سبحانه[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وهذا العلم لا ينحصر بحال شطر من الناس من أهل الإيمان والتقوى فيشمل تفضل الله بجعل رحمته قريبة من الناس ، واللطف الإلهي في إنتفاع الناس عامة منها , وإن كان القرب هذا من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة .

مسائل في الثناء
ومن مصاديق وسعة رحمة الله عز وجل مجيء القرآن بالثناء على المؤمنين، وفي هذا الثناء مسائل:
المسألة الأولى: إنه بشارة وباعث للسكينة في نفوس المسلمين، وإخبار سماوي بأنهم على الصواب وجادة الحق.
المسألة الثانية : يتعاهد المسلمون الثناء، وهذا التعاهد ترغيب للناس ببلوغ تلقي الثناء الإلهي الذي لا يفصلهم عنه إلا النطق بالشهادتين، وهذا النطق حق وواجب , وعمل الصالحات , قال تعالى [وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ *وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ]( ).
المسألة الثالثة : من مصاديق الرحمة الإلهية بالمسلمين والناس بنزول القرآن تضمنه المدح والثناء على المؤمنين، وهذا الثناء مدد لهم في أمور الدين والدنيا، ودعوة لهم للصبر المقرون بالصلاح والتقوى، قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ] ( ).
وبالثناء من الله على أهل الإيمان تكون الدنيا حديقة ناضرة، تمتلأ فيها النفوس بالبهجة والرضا، وتكون للحياة حلاوة ولذة في طاعة الله.
مما يدل على أن الثناء من الله بذاته فضل ونعمة على المسلمين الذين يتلقون هذا الثناء ، وعلى الناس جميعاً إذ يعتبرون , ويقتبسون من ذات الثناء .
المسألة الرابعة : إنه عون للمسلمين لفعل الصالحات , فإن قلت قد يبعث الثناء على الغرور أو التقصير.
والجواب من وجوه:
الأول: يتصف الثناء الإلهي بأنه حق وصدق، ولم يأت إلا عن علم من الله عز وجل بسلامة أثره وعواقبه.
الثاني: الثناء الإلهي مصاحب للمسلمين، وهو شاهد متجدد على صبغة الصلاح لكل جيل منهم .
الثالث: لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار الحجة) وتفضل وجعل البرهان قريباً من أهل الإيمان يتخذونه حجة لهم وعلى غيرهم، وجاء في يوسف عليه السلام[وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] ( ).
ومن الآيات في الآية أعلاه نسبة البرهان إلى الله عز وجل وأنه الرب المالك، مما يدل على أن البرهان رحمة ونعمة على الذي يأتيه البرهان، ويلتفت له , وعلى غيره من الناس من جهات:
الأولى: من يعتبر ويتعظ من البرهان الذي يأتي لغيره من الناس, ومن سعادة المرء الإتعاظ بغيره إذ ورد في حديث تبوك عن (عقبة بن عامر قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك ، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما كان منها على ليلة فلم يستيقظ حتى كانت الشمس قيد رمح قال : ألم أقل لك يا بلال أكلئنا الليلة؟
فقال : يا رسول الله ذهب بي النوم فذهب بي الذي ذهب بك، فانتقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك المنزل غير بعيد ثم صلى ، ثم هدر بقية يومه وليلته فأصبح بتبوك ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال :
أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وأوثق العرا كلمة التقوى ، وخير الملل ملة إبراهيم ، وخير السنن سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأشرف الحديث ذكر الله ، وأحسن القصص هذا القرآن .
وخير الأمور عوازمها ، وشر الأمور محدثاتها ، وأحسن الهدي هدي الأنبياء ، وأشرف الموت قتل الشهداء ، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى ، وخير العلم ما نفع ، وخير الهدى ما اتبع ، وشر العمى عمى القلب ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت ، وشر الندامة يوم القيامة .
ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبراً ، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجراً، وأعظم الخطايا اللسان الكذوب ، وخير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى .
ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل ، وخير ما وقر في القلوب اليقين ، والإرتياب من الكفر والنياحة من عمل الجاهلية ، والغلول من جثاء جهنم ، والكنز كي من النار ، والشعر من مزامير إبليس ، والخمر جماع الإثم ، والنساء حبالة الشيطان .
والشباب شعبة من الجنون ، وشر المكاسب كسب الربا ، وشر المآكل مال اليتيم ، والسعيد من وعظ بغيره ، والشقي من شقي في بطن أمه ، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربع أذرع ، والأمر بآخره، وملاك العمل خواتمه، وشر الروايا روايا الكذب .
وكل ما هو آت قريب ، وسباب المؤمن فسوق ، وقتال المؤمن كفر ، وأكل لحمه من معصية الله ، وحرمة ماله كحرمة دمه ، ومن يتأول على الله يكذبه، ومن يغفر يغفر له ، ومن يغضب يغضب الله عنه ، ومن يكظم الغيظ يأجره الله .
ومن يصبر على الرزية يعوضه الله ، ومن يتبع السمعة يسمع الله به ، ومن يصبر يضعف الله له ، ومن يعص الله يعذبه الله ، اللهم اغفر لي ولأمتي ، قالها ثلاثاً : استغفر الله لي ولكم)( ).
الثانية: الذي يتعظ من إنتفاع الغير من البرهان، والذي يكون أسوة للآخرين، وسبباً لترغيبهم بالعمل بالبرهان من الكلي الطبيعي الذي يعم الإنتفاع منه الناس جميعاً.
الثالثة: تدبر الناس في البرهان وكيف أنه رحمة وفضل من الله عز وجل، وفيه شاهد بأن الله عز وجل لم يترك الناس وشأنهم في الحياة الدنيا وهو سبحانه منزه عن الظلم، قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
لتوكيد حقيقة وهي أن من عدم الظلم في المقام الإعانة لفعل الخير، والذي تدل عليه الآيات أعلاه وغيرها من آيات القرآن.
الرابعة: تفقه الناس في الدين، ومعرفة سعة رحمة الله عز وجل وكيف أنه يدنيهم بلطفه ومنّه من الإقامة الدائمة في الجنة.
الخامسة: توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على نعمة البرهان، وهو مناسبة لدوام نعمة الإحتجاج بالآيات والبينات التي تدل على التوحيد ، والإنتفاع الأمثل منها , قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا]( )، وفي الحديث: بالشكر تدوم النعم) ( ).
قانون عدم اختصاص النعم بالشاكرين
وهل يختص الشاكرون بدوام النعم، أم يشمل غيرهم من الناس.
الجواب هو الثاني، وهو من لطف الله عز وجل , ورحمة بالناس في الدنيا , وكونها دار امتحان واختبار .
ومن خصــائص أهل التقوى وحاجــة الناس للمسلمين، بأن يتوجهــوا بالشــــكر لله عـــز وجل على نعمة الثناء والبرهان فينتفع النــاس جميعاً من هـــذا الشــكر بنزول رحمــة الله وفضــله على أهـــل الأرض لأن بين ظهــرانيهم أمة شــاكرة لله عــز وجل , وفيه وجوه :
الأول : لقد مدح الله عز وجل المؤمنين ووصفهم بالمتقين , وهذا الوصف فضل من الله ومن مصاديقه أن المسلمين يتلقونه بحسن الإمتثال لأمر الله عز وجل وإظهار أبهى معاني الطاعة له ولرسوله.
الثاني : إرتقاء المسلمين في منازل التقوى، بأن يتلقوا الثناء ببذل الوسع في مرضاة الله حباً له سبحانه، ورغبة لما عنده من الثواب العظيم قال تعالى[وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ]( ).
الثالث : يــدل حال وواقع المسلمين على إنتفاء الغرور عنهم، ومن أفراد هــذا التنزه حرصــهم على أداء العبــادات كــما أنزلها الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير إجتهاد في مقابل النص، أو القيام بالتشديد على النفس أو التقصير والتفريط فيها .
وهل الإرهاب بمفهومه في هذا الزمان من التشديد على النفس الجواب إنه أكثر ضرراً من هذا التشديد فهو ظلم للذات والغير( ).
ومن الآيات في المقام أن أسمى تلك العبادات وهي الصلاة تؤدى خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني على المكلفين من المسلمين والمسلمات، وهو من وجوه تسميتها(عمود الدين).
وكون الثناء على المسلمين من علم الله تعالى في قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، أنه سبب لإزاحة الفساد من الأرض , ومنع من طغيان الضلالة والجحود، وما يترشح عنها من عدم الإحتراز في سفك الدماء.
ومن المسلمين الذين نالوه بجهادهم وطاعتهم لله عز وجل ولرسوله، وليس من حصر لمنافع الثناء التي ترد في القرآن، وهي شاملة لعالم الدنيا والآخرة، إذ أن الثناء بشارة الأمن يوم القيامة وهو من عمومات قوله تعالى[لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ) .
والثناء من الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المسلمين نعمة متجددة، وخير محض , وضياء ينير طريق الهداية للناس , وبشارة الثواب والجزاء الحسن .
وهو حجة في التأديب والإصلاح , ولزوم تعاهد علة وأسباب الثناء بالعمل الصالح ونشر شآبيب الرحمة .

قانون إصرار كفار قريش على الإرهاب
لقد ظلمت قريش ذاتها، وأضرت كيانها، بأن سارت لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ هلك شطر من كبرائها ورجع الباقون بخيبة وذل، قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
وهل من مقدمات هذا الظلم وأسباب الخروج رجوعهم إلى الناس وسؤالهم عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامهم بانكارها وإخبارهم عن صفات لنبي آخر الزمان مغايرة لصفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب نعم، وفي كل زمان هناك أسباب وغايات حميدة لخروج المسلمين ودعوتهم إلى التوحيد بالحجة واللطف والقول الحسن ، وتلك آية في الخلق وسر من أسرار تفضيل المسلمين ومواصلتهم السعي في سبيل الله , بالحكمة والبرهان والصبر .
ويفيد النداء [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ] أموراً :
الأول : تذكير أهل الكتاب بالبشارات الواردة في الكتب السماوية السابقة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : لزوم نصرة أهل الكتاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
الثالث : المسارعة والمبادرة إلى الإنصات للآيات .
الرابع : زجر الكفار والمشركين عن محاربة النبوة .
فان قلت إن ذكر خروج المسلمين بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ]( )، لايعني لزوم رجوع وإصغاء الناس لهم ، فالجواب من وجوه:
الأول: تبين الآية خروج المسلمين للناس بالرحمة والشفقة والصبر وطرق الهداية وهو المستقرأ من لفظ ومعنى ( خير ) في الآية الكريمة ، وليس رجوع الناس للمسلمين، أي وإن أعرض الناس فان المسلمين يتوجهون لهم مع إعراضهم وإن إستلزم الأمر من المسلمين الدفاع كما في معركة أحد والخندق اللتين كان المشركون هم الغزاة فيهما , قال تعالى[وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا]( ).
ونزلت الآية أعلاه لبعث المسلمين على الدفاع من أجل المسلمين والمظلومين الذين في مكة، ويلاقون الأذى من كفار قريش، الذين يسعون في إفتتانهم، ويصعب على هؤلاء المؤمنين الخروج من مكة واللحاق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ومنهم :
الأول : جندل بن سهيل .
الثاني : مسلمة بن هشام المخزومي .
الثالث : الوليد بن الوليد وهو أخو خالد بن الوليد وهشام بن الوليد ، وكان أبوهم الوليد بن المغيرة ممن يستهزئ برسول الله .
قال ابن اسحاق : فَلَمّا حَضَرَتْ الْوَلِيدَ الْوَفَاةُ دَعَا بَنِيهِ وَكَانُوا ثَلَاثَةً هِشَامَ بْنَ الْوَلِيدِ وَالْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، فَقَالَ لَهُمْ أَيْ بَنِيّ أُوصِيكُمْ بِثَلَاثِ فَلَا تُضَيّعُوا فِيهِنّ دَمِي فِي خُزَاعَةَ ، فَلَا تَطُلّنّهُ وَاَللّهِ إنّي لَأَعْلَمُ أَنّهُمْ مِنْهُ بُرَآءُ وَلَكِنّي أَخْشَى أَنْ تُسَبّوا بِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ وَرِبَايَ فِي ثَقِيفٍ ، فَلَا تَدَعُوهُ حَتّى تَأْخُذُوهُ وَعُقْرِى عِنْدَ أَبِي أُزَيْهِر ٍ فَلَا يَفُوتَنّكُمْ بِهِ . وَكَانَ أَبُو أُزَيْهِر ٍقَدْ زَوّجَهُ بِنْتًا ، ثُمّ أَمْسَكَهَا عَنْهُ فَلَمْ يُدْخِلْهَا عَلَيْهِ حَتّى مَاتَ .
فَلَمّا هَلَكَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَثَبَتْ بَنُو مَخْزُومٍ عَلَى خُزَاعَةَ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ عَقْلَ الْوَلِيدِ وَقَالُوا : إنّمَا قَتَلَهُ سَهْمُ صَاحِبِكُمْ .
وَكَانَ لِبَنِي كَعْبٍ حِلْفٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ فَأَبَتْ عَلَيْهِمْ خُزَاعَةُ ذَلِكَ حَتّى تَقَاوَلُوا أَشْعَارًا ، وَغَلُظَ بَيْنَهُمْ وَكَانَ الّذِي أَصَابَ الْوَلِيدَ سَهْمُهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ خُزَاعَةَ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ :
إنّي زَعِيمٌ أَنْ تَسِيرُوا ، فَتَهْرُبُوا … وَأَنْ تَتْرُكُوا الظّهْرَانَ تَعْوِي ثَعَالِبُهْ
وَأَنْ تَتْرُكُوا مَاءً بِجِزْعَةِ أَطْرِقَا … وَأَنْ تَسْأَلُوا : أَيّ الْأَرَاكِ أَطَايِبُهْ ؟
فَإِنّا أُنَاسٌ لَا تُطَلّ دِمَاؤُنَا … وَلَا يَتَعَالَى صَاعِدًا مَنْ نُحَارِبُهْ
وَكَانَتْ الظّهْرَانُ وَالْأَرَاكُ مَنَازِلَ بَنِي كَعْبٍ مِنْ خُزَاعَةَ . فَأَجَابَهُ الْجَوْنُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ أَخُو بَنِي كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيّ ، فَقَالَ
وَاَللّهِ لَا نُؤْتِي الْوَلِيدَ ظُلَامَةً … وَلَمّا قَرّوا يَوْمًا تَزُولُ كَوَاكِبُهْ
وَيُصْرَعُ مِنْكُمْ مُسْمِنٌ بَعْدَ مُسْمِنٍ … وَتُفْتَحُ بَعْدَ الْمَوْتِ قَسْرًا مَشَارِبُهْ
إذَا مَا أَكَلْتُمْ خُبْزَكُمْ وَخَزِيرَكُمْ … فَكُلّكُمْ بَاكِي الْوَلِيدِ وَنَادِبُهْ
ثُمّ إنّ النّاس تَرَادّوا وَعَرَفُوا أَنّمَا يَخْشَى الْقَوْمُ السّبّةَ فَأَعْطَتْهُمْ خُزَاعَةُ بَعْضَ الْعَقْلِ وَانْصَرَفُوا عَنْ بَعْضٍ .
فَلَمّا اصْطَلَحَ الْقَوْمُ قَالَ الْجَوْنُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ :
وَقَائِلَةٍ لَمّا اصْطَلَحْنَا تَعَجّبًا … لِمَا قَدْ حَمَلْنَا لِلْوَلِيدِ وَقَائِلِ
أَلَمْ تُقْسِمُوا تُؤْتُوا الْوَلِيدَ ظُلَامَةً … وَلَمّا تَرَوْا يَوْمًا كَثِيرَ الْبَلَابِلِ
فَنَحْنُ خَلَطْنَا الْحَرْبَ بِالسّلْمِ فَاسْتَوَتْ … فَأَمّ هَوَاهُ آمِنًا كُلّ رَاحِلِ
ثُمّ لَمْ يَنْتَهِ الْجَوْنُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ حَتّى افْتَخَرَ بِقَتْلِ الْوَلِيدِ وَذَكَرَ أَنّهُمْ أَصَابُوهُ وَكَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا . فَلَحِقَ بِالْوَلِيدِ وَبِوَلَدِهِ وَقَوْمِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا حَذّرَهُ . فَقَالَ الْجَوْنُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ :
أَلَا زَعَمَ الْمُغِيرَةُ أَنّ كَعْبًا … بِمَكّةَ مِنْهُمْ قَدْرٌ كَثِيرُ
فَلَا تَفْخَرْ مُغِيرَةُ أَنْ تَرَاهَا … بِهَا يَمْشِي الْمُعَلْهَجُ وَالْمَهِيرُ
بِهَا آبَاؤُنَا ، وَبِهَا وُلِدْنَا … كَمَا أَرْسَى بِمَثْبَتِهِ ثَبِيرُ
وَمَا قَالَ الْمُغِيرَةُ ذَلِكَ إلّا … لِيَعْلَمَ شَأْنَنَا أَوْ يَسْتَثِيرُ
فَإِنّ دَمَ الْوَلِيدِ يُطَلّ إنّا … نَطُلّ دِمَاءً أَنْتَ بِهَا خَبِيرُ
كَسَاهُ الْفَاتِكُ الْمَيْمُونُ سَمّهِمَا … زُعَافًا وَهْوَ مُمْتَلِئٌ بَهِيرُ
فَخَرّ بِبَطْنِ مَكّةَ مُسْلَحِبّا … كَأَنّهُ عِنْدَ وَجْبَتِهِ بَعِيرُ
سَيَكْفِينِي مِطَالَ أَبِي هِشَامٍ … صِغَارٌ جَعْدَةُ الْأَوْبَارِ خُورُ( ).
ثم عدا هشام بن الوليد على أبي أزيهر وهو بسوق ذي المجاز فقتله بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى المدينة ووقوع معركة بدر ، وكان أبو أزيهر رجلاً شريفاً في قومه .
وكان أبو سفيان قد تزوج ابنته وكادت تكون فتنة في قريش ، ولكن أبا سفيان تدارك الأمر ومنع ابنه يزيد من القتال ، ولعله أراد تحشيد الرجال والقوة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، وتمر الأيام والأشهر سريعة حتى جاء فتح مكة لينقطع دابر الفتنة , وتزول الأحقاد , وتكون الحكومة والفصل لقوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
الثاني: لو أراد الناس الرجوع إلى ملة سماوية فلابد من الرجوع إلى ملة التوحيد والتنزيل .
الثالث : لو تعارض قول المليين فيجب على الناس الرجوع إلى الأفضل حسب التنزيل .
الرابع : يدل العموم في الذين خرج لهم المسلمون في ظاهره على عدم وجود أمة خارجة للناس في أزمنتهم، فكل أمة خرج لها المسلمون، ويجب أن تنصت للتنزيل وان كانت قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد خرجت للناس.
الخامس : هل يدل التعدد في طرفي الخروج بين المؤمنين والناس على أن الكفر باق إلى يوم القيامة الجواب لا، لأن المراد من الناس أعم ويشمل ذات المسلمين ، وخروج بعضهم إلى بعض ، وهو من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فيشمل المسلمين أنفسهم ، فحتى لو صار الناس كلهم مسلمين فان مضامين الأحكام ومصاديقها العملية باقية بين المسلمين أنفسهم .
لذا فمن إعجاز القرآن في مخاطبة المسلمين بالقول[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( )، إرادة المعنى الأعم للأمر والنهي، وشمولهم للأمر والنهي فيما بين المسلمين والمناجاة بفعل الصالحات والتناهي عن السيئات , وعن الظلم والجور والفساد والإرهاب .
لقد ظلم كفار قريش أنفسهم من جهات :
الأولى : الإمتناع عن الإقرار بالتوحيد .
الثانية : عبادة الأصنام ، ونصبها في البيت الحرام [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الثالثة : الجحود بآيات التنزيل ، والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : الإضرار بالصحابة الأوائل , والاستحواذ على أموالهم وممتلكاتهم .
الخامسة : الإستهزاء والسخرية من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومخاطبته بما فيه تكذيب نبوته .
ومن شكر المسلمين في هذه الأزمنة لله سبحانه الامتناع عن ظلم الغير , وعن ضروب الإرهاب , قال تعالى[وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]( ).
قانون الدنيا دار الآيات اللامتناهية
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا(دار الآيات) فهي مملوءة بالآيات التي تدل على أمور :
الأول: كل الكائنات من خلق الله عز وجل وهي ملك له سبحانه [ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ] ( )، ليقترن الأمر بالعبادة بإقامة الحجة على الناس بتوكيد الربوبية المطلقة لله عز وجل.
ولم تأت هذه الربوبية بعد وجود الأشياء فهو سبحانه[هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
الثاني : ما من شيء إلا وهو ملك لله عز وجل، مع توكيد الملازمة بين الخلق والملك.
الثالث : من الآيات ما هو ثابت ومستديم، ومن الآيات ما هو متحرك ومتبدل، وان كان آية كونية , قال تعالى[وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ]( ).
وفي الآية أعلاه آيات متعددة متداخلة وهي:
الأول : نزول المطر.
الثاني : إن الله عز وجل هو الذي أنزل المطر بقدر ، ولابد أن المشيئة الإلهية تشمل أوان ومكان ومقدار المطر النازل ، وكل فرد منها آية ظاهرة للناس، ومناسبة للتدبر في بديع الخلق، قال تعالى[وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ]( ).
وتبين الآية أن مقدار الماء النازل على كل بقعة من الأرض بمشيئة وأمر ومقدار من الله عز وجل، وأن له غاية هي من مصاديق رحمة الله عز وجل بالناس، وآية ليتعظوا ويعتبروا.
الثالث : بيان الجهة التي ينزل منها الماء والمطر وهي السماء، وفيه آية بأن السماء ملك لله عز وجل وأنها مسخرة لنفع الناس، لتكون سبيلاً للهداية والرشاد ، ومناسبة للتفكر في بديع صنع الله ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( )، وفيه نوع تحد بأن هذا التنزيل لا يقدر عليه غير الله عز وجل، مما يملي على الناس التصديق بالتنزيل مطلقاً ومنه نزول الكتب السماوية التي فيها حياة القلوب، وطرد شبح الغفلة والجهالة، قال تعالى [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ]( )، أي تكون الحياة بالإيمان والتسليم بآيات الله.
ويحتمل عالم البرزخ في المقام وجوهاً :
الأول : إنه من آيات الحياة الدنيا .
الثاني : إنه آيات مستقلة .
الثالث : إنه من آيات الآخرة .
الرابع : إنه جامع للوجوه أعلاه .
والمختار هو الأخير ، ومن منافعه والتذكير به أنه وسيلة للصلاح ، وزاجر عن فعل المعاصي والسيئات ومانع عن الظلم والتعدي ، ومما يدل على صلته بالدنيا.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به ، أو صدقة تجري له، أو ولد صالح يدعو له( ) ، وورد بلفظ (إذا مات المؤمن)( ).
كما ورد ( عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : “إذا مات ابن آدم ، انقطع عمله إلا من ثلاث : من علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده”)( ).
قانون كثرة منافع الغيث والمطر
تبين آيات القرآن النفع العظيم من نزول الماء ومنه خروج الثمرات , المختلفة في أوانها وشكلها ونفعها وحلاوتها , وجاءت الدراسات الطبية الحديثة وعلوم التغذية لتبين حاجة الإنسان للحبوب والخضروات والفاكهة والثمار وإختصاص كل فرد منها بنوع من الفيتامينات , وموضوعيتها في الوقاية من الأمراض والشفاء منها , لتكون من مصاديق قوله تعالى [َوإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ) .
ويجد الإنسان نوعاً من الخضروات أو فاكهة متوفرة عنده , ويستطيع الحصول عليها بيسر وهي ذات منافع عظيمة لبدنه وهو من الشواهد على تغشي رحمة الله عز وجل الناس جميعاً , ودعوة للناس للإعتناء بالبيئة , والتعاون لإستدامة الحياة الهانئة بعيداً عن الإرهاب والإقتتال .
ومن الإعجاز في قوله تعالى[وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( ) أنها لم تقل(فتخرج الثمرات) بل نسبت خروج الثمار إلى الله عز وجل فهو سبحانه الذي يخرجها، وهذا الخروج يمر بمراحل متعددة تبدأ من الحرث والغرس والبذر إلى حين تمام نضوج الثمار وأوان قطفها، وكل فرد منها آية من عند الله ولا يجري ويتم إلا بعلمه ومشيئته، وفيه شاهد على تعدد مصاديق الإحياء في قوله تعالى[وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ] ( ).
فقد تكون حياة الشيء بسبب الماء مباشرة، وقد تكون بالواسطة والمقدمة، وهو من تعدد وتفرع الآيات، بلحاظ أن نزول الماء آية تترشح وتتفرع عنها آيات كثيرة.
وأطلقت الآية نزول الماء من السماء ولم تقيد نفعه للناس لأنه نافع للدواب والأشجار والزراعات والثمار والأرض والإنسان، بينما جاء التقييد في الثمرات بكونها رزقاً للناس باختلاف طعومها وألوانها وأشكالها وأوانها ومكانها.
فان قلت من الثمرات ما يكون رزقاً للبهائم، والجواب إنه أيضاً رزق للإنسان ولكن بالواسطة لأن هذه البهائم مسخرة للإنسان.
كثرة الآيات كماً ونوعاً
قال تعالى [وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ* إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] ( ) ستبقى الآيات الكونية الجامع المشترك للموحدين وموضوع المودة بينهم , والشاهد على إتخاذهم العقل والنقل طريقاً للهداية والإيمان .
وتكون الآيات على وجوه :
الأول: الآيات التي تأتي للفرد الواحد من الناس، في نفسه وما حوله، وأسباب التذكير بعظيم قدرة الله، وبديع صنعه.
الثاني: الدلالات والبراهين التي تأتي للجماعة والأمة، ويتعظ منها الأفراد.
الثالث:المعجزات والآيات التي تأتي للفرد والجماعة في آن واحد، لتكون حجة بالغة ودليلاً قاطعاً على وجوب عبادة الله، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ]( ).
فان قيل إذا كانوا يرون الآيات فلماذا يكفرون بها.
والجواب إن اللوم الذي تتضمنه الآية يفيد هذا المعنى، ويدعو الناس للكف عن الجحود بالآيات، مع ما في الآية من الشهادة السماوية على تلك الآيات.
ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عموم الآيات التي تذكرها الآية أعلاه، لوجوه:
الأول: إرادة الإطلاق في قوله تعالى(آياتنا) وتسمية القرآن بأنه آيات الله، قال تعالى[كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا] ( ).
الثاني:التعدد والتفرع في آيات الله ودعوة آيات القرآن للتدبر في آيات الآفاق , وفيه نشر للواء السلم والمهادنة بين الناس , والإبتعاد عن القتل والتفجيرات .
الثالث: من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الآفاق إنتشار مبادئ الإسلام وتحقق الفتوحات بآية من الله ونزول الملائكة لنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معارك الإسلام الولى بآية ظاهرة في تكرار هزيمة الكفار مع كثرة عددهم وأسلحتهم وخيلهم.
ويتضمن قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا] الوعد الوعيد في الأجل القريب لدلالة المسلمين على إرادة المستقبل القريب، أي أن الذين يكفرون بآيات الله سيأتيهم ما يجعلهم يؤمنون أو ينزل بهم العذاب قال تعالى[سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ] ( )، ليكون العفو للتائبين ونزول العذاب بالمستكبرين من آيات الله.
وفي اللوم الموجه إلى الذين يكفرون بآيات الله تحذير من مجالستهم أوان جحودهم بالآيات والإستهزاء بلحاظ قوله تعالى[إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ]( ) .
ويدل هذا التحذير في مفهومه على الإمتناع عن العنف والبطش بهم , من غير أن تكون قطيعة معهم .
ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من آيات الله لبيان حال الجهاد عند المسلمين بالإعراض عن القوم الظالمين ما داموا متلبسين بإنكار المعجزات وظاهر الآية أعلاه جواز مجالستهم إذا تحدثوا في موضوع آخر، أو إنشغلوا في المعاملات مثلاً.
وقال الحسن البصري ان إباحة المجالسة إذا خاضوا في حديث غيره منسوخ بقوله تعالى[فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] ( ).
ولا دليل على هذا النسخ، لأن الآية أعلاه من الذكرى، والقدر المتيقن من النهي هو ظلمهم لنفسهم ساعة الإستهزاء بالآيات فيكون ترك القعود معهم نوع إعراض وتأديب لهم وللذات.
وقيل الآية أعلاه من سورة الأنعام وردت بخصوص المنافقين ولكنها أعم في موضوعها وحكمها، ومنهم من يتعمد إظهار الجحود بآيات الله ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا جلس عنده المسلم.
فجاءت الآية لمنع الفتنة والإفتتان، وتوكيد تنزه وإعراض المسلمين عن الجدال , وأسباب الكدورة , وشدة الخصومة , فمن خصائص الحياة الدنيا ترشح المنافع عن التعاون بين الناس جماعات وشعوبا وأمما , ويكون الإرهاب حاجزا دون هذا التعاون , وباعثا للنفرة في النفوس , مما يسبب بأضرار اقتصادية , وتعطيل للأعمال .
قراءة في الجزء 210
الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره ، وسؤالاً لرحمته ، ورجاء لعفوه ، وباب تفقه وإرتقاء في المعارف الإلهية .
قال تعالى [وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] ( ) بهذه الآية الكريمة وكلمات الشكر إبتدأتُ الجزء العاشر بعد المائتين بفضل من عند الله ، وهو خاص بقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب ) والذي صدرت بخصوصه أيضاً الأجزاء (184-185-188-195-199-203-210) في مسألة إبتلائية في هذا الزمان فتستنبط الأحكام المناسبة لها من القرآن باجتهاد وحكمة .
وقد تضمن هذا الجزء أصولاً :
الأول : ذكر مادة الإرهاب أكثر من (550) مرة.
الثاني : تضمن الجزء 210 مائة واثنين وثلاثين عنواناً ، وكل عنوان أو عنوانين معاً يكون موضوعاً لدراسة ماجستير أو دكتوراه اليوم أو غداً.
الثالث : ورود ثمانية وعشرين قانوناً مع الشرح والإستدلال والبرهان.
منها قانون التضاد وبين الحكم التكليفي والإرهاب والنسبة بين قانون التضاد بين القرآن والإرهاب وهذا القانون هي العموم والخصوص المطلق بلحاظ قانون وهو أن الأحكام التكليفية الخمسة من القرآن ، وهي الواجب والمندوب والإباحة والمكروه والحرام .
وقانون التنافي بين الإرهاب والفطرة الإنسانية ، وفيه تأكيد لقانون وهو ما من نبي إلا وقد جاء بحرمة الإرهاب ، ويدل عليه آيات إنكار قتل قابيل ابن آدم لأخيه هابيل ، ودعوة الأنبياء بالحجة والبرهان ورفع لواء السلم ، لبيان قبحه الذاتي وقانون حرمة الإرهاب والإرهاب الموازي .
وقانون النداء القرآني زاجر عن الإرهاب ، ترى ما هي النسبة بين الخطاب القرآني والنداء القرآنية ، المختار أنها نسبةالعموم والخصوص المطلق، فالخطاب أعم ، وأيضاً قد يأتي الخطاب بصيغة الجملة الخبرية كما في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) .
ومن النداء نداء الإيمان التشريفي أو نداء يا أهل الكتاب ، وورد النداء للذين آمنوا تسعاً وثمانين مرة في الأوامر والنواهي ، وقد يتضمن أمراً أو أكثر من أمر ، أو أمرا وقتياً أو رئيسياً .
أو يأتي على نحو الإستفهام الإنكاري كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ] ( ) وذكر أن الآية نزلت فيمن يقول : قاتلت وهو لم يقاتل وطعنت ولم يطعن ، وضربت ولم يضرب ، وقتلت ولم يقتل، أي أن الآية تمنع من المدح كذباً ومن التفاخر بالقتال والقتل .
ومن أسباب نزول الآية أن المنافقين إذ كانوا يقولون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم وقاتلنا ، فلما جاء المشركون في معركة أحد غازين نكص المنافقون على اعقابهم .
وسئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام (قول الله عزوجل: ” يا أيها الذين آمنوا ” في غير مكان في مخاطبة المؤمنين أيدخل في هذه المنافقون ؟
قال: نعم يدخل في هذه المنافقون والضلال وكل من أقر بالدعوة الظاهرة) ( ).
وجاء النداء العام [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] في القرآن دعوة للتآخي والوئام بين الناس ، منها قوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] ( ) .
وتكرر الأمر في الآية [اتَّقُوا رَبَّكُمْ] و[وَاتَّقُوا اللَّهَ] لبيان أن الرب هو الله ، فقد يعبد بعض الطوائف الأصنام أو الطاغوت ، كما في فرعون [فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى] ( ) .
فجاءت الآية للبيان والتعيين وأن المقصود بالرب هو الله ، وكما يلتقي أجيال الناس بأب وأم فانهم يلتقون بالعبودية لله الذي خلقهم ، وهل هو من عطف البيان أم أن هذا العطف خاص بالمفردات دون الجمل ، المختار هو الأول .
ولم يرد اسم حواء في القرآن ، وإنما ورد اسمها على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو اسم علم مؤنث ، وهو أول اسم لامرأة في الأرض .
وعن ابن عباس أنها سميت حواء أنها أم كل حي ، فكل الناس إنما هم من حواء ، وذكر أنا ولدت لأدم أربعين مولداً في عشرين بطناً ، وأن كل بطن تلد توأماً ذكراً وانثى ، وهو بعيد إلا أن يشاء الله ، فعادة ما يأتي التوأم على أحد وجوه :
الأول : ذكران .
الثاني : بنتان .
الثالث : ذكر وأنثى .
وذكر القرطبي خبراً ولكنه لم يرفعه ، قال (وزوج آدم عليه السلام وهي حواء عليها السلام وهو أول من سماها بذلك حين خلقت من ضلعه من غير أن يحس آدم عليه السلام بذلك ولو ألم بذلك لم يعطف رجل على امرأته فلما انتبه قبل له : من هذه ؟
قال : امرأة .
قيل : وما اسمها ؟
قال : حواء.
قيل : ولم سميت امرأة ؟
قال : لأنها من المرء أخذت.
قيل : ولم سميت حواء ؟
قال : لأنها خلقت من حي روي أن الملائكة سألته عن ذلك لتجرب علمه وأنهم قالوا له : أتحبها يا آدم ؟
قال : نعم قالوا لحواء : أتحبينه يا حواء ؟
قالت : لا وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبه .
قالوا : فلو صدقت امرأة في حبها لزوجها لصدقت حواء.
وقال ابن مسعود وابن عباس : لما اُسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشا فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصرى من شقه الأيسر ليسكن إليها ويأنس بها فلما انتبه رآها فقال : من أنت ؟ !
قالت : امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي وهو معنى قوله تعالى : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها }( ) .
قال العلماء : ولهذا كانت المرأة عوجاء لأنها خلقت من أعوج وهو الضلع .
وعن ابي هريرة : قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
[ إن المرأة خلقت من ضلع ـ في رواية : وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ـ لن يستقيم لك على طريقة واحدة فإن استمتعت بها استمعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها) ( ).
ورد النداء الخاص من الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ) .
لتدل الآية بالدلالة التضمنية على نهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عن العنف والقتل والغزو ، إذ أنها تمنع من الحزن عليهم ، وفيه بشارة بنزول البلاء بهم .
كما ورد النداء الخاص إلى آدم بقوله تعالى [وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ) وفي الآية وجوه :
الأول : أمر يتعلق بسكن آدم وسكن زوجته ، وهو من الشواهد على أن المرأة تتبع بعلها في السكن ، وأن فيه السعادة والغبطة إلا مع الدليل أو القرينة على وجود حرج أو ضرر في هذا السكن لقانون في علم الأصول كل ما فيه أذى وضرر ، وليس فيه نفع فهو محرم .
الثاني : الأمر المشترك إلى آدم وحواء بالأكل الهنيئ من ثمار الجنة .
الثالث : النهي عن الأكل من شجرة مخصوصة ، وفي حين جاء الأمر بالسكن إلى آدم فان النهي متعدد ، لأنه من التكاليف ، وفيه شاهد بأن المرأة وان كانت تقيم مع زوجها فانها مكلف مستقل .
وجاء النداء في القرآن إلى ذي القرنين [قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا] ( ) (عن الأحوص بن حكيم عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : سئل عن ذي القرنين فقال : هو ملك مسح الأرض بالإحسان .
وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة ، عن خالد بن معدان الكلاعي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن ذي القرنين فقال : ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب) ( ).
كما جاء النداء في القرآن [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ).
قانون التنافي بين مكارم الأخلاق والإرهاب
من خصائص أحكام الشريعة أنها تأديب وتعليم للمسلمين والمسلمات، وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : بعثت لإتمم مكارم الأخلاق( ).
وفيه شاهد على اتصاف الآية القرآنية بوجوه :
الأول : قانون دعوة الآية القرآنية الى الأخلاق الحميدة .
الثاني : قانون تلاوة المسلم للقرآن في الصلاة تنمية وتعاهد للأخلاق والآداب الحسنة .
الثالث : قانون كل آية قرآنية تدعو إلى مكارم الأخلاق .
الرابع : قانون القرآن مدرسة الإصلاح والرشاد .
الخامس : يتجلى للناس قانون وهو التنافي بين مكارم الأخلاق والإرهاب .
لذا فان قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه زجر عن الإرهاب ونهي عن مقدماته ، ودعوة نبوية للتبرأ منه ، فمن الإعجاز في السنة النبوية تأديب المسلمين بالمنطوق والمفهوم ، والحديث العام في موضوعه ، أو الخاص في دلالته وشرطه .
وتحتمل مكارم الأخلاق وجوها :
الأول : إنها من الواجب العيني .
الثاني : إنها من الواجب الكفائي .
الثالث : التفصيل فشطر منها من الواجب العيني ، والآخر من الواجب الكفائي .
الرابع : مكارم الأخلاق من المستحب العيني .
الخامس : إنها من المستحب الكفائي .
السادس : مكارم الأخلاق واجب على المسلمين دون غيرهم من الناس.
والمختار أن مكارم الأخلاق من الواجب العيني ، سواء في البيت أو العمل أو المسجد ومع المسلمين أو أهل الكتاب أو غيرهم من الناس لأصالة الإطلاق في الحديث : بعثت لاتمم مكارم الأخلاق .
ويكون تقدير الحديث بلحاظ موضوع هذا الجزء على وجوه :
الأول : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فتكون واقية من الظلم والإرهاب .
الثاني : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق لتكون عوناً للمؤمنين على أداء الوظائف العبادية .
الثالث : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق التي جاء بها الأنبياء والرسل .
الرابع : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، لحصانة الناس من الإرهاب وصرف أضراره.
الخامس : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ليتعاون الناس في سبيل الخير والصلاح .
السادس : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ليتنزه المسلمون والناس عن المناجاة بالشر والبطش والإنتقام .
السابع : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق لعصمة المجتمعات من القلق والهلع والخوف الذي يسببه الإرهاب .
الثامن : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ، فليس من عنصرية بين الناس ، قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ).
التاسع : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق لأنها الطريق إلى الجنة .
العاشر : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وتنمية ملكة الخلق الحميد ، وجعلل النطق السديد هو الميزان (عن علقمة بن وقاص الليثى ان بلال بن الحارث المزني قال له إنى رأيتك تدخل على هؤلاء الامراء وتغشاهم فانظر ماذا تحاضرهم به فانى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ان الرجل ليتكلم بالكلمة من الخير ما يعلم مبلغها يكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه .
وان الرجل ليتكلم بالكلمة من الشر ما يعلم مبلغها يكتب الله عليه سخطه إلى يوم يلقاه فكان علقمة يقول رب حديث قد حال بينى وبينه ما سمعت من بلال) ( ).
والسنة النبوية بيان ومرآة للقرآن وهذا الحديث من معاني ومصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وإتمام مكارم الأخلاق بنبوة محمد من رشحات ختم النبوات برسالته ، قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
ولا يختص حديث مكارم الأخلاق ووجوبها بالمسلمين ، إنما هي واجب على كل انسان لأنها من مصاديق خلافته في الأرض ، وملائمتها للفطرة الإنسانية ، وبالإسناد عن (ابن شريح الخزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت .
وأخرج البخاري والبيهقي عن سهل بن سعد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)( )، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحصر القول بالكلمة الطيبة والسكوت فمن باب الأولوية أنه يحصر الفعل بين العمل الصالح وبين كف الأذى عن الناس مطلقاً ، والإرهاب ليس أذى فقط إنما هو ضرر خاص وعام من وجوه :
الأول : قانون الإرهاب ضرر لصاحبه في الدنيا والآخرة .
الثاني : قانون الإرهاب سفكَُ للدماء الذي حذرت منه الملائكة يوم خلق آدم كما في قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ليكون من مصاديق علم الله عز وجل في المقام بعثة الأنبياء بالأخلاق الحميدة ، وجهادهم في إصلاح المجتمعات وإشاعة الرفق والود بينهم .
الثالث : قانون الإرهاب ضرر محض .
الرابع : قانون لحوق ضرر الإرهاب لذوي الذي يقوم به سواء أصوله من الأبوين والأجداد أو فروعه من الأبناء ذكوراً وأناثاً .
الخامس : قانون إضرار الإرهاب بالمجتمع والدولة .
السادس : قانون في الإرهاب هدر للأموال وتشتيت للطاقات والجهود .
وهل ود النصارى للمسلمين في قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( )، من وحدة سنخية مكارم الأخلاق التي جاء بها موسى وعيسى والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقوله تعالى [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ]( ).
الجواب نعم .
ومن مكارم الأخلاق إفشاء السلام ، وهو عنوان الأمن والسلم المجتمعي والمحبة وسبب كظم الغيظ ، ونزع فتيل الفتنة ، لذا فان السلام تحية الملائكة ليفشيه المسلمون في الأرض ، ويكون مقدمة للإمتناع عن الإرهاب ، وحصناً للنفوس من الميل اليه ، وترى الغالبية العظمى من أهل الأرض ينفرون من الإرهاب .
وعندما وضع معاذ رجله في الغرز وهو متوجه إلى اليمن والياً قال له النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أَحْسِنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ)( ).
ووردت الوصية بالرأفة والإحسان للناس جميعاً ، إذ تفيد الألف واللام العموم الإستغراقي ، وكان آنذاك يسكن اليمن المسلم والنصراني والمجوسي والوثني ، فلم يكن اسلام أهل اليمن دفعة وسوية .
وقد وجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً إلى باذان حاكم صنعاء وما حولها من قبل كسرى ، تقدم ذكرها في جزء سابق ، كما كانت للقبائل سطوتها منها :
الأولى : حٍمير ، وهب أكبر وأعرق قبائل اليمن ، وقد أسلم ملوك حِمير وأرسلوا مالك بن مرارة الرهاوي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شهر رمضان من السنة التاسعة للهجرة بكتاب يتضمن اسلامهم وهم :
الأول : الحارث بن عبد كلال .
الثاني : نعيم بن عبد كلال .
الثالث : النعمان قيل ذي رُعين.
الرابع : معافر .
الخامس : همدان) ( ).
وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مالك بن مرارة مع معاذ بن جبل إلى اليمن .
الثانية : حضرموت ، إذ أن هذا الاسم يصدق على القبيلة وعلى الأقليم، ومنهم العلاء بن عبد الله بن عماد الحضرمي ، وهو من قبيلة الصدف من حضرموت ، وهو عامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على البحرين، ومات فيها سنة إحدى وعشرين للهجرة بعد أن عاد لها والياً.
(وأخوه ميمون الحضرمي صاحب بئر ميمون وكان قد حفرها في الجاهلية وكان العلاء الحضرمي مستجاب الدعوة كان دعاءه الذي يدعو به يا علي يا حكيم يا علي يا عظيم ) ( ).
وعن ابو موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب) ( ).
عندها هاجر بعض الصحابة إلى المدينة ، وعاد إليها جماعة ممن هاجروا إلى الحبشة ، لإدراكهم أن رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي .
الثالثة : هَمدان .
الرابعة : كندة .
(قالوا: ولّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمرو بن حزم الأنصاري نجران؛ وزياد بن لبيد، من بني بياضة، من الأنصار، حضرموت، وخالد ابن سعيد بن العاص بن أمية صنعاء .
والمهاجر بن أبي أمية المخزومي كندة والصدف، وأبا موسى الأشعري عبد الله بن قيسن زبيد، ورمع، وعدن، والساحل .
ومعاذ بن جبل الأنصاري الجنّد، والقضاء، وتعليم الناس الإسلام، وشرائعه، وقراءة القرآن، وقبض الصدقة من عمال اليمن.) ( ).
و(عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتِ : اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَأَنَا عِنْدَهُ ، فَقَالَ : بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ أَخُو الْعَشِيرَةِ ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ، فَأَلاَنَ لَهُ الْقَوْلَ ، فَلَمَّا خَرَجَ .
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قُلْتَ مَا قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ .
فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ ، إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ)( ).
لإرادة النبي الإيلاف ، والإصلاح وجذبه إلى سبل السلام ، مع الصبر على الأذى ، وقد نزلت آية الصدقات باعطاء سهم للمؤلفة قلوبهم لصرف أذاهم ، والمنع من أضرار ترجل سوء سريرتهم في السلوك العام ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( )،
للمداراة في الدنيا رجاء الهداية والإيمان والفحش الذي يذكره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أعلاه أدنى مراتب من الإرهاب مما يدل على لزوم إجتناب الإرهاب ومقدماته ، وأنه شر محض.
وورد عن (سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من سعادة ابن آدم حسن الخلق) ( ).
ولم يأت الحديث بالحصر بالمسلم أو المؤمن ، إنما ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ابن آدم عامة ، لبيان وجوب تحلي كل إنسان بحسن الخلق ، لبيان أن تنزه الإنسان عن الإرهاب سعادة وغبطة له في الدارين ، إذ تصاحب قصد الإرهاب ومقدماته كآبة وكدورة وغيظ لا أصل له ليدعو الحديث أعلاه الشباب المسلم إلى السعادة بالألفة والسكينة وحسن العشرة مع الناس جميعاً .
(عن عرفجة قال كنت في بيت فيه عتبة بن فرقد قال أحدث بحديث وكان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنه أولى بالحديث فحدث الرجل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في رمضان تفتح له أبواب السماء وتغلق فيه أبواب النار ويصفد فيه كل شيطان مريد وينادي مناد كل ليلة يا طالب الخير هلم ويا طالب الشر أمسك) ( ).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم (يا أيها الناس ، هلموا إلى ربكم ، إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى ، يا أيها الناس ، إنما هما نجدان : نجد خير ، ونجد شر ، فما يجعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير) ( ).
فتوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ندائه إلى الناس جميعاً للجوء إلى مسالك الخير والصلاح ، ونبذ الشر وما فيه الأذى والضرر ، وهو من معاني قوله تعالى [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ] ( ) .
و(عن مكحول قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يقول الله يا ابن آدم قد أنعمت عليك نعماً عظاماً لا تحصي عدها ، ولا تطيق شكرها ، وإن مما أنعمت عليك أن جعلت لك عينين تنظر بهما ، وجعلت لهما غطاء فانظر بعينيك إلى ما أحللت لك .
فإن رأيت ما حرمت عليك فأطبق عليهما غطاءهما ، وجعلت لك لساناً وجعلت له غلافاً فانطق بما أمرتك وأحللت لك ، فإن عرض لك ما حرمت عليك فأغلق عليك لسانك .
وجعلت لك فرجاً وجعلت لك ستراً فأصب بفرجك ما أحللت لك ، فإن عرض لك ما حرمت عليك فأرخ عليك سترك .
ابن آدم إنك لا تحمل سخطي ولا تستطيع انتقامي) ( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn