المقدمـــــــــــــة
الحمد لله الهادي لمن استهداه ، وكذا من لم يسأله الهداية فضلاً ولطفاً منه تعالى ، الحمد لله الكافي لمن لجأ إليه واستغاث به في المهمات والشدائد ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الحمد لله الذي لا إله إلا هو سبحانه لا شريك له ولا ربّ في الأرض والسماء سواه ، واشهد أن محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده وصدّق المرسلين .
لقد تفضل الله عز وجل وذكر سؤال ورجاء الملائكة في القرآن [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، ليكون حرص المسلمين على التنزه عن الفساد من مصاديق إجابة الله عز وجل لهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ولبيان قانون وهو كل أمر ومشيئة وزجر من عند الله رحمة عامة ، وفضل منه سبحانه فلا يعلم أحد ما في إخبار الله الملائكة عن خلق آدم وجعله وذريته (خلفاء في الأرض) إلا الله سبحانه .
ومن بركات هذا الإخبار أمور :
الأول : دعاء الملائكة للناس .
الثاني : تحذير الملائكة الناس من الفساد والقتل ، وصحيح أن آدم لم يفسد ولم يقتل أحداً ، ولكن هل في الآية أعلاه تحذير له من قتل أحد ولديه للآخر ، الجواب نعم.
وهل قامت الملائكة بتحذير آدم من هذا القتل عندما كان يعيش بين ظهرانيهم في الجنة الأقرب لا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) لبيان أن الملائكة علموا بحدوث الفساد والقتل في الأرض على نحو الإجمال ، إذ يبدأ ذكر قصة الخلاف والخصومة بين ولدي آدم من تقريب كل منهما قربانه .
الثالث : سجود الملائكة لآدم بأمر من الله عز وجل .
الرابع : إكرام الملائكة لبني آدم بلحاظ التقوى وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
الحمد لله الذي جعل الحمد ضياءً ينير مسالك الهدى ، ونوراً يشع على أركان وأعضاء وحواس الذي ينطق بها ، ليجعل الدنيا بهيجة ، إذ جعلها الله عز وجل (دار الحمد ) ، وهذا الجعل من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) .
الحمد لله الذي جعل الإنسان يدرك أن الحمد لا يستديم إلا له وحده ، فقد يقع الثناء والحمد بين الناس ، وهذا الحمد من رشحات فضل الله عليهم ، وإعانة بعضهم بعضاً ليكون مناسبة لشكر الله عز وجل ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ) أي تعاونوا بما فيه الحمد لله ، واشكروا الله عز وجل على التوفيق للتعاون والتآزر لإجتناب السيئات والفواحش .
الحمد لله الذي جعل المؤمنين يقفون حامدين شاكرين له في الصلاة ، قال تعالى [إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا *إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ] ( ) .
لبيان أن الحمد لله يصرف عن الإنسان الهلع والجزع ، إذ أن الحمد لله مناسبة للصبر والتحمل واستحضار لفضل الله عز وجل وتعدد نعمه ، ليكون الأذى الذي يطرأ على الإنسان عرضاً زائلاً لا ينهض لمعارضة لسان الحمد والشكر لله .
وهل الحمد لله سبب لسرعة زوال الأذى ، وصرف المصيبة وآثارها ، الجواب نعم ليكون من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، يمحو الله الأذى والضرر بالدعاء والمسألة والصدقة وفيه ترغيب للناس باللجوء إلى الله والتقرب إليه بالعمل الصالح , وفي التنزيل [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا]( ).
وأسأل الله عز وجل أن يكون هذ الجزء من تفسيري للقرآن وسيلة مباركة للتقرب إليه سبحانه وأن يجعل فيه النفع للمسلمين وعموم الناس في هذا الزمان وعند الأجيال اللاحقة ، رجاء الأجر والثواب .
الحمد لله الذي جعل الحمد باعثاً لفعل الخيرات ، ودافعاً لشدة الحرص.
الحمد لله الذي جعل الحمد لله طريقاً سالكة للإستقامة وحسن السيرة والفوز برضاه ومحبته ، وهذا الحب واقية في الدنيا والآخرة ، ومن أحبه الله حفظه وذبّ عنه ، وأعلى شأنه .
ومن إعجاز القرآن بيان خصائص وخصال الذين يحبهم الله ، ومن آيات حب الله للعباد :
الأولى : قال تعالى [ وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الثانية : قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( ).
الثالثة : قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ]( ).
الرابعة : قال تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
الخامسة : قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
السادسة: قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( ).
ليكون من معاني حب الله اللطف والجزاء الحسن ، قال تعالى [وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْط] ( ) وقد تأتي الكلمة بمعنى متضاد كما يعرف من القرائن ، كما في قوله تعالى [وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ] ( ) أي الجائرون العادلون عن الحق .
الحمد لله الذي أنعم علينا بصدور هذا الجزء وهو الثاني عشر بعد المائتين وهو خاص بقانون لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً ، وفيه شذرات من التفسير وعلم الكلام والسنة النبوية ، وشواهد من الوقائع التأريخية التي تؤكد هذا القانون .
وقد صدرت بهذا العنوان كل من الأجزاء :
الأول : الجزء الرابع والستون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والستون بعد المائة .
الثالث: الجزء السادس والستون بعد المائة .
الرابع : الجزء الثامن والستون بعد المائة .
الخامس : الجزء التاسع والستون بعد المائة .
السادس :الجزء السبعون بعد المائة .
السابع :الجزء الواحد والسبعون بعد المائة .
الثامن :الجزء الثاني والسبعون بعد المائة .
التاسع :الجزء الرابع والسبعون بعد المائة .
العاشر :الجزء السادس والسبعون بعد المائة .
الحادي عشر :الجزء السابع والسبعون بعد المائة .
الثاني عشر :الجزء الثامن والسبعون بعد المائة .
الثالث عشر :الجزء الثمانون بعد المائة .
الرابع عشر :الجزء الواحد والثمانون بعد المائة .
الخامس عشر :الجزء الثاني والثمانون بعد المائة .
السادس عشر :الجزء الثالث والثمانون بعد المائة
السابع عشر :الجزء السابع والثمانون بعد المائة .
الثامن عشر : الجزء الثالث والتسعون بعد المائة .
التاسع عشر :الجزء الرابع والتسعون بعد المائة .
العشرون : الجزء السادس والتسعون بعد المائة.
الواحد والعشرون : الجزء الرابع بعد المائتين .
في بيان علمي لحقائق من التنزيل والسنة بلحاظ قانون وهو أن السنة النبوية مرآة للقرآن وآياته .
الحمد لله دائم الفضل عظيم الإحسان ، سريع الرضا ، مظهر الجميل ، ساتر القبيح ، حسن التجاوز ، المبتدأ بالعفو والمغفرة ، لا إله إلا هو بيده مقاليد الأمور , قال تعالى [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ).
الحمد لله الذي بعزته تتم الصالحات ، وتستديم النعم الذي أظهر الإسلام بمعجزات منه تعالى ، وليس بالغزو أو القتل ، ومن هذه المعجزات خروج النبوة والتنزيل والإسلام بسلام وآمن من قهر قريش للنبي وأصحابه في مكة ، ومن غزوهم في المدينة .
وبينما كان مشركو قريش يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت ويضربون عليهم الحصار في شعب أبي طالب بما يخالف الأعراف والقيم في كل زمان ، ويعذبون طائفة من أصحاب النبي اتجهوا صوب قتله غيلة فأمره الله عز وجل بالهجرة ، وكان طريقها أكثر خطورة وضرراً لأنه صار مكشوفاً لقريش خاصة بعد أن جعلت جعلاً ومالاً كثيراً مائتي ناقة لمن يأتي به وبصاحبه ، فانجاه الله بمعجزة وآية منه تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ) .
لتقوم قريش بتجهيز الجيوش العظيمة لمحاربته وترسل الأفراد لإغتياله ، وتطل جيوشهم على المدينة تارة كما في معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وتحاصرها مرة أخرى كما في معركة الخندق في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ، ومع هذا تنسب هذه الوقائع بأنها غزوات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يحتاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهجوم والغزو .
فالمعجزات وآيات القرآن هي التي تغزو المجتمعات الحضرية والقبلية والمنتديات والبيوت ، وتستقر في القلوب ، وتجري على الألسن طوعاً وانطباقاً وقهراً .
ومن الإعجاز في المقام إتصاف السور المكية بالقصر والإرتقاء في البلاغة بما يفوق صناعة النثر ونظم الشعر الذي امتاز به العرب آنذاك إذ كان زمان البلاغة والفصاحة والبيان ، ولم ينزل القرآن لهم وحدهم إنما نزلت لكل المجتمعات على التباين بينها ليعجز الجميع .
ويكون هذا الإعجاز دعوة لهم للإيمان ، وانتهاج سبل الهدى ، والإمتناع عن غزو المدينة ، ومن الغرائب في المقام أن عشيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم مجاورو البيت الحرام هم الذين قاموا بشن الهجمات واكثروا من غزو المدينة وأطرافها ، وأشاعوا التعذيب والقتل بالمؤمنين .
وكان العرب يحجون كل عام إلى البيت الحرام وهو ممتلئ بثلاثمائة وستين صنماً ، فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بآيات القرآن يدعوهم إلى الهدى والتقوى ، قال تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الحمد لله الذي جعل حبه وحب أنبيائه ملكة ثابتة في قلوب المؤمنين ، وواقية من فعل السيئات ، وآية في النفوس والسلوك ، وشاهداً على التقوى، وعن ابن عباس أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إني لأحبك حتى إني لأذكرك في المنزل فيشق ذلك علي وأحب أن أكون معك في الدرجة.
فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً، فأنزل الله عز وجل وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا.
الحمد لله الذي جعل الدنيا (دار الوعد) ويشترك المؤمن الكافر في وعود الدنيا والنهل من خيراتها وما فيها من الطيبات ، قال تعالى [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
ويختص المؤمنون بالوعود الأخروية وهي من اللامتناهي ، وفي كثرتها والعجز عن تصورها في الوجود الذهني ترغيب بالمسارعة في الخيرات والإقامة على إتيان الفرائض العبادية .
الحمد لله في سري وهو سبحانه عالم [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى]( )، الحمد لله في علانيتي وجهري ، والشكر له سبحانه لأنه أحاط بكل شئ علماً ، وجعلني من الشاكرين له .
الحمد لله في سعدي وحزني ، وهو سبحانه الذي جعل أيام السعد أكثر من أيام الحزن ، كما يدخل السعد في ثنايا الحزن ، الحمد لله على حمدي وشكري ، وأسأله تعالى أن تكون ذريتي على ذات النهج في عقد الحمد ، ونظم الشكر وزيادة بفضل من الله في زمان تتقاذف فيه الرياح الرغائب ، وتخالط الأوهام الأفكار ، لحاجتهم في النشأتين للثبات في مقامات الحمد ، وفيه الفلاح ، وفي التنزيل [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار النبوة والتنزيل) فلا يفارقان الناس ، وإن فارقهما شطر من الناس فانهما يلحان مجتمعين ومتفرقين عليهم بالعودة والإنابة إليهما ، ولقد جعل الله عز وجل البيت الحرام شاخصاً كريماً يدعو إليها.
الحمد لله الذي جعل كل مسلم يقول عند رفع رأسه من الركوع (سمع الله لمن حمده) لبيان أن أداء المسلمين والمسلمات الصلاة خمس مرات في اليوم بسبعة عشر ركوعاً غنى عن الغزو ، وبرزخ دونه .
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إقامته العدل ونشر ألوية الأخاء بين البشر ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
وعن جابر بن عبد الله قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال : يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد ، ألا إن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ألا هل بلغت قالوا : بلى يا رسول الله .
قال : فليبلغ الشاهد الغائب .
وفي مرسلة إبن اسحاق بخصوص يوم فتح مكة قال (أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ أَلَا كُلّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدّعَى فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ إلّا سَدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ أَلَا وَقَتِيلُ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسّوْطِ وَالْعَصَا ، فَفِيهِ الدّيَةُ مُغَلّظَةً مِئَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا . يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّ اللّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَعَظّمَهَا بِالْآبَاءِ النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( )، الْآيَةَ كُلّهَا .
ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تُرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ ، قَالُوا : خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ . قَالَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ) ( ).
لبيان مسألة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخل مكة غازياً ، ولم يترتب على دخوله لها وفتحها إلا الخير وسبل الهداية لأهلها والناس جميعاً .
وليس بين فتح مكة وبين تولي بعض أهلها الإمارة والشأن وشؤون الرياسة إلا أيام ، لتأكيد عدم إنقطاع أو حجب النعمة التي وعد بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً في بدايات البعثة بأنهم لو اسلموا لنالوا الرفعة والشأن .
فحينما جاء وفد من وجهاء قريش إلى أبي طالب يشكون قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم شتم ألهتهم ، وما فيه من التعريض بهم وبآبائهم لأنهم كانوا يعبدون هذه الآلهة ، أرسل أبو طالب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره بحضورهم , وما جاءوا من أجله فقال صلى الله عليه وآله وسلم : يا عم ، أو لا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها ، قال : وإلى ما تدعوهم .
قال : أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم ” فقال أبو جهل : ما هي وأبيك لنعطيكهما وعشر أمثالها؟ قال: ” يقولون لا إله إلا الله .
فتفرقوا وقالوا سلنا غير هذه .
فقال: لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ، ما أسألكم غيرها ” فغضبوا وقاموا من عنده ، وقالوا : لنشتمنك وإلهك الذي يأمرك بهذا. ونزل قوله تعالى وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ.
ونبين هنا ولعله لأول معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أن محاربة قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وغزوهم المتكرر للمدينة لم يقطع هذه النعمة .
وعن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ( ان أنسابكم هذه ليست بسباب على أحد و انما أنتم بنوا آدم طف( ) الصاع أن تملؤوه ليس لأحد على أحد فضل الا بدِين أو عمل صالح حسب امرئ أن يكون فاحشا بذيئا بخيلاً حلافاً( ).
وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله يقول يوم القيامة أمرتكم فضيعتم ما عهدت إليكم ورفعتم أنسابكم فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم ، أين المتقون ، أين المتقون ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم .
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يقول الله يوم القيامة : أيها الناس إني جعلت نسباً وجعلتم نسباً فجعلت أكرمكم عند الله أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا فلان أكرم من فلان وفلان أكرم من فلان ، وإني اليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم ، ألا أن أوليائي المتقون .
وأخرج الخطيب عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا كان يوم القيامة أوقف العباد بين يدي الله تعالى غرلاً بهماً فيقول الله : عبادي أمرتكم فضيعتم أمري ، ورفعتم أنسابكم فتفاخرتم بها اليوم أضع أنسابكم ، أنا الملك الديّان أين المتقون ، أين المتقون، إن أكرمكم عند الله أتقاكم( ).
ومن خصائص الحياة الدنيا مفاجأة ضروب من النعم للإنسان في كل يوم من أيام حياته ومنها ما هو متجدد ، ومنها ما هو طارئ مستحدث ، وقد تكون سعادته بالطارئ أكثر ولكنه لو يتدبر بالنعم المستديمة لأدرك عجزه عن الشكر لله عز وجل عنها ، فهي الأصل الذي تأتي بواسطته النعم الأخرى ، فكل فرد من الشهيق والزفير نعمة عظمى على الإنسان وكذا سلامة الأعضاء ، والرزق الكريم ، وإتساع الدنيا للحلال والطيب في المأكل والمشرب وغيرها .
ومن إعجاز القرآن إختصاص ورود الأمر فيه بالأكل من الطيبات بخصوص الذين آمنوا وبني إسرائيل إذ قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ]( ).
وقال تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى *كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى]( )، بينما جاء الإخبار من عند الله برزق الناس كافة الطيبات من غير أن يكون الأمر بالأكل من الطيبات عاماً وإن كانت لا تحجب عنهم .
وهل يدل هذا التباين على حساب الذين كفروا على أكلهم الطيبات الجواب لا ، إنما الحساب على الكسب وعلى الإنفاق في سبيل الله إنما أراد الله عز وجل بيان شكره للذين آمنوا بتوالي الرزق عليهم ، وإن أنفقوا على أنفسهم وعيالهم ، وأخرجوا الخمس والزكاة ففيها النماء والزيادة وليشكروا الله على نعمة الإنتفاع العملي من الطيبات ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
لذا ذكر الله ذات الطيبات في الإنفاق في خطابه للمؤمنين مثلما ذكرها في أكلهم منها قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]( ).
وهل يدل الجمع بين هذه الآيات على حصر الإنفاق واعطاء الزكاة للذين آمنوا ، أم يجوز إعطاؤها للمؤلفة قلوبهم والكتابي ، الجواب ذكر المؤلفة قلوبهم في آية الصدقة , ويجوز إعطاء الكتابي من الزكاة خاصة مع وجود الراجح ، أو الفاقة ، واجاز الحنابلة والمالكية إعطاء الكافر من الزكاة، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، الجواب نعم .
الحمد لله الذي ليس لنعمته حد أو رسم ، إنما هي لا متناهية سواء تلك النعم التي تخص الفرد الواحد من الناس أو الجماعة أو الأمة ، أو النعم التي تعم وتشترك بها أجيال الناس كلهم على نحو العموم الإستغراقي.
فمن فضل الله وجود نعم معينة يمتاز بها كل فرد من الناس منها نعمة الخلق والإيجاد ونعمة العقل والتعلم والحواس وسلامتها وهيئة الإنسان ، قال تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
وهو من أسرار مجئ النداء (يا أيها الناس) في القرآن عشرين مرة إتصاف القرآن بأنه رحمة عامة لأجيال الناس ومنه [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، ومنه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( )، وهذا الفقر إلى الله نعمة ورحمة لأن الله [هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( )، وهناك نعم تمتاز بها كل أمة ، وإن إختلف وتنازعت الأمم .
الحمد لله الذي أنعم عليّ بالتوفيق لأن أقوم بمفردي بتأليف ومراجعة وتصحيح أجزاء التفسير كلها , وكذا كتبي الفقهية والأصولية , وأسأله تعالى استدامة هذه النعمة ، وفي التنزيل [مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) ( ) .
وهل يدخل فيه التسبيحة الكبرى والصغرى في حال الركوع والسجود أم أنه يفيد الحصر في هاتين الجملتين ، الصحيح هو الأول لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
وهل الثواب في التسبيح من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة ، أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة .
المختار هو الثاني ، فالثواب في التسبيح في الصلاة أكثر للإتيان به ضمن الواجب العبادي ، وفي حال الخشوع لله عز وجل وهو من الإعجاز في تشريع الصلاة وعظيم نفعها في النشأتين .
وتتعلق أكثر موضوعات هذا الجزء من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) بخصوص صلح الحديبية ومقدماته من حيث أنه أمارة وشاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً، وحتى في زيارة البيت الحرام فانه لم يدخل مكة عنوة على رؤساء الكفر من قريش، وإن لم تكن لهم ولاية على البيت الحرام يوماً ما ، وفيه أيضاً بيان لحرص الإسلام على الوفاء بالعهود وتعاهد المواثيق ، قال تعالى [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً]( ).
لقد جاء الأنبياء بالمعجزات الحسية ، وهل نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المعارك معجزة ، واذا كان معجزة فهل هو معجزة حسية أو عقلية ، وهل معجزة ذاتية أم غيرية ، وهل هو من الإرادة التكوينية أم التشريعية .
والمختار أنه معجزة عقلية حسية ، وذاتية وغيرية ، أما الحسية فهو ظاهر، إما نسبتها إلى العقل فان منافعها تتجدد في كل زمان ، وهي من الإرادة التكوينية ، إذ أبى الله عز وجل إلا أن يظهر رسوله على المشركين .
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً بأن جعل سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية مرآة للقرآن ، وشاهداً على رفعه لواء السلم المقرون بالصبر ، وتحمل الأذى من المشركين والذي كان على وجوه :
الأول :إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الإضرار بأهل البيت بفرض الحصار على بني هاشم لثلاث سنوات قبل الهجرة ، ويشمل الحصار المؤمن والكافر منهم باستثناء أبي لهب ، ومن الآيات أن النبي محمداً لم ينقطع عن الدعوة إلى الله عز وجل والبليغ وتلاوة آيات القرآن على الناس مدة الحصار .
الثالث : إيذاء المسلمين الأوائل وتعذيب بعضهم ، كما نبينه في الجزء التالي ، وهل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ( ) يتعلق بخصوص الأذى الذي لاقاه أم يشمل الوجوه أعلاه ، الجواب هو الثاني .
الحمد لله الذي لا راد لفضله وإحسانه ، والذي يهب النعمة الخاصة والعامة ابتداء ولطفاً من عنده تعالى ، ومن هذه النعم صدور هذا الجزء المبارك ومباشرتي هذه الأيام بكتابة الجزء الثالث عشر بعد المائتين ، وهو خاص بتفسير الآية الكريمة [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
حرر في الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول1442هـ
10/11/2020
نعمة البعثة النبوية
لقد أنعم الله عز وجل على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون سبيل هداية وصلاح , وضياءً ينير دروب السالكين، فيتلو المسلمون آيات القرآن ، وما فيها من الإنذار والوعيد للكفار، فيترشح عنها أمور:
الأول : يتدبر السامع للآيات في مضامينها القدسية .
الثاني: يكف المجادل بغير حق عن جداله.
الثالث: يسكت صاحب المغالطة.
الرابع: يدب الخوف والذعر في صفوف الكفار.
الخامس: يتوب فريق من الناس، فيقومون بإعلان البشارات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويحرصون على التقيد بالعهود والمواثيق والذي يتجلى بدخول الإسلام، وإتباع أحكام القرآن، قال تعالى[فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ]( ).
واشتقاق النبوة من وجهين :
الأول : النبأ والإخبار لأن النبي أنبأ عن الله ، وهو فعيل بمعنى فاعل تركت هزته كما في الذرية والبرية ، وقال رجلٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: يا نِبئَ الله فهمَزَ فقال : لستُ بنبئ الله ولكنِّي نبيُّ الله( ).
الثاني : العلو والإرتفاع (والنبي: التل العالي)( ).
(والنبوة والنباوة : ما ارتفع من الأرض) ( ).
ويقال (فأُتِيَ بثلاثة قِرصَةٍ فوُضِعَت على نَبِيّ ] أي على شيء مرتفِع عن الأرض من النَّباوة والنَّبوة : الشَّرَفِ المُرتَفع من الأرض ، ومنه الحديث (لا تُصَلُّوا على النَّبيّ) أي على الأرض المرتفعة المُحْدَوْدِبة .
ومن الناس من يَجْعل النبيَّ مُشْتَقَّاً منه لارْتفاع قَدْرِه ، ومنه الحديث (أنه خطب يوما بالنَّباوة من الطائف) هو موضع معروف به .
وحديث قَتادة (ما كان بالبَصْرة رجُلٌ أعلَمُ من حُمَيدِ بن هِلال غير أنَّ النَّباوةَ أضَرَّت به) أي طَلَبَ الشَّرَف والرياسة وحرْمة التقدّم في العلم أضَرّ به)( ).
ومن الصفات التي تجمع الأنبياء والرسل تلقي الوحي من عند الله ، والقيام بتبليغ الرسالة والتنزيل والدعوة إلى الله عز وجل وإصلاح المجتمعات في أمور الدين والدنيا ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومحاربة الشرك وبيان قبح الكفر والضلالة .
ويقوم الأنبياء بذكر إجمالي للأسماء الحسنى ، وصفات الله ومنها الوجود والوحدانية والقدم والبقاء الدائم ، والحياة ، والقدرة المطلقة والعلم، والبصر ، والسمع ، والكلام ، والتنزه عن الحوادث ، وقد تقدم الفرق بين أسماء الله تعالى وصفاته ( ).
ولقد أصلح الله عز وجل الأنبياء إلى مرتبة النبوة ، وهناك خصال حميدة يتصف ويمتاز بها الأنبياء ، وهي من الشواهد على بعثتهم ، إذ انهم أسوة للبشر في مكارم الأخلاق ، ومن هذه الخصال :
الأولى : الصدق ، فكل نبي هو صادق فيما يبلغه من الأحكام الشرعية، وهو صادق في معاملاته وكلامه .
الثانية : الدعوة إلى الله عز وجل على كل حال في السراء والضراء ، وفي الرخاء والشدة ومع اشتداد أذى المشركين للأنبياء ، وقد اضطر عدد من الأنبياء للدفاع عن كلمة التوحيد ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
الثالثة : التقوى والخشية من الله في السر والعلانية ، إذ أن النبي يرى الآيات الباهرات ، ويعلم أن الله عز وجل يحصي أفعاله ، وأنه يريده إماماً للناس .
ولقد شرّف الله عز وجل الأنبياء ، وعصمهم من المعصية كما يدل عليه قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ).
وقد ورد الأمر [اتَّقِ اللَّهَ]في القرآن ثلاث مرات :
الأولى : الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ) .
الثانية : قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ]( ).
الثالثة : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى زيد بن حارثة كما ورد في التنزيل [وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً] ( ).
وهذه الخشية قضية عين ، وقضية في واقعة ، والمراد من خشية الناس هي قالتهم وحديثهم ، وقال الواحدي (تكره قالة النَّاس لو قلت : طَلِّقْها ، فيقال أمر رجلاً بطلاق امرأته) ( ) .
ولكن ليس في البين أمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لزيد بطلاق زوجته ، وهناك برزخ بين هذا الأمر وبين ترك الخيار لزيد في الطلاق ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له أمرين :
الأول : أمسك عليك زوجك فلا تفارقها .
الثاني : اتق الله .
وقد أخفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه أنه إن طلق زيد زوجته زينب بنت جحش (32 ق.هـ – 21 للهجرة ) فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتزوجها ، خاصة وأنها ابنة عمة النبي أميمة بن عبد المطلب، وللإذن من عند الله عز وجل بزواج المسلم من زوجة من تبناه إن فارقها ليكون في هذه القصة تخفيف عن المسلمين ، والتقوى لغة الوقاية والصون .
وهي في الإصطلاح طاعة الله والخشية منه بالسر والعلانية .
ومن علامات وخصال التقوى أمور ، منها :
الأول : أداء الفرائض والواجبات العبادية .
الثاني : المبادرة إلى فعل الخير والإحسان , مع الخشوع لله وخوف وتزلزل القلوب خشية عدم القبول ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ] ( ).
وفي الآية أعلاه ورد (عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله .
قول الله [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ]( )، أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله .
قال : لا ولكن الرجل يصوم ، ويتصدق ، ويصلي ، وهو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه) ( ).
الثالث : الشكر لله عز وجل بالقول والفعل ، قال تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الرابع : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوب هذا القيام من مصاديق نعمة البعثة النبوية ، والتعاون في سبيل الخير ، وأسباب تنزيه الأرض عن الفساد .
(عن أبي سلام قال : قال أبو ذر قال كأن يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن على كل نفس كل يوم طلعت فيه الشمس صدقة منه على نفسه قلت يا رسول الله من أين أتصدق وليس لنا أموال .
قال أو ليس من أبواب الصدقة التكبير والحمد لله وسبحان الله وتستغفر الله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتعزل الشوكة عن طريق المسلمين والعظم والحجر وتهدي الاعمى وتدل المستدل على حاجة الله) ( ).
ومن فضل الله في النبوة والرسالة أن بركات النبي لا تنحصر في مصر أو زمان الذي يبعث فيه أو إذ أنها أعم مكاناً وزماناً .
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لبناء وبقاء صلاح الإيمان إلى يوم القيامة ، ولم يأت هذا البناء بالغزو والهجوم على المدن والقرى والقبائل ، بل جاء بالتنزيل والوحي وبالصبر والتحمل والدفاع .
واقترنت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأذى الشديد من الذين كفروا من رؤساء قريش وبعض نسائهم مثل أم جميل زوجة أبي لهب التي أظهرت العداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أن ولديها عتبة وعتيبة قد تزوجا بنتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم كلثوم ورقية .
وقد ذم الله عز وجل في القرآن أبا لهب وهو عم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، كما ذم مع أبي لهب زوجته لأنها كانت عوناً له في الكفر وإيذاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونزلت سورة كاملة بخصوصهما ، قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ]( ).
واسم أم جميل هو : أروى بنت حرب بن أمية ، وهي أخت أبي سفيان ومن معاني حمالة الحطب أنها تحمل الحطب يوم القيامة وهي في النار لتلقيه على زوجها زيادة في عذابه وفي قوله تعالى [فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ]( )، قال مجاهد : وعروة: من مَسد النار( ).
قانون الإستعداد لليوم الآخر بعمل الصالحات
من خصائص البعثة النبوية إبتداؤها بالدعوة إلى الله من غير أن يشهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أهل بيته أو أصحابه سلاحاً ويدل عليه تحملهم الحصار الاقتصادي والإجتماعي في مكة قبل الهجرة ، ولثلاث سنوات ، واضطرار طائفة من الصحابة بالهجرة بدينهم إلى البلاد البعيدة إلى الحبشة .
وعندما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة هل كان يسعى لغزو مكة والإنتقام والثأر من المشركين ، الجواب لا ، فحالما وصل إلى المدينة أنشأ المسجد النبوي للصلوات اليومية الخمسة ، وأخذ يلتقي بوجهاء المدينة ، ويتلو عليهم آيات القرآن ، ويدعوهم إلى الإسلام .
وكان بناء المسجد وأداء الصلاة فيه من أعظم صيغ هذه الدعوة ، وهو من أسباب سخط قريش وامتلاء قلوبهم غيظاً ، لا لأنهم شعروا ببناء مسجد موازي للمسجد الحرام ، إذ أن قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ) شاهد على أنهم لم يعتنوا بالبيت ومناسكه ، إنما لأنهم أدركوا صيرورة المسلمين أمة ذات شأن ، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم صار إماماً يخرج بأصحابه في كتائب حول المدينة ، ويبعث السرايا أحياناً للدعوة إلى الله .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعقد المواثيق وعهود السلم والوئام مع يهود المدينة ، والقبائل من حولها .
ومن إعجاز القرآن بيانه لقانون وهو : لم يكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده الذي قاتل المشركين ، فهناك عدد من الأنبياء قاتلوا هم وأصحابهم مشركي زمانهم ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
ويدل قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه دفاعاً واضطراراً على أن قتال الأنبياء بذات الصفة ليس للإستصحاب القهقري ، إنما لإتحاد سنخية النبوة ، ووحدة الموضوع في تنقيح المناط .
ومن الشواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه جاء بالسنة الدفاعية التي تؤكد أن قتال الأنبياء كان دفاعاً محضاً ، ومثلهما أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً فكذا بالنسبة للأنبياء السابقين ، فان قلت قد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه إلى بعض القرى والقبائل من وجوه :
الأول : قلة هذا الخروج ، فعلى مدى عشر سنوات من سني الهجرة كان عدد هذا الخروج هو (17) كتيبة ، ومنها حصار الطائف( ) بعد معركة حنين ، بلحاظ أن ثقيفاً وهوازن هم الذين بدأوا المعركة ثم رجعوا وأغلقوا الحصن عليهم.
الثاني : لا يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد أن تقوم تلك القبيلة والقوم الذين يخرج إليهم بالتعدي على المدينة واطرافها أو يبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم يرومون الإغارة على المدينة ، وحتى حينما يبلغ هذا الأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه لا يعمل إلا بالوحي فانه يبعث من يـتأكد من خبر القوم ، وصحة عزمهم على الهجوم على المدينة فيتوجه إليهم .
الثالث : من الآيات بعث الله الرعب في قلوب المشركين , وفي الغالب يتفرقون عندما يسمعون بقدومه والمسلمين، فلا يأمر بملاحقتهم ومطاردتهم، مع أنهم يكونون في حال التفرق في ضعف ، إنما يقيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ديارهم ليومين أو ثلاثة يقيم الصلوات الخمس هو وأصحابه،وهم وأهليهم يسمعون الأذان ، ويرون حال الخشوع التي عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن شواهد النبوة أن أكثر هؤلاء يعودون بعد التفرق لدخول الإسلام لبيان قانون وهو :أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليس ملكاً ، ولم يطلب السلطنة والأمرة ، إنما جاء لتثبيت سنن التقوى في الأرض ، والتنزه عن الشرك والضلالة .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ومن الدلائل على أنه لم يغز أحداً .
ومن خصائص التقوى أنها من أكثر الأعمال نفعاً في الدنيا والآخرة ، لذا جعلها الله عز وجل مباحة للناس جميعاً ، وقريبة منهم ، ليس من برزخ أو حاجز بينها وبين الإنسان ذكراً أنثى ، فملأ الله عز وجل الكون بالآيات التي تدعو الإنسان للتقوى وبعث الأنبياء متعاقبين ، وقد يجتمع في زمان ومكان واحد أكثر من نبي أو رسول ونبي ، كما في الرسول موسى عليه السلام وأخيه النبي هارون .
وفي التنزيل حكاية عن موسى ودعائه [وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى]( ).
ومن وجوه قرب التقوى من الناس بقاء سنن الأنبياء بين الناس بعد مغادرتهم الدنيا ، بحيث يبقى أصحابهم على نهجهم ، ويدخل الناس في ملتهم ، ثم جاءت فترة خالية من الرسل أكثر من خمسمائة عام بين عيسى عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليأتي معه بالقرآن ، وكل آية منهم نعمة متجددة ، لذا فان المراد من النعمة في عنوان هذا البحث (نعمة البعثة النبوية ) هو اسم جنس .
ولم يترك الله المؤمنين وشأنهم ، ولا يجعلهم عرضة لتعدي وظلم الذين كفروا ، إذ جاء الوعد الكريم من عند الله بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ] ( ).
والتقوى طريق مبارك لتكفير الذنوب ،وليس لتكفير الناس ، فمن شرائط التقوى الخشية من الله عز وجل ، وهو سبحانه يشكر العبد على إيمانه وفعله الصالحات ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا]( ).
ويحتمل التقريب بين الناس والتقوى وجوهاً :
الأول : تفضل الله سبحانه بجعل التقوى قريبة من الناس .
الثاني : تقريب الناس من منازل التقوى .
الثالث : إنما يقع التقريب بمقدمات التقوى .
والمختار هو العنوان الجامع للوجوه أعلاه .
وهل هذا التقريب من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة أم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة .
الجواب هو الثاني للطف الإلهي ، وتعدد ضروب هذا التقريب بلحاظ الأسباب الشخصية والغيرية ، فقد تأتي وجوه من تقريب الإنسان للتقوى بسبب صلاح والديه، أو بره بهما وإحسانه ، أو دعاء الناس له ، أو يأتي ابتداءً من عند الله عز وجل .
ومن تقوى الله عز وجل حسن الخلق ، ولا يختص هذا الحسن بالصلة مع المؤمنين ، إنما أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يكون صفة ملازمة للمؤمن يخرج بها إلى الناس جميعاً ، (عن معاذ بن جبل قال : قلت يا رسول الله أوصني قال : اتق الله حيثما كنت ، وخالق الناس بخلق حسن) ( ).
بين الأحزاب والحديبية
ورد لفظ [الأَحْزَابِ] في آيات من القرآن وهي :
الأولى : سورة هود ، قال تعالى [أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ] ( ).
الثانية : سورة الرعد قوله تعالى [وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ ] ( ).
الثالثة : سورة مريم ، قوله تعالى [فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ] ( ).
الرابعة : سورة الأحزاب ، قوله تعالى [يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
الخامسة : سورة الأحزاب ، قوله تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا] ( ).
السادسة : سورة ص ، قوله تعالى [جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الأَحْزَابِ]( ).
السابعة : سورة ص ، قوله تعالى [وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ] ( ).
الثامنة : سورة غافر ، قوله تعالى [كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ] ( ).
التاسعة : سورة غافر ، قوله تعالى [وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ] ( ) .
العاشرة : سورة الزخرف ، قوله تعالى [فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ] ( ).
بعد معارك متعاقبة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين الذين كانوا يقومون بغزو المدينة المرة تلو الأخرى , فيخرج لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مدافعين صابرين كما في معركة بدر وأحد , أما معركة الأحزاب فلم يقدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الخروج وملاقاة عشرة آلاف مقاتل من قريش وحلفائها وأتباعها زحفوا للإنتقام والثأر ومحاولة الإسئتصال فاكتفى بحفر خندق حول المدينة ومن الجهات التي يخشى دخول المشركين منها .
وكانت أياماً عصيبة على المسلمين , ظهر الخوف عليهم ليس عن جبن , فقد أثنى الله عز وجل عليهم بآيات منها ماورد بخصوص كتيبة حمراء الأسد في اليوم التالى لمعركة أحد بقوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] ( ).
لبيان أن الخوف كان على الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل , وبقاء الإسلام في الأرض بعد أن أينعت الثمار , وأزهرت أزقة المدينة بالتلاوة ، وأضاءت المساجد فيها الطرق والمسالك لأهلها والوافدين.
وليس بين معركة أحد ومعركة الخندق إلا سنتين , وقيل سنة واحدة فإن قلت قد أظهر المنافقون الشكوك , وتجاهروا بما يشبه الشماتة , وظنوا أن المشركين سينتصرون في المعركة .
والجواب وكذا في معركة أحد إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ألف من المسلمين , ولكن رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول إنخزل وانسحب من وسط الطريق بثلاثمائة من أفراد جيش المسلمين منقلبين إلى المدينة قبل أن يصلوا إلى ميدان المعركة .
نعم هناك تباين في الحال وعدد الجيش والأسلحة وكيفية ومدة المعركة بين أحد والخندق , فقد خرج المسلمون لمعركة أحد مستصحبين نصرهم في معركة بدر وعازمين على صدّ جيش المشركين خاصة أولئك الصحابة الذين لم يحضروا معركة بدر , قال تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
يبين القرآن خروج المسلمين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد بالرضا والشوق لإحدى الحسنيين , قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) بينما ظهر الخوف على عامة المسلمين قال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا]( ).
إذ هجم المشركون من عدة جهات , فجاءت غطفان نحو المدينة المنورة من جهة المشرق من أعلى الوادي , وجاءت قريش من جهة المغرب , من أسفل الوادي , لقد اضطربت القلوب من غير أن يصدر من المسلمين ما يدل على الجبن والوهن أو الخوف أو الإرتداد.
إنما توجه المسلمون إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ ورد (عن أبي سعيد الخدري قال : قلنا يوم الخندق : يا رسول الله هل من شيء نقول : فقد بلغت القلوب الحناجر؟
قال : نعم . قولوا : اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، قال : فضرب الله وجوه أعدائه بالريح فهزمهم الله بالريح) ( ).
ومع أن الهجوم كان إبتداء واستدامة من قبل كفار قريش وهم الذين حاصروا المدينة لأكثر من عشرين ليلة , فإن أكثر علماء التفسير والسنة يسمون هذه المعركة (غزوة الخندق) للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويذكرونها مع عدد غزواته ولا أصل لهذا المعنى .
وقد صدرت بفضل الله أجزاء من هذا التفسير بقانون (لم يغزُ النبي “ص” أحداً) وهي كل من الأجزاء (159-160-161-163-164-165-166-167-169-171-172-173-175-176-177-178-182-185-188-192-200).
ومع كثرة عدد جيش المشركين فقد كانوا منظمين مع حسن تخطيط للهجوم على المدينة من الجهات المتعددة كما كان عندهم نوع إحتراز ، وكلمة سر كيلا يدخل بينهم عين من المسلمين ، فمثلاً كانوا بين الحين والآخر ينادي مناد في الجيش بأن يمسك كل واحد منهم الذي بجانبه ويسأله عن اسمه وقبيلته , ومع هذا أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحد أصحابه ليدخل في جماعتهم , ويعرف أخبارهم , ولم يشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً بعينه إلا عند الضرورة إذ سأل أصحابه عدة مرات ولما لم يجبه أحد أمر حذيفة بن اليمان أن يذهب إليهم و(عن محمد بن كعب القرطي قالا : قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان : يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وصحبتموه .
قال : نعم يا ابن أخي.
قال : وكيف كنتم تصنعون .
قال : والله لقد كنّا نجهد .
قال الفتى : والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا، ولخدمناه وفعلنا وفعلنا) ( ).
وهذا القول من الفتى مرتكز في أذهان كل مسلم ومسلمة من التابعين والأجيال اللاحقة إلى يوم القيامة .
ولا يعني أن يتوجه بإشارة تعريض على تعضيد الصحابة نحو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , لذا بادر حذيفة إلى بيان صورة واحدة من شدة ما لاقاه الصحابة من الأذى إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتضحيتهم ليخبر هذا الفتى الكوفي بأن الواقع آنذاك مختلف وأنهم صبروا وبذلوا الوسع في أحلك الأحوال .
وكان القتل قريباً منهم لولا فضل الله ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( )، وأن النصرة لا يفوز بها إلا من آتاه الله عز وجل الإيمان إذ (قال حذيفة : يا ابن أخي والله لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} بالخندق في ليلة باردة ، لم أجد قبلها ولا بعدها برداً أشدّ منه ، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم هوناً من الليل ثمّ التفتَ إلينا فقال : مَنْ يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنّة) ( ).
فلم يكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه على الذهاب , مع أنه بحاجة لهم , إنما لجأ إلى الصلاة في داخل الخندق والمشركون يحيطون بهم, وبعض تهديدهم وسهامهم تصل إلى المسلمين .
لبيان معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي إمتثاله لقوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ) حتى في أشد الأحوال , وبيانه قانوناً للمسلمين أن الصبر في الميدان واقترانه بالصلاة طريق للنصر والفرج وكشف الكرب , وحينما لم يقم أحد من الصحابة لم يوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم اللوم إنما لجأ في جوف الليل للإخبار بالسنة الفعلية عن قانون وهو : أن الله يصرف البلاء بالدعاء والصلاة ، ولجوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصلاة بعد عدم استجابة أحد الصحابة .
وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ), وبعد أن صلى الله عليه وآله وسلم النبي عدداً من الركعات , التفت مرة أخرى إلى أصحابه، وقال لهم ذات الكلمات بمبادرة أحدهم ليستطلع حال المشركين مع الوعد له بدخول الجنة .
ولم يقيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيفية هذا الإستطلاع ولزوم الدخول في صفوف العدو , إنما ترك للذي يريد الذهاب تقدير الأمر , واستظهار ما يمكن معرفته مع الفوز بالوعد الكريم بدخول الجنة لبيان مسألة وهي أن الذي يختار الإستجابة لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويذهب نحو العدو مستطلعاً له الجنة لأنه كالشهيد الحي , ومن حق أصحابه أن ينادوه بأنه من أهل الجنة .
ويدل كلام حذيفة على أن الصحابة كانوا في تلك الساعة من الليل يقظين حذرين , وأنهم يكتفون بالمرابطة داخل الخندق , ليكون من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
وهل من التقوى في الآية أعلاه الإستجابة لطلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم , وهذه الإستجابة من الواجب الكفائي فلابد أن يستجيب أحدهم , والمراد من الواجب الكفائي الذي يتصف بأمرين :
الأول : ينظر فيه إلى تحقق المطلوب من غير تعيين لفاعله ,
الثاني : كفاية صرف الطبيعة ، والإجزاء بالفرد المتحد منه .
بخلاف الواجب العيني الذي يلزم فعله من كل مكلف بعينه , ولا تصح فيه النيابة , وهذا التقسيم يلزم المخاطبين به ويمكن أن نقسم الواجب العيني في علم الأصول تقسيماً جديداً :
الأول : الواجب العيني الفوري كصيام شهر رمضان في أول رؤية الهلال قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
الثاني : الواجب العيني الذي يقبل الإرجاء .
الثالث : الوجوب العيني الجامع الفوري والذي يقبل الإرجاء أيضاً كما في حج البيت الحرام فإنه فوري مع تحقق الإستطاعة , ولكن عند التخلف عن الأداء مع التحقق الفوري يتجدد الأمر الشرعي كل سنة .
ويمكن تقسيم الواجب الكفائي :
الأول : الواجب الكفائي الفوري كرد السلام وإنقاذ الغريق .
الثاني : الواجب الكفائي الموسع كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بعض موارده .
الثالث : الواجب الكفائي الفوري الذي يقبل الإرجاء أيضاً .
وتتصف تلك الليلة من آخر ليالي حصار الأحزاب للمدينة بأنها شديدة الظلمة ، فلا يرى الإنسان اصبعه ، والرياح سريعة ، قال حذيفة (وفي أصوات ريحها أمثال الصواعق)( ) لبيان صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الذب عن كلمة التوحيد ، وتعرضهم للقتل والأسر بغير حق .
وكان المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإنصراف من المرابطة داخل الخندق , يقولون [إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ) .
إذ جاء أوس بن قيظي وهو من رؤساء النفاق ، ومعه جماعة من قومه من بني حارثة ،وقالوا إن بيوتنا خارج المدينة وإنا نخشى على نسائنا وأبنائنا وذرارينا( )، فيأذن لهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد سمّى الله عز جل هذه المعركة (الأحزاب ) للدلالة على أن المشركين هم الذين قاموا بتحشيد الجيوش وغزو المدينة ، ثم ذكر التفصيل في آيات منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا] ( ).
ويطلق عليها كثير من المفسرين وكتاب السيرة غزوة الخندق ، أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي غزا ، إذ يجعلونها ضمن غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا في حال دفاع واحياناً لم يبق معه داخل الخندق إلا ثلاثمائة من أصحابه في مقابل عشرة آلاف عدد جيش المشركين الذين جاءوا من مكة وما حولها من قريش وغطفان فأحاطوا بالمدينة .
قال حذيفة (فجعل المنافقون يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون (إن بيوتنا عورة وما هي بعورة) ( ) فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له ، فيتسللون ، ونحن ثلاثمائة أو نحو ذلك) ( ) أي حتى وهم عددهم ثلاثمائة فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأذن لمن يستأذن منه للذهاب إلى بيته ، وهو من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فلم يقل لهم إن عددنا قليل ، فلا يسمح بالإستئذان لأنه يعلم أن الله عز وجل يمده بالملائكة وينصره ، ولا يختص هذا الإستئذان بالمنافقين ، فقد يستأذن المهاجر والأنصاري فيأذن لهما ، ولكن ما أن يقضي أحدهم حاجته حتى يعود مسرعاً إلى داخل الخندق ، وهو من الفارق بين المؤمن والمنافق ، للحاجة لهذا الرجوع والمرابطة في الخندق ، ولإدراك المؤمن لما فيه من الأجر والثواب ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
ويحتمل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالإتيان بخبر جيش المشركين وجوهاً :
الأول : إنه من الواجب العيني .
الثاني : إنه من الواجب الكفائي .
الثالث: إنه من المستحب العيني .
الرابع : إنه من المستحب الكفائي .
الخامس : إنه من المباح .
السادس : لم يرق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى صيغة الأمر.
والمختار إنه من الواجب الكفائي .
واقترن بالترغيب بما فيه من الثواب العظيم لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ألا رجل يأتيني بخبر القوم يكون معي يوم القيامة – وفي لفظ: جعله الله رفيق إبراهيم يوم القيامة – فلم يجبه منا أحد) ( ).
ومن الدلائل على صيغة الوجوب أمور :
الأول : حاجة المسلمين إلى معرفة خبر جيش المشركين للإحتراز والتهيئ والتوقي من مباغتة العدو ، خاصة وأن جيوشه تحيط بالمدينة .
الثاني : أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي ، ولا يعلم الغايات والمقاصد الحميدة منه إلا الله ورسوله ، ومنه طرو أمر جديد عند جيش المشركين .
الثالث : وجوب طاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا] ( ).
الرابع : دلالة الثواب العظيم على الإستجابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم باللبث الدائم في الجنة على أن المراد الوجوب .
الخامس : تكرار القول من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لثلاث مرات ، ويمكن استقراء مسألة وهي دلالة هذا التكرار والإلحاح على إرادة الأمر .
عندئذ صار النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستعرض أصحابه واحداً بعد الآخر حتى أتى على حذيفة فوقف عنده ، وقال : من هذا .
فأخبره حذيفة باسمه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : حذيفة .
فقال : بلى يا رسول الله ، ولم يقف على قدميه لشدة البرد ولأنه لم يلبس إلا مرطاً لزوجته لا يصل إلى ركبته .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قم .
فقال حذيفة واعتذر عن عدم القيام إلا بعد أن أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقيام والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على إحتمال إرادة تكليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالذهاب لإستطلاع خبر جيش المشركين مع ما فيه من الخطر واحتمال الأسر أو القتل .
وحينما وقف حذيفة على قدميه قال له النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنه كائن في القوم خبر ، فأتني بخبر القوم .
ثم دعا له النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأمن من الحر والبرد مدة ذهابه في الواجب ، وقال (لا بأس عليك من حر ولا برد حتى ترجع إلي)( ).
أي هناك أمر مستحدث طرأ في جيش المشركين فلابد أن تعلموا به ، وهل هذا الإخبار من الوحي أم أنه مستقرأ من حركة غير اعتيادية في جيش المشركين المختار هو الأول .
فلو كان عن أثر حسي ظاهر لرآه الصحابة وأخبروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولبادر بعضهم لإستقراء الأمر .
فشكى حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال : والله ما بي أن أقتل، ولكن أخشى أن أؤسر ، فقال النبي لا : إنك لن تؤسر .
وهو من الإعجاز في السنة الدفاعية ، لما فيه من الوعد والقطع والبشارة التي هي فرع الوحي .
لقد تحول الواجب الكفائي إلى واجب عيني ، وهو من الإعجاز في الخطاب الشرعي والتكليف فالتقسيم الإستقرائي للواجب لا يعني الجمود فيما بين أقسامه.
فقد تتداخل أو يكون الفرد الواحد منها متحركاً بحسب الحال والقرائن.
إن تحول الواجب الكفائي إلى واجب عيني لخصوص حذيفة تشريف له، وإرادة فوزه بالثواب العظيم الذي وعد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الإقامة مع النبي في الجنة .
وحذيفة بن اليمان العبسي ، واسمه حذيفة بن حسيل بن جابر ، ولُقب أبو حذيفة باليمان لأن جده جروة أصاب دماً في قومه ، فهرب إلى المدينة وحالف بني عبد الأشهل ، وهم يمانية ، فهو حذيفة بن (حسيل بن جابر واليمان لقب وهو حذيفة بن حسل ويقال حسيل بن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جروة بن الحارث بن مازن بن قطيعة بن عبس العبسي القطيعي من بني عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان حليف لبني عبد الأشهل من الأنصار) ( ).
وقتل يوم أحد ، أصابه المسلمون خطأ ، فتصدق حذيفة بديته على من أصابه ، وقيل أن الذي قتله هو عتبة بن مسعود ، والظاهر أنه اشترك في قتله أكثر من واحد لأنه كان في الأطام كرجل كبير ، والتحق بالمسلمين من الخلف ولم يعرفه المسلمون .
(عن عائشة في حديث أوله : لما كان يوم أحد هزم المشركون فصاح إبليس: أي عباد الله أخراكم فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم فنظر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال : أي عباد الله أبي أبي فو الله ما احتجزوا عنه حتى قتلوه فقال حذيفة: غفر الله لكم قال عروة: فما زالت في حذيفة منه بقية خير حتى لحق بالله) ( ).
وحذيفة حامل سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يحضر هو وأبوه معركة بدر إذ أخذهما كفار قريش ، وألزموهما عهد الله وميثاقه أن لا يقاتلا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وحينما أخبرا النبي صلى الله عليه وآله وسلم (نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم) ( ) .
ولم يترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حذيفة يذهب إلا بعد أن شيعه بالدعاء حالما خرج متوجهاً إلى جهة جيش المشركين .
إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته) ( ).
فخرج الجزع والخوف من قلب حذيفة ، وذهب عنه البرد .
قال (فمضيت كأنما أمشي في حمام ورجعت كأنما امشي في حمام ثم أصابني البرد حين فرغت) ( ).
وفيه نكتة وهي أن ذهاب الفزع والبرد عن حذيفة مقدمة وسبب للفحص ورصد حركة العدو ودلالة الظواهر على نوايا ومقاصد العدو .
وأوصاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكتمان الأمر ، وأن لا يُفزع جيش المشركين بما يكون سبباً لتأليبهم وانتقامهم .
إذ قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اتنا بخبر القوم ولا تذعرهم عليّ ، وكان أبو سفيان أحس بدخول غريب إلى معسكر الجيش مع كثرته ، فنادى : ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه ، قال حذيفة (فضربت بيدي على يد الذي عن يميني فأخذت بيده، فقلت: من أنت ؟
قال: معاوية بن أبي سفيان، ثم ضربت بيدي على يد الذي عن شمالي فقلت: من أنت ؟
قال: عمرو بن العاص، فعلت ذلك خشية أن يفطن بي فبدرتهم بالمسألة، ثم تلبثت فيهم هنيهة) ( ).
ومع مكر ودهاء عمر بن العاص فانه لم يسأل حذيفة عن اسمه ببركة دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له ، والغفلة التي تصاحب الكفار في هجومهم على المدينة ، وإرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الغفلة من مكر الله عز وجل بهم ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) .
وأخذ حذيفة يتفحص الجيش ، فرآى رجلاً أدهم ضخم يصلي ظهره بالنار للتدفئة وحوله عصبة من الرجال ، وسمعه يقول : الرحيل الرحيل ، فأدرك أنه أبو سفيان ، ولم يكن يعرفه من قبل ، فانتزع سهماً من كنانته أبيض الريش ووضعه في كبد القوس ليرميه في ضوء النار، وكان واثقاً من إصابته ، فتذكر حذيفة قول النبي والمنع من الفتنة وإثارة القوم ، فأمسك ورد سهمه .
ومن الإعجاز أن الريح الشديدة كانت ساعتئذ خاصة بمعسكر المشركين وهي حضّ لهم على الإنصراف ، وكانت الرياح تقلب القدور الكبيرة ، والحجارة تضرب الرجال والفرش ، وظهر التململ حتى على الإبل التي معهم .
معجزة جزع المشركين
كانت قريش أهل تجارة يسيرون بالقوافل إلى الشام والى اليمن واحياناً إلى الحبشة وبلاد فارس ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ) .
ومن عادة التجار عدم اللبث الطويل في موضع إنما يبادرون إلى تصريف بضاعتهم وإذا تأخر تصريفها عرفوا سقف الأسعار في البلدة ويدركون عدم الحاجة إلى التأخير فينجز البيع ، وكذا بالنسبة للشراء والتبضع ، هذا في المدن والأمصار والإنشغال بعرض البضاعة أو فحصها وبالمماكسة .
أما وقد أحاط المشركون بالمدينة أكثر من عشرين ليلة في البيداء وبعد أن قُتل فارسهم عمرو بن ود العامري فقد سئموا البقاء , وهذا السأم من جند الله وكذا بالنسبة للريح الشديدة العاصفة فهي من رشحات قوله تعالى [فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا] ( ) لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين حينما يأتي المشركون بجيوش لا قبل لهم بها ، إذ تكرر ذات الأمر بنزول الجنود من الملائكة في معركة حنين بقوله تعالى [ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] ( ) .
لقد استطاع حذيفة دخول معسكر المشركين لشدة الظلمة وهبوب رياح عاصفة ، مع كثرة جنود المشركين ، إذ كان عددهم عشرة آلاف رجل منتشرين في البيداء ، وتتباين قبائلهم لذا سمّاهم الله عز وجل الأحزاب ، وقد أوصاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يقوم بأي عمل يكشف أمره أو يستفزهم مثل قتل أو جرح أحدهم .
قال حذيفة (ثم إنى شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم.
وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرا، فوالله إنى لاسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضرب بها) ( ).
لقد علم حذيفة بأن القوم يريدون الإنصراف ، ومعه يفك الحصار عن المدينة ، وفيه نجاة وعز ونصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فخرج حذيفة راجعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ليخبره ويبشره بالأمر .
لقد كان ذهاب حذيفة إلى معسكر المشركين توثيقاً لما جرى عند إنسحابهم من الفرقة والإختلاف الشديد بينهم للفزع والإرباك الذي أصابهم ، إذ سمع أبا سفيان وهو يبين أسباب الإنسحاب ، وحال الجزع التي صار عليها الجيش ، ولعله تذكر ما حلّ بأبرهة وجنوده عند قدومهم لهدم البيت الحرام .
إذ (قال أبو سفيان : إنكم والله لستم بدار مقام ، لقد هلك الخف والكراع، وأجدب الجناب، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، وقد لقينا من الريح ما ترون .
والله، ما يثبت لنا بناءٌ ولا تطمئن لنا قدر، فارتحلوا فإني مرتحل.
وقام أبو سفيان، وجلس على بعيره وهو معقول، ثم ضربه فوثب على ثلاث قوائم، فما أطلق عقاله إلا بعد ما قام) ( ).
ويبدو أن فكرة الإنسحاب ليست وليدة ساعتها ، وأن بعض قواد الجيش لا يرضون به إذ قال له (عكرمة بن أبي جهل: إنك رأس القوم وقائدهم، تقشع وتترك الناس؟
فاستحيى أبو سفيان فأناخ جمله ونزل عنه، وأخذ بزمامه وهو يقوده، وقال: ارحلوا!
قال: فجعل الناس يرتحلون وهو قائمٌ حتى خف العسكر) ( ).
ثم توجه أبو سفيان إلى عمرو بن العاص وطلب منه أن يقيم بجماعة من أصحاب الخيول في الموضع لتأمين الإنسحاب خشية أن يلاحقهم المسلمون ، إذ أنهم يذكرون مطادرتهم لهم بعد معركة أحد ، إذ بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حمراء الأسد ، ونزل قوله تعالى الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ.
وقال ابو سفيان (لعمرو بن العاص: يا أبا عبد الله، لابد لي ولك أن نقيم في جريدةٍ من خيلٍ بإزاء محمدٍ وأصحابه، فإنا لا نأمن أن نطلب حتى ينفذ العسكر.
فقال عمرو: أنا أقيم.
وقال لخالد بن الوليد: ما ترى يا أبا سليمان؟
فقال: أنا أيضاً أقيم.
فأقام عمرو وخالد في مائتي فارس، وسار العسكر إلا هذه الجريدة على متون الخيل) ( ).
وأقامت الخيل حتى كان وقت السحر وابتعد الجيش والأنفال عن المدينة وآمنوا الطريق فلحقت الخيل بهم ، وأدركوهم مع ارتفاع النهار ، وكانوا يسيرون بملل وتثاقل وكآبة ، وهو من مصاديق الخيبة التي يرجعون بها ، فصحيح أن قوله تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ نزلت في واقعة أحد ، والتي سبقت في زمانها واقعة الخندق، إلا أنها تبين قانوناً ووعداً من الله عز وجل بخيبة لم ينالوا ما ابتغوه من هذا الهجوم والغزو الكبير ، ولم تكن هذه الخيبة مجردة إنما صاحبها وترشح عنها عجز المشركين عن غزو المدينة .
وما أن خرج حذيفة من معسكر المشركين حتى فقد الريح الشديدة ، وحركة الحجارة والرمال ، إذ أنها كانت محصورة بحدود معسكر المشركين لدفعهم إلى الرحيل ، فتوجه مستبشراً ومتوجهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال حذيفة (فلما انتصف بي الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بعشرين فارسا أو نحو ذلك معتمين، قالوا: – وفي لفظ: فارسين، فقالا -: أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم بالجنود والريح، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر( )، وجعلت أقرقف( )، فأومأ إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده، [ وهو يصلي ] فدنوت منه، فسدل علي من فضل شملته – وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حزبه أمر صلى – فأخبرته خبر القوم، وأني تركتهم يرحلون) ( ).
لبيان البشارة من الملائكة بكفاية الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بمعجزة .
لقد أخبر حذيفة عن قانون من السنة النبوية وهو إذا اشتد الأمر على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجأ إلى الصلاة فهي استجارة واستغاثة بالله عز وجل ، قال تعالى [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا] ( ) .
لقد شعر حذيفة بالدفئ والسكينة فذهب لينام ، ولم يستيقظ حتى وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند رأسه ليوقظه لصلاة الصبح ، وهو يقول له (قم يا نومان ) ونومان أي كثير النوم ، فحينما لبس حذيفة عباءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذهب عنه البرد والقرع والفزع .
قال ابن هشام (وَلَمّا انْصَرَفَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْ الْخَنْدَقِ ؛ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي : لَنْ تَغْزُوَكُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ عَامِكُمْ هَذَا) ( ).
ثم سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد سنة نحو مكة لأداء العمرة ومعه ألف وأربعمائة من أصحابه فكان صلح الحديبية ، وفيه شاهد على أن المشركين هم الغزاة ، وانقطع غزوهم بآية من عند الله ليتوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة هو وأصحابه لأداء العمرةشكراً لله عز وجل وتوكلاً عليه سبحانه.
وعندما خرج عتبة بن ربيعة بين اخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة حتى انفصلوا عن الصف ودعا عتبة إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار هم عوف ومعاذ ابنا الحارث وأمهما عفراء ، وعبد الله بن رواحة ، فقال لهم عتبة من أنتم .
قالوا : رهط من الأنصار لم يسموا بالأوس والخزرج ، وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن تبدل الاسم من الأوس والخزرج إلى الأنصار ، لبيان نبذ الخلافات والخصومات بينهم ، ولتسمية القرآن لهم الأنصار ، وهو تحد جديد لقريش يبعث الفزع في نفوسهم بعد أن كانوا يسمونهم نواضح يثرب .
وأصل لفظ النواضح جمع ناضح ، وهو يطلق على البعير الذي يجلب عليه ماء السقي من الآبار ، تنعتهم قريش بهذه الصفة استخفافاً، وهو من الإستعلاء والإستكبار الذي تتصف به قريش لثرائهم وعملهم بالتجارة ،وولايتهم للبيت الحرام ، ولم يعلموا أن العزة مصاحبة للإيمان ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
قال عتبة وأخوه وابنه : ما لنا بكم من حاجة .
وقالوا : أخرج إلينا بني عمنا ، ونادى مناديهم يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا .
وعفراء بنت عبيد بن ثعلبة من بني النجار تزوجت الحارث فولدت له معاذاً ومعوذاً وعوفاً ، شهد الثلاثة بدراً ، وهو من أسباب تسميتهم باسم أمهم ، أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ترى لماذا قالوا أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا المشهور ، وفي رواية ابناء عمنا ، وفي رواية من بني هاشم ، والمشهور الأول أعلاه .
فقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قم يا حمزة ، قم يا علي ، قم يا عبيدة بن الحارث فتحول الواجب حينئذ من كفائي إلى عيني .
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] ( ).
وتحتمل النسبة بين الواجب العيني والكفائي وجوهاً :
الأول : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الواجب العيني أعم من الواجب الكفائي .
الثانية : الواجب الكفائي أعم من الواجب العيني .
الثاني : العموم والخصوص من وجه .
الثالث : التباين .
الرابع : أما التساوي فهو متعذر لأن كل واحد منهما قسيم للآخر ، والمقسم هو الواجب ، وللتباين في الاسم والموضوع .
والصحيح هو الوجه الثاني أعلاه .
خيل قريش
لقد أخذت قريش تبعث السرايا والطلائع لتطوف على المسلمين ، وتحاول نشر الخوف والرعب بين صفوفهم ، ورجاء رجوعهم إلى المدينة ، أو يصيبون منهم أحداً قد ابتعد عن المعسكر ، أو يجدون غفلة وغرة عند المسلمين مع توالي الأيام في موضع الحديبية .
فبعثت قريش خمسين رجلاً عليهم مكرز بن حفص فجاءوا وطافوا بالنبي وأصحابه ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد جعل نفراً من أصحابه يتناوبون حراسة المعسكر منهم :
الأول : أوس بن خولي .
الثاني : عباد بن بشر .
الثالث : محمد بن مسلمة .
فجاء محمد بن مسلمة ومن معه من الحرس تلك الليلة ، وجماعة من المشركين بعثتهم قريش ليطوفوا على جيش المسلمين ، وجاء بهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فأطلق سراحهم .
وحينما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة يريد العمرة لقيه بعسفان بشر بن سفيان العتكي ، كما عن ابن عباس ( فسلم عليه فقال له يا بشر هل عندك علم أن أهل مكة علموا بمسيري .
فقال بأبي أنت وأمي يا رسول الله إني لأطوف بالبيت في ليلة كذا وسمي الليلة التي انشئوا فيها السفر وقريش في انديتها إذ صرخ صارخ في أعلى أبي قبيس بصوت أسمع قاصيهم ودانيهم يقول …
سيروا فصاحبكم قد سار نحوكم … سيروا إليه وكونوا معشرا كرما فذكر أبيات فارتجت مكة واجتمعوا عند الكعبة فتحالفوا وتعاقدوا الا تدخلها عليهم .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، هذا شيطان الأصنام يوشك أن يقتله الله)( ).
وعادة ما تجد الحديث أو تتمة القصيدة التي يذكرها بعض المؤرخين موثقة أبياتها في كتب أخرى إلا ما ندر ، ومنه البيت أعلاه فلم أجد له تتمة القصيدة في كتب عديدة أخرى من كتب السيرة والتأريخ ، ومنهم من يسمي بشر هذا بسر بن سفيان( ).
ومن خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصاحبة المعجزة له في الحل والترحال ، فحينما علم أن خالد بن الوليد ومعه مائتا فارس يترصدونهم في الطريق غيّرالنبي صلى الله عليه وآله وسلم طريقه وعدل عنهم وسلك وأصحابه طريقاً وعرة .
إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم يسيرون ( إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة ، فخذوا ذات اليمين )ولم يشعر خالد حتى فاجأه جيش المسلمين ومَدَته أي الغبار الأسود الذي يثيرونه ، فكر راجعاً إلى قريش ليخبرهم .
ولما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ثنية المرار وسط الحديبية والثنية وهي السهل المنبسط بين مرتفعين ، بركت راحلته القصواء (فقال الناس: حل حل ، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ماخلأت القصواء) ( ).
وحل , كلمة تقال للناقة إذا بركت لزجرها وجعلها تواصل السير إذا أظهرت تركه ومعنى (فالحت) أي أظهرت عدم القيام حتى مع ندائهم عليها ، ومعنى خلأت أي حرفت وبركت من غير علة .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (مَا خَلَأَتْ وَمَا هُوَ لَهَا بِخُلُقِ ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكّةَ) ( ).
بمعنى أنها لم تبرك من غير سبب وعلة ، فهذا البروك ليس من عادتها ، ولكن الله عز وجل منعها ومنعكم من دخول مكة مثلما حبس ومنع أبرهة وجنوده والفيلة التي معه من دخول مكة .
ومع التباين والتضاد بين أبرهة وجيشه وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فان مادة الإلتقاء في المقام تتعلق بالبيت الحرام فانه لو دخل المسلمون على هذه الحال وصدتهم ومنعتهم قريش فستسيل دماء غزيرة ، ويحدث شغب ونهب للأموال مثلما لو دخل فيل أبرهة .
وكان في مكة جمع كثير من المسلمين والمسلمات ، وهم مستضعفون وعرضة للقتل هم وأبناؤهم لو حدث قتال .
وليس عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أسلحة للقتال ودروع وخوذ للرؤوس تقيهم ضرب السيوف.
لبيان أن عدم مباغتة قريش بدخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة فيه حقن للدماء .
ومن معاني قوله تعالى [هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] ( ) .
إرادة الخشية على المسلمين في مكة أن يقعوا ضحية ويقتلوا لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين المشركين من جهة أخرى ، ولا ينحصر قتلهم بساعة دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة من الحديبية إنما يستمر بطش قريش بهم حتى بعد الدخول والخروج .
بينما صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ليتم الصلح في الحديبية .
ثم يأتي فتح مكة بعد نقض المشركين بنود الإتفاق ، ويدخل أهل مكة الإسلام ، وينّصب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أميراً على مكة هو عتاب بن أسيد بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ، الذي أسلم يوم الفتح ، وهو من بني أمية .
وأقام عتاب الحج للناس تلك السنة ، وحج المسلمون والمشركون ممن كان يقطن في القرى والمدن الأخرى ، ولم يمنعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عتاب بن أسيد ، بينما كان المشركون قد منعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من العمرة في السنة السادسة للهجرة سنة الحديبية.
لقد نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء أي حفرة فيها ماء قليل يترشح قليلاً ، ويترقبه الناس لينزحوه مع حاجة الصحابة الألف والأربعمائة إلى الماء ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العطش .
(عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء ، إنما يتبرضه( ) الناس تبرضاً فلم يلبثه الناس أن نزحوه، فشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فنزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه) ( ).
أي رجعوا مرتوين شاكرين لله عز وجل واغترفوا بأوانيهم ، لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إنقاذ الصحابة من العطش ، وإضطرارهم لمغادرة الحديبية إلى موضع آخر طلباً للماء ، وليزداد الصحابة إيماناً ، ويصبروا ويرضوا بالصلح عند عقده ، فمن خصائص المعجزة أنها حائل دون الفتنة ، وإسكات لصوت النفاق ، قال تعالى [لَقَدْ ابْتَغَوْا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ]( ).
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قانون سبق المعجزة للحدث ، ويبعث وجود الماء في الصحراء الطمأنينة في النفس ، وبعد هذه المعجزة أطل على المسلمين بديل بن ورقاء الخزاعي ومعه نفر من قومه من خزاعة ، وكانت خزاعة عيبة( ) نصح لرسول الله .
فقال بديل (إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت)( ).
والمراد من تِهامة مكة وما حولها ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] ( ).
والمراد من العوذ المطافيل أن العوذ بالضم هي جمع عائذ وهي الناقة ذات اللبن ، أما المطافيل فهي النوق الأمهات التي معها أطفالها .
أي أن المشركين خرجوا بذوات الألبان من الإبل ليقتاتوا على ألبانها ، وهي كناية عن طول الإقامة والمرابطة أو القتال ، وهل أرادت خزاعة بهذا اللفظ (العوذ المطافيل) كناية عن جلبهم أولادهم ونساءهم لإرادة طول الإقامة لمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من دخول الحرم في شهر ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ، وهي من أشهر حرم ، خاصة وأن شهر ذي الحجة موسم أداء الحج ، إذ تفد من المدن والقرى والبوادي إلى مكة لأداء مناسك الحج ، إذ أمر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام من قبل [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ).
وإرادة جلبهم الأولاد والنساء في المقام بعيد ، فالمقصود جلب النوق الكثيرة والمتعددة في حالها وسنها .
والمراد من قول بديل الخزاعي (أعداد مياه الحديبية) أي الماء الكثير في الحديبية الذي لا إنقطاع له ، لبيان التباين بين موضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية حيث ندرة الماء ، وبين موضع قريش وجيوشهم حيث وفرة الماء، ورعي الإبل لتحذير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وبيان المائز الذي يتصف به المشركون والتنبيه بلزوم عدم إطالة المقام في الحديبية وأن الأولى التعجيل بالإنقلاب إلى المدينة ، ولم يعلم أن الله عز وجل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمده وينصره.
ويجعل الرجحان له في وفرة الماء والطمأنينة وأسباب النصر .
لقد سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغة الإنذار والوعيد بالقتال التي نقلها بديل بن زرقاء الخزاعي ، ولا يشك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نصحه له ، ولم يقل أنهم صادوك عن البيت وإن اضطروا للقتال ، بمعنى إكتفاء قريش برجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وعدم دخول مكة .
إنما قدّم بديل القتال (وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت) والأصل أن هذا الخبر يسبب الفزع والإرباك عند المسلمين .
إذ أنهم قدموا إلى مكة لإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزيارة البيت ، وأداء مناسك العمرة ، وان لم يعين السنة ، ثم أنهم حضروا إلى الحديبية ، وليس معهم أسلحة ، ولا متاع وزاد يكفي لطول الإقامة ، ولكن حسن توكلهم على الله هو الواقية من الفزع والخوف .
ويدل ما جاء به بديل من الأخبار على قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) وأنه لا يخشى قريشاً وغيرهم لأنه لم ينمي عندهم روح الثأر والإنتقام لسقوط قتلاهم بسبب تعديهم ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
فان قلت قد سقط سبعون قتيلاً من قريش في معركة بدر ، واثنان وعشرون في معركة أحد ، وفقدوا فارسهم عمرو بن ود العامري وثلاثة آخرين ، وهم :
الأول : منبه بن عثمان من بني عبد الدار ، أصابعه سهم فمات في مكة.
الثاني : نوفل بن عبد الله بن المغيرة ، اقتحم الخندق بفرسه فقتل.
الثالث : عمرو بن ود العامري .
الرابع : حسل بن عمرو بن ود العامري ، قتله الإمام علي عليه السلام مع أبيه ، كما في رواية ابن هشام ( ).
والجواب إن قريشاً هم الغزاة والمعتدون ، وهم الذين كانوا يصرون على القتال عند اللقاء ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكتفي بدعوتهم إلى التوحيد في بداية المعركة (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).
وكان يمنع أصحابه من الإبتداء بالقتال ، ومن رمي السهام والنبال ، وهو من الشواهد على صدق نبوته ، وأسباب ميل الناس للإسلام .
قانون جهاد النبي إبراهيم في التقديم لبعثة النبي “ص”
من الإعجاز في سيرة الأنبياء إنتقال إبراهيم من العراق إلى الشام ثم إلى مصر ثم إلى الشام ثم إلى مكة ليبني البيت الحرام ونسب الله عز وجل تعيين موضع البيت لنفسه مع بيان أن هذا التعيين نعمة عظمى لابد من مقابلتها بالشكر لله عز وجل بالتقيد بسنن التوحيد ، وجعلها مادة وقانوناً في استقبال وفد الحاج والمعتمرين بقوله تعالى [وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
وهل من صلة بين الأمر لإبراهيم عليه السلام بتطهير البيت وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب نعم ، فهذا التطهير مقدمة ومناسبة لإنصات وفد الحاج وعموم أهل مكة للقرآن ، والتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو زاجر للمشركين عن محاربته وقتاله ولحوق الخزي بهم إن قاتلوه كما يدل عليه قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
ليكون تطهير البيت على وجوه :
الأول : إنه مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : فيه حجة على كفار قريش الذين نصبوا فيه الأوثان .
الثالث : بيان حاجة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : بشارة إزاحة الأصنام عن البيت الحرام , وليكون بناء البيت وتطهيره وحج الناس له توطئة لفتح مكة ، والطواف حول الكعبة من غير وجود أصنام وإلى يوم القيامة قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
ومن اللطف الإلهي في تقريب الناس للإيمان , وقد جاهد إبراهيم عليه السلام في الدعوة إلى التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : كان النبي إبراهيم عليه السلام يبشر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو جده لأبيه , إذ أن نسب النبي هو (محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن هميسع بن يشجب بن أمين بن نبت بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم بن تارح بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس النبي ، بن يرد بن مهلائيل ابن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم) ( ).
وهناك مسألتان في النسب أعلاه :
الأولى : نسب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى عدنان لا خلاف فيه .
الثانية : ثبوت نسب عدنان إلى إبراهيم , ولا يضر فيه الإختلاف في ترتيب بعض الآباء بعد عدنان (وبعضهم يقول: عدنان بن أدد، من غير ذكر: أد) ( ).
الثاني : النبي إبراهيم عليه السلام من الرسل الخمسة أولي العزم بعد نوح , وقد أكرم الله عز وجل إبراهيم وجعل الرسل الثلاثة الآخرين أولي العزم من ذريته وهم حسب الترتيب الزماني :
أولاً : موسى عليه السلام .
ثانياً : عيسى عليه السلام .
ثالثاً : محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
مع التباين في الصلة المباشرة مع إبراهيم عليه السلام , فموسى وعيسى عليهما السلام من ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم , وقد نال إبراهيم صفة (أبي الأنبياء) لكثرة الأنبياء الذين هم من ذريته ومنهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأكثرهم من بني إسرائيل أما لوط فهو ابن أخ إبراهيم عليه السلام .
الثالث : توظيف النبي إبراهيم عليه السلام معجزة نجاته من النار للبشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعندما أفحم إبراهيم المشركين بالدلائل العقلية على ضلالتهم بعبادة الأصنام وأقام عليهم الحجة والبرهان [قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ] ( ) وقال تعالى [فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ] ( ) .
فهذه المعجزة أمارة وشاهد للناس جميعاً على صدق إبراهيم حينما يخبر عن أمور غيبية تتعلق بالعبادات أو مستقبل الأيام أو العالم الآخر والحساب فيه .
(وروي أن قائل هذه المقالة (حرقوه) هو رجل من الأكراد من أعراب فارس أي من باديتها فخسف الله تعالى به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)( ).
ونسب هذا القول إلى ابن عمر ومجاهد وابن جريج( ) .
قال شعيب الجبّائي : اسمه هيزن فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة( ).
ولم يثبت هذا القول من جهات :
الأولى : تبين الآية الكريمة صدور الجواب ، والإقتراح من قبل قوم إبراهيم لقوله تعالى [فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ]( ) .
ولو دار الأمر بين إحتمال أن يكون فرداً من غيرهم معهم هو الذي اقترح حرقه فنسب لهم كما في توجه الخطاب الإلهي إلى الملائكة بالسجود لآدم ، وكان إبليس معهم، وهو ليس منهم ، وبين أن يكون الأصل هو صدور الجواب من ذات قوم إبراهيم إلا مع الدليل الصارف ، المختار هو الثاني ، وحتى بخصوص إبليس لم يكن متكلماً ومحتجاً .
الثانية : مجئ الآية بصيغة الجمع [قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ…] ( ) وقد تقدم منا أن صيغة الجمع في القرآن لا تنطبق على المنفرد إلا في ذكر الله عز وجل كما في قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ] ( )، وتدل هذه الصيغة على تعدد الذي نادوا بحرق إبراهيم من عامة قوله وفي آية أخرى بذات المضمون بخصوص النبي لوط [فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ]( )
الثالثة : ظاهر الإقتراح بحرق إبراهيم أنه تم في حضرة نمرود الملك مما يرجح معه صدور هذا الإقتراح من الملأ والمقربين وممن يتولى الإشراف والعناية ببيت الأصنام .
لذا فان القائل (حرقوه) جماعة من قوم إبراهيم لأنه كسّر الأصنام التي يعبدون ، وليس فرداً واحداً أي ثلاثة أو أكثر ، وقيل أقل الجمع اثنين واستدل عليه بقوله تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ] ( ) ولم أجد من يشكك على هذا الإستدلال ، وبلحاظ نزول الآية أعلاه فانها نزل في المبارزة الجماعية الأولى في الإسلام ، إذ ورد عن ابن عباس (لما بارز علي وحمزة وعبيدة وعتبة وشيبة والوليد ، قالوا لهم : تكلموا نعرفكم .
قال : أنا علي ، وهذا حمزة ، وهذا عبيدة .
فقالوا : أكفاء كرام .
فقال علي : أدعوكم إلى الله وإلى رسوله .
فقال عتبة : هلم للمبارزة . فبارز علي شيبة فلم يلبث أن قتله ، وبارز حمزة عتبة فقتله ، وبارز عبيدة الوليد فصعب عليه فأتى علي فقتله، فأنزل الله { هذان خصمان..}) ( ).
ومن الإعجاز في هذه الآيات أنها وردت مرة باقتراح حرق أو قتل إبراهيم ، بينما وردت مرة أخرى باقتراح الحرق وحده (حرقوه) مما يدل على تعدد النداء والمطالبة بالإنتقال من إبراهيم لتكسيره الأصنام وأنهم إختاروا الحرق لأنه تكرر مرتين .
وقال ابن كثير (فمكثوا مدة يجمعون له حتى أن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطبا لحريق إبراهيم ثم عمدوا إلى جوبة عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب وأطلقوا فيه النار فاضطربت وتأججت والتهبت وعلاها شرر لم ير مثله قط ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة منجنيق صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له هزن وكان أول من صنع المجانيق فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه وهو يقول لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك فلما وضع الخليل عليه السلام في كفة المنجنيق مقيدا مكتوفا ثم ألقوه منه إلى النار قال حسبنا الله ونعم الوكيل) ( ).
ونمروذ ليس من الأكراد ، وهو نمروذ بن كنعان بن كوش بن حام بن نوح ، وكانت بابل عاصمة ملكه وهي أرض الكلدانيين ،وقيل هو أول طاغية في الأرض ، وهو لا يمنع من وجود افراد وأقليات معهم خاصة ، وأنه من أسباب تسميتها (بابل) أي تبلبلت وتعددت الألسن فيها ، وشواهد القرآن تدل على نفي أن يكون الذي اقترح إحراق إبراهيم رجلاً من الأكراد.
وقد يكون زمانه متقدماً لنشوء قوميات معينة فقد ورد بخصوص إبراهيم قوله تعالى [مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا]( )، أي قبل هذه الملل ، ونمروذ ملك الأرض وادعى الربوبية وهو من أوائل الجبارين في الأرض ، كما ذكر في التوراة بالاسم ، منها :
10: 8 وكوش ولد نمرود الذي ابتدا يكون جبارا في الارض
10: 9 الذي كان جبار صيد امام الرب لذلك يقال كنمرود جبار صيد امام الرب .
10: 10 و كان ابتداء مملكته بابل و ارك و اكد و كلنة في ارض شنعار
10: 11 من تلك الارض خرج اشور و بنى نينوى و رحوبوت عير و كالح)( ).
5: 6 فيرعون ارض اشور بالسيف و ارض نمرود في ابوابها فينقذ من اشور اذا دخل ارضنا و اذا داس تخومنا
5: 7 و تكون بقية يعقوب في وسط شعوب كثيرين كالندى من عند الرب كالوابل على العشب الذي لا ينتظر انسانا و لا يصبر لبني البشر
5: 8 وتكون بقية يعقوب بين الامم في وسط شعوب كثيرين كالاسد بين وحوش الوعر كشبل الاسد بين قطعان الغنم الذي اذا عبر يدوس و يفترس و ليس من ينقذ)( ).
وابتلاه الله بأن دخلت ذبابة في منخره ليعذب بها فصار يضرب رأسه بالمرازب إلى أن مات بالمرازب جمع مرزبة وهي عصا ومطرقة كبيرة تكسر بها الحجارة .
لقد كان في قصة إبراهيم بلحاظ بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الله عليه وآله وسلم مسائل :
الأولى : زجر قريش عن السعي لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو في مكة وإرادة قتله بعد هجرته إلى المدينة.
الثانية : منع قريش والقبائل من محاسبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالثة : إنذار المشركين بأن عاقبتهم إلى الخسران .
الرابعة : بشارة سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كيد ومكر الكفار ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
الرابع : إعلان إبراهيم كلمة التوحيد على الملأ ، وفي حضرة الملك نمرود مع سعة حكمه وبطشه وإدعائه الربوبية ليبقى هذا الإعلان باعثاً للناس على التفكر في خلق السموات والأرض ، والتطلع إلى بعثة نبي آخر زمان ليجدد دعوة إبراهيم ،وقد قال تعالى [وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ] ( ).
الخامس : نقل إبراهيم سكن ابنه إسماعيل إلى مكة ليكون توطئة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو من ذرية إسماعيل .
لقد نقل إبراهيم زوجته هاجر وابنه منها إسماعيل إلى البيت الحرام ، ولم يكن إسماعيل متزوجاً ، إنما تزوج بعد وصوله إلى الحرم ، كما أن هاجر بقيت زوجة إبراهيم عليه السلام ، والظاهر أنها توفت قبل إبراهيم ، وأختلف أيهما ماتت أولاً سارة أم إسحاق أم هاجر أم إسماعيل ، والأرجح أن هاجر ماتت أولاً في مكة ، وقيل أن سارة عمرت مائة وسبعاً وعشرين سنة .
(ولما ماتت سارة بن هاران زوجة إبراهيم تزوج إبراهيم بعدها – فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق – قطورا بنت يقطن، امرأة من الكنعانيين، فولدت له ستة نفر: يقسان بن إبراهيم، وزمران بن إبراهيم، ومديان بن إبراهيم، ويسبق بن إبراهيم، وسوح بن إبراهيم، وبسر بن إبراهيم، فكان جميع بني إبراهيم ثمانية بإسماعيل وإسحاق، وكان إسماعيل يكره أكبر ولده.
قال: فنكح يقسان بن إبراهيم رعوة بنت زمر بن يقطن بن لوذان بن جرهم بن يقطن بن عابر، فولدت له البربر ولفها.
وولد زمران بن إبراهيم المزامير الذين لا يعقلون.
وولد لمديان أهل مدين قوم شعيب بن ميكائيل النبي، فهو وقومه من ولده بعثه الله عز وجل إليهم نبياً) ( ).
(وقال بعضهم: تزوج إبراهيم بعد سارة امرأتين من العرب، إحدهما قنطورا بنت يقطان، فولدت له ستة بنين، وهو الذين ذكرنا، والأخرى منهما حجور بنت أرهير، فولدت له خمسة بنين: كيسان، وشورخ، وأميم، ولوطان، ونافس) ( ).
وذكر إن اسحاق كان ضرير البصر( ) .
وقد ورد بخصوص النبي شعيب أنه كان ضرير البصر ، كما عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى { وإنا لنراك فينا ضعيفاً } قال : كان ضرير البصر) ( ).
وورد عن شداد بن أوس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بكى شعيب عليه السلام من حب الله حتى عمي ، فرد الله عليه بصره وأوحى الله إليه : يا شعيب ما هذا البكاء أشوقاً إلى الجنة أم خوفاً من النار؟ فقال : لا ، ولكن اعتقدت حبك بقلبي ، فإذا نظرت إليك فما أبالي ما الذي تصنع بي ، فأوحى الله إليه : يا شعيب إن يكن ذلك حقاً فهنيأً لك لقائي يا شعيب ، لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي) ( ).
السادس : بناء إبراهيم عليه السلام للمسجد الحرام برفع قواعده التي هي موجودة من أيام آدم عليه السلام ودعوة إبراهيم الناس لحج البيت الحرام ، لتكون تجديداً سنوياً لجهاد إبراهيم في محاربة مفاهيم الكفر والضلالة وجهاد إسماعيل في تطهير البيت الحرام من الدنس ، ومن أسباب الشرك ، وكأن إبراهيم رآى المدن الكبيرة التي يجتمع فيها الناس وقد شاعت فيها مفاهيم الشرك وعبادة الأوثان ، فهداه الله إلى تأسيس دولة التوحيد في مكة عند البيت الحرام التي بدأت بثلاثة أشخاص وهم :
الأول : إبراهيم عليه السلام .
الثاني : إسماعيل عليه السلام .
الثالث : هاجر زوج إبراهيم وهي أم إسماعيل .
وقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في بدايات البعثة في البيت الحرام وليس معه إلا خديجة والإمام علي عليه السلام ، وقلوب كفار قريش تمتلأ غيظاً ، ويقومون بايذائه وهو يصلي خاصة عندما يسجد لله عز وجل ، وليس من خبر يدل على إن إبراهيم لاقى الأذى من الكفار عند بنائه البيت الحرام .
لبيان فضل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهاده لأن الذي لاقاه في سبيل الله ، وعن عروة بن الزبير أنه قال لعبد الله بن عمرو (قلت : ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيما كانت تظهر من عداوته .
قال : قد حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم في الحجر ، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط ، سفه أحلامنا ، وشتم آباءنا ، وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا ، وسب آلهتنا ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ، أو كما قالوا .
فبينا هم في ذلك ، إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن( ) ، فمر بهم طائفا بالبيت .
فلما أن مر بهم غمزوه ببعض القول ، قال : وعرفت ذلك في وجهه ، ثم مضى صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرفت ذلك في وجهه ، ثم مضى صلى الله عليه وآله وسلم ، فمر بهم الثالثة ، غمزوه بمثلها ، ثم قال : أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده ، لقد جئتكم بالذبح .
قال : فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا لكأنما على رأسه طائر واقع ، حتى إن أشدهم فيه وطأة قبل ذلك يتوقاه بأحسن ما يجيب من القول، حتى إنه ليقول : انصرف يا أبا القاسم ، انصرف راشدا ، فوالله ما كنت جهولا .
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم ، فقال بعضهم لبعض : ذكرتم ما بلغ منكم ، وما بلغكم عنه ، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه ، وبينما هم في ذلك ، إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، وأحاطوا به ، يقولون له : أنت الذي تقول كذا وكذا – لما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم .
قال : نعم ، أنا الذي أقول ذلك .
قال : فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه ، وقال وقام أبو بكر دونه يقول وهو يبكي : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ، ثم انصرفوا عنه ، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا بلغت منه قط)( ).
ظاهر وقائع الحديث أنه قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وكان عمر عبد الله بن عمرو عند الهجرة نحو ست سنوات ، وكانت الهجرة وفق الحساب الميلادي سنة 622م ، ولد عبد الله ، وعمرو والده عمرو بن العاص اثنتا عشرة سنة ، وأسلم قبل أبيه ، وكان كثير الصيام ، وتلاوة القرآن ، وأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكتابة الحديث عنه .
أظهر الندم الشديد على خروجه مع معاوية في صفين امتثالاً لأمر أبيه (ما لي ولصفين ما لي ولقتال المسلمين والله لوددت أني مت قبل هذا بعشر سنين ثم يقول: أما والله ما ضربت فيها بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم ، ولوددت أني لم أحضر شيئاً منها وأستغفَر الله عز وجل عن ذلك وأتوب إليه إلا أنه ذكر أنه كانت بيده الراية يومئذٍ فندم ندامةً شديدة على قتاله مع معاوية وجعل يستغفر الله ويتوب إليه)( ).
وعن عبد الله بن مسعود قال (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس وسلا( )، جزور نحرت بالأمس قريبا فقالوا – وفي رواية فقال أبو جهل – من يأخذ سلا هذا الجزور فيضعه على كتفي محمد إذا سجد فانبعث أشقاهم عقبة بن أبي معيط فجاء به فقذفه على ظهره صلى الله عليه وآله وسلم، فضحكوا وجعل بعضهم يميل إلى بعض ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يرفع رأسه، وجاءت فاطمة عليها السلام فطرحته عن ظهره ودعت على من صنع ذلك.
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاته رفع رأسه فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم دعا عليهم ، وكان إذا دعا دعا ثلاثا ، وإذا سأل سأل ثلاثا ثم قال :
(اللهم عليك بالملإ من قريش، اللهم عليك بأبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة ، وأمية بن خلف ، وعقبة بن أبي معيط).
وذكر السابع فلم أحفظه.
فوالذي بعثه بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى ببدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر غير أمية بن خلف فإنه كان رجلا بادنا فتقطع قبل أن يبلغ به إليه) ( ).
السابع : دعوة إبراهيم الناس لأداء مناسك الحج كل عام ، وهذه لدعوة تأكيد لواجب عيني مقيد بالإستطاعة ، ومنبسط على أجيال الناس المتعاقبة من أيام أبينا آدم لقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) .
ومن الإعجاز في المقام صيرورة موسم الحج مناسبة لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفد الحاج من القبائل إلى الإسلام ، وزاد الله من فضله بأن جعل أداء الحج في الأشهر الحرم ، فتمتنع قريش عن إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثناء الدعوة إلى الله وتلاوة آيات القرآن .
وهناك مسألة وهي هل كانت دعوة النبي أيام الحج لخصوص وفد الحاج أم تشمل عامة أفراد قبائلهم ممن لم يحضروا موسم الحج ، الجواب هو الثاني ، ليكون من معاني [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ) أي بلغ لمن حولك ليوصلوا الدعوة وآيات القرآن لغيرهم فلا غرابة أن تسمى السنة التاسعة للهجرة (عام الوفود) ، ودخول الناس الإسلام أفواجاً، إذ أن الدعوة النبوية قد بلغت القبائل ، ودخلت إلى البيوت ومخادع وأسماع ربات الحجال .
وكان للدعوة النبوية في مواسم الحج المتعاقبة موضوعية في صدّ أفراد القبائل عن نصرة قريش في قتالها مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، خاصة بعد معركة الأحزاب ، واضطرار كفار قريش لصلح الحديبية بعدها بنحو سنة واحدة .
الثامن : دعوة إبراهيم عليه السلام المتكررة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وترغيب الناس بالإسلام وتطلع الأجيال إلى بعثته ، وعدم إضطراره للهجرة إلى المدينة مثلما هاجر إبراهيم من العراق إلى الشام ثم إلى مصر ثم إلى الشام وإلى الحجاز .
ويدل عليه آيات متعددة منها :
الأولى : قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ) ليكون الأمن مناسبة لنشر الدعوة ، وفي الآية أعلاه إنذار لكفار قريش من محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن مصيرهم القتل والهلاك .
الثانية : قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثالثة : قال تعالى [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] ( ).
الرابعة : قـــال تعالى [رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ] ( ).
لبيان قانون وهو أن الأمن من عند الله وهو سبحانه الذي يدفع الفوضى والإرهاب والفساد ، لقد كان إبراهيم يدعو للأمن بخصوص مكة لأنها (أم القرى ) والله عز وجل يرحم الناس جميعاً ، ويجعل الأمن يتغشى الأمصار كلها ، وهو من مصاديق صفة الرحيم والرحمن وأرحم الراحمين لله عز وجل ، ومن إعجاز القرآن إبتداء كل سورة منه بـ[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ].
والذي قال : ليست البسملة آية من سورة الفاتحة ولا من غيرها إلا في سورة النمل ، احتج بما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه قال : أنزلت عليّ سورة ليست في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها، ثم قال : الحمد لله رب العالمين .
وقد ورد ذات الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتسميتها السبع المثاني إذ ورد (عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أعلمك سورة ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ؟
قلت : بلى ، قال : إني لأرجو أن لا تخرج من ذلك الباب حتى تعلمها فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقمت معه ، فجعل يحدثني ويدي في يده فجعلت أتباطأ كراهية أن يخرج قبل أن يخبرني بها ، فلما دنوت من الباب قلت : يا رسول الله السورة التي وعدتني ، فقال : كيف تقرأ إذا قمت إلى الصلاة .
فقرأت فاتحة الكتاب ، فقال : هي ، هي ، وهي السبع المثاني التي قال الله عز وجل (ولقد آتيناك سبعا من المثاني ، والقرآن العظيم) الذي أعطيت: هذا حديث صحيح على شرط مسلم) ( )( ).
مما يدل على أن المراد من الحديث الأول أعلاه وقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الحمد لله رب العالمين) .
إرادة اسم السورة ، وعلى فرض أنه إحتمال فيبطل الإستدلال ، وقد تقدم أن من أسماء سورة الفاتحة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،
وحديث آخر عن أبي هريرة (قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عزّ وجلّ : قسمت الصلاة يعني هذه السورة بيني وبين عبدي نصفين؛ فنصفها لي ونصفها لعبدي،
فإذا قرأ العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}( ) يقول الله : حمدني عبدي. وإذا قال العبد {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يقول الله تعالى : أثنى عليّ عبدي. وإذا قال العبد {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}( ) يقول الله : مجّدني عبدي. وإذا قال العبد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}( ) قال الله : هذه الآية بيني وبين عبدي،
ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}( ) إلى آخرها قال : هذه لعبدي ولعبدي ما سأل) ( ).
أما الأخبار عن كون البسملة من سورة الفاتحة فهي كثيرة ومتعددة ، وقد ورد من أهل البيت وعدد من الصحابة أن البسملة جزء من كل سورة.
واحتج ابن عباس بثبوتها في المصحف في أول كل سورة ( ).
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين وأهل الأرض ببسم الله الرحمن الرحيم ، لتبقى مصاحبة لأجيال الناس إلى يوم القيامة ، وهي مفتاح للرزق .
وهل هي حرب على الإرهاب والظلم والتعدي ، الجواب نعم ، إذ أنها دعوة للتراحم بين الناس ، واستحضارها عند الإبتداء بفعل مخصوص .
ومن معاني هذا الإستحضار أن الفعل يعرض على البسملة ، فما وافق البسملة يعمل به الفرد أو الجماعة ، وما يتعارض معهما يطرح وينصرف عنه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ] ( )، كما أنها زاجر عن الإبتداء بما فيه ظلم ويخالف مفاهيم الرحمة والرأفة والرفق .
وعند تحقيق العلماء في جزئية البسملة من السورة أو عدمها تذكر أقوال الصحابة وأهل البيت والتابعين وتابعي التابعين مجتمعة ، وهنا نطرح مسألة وهي لابد عند التحقيق من موضوعية لرتبة جهة صدور الحديث مع صحة السند ، فالحديث الذي يروى عن الصحابة وأهل البيت أرقى مرتبة من قول وفتوى التابعي ، ورأي وفتوى تابع التابعي أدنى رتبة منه .
وهل يكون رؤساء المذاهب بمرتبة الصحابي ، الجواب لا ، فاذا ورد عن ابن عباس بسند صحيح أن البسملة جزء من كل سورة ثم ورد عن أحد الفقهاء أنها ليست آية من الفاتحة أو أي سورة من القرآن إلا في النمل خاصة اجتهاداً منه يقدم ابن عباس .
والمختار أن البسملة جزء من كل سورة إلا سورة براءة .
لقد وردت نصوص كثيرة من السنة القولية وأخبار من السنة الفعلية تدل على أن البسملة جزء من السورة ، ثم أن هذه الجزئية لا تزيد في السورة إلا نوراً ، وكل كلمة من السورة نور وعمود ضياء بين السماء والأرض ، وفيها الأجر والثواب .
التاسع : دعاء إبراهيم عليه السلام وإسماعيل لنفسيهما بالإسلام والإنقياد لأمر الله عز وجل ، كما ورد في التنزيل [رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] ( ) وإذا كان إبراهيم وهو الرسول من أولي العزم ومعه نبي رسول وهو إسماعيل يسألان الله الإسلام والتسليم لأمره فانه يجب هذا السؤال من جهات :
أولاً : دعاء كل إنسان لنفسه بالإنقياد لأمر الله وهو الإسلام بمعناه اللغوي .
ثانياً : دعاء الزوج والزوجة .
ثالثاً : دعاء الأب وابنه مجتمعين .
رابعاً : دعاء الأب وأولاده ذكوراً وأناثاً .
خامساً : دعاء المؤمن لنفسه .
أما قراءة البسملة في الصلاة أو عدم قراءتها فهذا موضوع مستقل ، وفيه وجوه :
أولاً : ليس من بسملة في الصلاة سواء في سورة الفاتحة أو غيرها ، وبه قال الإمام مالك .
ثانياً : قراءة البسملة إخفاتاً سواء في الصلاة الجهرية كصلاة الصبح أو الصلاة الإخفاتية كصلاة الظهر ، وبه قال أبو حنيفة .
ثالثاً : البسملة آية من سورة الفاتحة ، ويجب قراءتها معها ،وبه قال أحمد بن حنبل .
رابعاً : البسملة جهر في الصلاة الجهرية ، وإخفاتاً في الصلاة الإخفاتية ، وعليه الشافعي .
وتبدأ كل سورة من القرآن بالبسملة إلا سورة براءة ، وعن الإمام علي عليه السلام (البسملة أمان ، وبراءة ( ) نزلت بالسيف فلذلك لم تبدأ بالأمان [براءة من الله ورسوله ] ( ) المراد بالبراءة التبرؤ من المشركين) ( ).
وعن ابي بكر بن حفص بن عاصم قال (صلى معاوية بالمدينة صلاة يجهر فيها بالقراءة، وقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لأم القرآن ولم يقرأ للسورة التي بعدها حتى قضى صلاته .
فلمّا سلّم ناداه المهاجرون من كل مكان : يا معاوية .
أسرقت الصلاة أم نسيت؟
فصلى بهم صلاة أخرى وقرأ فيها للسورة التي بعدها) ( ).
وبعد أن سأل إبراهيم إسماعيل الله عز وجل لهما الإسلام والإنقياد لأمره تعالى سألا الله عز وجل أن تكون من ذريتهما أمة مسلمة منقادة لأمر الله عز وجل ، وهل من فارق بين سؤال ودعاء إبراهيم عليه السلام بمفرده، وبين دعائه هو وإسماعيل عليه السلام ، الجواب نعم ، وفيه مسائل:
الأولى : بيان موضوعية وشأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العالمين ، وحاجة الناس لها .
الثانية : إنه من الإلحاح في الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل .
الثالثة : ترغيب الناس بالإسلام .
الرابعة : التخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته .
الخامسة : بيان الصلة بين رسالة إبراهيم عليه السلام ونبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : دعاء إبراهيم وإسماعيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من البشارة بنبوته ، ودعوة قريش وعموم ذرية إبراهيم للتصديق بنبوته .
ومن أسرار تكرار إبراهيم وإسماعيل المناسك ترغيب الناس بأداء الحج، ليكون هذا الأداء قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للبشارة ببعثته ، والحضّ على التصديق برسالته عند بعثته ، أما بعد أن بعث الله عز وجل النبي محمد ، فيكون أداء المناسك مناسبة لسماع آيات القرآن والتدبر في مضامينها القدسية .
(عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يَرَيْن) ( ).
ليأتي القرآن ويوثق دعوة إبراهيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
السابعة :قوله تعالى [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
ومن خصائص دعاء الأنبياء التوجه بالتوسل إلى الله عز وجل بصفة الربوبية [رَبَّنَا] لبيان الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، والخضوع التام له ، والإقرار بأن مقاليد الأمور كلها بيده سبحانه .
ولما سأل إبراهيم وإسماعيل الله عز وجل أن يكونا مسلمين له ، جاء قول [ربنا] والتوجه بالدعاء مصداقاً على استجابة الله عز وجل لدعوتهما.
وهل دعاء إبراهيم وإسماعيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على أنه لم يغز أحداً ولم يقصد الغزو ولم يسع إليه ، وكما رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت الحرام ، كما في قوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ).
فهل دعاء إبراهيم وإسماعيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل رفع قواعد البيت ، الجواب لكل منهما نفع عظيم في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من خصائص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الفوز بأمور:
الأول : فوز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعاء الأنبياء له مجتمعين ومتفرقين .
الثاني : إعادة بناء البيت الحرام .
الثالث : حج الناس للبيت الحرام من أيام إبراهيم عليه السلام إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : أداء الناس مناسك العمرة طيلة أيام الحياة الدنيا.
وهل ذكرت الآية أعلاه من سورة البقرة العمرة ، الجواب إنما ذكرتها الآية بقوله تعالى [وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا] ( ) والنسبة بين المناسك والعمرة عموم وخصوص مطلق .
إن سبق دعاء الأنبياء لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدد ولطف من عند الله عز وجل بلحاظ أن دعاءهم شعبة من الوحي ، وهذا الدعاء مستجاب ، وشاهد على أن الله عز وجل بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حرباً ضد الإرهاب ، وأنه لا يحتاج إلى الغزو .
قانون استقراء الواجب ومصاديقه من القرآن والسنة
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) ومنه الأحكام التكليفية الخمسة وهي :
الأول : الواجب .
الثاني : المندوب والإستحاب .
الثالث : الإباحة .
الرابع : المكروه .
الخامس : الحرام .
وتتعدد في علم الأصول أقسام الواجب , وتقسيمها على نحو الإستقراء, ولابد من تحقيق مصداقها من القرآن ، لأن الواجب أهم أفراد الحكم التكليفي والوضعي , وتتقوم الشريعة بالواجب ومنه الصلاة التي هي عمود الدين , قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ).
وتتعدد أقسام الواجب بحسب اللحاظ , وموضوع الخطاب أو المخاطبين أو أوان التكليف .
الأول : الواجب المطلق كالصلاة , والواجب المقيد كالحج إذ أنه مشروط بالإستطاعة وتوفر الزاد والراحلة , وليكون من إعجاز القرآن وتقييد الحج بالإستطاعة دخول مسألة الحصة والقرعة في الحج في هذا الزمان , فعندما نزل القرآن ليس من حدود دولية ولا حاجة لإستحصال الإذن من جهة معينة وتنظيم جواز سفر .
لبيان قانون من إعجاز القرآن وهو أنه قُيد بالإستطاعة في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، وهي أعم من الزاد والراحلة ، وهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وكثرة وقلة ، ويكون ملائماً لكل من الأزمنة والأمصار التي يفد منها وفد الحاج .
الثاني : الواجب العيني والكفائي ، والأول هو الذي يجب على المكلف ذاته , ولا تصح النيابة فيه , مثل الصلاة والصيام والحج , وقد تقدم الكلام فيه ، وكذا في الواجب الكفائي : الذي يتوجه فيه الخطاب إلى الجميع, ومنه رد السلام وإنقاذ الغريق .
ونذكر في هذا الجزء مسألة وهي أي من قسمي الواجب الأكثر ، الواجب العيني أم الكفائي ، المختار أن الواجب العيني هو الأكثر .
الثالث : الواجب المعين كالصلاة اليومية والواجب المخير الذي يؤمر به المكلف بإتيان فرد من أفراد مخصوصة , مثل كفارة اليمين عند الحنث وتحقق شرائط الكفارة , قال تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
الرابع : الواجب بلحاظ وقت إتيانه , وينقسم إلى قسمين :
أولاً : الواجب المضيق : وهو الذي أمر الشارع بإتيانه في زمن مخصوص لا يسع لغيره , مثل صيام شهر رمضان , ومثل الوقوف الإختياري على جبل عرفة بعد زوال اليوم التاسع من شهر ذي الحجة .
ثانياً : الواجب الموسع , مثل أداء الصلاة اليومية فإن لها وقت للأداء أوسع وأطول ما أدائها , فوقت صلاة الصبح مثلاً نحو ساعة ونصف من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس .
ويقسم الواجب الموسع إلى شعبتين :
الأولى : الواجب الموسع المؤقت .
الثانية : الواجب الموسع غير المؤقت .
الخامس : بلحاظ الحكم والمقدار للواجب وهو على قسمين :
أولاً : الواجب المقدر (المحدد) والذي يكون بمقدار مخصوص مثل عدد ركعات صلاة الظهر وعدد مرات الطواف بالبيت الحرام في طواف الحج، وهي سبعة أشواط .
ثانياً : الواجب غير المحدد .
مثل البر والأحسان ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( ) (واخرج أحمد عن عدي بن عميرة . سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة ، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة .
وأخرج الخطيب في رواة مالك من طريق أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه ، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة) ( ).
السادس : لحاظ الفعل المقصود وهو على قسمين :
الأول : الواجب النفسي ، وهو الواجب المطلوب بنفسه مثل الصلاة .
الثاني : الواجب الغيري ، وهو الذي يطلب لغيره ويكون غالباً كالمقدمة له مثل الوضوء للصلاة ، قال تعالى [إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] ( ).
أقسام الواجب : بلحاظ تعينه :
الأول : الواجب المعين وهو الذي يطلب الشارع من المكلف فعله بعينه مثل الصلاة اليومية وصيام شهر رمضان .
الثاني : الواجب غير المعين ، وهو الذي لم يطلب الشارع إتيانه على نحو الخصوص ، ومنه أفراد الواجب التخييري ، كما في قوله تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( ).
ويعرف المناطقة الشئ بماهيته وحقيقته ، وليس بحكمه ، أما الفقهاء فانهم يعرفون الشئ والفعل بحكمه وثمرة التكليف .
ولا مانع من الجمع بينهما خاصة وأن التعريف بيان وإيضاح ، فالواجب هو طلب الفعل على نحو الإلزام ، ويؤثم تاركه .
قانون عدوان الأحزاب على المدينة
لقد ورد ذكر الأحزاب بصيغة الجمع في القرآن عشر مرات ، من وجهين:
الأول : خصوص معركة الأحزاب والتي تسمى أيضاً الخندق ، وفي كل آية منها شاهد على أن المشركين هم الغزاة ، وسميت السورة باسمها ، وهذه الآيات هي :
الأولى : قوله تعالى [يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ) وهذه الآية هي الوحيدة في القرآن التي ورد فيها ذكر الأحزاب مرتين ، وقدمت الآية احتمال ذهاب وانصراف الأحزاب على مجيئهم ، لبيان أن المنافقين يظنون عودة الأحزاب لغزو المدينة مرة أخرى ، فلذا كان قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ (لن تغزوكم قريش ) ( ).
لبيان حال الجزع التي صار عليها المنافقون إذ يظنون ويرجحون أن الأحزاب لم ينصرفوا ، وأن جيوش قريش لم تفك الحصار عن المدينة ، بينما هم قد انصرفوا ، ويجوز أن يكون المعنى أن المنافقين يتمنون عدم انصراف الأحزاب للمهادنة بينهم ، ولإرادة المنافقين الشماتة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خاصة وأنهم هم الذين [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) ليكون رجوع وانصراف الأحزاب من مصاديق خاتمة الآية أعلاه ، وأن الله عز وجل جعل الرسول والمؤمنين أعزة بصرف الغزاة المشركين ، والنسبة بين الأحزاب والمنافقين التباين ، فالأحزاب قوم مشركون غزو المدينة لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه واستباحة المدينة ، أما المنافقون فهم الذين أظهروا الإسلام وأخفوا الكفر ، وقد كان جمع منهم داخل الخندق مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ونزلت آيات تتضمن ذمهم ، إذ كانوا يتباطأون في العمل ، ويكثرون من السؤال الإنكاري ، ويستأذنون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالذهاب إلى بيوتهم بذريعة الخشية عليها .
وكانت جيوش المشركين تتألف من :
الأول : رجال قريش .
الثاني : أهل مكة .
الثالث : الأحابيش .
الرابع : قبائل وفروع غطفان ، وهم الأكثر في جيش المشركين ، ومنهم بنو سليم وخزارة وبنو أسد ، وأشجع وبنو مرة ، فلا غرابة أن يعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رؤسائهم الصلح بأعطائهم ثلث تمور المدينة.
(فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَقَائِدُهُمْ أَبُو سُفْيَانُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ وَوَافَتْهُمْ بَنُو سُلَيْمٍ بِمَرّ الظّهْرَانِ وَخَرَجَتْ بَنُو أَسَدٍ وَفَزَارَةُ وَأَشْجَعُ وَبَنُو مُرّةَ وَجَاءَتْ غَطَفَانُ وَقَائِدُهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ .
وَكَانَ مَنْ وَافَى الْخَنْدَقَ مِنْ الْكُفّارِ عَشَرَةَ آلَافٍ)( ).
لقد ظن المشركون أن كثرة عددهم ستخيف المسلمين، وتجعلهم في حال إرتباك وفزع ، ولكنهم إنشغلوا بالمعجزة كون الإخبار عن مجئ هذه الكثرة والالآف المؤلفة من المشركين مصداق لعلوم الغيب التي في القرآن ، والتي يخبر عنها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلابد أن الإخبار عن حسن عاقبة وثواب الصبر في ملاقاتهم صحيح ، لبيان تفقه المسلمين في المعارف الإلهية ، وأنهم يسعون للأجر والثواب ، وفي قولهم [هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ] ( ) شاهد على إستعدادهم للدفاع ، وتحمل الأذى والتعرض للقتل في سبيل الله دفاعاً عن النبوة والتنزيل .
ويدرك الناس في كل زمان أن غزو المشركين للمدينة في الأحزاب ظلم وتعد ، وهل هو من إرهاب الدولة ، الجواب إنه من إرهاب المشركين والقبائل ، فهذا الإرهاب ليس جديداً إنما هو مصاحب للنبوة والتنزيل .
إن معركة الأحزاب دليل تأريخي قاطع على صحة وصدق قانون (لم يغزو النبي محمد(ص) أحداً) إنما كان المشركون هم الغزاة .
وتبين الآية أعلاه من سورة الأحزاب أن هجوم المشركين وحصارهم للمدينة سبب بزيادة إيمان الصحابة .
وقد ذكرت آية أخرى زيادة الإيمان أيضاً عندهم وهو قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ) نزلت الآية أعلاه بعد معركة أحد ، وكتيبة حمراء الأسد التي خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعد يوم واحد من معركة أحد متعقبين المشركين .
ترى ما هي النسبة بين زيادة الإيمان في الآيتين .
الجواب هو الإرتقاء في سلم الإيمان مرة بعد أخرى ، فزيادة الإيمان في معركة الخندق تضاعف إلى الزيادة التي رزق الله المؤمنين يوم أحد ، لبيان قانون وهو مع كل إبتلاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة هناك مرتبة ودرجة وزيادة في الإيمان .
لقد كانت خاتمة حصار الخندق نصراً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسلامة له ولإصحابه ، وهو من مصاديق العز الذي تذكره الآية أعلاه وشاهد على أن المشركين كانوا هم الغزاة .
كما يتوقع المنافقون أن الأحزاب وجيوش المشركين سيعودون مرة أخرى ، والواو في [يَوَدُّوا ] ( ) تعود للمنافقين أي يود المنافقون .
ويتمنى المنافقون أن يكونوا عند عودة الأحزاب أنهم قد خرجوا إلى البادية مع الأعراب فلا يعيشون حالة الحصار التي مروا بها ، ولا يضطرون للإستئذان من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإنصراف إلى بيوتهم، ونزول القرآن بذمهم كما في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ).
ولم يرد لفظ عوره في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وورد فيها مرتين في طرد وعكس .
أي أن بيوتنا مكشوفة للعدو وللسراق خالية من التحصين ، فكّذبهم الله عز وجل وأخبر بأنها حصينة ، وليس فيها خلل ، وأخبر الله عز وجل أنهم يريدون الفرار من المعركة ومن الحصار .
وفي معركة أحد والتي جرت قبل معركة الأحزاب بسنتين انسحب المنافقون من وسط الطريق إلى المعركة، ولم يشهدوا قتالاً ، ولم تكن مسافة الطريق بين المدينة والمعركة سوى (5) كم ، إذ أن المشركين أرادوا غزو المدينة وأشرفوا عليها ، فكان الدفاع واجباً عينياً على أهلها لحماية النفوس والأعراض والأموال ، خاصة مع كثرة أفراد جيش المشركين ، إذ كانوا ثلاثة آلاف رجل ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكره أحداً على الخروج ، وخرج معه ألف من الرجال ، ومع هذا انخزل ثلاثمائة منهم بتحريض رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
أما في معركة الأحزاب فان المشركين أحاطوا بالمدينة ، ولم يستطع المنافقون الإنخزال والإنسحاب واتجهوا إلى الإعتذار الذي لا أصل له ,
وحتى حينما كانوا في الميدان خلف الخندق فانهم كانوا يبثون الأراجيف، ويظهرون الريب والشك في إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عما ينتظر المسلمين من أسباب النصر والتمكين .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق (أبشروا يا معشر المسلمين ) ( ).
وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف وأتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ،
ونَجَم النفاق من بعض المنافقين حتى قال لهم معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر.
وأحدنا لا يقدر على أنْ يذهب إلى الغائط {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا}( ) حتى قال أوس بن قبطي أحد بني حارثة : يا رسول الله إنَّ بُيُوتَنَا بعورة من العدو وذلك على ملأ من رجال قومه .
فأْذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنّها خارجة من المدينة.
فأقام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأقام المشركون عليه بضعاً وعشرين ليلة قريباً من شهر، ولم يكن بين القوم حرب إلاّ الرمي بالنبل والحصى .
فلمّا اشتدّ البلاء على الناس ، بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عيينه بن حصين وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أنْ يرجعا بمَنْ معهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، تجرى بينهم وبينه الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشارهما فيه.
فقالا : يارسول الله أشيء أمرك الله به لابدّ لنا من العمل به ، أم أمر تحبّه فتصنعه ، أم شيء تصنعه لنا .
قال : لا بل لكم والله ما أصنع ذلك، إلاّ إنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد وكالبوكم من كلّ جانب، فأردتُ أنْ أكسر عنكم شوكتهم.
فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم ولا يطمعون أنْ يأكلوا منها ثمرة إلاّ قري( ) أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزّنا بك نعطيهم أموالنا .
ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلاّ السيف حتّى يحكم الله بيننا وبينهم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه : فأنت وذاك،
فتناول سعد الصحيفة ، فمحا ما فيها من الكتاب ، ثمّ قال : ليجهدوا علينا.) ( ) .
وتبين هذه الواقعة ميل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصلح واستعداده للتنازل عن الحق ، وإذنه بدفع المال لطوائف من الأحزاب كي يرجعوا عن المدينة ، ويفكوا الحصار من جهتهم ، ويقع الإنشقاق والإختلاف في جيش المشركين ، ولكن الأنصار لم يرضوا بهذا التنازل ، لتكون حجة تأريخية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستعداده لمصالحة الغزاة في معركة الخندق .
وفيه دلالة بأن النبي محمداً لا يطمع في الغنائم ، إنما هو يقدم ثلث ثمار المدينة إلى رؤساء غطفان لينسحبوا من الحصار ، ولو تم هذا الإتفاق لأرجف المنافقون مرة أخرى في المدينة .
ومن إعجاز القرآن عدم إكتفائه بذكر حال المنافقين وخوفهم وإثارتهم الفزع في المدينة عند مجئ الأحزاب وإحاطتهم بالمدينة ، إنما ورد ذكر المؤمنين وإظهارهم الصبر وحسن التوكل على الله ، كما في قوله تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا] ( ) .
وبينما جاء عشرة آلاف من المشركين لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجعل أصحابه بين أسير وقتيل وطريد واستئصال الإيمان ، فان الصحابة لما سمعوا بمجيئهم أظهروا التصديق بوعد الله ورسوله بأن المشركين سيزحفون عليهم ويغزون المدينة ، وأن النصر حليف النبي والإيمان.
إذ قالوا [هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا]( ).
وأخبرت آيات القرآن عن شدة الإبتلاء وملاقاة المشركين ، وترتب حسن العاقبة للمؤمنين على هذه الملاقاة ، قال تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] ( ).
كما أخبرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن مجئ جيش الكفار ، وعن تحقق النصر .
وعن عمرو المزني قال (خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام ذكرت الأحزاب فقال : أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ أَنَّ أُمَّتِي ظَاهِرَةُ عَلَيهَا يَعْنِي قُصُورِ الحِيرَةِ وَمَدَائِنِ كِسرَى فَأبْشِرُوا بِالنَّصْرِ فاستبشر المسلمون.
وقالوا : الحمد لله موعد صادق إذ وعدنا بالنصر بعد الحصر فطلعت الأحزاب فقال المؤمنون { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولَهُ } الآية) ( ).
(وعن ابن عباس ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لأصحابه : إن الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً ، أي بعد تسع ليال أو عشر .
فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك) ( ) أي قولهم [هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ]ومن الوعد العملي قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحفر الخندق هو وأصحابه مع ما فيه من المشقة والعناء .
ليكون خط دفاع في المنطقة الشمالية من المدينة ليربط بين طرفي حرة واقم وحرة الوبر ، وكانت ابعاد الخندق :
الطول : 5000 ذراع .
العرض : تسع أذرع .
العمق : سبعة أذرع إلى عشرة .
وأختلف في مقدار الذراع ، وذكرت فيه قياسات ، وهي 46 سم ، 53سم ، 61 سم .
الذراع العثماني 67 سم ، وهو أكثر قليلاً من نصف متر .
وكان كل عشرة من الصحابة يتولون حفر أربعين ذراعاً طولاً ، مما يدل على أن عددهم يومئذ نحو (1250) صحابي بلحاظ :
5000 ذراع ÷ 40 ×10 = 1250 .
أما الجهات الأخرى ، فيتشابك فيها النخيل وتتداخل فيها البيوت ، فيصعب على الإبل السير فيها ، كما أن الراجلة يتعرضون لرمي الحجارة والنبال من سطوح المنازل من النساء والصبيان .
وكان الجو شديد البرودة مع حال الجوع والخوف والهمة العالية لقرب مجئ جيش المشركين ، وقد شدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجراً على بطنه من شدة الجوع) ( ) وأغبّر بدنه من حمله للتراب ، ومع هذا كان الصحابة يلجأون إليه إذا لاقتهم صخرة كبيرة أثناء الحفر ، ولا تزال منطقة الخندق شاخصة إلى الأن ، وتتبين فيها كثرة الصخور ، وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأخذ المعول ليضرب الصخرة ، ويكرر الضرب عليها إن لزم الأمر إلى أن تتفتت .
ولم يكن يوم الخندق هو الوحيد الذي شد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجراً على بطنه من الجوع (عن ابن البجير ، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جوع يوما فوضع حجرا على بطنه ثم قال : ألا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة ، ألا يا رب نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة ، ألا يا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين ألا يا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم ألا يا رب متخوض ومنفق مما أفاء الله عز وجل على رسوله ما له عند الله عز وجل من خلاق ألا وإن عمل الجنة حزنة بربوة ألا وإن عمل النار سهلة بشهوة ألا يا رب شهوة ساعة أورثت صاحبها حزنا طويلا) ( ).
وتم حفر الخندق بعد استشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ، قال تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ] ( ) فأشار سلمان المحمدي بفكرة حفر الخندق التي أذهلت قريش وجعلتهم في حيرة من أمرهم .
ورآى جابر الأنصاري حال الجوع الشديد والإجهاد الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنه لم يذق الطعام لثلاثة أيام فذهب إلى البيت وسأل زوجته أن تعمل طعاماً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وذبح معزى عنده ، وطحنت زوجته صاعاً من شعير ، ولما أكملت زوجته الطعام قام جابر بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحضر هو وجماعة من أصحابه ، فدعا للطعام بالبركة وصار الصحابة يدخلون عشرة عشرة حتى أكلوا وزاد والبرمة أي القدر من الحجر الذي طبخ فيه الطعام ليغلي وكأنه طبخ للتو ، فكانت معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد أضطر المشركون النبي محمداً إلى بذل الوسع في حفر الخندق لتجنب القتال وملاقاتهم في الميدان ليس خوفاً منهم ، إنما للمنع من سفك الدماء من الفريقين ، وليرى المشركون كيف أنه يريد السلم والموادعة ، ويتجنب لمعان السيوف .
لقد ظن المشركون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سيخرجون للقائهم كما فعلوا في معركة أحد ، أي أنهم عملوا بأصل الإستصحاب وهو عقلي قبل أن يكون من مصاديق علم الأصول ، ولم يعلموا أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد كان بالوحي بعد مشورته لأصحابه ، وكذا بالنسبة لحفر الخندق .
لقد أعطت معركة الخندق رسالة للناس أن النبي محمداً لم يأت بالسيف، ولم يرغب بالقتال وكما كان في معركة أحد مقبلاً على الدعاء فانه في معركة الخندق اجتهد بالصلاة وأظهر الصبر مدة الحصار التي استمرت أكثر من عشرين ليلة .
ولم يكتف المشركون بالحصار بل كانوا يواصلون رمي النبال والسهام والحجارة على المسلمين ، وعبر نفر من فرسانهم الخندق ولما طال الحصار أجمع أبو سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل ، وضرار بن الخطاب ، وخالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، ونوفل بن معاوية ، وعمرو بن ود العامري ، ونوفل بن عبد الله المخزومي ، ومعهم عدد من رؤساء بني أسد ورؤساء غطفان منهم ثلاثة أسلموا فيما بعد وهم عبيية بن حصن( ) ، والحارث بن عوف ، ومسعود بن رخيل .
فقاموا بالطواف حول الخندق من أجل إيجاد مكان ضيق يمكن للخيل أن تقتحمه ، فوجدوا مكاناً ضيقاً فصاروا يُكرهون خيلهم على اقتحامه ، ويقومون بضربها .
ولما طاف بعض الرؤساء والفرسان على الخندق ، ووجدوا موضعاً ضيقاً اقتحم بعضهم الخندق نحو داخل المدينة ، وحيث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم كل من :
الأول : عكرمة بن أبي جهل ، واسم أبي جهل هو عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وكان يسمى أبا الحكم ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا جهل ، لطعنه أم عمار بن ياسر وهي سمية بنت خياط بالحرباء وقتله لها ، وهي امرأة عجوز لا لشئ إلا لأنها جهرت بالإسلام .
وكان أبوه هشام بن المغيرة سيد بني مخزوم من كنانة في حرب الفجار ضد قبائل قيس بن عيلان ، وهو ابن عم خالد بن الوليد بن المغيرة .
وأختلف في أم عمر بن الخطاب حنتمة هل هي أخت أبي جهل وأن اسمها حنتمة بنت هشام أم انها ابنة عمه ، وأن اسمها هو حنتمة بنت هاشم بن المغيرة ، والأرجح الثاني .
(وأخرج ابو نعيم عن عمر قال كنت جالسا مع أبي جهل وشيبة بن ربيعة فقال أبو جهل يا معشر قريش إن محمدا قد شتم آلهتكم وسفه احلامكم وزعم ان من مضى من آبائكم يتهافتون في النار ألا ومن قتل محمدا فله علي مائة ناقة حمراء وسوداء وألف أوقية فضة .
قال عمر فخرجت متقلدا بالسيف متنكبا كنانتي أريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمررت على عجل يذبحونه فقمت أنظر إليهم فاذا صائح يصيح من جوف العجل يا آل ذريح أمر نجيح رجل يصيح بلسان فصيح يدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، قال عمر فعلمت انه أرادني ثم مررت بغنم فإذا هاتف يهتف ويقول
يا أيها الناس ذوو الأجسام
ما أنتم وطائش الأحلام
ومسندو الحكم إلى الأصنام
فكلكم أوره كالنعام
أما ترون ما أرى أمامي
من ساطع يجلود حي الظلام
قد لاح للناظر من تهام
أكرم به لله من إمام
قد جاء بعد الكفر بالإسلام
والبر والصلات للأرحام
قال عمر فقلت والله ما أراه إلا أرادني ثم مررت بالضمار فاذا هاتف من جوفه يقول
ترك الضمار وكان يعبد وحده
بعد الصلاة مع النبي محمد
إن الذي ورث النبوة والهدى
بعد ابن مريم من قريش مهتدي
سيقول من عبد الضمار ومثله
ليت الضمار ومثله لم يعبد
فاصبر أبا حفص فإنك آمن
يأتيك عز غير عز بني عدي
لا تعجلن فأنت ناصر دينه
حقا يقينا باللسان وباليد
قال عمر : فوالله لقد علمت انه أرادني فجئت حتى دخلت على أختي فإذا خباب ابن الأرت عندها وزوجها .
فقال خباب : ويحك يا عمر أسلم فدعوت بالماء فتوضأت ثم خرجت الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي استجيب لي فيك يا عمر أسلم فأسلمت وكنت تمام أربعين رجلا ممن أسلم ونزلت يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) ( ).
الثاني : عمرو بن ود العامري .
الثالث : نوفل بن عبد الله المخزومي.
الرابع : ضرار بن الخطاب بن مرداس الفهري .
الخامس : هبيرة بن أبي وهب ، وهو زوج أم هانئ بنت أبي طالب أخت الإمام علي عليه السلام ، والتي اسلمت وحسن اسلامها ، ولكن هبير هرب عند فتح مكة إلى نجران ومات فيها مشركاً .
وأختلف في اسم أم هانئ هل هو هند أم فاختة ، والأول أصح إذ يخاطبها هبيرة في شعره يوم معركة أحد ، وهو يفتخر ويذكر قومه :
(ما بال همّ عميدٍ بات يطرقني … بالود من هند إذ تعدو عواديها
باتت تعاتبني هندٌ وتعذلني … والحرب قد شغلت عنّي مواليها) ( ).
وصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح صلاة الضحى ثمان ركعات في بيت أم هانئ ، وكان قد التجأ إليها اثنان من أصهارها من بني مخزوم من أقارب زوجها هبيرة .
فاراد الإمام علي عليه السلام قتلهما ، فشفعت لهما عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقالت إنها أجارتهما فأمضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجارتها وكان أحدهما الحارث بن هشام بن المغيرة ، وهو أخو وشقيق أبي جهل ، وحضر بدراً كافراً وفر من المعركة وعيّره حسان بن ثابت:
(إن كنت كاذبة بما حدثتني … فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة يقاتل دونهم … ونجا برأس طمرة ولجام
فاعتذر الحارث بن هشام من فراره يومئذ بما زعم الأصمعي أنه لم يسمع بأحسن من اعتذاره ذلك من فراره وهو قوله :
الله يعلم ما تركت قتالهم … حتى رموا فرسي بأشقر مزبد
ووجدت ريح الموت من تلقائهم … في مأزق والخيل لم تتبدد
فعلمت أني إن أقاتل واحدا … أقتل ولا ينكي عدوي مشهدي
فصدفت عنهم والأحبة دونهم … طمعا لهم بعقاب يوم مفسد) ( ).
وغزا يوم أحد مع المشركين ، ثم أسلم عام الفتح ، وكان من [وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ] ( ) .
وقيل حينئذ (لابي سفيان: ألا تعبر قال: قد عبرتم، فإن احتجتم لنا عبرنا) ( ).
لقد كان هذا العبور دليلاً آخر على أن المشركين هم الغزاة وأنهم يرومون القتال والبطش ، ولم يهجم عليهم المسلمون في الحال خاصة مع قلة عددهم ، إذ من الممكن أن يقتلوهم بالنبال والحجارة ، وعادة العرب إذا كانوا كثيري العدد ، وعدوهم منفرداً لم يبارزوه لما في المبارزة من إحتمال القتل لبعضهم ، إنما يبقون على مسافة منه ،ويرمونه بالحجارة والنبال حتى يقعدوه ، وإن رماهم بسهم رشقوه بسهام متعددة ، لقد توجهت خيل المسلمين نحو الذين عبروا الخندق ليعلموا ما يريدون ، ومن بين هؤلاء الذين عبروا الخندق عمرو بن ود العامري طالباً من المسلمين المبارزة ، وكان قد قاتل يوم بدر ، واثبتته الجراحة ، ولم يستطع حضور معركة أحد .
وحرم على رأسه الدهن حتى يثأر من محمد وأصحابه ، فحضر يوم الخندق وقد بلغ عمره تسعين سنة ، وهو ثائر الرأس ، معلماً يحمل علامة تدل على مكانه للتعريف به .
وحينما دعا للبراز ولم يجبه أحد استأذن الإمام علي عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأذن له ، وأعطاه سيفه وعممه ، ودعا له (وقال : اللهم أعنه عليه ) ( ).
وتقدم الإمام علي عليه السلام وهو يرتجز ويقول:
(لَا تَعْجَلَنّ فَقَدْ أَتَا … ك مُجِيبُ صَوْتِك غَيْرَ عَاجِزْ
ذُو نِيّةٍ وَبَصِيرَةٍ … وَالصّدْقُ مُنْجِي كُلّ فَائِزْ
إنّي لَأَرْجُو أَنْ أُقِ … يمَ عَلَيْك نَائِحَةَ الْجَنَائِزْ
مِنْ ضَرْبَةٍ نَجْلَاءَ يَبْ … قَى ذِكْرُهَا عِنْدَ الْهَزَاهِزْ) ( ).
وكان لابسا الحديد لم يعرفه عمرو بن ود العامري ، كما أن أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانوا من المهاجرين والأنصار .
فسأله عمرو : من أنت؟
قال : عَلي .
ولم يزد عن ذكر اسمه المجرد مما يدل على أن اسمه سبب للخوف والفزع عند قريش بعد واقعة بدر وأحد ، حيث قتل الإمام علي عليه السلام صناديدهم ، وحملة اللواء منهم .
قال عمرو : ابن عبد مناف .
قال : انا ابن أبي طالب .
ثم قال له الإمام علي ، يا عمرو كنت تقول في الجاهلية لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلا قبلتها .
قال عمرو : أجل .
فقال الإمام علي : فأني أدعوك إلى أن تشهد ان لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن تسلم لرب العالمين .
ليجعل له الإمام علي عليه السلام متسعاً بكلمة التوحيد .
قال عمرو : ابن أخي آخر عني هذه .
قال الإمام علي : وأخرى ترجع إلى بلادك ، فان يك محمد صادقاً كنت أسعد الناس به ، وإن يك كاذباً كان الذي تريد .
قال عمرو : (هذا ما لا تحدث به نساء قريش أبدا، وقد نذرت ما نذرت، وحرمت الدهن) ( ).
الأحزاب في القرآن
والحزب بكسر الحاء الطائفة ، والسلاح والورد والجماعة من الناس ، وضد الرجال الذي هم على رأية ويطلق لفظ الأحزاب على الجماعة الذين تحّزبوا أي صاروا أحزاباً وجماعات على مذاهب متباينة ، والحزب : النصيب من المال وجمع الحزب الأحزاب ، وفي التنزيل [إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ] ( ) والمراد المتحزبون على أنبياء الله تعالى .
والذين لم يكونوا بزمان أو مكان واحد ، كما أن العذاب الذي جاءهم متباين ومتعدد ، وإذ لم يتعض آل فرعون من الإنذار فقد كان هلاكهم بالغرق في البحر الأحمر لظلمهم لأنفسهم .
(الحِزْبُ: النَّوْبةُ في وُرُود الماء. والحِزْبُ: ما يجعله الرجلُ على نفسه من قراءة وصلاة. والحِزْبُ: الصِّنْف من النَّاس) ( ).
ويوم الأحزاب هو يوم الخندق ، ومع أنه حصار على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والمدينة المنورة أستمر على عادة العرب من إطلاق لفظ يوم على الواقعة وإن كانت لأكثر من يوم ، والحزب في الإصطلاح هو مقدار وجزء من القرآن ، وعن حذيفة الثقفي قال : كنت في الوفد وعن (أوس بن حذيفة قال: كنت في الوفد الذين أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر حديثا فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يسمر معهم بعد العشاء فمكث عنا ليلة لم يأتنا، حتى طال ذلك علينا بعد العشاء.
قال: قلنا: ما أمكثك عنا يا رسول الله؟
قال: “طرأ على حزب من القرآن، فأردت ألا أخرج حتى أقضيه “. قال: فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أصبحنا، قال: قلنا: كيف تحزبون القرآن؟
قالوا: نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل من قاف حتى يختم) ( ).
أي يكون تقسيم مجموع سور القرآن وهي 114 سورة إلى أحزاب ، كل حزب بالمفرد وهي :
الحزب الأول : ثلاث سور وهي سورة الفاتحة سورة البقرة ، سورة آل عمران .
الحزب الثاني : خمس سور وهي سورة النساء ، وسورة المائدة ، وسورة الأنعام ، وسورة الأعراف ، وسورة الأنفال .
الحزب الثالث : سبع سور وهي : سورة التوبة ، وسورة يونس ، وسورة هود ، وسورة يوسف ، وسورة الرعد ، وسورة إبراهيم ، وسورة الحجر .
الحزب الرابع : تسع سور وهي : سورة النحل ، سورة الإسراء ، سورة الكهف ، سورة مريم ، سورة طه ، سورة الأنبياء ، سورة الحج ، سورة المؤمنون، سورة النور .
(عن ابن عباس. قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن (عمدتم) إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المَئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال؟
قال عثمان : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد .
فلا انزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا.
وينزل عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا .
وكانت الأنفال مما نزلت بالمدينة .
وكانت براءة من آخر ما نزلت .
وكانت قصتها شبيهة بقصتها (فظننت أنها منها) .
وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم اكتب سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال.)( ).
ويدل هذا الخبر في مفهومه على مسائل :
الأولى : ترتيب القرآن توقيفي ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي كان يعين موضع السور من القرآن .
الثانية : يدل وقوع التساؤل وقع بخصوص سورة واحدة على الإجماع على صحة ترتيب سور القرآن الأخرى .
الثانية : لم يكن ابن عباس ممن جمع القرآن أيام عثمان بن عفان .
الثالثة : عدم إعتراض الصحابة على ترتيب سور القرآن (سُئل سفيان بن عيينة : لِمَ لَمْ يكن في صدر براءة : بسم الله الرحمن الرحيم،
فقال : لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف، ولا أمان للمنافقين) ( ).
ولكن السورة لم تنزل بخصوص المنافقين وهم الذين يظهرون الإيمان ويخفون الكفر ، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتل واحد منهم، إنما نزلت بخصوص مشركي مكة وما حولها .
الحزب الخامس : إحدى عشرة سورة وهي : سورة الفرقان ، سورة الشعراء ، وسورة النمل ، وسورة القصص ، وسورة العنكبوت ،وسورة الروم ،وسورة لقمان وسورة السجدة ،وسورة الأحزاب ، وسورة سبأ .
الحزب السادس : ثلاث عشرة سورة وهي وسورة فاطر ، سورة يس ، وسورة الصافات ،وسورة ص ، وسورة الزمر ، وسورة غافر ،وسورة فصلت وسورة الشورى ،وسورة الزخرف ،وسورة الدخان ،وسورة الجاثية،وسورة الأحقاف ،وسورة محمد ، وسورة الفتح ، سورة الحجرات .
الحزب السابع : وهي (65 ) سورة تبدأ بسورة ق ، ثم سورة الذاريات، وسورة الطور ، وسورة النجم ، وسورة القمر ، وسورة الرحمن ، وسورة الواقعة ، وسورة الحديد ، وسورة المجادلة ، وسورة الحشر ، وسورة الممتحنة ، وسورة الصف ، وسورة الجمعة ، وسورة المنافقون ، وسورة التغابن ، وسورة الطلاق ،وسورة التحريم ،وسورة الملك ، وسورة القلم( ) وسورة الحاقة ، وسورة المعارج ، وسورة نوح وسورة الجن ، وسورة المزمل ،وسورة المدثر ، وسورة القيامة ، وسورة الإنسان ، وسورة المرسلات ، وسورة النبأ ، وسورة النازعات ، وسورة عبس ، وسورة التكوير ، وسورة الإنفطار ، وسورة المطففين ، وسورة الإنشقاق ، وسورة البروج ، وسورة الطارق ، وسورة الأعلى ، وسورة الغاشية ، وسورة الفجر ، وسورة البلد ، وسورة الشمس ، وسورة الليل ، وسورة الضحى ، وسورة الشرح ، وسورة التين ، وسورة العلق ، وسورة القدر ، وسورة البينة ، وسورة الزلزلة ، وسورة العاديات ، وسورة القارعة، وسورة التكاثر ، وسورة العصر ، وسورةالهمزة ، وسورة الفيل، وسورة قريش ، وسورة الماعون ، وسورة التكاثر ، وسورة الكافرون، وسورة النصر ، وسورة المسد ، وسورة الأخلاص ، وسورة الفلق ، وسورة الناس .
ويكون في الجزء الثلاثين (37) سورة ، إذ يبدأ من سورة النبأ وأولها [عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ] ( ) وهو من أكثر الأجزاء من جهة عدد السور ، ويكون عدد صفحات الجزء نحو عشر صفحات في القرآن المطبوع في هذا الزمان ، وهذا العدد ليس ثابتاً ، لذا وضعت إشارة الجزء والحزب في القرآن كما وضع في أعلى صفحات المصحف رقم الجزء لتسهيل الحفظ وختم التلاوة والمراجعة .
وعلة هذا التقسيم هو تقسيم سور القرآن على سبعة أيام لختم القرآن فيها ، وعلى فرض دخول سورة الفاتحة فيها فتكون سورة الأنفال والتوبة كالسورة الواحدة ، ويسمى حزب المفصّل إلى سورة الناس لكثرة الفصل بين سورة البسملة ، وقيل لقلة المنسوخ فيه .
ومنهم من جعل المفصل يبدأ بسورة الحجرات ، وبه يستقيم عدد السور مع ترتيب الأحزاب بلحاظ عدم ذكر سورة الفاتحة أو الجمع بين سورة الأنفال والتوبة .
وينقسم المفصل إلى أقسام :
أولاً : طوال المفصل من سورة ق إلى سورة النبأ .
ثانياً : أوساط المفصل من سورة النازعات إلى سورة الليل .
ثالثاً : قصار المفصل من سورة الضحى إلى سورة الناس ، وهي آخر سورة القرآن في المصحف .
وكان اسم المفصل للقسم والسُبع الأخير من القرآن معروفاً عند الصحابة ، عن جابر بن عبد الله (كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّى مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ ، فَكَأَنَّ مُعَاذًا تَنَاوَلَ مِنْهُ ، فَبَلَغَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ : فَتَّانٌ فَتَّانٌ فَتَّانٌ ثَلاَثَ مِرَارٍ أَوْ قَالَ فَاتِنًا فَاتِنًا فَاتِنٌ وَأَمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ ) ( ).
(أن رجلا أتى بن مسعود فقال إني قرأت المفصل الليلة كله في ركعة فقال عبد الله هذا كهذا الشعر لقد عرفنا النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرن بهن فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين سورتين في ركعة) ( ).
وأقصر سورة في القرآن سورة الكوثر .
وفي استحباب ختم القرآن كل أسبوع ذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (اقرأ القرآن فى كل سبع ولا تزد رواه أبو داود وروى الطبرانى بسند جيد سئل أصحاب رسول الله صلى الله عليه كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يجزىء القرآن قال كان يجزئه ثلاثا وخمسا وكره قوم قراءته فى أقل من ثلاث وحملوا عليه حديث لا يفقه من قرأ القرآن فى أقل من ثلاث) ( ).
وهناك تقسيم آخر للقرآن بلحاظ النص الوارد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه عن أبي أمامة قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أعطاني ربي السبع الطوال مكان التوراة ، والمئين مكان الإِنجيل وفضلت بالمفصل .
وأخرج ابن الضريس وابن جرير عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أعطيت السبع مكان التوراة ، وأعطيت المثاني مكان الإِنجيل ، وأعطيت كذا وكذا مكان الزبور ، وفضلت بالمفصل ( ).
(عن واثلة بن الأسقع أن النبى صلى الله عليه وآله و سلم قال أعطيت مكان التوراة السبع الطول وأعطيت مكان الزبور المئين وأعطيت مكان الإنجيل المثانى وفضلت بالمفصل) ( ).
فقسمت سور القرآن تقسيماً آخر إلى أربعة أقسام وهي :
الأول : السور الطوال وهي أطول سبع سور في القرآن وهي (سورة البقرة ، سورة آل عمران ، سورة النساء ، سورة المائدة ، سورة الأنعام ، سورة الأعراف ، سورة الأنفال والتوبة ) إذ كانوا يعدون الأنفال والتوبة سورة واحدة ، فليس من تسمية في أول سورة التوبة .
الثاني : وهي السور التي تزيد آياتها السور المئون ، وهي السور التي تلي السور الطوال ، وهي (سورة يونس ، سورة الرعد ، سورة إبراهيم ، سورة الحجر ، سورة النحل ، سورة الإسراء ، سورة الكهف ، سورة مريم، سورة طه ، سورة الأنبياء ، سورة الحج ، سورة المؤمنون ، سورة النور ، سورة الفرقان ، سورة الشعراء ، سورة النمل ، سورة القصص ، سورة العنكبوت ).
ومنهم من قال أنها من سورة الإسراء ، وتسمى أيضاً سورة بني إسرائيل ، وآخرها سورة السجدة ، على مائة آية أو تقاربها
الثالث : السور المثاني ، وهي التي تلي المئين في عدد الآيات ، وتبدأ من سورة الأحزاب إلى آخر سورة الحجرات ، وقيل إلى السورة التي قبلها وهي سورة الفتح .
الرابع : سور المفُصّل وتبدأ من سورة (ق) ومنهم من جعلها تبدأ من سورة الحجرات .
واعتمد الصحابة تقسيم القرآن بلحاظ الآيات التامة وعدد الحروف .
والتقسيم المتعارف في هذا الزمان هو جعل القرآن (30) جزء ، وكل جزء يتألف من حزبين ، أي (60) حزباً ، وكل حزب يقسم إلى أربعة أرباع.
أسماء صلح الحديبية
عقد هذا الصلح في منطقة الحديبية والتي تسمى في هذا الزمان الشميسي والأصل أن تحتفظ بذات اسم الحديبية .
وعقد الصلح في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة والموافق لسنة (627) م .
وعلة تسمية الحديبية بئر في ذات الموضع يسمى الحديبية ، وتقع الشجرة التي بويع الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحتها قريبة من البئر .
وقيل سبب التسمية هو شجرة حدباء صغيرة في ذات الموضع ، ويبعد عن المسجد الحرام (24) كم وعن حد الحرم (2) كم ، وفي ذات الموضع مسجد قديم مبني من الحجر الأسود والجص لا تزال آثاره باقية ، وتم في هذا الزمان بناء مسجد حديث إلى جواره .
ترى لماذا أصرت قريش على وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند هذا الموضع ، الجواب لمنعهم من دخول الحرم ، وترتب الأثر على هذا الدخول ، وإضطرار قريش إلى عدم إيذائهم وقتالهم ، قال تعالى [وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا] ( ).
وشهر ذي القعدة من الأشهر الحرم التي لا يجوز فيها القتال ، ولكن المشركين أظهروا التهديد والوعيد يومئذ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مع عزمهم على الغزو والقتال في الشهر الحرام ، فجاء التحذير من عند الله بقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ) ، ليكون من معاني الآية أعلاه ذم وتوبيخ الذين كفروا وإخبارهم بتعدد وتوالي صدور الظلم منهم ، ليدرك الناس بالفطرة أن العقاب نازل بهم خاصة ، مع صدور هذا الظلم في محاربة النبوة والتنزيل،واخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من ديارهم ، ثم قصدهم في المدينة بالسيوف والرماح والجيوش العظيمة ، ومن مصاديق العقاب أعلاه قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
لبيان قانون وهو أن آية [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ..]آية دفاع محض ، وفيها تحذير وتنبيه للمسلمين .
ومن وجوه الحيطة والحذر في المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلّد الهدي والأنعام وجعلها تسير أمامه وأحرم وأصحابه ، ليشهد الله والناس أنه وأصحابه عمارُ للبيت الحرام ، ومنه ما ورد في حديث المسور بن مخرمة وغيره (وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش وسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي .
فقال : إني قد تركت كعب بن لؤي ، وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا لك جموعا وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت) ( ).
والمراد من كعب بن لؤي ذريته من قريش ، وهو الجد السابع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان سيد قبيلة بني كنانة.
لبيان مسألة وهي أن قريشاً وأحلافها اجتمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في حال إحرام.
وكانت بيوتات وقبائل قريش على قسمين:
الأول : قريش البطاح ، وهم الذين يتولون شؤون المسجد الحرام ، والإشراف على الحج والعناية بالحاج ، ويذبون عنهم ويسهرون في سبيل راحتهم ، قال تعالى [أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ…] ( ).
وسموا باسم البطاح لأنهم أقاموا في بطاح مكة ،والبطاح جمع بطحاء ، والبطاح : الرمل المنبسط على الأرض وسميت بطحاء مكة لإنبطاحها .
وكانوا يجتمعون في دار الندوة للتباحث والتشاور واستعراض أحوال القبائل العربية ، وشؤون التجارة ، وطرق القوافل ، وتوفير الأمن فيها .
وكان الناس يفدون إلى مكة للحج والعمرة ، ويلجأون إلى قريش لحل الخلافات والخصومات التي تقع بينهم .
ومن خصائص قريش أنها عقدت المواثيق مع القبائل وحافظوا على صلات حسنة مع بلاد الروم وفارس ، ومع الحبشة واليمن ، ولا تنحصر هذه الصلات بالتجار منهم ، بل تصل إلى البلاط الملكي ، وحاشية الملك ورجال الدين ، وكان رجال قريش يأخذون لهم الهدايا ، ويتبادلون الحديث عن أحوال الجزيرة .
ومن شأن الممالك أن تعتني بالوافدين من التجار الذين ينشطون أسواقهم ، وليس فيهم ضرر على المجتمع والبلاط ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ *الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( ).
لقد كانت تلك الممالك تخشى غارات النهب والسلب التي يقوم بها العرب في أطراف ممالكهم وما يصاحبها من سفك الدماء ، وتجنبت مطاردتهم في الجزيرة حيث العطش والجوع والتيه في الصحراء ، وهلاك الجنود ، فيكرمون قريشاً لأنهم يحافظون على الأمن في الصحراء الممتدة من شمال إلى جنوب الجزيرة ، ومن شرقها حيث العراق إلى غربها حيث بلاد الشام ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ *إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ *الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( ) ولما كانت هذه الممالك العظمى تعجز عن بسط واستدامة الأمن في الجزيرة .
وعن (عبد الله بن بكر المري قال: قال أبو سفيان: أهديت لكسرى خيلاً وأدماً فقبل الخيل ورد الأدم، وأدخلت عليه، فكان وجهه وجهين من عظمه، فألقى إلي مخدة كانت عنده، فقلت: وا جوعاه! أهذه حظي من كسرى بن هرمز؟
قال: فخرجت من عنده، فما أمر على أحد من حشمة إلا أعظمها، حتى دفعت إلى خازن له، فأخذها وأعطاني ثمانمائة إناء من فضة وذهب.
قال الأصمعي: فحدثت بهذا الحديث النوشجان الفارسي، فقال: كانت وظيفة المخدة ألفاً أن الخازن اقتطع منها مائتين) ( ).
ترى كيف تحافظ قريش على الأمن في الجزيرة مع أن كل بقعة منها خاصة لسكن ونفور قبيلة معينة ، الجواب من وجوه :
الأول : حسن صلات قريش مع القبائل العربية .
الثاني : مجئ وفود وشيوخ القبائل إلى مكة لأداء مناسك الحج في موسم الحج ، كما يأتون على مدار السنة لأداء العمرة .
الثالث : شأن قريش عند القبائل لجوارهم البيت الحرام ولأنهم من ذرية إبراهيم وإسماعيل ، وهل كانت العرب تعلم بالبشارة بأن نبي آخر الزمان سيكون من قريش ، الجواب نعم على نحو الموجبة الجزئية .
الرابع : ولاية قريش للبيت الحرام ، وتوليهم شؤون وفد الحاج وقيامهم بالسقاية والإطعام العام والضيافة الخاصة ، وكان أشراف العرب الذي يتحمسون وتشددون في دينهم إذا حج أحدهم لا يأكل إلا طعام رجل من الحرم ، ولم يطف إلا في ثيابه ، فلا يضطر إلى الطواف عرياناً ، فكل رجل من قريش عنده رجل من قريش حرمّي له يطعم عنده في الحج ، وكان عياظ بن حمِار المجاشي حِرمّي رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم لبيان منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين أشراف العرب حتى قبل البعثة النبوية ، وهذه المسألة من أسباب الشأن والمقام الرفيع لقريش عند العرب( ).
الخامس : كثرة أموال قريش ، وقيامهم باقراض رجال القبائل ، وبيعهم بالسلف .
السادس : ورود قوافل قريش على القبائل والمبيت في ديارهم ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم .
وهل هذا الوجه من مصاديق قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( ) أم لا .
الجواب هو الأول ، فلابد حين التفسير والتحقيق في مضامين هذه السورة من لحاظ وجوه :
الأول : الصلات العامة لقريش مع أفراد القبائل ، والدول العظمى آنذاك .
الثاني : تسخير قريش لهذه الصلات ، لصدّ الناس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنعهم من إتباعه .
الثالث : محاولة تحريض الدول الكبرى على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أمر لم يقدر على صرفه إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
الرابع : سعي قريش لإثارة الفتنة ، والإرهاب ومحاولات الإتيال ، لبيان أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس وخير محض ، وضياء ينير دروب الهداية ، لذا يفتتح كل مسلم ومسلمة يومهما بالخشوع لله والنطق بالبسملة والحمد والثناء على الله ، والإقرار بسعة رحمته ، والدعاء بالهداية والرشاد إلى سبل الصلاح بتلاوتهما [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ويستلف منهم رجال القبائل بمعاملات ربوية سنوية ، فقد كانوا في حال غنى وثراء ، وحتى نسائهم كانت تعمل بالتجارة والمضاربة ، وصار هذا العمل نوع طريق ومقدمة لزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خديجة الكبرى ، وقريش فرع كنانة استقلت بشأنها ، لذا قد يقال قريش وكنانة، والمراد منه عطف العام على الخاص ، والأصل على الفرع .
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله اختار العرب فاختار منهم كنانة ، ثم اختار منهم قريشاً ، ثم اختار منهم بني هاشم ، ثم اختارني من بني هاشم) ( ).
وفيه شاهد بأن قريشاً فرع من كنانة وإن ترد الأخبار بالعطف بينهما بالقول : قريش وكنانة ، ولكنهم يجتمعون في الأحلاف والقتال ، كما في حرب الفجار (43 ق .الهجرة إلى 33 ق.الهجرة ) والتي وقعت بين قبيلة كنانة ومنها قريش ، وقبائل قيس عيلان ومنهم هوازن وغطفان وثقيف وسليم ومحارب .
ولكن لما بُعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً من عند الله تحالفت قريش وكنانة وغطفان وهوازن وثقيف لقتاله .
ليكون ظهور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة حسية متعددة بلحاظ قانون : وهو كل معركة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة حسية من جهات ، وشاهد على كونه في حال دفاع كما يأتي بيانه .
وقريش البطاح هم :
الأول : بنو هاشم بن عبد مناف .
الثاني : بنو المطلب بن عبد مناف .
الثالث : بنو الحارث بن عبد المطلب .
الرابع : بنو أمية بن عبد شمس .
الخامس : بنو نَوْفَل بن عبد مناف .
السادس : بنو الحارث بن فِهْر .
السابع : بنو أسد بن عبد العُزَّى .
الثامن : بنو عبد الحرب قصَيّ – وهم حَجَبَة الكعبة .
التاسع : بنو زهرة بن كلاب .
العاشر : بنو تَيم بن مرة .
الحادي عشر : بنو مخزوم .
الثاني عشر : بنو يَقَظَة .
الثالث عشر : بنو مرة .
الرابع عشر : بنو عَدِيّ بن كعب .
الخامس عشر : بنو سَهْم .
السادس عشر : بنو جُمَح( ).
الثاني : قريش الظواهر : وهم الذين ينزلون حول مكة قال الشاعر:
(فلو شَهِدَتني من قُريشٍ عصَابَةٌ … قُرَيشُ البطاحِ لا قُريش الظَّواهرِ)( ).
وقال ابن الأعرابي : قريش البطاح الذين ينزلون الشعب بين أخشبي مكة وقريش الظواهر الذين ينزلون خارج الشعب وأكرمهما قريش البطاح( ).
وكانت قريش الظواهر تغير وتغزو، وتسمي قريش البطاح الضب للزومها الحرم( ).
وفيه نكتة وهي أن النبي محمداً ولد ونشأ في مجتمع لا يغزو ولا يهجم على غيره ، يحرصون على جوار الحرم ويفتخرون به ، ما أن يذهب بعضهم في تجارة ويقضي ورده حتى يعود إلى مكة مسرعاً وهو من أسرار تسمية [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( )، كناية عن توالي هذه الرحلات ، وتعاهد قريش الإقامة في مكة ، وتقدير الآية على جهتين:
الأولى : رحلة الشتاء من مكة إلى اليمن والعودة إلى مكة .
الثانية : رحلة الصيف من مكة إلى الشام والعودة إلى مكة .
الثالث : قوافل قريش نحو الحبشة ويثرب وغيرها .
قانون تعاهد اليمين والميثاق حصن
تبين آيات القرآن حاجة الناس للتنزيل والعاملين به، وأن هذه الحاجة مستديمة، مما يلزم التفقه في الدين والتحلي بالخلق الحميد ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( )، وتكون حاجة الناس لسنن الهدى من وجوه:
الأول : الثبات على الإيمان، وفي هذا الثبات نبذ لنقض العهود والأيمان.
الثاني : بيان قبح شراء ثمن قليل بالعهود والأيمان، وإظهار أضراره على أصحابه.
الثالث : دعوة الذين يشترون الدنيا بالآخرة إلى التوبة والإنابة، والتسليم بصدق الرسالات ، وما الذي جاءت به الكتب السماوية السابقة, وورد على لسان عيسى عليه السلام في التنزيل [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ]( ).
الرابع : النهي عن التطرف والعنف والتفجيرات العشوائية وسفك الدماء .
الخامس : التخويف من اليوم الآخر، والتذكير بعالم الحساب، وما فيه من إحضار لأعمال الناس في الحياة الدنيا، قال تعالى[وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ]( ).
السادس : تحذير الناس من الإنصات لأهل التحريف ، وصيغ المغالطة , وهذا التحذير مع التخويف من الآخرة يجعلان الناس ينفرون من التحريف وأهله، ويرون بالبصيرة والعين والباصرة أن الثمن الذي يؤخذ على نقض العهود والأيمان بخس ولا قيمة له، بالإضافة إلى لزوم رؤيتهم للمسلمين وهم متقيدون بمعاني الورع والتقوى، وفيه ترغيب بالوفاء بالعهود، وتعاهد الأيمان , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]( ).
لقد حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الوفاء بالعهد ،وعقد بعد الهجرة إلى المدينة على العهود والمواثيق مع اليهود والقبائل التي من حولها.
وفي الوفاء بالعهد والتقيد بالميثاق طاعة لله استقرار للمجتمات ، ونشر للواء السلم .
ومن خصال المؤمنين الوفاء التقيد باليمين والوفاء بالعهد ، وفي الثناء على المؤمنين ، قال تعالى [وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ] ( ) وهل المواطنة في هذا الزمان من الأمانة والعهد ، الجواب نعم ، مما يلزم التقيد بالقوانين العامة التي تكفل الأمن والسلم المجتمعي .
وبعد صلح الحديبية شكا بعض المسلمين المستضعفين في مكة من ظلم وقهر كفار قريش ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقيد بشروط صلح الحديبية ، (قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ أَتَاهُ أَبُو بَصِيرٍ عُتْبَةُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ ، وَكَانَ مِمّنْ حُبِسَ بِمَكّةَ .
فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ كَتَبَ فِيهِ أَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثّقَفِيّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَبَعَثَا رَجُلًا مِنْ بَنِي لُؤَيّ وَمَعَهُ مَوْلًى لَهُمْ فَقَدِمَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِكِتَابِ الْأَزْهَرِ وَالْأَخْنَسِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَا أَبَا بَصِيرٍ إنّا قَدْ أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَا قَدْ عَلِمْت ، وَلَا يَصْلُحُ لَنَا فِي دِينِنَا الْغَدْرُ وَإِنّ اللّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ، فَانْطَلِقْ إلَى قَوْمِك .
قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَتَرُدّنِي إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِي فِي دِينِي ،
قَالَ يَا أَبَا بَصِيرٍ انْطَلِقْ فَإِنّ اللّهَ تَعَالَى سَيَجْعَلُ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا) ( ).
قانون الثواب على الوفاء بالعهد
إذا كان الذين ينقضون العهود والمواثيق لا ينظر لهم ولا يكلمهم الله عز وجل يوم القيامة، فإن المسلمين الذين يوفون بالعهود والمواثيق ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ينظر لهم الله ويكلمهم.
وتلك نعمة يفوز بها المسلمون يوم القيامة ويدل عليه مفهوم قوله تعالى في ذم وتبكيت الكفار[قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ] ( )، فإذا قيل أن قوله تعالى(ولا تكلمون) هو كلام من الله موجه إلى الكفار وهم في النار.
والجواب أن الآية أعلاه وعيد وإنذار ودعوة للإنابة ، إذ أن الله عز وجل يأمرهم بأن لا يكلموه مما يدل على المعنى في الكلام فيشمل منع أهل النار من الكلام مع الله عز وجل لإقامة الحجة عليهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
وذكرت آيات القرآن سوء عاقبة الذين ينقضون العهود والمواثيق، وما أعدّ الله لهم من العذاب الأليم، فهل يسقط عن المسلمين أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
الجواب لا، لأن سوء العاقبة جاء على ذات الفعل، وليس لذوات وأشخاص على نحو التعيين لتكون وظيفة المؤمنين إنقاذ الناس من الفعل القبيح، وجذبهم إلى منازل التوبة والصلاح.
وعن سهل بن سعد الساعدي في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال للإمام علي عليه السلام (فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم) ( ).
ومن خصائص المؤمنين الجهاد بالحكمة والبرهان للفصل بينهم وبين الفعل المذموم شرعاً وعقلاً ، وفيه وجوه:
الأول: عدم إستقرار وإستدامة نقض العهود عند أصحابه، إذ يأمرهم المؤمنون بالمعروف ، ومنه الحفاظ على العهود، والتقيد بالمواثيق قال تعالى[الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ]( ).
الثاني: نهي المسلمين الناس عن نقض العهود والأيمان، وهو من إرادة التأديب والصلاح ومصاديق [تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] ( ).
الثالث: بعث الفزع الخوف في قلوب الذين ينقضون العهود .
الرابع : الوفاء بالعهد وحسنه من مصاديق الإرتقاء والرفعة ، ونيل الأجر والثواب .
ومن الثواب والجزاء على الإيمان والتقوى ما يكون عاجلاً .
وكان عند الإمام علي عليه السلام مؤذن شاب ، وصار هذا الشاب ينظر إلى جارية عند الإمام تخرج وتدخل (فكان إذا نظر إليها قال لها: أنا، والله، أحبك .
فلما طال ذلك عليها أتت علياً، عليه السلام، فأخبرته، فقال لها: إذا قال لك ذلك، فقولي: أنا، والله، أحبك، فمه.
فأعاد عليها الفتى قوله، فقالت له: وأنا، والله، أحبك، فمه) ( ) أي فماذا بعد هذا الكلام ، أراد الإمام عليه السلام أن يختبر نواياه ، ويكشف سريرته ومقصده ، فقال : تصبرين ونصبر ، حتى يوفينا ما يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب .
فلما أخبرت الإمام عليه السلام دعاءه وزوجه منها ، ودفعها إليه ، قال الله تعالى [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
وقال عبد الله الواسطي بهذا المعنى
(كم قد ظفرت بمن أهوى، فيمنعني … منه الحياء، وخوف الله، والحذر
وكم خلوت بمن أهوى، فيقنعني … منه الفكاهة، والتحديث، والنظر
أهوى الملاح، وأهوى أن أجالسهم … وليس لي في حرام منهم وطر
كذلك الحب لا إتيان معصية … لا خير في لذة من بعدها سقر) ( ).
(وقال مسعر بن كدام :
تفنَى اللَّذاذةُ ممَّنْ نالَ صفوتَها … منَ الحرامِ ويبقَى الإثمُ والعارُ
تبقَى عواقبُ سوءٍ في مغبَّتِها … لا خيرَ في لذَّةٍ مِنْ بعدِها النَّارُ) ( ).
وكان سفيان الثوري يتمثل بهذين البيتين .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه جاء بقوانين الثواب الأخرى ، إذ بيّن كلام الله للناس قانون الدنيا مزرعة للآخرة ، وأن الأحكام التكليفية والإمتثال لها نوع غبطة وسعادة في الدنيا ، وطريق للخلود في النعيم ، قال تعالى [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ) .
وعن ثوبان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الدجى تتجلى عنهم كل فتنة ظلماء( ).
وعن زيد بن ثابت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من كانت الدنيا هَمَّه فرَّق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له. ومن كانت الآخرة نيَّته ، جمع له أمره ، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة( ).
ومن الصفات التي يلتقي فيها الأنبياء جميعاً الوفاء بالعهد والدعوة لتعاهده وتحمل الأذى من أجل استدامته وقد بادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حال وصوله الى المدينة مهاجراً إلى عقد مواثيق مع يهود المدينة ومع المقابل المحيطة بها .
ويدل هذا العقد على إقرارهم بنبوته ، ولو على نحو الموجبة الجزئية ، وعلى علم الناس الإجمالي بظهور دولة الإسلام ولكن مشركي قريش حاربوه بالسيوف والرماح ، وسقط عدد كثير من الصحابة شهداء ، قال تعالى [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
قانون المنافع العاجلة للوفاء بالعهد
ترى ما هي آثار الوفاء بالعهد وأضرار نقضه التي تظهر عند الفعل وبعده مباشرة.
الجواب من رحمة الله عز وجل بالناس في الحياة الدنيا رؤية آثار الفعل الذي يقدمون عليه لتكون مرآة لحالهم في الآخرة، ويتفضل الله عز وجل بالموعظة قبل الفعل وفي يوسف عليه السلام ورد قوله تعالى[وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ]( ) .
إذ تجلت العصمة في المقام من وجوه :
الأول : حضور البرهان من عند الله على اختلاف في ماهيته .
الثاني : رؤية يوسف عليه السلام للبرهان ، وإدراك أنه لطف حاضر من عند الله ، لقوله تعالى [رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] ( ).
وهل تدل الآية أعلاه على أن يوسف عليه السلام أدرك أن هذا البرهان من الله ، الجواب نعم ، وفيه ترجيح للإعجاز في سنخية البرهان .
وعن ابن عباس ، أنه سئل عن هم يوسف عليه السلام ، ما بلغ .
قال : حل الهميان – يعني السراويل – وجلس منها مجلس الخائن ، فصيح به يا يوسف ، لا تكن كالطير له ريش ، فإذا زنى قعد ليس له ريش)( ).
نعم الهمّ بالفعل من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة مما قد يجمع النصوص الخاصة بكيفية الهم والتي قد يبدو للوهلة الأولى أنها متعارضة فليس من تعارض لسعة مفهوم وكيفية الهم .
وللإمام الرضا عليه السلام تأويل ذكره في مجلس المأمون بأن يوسف لم يهّم بها إنما في الآية تقديم وتأخير وتقدير الآية : ولولا برهان ربه لهمّ بها .
وقد ورد لفظ [برهان] ثلاث مرات في القرآن احدها بصيغة النفي [وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ]( ) أما الآية الأخرى فقد ورد فيها البرهان للناس جميعاً على نحو العموم الإستغراقي [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ] ( ).
لبيان قانون وهو إذا أنعم الله عز وجل على الناس بنعمة فانه أكرم من أن يرفعها ، فنزلت نعمة البرهان الشخصي على يوسف في قضية عين ، ليأتي البرهان والحكمة والتنزيل من عند الله عز وجل لينهل منه الناس جميعاً في أمور الدين والدنيا .
الثالث : إنتفاع يوسف عليه السلام من البرهان في ساعته ومدة حياته واستدامة الإنتفاع والعمل بالنعمة من مصاديق إعطاء الله عز وجل بالأتم والأوفى .
ومن مصاديق قوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الرابع : إمتناع امرأة العزيز عن المعصية والإثم لبيان بركة البرهان من عند الله ، وهو نعمة يصيب الله بها البر والفاجر.
الخامس : تلقي نساء المدينة درساً بالعفة بعصمة يوسف ، فمع أنه غلام عند امرأة العزيز يأتمر بأمرها ، وينبهر بمقامها ، فانه امتنع عن الإستجابة لطلبها ، وأظهر الإستعداد لتحمل أشد الأذى ، كما ورد في التنزيل [قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ] ( ) لبيان لزوم عصمة الشباب المؤمن عن المعاصي والسيئات وظلم النفس والغير .
السادس : فضل الله سبحانه بتوثيق نزاهة وعصمة يوسف عليه السلام، وبحال يندر وقوعها من جهة استضعافه ، وسلطان التي راودته ، لبيان لزوم تنزه المؤمنين وعامة الناس عن الفواحش .
السابع : بقاء عفة وعصمة يوسف عليه السلام ميراثاً وثروة عند المسلمين ، وكنزاً قرآنياً ، ولا يعلم ما صرف الله بسورة يوسف وتلاوة المسلمين لها من ضروب الإفتتان والمعصية وعواقبها عن الناس إلا الله عز جل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) لبيان قانون وهو أن آيات القرآن واقية وتنزيه عن فعل المعاصي وإرتكاب الآثام وظلم الذات والغير .
وتدعو هذه السورة الى حفظ الأمانة ، والإخلاص في العمل وخشية الله في الغيب .
وتتجلى منافع الوفاء بالعهد في حينه وفيما بعد ، وتشمل :
الأول : الذين يوفون بالعهد .
الثاني : عامة الناس الذين يتعلق بهم موضوع العهد .
الثالث : أبناء الذين يوفون بالعهد .
وكل آية من القرآن نعمة من وجوه :
الأول: قانون الآية القرآنية موعظة للناس ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثاني: قانون الآية القرآنية طريق للهداية إلى الوفاء بالعهود.
الثالث : قانون الآية القرآنية زاجر عن نقض العهود، وبيان للتضاد في الماهية والآثار بين الوفاء بالعهد ونقضه، ليكون الناس على بينة من أمرهم.
الرابع : قانون تأكيد إخلاص العبادة لله ، وهذا الإخلاص شرط وقيد في ترتب الثواب العظيم على العمل الصالح ، قال تعالى [قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ]( ).
ومن مصاديقه الوفاء بعهد الله، إذ أن هذا الوفاء نوع تكليف ، وفيه مشقة على النفس تتمثل بقهر النفس الشهوية والغضبية.
ولا يختص الوفاء بعهد الله بالمسلمين ، إنما هو شامل للناس جميعاً ، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ]( )، فهذه الشهادة عهد وميثاق متقدم على خلق الناس ليكون حجة على قريش والذين اتبعوهم في حربهم للنبوة والتنزيل ، وقيامهم بغزو المدينة لإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وقد جعل الله في أداء التكاليف سكينة للنفس , وغبطة بالوفاء بعهد الله بأداء الوظائف العبادية، لتكون آثار الوفاء بالعهد ظاهرة على النفس، وتبعث الرضا باليوم والغد وهو من عمومات قوله تعالى[مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
أما الذي ينقض العهود فإنه يلوم نفسه لتضييعه أيامه بالمعصية .
ومن الوفاء بالعهد إتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنشر شآبيب الرحمة بين الناس ، وحمل لواء الرفق والمودة المقرون بطاعة الله في أداء التكاليف ، والعزوف عن الإرهاب والظلم .
وهل هذا الوفاء من عمومات قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
الجواب نعم لبيان قانون مجئ الحكم الشرعي في الموضوع المتحد من عدة وجوه في الكتاب والسنة ، وهذا التعدد من اللطف الإلهي بالناس وفي قوله تعالى ({صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}( ) يقال : إنّ في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه) ( ) .
باب التوبة رحمة( )
من رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً أنه فتح باب التوبة لهم، ورغّبهم بها ، قال تعالى [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ] ( ) .
ومن الإستقامة الإيمان بالله واليوم الآخر ، والوفاء بالعهد ، ومن الظلم نقض العهود.
ومن سبل الترغيب بالتوبة أمور :
الأول : قانون الثناء على الذين يختارون التوبة والإنابة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( ).
الثاني : حث المسلمين على ترك منازل الجحود.
الثالث : قانون وجوب الصدود عن أسباب عدم الوفاء بالعهود، وإجتناب الغرور والإستكبار.
الرابع : قانون مصاحبة الإستغفار لأيام الحياة الدنيا .
وجاء القرآن بقصة إمتناع إبليس عن طاعة الله في السجود لآدم إستكباراً منه كما ورد في التنزيل [خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ]( ).
ومن خصائص الآية القرآنية أنها دعوة للوفاء بالعهود والمواثيق نهي عن الإستكبار.
وجاءت أوائل السور نزولاً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي السور المكية والتي تتصف بالقصر وقلة الكلمات مع تضمنها الإنذار والوعيد للذين كفروا .
وهل من صلة بين الوفاء بعهد الله وعهود الناس الجواب نعم، وفيه وجوه:
الأول : قانون الوفاء بعهد الله تنمية لملكة الوفاء والصدق عند الإنسان.
الثاني : قانون الوفاء بعهود الناس من الخشية من الله، لذا ذكرت آيات القرآن التقوى والجمع بينهما وبين الوفاء بالعهد ، قال تعالى[بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى]، لتكون التقوى واقية من نقض العهود.
الثالث : قانون حفظ العهود من الخير الذي يدعو إليه المسلمون، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ] ( ).
وهذه الدعوة شاهد على أن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لا يغزو ولا يتخذ الغزو وسيلة للطمع ، إنما يعمل هو والمسلمون على نشر الخير ولواء المحبة ، ويفعلون الصالحات .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الملازمة بين أمور:
الأول : قانون حاجة الناس إلى التوبة ، وهي بلغة وبغية كل عابد .
ومن إعجاز القرآن تضمنه لدعوة الله للناس جميعاً للتوبة والإنابة ، قال تعالى [قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ).
الثاني : قانون ترغيب الناس بالتوبة سواء على نحو مستقل ، أو باقترانه بالترهيب ، وعن معاذ بن جبل قال : قلت يا رسول الله أوصني فقال : عليك بتقوى الله ما استطعت واذكر الله عند كل حجر وشجر وما عملت من سوء فأحدث لله فيه توبة السر بالسر , والعلانية بالعلانية( ).
الثالث : قانون مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحضّ على التوبة والمبادرة إليها ، وهو من وجوه الإلتقاء بين الأنبياء فليس من نبي إلا وجاء لقومه بالأمر بالتوبة والإخبار عن قبول الله عز وجل لها قال تعالى [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
ومن مصاديق اللطف الإلهي بالنبوة مجئ الأنبياء بالوعد الكريم على التوبة والإنابة ، وفي التنزيل بخصوص نوح عليه السلام [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا]( ).
و(عَنْ أَبِى سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَجِىءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى هَلْ بَلَّغْتَ فَيَقُولُ نَعَمْ ، أَىْ رَبِّ .
فَيَقُولُ لأُمَّتِهِ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ لاَ ، مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِىٍّ .
فَيَقُولُ لِنُوحٍ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم وَأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ ، وَهْوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ( ).
وورد في النبي هود عليه السلام [وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزيِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ]( )، وفي الرسول صالح ورد قوله تعالى [وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ]( ).
ولا تختص التوبة بالتنزه عن الكفر بل تشمل عالم الأفعال ، وهي محبوبة بالذات كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
ولم يكن نشر الإسلام في الجزيرة محتاجاً إلى توبة مشركي قريش وغيرهم ، إذ أن الإنسان هو المحتاج إليها ولو بادروا إلى التوبة لما اضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الهجرة ، ولما وقعت معركة بدر أو معركة أحد أو الخندق ، ولما استشهد المئات من الصحابة ، وتلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجراحات الكثيرة , ولكن [لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً]( ).
لبيان قانون وهو أن وزر معارك الإسلام الأولى وما فيها من الأضرار يتحملها المشركون ، فلا يصح القول لماذا فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذا بالمشركين ، أو قام بأسر عدد منهم لأن الوظيفة الشرعية للناس هي الإيمان وطاعة الله ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ولم يجد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهل مكة والقرى التي تحيط بها على ملة توحيد ، أو إتباع رسول من رسل الله السابقين كما في نصارى نجران الذين يتبعون عيسى عليه السلام أو يهود المدينة الذين يتبعون موسى عليه السلام , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( )، إذ تبين الآية أعلاه أن اليهود والنصارى غير المشركين لإفادة واو العطف المتكرر في الآية أعلاه المغايرة بين أطرافها .
ومن خصائص الكتب السماوية كثرة الآيات التي تحضّ على التوبة ، وتدعو إليها ، وتبين منافعها الدنيوية والأخروية ، وحب الله للتائبين سواء الذين يهجرون منازل الكفر والشرك ، أو الذين يكفون عن المعاصي والسيئات .
ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه تدعو إلى التوبة في منطوقها أو مفهومها ، ومنه قوله تعالى [قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ).
وتجلى في مضامين آيات القرآن قانون التنافي والتضاد بين الشرك والمغفرة ، فلا تنال الشفاعة أو العفو والمغفرة الذي يحث على الشرك بالله ، قال سبحانه [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ).
لقد كان الذين يحاربون النبي محمداً من أهل مكة وما حولها يتصفون بالشرك وعبادة الأصنام ، ومع هذا فان النبي محمداً لم يغزهم ، ولم يباغت مدنهم بهجوم ، بل كان يتلو عليهم آيات القرآن ويبشرهم بحب الله للتائبين، والمغفرة مع الإيمان .
و(عن جابر بن عبد الله ، أن خزيمة بن ثابت ، وليس بالأنصاري ، كان في عير ، لخديجة ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان معه في تلك العير ، فقال له : يا محمد ، إني أرى فيك خصالا ( )، وأشهد أنك النبي الذي يخرج من تهامة ، وقد آمنت بك ، فإذا سمعت بخروجك أتيتك .
فأبطأ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان يوم فتح مكة ، ثم أتاه ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : مرحبا بالمهاجر الأول.
قال : يا رسول الله ، ما منعني أن أكون من أول من أتاك ، وأنا مؤمن بك غير منكر لبيعتك ، ولا ناكث لعهدك ، وآمنت بالقرآن ، وكفرت بالوثن ، إلا أنه أصابتنا بعدك سنوات شداد متواليات ، تركت المخ رزاما والمطي هاما ، غاضت ( )، لها الدرة( )، ونبعت لها الترة( )، وعاد لها النقاد متجرثما والقنطة( )، أو العضاه مستحلفا ، والوشيج مستحنكا يبست بأرض الوديس( )، واجتاحت( )، جميع اليبيس وأفنت أصول الوشيج ، حتى قطت القنطة ، أتيتك غير ناكث لعهدي ، ولا منكر لبيعتي .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خذ عنك ، إن الله تبارك وتعالى باسط يده بالليل لمسيء النهار ليتوب ، فإن تاب تاب الله عليه ، وباسط يده بالنهار لمسيء الليل ليتوب ، فإن تاب تاب الله عليه ، وإن الحق ثقيل كثقله يوم القيامة ، وإن الباطل خفيف كخفته يوم القيامة ، وإن الجنة محظور عليها بالمكاره ، وإن النار محظور عليها بالشهوات)( ).
ولم تقف وعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقومه أن آمنوا بعالم البرزخ ويوم القيامة بل كان يبشرهم بالسيادة والزعامة العامة في الدنيا بشرط الإيمان ، قال تعالى [قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى]( ).
ليكون من وجوه تقدير قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ) إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في كل زمان ومكان , وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن سبع عشرة مرة على نحو الوجوب العيني .
فإن قلت في صلاة الجماعة تجزي قراءة الإمام وهي قراءة للمأموم أيضاً, ومع هذا هناك من الفقهاء من قال بقراءة المأموم قراءة الفاتحة , وقال المالكية بأنها مندوبة في الصلاة الإخفاتية كصلاة الظهر , ومكروهة في الجهرية كصلاة المغرب .
وقال الحنفية بعدم جواز قراءة المأموم خلف الإمام .
ومن الفقهاء من ذهب إلى حرمة قراءة المأموم لتحقق الإجزاء بقراءة الإمام .
وفي رسالتي العملية (الحجة) ذكرت مسألتين :
(مسألة 819) يتحمل الإمام القراءة في صلاة الجماعة , ويكره للمأموم القراءة في الركعتين الأوليتين من الاخفاتية، ويستحب ان يشتغل بالتسبيح والتحميد .
(مسألة 820) في الركعتين الأوليتين من الجهرية اذا سمع المأموم صوت الإمام ولو همهمة وجب عليه ترك القراءة وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، ويجوز في الاثناء الاشتغال بالذكر اخفاتاً وبقصد القربة المطلقة لا بنية الجزئية)( ).
وسيبقى قانون التنزيل الصلة المباركة الدائمة بين أهل الأرض وأهل السماء.
الحشرات من بديع صنع الله
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بكثرة الآيات والأجرام الصغيرة والكبيرة من الجمادات وذوي الأرواح , ومنها الحشرات والهوام إذ ذكر الله عز وجل بعضها في القرآن مثل النمل والنحل والعنكبوت والقمل والذباب والجراد والضفادع , وفي التنزيل [هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ]( ).
وكل جنس حشرة أو حيوان له نظام خاص وفيه الذكر والأنثى وعنده الغريزة, وليس منها إلا وهو يسبح لله عز وجل .
و(وعن ابن عباس قال : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن في المسجد حلق حلق، فقال لنا: فيم أنتم ؟
قلنا: نتفكر في الشمس كيف طلعت وكيف غربت.
قال: أحسنتم كونوا هكذا تفكروا في المخلوق ولا تفكروا في الخالق، فإن الله خلق ما شاء لما شاء وتعجبون من ذلك، إن من وراء قاف سبع بحار كل بحار خمسمأة عام ومن وراء ذلك سبع أرضين يضئ نورها لاهلها .
ومن وراء ذلك سبعين ألف امة خلقوا على أمثال الطير هو وفرخه في الهواء لا يفترون عن تسبيحة واحدة ومن وراء ذلك سبعين ألف امة خلقوا من ريح، فطعامهم ريح، وشرابهم ريح، وثيابهم من ريح، و آنيتهم من ريح، ودوابهم من ريح، لا تستقر حوافر دوابهم إلى الارض إلى قيام الساعة، أعينهم في صدورهم، ينام أحدهم نومة واحدة ينتبه ورزقه عند رأسه .
ومن وراء ذلك ظل العرش، وفي ظل العرش سبعون ألف أمة ما يعلمون أن الله خلق آدم ولا ولد آدم، ولا إبليس ولا ولد إبليس، وهو قوله (ويخلق ما لا تعلمون( )) ( ).
لقد أظهر الله عز وجل للناس ضعفهم وعجزهم وفي كل الأزمنة بخلق ذبابة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ] ( ).
وفيه إشارة إعجازية إلى تطور العلم في زمان العولمة، وتعدد الصناعات فاستطاع الإنسان الصعود إلى القمر، ولكنه يعجز عن خلق حشرة صغيرة وكما أن الإنسان لم يختر خلقه وإيجاده فانه لن يستطيع دفع الموت عنه، ومن الإعجاز في القرآن أنه سمى الموت كائناً حياً مخلوقاً، قال تعالى[خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً]( ).
وفيه دلالة بأن ما من شئ خلقه الله عز وجل إلا ويكون لغاية عظيمة، وعلى إستمرار الخلق ولو بعوالم أخرى بان جعل الدنيا(دار الآيات) وهو من عمومات رحمة الله عز وجل بالناس، للإنتفاع الأمثل من تلك الآيات وإتخاذها وسيلة للتنعم بالحياة الدنيا، وبلغة للفوز بالنعيم الأخروي .
ومن مصاديق دار الآيات أن كل إنسان يحس وعلى نحو شبه يومي بسعي الحشرات والحيوانات إلى رزقها وأنها لا تطمع إلى شبع بطنها ، وهل هو من الإتعاظ ، ومصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( )، الجواب نعم .
أما الإنسان فانه يحرص على الجمع والإدخار فرزق الله عز وجل العقل لإجتناب الظلم في المقام .
ومن بديع صنع الله في الحشرات عالم النحل والنمل ، وقد ذكر الله عز وجل كلاً منهما ، وخص كلاً منها بسورة من القرآن ، وهما سورة النحل وسورة النمل ، ولا يكاد يميز بينهما في الرسم أحياناً لأن الفارق بينهما في حرف واحد ، لبيان النفع في كل منهما ، نعم النفع من النحل جلي [ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] ( ).
لقد ذكر الله عز وجل في القرآن أسماء عدد من الحشرات ، وكذا ورد ذكرها في التوراة والإنجيل .
وقد وردت أسماء عدد من الحشرات في آية واحدة كما في قوله تعالى [فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ]( )، لبيان قانون من الإرادة التكوينية وهو سخط الله عز وجل على الذين يجمعون بين أمور :
الأول : الكفر بالآيات الحسية القريبة .
الثاني : الظلم من موقع الرئاسة .
الثالث : محاربة رسول الزمان .
الرابع : تعذيب الذين آمنوا .
لقد جعل الله عز وجل الحشرات من جنوده في الأرض ، وهي عون للإنسان في عمارة الأرض وإستدامة الرزق الكريم ، وسلامته من الآفات ، وتعمل للتكاثر ، وترعى صغارها ، ومنها ما تتنزه عن القذار والنجاسة ، كما في النحل التي تختار رحيق الأزهار وما لا يضر الإنسان في عيشه ، بينما تعطيه ألذ وأطيب شراب ، ومع صغر جرمها فأنها تتولى وظيفة التلقيح ، وبناء بيوتها بأدق صنع بالهام من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ]( ) .
ولم يرد لفظ (النحل) في القرآن إلا في هذه الآية كما أنه لم يرد بصيغة المفرد فيه مع ورود سورة كاملة في القرآن باسم النحل ، وهي سورة مكية وعدد آياتها مائة وثمان وعشرون آية وعدد كلماتها الفان وثمانمائة وأربعون كلمة , وعدد حروفها (7707) حرفاً( ).
وعن أبي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بالنعم التي أنعمها عليه في دار الدنيا ، وأعطي من الأجر كالذي مات فأحسن الوصية( ).
وقد أخبر القرآن عن قيام حشرة بالكلام ، وهي النملة وتوجيه كلامها إلى عموم النمل من حولها لبيان وجود لغة محدودة بين الحشرات ، وهو ما سوف يرتقي العلم إلى إكتشافه مستقبلاً ، سواء كانت هذه اللغة بالحركة أو الصوت أو بهما معاً ، قال تعالى [حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ] ( ).
وتشتغل هذه الحشرات بالتسبيح لله ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ] ( ) .
وقد انحرفت قريش عن هذا القانون العام الذي تعاهدته الكائنات ، ومنها الحيوانات والحشرات ، فبعث الله عز وجل النبي محمداً لهم للرجوع إلى التسبيح والفوز بثوابه العظيم في النشأتين ، ومن الحشرات ما هو ضار لبيان أن خلافة الإنسان في الأرض ليست مطلقة ، ولتأكيد عجزه ، أمام أضعف المخلوقات والتي قد تحرمه من نومه وراحته ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ]( )، ولم يرد اسم الذباب إلا في الآية أعلاه وعلى نحو مكرر ، ولم ترد سورة باسم الذباب أو البعوض مع ذكر البعوضة في القرآن بينما وردت ثلاث سور باسم الحشرات وكلها سورة مكية وهي :
الأولى : سورة النحل .
الثانية : سورة النمل ، وعدد آياتها ثلاث وتسعون آية .
الثالثة : سورة العنكبوت ، وعدد آياتها تسع وستون آية .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتل الوزغ (عن عبد اللّه بن معقل قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : لولا أنّ الكلاب أُمّة من الأُمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم وأيما قوم اتخذوا كلباً ليس بكلب حرث أو صيد أو ماشية نقصوا من أجورهم كل يوم قيراطاً)( ).
(عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : خمس ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب،
والحدأة،
والعقرب،
والفأرة والكلب العقور) ( ).
ويدل الحديث على جواز قتلهن في حال الإحرام وليس الوجوب ، وعلة القتل هذا دفع الضرر والمفسدة .
وقد خصها بالقتل من قبل المحرم عدد من الفقهاء ، منهم الشافعي وأحمد بن حنبل وسفيان الثوري ، ولم يبيحوا للمحرم قتل غيرها .
وقال مالك عن الكلب العقور كل ما يكلب على الإنسان مثل الأسد والنمر والذئب .
والإبتلاء في هذه المسائل عند الإحرام قليل في هذا الزمان لوجود وسائط النقل السريعة التي تنقل الحاج بين الميقات والبيت الحرام .
قانون الصلح خير
الصلح ترك الخصومة والنزاع وهو نوع مسالمة ، ويقال (تَصَالُحُ القَوْمِ بينهم.
والصَّلاَحُ: ضِدُّ الطَّلاح، ورَجُلٌ صالِحٌ مُصْلِحٌ.
وأصْلَحْتُ الدَّابَّةَ: أحْسَنْتُ إليها.
والصِّلاَحُ في قَوْلِ بِشْرٍ: يَسُوْمُوْنَ الصِّلاَحَ.
من الصُّلْحِ والمُصَاَلَحَةِ.
ورَجُلٌ صِلْحٌ: بمعنى صالِحٍ.
وما بَعْدَ ذاكَ صُلُوْحٌ: أي صَلاَحٌ.
والصِّلْحُ: نَهرٌ بمَيْسانَ.
وصِلاَحٌ: اسْمٌ من أسْماءِ مَكَّةَ)( ).
وقد يسمى الماشي بين أطراف النزاع من أجل الصلح السفير ( ).
وهل الألف واللام في (الصلح) للعهد أم للجنس ، المختار هو الثاني ، لبيان قانون يتغشى أيام الحياة الدنيا إلى يوم القيامة ، وهو أن الصلح نفع محض ، وإن كان فيه تسامح وتنازل من بعض الحقوق ، إذ قال الله تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ( ) .
فالعفو عن بعض الحقوق خير من الإصرار لإنتزاعها وإطالة المدة ، وبذل الأموال والجهد في سبيل تحقيقها .
لقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (أدبني ربي فأحسن تأديبى)( ).
والحديث ضعيف السند ، إلا أن معناه صحيح وجلي ، لبيان لطف الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حين ولادته وإعانته بالشواهد والحجج لإختيار أفضل السبل في العبادات والمعاملات ، ومن تأديب الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صرف الضرر والكيد عنه ، ومن تأديب الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عصمته من عبادة الأصنام منذ صباه .
ومن الشواهد على هذا الحديث قوله تعالى [أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى* وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى]( ).
وكل آية من القرآن هي تأديب ، وقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي ، فلم يفارقه من حين بعثه برسالته إلى يوم مغادرته الحياة الدنيا .
وهل كان صلح الحديبية بالوحي من عند الله أم أنه إجتهاد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومشورة أصحابه ، الجواب هو الأول .
وهل كان صلح الحديبية بالوحي وحده أم كان معه اللطف من عند الله بهداية القلوب إلى الصلح ، الجواب هو الثاني .
لبيان قانون وهو تعضيد اللطف الإلهي للوحي ، ليتنجز ما يوحي به الله، وما فيه جلب المصلحة ودفع المفسدة .
ومن اللطف في المقام تليين القلوب لقبول الصلح فقبل الحديبية بسنة سار عشرة آلاف من المشركين نحو المدينة ، وقاموا بمحاصرتها لأكثر من عشرين ليلة لإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فكيف يرضون يوم الحديبية بالصلح وقد حلّ النبي وأصحابه في ديارهم ومن غير أسلحة قتالية خاصة وأنه لم يحدث بعد واقعة الخندق من الوقائع ما يحمل أو يضطر قريش على الصلح.
قانون الإعجاز في المسير نحو الحديبية
لم يكن مسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للعمرة في السنة السادسة للهجرة عن إجتهاد فلا ينهض الرأي والعزم لهذه الخطوة لأنها محفوفة بالمخاطر ، فان قلت قد سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في شهر ذي القعدة ، وهو من الأشهر الحرم التي يحرم فيها العرب القتال من أيام إبراهيم .
والجواب صحيح أن القرآن أخبر عن الأشهر الحرم بقوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ]( ).
ولكن المشركين لا يتورعون عن البطش والإنتقام حتى في الشهر الحرام خصوصاً مع تهيئة مقدمات هذا الإنتقام ، والمناجاة بينهم بالثأر ،وهو الذي ورد تحذير النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين منه بقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
ومن الإعجاز في انتفاء التعارض بين القرآن والسنة ، أن الآية أعلاه لم تمنع من توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى العمرة ، ليكون من الإعــجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلــم الجمع بين أمور :
الأول : التقيد بأحكام الشهر الحرام ، وعدم القتال فيه خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً لا في الشهر الحل ولا الحرام .
الثاني : الحيطة والحذر من المشركين طيلة أيام السنة ، وكان العرب يتنفسون الصعداء في الأشهر الحرم ، إذ تقل أسباب الحيطة والحذر فيها ، لأن المقاتلين يصنعون أسلحتهم ، وهو من علل تسمية شهر ذي القعدة فهو أول أشهر حرم ثلاثة سرد .
الثالث : المواظبة على إقامة الفرائض العبادية ومنها أداء الصلاة الواجبة خمس مرات في اليوم .
الرابع : مناداة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه بالخروج إلى مكة لأداء العمرة ، وبعثه لأهل القرى من حول المدينة للخروج معه ، قال تعالى [مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ) .
وتتضمن الآية أعلاه التحذير والإنذار من التخلف عن الخروج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة دفاع ضد المشركين ، لبيان مسألة وهي عدم جواز تخلف أهل المدينة وأهل القرى الذين حولها عن مصاحبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه إلى الحديبية وأداء مناسك العمرة وعدم الخشية من كفار قريش .
وجاء هذا النداء بعد غزو المشركين للمدينة في معركة الأحزاب ، والأصل أن يكون المسلمون حينئذ في حال خوف واستصحاب للفزع الذي سببه هجوم عشرة آلاف رجل منهم في الأحزاب ، وإضطرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لحفر خندق حول المدينة.
ومن يقوم بحفر خندق لدفع شرور عدو حاصرهم لأكثر من عشرين ليلة، كيف يأخذ أغلب أصحابه ومن غير أسلحة يحملون إلى عقر دار المشركين.
فهذا المسير معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ لم يحدث مثله في التأريخ خصوصاً وأنه ليس من صلح سابق أو هدنة أو فترة أو أمل بتقيد المشركين بحرمة الأشهر الحرم .
وحتى لو كان بعضهم يتقيد بهذه الحرمة فانه يجد فرصة للإلتفاف عليها بان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه جاءوا إلى ديارهم .
الخامس : بيان صدق الإيمان عند صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بطاعتهم له في المسير إلى مكة مع المخاطر ، ومن الآيات في المقام عدم ورود خبر أو أثر يدل على وجود اعتراض وجدال من الصحابة على هذا المسير .
فان قيل قد يكون هناك إعتراض متعدد ، ولكن لم يوثق في التأريخ ، والجواب قد ورد توثيق لمثل هذه الإعتراض والسؤال الإستفهامي أو الإنكاري في أكثر من شاهد ، وفي حال السلم والحرب ، منها ما وقع في معركة بدر .
إذ (أَنّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ وَلَا نَتَأَخّرَ عَنْهُ أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ .
قَالَ بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ) ( ).
عندئذ اقترح الحُباب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينهض بالناس ويسيرون لإختيار موضع يكون قريباً من أدنى ماء من جيش المشركين ، فاستجاب له النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانتقل وأصحابه من موضعه .
ولقد كان السير إلى الحديبية فكان من الوحي ، وهل في هذا المسير آية قرآنية ، الجواب نعم كما سيأتي بيانه .
لقد كان المسير الى الحديبية مقدمة لتحقيق الصلح بين النبي وأصحابه من جهة وبين المشركين من جهة أخرى ، وكانت هذه المقدمة محفوفة بالمخاطر والأذى ، ولكن الله عز وجل حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وجعل المشركين عاجزين عن الإضرار بهم ، وليتم الصلح بفضل ولطف من عند الله عز وجل وفيه شاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لايريد الغزو إنما يريد الصلح والوئام حتى مع المشركين الذين يعبدون الأوثان لقيام الحجة عليهم في دعوته العامة إلى الله عز وجل، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
آيات قرآنية في المسير إلى الحديبية
يدل إعتذار الأعراب عن الخروج للعمرة في مفهومه على إدراك أصحاب النبي بأن المسير إلى مكة حق ، ولجأ الأعراب إلى التوسل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليسأل الله عز وجل لهم المغفرة عن التقصير في هذا التخلف .
حينما أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخروج إلى عمرة الحديبية نحو مكة دعا أصحابه للخروج ، واستنفر القبائل الذين حول المدينة وأهل البوادي وسألهم الخروج معه خاصة بعد فشل وخيبة كفار قريش في معركة الخندق .
وهذه القبائل هم :
الأولى : غِفار .
الثانية : مُزَينةُ .
الثالثة : جُهينة .
الرابعة : أَسلم .
الخامسة : أشجع .
السادسة : الدَيل .
ووردت أحاديث نبوية في الثناء على هذه القبائل ، منها (عن زيد بن خالد : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : قريش والأنصار وأسلم وغفار ومزينة ومن كان من جهينة وأشجع موالي ليس لهم دون الله ورسوله مولى)( ).
لقد تلقت أغلب هذه القبائل دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتثاقل خشية قريش ، وتعرضهم لهم بالرماح والسيوف ، وقالوا كيف نذهب إلى قوم قصدوه وغزوه في داره في المدينة ، وقتلوا من أصحابه وقَتل منهم ، فمن باب الأولوية أنهم يقاتلونه حين يتوجه إليهم ، وفيه شاهد على أن المشركين هم الذين غزو المدينة في معركة الأحزاب ، وأن تسميتها في التأريخ غزوة الخندق وجعلها من ضمن غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا أصل له .
وإن كان هذا الجعل شائعاً ومستفيضاً عند أجيال المسلمين المتعاقبة ، وفي مناهج التدريس .
ومن إعجاز الآية أعلاه مجيؤها بحرف السين [سَيَقُولُ لَكَ] ( ) الذي يفيد المستقبل القريب ، وفيه شاهد على عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأمان من الحديبية ، مثلما عادوا من الخروج إلى حمراء الأسد خلف المشركين بعد معركة أحد بيوم .
وفي شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وهو من الأشهر الحلّ ، وليس من الأشهر الحرم ، قال تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] ( ).
والمراد من الأعراب هم العرب الذين يقطنون البادية ، ولا يقال لسكنة المدن والقرى الأعراب .
ويحتمل أوان نزول الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : قبل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية .
الثاني : عند توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية .
الثالث : في طريق العودة من الحديبية .
الرابع : بعد وصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة قادماً من الحديبية حاملاً لواء الصلح .
والمختار هو الثالث , ومن معانيه وأوانه الثناء على الصحابة الذين خرجوا للحديبية .
وفي الآية إعجاز وهو بيانها للوجه الذي سيعتذر به الأعراب عن هذا التخلف بقولهم [شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا] ( ) أي أنهم لم يعلنوا السبب الأصل لهذا التخلف خاصة ، وأنهم يتوجهون إلى مكة في الحج أو العمرة من غير أن يكون الإنشغال بالأموال والأهل مانعاً من هذا التوجه .
من إعجاز الآية أنها لم ترم الأعراب هؤلاء بالنفاق ، إنما ذكرت قضية في واقعة ، لبيان أن آيات القرآن تأديب وإصلاح للناس .
وتأكيد قانون وهو أن خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية تعرض للخطر والضرر ، وسبب محتمل لشيوع القتل بين الصحابة، بل يهدد هذا الخروج شخص النبي والتنزيل ، وما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقدم على هذه الخطوة إلا بالوحي والأمر من عند الله عز وجل قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وفيه إخبار عن قانون وهو أن تخلف رجال القبائل عن الخروج مع النبي إلى الحديبية لم يفت من عضده ، ولم يجعله يتردد في الخروج ، أو أن يرجئه.
كما أن أصحابه لم يتأثروا بإمتناع الأعراب عن الخروج ، وتبين الآية استحداثهم الأعذار عند عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وظاهر الآية أنهم حينما دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم اكتفوا بالإمتناع عن الخروج.
إنما كان الإعتذار بعد سلامة وانقلاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ومجيئهم بالصلح ، وليس من ملازمة بين التخلف عن الخروج وصفة التعرب وحياة البادية ، وقد ذكر لفظ المخلفون في أربع آيات من القرآن وهي :
الأولى : قال تعالى [فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ] ( ).
الثانية : قال تعالى [سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا] ( ).
الثالثة : قال تعالى [سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
الرابعة : قال تعالى [قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] ( ).
وتعدد موضوع التخلف عن الحديبية [سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ] من بين مجموع وروده في القرآن وهي أربع مرات شاهد على موضوعية إتباع الصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الخروج إلى الحديبية .
وهل كانت لكثرتهم في الحديبية وهم ألف وأربعمائة من أسباب عقد الصلح ، أم ليس لهذه الكثرة من موضوعية ؟
المختار هو الأول ، وليس من وفد لقبيلة أو بلدة يأتي آنذاك للعمرة أو الحج إلا ويكون عددهم أقل من نصف عدد الصحابة هذا ، ويمكن النظر إلى وفد الأوس والخزرج في بيعة العقبة مثالاً .
ومن معاني قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) أنه نزل بخصوص صلح الحديبية .
ومن إعجاز القرآن أن الاسم [الْمُخَلَّفُونَ] ورد في سورة الفتح مرتين، كما مبين أعلاه ، وورد بصيغة الاسم المجرور [لِلْمُخَلَّفِينَ].
والمراد نفس المتخلفين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية ، فقد تخلفوا وامتنعوا عن الخروج إلى الحديبية للخشية من المجالدة وحرب قريش ، بينما جاءوا بعدها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يسألون الخروج معهم فيما يكون مورداً للغنيمة والكسب كما في خيبر التي أعقبت الحديبية مباشرة .
لقد عاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية ، ومع هذا ذكر الله عز وجل المتخلفين في الخروج إليها بذات الصفة .
ومن إعجاز القرآن أنه لم يذكر التخلف عن رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة وقتال ، إنما ذكره في موطنين :
الأول : صلح الحديبية .
الثاني : كتيبة تبوك ، التي لم يكن فيها إلا العز والأجر والثواب من غير أن يقع فيها قتال ، وأن الذين تخلفوا عن الكتيبة فرحوا بقعودهم ، وإمتنعوا عن الجهاد بالأنفس والأموال ، فجعل الله عز وجل ذات الخروج إلى تبوك جهاداً .
ولم تقيد الآية المتخلفين بأنهم من الأعراب ، إنما وردت مطلقة [فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ] ( ).
وهل يختص الأمر بالمنافقين ، الجواب لا ، فالمختار أن النسبة بين المتخلفين الذين تذكرهم الآية وبين المنافقين عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء النفاق ، بإخفاء الكفر والشك والريب مع إظهار الإسلام .
أما مادة الإفتراق فان عدداً من المنافقين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك ، كما أن الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكونوا جميعاً منافقين .
وهل يجعل هذا التخلف المسلم الذي تخلف يستحق لقب المنافق ، المختار لا ، للزوم تحقق الكفر في داخل الإنسان كشرط للنفاق .
وهل يشمل الذم في الآية [فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ] ( ) المعذور كالمريض والمقعد ، الجواب لا ، لذا ورد قوله تعالى [لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا] ( ) نعم يشمل الذم المعذورين أي المقصرين الذين يختلقون الأعذار ، ويحاولون إيهام الغير أن عندهم عذراً وسبباً مانعاً من الخروج مثل كثرة العيال ، وبذل الوسع في الكسب وطلب الرزق والقوت اليومي .
وقيل أنهم بنو أسد وغطفان ، أو يعتذرون بأنهم يخشون غزو عدوهم على ديارهم وبيوتهم عندما يذهبون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتائب ، فمثلاً كان قوم عامر بن طفيل يخشون قبيلة طي وإغارتها عليهم .
وهل فيه لوم لهم ، الجواب نعم ، وفيه بيان لعدم تمكن الإيمان من قلوبهم ، ليكون في كلتا الآيتين أعلاه مجتمعتين ومتفرقتين دعوة لهم للتوبة والإنابة ، وتثبيتاً لهم في مقامات الإيمان ، وزيادة في إيمان الصحابة .
فمن إعجاز الآية القرآنية أنها تنزل بخصوص أفراد أو جماعة أو طائفة سواء في باب المدح أو اللوم والذم ، ولكن النفع من نزولها عام ، يشمل الناس جميعاً ، ولا يختص بزمان النزول ، وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة لآيات القرآن سبع عشرة مرة في اليوم .
ومن الإعجاز في قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) أنه لا يعلم منافع هذا الإنصات إلا الله عز وجل ، وهو متجدد إلى يوم القيامة لينتفع كل جيل من وجوه :
الأول : تلاوة آيات القرآن .
الثاني : الإستماع إلى آيات القرآن .
الثالث : تلاوة وإستماع الآباء والأمهات والأجداد إلى آيات القرآن وأثر هذا التلاوة والإستماع في تهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات .
ترى لماذا أكررالقول تلاوة مسلم ومسلمة ولا أقول تلاوة المسلمين والمسلمات لآيات القرآن .
الجواب لدفع وهم فلا يظن أحد قيام المسلمين على نحو الإجمال بالتلاوة أو أنها من الواجب الكفائي الذي يجزي أداؤه من أي واحد منهم ، وإن كان الواقع اليومي للمسلمين يكشف عن قانون إمتثال المسلمين والمسلمات للواجب اليومي العيني في الصلاة والتلاوة ، ليكون مدرسة في الفقاهة والكلام والتأريخ ، ونوع طريق إلى الحكمة قال تعالى [وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] ( ) .
لذا ورد في دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته في التنزيل [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
ومن إعجاز القرآن أنه يبين استجابة الله عز وجل لدعاء إبراهيم وإسماعيل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونيله مرتبة الرسالة ، وقيامه بتعليم المسلمين الكتاب النازل من عند الله ، والحكمة والفقاهة في الدين ، ومعرفة أحكام الحلال والحرام بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
وقال (ابن إسحق في قوله { وجاء المعذرون من الأعراب }( ) قال : ذكر لي أنهم نفر من بني غفار ، جاؤوا فاعتذروا ، منهم خفاف بن إيماء من خرصة) ( ).
(عن ابن عباس . أنه كان يقرأ { وجاء المعذرون من الأعراب } ويقول : لعن الله المعذرين .) ( ).
وعلى فرض صحة السند فيدل الحديث على أن المراد من المعذرين الذين تخلفوا عن كتيبة تبوك ، ثم إدّعوا عذراً لا أصل له ، ترى لماذا لم ينتفعوا من آيات ذم المتخلفين من الأعراب عن صلح الحديبية .
هل لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عفى عن هؤلاء الأعراب ، الجواب من وجوه :
الأول : لم يُكره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه على الخروج معه في كتائب الدفاع .
الثاني : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقبل عذر الذي يتخلف عن الخروج حتى وإن دعاه بالاسم للخروج ، وفيه شاهد على وثاقة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من تحقيق النصر وصرف البلاء بفضل من عند الله عز وجل .
الثالث : لو رجع رهط أو فرقة من وسط طريق الدفاع ضد المشركين فان النبي محمداً لا يحول دون هذا الرجوع ، كما حصل في معركة أحد ، فحينما صار ثلاثة آلاف من المشركين على بعد (5) كم عن المدينة ، ويهددون باقتحامها بخيلهم وإبلهم ورماحهم وسخطهم وإرادتهم الإنتقام لقتلاهم وأسراهم في معركة بدر , استنفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وتوجه لملاقاة المشركين ، وسار معه ألف رجل ، وعندما بلغوا الشوط وسط الطريق رجع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول (بِثَلاَثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ مُنَافِقٍ وَمُتَّبِعٍ ، وَقَالُوا : نَظُنُّ أَنَّكُمْ لاَ تَلْقَوْنَ قِتَالاً ، ومضى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي سبْعِمِائةٍ فَهَمَّتْ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو حَارِثَةَ مِنَ الأَوْسِ وَبَنُو سَلِمَةَ مِنَ الخَزْرَجِ بالانْصِرَافِ ، وَرَأَوْا كَثَافَةَ المُشْرِكِينَ ، وَقِلَّةَ المُسْلِمِينَ ، وَكَادُوا أَنْ يَجْبُنُوا ، وَيَفْشَلُوا ، فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ تعالى ، وَذَمَّ بَعْضُهُمْ بَعْضاً ، وَنَهَضُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم حتى أَطَلَّ عَلَى المُشْرِكِينَ فَتَصَافَّ النَّاسُ) ( ).
قال تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ) ونزلت الآية أعلاه بخصوص معركة أحد ، ومن إعجاز القرآن توثيق الوقائع والمعارك بآيات من التنزيل .
ومن خصائص هذه الآيات أنها منهاج عمل ووسيلة تدارك ، وسبيل نجاح ، وهي طريق للفلاح.
ما بعد الحديبية
لقد توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأداء العمرة في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، ولم يعلموا أنهم سيحبسون في الحديبية في أطرف الحرم لإمتناع قريس عن دخولهم مكة ، وفيه إثم على قريش ، وتعجيل بزوال سلطانهم على البيت ، فمن وظائف ولاية البيت الحرام عدم منع عمار البيت خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يأتوا بالسلاح والعدة ، إنما ساقوا الهدي أمامهم ، وكان الشهر من الأشهر الحرم التي لا يصح فيها القتال ، لبيان مسألة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توجه إلى مكة بنية العمرة ، وليس القتال أو الغزو مع أن القائمين عليها مشركون استباحوا دماء المؤمنين وأشاعوا الفساد في الأرض ، ونصبوا الأصنام في البيت الحرام .
ومجموع ما اعتمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة أربع عُمَر وهي :
الأولى : عمرة الحديبية ، فصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخل مكة ولم يطف بالبيت إلا إنها تحتسب له ولأصحابه عمرة ، فضلاً من الله عز وجل .
الثانية : عمرة القضاء وتسمى أيضاً عمرة القصاص في شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة ، وكان عدد المعتمرين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألفين هم أهل الحديبية ومن لحق بهم عدا النساء والصبيان .
ولما انقضت ثلاثة أيام على وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وفق أمد الصلح (جاء حويطب بن عبدالعزى ومعه سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المشركين بأن يخرج عن مكة ولم يمهلوه) ( ) .
الثالثة : العمرة من الجِعرانة في ذي القعدة من السنة الثامنة للهجرة بعد أن قسّم غنائم مكة ، وتختلف هذه العمرة بأن دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة وعلى مكة عامل من قبل رسول الله وهو عتاب بن أسيد .
وروي (عن سعيد بن المسيب أن العباس تطاول يومئذ لاخذ المفتاح في رجال من بنى هاشم , فدفعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعثمان -أي ابن أبي طلحة – .
ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ الكعبة ومعه بلال فأمره أن يؤذن وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة فقال عتاب لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه فقال الحارث أما والله لو أعلم أنه حق لا تبعته فقال أبو سفيان لا أقول شيئا لو تكلمت لاخبرت عنى هذه الحصباء فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم لقد علمت الذى قلتم ثم ذكر ذلك لهم فقال الحرث وعتاب نشهد أنك رسول الله والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك) ( ) .
ومع ما صدر من عتِاب يوم الفتح فقد جعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أميراً على مكة ، ولم يجعل أحداً من أصحابه المهاجرين أو الأنصار أميراً ، بل عاد بهم إلى المدينة ، وقبل العودة هذه كانت واقعة حنين ، إذ استبسلوا في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من أسرار عدم ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعضهم في مكة ، ولبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يطعموا بالدنيا ، وأنهم كانوا زاهدين في الأمر والحكم .
و(روي عن ابن عباس أن عمرة الجعرانة كانت لليلتين بقيتا من شوال)( ).
لتكون هذه العمرة من الشكر لله عز وجل ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ) .
ومن الشواهد في المقام على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً ، وأن أخلاق النبوة التي يتصف بها تتجلى بالعفو وعدم الإنتقام من عدوه ، فقد وقع في السبي من هوازن ستة آلاف من النساء والذراري مع آلاف من الإبل والغنم ، فجاء وفد منهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالجعرانة وسألوه العفو وأن يمنّ عليهم ويعيد عليهم السبي فاستجاب لهم من غير قيد أو شرط .
عن (زهير بن صرد الجشمي يقول: لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين يوم هوازن وذهب يفرق السبي أتيته فأنشأت أقول هذا الشعر:
أمنن علينا رسول الله في كرمٍ … فإنك المرء نرجوه وننتظر
أمنن على بيضة قد عاقها قدر … مشتت شملها في دهرها غير
أبقت لنا الدهر هتافا على حزنٍ … على قلوبهم الغماء والغمر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها … يا أرجح الناس حلماً حين يختبر
أمنن على نسوة قد كنت ترضعها … إذ فوك يملؤه من محضها الدرر
إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها … وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته … واستبق منا فأنا معشر زهر
إنا لنشكر للنعمى إذا كفرت … وعندنا بعد هذا اليوم مدخر
فألبس العفو من قد كنت ترضعه … من أمهاتك إن العفو مشتهر
يا خير من مرحت كمت الجياد به … عند الهياج إذا ما استوقد الشرر
إنا نؤمل عفوا منك نلبسه … هدى البرية إذ تعفو وتنتصر
فاعفو عفا الله عما أنت راهبه … يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر
قال: فلما سمع هذا الشعر قال صلى الله عليه وسلم: ” ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ” . وقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله. وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله) ( ).
الرابعة : عمرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة ، وكان أولها في ذي القعدة وقيل أعمالها في ذي الحجة .
ومع هذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتجاهلهم ، إنما أكرمهم بأن بعث لهم أحد أصحابه ليخبرهم بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وأن الغاية هي العمرة ، وفيه تخفيف من غيظ وحنق قريش ، ومنع من مناجاتهم بقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خاصة وأنهم قد قدموا قبل الحديبية نحو المدينة بعشرة آلاف رجل.
فدعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمر بن الخطاب وطلب منه أن يذهب إلى قريش ، ولكنه اعتذر خشية بطش قريش (وَفَزِعَتْ قُرَيْشٌ لِنُزُولِهِ عَلَيْهِمْ فَأَحَبّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَدَعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ لِيَبْعَثَهُ إلَيْهِمْ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ لَيْسَ لِي بِمَكّةَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ يَغْضَبُ لِي إنْ أُوذِيت فَأَرْسِلْ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ فَإِنّ عَشِيرَتَهُ بِهَا وَإِنّهُ مُبَلّغٌ مَا أَرَدْت .
فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ فَأَرْسَلَهُ إلَى قُرَيْشٍ .
وَقَالَ أَخْبِرْهُمْ أَنّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالٍ وَإِنّمَا جِئْنَا عُمّارًا وَادْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ رِجَالًا بِمَكّةَ مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءً مُؤْمِنَاتٍ فَيَدْخُلَ عَلَيْهِمْ وَيُبَشّرُهُمْ بِالْفَتْحِ وَيُخْبِرَهُمْ أَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ مُظْهِرٌ دِينَهُ بِمَكّةَ حَتّى لَا يُسْتَخْفَى فِيهَا بِالْإِيمَانِ .
فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ فَمَرّ عَلَى قُرَيْشٍ بِبَلْدَحَ فَقَالُوا : أَيْنَ تُرِيدُ ؟
فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَدْعُوكُمْ إلَى اللّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ وَأُخْبِرُكُمْ أَنّا لِمَ نَأْتِ لِقِتَالٍ وَإِنّمَا جِئْنَا عُمّارًا .
فَقَالُوا : قَدْ سَمِعْنَا مَا تَقُولُ فَانْفُذْ لِحَاجَتِك وَقَامَ إلَيْهِ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَرَحّبَ بِهِ وَأَسْرَجَ فَرَسَهُ فَحَمَلَ عُثْمَانَ عَلَى الْفَرَسِ وَأَجَارَهُ وَأَرْدَفَهُ أَبَانُ حَتّى جَاءَ مَكّةَ) ( ).
وقد يتبادر إلى الذهن أن صلح الحديبية خال من القتال ،ولم تسبقه المناوشات .
فحالما سمعت قريش بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومع أنه ساق معه سبعين بدنة ، وهو إشعار بحال الخشوع الذي يتصف به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في طريقهم إلى مكة ، وأنهم لا يريدون قتالاً .
ومن الآيات في المقام أن النبي ومن أول أيام الهجرة لم يتقرب في كتائبه من مكة والحرم مع كثرة تعدي وغزو وهجوم كفار قريش ، ولم يرسل السرايا لإخافة أهل مكة ، وإن كانت أخبار استعدادهم للمعارك تصله كما في معركة أحد والخندق .
ولم يكن مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة مفزعاً لقريش خاصة وأنهم قد هجموا على المدينة بعشرة آلاف مدججين بالسلاح ومعهم الخيل التي لم تركب ظهورها لإدخالها المعركة بقوتها ونشاطها ، بينما جاء المسلمون بسلاح المسافر ، إذ كانت سيوفهم في القرب ، ولم يتدربوا على القتال قبل القدوم للعمرة ، خاصة وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه والقبائل المحيطة بالمدينة بأنه ذاهب إلى العمرة .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يرسل إلى قريش وهو في المدينة عزمه على أداء العمرة ، ولم ينتظر منهم الإذن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
وبينما كانت أخبار قريش وغزوها للمدينة تنتشر بين الحين والآخر بين المدن والقبائل العربية ، شاع في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة ، وأنه لم يخرج إلا للعمرة ، وهو من الشواهد على صدق نبوته ، وأنه لم يُبعث للقتال والغزو .
وتطلع الناس للذي يحدث مع ترجيح كفة أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه العمرة للتسالم على عدم جواز منع قريش لعمار بيت الله، وإن كانوا أعداء لهم ، نعم كان الناس يأتون للعمرة أفراداً وجماعات صغيرة ، وليس ألفا وأربعمائة مرة واحدة ، ومع هذا فان قريشاً مطمئنة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت للقتال ، وكون أعداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسلمون أثناء توجهه نحوهم أنه لا يريد القتال أمارة على أن النبي لم يغز أحداً ، إنما كان يخرج من المدينة في الكتائب ومعه المائتان والثلاثمائة ثم يعود من غير أن يلقى قتالاً .
لقد أدركت قريش قانوناً وهو أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم العمرة سبب لدخول الناس الإسلام أفواجاً وجماعات ، ليكون معنى الفتح في قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) ما هو أعم من صلح الحديبية .
وهل كانت قريش تدرك أن الصلح مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبب لدخول أفواج من الناس الإسلام ، الجواب نعم ، خاصة مع يأسهم من ارتداد عدد من المسلمين مما يدل على أن قريشاً كانوا في حال وهن وضعف ونقص في الأموال ، مع تعطل لتجارتهم ، قال تعالى [إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ) .
قانون إطلاق نفع الصلح
لقد أخبر القرآن بكلمتين عن قانون يحكم أيام الحياة الدنيا من أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة ، إذ قال سبحانه [الصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) وفيه تحد للناس من جهة عموم وإطلاق الصلح ، فليس من قيد أو شرط لصيرورة الصلح ذا نفع وبركة .
وورد هذا القانون ضمن آية تتعلق بالصلات داخل الأسرة ، وظهور بوادر الخلاف بين الزوجين ، قال تعالى [وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا] ( ) ولكن موضوع هذا القانون عام ، وفي كل زمان خاصة وأن جملة [الصُّلْحُ خَيْرٌ] معترضة ، ومن معاني الجملة المعترضة وجوه :
الأول : التأكيد لمضمون الكلام الذي تتوسطه إذا لم تدل على معنى زائد .
الثاني: التشديد إذا أفادت معنى زائداً .
الثالث : التنبيه والإرشاد .
ويمكن أن نضيف وجهاً آخر وهو إفادة الجملة المعترضة أو الإعتراضية قانوناً كلياً ، ومنه قوله تعالى [وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً] في قوله تعالى [وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً] ( ) .
فلا تقدر الخلائق على رد أمر الله ، إذ أنه سبحانه أبى إلا أن ينفذ أمره في ملكه وخلقه ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) وأنه ملك تصرف ومشيئة .
وفيه دعوة للناس للنهل من آيات وعلوم القرآن ، والإنتفاع منها ، كما أنه يبعث الرأفة في قلوب المسلمين بالناس جميعاً ، ومنهم كفار قريش والذين قاموا بتعذيب المسلمين في مكة والذين قتلوا أربعة عشر شهيداً منهم في معركة بدر التي وقعت بسبب إصرار رؤساء قريش على المبارزة والقتال، ليكون من معاني قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) أي نصركم على الغزاة الكفار المعتدين .
وسبعين في معركة أحد مع أن حجة الثأر من المشركين ظاهرة خاصة وفق أعراف الزمان ، إذ أن المشركين هم الذين زحفوا بجيوشهم على المدينة، كي يقتلوا التبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لا لشئ إلا لأنه دعاهم إلى قول لا إله إلا الله ، وهذه الدعوة ليس إجتهاداً من عنده إنما بأمر ووحي من الله عز وجل ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ) .
مما يدل على أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير محض لقريش وغيرهم ، وإنقاذ لهم من براثن الجهالة والغفلة والضلالة ، قال تعالى [الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ] ( ).
وهناك مسائل :
الأولى : قوله تعالى [الصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) شاهد سماوي على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً .
الثانية : قوله تعالى [الصُّلْحُ خَيْرٌ] مصداق على قانون التضاد بين القرآن والإرهاب الذي جاءت الأجزاء ( 179-180-183-191-194-195-198-206-207) من هذا التفسير بخصوصه .
الثالثة : قوله تعالى [الصُّلْحُ خَيْرٌ] دليل على قانون (آيات الدفاع سلام دائم) وجاء الجزء الثاني والأربعين والجزء السادس بعد المائتين بخصوصه.
الرابعة : قوله تعالى [الصُّلْحُ خَيْرٌ] شاهد على آيات (آيات السلم محكمة غير منسوخة ) وهو الذي صدرت الأجزاء (202-203-204) من هذا التفسير بخصوصه .
قانون [الصُّلْحُ خَيْرٌ] ( )
يتضمن هذا اللفظ القرآني [الصُّلْحُ خَيْرٌ] إعجازاً بلحاظ صيغة الإطلاق فيه سواء كان الصلح والتسوية بين الأفراد أو الطوائف أو الملل ، ومن أيام آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة .
وتقدير الآية أعلاه بلحاظ النفع في صلح الحديبية على وجوه :
الأول : الصلح مع المشركين خير .
فقد تظن طائفة من المسلمين حرمة الصلح مع المشركين ، وأن الآيات وردت لقتالهم دفاعاً خاصة وأنهم على الباطل ، ويقيمون على عبادة الأوثان ، وما دام الملائكة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، فلماذا هذا الصلح ، فجاء القانون السماوي [الصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) لجعل المسلمين يميلون إلى الصلح .
الثاني : الصلح في الحديبية وقضاء العمرة في السنة التالية خير من أدائها في ذات السنة .
ويحتمل سبب هذه التسمية وجهين :
أولاً : هي قضاء عن عمرة الحديبية التي صدّ عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ثانياً : قاضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً في هذه العمرة لذا تسمى عمرة القضية .
وقيل أن عمرة الحديبية تامة ولم تفسد ، فلذا لا يصح القضاء فيها ، والجواب المراد من القضاء المعنى الأعم ، وهو دخول مكة والطواف وأداء المناسك ، لذا الإجماع على أن عمرة الحديبية عمرة كاملة ، وهي واحدة من العُمر الأربع التي إعتمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المدينة ، وهل أعتمر النبي وحج قبل الهجرة ، الجواب نعم .
وكان شطر من الصحابة يأملون العمرة لقوله تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا] ( )، وقد أخبرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم يدخلون البيت الحرام ، فحينما عادوا سالمين من صلح الحديبية كثر الكلام حول عدم تحقق دخولهم البيت الحرام ، ولم يلتفتوا إلى نعمة الله في الصلح وفي عودتهم سالمين .
فقال لهم النبي : لم أخبركم أنه هذا العام ، وكان الوعد بدخول مكة في العام التالي نعمة من عند الله بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي نزول آيات القرآن إلى السنة التالية .
الثالث : في الصلح عزٌ للمؤمنين اليوم وغداً ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ] ( ).
الرابع : الصلح مع أهل الكتاب خير ، وهو من باب الأولوية ، فاذا كان الصلح مع المشركين والكفار خير ، فهو أولى من أهل الكتاب مع اليهود والنصارى .
وقد عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلح مع يهود المدينة ، ومن ضمن عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع طائفة من اليهود .
(وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ( ) إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ .
وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي النّجّار ِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف ٍ .
وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ؛ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ؛
وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ؛ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف ٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ، إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَإِنّ جَفْنَةَ بَطْنٌ مِنْ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّ لِبَنِي الشّطِيبَةِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ .
وَإِنّ الْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ وَإِنّ مَوَالِيَ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّ بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّهُ لَا يَخْرَجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا بِإِذْنِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ .
وَإِنّهُ لَا يُنْحَجَزُ عَلَى ثَأْرٍ جُرْحٌ وَإِنّهُ مَنْ فَتَكَ فَبِنَفْسِهِ فَتَكَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ إلّا مِنْ ظَلَمَ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَبَرّ هَذَا .
وَإِنّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ وَالنّصِيحَةَ وَالْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ وَإِنّهُ لَمْ يَأْثَمْ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ .
وَإِنّ النّصْرَ لِلْمَظْلُومِ وَإِنّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ.
وَإِنّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَإِنّ الْجَارَ كَالنّفْسِ غَيْرَ مُضَارّ وَلَا آثِمٌ وَإِنّهُ لَا تُجَارُ حُرْمَةٌ إلّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا .
وَإِنّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ( ) وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ وَإِنّهُ لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا .
وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ ، وَإِذَا دُعُوا إلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ فَإِنّهُمْ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ وَإِنّهُمْ إذَا دُعُوا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إلّا مَنْ حَارَبَ فِي الدّينِ عَلَى كُلّ أُنَاسٍ حِصّتُهُمْ مِنْ جَانِبِهِمْ الّذِي قِبَلَهُمْ وَإِنّ يَهُودَ الْأَوْسِ ، مَوَالِيَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ عَلَى مِثْلِ مَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ . مَعَ الْبِرّ الْمَحْضِ .
مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ) ( ).
الخامس : الصلح بين المسلمين خير .
السادس : الصلح خير للمجتمعات .
السابع : الصلح خير إذ تسكن النفوس إليه ، وتستقر المجتمعات ، وتبدأ رحلة زوال الكراهية والكدورة .
الثامن : الصلح خير فان الله عز وجل يحب الذين يميلون إلى الصلح ولا يشددون على أنفسهم ولا على غيرهم .
التاسع : الصلح خير لأنه مناسبة لتجلي معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
العاشر : الصلح خير إذ يتفرغ المؤمنون لطاعة الله ، وأداء الفرائض العبادية .
الحادي عشر : الصلح خير للذين آمنوا في الدنيا والآخرة .
الثاني عشر : الصلح خير لأنه وسيلة للتفكر ببديع صنع الله ، وهو مناسبة للتوبة والإنابة .
الثالث عشر : الصلح خير في موضع الحديبية من القتال .
الرابع عشر : الصلح خير لما فيه من حقن الدماء .
الخامس عشر : الصلح خير لأنه من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
السادس عشر : الصلح خير ونفع وجلب للخير ، ودفع للمفسدة ، وعن كثير بن عبد الله عن ابيه عن جده ان (النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال الصلح جائز بين المسلمين الا صلح احل حراما أو حرم حلالا) ( ) وكثير هذا ضعيف ، وقيل أنه متروك الحديث .
السابع عشر : الصلح خير فاسعوا إليه .
الثامن عشر : الصلح خير لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يغزو أحداً .
التاسع عشر : الصلح خير لما فيه من بيان لقبح عبادة الأوثان .
العشرين : الصلح خير محض ورحمة (خرج عبدان( ) من أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية قبل الصلح فأسلموا ، فبعث إليهم مواليهم من أهل مكة : والله يا محمد ما خرجوا إليك رغبة في دينك ، ولكنهم إنما خرجوا هربا من الرق .
فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صدقوا يا رسول الله فردهم إليهم .
فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم قال : ما أراكم يا معشر قريش تنتهون حتى يبعث الله عز وجل عليكم من يضرب رقابكم على هذا الدين .
فأبى صلى الله عليه وآله وسلم أن يردهم .
وقال عبد الله : وخرج آخرون بعد الصلح فردهم) ( ) .
الحادي والعشرين : الصلح خير لأطرافه وغيرهم .
الثاني والعشرين : الصلح خير من النزاع والإقتتال .
الثالث والعشرين : الصلح خير من البغضاء والمشاحنة (في الموطَّإ عن أنسٍ؛ أن رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : ” لاَ تَبَاغَضُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَلاَ تَحَاسَدُوا ، وَكُونُوا عِبَاد اللَّهِ إخْوَاناً ، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهُجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ ” .
وأسند أبو عمر بن عبد البَرِّ عن الزُّبَيْر ، قال : قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم : ” دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ : الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ ، حَالِقَتَا الدِّينِ ، لاَ حَالِقَتَا الشَّعْرِ) ( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار النفع ) ليدخل السرور إلى قلب الفرد والجماعة عند تحقيق النفع ، ونيل البغية ، وتحقيق المقصود ، وكان صلح الحديبية نفعاً وخيراً وبشارة إنطواء صفحة القتال بين المسلمين والمشركين ، وهن وضعف جبهة الشرك .
مقارنة انفاق المسلمين والمشركين في معارك الإسلام الأولى
كثرة إنفاق المشركين على قتالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه موثقة ومستقرأة ، ويمكن تقدير النسبة بين ما ينفقه المسلمون وما ينفقه المشركون في كل معركة من معارك الإسلام الأولى ، إذ أنفق المسلمون في هذه المعارك نحو 5% مما ينفقه المشركون فيها .
وهو ظاهر من الأخبار المستفيضة عن هذه المعارك ، فمثلاً في معركة بدر كان المسلمون يتناوبون كل اثنين أو ثلاثة على بعير واحد وعددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، بينما جاء المشركون بسبعمائة بعير ، تركوا أكثرها خلفهم لتصبح غنائم للمسلمين .
ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يأكلون إلا ما يسد الرمق ، أما المشركون فقد خرجوا من مكة وكأنهم في نزهة ، وهم يذبحون كل يوم تسعة أو عشرة من الإبل لإطعام الجيش الذي كان ثلاثة أضعاف جيش المسلمين .
وفي عدد جيش المشركين (قال ابن عقبة وابن عائذ خرجوا في خمسين وتسعمائة مقاتل وساقوا مائة فرس.) ( ) ووقعت بعد المعركة غنائم كثيرة من المشركين بيد المسلمين ، كما أنهم في معركة بدر لم ينسحبوا بانتظام ، إنما تركوا عدتهم وفروا من الميدان ، وتفرقوا في الصحراء ، ومنهم من اختفى في الوديان وظلال الأشجار بانتظار حلول ظلام الليل .
و(بدر) موضع ماء وعليه عدة بيوت يعتاشون على القوافل التي تمر عليهم فيستريحون عندها ، ويتزودون بالماء ، وكانت أرضاً خضراء وهي سوق من أسواق العرب ، ولا يقام سوق إلا عند ماء وآبار متعددة في الموضع وبدر مفترق طرق بين مكة وجدة والمدينة والشام ولما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبس بن عمرو وعديّ بن الزغباء (يتجسسان له الأخبار، مضياً حتى نزلا بدراً، فأناخا بقرب الماء، ثم استقيا في شن لهما، ومجديّ بن عمرو بقربهما، فسمع عدي وبسبس جاريتان من الحي وإحداهما تقول لصاحبتها: أعطيني ديْني؛ فقالت الأخرى: إنما تأتي العير غداً فأعمل لهم ثم أقضيك .
فصدقها مجدي بن عمرو، ورجع عدي وبسبس بما سمعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم) ( ) .
مما يدل على وجود بيوت عند آبار بدر وليكون أهلها شهودا على واقعة بدر , ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيها.
أما في معركة أحد فقد كان إنفاق المشركين أكثر أذ أنهم جهزوا ثلاثة آلاف رجل ، وتكفلوا معيشة عيال بعضهم ، وساروا أياماً ليقضوا مسافة أربعمائة وخمسين كيلو متر ولم ينالوا شيئاً ، إنما رجعوا بخيبة وحسرة وإنكسار ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
ويكفي في معركة الأحزاب ذات الاسم إذ أن حشد عشرة آلاف رجل وقطع المسافة بين مكة والمدينة بقصد القتال يستلزم الأموال الطائلة .
بالإضافة إلى محاصرتهم المدينة لأكثر من عشرين ليلة تكفلت فيها قريش إطعام المقاتلين ليكون نزول سورة قريش تذكيراً بنعمة الله عز وجل عليهم ، وإنذاراً لقريش لإنفاقها لأموال التجارة في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وتعطيل قوافل التجارة ، وتراكم الديون عليهم ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( ) .
فكما تبين الآية عظيم نعمة الله على قريش فانها توبيخ متقدم زماناً لهم ، ومنه [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، ليكون من مصاديق الخيبة إنفاق وخسارة قريش للأموال الطائلة وتفريطها بإبل القوافل في محاربة النبوة والتنزيل من غير أن يكسبوا معركة أو يمنعوا نزول آية واحدة.
وبذل المسلمون جهدهم في هذه المعركة بحفر الخندق حول المدينة ، وعندما قتل الإمام علي عليه السلام عمرو بن ود العامري لم يسلبه سلاحه وعدته .
فقال له عمر بن الخطاب (هَلّا سَلَبْته ، دِرْعَهُ فَإِنّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ دِرْعٌ خَيْرٌ مِنْهَا ، فَقَالَ إنّي حِينَ ضَرَبْته اسْتَقْبَلَنِي بِسَوْأَتِهِ ، فَاسْتَحْيَيْت ابْنَ عَمّي أَنْ أَسْتَلِبَهُ) ( ).
وفي هذا الخبر مسائل تتعلق بالمقام منها :
الأولى : كثرة إنفاق المشركين على القتال حتى في غلاء السيوف والدروع التي يلبسون إلى جانب ركوبهم خير الإبل والجياد العربية .
الثانية : مغادرة فارس قريش الدنيا بالخزي بالكشف عن عورته كيلا يبقى عنده الإمام علي عليه السلام ويضربه مرة أخرى .
الثالثة : هذا الخبر من مصاديق ما ورد عن عبد الله بن مسعود إذ كان يقرأ هذا الحرف (وكفى الله المؤمنين القتال) ( )بعلي بن أبي طالب ( ).
الرابعة : هل إمتناع الإمام علي عليه السلام عن سلب عدة القتيل وتذكيره بالعمومة وصلة الرحم من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) الجواب نعم .
وذكر ابن إسحاق (أن عليا طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه، فمات في الخندق، وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف( )، فقال: هو لكم لا نأكل ثمن الموتى .
وقال الامام أحمد: حدثنا نصر بن باب، حدثنا حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، أنه قال: قتل المسلمون يوم الخندق رجلا من المشركين فأعطوا بجيفته مالا .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ادفعوا إليهم جيفته ، فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية ” فلم يقبل منهم شيئا)( ).
لبيان أن المشركين أحضروا معهم إلى الخندق الأموال الطائلة ، وأنهم يبذلونها في القتال ومقدماته ، وحتى في الأمور الشخصية ، وشراء جثة الميت ، مما يدل بالأولوية على بذلهم وأنفاقهم الأموال لشراء الذمم ، كي يخرج الناس معهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
على المثل القائل ، مكره أخاك لا بطل .
ونسب هذا المثل إلى أبي جشر خال بيهس ، وهو مثل شائع ، ومن قواعد اللغويين في النقل تعاهد الأمثال كما نطق بها الذين قالوها أول مرة ، وإن كان الأصل هو مكره أخوك .
إذ أن إعراب الجملة على وجوه منها :
الأول : مكره خبر مقدم مرفوع وعلامة رفعة الضمة ، ونائب الفاعل الاسم المفعول هو ضمير مستتر تقديره هو .
أخاك : أخا مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر وهو مضاف .
جاء على لغة تميم في استعمال الألف في (أخاك) في حال الرفع والنصب والجر .
ومنهم من قرأها : مكره أخوك لا بطل ، فيكون إعرابها .
مكره : خبر مرفوع وعلامة رفعه الضمة .
أخوك : أخو مبتدأ مؤخر مرفوع ، وعلامة رفعه الواو لأنه من الأسماء الخمسة وهو مضاف .
والكاف ضمير متصل في محر جر مضاف إليه .
لا : حرف عطف ونفي .
بطل : اسم معطوف مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
لقد أنهكت معارك الإسلام الأولى كفار قريش ، وشلّت تجارتهم ، وتضاءل شأنهم عند الدول وعامة التجار ، وطالبهم الناس بديونهم ، وزادوا عليها الأرباح الربوية ، فكان صلح الحديبية رحمة بهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) .
لبيان أن الكفار ينتفعون من الصلح سواء كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أو الصلح الذي يتم بين الكفار أنفسهم ، فان قلت قد يكون هذا الصلح مقدمة للإجهاز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغزو المدينة ، والجواب إنما الظلم والإثم في ذات الإجهاز والغزو ، وليس في أصل الصلح .
ولتكون النوايا السيئة للمشركين في مهادنتهم والصلح فيما بينهم على وجوه :
الأول : إنها حجة عليهم .
الثاني : فيها شاهد بأنهم هم الغزاة ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغزهم .
الثالث : إنها سبب لنزول البلاء بهم .
الرابع : من معاني [الصُّلْحُ خَيْرٌ]( )، في المقام أن الصلح مع المشركين مناسبة لتدبر الأفراد منهم في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتجليات صدق نزول القرآن من عند الله .
أما غنائم معركة حنين التي وقعت في شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة عند إنقلاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من فتح مكة، فقد كانت كبيرة بأكثر مما يتوقع عددها ، وهي :
أولاً : أربعة وعشرون ألف من الإبل .
ثانياً : أربعون ألف مشاة .
ثالثاً : أربعة آلاف أوقية فضة ، والأوقية من وحدات قياس الكتلة ، ويختلف وزن ومقدار الأوقية بحسب الموزون ، فوزن أوقية الحنطة أكثر من وزن أوقية الذهب والفضة ، ويختلف مقدارها باختلاف الأمصار .
وأوقية الفضة نحو (200) غرام ،وقيل أقل منه .
هذا إلى جانب السبي والأسرى ، وكان عددهم ستة آلاف ، وتأنى فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بانتظار قدوم رؤساء هوازن وثقيف حيث أعادهم لهم .
ووقعت معركة حنين بعد فتح مكة ، وانتفعت قريش من الغنائم فيها إذ أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤلفة قلوبهم كل واحد مائة أو خمسين ناقة نصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الخمس ، ومنهم :
الأول : أبو سفيان بن حرب بن أمية، وابنه معاوية , وفي رواية وابنه يزيد بن أبي سفيان .
الثاني : حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى.
الثالث : الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي.
الرابع : سهيل بن عمرو .
الخامس : حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس.
السادس : العلاء بن جارية الثقفي، حليف بن زهرة.
السابع : صفوان بن أمية الجمحي.
الثامن : عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر.
التاسع : الأقرع بن حابس التميمي .
أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل واحد من هؤلاء مائة بعير. وأعطي عباس بن مرداس السلمي أقل من ذلك، فقال شعراً يخاطب به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتم له المائة) ( ).
وليس بين فتح مكة وما ورد لرؤساء قريش في حنين من الأموال الطائلة إلا عدة أيام ، إذ تم فتح مكة في العشرين من شهر رمضان ، ووقعت معركة حنين في السابع من شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة ، ووقعت معركة حنين في وادي حنين ، ويبعد عن مكة مسافة سبعة وعشرين كيلو متراً بجانب وادي ذي المجاز من جهة عرفات، لبيان بركة الإسلام ، وقبح إبطاء قريش عن دخوله ، وظلمهم بمحاربتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم طيلة هذه السنوات مع أن هذه الأموال لم تأت من غزو أو نهب أو سلب ، إنما جاءت عن ظلم وتعدي هوازن وثقيف وإصرارهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ومباغتتهم لهم وهم يسيرون في الطريق إلى المدينة ،وإن كان بلغ أسماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أن هوازن وثقيفاً يعدون العدة للهجوم .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدفاعية في هذه المعركة أنه مع إختيار المشركين موضع وأوان وميدان القتال ومفاجأة المسلمين برماحهم وسيوفهم فانه لم يقتل من المسلمين إلا أربعة شهداء هم :
الأول : يزيد بن زمعة بن الأسود .
الثاني : أيمن بن أم أيمن .
الثالث : سراقة بن الحارث بن عدي من الأنصار .
الرابع : أبو عامر الأشعري ، قال ابن كثير (وانحازت طوائف من هوازن إلى أوطاس ، فبعث صلى الله عليه وآله و سلم إليهم أبا عامر الأشعري و اسمه عبيد و معه ابن أخيه أبو موسى الأشعري حاملا راية المسلمين في جماعة من المسلمين ، فقتلوا منهم خلقاً .
و قتل أمير المسلمين أبو عامر ، رماه رجل فأصاب ركبته ، و كان منها حتفه ، فقتل أبو موسى قاتله ، و قيل : بل أسلم قاتله بعد ذلك ، وكان أحد إخوة عشرة قتل أبو عامر التسعة قبله ، فالله أعلم .
و لما أخبر أبو موسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك استغفر صلى الله عليه وآله وسلم لأبي عامر) ( ).
أما المشركون فقد قُتل منهم يومئذ خلق كثير نحو الأربعين .
ومن الوقائع التي أنفق فيها مشركو قريش الأموال غزوة السويق ، فبعد هزيمة المشركين في معركة بدر نذر أبو سفيان ألا يمس رأسه ماء حتى يغزو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فسار أبو سفيان ومعه مائتا راكب ووصل إلى أطراف المدينة بناحية العريض ، فقطعوا عدداً من صغار النخيل وقتلوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له كانا في حريش لهما ، وفي شهر حرام في شهر ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة( ) ، وفيه مسائل :
الأولى : المراد من قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ) ان المشركين هم الذين يهجمون ويطلبون القتال في الشهر الحرام ، ويغيرون بغتة .
الثانية : المشركون هم الغزاة المعتدون .
الثالثة : مزاولة المشركين الإرهاب ، وقتل الناس الآمنين .
فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه مائتان من المهاجرين والأنصار، وكأنه يعلم بعدد الذين أغاروا على أطراف المدينة في طلبهم ، فانهزم أبو سفيان والمشركون ، وقاموا بطرح سويق كثير من أزوادهم ليتخففوا ، ويسرعوا في طريق الفرار ، فأخذها المسلمون ، فسميت غزوة السويق ، وهذا الاسم صحيح ومناسب ، إلا أن مراد المفسرين والمؤرخين وكتاب السيرة أنها غزوة قام بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتسمى غزوته هذه غزوة السويق ، إنما هي غزوة أبي سفيان والمشركين .
ولم يستمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بمطاردة أبي سفيان وأصحابه ، إنما بلغوا قرقرة الكدر والتي تبعد عن المدينة المنورة نحو (100) كم وتسمى في هذا الزمان الشعبة ثم انقلبوا راجعين إلى المدينة .
لتكون معارك الإسلام الأولى وفق علم المنطق دليلاً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرة الأنبياء له كما في قوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، حسب البرهان الإني وهو الإستدلال بالمعلول على العلة في مقابل البرهان اللمي وهو الإستدلال بالعلة على المعلول فحينما نرى التمر على النخلة نعلم أنه تم تلقيحها
فالمقدمة الصغرى : العذق في أعلى النخلة .
المقدمة الكبرى : هذه النخلة تم تلقيحها .
فالحد الأكبر العذق والرطب على النخلة معلول للحد الأوسط وهو التلقيح ، في الحد الأصغر وهو النخلة .
فمع قلة عدد المسلمين في معركة بدر كانت النتيجة والحد الأكبر هي نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
لبيان قانون وهو عدم ترتب النصر على الأسباب والعدد والعدة عند وقوع القتال بين النبي والمشركين ، ومع هذا لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشركين ، ولم يتعقب المشركين إلى مكة كما في معركة بدر إذ ترك فلولهم ترجع إلى مكة ، وكذا في معركة أحد ، فقد بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي خلفهم عندما انسحبوا ليتأكد من وجهتهم .
فحينما أراد المشركون مغادرة ساحة معركة أحد في ذات اليوم الذي ابتدأت به ، وأوان وكيفية هذا الإنسحاب من البرهان الإني الذي يدل على خيبة جيش المشركين ، وعدم تحقيقهم أي غاية من غاياتهم .
وهذه الليلة ليلة الثلاثاء السابع عشر من شهر ربيع الأول من السنة الأربعمائة والثانية والأربعين بعد الألف للهجرة النبوية الشريفة ومع انقضاء هذه الحقب من السنين .
فكأن بركات ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاضرة في هذا الزمان وبين ظهراني المسلمين ، وهو من المعجزات المستحدثة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا المصطلح منا وسيأتي قانون معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم المستحدثة وهي متجددة كماً وكيفاً .
لا أصل لاسم غزوة الحديبية
كانت عند العرب مقولة مشهورة وهي (لم يغز أحد في عقر داره إلا أدرك منع عدوه بعض ما يريد) ( ).
ومن إعجاز نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقوع الضد من هذه المقولة حينما هجم وأغار المشركون على المدينة غزوات متكررة ، وتدل عليه الوقائع وإخبار القرآن عن خيبتهم في كل هجوم كما في خاتمة الآية الكريمة لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ، وتحقق مصداق هذه المقولة في الحديبية مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت إلى مكة غازياً ، وتدل هذه الحقيقة إقامته وأصحابه في الحديبية لأكثر من أسبوعين بعيداً عن مكة بنحو عشرين كيلو متر , وامتلاء قلوب المشركين بالخوف منه حتى في حال إحضاره السلاح .
وفي حديث الإسراء (قال ربي : يا محمّد اتخذتك خليلي كما اتخذت إبراهيم خليلاً وكلمتك كما كلمت موسى تكليماً وأعطيتك فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة وكانا من كنوز العرش ولم أعطها نبياً قبلك .
وأرسلتك إلى أهل الأرض جميعاً أبيضهم وأسودهم وإنسهم وجنّهم ولم أرسل إلى جماعتهم نبياً قبلك , وجعلت الارض كلها برّها وبحرها طهوراً ومسجداً لك ولأمتك وأطعمتك وأمتك الفيء ولم أطعمه أمة قبلهم ونصرتك بالرعب على عدوك مسيرة شهر.
وأنزلت عليك سيد الكتب كلها ومهيمناً عليها قرآناً فرقناه ورفعت لك ذكرك فتذكر كلما ذكرت في شرائع ديني .
وأعطيتك مكان التوراة المثاني ومكان الانجيل المبين ومكان الزبور الحواميم،
وفضلتك بالمفصّل وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك) ( ).
وكان المشركون قد جاءوا في غزوة الأحزاب بعشرة آلاف رجل ليحاصروا المدينة ورجعوا بالخيبة والحسرة ، وفقدان عدد من فرسانهم ، بينما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بصلح الحديبية ولواء السلام .
(عن قتادة ، عن أنس قال : لما رجعنا من غزوة الحديبية قد حيل بيننا وبين نسكنا ، فنحن بين الحزن والكآبة ، فأنزل الله عز وجل : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) ( ) إلى آخر الآية ، فقال نبي الله صلى الله عليه وآله : قد أنزلت علي آية خير من الدنيا وما فيها جميعا) ( ).
وإذا وردت تسمية الحديبية غزوة عن الصحابي أنس بن مالك ، فلابد أن المراد من الغزوة في الإصطلاح ليس الهجوم ، وإرادة القتال ، إنما هو الخروج من المدينة مطلقاً ، وهي على وجوه :
الأول : الإستطلاع .
الثاني : معرفة أخبار قريش .
الثالث : استعراض قوة المسلمين .
الرابع : إنذار المشركين من الإغارة على المدينة ومباغتة أهلها .
الخامس : ترغيب أهل القرى والبادية حول المدينة بدخول الإسلام .
السادس : حسن الصلة مع القبائل القريبة من المدينة وعقد التحالف أو الموادعة معها .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يؤدون الصلاة عند أفواه ومداخل القرى من غير أن يسألوا أهلها شيئاً , الذين تتجلى لهم بركات هذا الحضور .
السابع : استكشاف المناطق ، ومعرفة طبيعة الأرض والطرق المؤدية إلى المدينة ومراقبتها والإستعداد للدفاع عنها ، وضمان سرعة الحركة ، وعدم تشتت الجيش عند حلول طارئ , ورصد قوافل قريش التجارية .
وهل منه إتخاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهجوم وسيلة للدفاع ، الجواب لا ، فمن أخلاق النبوة التحلي بالصبر والتجاوز عن السيئات .
وممن سمّى الحديبية غزوة من العلماء :
الأول : صحيح البخاري باب غزوة الحديبية( ) .
الثاني : مسند أحمد ، بالإسناد عن عبد الله بن مسعود( ) ولعل التسمية (غزوة الحديبية ) من رجال الإسناد .
الثالث : الزمخشري ، وفي قوله تعالى [كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ]( ) قال : يريد في غزوة الحديبية( ) .
الرابع : الثعلبي في مواضع من تفسيره ، منها وإنما غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذنبه (في غزوة الحديبية قبل موته بسنتين وشيء) ( ).
الخامس : ابن كثير في تفسيره ( )، وفي كتاب السيرة إذ أفرد فصلاً بعنوان (غزوة الحديبية ) ( ) وكذا في البداية والنهاية( ) ، إذ ذكر عنوان : غزوة الحديبية( ).
السادس : ابن حبان في البحر المحيط( ) .
السابع : القرطبي في تفسيره : الجامع لأحكام القرآن ( ).
الثامن : ابن هشام في السيرة النبوية ( ).
التاسع : الواقدي في مغازيه ، باب غزوة الحديبية( ) .
العاشر : ابن الأثير في الكامل في التأريخ ( ) .
الحادي عشر : ابن الجوزي ، إذ قال : وفي هذه السنة كانت غزوة الحديبية ( ).
الثاني عشر : الطبري إذ قال : (ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الحديبية إلى المدينة أقام بها ذا الحجة وبعض المحرم – فيما حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
قال: وولى الحج في تلك السنة المشركون) ( ).
الثالث عشر : المسعودي في مروج الذهب إذ قال (ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصَده المشركون) ( ).
الرابع عشر : اليعقوبي في تأريخه إذ قال (ثم كانت غزاة الحديبية. خرج رسول الله في سنة ستة يريد العمرة، ومعه ناس وساق من الهدي سبعين بدنة .
وساق أصحابه أيضاً وخرجوا بالسلاح، فصدته قريش عن البيت، فقال: ما خرجت أريد قتالاً وإنما أردت زيارة هذا البيت، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى في المنام أنه دخل البيت وحلق رأسه وأخذ المفتاح) ( ).
ولما سمعت قريش بقدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه راعهم الأمر ليس خوفاً من قتاله لهم ، إذ أنهم مطمئنون بأن الله عز وجل جعله يكرم البيت الحرام ، ويتوجه وأصحابه اليه قبلة في الصلاة ، وإنه لا يريد غزوهم ، ولكنهم تباحثوا في الأمر ، وعزموا على منعه وأصحابه من دخول مكة , ليكون هذا المنع حجة عليهم في السموات وبين أهل الأرض وعند مقامات وآيات البيت الحرام التي إشتاقت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لجهادهم وصبرهم في جنب الله .
فبعد إجتماع وتشاور قريش خرجوا بنتيجة وهي (أيريد محمد أن يدخلها علينا في جنوده معتمرا فتسمع العرب أنه قد دخل علينا عنوة، وبيننا وبينه من الحرب ما بيننا ، والله لا كان هذا أبدا ومنا عين تطرف)( ).
وصحيح أن الحرب قائمة بينهم ، ولكنه لم يأت لهم ، إنما جاء الى البيت الحرام ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ) .
وجاء الألف واللام في (الناس) لإفادة العموم الإستغراقي ليشمل جميع الأفراد مما يدل بالأولوية القطعية إتاحة زيادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة له ، كما أنه لم يدخل مكة عنوة إنما بعث عثمان بن عفان لإخبارهم بمجيئه وإرادته العمرة .
ومع قلة إنفاق المسلمين فقد تحقق النصر على المشركين شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومدد الملائكة له ، فكان سلاحهم الدعاء وهو صفر في الإنفاق بل وتوفير وغنى عنه ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، فليس في التأريخ جيش ينفق 5% من إنفاق عدوه وينتصر عليه مع تعدد هذه المعارك وليس هو لمرة واحدة .
ولم يرد لفظ (استجاب لكم) في القرآن إلا في الآية أعلاه وموضوع نزولها هو معركة بدر ، لبيان مأمن الله عز وجل به على المسلمين في هذه المعركة على نحو الخصوص ، ولكن نعمه الإستجابة باقية لأن الله عز وجل إذا أنعم بنعمة على أهل الأرض لا تغادرها.
لقد استنفرت قريش كل قواها لمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أداء العمرة من وجوه :
الأول : تقديم خالد بن الوليد في مائتي فارس لمشاغلة النبي وأصحابه ، ومنعهم من التقدم نحو مكة .
الثاني : دعوة الأحابيش للخروج معهم لمنع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : البعث إلى ثقيف في الطائف التي تبعد نحو (80كم) عن المدينة للحضور معهم ، فلبوا الدعوة وحضروا إلى مكة ، وخرجوا مع قريش إلى موضع يسمى (بلدح) وهو واد بين مكة والحديبية ، وهو أقرب إلى مكة .
وحينما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم برسالة أمن وسلام بيد عثمان بن عفان إلى قريش لقاهم في بلدح قبل أن يدخل مكة فاستوقفوه ومنعوه من دخولها .
وقالوا له ما تريد فأخبرهم بما أوصاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مجيئهم إلى العمرة ، وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إلى الإسلام ، وبيّن لهم أن الحرب قد انهكتهم ، وذهبت بفرسانهم وطائفة من وجهائهم وأشرافهم إذ غادروا الدنيا بذل وخزي ، نعم لم يكن عندهم جواب إلا أنهم يمنعون دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة وعللوه بأنهم لا يرضون بدخوله لها عنوة .
وكانت مكة مفتوحة للناس جميعاً لا يلزم من يدخلها الإذن من قريش، ولو على نحو الشرط الإرتكازي ، وهم يعلمون أنه ليس لهم هذا الحق ، ولا يقدرون على فرضه .
وأعاد عليهم عثمان وقال (إن رسول الله يخبركم أنه لم يأت لقتال أحد، إنما جاء معتمراً، معه الهدي عليه القلائد ينحره وينصرف) ( ).
ثم أمرته قريش أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قالوا (فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا) ( ) أي أنهم منعوا عثمان من دخول مكة ، وحمّلوه رسالة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ففي قولهم (لا يصل إلينا) نوع مغالطة لأنه لم يأت إليهم ، ولم يقولوا لن يصل إلى البيت لعلمهم بأنه ليس من حقهم منعه ، أو منع أصحابه من عمارة البيت ولخشية هيجان العرب عليهم بسبب هذا المنع .
لأنها تكون سابقة خطيرة أن يتحكم كفار قريش بدخول الناس مكة خاصة وأن النبي وطائفة من أصحابه وهم المهاجرون من أهل مكة ومن ولد بجوار البيت ، فاذا كانت قريش تمنعهم فقد تمنع غيرهم من باب الأولوية ، وقد قال الله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ) ، فان قيل إنما هم ولاة البيت والقائمون على شؤونه .
فقام أبان بن سعيد بن العاص فأجار عثمان ، ونزل عن فرسه ، وحمل عثمان على السرج وردفه وراءه ليبين للناس أنه بجواره وأمنه ، ويكون مصاحباً له كيلا يغدروا به في الشهر الحرام .
فذهب عثمان إلى أبي سفيان وصفوان بن أمية وغيرهما يكلمهم ليأذنوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بدخول مكة لأداء العمرة ، ثم صار عثمان يدخل على المسلمين المستضعفين في مكة رجالاً ونساءً ويقول (إن رسول الله يبشركم بالفتح ) ( ).
لقد ملأت الغبطة قلوب المسلمين والمسلمات الذين في مكة عندما علموا بقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا يدعون الله عز وجل أن يدخله مكة ويقولون (إن الذي أنزله الحديبية لقادر أن يدخله بطن مكة) ( ).
وفي هذا القول مسائل :
الأولى : بيان حقيقة وجود طائفة من المسلمين والمسلمات في مكة ، فهي ليست دار كفار وشرك .
الثانية : ثبات مسلمي مكة على الإيمان .
الثالثة : وجود شجرة الإسلام في مكة تحد وخزي لكفار قريش .
الرابعة : تسليم المسلمين بأن وصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية بالوحي وأمر من عند الله عز وجل .
الخامسة : إدراك المسلمين لقانون وهو لا يدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة إلا بأمر من عند الله ، ويدل وفق مفهوم المخالفة على أنه إذا رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية ، فهذا الرجوع بأمر من عند الله عز وجل .
فمع أن مسلمي مكة بعيدون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويوميات الوحي في المدينة فانهم يتسالمون على تنجز مصاديق قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، وهذا التسالم العام عند المسلمين من أسباب نصرهم وقهر المشركين .
وهو من الإعجاز الغيري في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاينطق إلا بما يوحي له الله عز وجل فيحتمل تصديق المسلمين للوحي وجوهاً :
الأول : إنه من فضل الله والإلقاء في روع المسلمين وهدايتهم لسبل تصديق النبوة والتنزيل .
الثاني : إنه بالفطرة .
الثالث : من الإجتهاد والكسب النظري للمسلمين .
الرابع : إنه من الشواهد التجريبية ، وتبيان أقوال وأفعال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها من الوحي ، وأن الإنسان يعجز عنها سواء في ذاتها أو دلالاتها أو نتائجها .
والمختار هو الأول ، وتكون الوجوه الأخرى أعلاه في طوله ، وشواهد على رحمة الله بالمسلمين لتبقى هذه المعجزة عند أجيال المسلمين ، وهي من أسباب إصلاحهم لسبل الإيمان ، وأداء الفرائض العبادية .
وبقي عثمان في مكة ثلاثة ليال ، كما أن بعض الصحابة دخلوا مكة باذن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرؤية أهليهم وهم (عشرةً من المهاجرين :
الأول :كرز بن جابر الفهري.
الثاني : عبد الله بن سهيل بن عمرو.
الثالث : عياش بن أبي ربيعة.
الرابع : هشام بن العاص بن وائل.
الخامس : حاطب بن أبي بلتعة.
السادس : أبو حاطب بن عمرو بن عبد الشمس.
السابع : عبد الله بن حذافة .
الثامن : أبو الروم بن عمير .
التاسع : عمير بن وهب الجمحي .
العاشر: عبد الله بن أمية بن وهب حليف سهيل في بني أسد بن عبد العزى) ( ).
وقيل دخلوا بأمان عثمان الذي أعطاه له أبان بن سعيد بن العاص وهو من بني أمية أيضاً .
والأول أصح فأخذتهم قريش وحبسوهم وبعثت قريش جمعاً إلى الحديبية وتراموا بالنبال والحجارة وأسر المسلمون منهم أثني عشر فارساً ، وقُتل من المسلمين ابن زنيم الذي لم يكن مقاتلاً ، إنما أطلع من الثنية من الحديبية ، فرماه المشركون فقتلوه مما يدل على أنهم يحاصرون معسكر المسلمين ،ويمنعون تقدمهم نحو مكة ، لبيان ظلم وتعدي المشركين ، ففي كل مرة حتى في الشهر الحرام يقتلون من المسلمين بغير حق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
وليكون قتله رسالة من كفار قريش بابادة جيش المسلمين إذ أرادوا التوجه إلى مكة لأداء العمرة ، لبيان أن إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية معجزة له ، وفيها أمور :
الأول : حقن الدماء .
الثاني : منع الفتنة .
الثالث : إقامة الحجة على كفار قريش .
الرابع : الإنذار لقريش وغيرهم بأن رايات الإسلام أطلت على مكة .
الخامس : دعوة المسلمين والمسلمات في مكة للثبات على الإيمان ، وترغيبهم بالصبر وإظهار إسلامهم مع عدم الخشية من الضرر .
وحينما احتجز النبي صلى الله عليه وآله وسلم اثني عشر رجلاً من قريش عنده بعد مقتل ابن زنيم في الشهر الحرام وبغير حق ، وتحدثت العرب عن منع قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الإعتمار ، وأن هذا المنع تعد وظلم , فخشيت قريش الفتنة في موسم الحج ، وقيام وفود الحاج بادخال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة عنوة على قريش ، فقامت قريش ببعث وفد من قريش وهم :
الأول : سهيل بن عمرو ، وهو خطيب مكة والذي أسلم فيما بعد .
الثاني : حويطب بن عبد العزى والذي أسلم هو الآخر
الثالث : مكرز بن حفص .
ولما رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سهيلاً قادماً قال لأصحابه (سُهّل أمركم) ( ) والإجماع على حمله على التفاؤل بالاسم ، إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتفاءل بالأسماء .
والمختار المعنى الأعم .
ومنه وجود أبناء وأخوة لسهيل بن عمرو مسلمين منهم :
الأول : عبد الله بن سهيل بن عمرو الذي كان من المسلمين الأوائل ، وهاجر إلى الحبشة حينما بلغهم دخول قريش الإسلام عاد عبد الله إلى مكة فحبسه أبوه وشدد عليه من أجل ترك الإسلام ، فأظهر الرجوع عنه .
وحينما خرجت قريش إلى معركة بدر خرج معهم عبد الله بن سهيل ولأنه لا زال مسلماً يكتم إسلامه للسعي للإلتحاق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى بدر إنحاز عبد الله بن سهيل إلى معسكر المسلمين ، وكان التحاقه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أسباب شدّ عزائم الصحابة ، والشواهد على عدم إرتداد الشباب المسلم ، وإن كان الآباء يسعون في إكراههم على ترك الإسلام ، أو حتى على منع الدخول فيه .
و(عَنْ الإمام عَلِيٍّ عليه السلام عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ) ( ).
ليشهد عبد الله بن عمرو معركة بدر إلى جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا (المشاهد كلها وكان من فضلاء الصحابة وهو أحد الشهود في صلح الحديبية) ( ) .
لتكون هذه الشهادة من المعجزات الغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويتم بعد الحديبية باثنين وعشرين شهراً فتح مكة فيأخذ بعد الله الأمان لأبيه سهيل بن عمرو ، إذ جاء الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال (يا رسول الله، أبي تؤمنه؟
قال: ” هو آمن بأمان الله، فليظهر ” .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن حوله: ” من رآى سهيل بن عمرو فلا يشد إليه النظر.
فلعمري إن سهيلاً له عقلٌ وشرف، وما مثل سهيل جهل الإسلام ” . فخرج عبد الله إلى أبيه فأخبره مقالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال سهيل: كان والله برّاً كبيراً وصغيراً.
واستشهد عبد الله بن سهيل يوم اليمامة، سنة اثنتي عشرة، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة) ( ).
وهل هذه الشفاعة مرآة لشفاعة المؤمن لأبيه الكافر في الآخرة ، الجواب لا .
الثاني : أبو جندل بن عمرو ، وقد أسلم في مكة ، وحينما علم أبوه باسلامه شدّه بالقيود ومنعه من الحركة ، وجعل مسكنه سجناً له ، وعندما عقد صلح الحديبية ، وقبل إمضاء الكتاب جاء أبو جندل (يَرْسُفُ( ) فِي قُيُودِهِ قَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكّةَ حَتّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ) ( ) وسيأتي بيانه .
الثالث : سهلة بنت سهيل بن عمرو ، وهي من المسلمين والمسلمات الأوائل ، وقد هاجرت إلى الحبشة في الدفعة الأولى مع زوجها أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة (وولدت له هناك محمد بن أبي حذيفة) ( ).
الرابع : حاطب بن عمرو وهو أخو سهيل بن عمرو ، وعم سهلة بن عمرو ، وقد أسلم قبل دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم (وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين ) ( )وقيل هو أول من هاجر إلى الحبشة.
الخامس : السكران بن عمرو ، وهو أخو سهيل لأمه وأبيه ، وقد هاجر إلى الحبشة مع زوجته سودة بنت زمعة ، ومات هناك فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال ابن إسحاق أن السكران (رجع إلى مكة فمات بها فتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعده زوجته سودة بنت زمعة زوجه إياها أخوه حاطب) ( ).
السادس : سليط بن عمرو بن عبد شمس ، وهو من المسلمين الأوائل ، وممن هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، وقيل أنه شهد بدراً ، (وهو الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هوذة بن علي الحنفي ، وإلى ثمامة بن أثال الحنفي وهما رئيسا اليمامة وذلك في سنة ست أو سبع .
ذكر الواقدي وابن إسحاق إرساله إلى هوذة .
وزاد ابن هشام وثمامة وقتل سنة أربع عشرة) ( ).
مؤذن مكة
لقد صار أبو محذورة الجُمحي واسمه أوس على المشهور والمختار مؤذناً لعتاب بن أسيد عامل مكة من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد أسلم أبو محذورة بعد واقعة حنين أي بعد فتح مكة ، إذ ذكر أنه كان في نفر عشرة في بعض الطريق حين قفل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حنين فأذن مؤذن رسول الله بالصلاة عنده .
وحينما سمع هو والذين معه الأذان وهم متنكبون ومعرضون عنه صاروا يصرخون استهزاء بذات كلمات الأذان ويحاكونه استخفافاً ، فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم صوتهم ومقصدهم ، فأرسل إليهم فلما وقفوا بين يديه .
وهو من عمومات قوله تعالى [وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ] ( ) وقد خصت صلاة الجمعة بنداء خاص ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] ( ) .
وفي حديث مالك بن الحويرث (فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ ) ( ).
قال أبو محذورة فسألنا النبي (أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع فأشار القوم كلهم إلي وصدقوا فأرسلهم وحبسني ثم قال : قم فأذن بالصلاة) ( ).
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكره هؤلاء القوم على دخول الإسلام .
وبقي أبو محذورة أوس وحده عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنصرف أصحابه التسعة من غير أن يسألوه أو يعترضوا أو ينتظروا صاحبهم .
وهل كان هذا التفصيل بحبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي محذورة وإطلاق الآخرين من الوحي أم إجتهاداً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب هو الأول ، وفيه معجزة وهي حينما يصدر الأمر والقول من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجد الإستجابة حتى من الذين كفروا ، فلم يمتنع ابو محذورة من البقاء بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يسأل أصحابه البقاء معه ، إنما انصرفوا وتركوه وهم يعلمون أن سبب إبقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم له هو الأذان والنداء السماوي إلى الصلاة .
وفي رواية أن النبي سمع حسن صوت أحدهم فأرسل إليهم فأذن كل واحد منهم ، وكان أبو محذورة آخرهم ، وعندما أذن علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صاحب الصوت الحسن فحبسه عنده .
ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي محذورة قم فأذن للصلاة ، ليبين له أن الأذان مقدمة للصلاة واشعار على حلول وقتها وإقامتها .
ومع هذا استعد للأذان ، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد أصحابه بتعليمه فصول الأذان ، إنما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يلقنه : قل الله أكبر . الله أكبر .
وعندما يتم أبو محذورة النداء بالتكبير يقول له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله، إلى أن أتم أبو محذورة الأذان.
لقد كان يردد بعض فصول الأذان سخرية واستهزاء أما الآن فقد أدى فصول الأذان كاملة .
لقد اندهش أبو محذورة حينما رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومجموع المسلمين صلوا على أذانه ، وكأنه الرائد للقوم .
وعندما أتم الأذان أعطاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صرة فيها فضة هبة ، والظاهر أنها من غنائم حنين ، ثم وضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده على ناصية أبي محذورة ثم في وسط صدره ، ثم على سرته ثم قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم (بارك الله فيك وبارك الله عليك.
فقلت يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة ، قال : قد أمرتك به) ( ) أي أنه طلب الإذن من النبي بالأذان في مكة فأخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يأمره به أمراً ، لبيان مسألة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان يؤذن ويقيم وأصحابه الصلاة في المدينة وعند مداخل القرى فان هناك من يستهزأ بالأذان والصلاة ، ولكن عدد المستهزئين قليل ومثله مثل عدد لمدد المنافقين بالأخذ بالتناقص ، ولكن كلاً من الأذان والصلاة سبب لهداية أفواج من الناس ، قال تعالى [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ] ( ).
وهل دخول أبو محذورة الإسلام من هذه الكفاية أم أن القدر المتيقن من الكفاية هو البطش والإنتقام من الكافرين ، الجواب هو الأول .
لذا كان بعضهم يعنون قصة أبي محذورة (قصة المستهزئ الذي هداه الله).
لقد ذهبت الكراهية التي في نفس أبي محذورة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والأذان وامتلأت نفسه وجوارحه حباً للنبي ، وأنصرف إلى مكة وصار يؤذن لأميرها عتاب بن أسيد وبقي يؤذن في مكة إلى أن توفي سنة تسع وخمسين للهجرة من غير أن يغادر مكة مهاجراً .
(قال محمد بن عمر فتوارث الأذان بعد بمكة ولده وولد ولده إلى اليوم في المسجد الحرام) ( ).
ومحمد بن عمر بن واقد ، وهو الواقدي مولى بني سهم (130-207) هجرية قاضي بغداد ضعّفه كثير من الفقهاء وأهل الجرح والتعديل وعدّه النسائي 303 هجرية من الضعفاء والمتروكين .
وقال أبو نعيم : محمد بن عمر الواقدي قاضي بغداد متروك الحديث.
وكتب الواقدي في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكتائبه ، واقبل الناس في الأمصار على كتبه تولى القضاء في الجانب الشرقي في بغداد ، وكان جواداً مشهوراً بالسخاء .
ولحسن صوت أبي محذورة ،ودعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له (وقال بعض شعراء قريش في أذان أبي محذورة من الرجز:
أما وربّ الكعبة المستوره … وما تلا محمّد من سوره
والنعرات من أبي محذوره … لأفعلنّ فعلةً مذكوره
وكان أبو محذورة أحسن الناس أذاناً وأنداهم صوتاً) ( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما قام بتلقين أبي محذورة الأذان في كتيبة وحال حرب ودفاع مع هوازن وثقيف ، وبعد أن تم فتح مكة ، ولم يغضب من استهزاء أي محذورة وأصحابه إنما اختاره للأذان بجميع المسلمين مع وجود بلال وغيره من المؤذنين ، وفيه شاهد بأن الصبر وتحمل الأذى من الأدنى صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى وهو في حال النصر والغلبة ، ولم يبطش بهم ، مما يدل على أنه لم يطلب الغزو .
هل كل الذين انخزلوا من معركة أحد منافقون
قد يكون في قولنا اختار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الهجرة الى المدينة نوع مسامحة ومجاز لأن هذه الهجرة لم تكن باختيار منه وإن كانت نوع ضرورة ، إنما كانت بوحي من عند الله عز وجل .
ولكن حينما يقال اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهجرة يتبادر إلى الأذهان أن هذا الإختيار شعبة من الوحي إذ أنه تغيير وانتقال يغير تأريخ الإنسانية إلى يوم القيامة ، بما فيه النفع والصلاح والفلاح لبيان قانون وهو أن الوحي خير محض وإن كان يتضمن الأمر والنهي الذي فيه أذى وهو من عمومات قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
وتبين هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قانوناً وهو الوحي حرب على الإرهاب وتتصف هذه الحرب باللطف والرحمة العامة للناس جميعاً .
فلم يأمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بمداهمة رؤساء الشرك في بيوتهم ، بل تفضل الله عز وجل قبل الهجرة وجعل النبي محمداً يأمر رهطاً من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة ، انخزل ثلاثمائة من جيش المسلمين من الشوط من وسط الطريق بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول وهم ثلث جيش المسلمين .
ومن عادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يقف عند الأحنة والبغضاء ، ولا يجعل الثلمة والنكسة سبباً لليأس أو القنوط إذ أنه حرص على أن لا تنكسر عزيمة المؤمنين برجوع هؤلاء ، حيث ساروا بخطى ثابتة إلى لقاء جيوش العدو بصبر وحسن توكل على الله ، وبراءة من النفاق ، وهل كان الثلاثمائة الذين رجعوا مع عبد الله بن أبي كلهم من المنافقين بلحاظ النكوص ، والإرتداد عن الدفاع عن النبوة والتنزيل والعرض والأموال ساعة الشدة ، المختار لا ، فلا تدل هذه العودة على أن كل واحد منهم يخفي الكفر وأنه انكشف في هذه الساعة .
قانون عرض الهجرة إلى الحبشة
ليس من مسلم أو مسلمة إلا ويعرف بحقيقة تأريخية وهي هجرة طائفة من الصحابة من مكة إلى الحبشة ، ليبقى موضوع هذه الهجرة شاهداً على صبغة السلم التي بعث الله عز وجل بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحمله وأصحابه أشد المخاطر في سبيل الله ومن أجل إجتناب المواجهة مع كفار قريش .
وهل هذه الهجرة من الصبر وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، الجواب نعم ، لبيان أن صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أمر وجودي وعمل وجهاد .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنْ الْبَلَاءِ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْعَافِيَةِ بِمَكَانِهِ مِنْ اللّهِ وَمِنْ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ وَأَنّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمّا هُمْ فِيهِ مِنْ الْبَلَاءِ قَالَ لَهُمْ لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ لَكُمْ فَرَجًا فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ وَفِرَارًا إلَى اللّهِ بِدِينِهِمْ فَكَانَتْ أَوّلَ هِجْرَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ( ).
وأسباب وعلل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لطائفة من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة متعددة .
ورفع ابن كثير الحديث إلى أم سلمة ( ).
وقد ذكر في الحديث أعلاه أسباب دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للهجرة وهي :
الأول : رؤية النبي لما يصيب أصحابه من البلاء وتعذيب قريش لهم .
الثاني : العافية والأمن والسلامة التي يتمتع بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : بيان علة هذه العافية وهي منع عمه أبي طالب له .
الرابع : عدم قدرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الذب والدفاع عن أصحابه .
ونرد عليه بمسائل :
الأولى : ليس كل الذين هاجروا إلى الحبشة يتعرضون إلى الأذى الشديد الذي يستلزم الهجرة .
الثانية : لقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة ، وخرج رهط منهم في شهر رجب من السنة الخامسة من البعثة النبوية إذ توجهوا إلى الشعيبة ،وهو ميناء على البحر الأحمر قريب من جدة الآن ، ومنهم من سار راكباً ومنه من كان قد قطع المسافة مشياً فوجدوا سفينة تريد الإبحار إلى الحبشة فركبوا بنصف دينار لكل واحد منهم .
وكان عددهم اثني عشر رجلاً وأربع نسوة ( ) وهم من أواسط بيوتات قريش , وهم :
الأول : عثمان بن عفان ، وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : أبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل ، وهو خطيب قريش والذي تفاوض مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية، وكان يومئذ شديداً في شروطه، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أظهر اللين والتسامح.
الثالث : الزبير بن العوام .
الرابع : مصعب بن عمير .
الخامس : عبد الرحمن بن عوف.
السادس : أبو سلمة بن عبد الاسد، وامرأته أم سلمة بنت أبى أمية.
السابع : عثمان بن مظعون .
الثامن : عامر بن ربيعة العنزي، وامرأته ليلى بنت أبى حثمة،
التاسع : أبو سبرة بن أبى رهم .
العاشر : حاطب بن عمرو .
الحادي عشر : سهيل بن بيضاء .
الثاني عشر : عبد الله بن مسعود.
الثالثة : قد تلقى عدد من المسلمين ممن بقي في مكة ولم يهاجر أذى أكثر من المشركين .
الرابعة : لم يكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عافية آنذاك بل إن القتل والإغتيال أقرب إليه من أي فرد من أهل بيته أو أصحابه الذين دخلوا الإسلام .
فالنبي هو صاحب الدعوة ، وهو الرسول والإمام والمتبوع من قبل المؤمنين فلابد أن أشد سخط قريش يكون عليه .
وقد ذكرت آيات القرآن شدة إيذاء قريش له واستهزائهم به ، منها قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) .
وحينما رآى وجهاء قريش أن أبا طالب قد حدب على النبي وقربه اليه، مع عداوتهم الظاهرة له ، مشى رهط منهم إلى أبي طالب وقالوا : يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فإما أن تكفه وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه( ).
ولم يتحداهم أبو طالب ، ولم يحملهم مسؤولية أي ضرر يأتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما (قال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه)( ).
واستمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
وصحيح أن الآية أعلاه من سورة المائدة ، وهي من آخر آيات القرآن نزولاً إلا أنها تبني قانوناً وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يقوم بتبليغ الرسالة بجد واجتهاد في كل أيام الدعوة النبوية فمن خصال الأنبياء عدم الفتور أو الكسل في الدعوة .
وازداد حنق قريش ، واشتد غيظها ، وظهر بتجاهرهم بالكفر وإيذاء الصحابة ، وصاروا يتناجون في سبل الإنتقام ويصرحون بالوعيد للنبي محمد.
قال ابن اسحاق (فَتَذَامَرُوا فِيهِ( ) وَحَضّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ ثُمّ إنّهُمْ مَشَوْا إلَى أَبِي طَالِبٍ مَرّةً أُخْرَى ، فَقَالُوا لَهُ يَا أَبَا طَالِبٍ إنّ لَك سِنّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِينَا ، وَإِنّا قَدْ اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنْ ابْنِ أَخِيك فَلَمْ تَنْهَهُ عَنّا ، وَإِنّا وَاَللّهِ لَا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا مِنْ شَتْمِ آبَائِنَا ، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا ، وَعَيْبِ آلِهَتِنَا ، حَتّى تَكُفّهُ عَنّا ، أَوْ نُنَازِلَهُ وَإِيّاكَ فِي ذَلِكَ حَتّى يَهْلِكَ أَحَدُ)( ).
ولم يشتم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آباءهم ، إنما بيّن قبح عبادة الأصنام ومن أسرار هذا البيان وعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، دخول الناس في الإسلام قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( )، قال تعالى [مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ]( )، وعن كعب بن مالك ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق ، فنادى : أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، وأيام منى أيام أكل وشرب( ).
ولا ينحصر إيذاء قريش للنبي محمد بمجيئهم إلى أبي طالب وبيان سخطهم عنده ، إذ يدل الجمع بين الأخبار وشدة استياء قريش من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنهم كانوا يودون الإنتقام والبطش وسفك الدماء ، ويجزي الله عز وجل الذين بادروا إلى النطق بالشهادتين قبل غيرهم بأن أنقذهم من براثن الكفر والشرك ، وحال بينهم وبين الإرتداد ، والإنصات لإغواء قريش ، وإغرائهم بالمال والجاه ، للرجوع عن الإسلام ، لبيان قانون وهو أن الجزاء على الإيمان عاجل وآجل .
ولم يكن قبل الهجرة نفاق ، إنما كان دخول الإسلام شاهداً على الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل يمكن أن يأتي لبعضهم النفاق لاحقاً وهو إخفاء الكفر مع البقاء على إعلان الإسلام، الجواب الأصل هو السلامة من النفاق ابتداءً وإستدامة لوجوه :
الأول : قانون تحمل أعباء الهجرة في سبيل الله ، ومفارقة الأهل والأحبة .
الثاني : الثبات على الإيمان حتى في الحبشة حيث كان أهلها على دين النصرانية .
الثالث : شواهد الإيمان في سيرة المهاجرين .
الرابع : لم يدخل المهاجرون الإسلام عن خوف مثل الذين دخلوا الإسلام في المدينة بعد تكرار انتصار المسلمين في معارك الإسلام الدفاعية الأولى ، وخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الكتائب والسرايا حول المدينة .
الخامس : قانون إختيار الصحابة الهجرة طواعية ، وما تدل عليه من قانون تقديم سلامة الدين على سلامة النفس ، إذ كانت الهجرة محفوفة بالمخاطر والأهوال ، فقد كان المهاجر يخشى على دينه في مكة ، ولكنه عندما خرج منها صار يخشى على نفسه من آفاق الطريق والسلب والإغتيال والقتل.
السادس : ثناء الله عز وجل على المهاجرين حتى في آخر سور القرآن نزولاً ووقائع وكتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
وموضوع الآية أعلاه هو كتيبة تبوك في شهر رجب من العام التاسع للهجرة والموافق سنة 630 م ، وجاءت بعد عام من معركة مؤته ، ولم يقع فيها قتال مع الروم والتي تسمى في كتب السيرة (غزوة تبوك) مع أنه ليس من غزو قِبَل الشام.
لقد كانت أيام عسر وجدب في الظهر والزاد ، أما الظهر فكان كل رجلين أو ثلاثة من الصحابة يتناوبون على بعير واحد ، وكان كل رجلين يشقان التمرة بينهما ، كما كانوا في عسرة من الماء وهم في شدة الحر.
وقيل (وأصابهم يوماً عطش شديد فجعلوا ينحرون إبلهم ويعصرون أكراشها فيشربون ماءها ، قال عمر بن الخطاب فأمطر الله السماء بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فغشينا) ( ).
وقال الماوردي بخصوص الآية أعلاه من سورة التوبة (وفي هذه التوبة من الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار وجهان محتملان :
أحدهما : استنقاذهم من شدة العسر .
والثاني : أنها خلاصهم من نكاية العدوّ .
وعبر عن ذلك بالتوبة وإن خرج عن عرفها لوجود معنى التوبة فيه وهو الرجوع إلى الحالة الأولى ) ( ).
ومن حب الله عز وجل للنبي وأصحابه سلامة المهاجرين إلى الحبشة في دينهم وأنفسهم وقيام النجاشي بالذب عنهم ، والإمتناع عن تسليمهم إلى وفد كفار قريش الذين رجعوا إلى مكة خائبين ليتجلى قانون وهو حفظ المهاجرين لدينهم حتى وسط غيرهم من أهل الكتاب والكفار ، إذ أن سلامة الدين للصحابة في أيام الإسلام الأولى مع النصارى من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كانت هجرتهم في السنة الخامسة للبعثة النبوية الشريعة فقد يكون تعاهد الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط مجتمع الشرك من قريش أمراً سهلاً بالنسبة لتعاهده في مجتمع وأمة أهل الكتاب ، مع الإبتعاد عن النبي وآيات التنزيل .
لبيان مسألة وهي أن عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم على طائفة من أصحابه الهجرة إلى الحبشة معجزة له ، وشاهد على بغضه للإرهاب ، وعلى امتناعه عن القتال والغزو والإغتيال .
من حديث أم سلمة عن النجاشي
يتضمن حديث طويل لأم سلمة وكانت من المهاجرين إلى الحبشة الثناء على النجاشي ، واتصافه بالعدل ، ، وعدم حمله المسلمين المهاجرين على ترك دينهم ، إذ قالت (فأقمنا مع خير جار في خير دار، فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فو الله ما علمنا حزناً قط كان أشد منه، فرقاً أن يظهر ذلك الملك عليه فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرف، فجعلنا ندعوا الله ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائراً.
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعضهم لبعض: من رجل يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على من تكون .
فقال الزبير : وكان من أحدثهم سناً – : أنا، فنفخوا له قربة، فجعلها في صدره ثم خرج يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس ، فحضر الوقعة، فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه .
فجاءنا الزبير فجعل يليح إلينا بردائه ويقول: ألا أبشروا فقد أظهر الله النجاشي ، فو الله ما علمنا فرحنا بشئ قط فرحنا بظهور النجاشي، ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا راجعاً إلى مكة، وأقام من أقام)( ).
ليكون من بركة هجرة الصحابة إلى الحبشة استدامة حكم النجاشي ، وما يتصف به من العدل والزهد والإقامة على النصرانية ، ونجاة الصحابة المهاجرين من الذي خرج على النجاشي لو استلم الحكم ، وفيه نكتة وهي أن الهجرة محاطة بالإفتتان والإبتلاء .
ومن قوانين الحياة الدنيا كثرة مخاطر السفر بالنسبة للإقامة في البلد ، وكان عدد المسلمين في الهجرة الثانية إلى الحبشة ثلاثة وثمانين رجلاً وتسع عشرة امرأة .
وهل في قوله تعالى [يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( )، بتقديم المشاة (رجالاً) وذكر الإبل الهزيلة التي أجهدها بعد المسافة على ركوب السيارة والواسطة الآمنة اشارة إلى نعمة الله عز وجل بتوفر وسائط النقل السريعة للحج ، وصيرورته سهلاً .
الجواب نعم والأمان في السفر والسرب ضرورة ، وعن ابن عباس قال: ما آسى على شيء فاتني ، إلا أني لم أحج ماشياً حتى أدركني الكبر أسمع الله تعالى يقول { يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر }( ) فبدأ بالرجال قبل الركبان( ).
لقد اقترح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على طائفة من أصحابه الهجرة إلى الحبشة ولكن هذا الإقتراح ورد في بعض النصوص بصيغة الأمر كما في حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه (إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه.
فخرجنا إليها أرسالا، حتى اجتمعنا بها ، فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنين على ديننا، ولم نخش فيها ظلما)( ).
والمشهور والمختار أن صيغة الأمر تحمل على الوجوب ولكن الحديث ورد بصيغ أخرى غير الأمر ، إذ قال ابن هشام نقلاً عن ابن اسحاق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه (لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ لَكُمْ فَرَجًا)( ).
وكذا ذكره الذهبي ( ).
ومن خصائص سيرة ابن هشام أنها تهذيب لسيرة ابن إسحاق ، وذات اللفظ (قال لهم لو خرجتم إلى أرض الحبشة) أو ورده ابن كثير في البداية والنهاية( ).
فالمختار حمل أمر وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه على الإستصحاب والندب ، ويتعلق هذا الندب بوجوه :
الأول : الخروج والهجرة من مكة لشدة إيذاء كفار قريش للصحابة .
الثاني : إختيار الحبشة محلاً للإقامة مدة الهجرة ، والإعراض عن قريش.
الثالث : ترغيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة لعدالة ملكها وهو النجاشي ، وأنها أرض صدق ، وفيه شكاية إلى الله عز وجل لأن الأصل في مكة أن تكون أرض صدق ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
الرابع : وورد (لو) في قوله (لو خرجتم) بمعنى (ليت) ولا يشترط الجواب فيه .
ويمكن استقراء الندب واستحباب الهجرة إلى الحبشة بالجمع بين صيغة الأمر ، وحرف الرجاء والأمل (لو) .
وبلحاظ موضوع هذا الجزء من التفسير وهو (قانون لم يغز النبي (ص) أحداً) ففي طلب النبي من أصحابه الهجرة إلى الحبشة مسائل :
الأولى : إجتناب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصدام مع المشركين .
الثانية : بيان قانون ومصداق عملي لقوله تعالى [قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ).
الثالثة : إعطاء رسالة لقريش والناس جميعاً أن النبي محمداً لا يريد القتال مع قريش أو غيرهم .
الرابعة : قانون حسن إيمان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحليهم بالصبر واستعدادهم لبذل النفوس والأموال في سبيل الله .
الخامسة : زجر المشركين عن الإستمرار بايذاء الذين آمنوا .
السادسة : كان أهل مكة يخشون دخول الإسلام خشية بطش قريش ، فجاءت الهجرة لإخبارهم عن السعة والمندوحة وإمكان دخول الإسلام والهجرة إن اضطروا إليها .
السابعة : نماء السخط العام على كفار قريش ، إذ أنهم حملوا أبناءهم وبناتهم على الهجرة بدينهم ، الذي هو مرآة للحنيفية التي جاء بها إبراهيم عليه السلام قال تعالى [وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً]( )، وقد ذكرت مادة الحنيفية في القرآن اثنتي عشرة مرة .
الثامنة : مهاجروا الحبشة سفراء الإسلام .
التاسعة : تفقه المسلمين في الدين ، بمعرفة أحوال الأمم ، وأهل الملل ، والإطلاع على ما يتلوه أهل الحبشة من الإنجيل والمناسك التي يؤدون لتكون هناك مقارنة انطباقية , وتلمس وجوه التشابه بين آيات القرآن والإنجيل .
ومن الإعجاز في قصر السور المكية وصبغة الإنذار والوعيد فيها حمل المهاجرين لها لتكون صاحباً لهم في السفر وفي الغربة ، وجزء من الصلاة اليومية ، إذ تقرأ في كل ركعة سورة الفاتحة مع إحدى السور القصار.
العاشرة : صيرورة مهاجري الحبشة دعاة للإسلام ، فلم يكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده الذي يدعو إلى الله ، ولا تنحصر الدعوة في مكة , وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الحادية عشرة : قانون تعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للسلم المجتمعي بالإعراض عن الطغاة والظالمين ، قال تعالى [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
ومن إعجاز القرآن ورود الأمر ( أعرض ) (احدى عشرة) مرة كلها في خطاب وأمر إلى النبي محمد وبعض الأنبياء , ووردت اثنتان (اعرضوا) خطاباً للمؤمنين وهذه الآيات هي :
الأولى : قوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً]( )، في خطاب وأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : قوله تعالى [سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( )، في خطاب وأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقرون بالبشارة بحسن إختيار الإعراض ، وبصرف أذى وضرر المشركين عنه .
الرابعة : قوله تعالى [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
السادسة : قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( ).
السابعة : قوله تعالى [يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ]( ).
الثامنة : قوله تعالى [يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ]( ).
التاسعة : قوله تعالى [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
العاشرة : قوله تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ]( ) ، في خطاب الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الحادية عشرة : قوله تعالى [فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا]( ).
الثانية عشرة : قوله تعالى [وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا]( ).
الثالثة عشرة : قوله تعالى [سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
ويدل تعدد ورود الأمر من عند الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عن القوم المشركين في مفهومه على امتناع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الغزو ، وعدم حاجته إليه ، وإن في الإعراض الذي هو أمر وجودي صبر ، وجهاد .
وحينما أمر الله عز وجل رسوله بالإعراض عن المشركين فانه شدّ عضده بالمعجزة .
لقد كانت هجرة رهط من الصحابة إلى الحبشة وكذا هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة إعراضاً عن المشركين ، ودعوة سماوية لهم لعدم ملاحقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ولكنهم أرسلوا الوفود إلى النجاشي في الحبشة يطلبون تسليمهم الصحابة الذين لجأوا إلى الحبشة .
لقد خشيت قريش انتشار الإسلام والصلة الحسنة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين النجاشي ، وغلق أسواق الحبشة بوجه تجار قريش فارسلوا وفداّ يتألف من :
الأول : عمرو بن العاص .
الثاني : عبد الله بن ربيعة .
وعلى فرض أن هذا الوفد حضر عند اكتمال عدد المهاجرين اثنين وثمانين عدا النسوة فكيف طلبوا تسليم هذا العدد الكبير لهما ، وحتى على فرض أنهم لحقوا بالمهاجرين الأوائل ، فكان عددهم أحد عشر رجلاً عدا النسوة ، وقد ذكرت أسماءهم إلا أن يقال أنهم أرادوا أخذ الإذن من النجاشي بتسليمهم ليأتوا برجال من قومهم ليسوقوهم إلى مكة مقيدين ، أو أن قريشاً أرادت إخبار النجاشي عن وجود هؤلاء المسلمين الأوائل والتضييق عليهم ، وحملهم على ترك دينهم ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
أما بخصوص هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فانهم جهزوا الجيوش العظيمة لقتاله ، فمن الآيات أنه حالما وصل إلى المدينة صار يعقد العهود والمواثيق مع يهود المدينة ، ومع القبائل التي حولها مما يدل على توليه الإمامة والحكم في المدينة ، وهل خاطبت قريش الأوس والخزرج لإخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة ، والتخلي عن نصرته الجواب نعم .
ترجمة ابن إسحاق
محمد بن إسحاق بن يسار القرشي المطلبي مولاهم (80-150) للهجرة ، وقيل توفى سنة (151) للهجرة ورجحه ابن خلكان( ) وكانت وفاته في بغداد ودفن في مقبرة الخيزران أم هارون الرشيد ، في الجانب الشرقي من بغداد ، ونسبت إلى الخيزران لأنها مدفونة فيها .
وهو مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد الله بن عبد مناف ، وكان جده يسار من سبي عين التمر , وهي بلدة قريبة من كربلاء فتحها خالد بن الوليد سنة 12 للهجرة .
ويروي محمد بن إسماعيل (عن عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان ومحمد بن إبراهيم وغيرهم ويروي عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير وكانت امرأة هشام بن عروة فبلغ ذلك هشاما فقال هو كان يدخل على امرأتي) ( ).
أي أنه أنكر دخوله على امرأته وسماعه الحديث منها .
وكان محمد بن إسحاق قد جاء إلى أبي جعفر المنصور في أيام خلافته ، وهو في الحيرة فكتب له المغازي .
وعن ( ابن أبي حازم قال كان ابن اسحق في حلقته فأغفى ثم انتبه فقال رأيت حماراً أقتيد بحبل حتى أخرج من المسجد فلم يبرح حتى أتته رسل الوالي فأقتادوه بحبل فأخرجوه من المسجد) ( ).
وذكر ابن إسحاق أنه رآى أنس بن مالك وحدث عن أبيه إسحاق، وعمه موسى بن يسار ، وعطاء والأعرج ، ومحمد بن إبراهيم التميمي ، ومكحول ونافع ، كما حدث عن الإمام محمد الباقر عليه السلام( ) .
ومما رواه في زواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أم حبيبة بنت أبي سفيان (قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ حُسَيْنٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بَعَثَ فِيهَا إلَى النّجَاشِيّ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ ، فَخَطَبَهَا عَلَيْهِ النّجَاشِيّ ، فَزَوّجَهُ إيّاهَا ، وَأَصْدَقَهَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَرْبَعَ مِئَةِ دِينَارٍ .
فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ : مَا نَرَى عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ وَقَفَ صَدَاقَ النّسَاءِ عَلَى أَرْبَعِ مِئَةِ دِينَارٍ إلّا عَنْ ذَلِكَ .
وَكَانَ الّذِي أَمْلَكَهَا النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ) ( ).
و(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ حُسَيْنٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ بِبَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ) ( ).
وتارة ينقل ابن اسحاق بالواسطة عن الإمام الباقر عليه السلام ، كما في قوله (فَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ ، قَالَ فَلَمّا وَضَعُوا السّلَاحَ أَمَرَ بِهِمْ خَالِدٌ عِنْدَ ذَلِكَ فَكُتِفُوا ، ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى السّيْفِ فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ فَلَمّا انْتَهَى الْخَبَرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السّمَاءِ ثُمّ قَالَ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيد)( ).
ومدحه عدد من الرجاليين وضعّفه آخرون ، والأكثر على الأول ، إذ قال العجلي بن إسحاق ثقة ، وقال ابن معين ثقة لكن ليس بحجة ، وقال أحمد بن حنبل ، حسن الحديث .
ولما بلغ مالك بن أنس (أنه قال هاتوا حديث مالك فأنا طبيب بعلله فقال مالك وما ابن إسحق إنما هو دجال من الدجاجلة نحن أخرجناه من المدينة) ( ).
وذكر أن ذم مالك له لقوله بالقدر ، وليس للحديث ، وأشتهر ابن إسحاق في المغازي أي في المعارك الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
مع أن كتابه تضمن المبدأ وأخبار الرسل وما قبل الإسلام ، واعتمد في كثير منه على كعب الأحبار ، ووهب بن منبه الذي يكثر من الإسرائليات ، ثم المبعث والآيات التي صاحبته ثم كتائب وسرايا النبي ، وأكثر أخباره مرسلة ،ومنقطعة ، وليس فيها إسناد إلا القليل ، وكان بأمكانه ذكر السند خاصة مع قربه من عهد النبوة والصحابة ، وقد يجمع عدة أسانيد ، أو يسقط السند أو يرسله .
أو يوهم شيخه ومصدر الخبر فيقول : ذكر بعض آل فلان أو حدثني بعض أصحابنا أو حدثني من لا أتهم من أهل العلم .
ولا يضر الأخذ بها لوجوه :
الأول : وجود قرائن وشواهد تدل عليها .
الثاني : عدم معارضة أخبار ابن إسحاق لآيات القرآن ودلالاتها .
الثالث : عدم دخول أخبار ابن إسحاق في التشريع .
وهل ينعت مثل هذا الحديث بالضعف لأن الراوي ممن لا يتهمه ابن إسحاق ، وليس مما لا نتهمه نحن ، الجواب لا ، فهذا من التشديد ، ولا أقصد بخصوص ابن إسحاق بل قد يرد هذا التعليل في بعض الكتب الفقهية ، نعم يمكن ان يأتي التضعيف من وجوه آخرى .
وتصدى عبد الملك بن هشام ت 218 هجرية لتهذيب كتاب سيرة ابن إسحاق .
وكان أبناء البيوتات يأتون إلى ابن إسحاق ويذكرون مفاخر آبائهم والأشعار التي قيلت بخصوصهم فيذكرها في كتابه ، فقام ابن هشام بحذف كثير منها مما لم يثبت موضوعاً أو حكماً ، ولاقى عمل ابن هشام هذا الإستحسان .
إن كتب السيرة النبوية تراث وثروة ولا يضر فيها وجود الخبر الضعيف والمرسل أو الذي لا أصل له مما يمكن أن يشذب ، ومما لا يتعارض مع آيات القرآن ومضامينها القدسية ، ومع الأخبار المتواترة في السنة النبوية .
وقد طاف ابن إسحاق في البلدان ، وسمع من كثير من التابعين، وحرص على جمع أخبار النبوة وكتبها باسلوب مشرق ، وبيان سهل ، وكان غزير الكتابة ، وليس من كاتب في السيرة النبوية إلا ويرجع إلى ابن إسحاق ولو على نحو الموجبة الجزئية .
كما حدّث ابن إسحاق قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام، إذ قال (فَلَمّا فُرِغَ مِنْ غَسْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ كُفّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثَوَابَ ثَوْبَيْنِ صُحَارِيّيْنِ وَبُرْدٍ حَبِرَةٌ أُدْرِجَ فِيهَا إدْرَاجًا كَمَا حَدّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَالزّهْرِيّ ، عَنْ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ) ( ).
ولأن ابن إسحاق ألفّ كتاب السيرة لأبي جعفر المنصور فهل كان فيه محاباة لبني العباس ، الجواب نعم .
وورد بخصوص معركة بدر عن (عكرمة عن ابن عباس ، قال : لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من القتلى قيل له: عليك العير ليس دونها شئ.
فناداه العباس وهو في الوثاق: إنه لا يصلح لك.
قال : لم .
قال : لان الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أنجز لك ما وعدك) ( ).
وهو بعيد إذ كان العباس أسيراً عند المسلمين ، وكان في طريق جيش المشركين إلى بدر ممن يطعم عامة الجيش ، فيكون عليه يوم ينحر فيه تسعة أو عشرة من الإبل .
والصلح من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في موضوعه وأطرافه وشرائطه ، وقد وردت الآية التي هي عنوان هذا القانون في مسألة نشوز الزوج ، قال تعالى [وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
إن كتب السيرة وثائق تأريخية تبين بالشواهد قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) فلا عبرة بلفظ غزوة وغزا الذي درج عليه كثير من المؤرخين .
فالمدار على سنخية الفعل ، وكيفية الوقائع وسير الأحداث والتي تدل متفرقة ومجتمعة على غنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الغزو ، وعدم لجوئه اليه ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
قانون هجرة الحبشة معجزة غيرية للنبي محمد ( ص )
من الذين هاجروا إلى الحبشة من كانت له قبيلة تحفظه ، وأب وأخوة يذبون عنه ، وأكثر الآباء والأخوال الذين لم يرضوا لابنهم المسلم دخول الإسلام فانهم يمنعون من إيذائه والإضرار به .
فمن فضل الله عز وجل جعله الدنيا دار تخفيف ورحمة ، قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( )، وهل هذا التخفيف خاص بالدنيا .
الجواب إنه عام للناس جميعاً في الدنيا ولكنه محجوب عن الذين كفروا في الآخرة ، وهو الذي تدل عليه آيات عديدة منها قوله تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ]( ).
ومن المهاجرين من كان آباؤهم وإخوانهم من رؤساء قريش ، وهو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،
وعندما إزداد أذى وتهديد قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا أبو طالب عشيرته لنصرته ، فأجابه بنو هاشم وبنو المطلب غير أبي لهب .
وأظهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العزم على مواصلة الدعوة إلى الله ، وبيّن لعمه والناس جميعاً أنه مأمور بالدعوة والتبليغ ، وأن القرآن الذي ينزل عليه ، وما فيه من الإعجاز شاهد على نبوته .
وقال أبو طالب (اقبل يا بن أخي، فأقبلت إليه فقال: فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك أبداً.
قال ابن إسحاق فيما رواه عنه يونس ثم قال أبو طالب في ذلك شعراً.
والله لن يصلوا إليك بجمعهم … حتى أوسّد في التّراب دفينا
فامض لأمرك ما عليك غضاضة … أبشر وقرّ بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنّك ناصحي … فلقد صدقت، وكنت قدماً أمينا
وعرضت ديناً قد عرفت بأنه … من خير أديان البريّة دينا
لولا الملامة أو حذاري سبّةً … لوجدتني سمحاً بذاك مبينا) ( ).
وتوفى أبو طالب في السنة العاشرة للنبوة (ولما اشتد مرضه، قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” يا عم قلها استحل لك بها الشفاعة يوم القيامة ” يعني الشهادة.
فقال له أبو طالب يا ابن أخي لولا مخافة السبة، وأن تظن قريش إِنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها، فلما تقارب من أبي طالب الموت، جعل يحرك شفتيه، فأصغى إِليه العباس بأذنه، وقال: واللّه يا ابن أخي لقد قال الكلمة التي أمرته أن يقولها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” الحمد لله الذي هداك يا عم ” . هكذا روي عن ابن عباس) ( ).
ويدل شعر أبي طالب أعلاه وشواهد كثيرة من قوله وفعله على إسلامه قبل مرضه .
والمختار أنه مات مسلماً ، والمشهور بخلافه .
لقد كانت وفاة أبي طالب في شهر رمضان من السنة العاشرة للبعثة النبوية وعمره ست وثمانون سنة ، وتوفت قبله بأيام معدودة خديجة بنت خويلد زوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
أما هجرة رهط من الصحابة إلى الحبشة والتي كانت تسمى (مملكة أكسوم) فكانت في شهر رجب من السنة الخامسة ، وكان فيهم جعفر بن أبي طالب ومعه امرأته أسماء بن عُميس ، وولدت في الحبشة عبد الله بن جعفر .
وعاد عدد من المهاجرين إلى الحبشة إلى مكة في السنة السابعة عندما بلغهم دخول قريش الإسلام ثم رجعوا إليها ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة بين ظهراني الكفار يدعوهم إلى التوحيد ، ويقيم الصلاة اليومية في المسجد الحرام ، ويتلو القرآن في الصلاة وخارجها ، وهل كانت تلاوة آيات القرآن واقية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم.
وإذا كانت هجرة رهط من الصحابة إلى الحبشة تخفيفاً عنهم ، فهل فيها تخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة الذين بقوا في مكة الجواب نعم .
قانون تقسيم معجزات النبي محمد (ص)
يمكن تقسيم معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الله إلى أقسام متعددة منها :
الأول : المعجزة العقلية ، وهي الآية القرآنية رسماً ولفظاً ومضموناً ودلالة ، وما فيها من التحدي لرؤساء الكفر ، وأساطين البلاغة ، وتحتمل المعجزات النبوية في المقام وجوهاً :
الأول : مجموع آيات وسور القرآن معجزة عقلية واحدة .
الثاني : كل سورة معجزة مستقلة ، فيكون المجموع (114) معجزة .
الثالث : كل آية قرآنية معجزة عقلية قائمة بذاتها ، وعدد آيات القرآن هو (6236) آية .
الرابع : الصلة بين آيتين من القرآن معجزة عقلية ، وقد تجلت شذرات منه في هذا السِفر من وجوه :
اولاً : باب سياق الآيات في تفسير كل آية في هذا التفسير بالتحقيق والـتأويل في صلة الآية محل البحث بالآيات المجاورة لها ، وآخرها الجزء التاسع بعد المائتين الذي اختص بتفسير الآية (185) من سورة آل عمران ، وهو قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ).
ثانياً : إختصاص جزء من التفسير بصلة آية بآية مجاورة لها , كما في الصلة بين الآية 180 والآية 181من آل عمران.
ثالثاً : اختصاص جزء بالصلة بين شطر من آية بشطر من آية أخرى ، كما تجلى في الجزء الثاني والعشرين بعد المائة والذي اختص بالصلة بين شطر من الآية 151 بشطر من الآية الثالثة والخمسين بعد المائة من سورة آل عمران .
والجزء الواحد والخمسين بعد المائة إذ يختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بشطر من الآية 164 من سورة آل عمران .
رابعاً : تفسير القرآن بالقرآن ، وسميته التفسير الذاتي ، وقد أسسه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو شعبة من الوحي ، ليكون أصلاً في تفسير القرآن , وبرزخاً دون التفسير بالرأي .
(قال عبد اللّه بن مسعود : لما نزلت هذه الآية( ) طبق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا : إننا لم نظلم نفسه،
فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه {يا بني لا تشرك باللّه إن الشرك لظلم عظيم}( )، (إنما هو الشرك) ( ).
خامساً : تتمة بيان الآية القرآنية بنزول آية أو آيات أخرى فضلاً ولطفاً من عند الله عز وجل .
الثاني : بقاء وتجدد إعجاز الآية القرآنية في كل زمان .
الثالث : المعجزة الحسية ، ويمكن تقسيم المعجزة الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى عدة أقسام منها :
أولاً : المعجزة الحسية المكية .
ثانياً : المعجزة الحسية المدنية .
ثالثاً :المعجزة النبوية في طريق الهجرة إلى المدينة.
رابعاً : المعجزة النبوية في ميدان الدفاع والقتال .
ومن الآيات أن في كل معركة من معارك الإسلام هناك معجزة تجلت لأصحابه والناس ، فكانت مناسبة لثبات أقدام المؤمنين ، وباعثاً للهداية في قلوب الناس .
خامساً : المعجزة النبوية التي تكون سبباً أو مقدمة لنزول آية قرآنية أو مصاحبة لها أو مترشحة عنها.
كما يمكن تقسيم معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الموضوع من مثل :
الأولى : المعجزة في الفقه .
الثانية : المعجزة في التفسير وتأويل الآيات .
الثالثة : المعجزة في صيغ الرأفة والرحمة ، قال تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
الرابعة : المعجزة النبوية في الصبر وسنن التقوى والشواهد القرآنية فيه ، وهل منه مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ]( ).
الخامسة : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإمامة والرياسة ، وشؤون الحكم .
وإذا كان من اليقينيات بقاء المعجزة العقلية إلى يوم القيامة ، فهل انقطعت معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسية أم أنها متجددة ، المختار هو الثاني ، وفي ثنايا هذا السِفر المبارك شواهد متعددة منها .
قانون بشارة كنوز كسرى
تكررت البشارة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقومه ولعامة المسلمين بالمال والغنى لبيان قانون وهو الملازمة بين الإيمان والثروة والعز .
وفي بدايات البعثة النبوية الشريفة زار عفيف الكندي مكة وهو أخو الأشعث بن قيس لأمه ، وكان ينزل على العباس بن عبد المطلب لتجارة بينهما .
وبينما هما جالسان في المسجد الحرام رآى عفيف النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقف للصلاة في المسجد الحرام ، وجاء الإمام علي وخديجة عليهما السلام ووقفا خلفه ، فكبر الله ، وكبرا ، ثم قرأ القرآن وركع ، فركعا معه .
فأصابت الدهشة عفيفاً ، وتوجه إلى العباس بن عبد المطلب بسؤال على نحو الإستنكار (يا عباس ما هذا الدين .
إن هذا الدين ما ندرى ما هو ، فقال : هذا محمد بن عبد الله، يزعم أن الله أرسله ، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه ، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به ، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به) ( ).
وعن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لتفتحن عصابة من المسلمين كنوز كسرى التي في القصر الأبيض فكنت أنا وأبي فيهم فأصابنا من ذلك ألف درهم ( ).
وفي حديث عن عدي بن حاتم الطائي قال : بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة ، وأتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل.
قال : يا عدى بن حاتم هل رأيت الحيرة ، قلت : لم أرها وقد أنبئت عنها.
قال : فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله عزوجل.
قال : قلت في نفسي: فأين دعار( )، طيئ الذين سعروا البلاد ، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى بن هرمز.
قلت: كسرى بن هرمز ، قال : كسرى بن هرمز.
ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج بملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن شماله فلا يرى إلا جهنم.
قال عدي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا شق تمرة فبكلمة طيبة.
قال عدي : فقد رأيت الظعينة ترتحل من الكوفة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله عزوجل، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة سترون ما قال أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم ( ).
ولم يكن الوعد من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بالفوز بكنوز كسرى لمرة واحدة ، إنما كان يكرره في ساعة الرخاء والشدة لبيان أن هذا الوعد من الوحي ، وليسمعه عدد كبير من المسلمين فيكون تحقق مصداقه الواقعي شاهداً على صدق نبوته وأن الفتح لم يأت عن غزو أو عن هجوم ، إنما هو فضل من الله عز وجل بهداية الناس للإسلام .
ومن معاني الأكل من كنوز كسرى وقيصر أن أهل بلاد فارس والشام يصبحون مسلمين فيأكلون منها بصفتهم مسلمين يقيمون الصلوات الخمس في إيوان كسرى ، وقصر قيصر .
وفي السنة الخامسة للهجرة وعندما جاءت الأخبار إلى المدينة المنورة بأن عشرة آلاف من المشركين يهجمون عليها ، وأنهم يريدون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه واستباحة المدينة ، بادر المسلمون إلى حفر خندق حول المدينة .
وكان النبي يعمل معهم ويشارك في الحفر والتراب يغطي وجهه ، وقد شدّ حجراً على بطنه من الجوع ومع هذا يبشر أصحابه بخزائن كسرى، وهو معجزة ذاتية وغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن وجوه المعجزة الغيرية في المقام تصديق الصحابة لقوله ، وتحقق البشارة واقعاً حيث تم إسلام أهل فارس .
قال ابن اسحاق : وَحُدّثْت عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيّ ، أَنّهُ قَالَ ضَرَبْت فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْخَنْدَقِ ، فَغَلُظَتْ عَلَيّ صَخْرَةٌ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَرِيبٌ مِنّي .
فَلَمّا رَآنِي أَضْرِبُ وَرَأَى شِدّةَ الْمَكَانِ عَلَيّ نَزَلَ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ مِنْ يَدِي ، فَضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً لَمَعَتْ تَحْتَ الْمِعْوَلِ بُرْقَةٌ ثُمّ ضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً أُخْرَى ، فَلَمَعَتْ تَحْتَهُ بُرْقَةٌ أُخْرَى ، قَالَ ثُمّ ضَرَبَ بِهِ الثّالِثَةَ فَلَمَعَتْ تَحْتَهُ بُرْقَةٌ أُخْرَى.
قُلْت : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ اللّهِ مَا هَذَا الّذِي رَأَيْت لَمَعَ تَحْتَ الْمِعْوَلِ وَأَنْتَ تَضْرِبُ .
قَالَ أَوَقَدْ رَأَيْت ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ ، قُلْت : نَعَمْ.
قَالَ أَمّا الْأُولَى فَإِنّ اللّهَ فَتَحَ عَلَيّ بِهَا الْيَمَنَ .
وَأَمّا الثّانِيَةُ فَإِنّ اللّهَ فَتَحَ عَلَيّ بِهَا الشّامَ وَالْمَغْرِبَ.
وَأَمّا الثّالِثَةُ فَإِنّ اللّهَ فَتَحَ عَلَيّ بِهَا الْمَشْرِقَ( ).
كما ورد الخبر عن غير سلمان المحمدي مما يدل على أن عدداً من المسلمين سمعوا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا خاصة أن كل عشرة من الصحابة كانوا يتولون حفر أربعين ذراعاً أي نحو عشرين متراً ، وكان طول وكان طول الخندق هو 5544م ، ومتوسط عرضه أربعة أمتار .
وأختلف في مدة حفر الخندق على وجوه :
الأول : ستة أيام ، قاله ابن سعد ( ).
الثاني : خمسة عشر يوماً .
الثالث : عشرون يوماً .
الرابع : أربعة وعشرون يوماً .
وإن قيل لقد تلقى بعضهم وعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفتح كنوز كسرى وقيصر بالتشكيك خاصة في واقعة الخندق .
والجواب إنما صدر هذا التشكيك من بعض المنافقين لبيان سوء سريرتهم، وشدة خوفهم وفزعهم من المشركين وحصارهم , إذ قال يومئذ (مُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ : كَانَ مُحَمّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ ، وَأَحَدُنَا الْيَوْمَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْغَائِطِ)( ). ونزل قوله تعالى [وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا]( ) .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ مُعَتّبَ بْنَ قُشَيْرٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَاحْتَجّ بِأَنّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ( ).
وتدل الآية أعلاه على صيغة الجمع وأن القائل ليس فرداً واحداً لقانون أسسته في المقام وأن إرادة المنفرد من صيغة الجمع في القرآن لا تصدق إلا على الله عز وجل تعظيماً لمقام الربوبية ، وثناء عليه سبحانه ، أما إذا وردت صيغة الجمع بخصوص الملائكة أو الأنبياء أو عامة الناس فانها تحمل على الظاهر ، وأن المراد المتعدد سواء كانوا ثلاثة أو أكثر ، وإن كانت صيغة الجمع تنطبق على المثنى أيضاً في حالات .
وقال قتادة : ذُكر لنا أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل ربه أنْ يجعل مُلك فارس والروم في أمته ، فأنزل اللَّه تعالى اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ.
وقال ابن عباس وأنس بن مالك : لما فتح رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم مكة ووعد أمته مُلك فارس والروم( ). فأنزل الله تعالى هذه الآية .
كما ورد ذات معنى الجمع في المنافقين عن عمرو بن عوف وكان حاضراً الواقعة ويشترك مع سلمان المحمدي في حفر مسافة مخصوصة من الخندق مما يدل على أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوعد الكريم الذي قاله : قال : خطّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم الخندق في عام الأحزاب.
ثمّ قطع أربعين ذراعاً بين كلّ عشرة ( ).
مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تولى بنفسه التخطيط والهندسة في حفر الخندق ثم قام بتقسيمه على المسلمين وعيّن كل عشرة منهم لنحو عشرين متراً منه ، ويظهر أنه لاحظ أن كل رهط أما من المهاجرين والأنصار في الجملة ، وليس مطلقاً ، أي لابد أن هناك من المهاجرين من دخل مع الأنصار ، وبالعكس لما ورد في حديث عمرو بن عوف : فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي ، وكان رجلاً قوياً .
فقال المهاجرون : سلمان مِنّا.
وقال الأنصار : سلمان منّا.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : سلمان منّا أهل البيت( ).
ولم يكن سبب الإحتجاج والمطالبة بسلمان لقوة بدنه وحدها إنما كانت لوجوه :
الأول : ما يتصف به سلمان من خصائص التقوى .
الثاني : شأن ومنزلة سلمان بين الصحابة .
الثالث : إقتراح سلمان حفر الخندق ، وفطنته ، وعظيم نفعه للمسلمين في ساعة الشدة ، لتكون هذه المطالبة شاهداً على رضا وقبول المسلمين لهذا الإقتراح ، وإن كان هذا القبول تم بالوحي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمومات قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) .
ولقانون وهو أن السنة التقريرية من الوحي .
الرابع : حب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسلمان وتبعية الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بحبهم له ، فمثلاً كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب الحسين عليه السلام فيحبه الصحابة ، ليكون هذا الحب وبيانه بالسنة القولية والفعلية زاجراً عن قتله يوم عاشوراء بأرض كربلاء في السنة الحادية والستين من الهجرة الموافق شهر تشرين أول سنة (680) م وعمره ست وخمسون سنة وتسعة أشهر منها سبع سنين مع جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وبالإسناد (عَنْ يَعْلَى الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِلَى طَعَامٍ دُعُوا لَهُ قَالَ فَاسْتَمْثَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ .
فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَمَامَ الْقَوْمِ وَحُسَيْنٌ مَعَ غِلْمَانٍ يَلْعَبُ فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَهُ .
قَالَ فَطَفِقَ الصَّبِيُّ هَا هُنَا مَرَّةً وَهَاهُنَا مَرَّةً فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ قَالَ فَوَضَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ تَحْتَ قَفَاهُ وَالْأُخْرَى تَحْتَ ذَقْنِهِ فَوَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيهِ فَقَبَّلَهُ وَقَالَ حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنْ الْأَسْبَاطِ) ( ).
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينشر شأبيب الرحمة والرأفة بين الناس ، وينمي ملكة الرحمة في قلوب المسلمين ، والعطف على الصغير وإصلاح الذرية للفرائض والعبادات ، ولم يمنع من هذا النهج النبوي المبارك ظلم وتعد المشركين في غزوهم المتكرر على المدينة .
لقد كانت واقعة الخندق شاهداً على أن المشركين هم الغزاة من غير سبب موجب لهذا الغزو حتى وفق الأعراف القبلية آنذاك ، ولم تؤد نتائجها إلا نفرة العرب مما كان .
نزول النبي (ص) الحديبية
كما كان بروك ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم دخوله المدينة عند مربد لغلامين من بني مالك من بني النجار ،وهما سهل وسهيل( )، ليكون موضع المسجد , فقد بركت في الحديبية .
لقد كان الأنصار الذين يمر على دورهم عند أول الهجرة يدعونه ويمسكون بزمام الناقة ، ولكنه يقول لهم في كل مرة (خلوا سبيلها فإنها مأمورة)( ).
ولما بركت الناقة بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ظهرها لتنهض وتمشي قليلاً ثم تلتفت خلفها وتعود إلى ذات الموضع .
فبركت فيه ثانية واستقرت .
فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها فآوى إلى الظل (فأتاه أبو أيوب فقال: يا رسول الله إن منزلي أقرب المنازل إليك فأنقل رحلك إلى، قال : نعم.
فذهب برحله إلى المنزل، ثم أتاه رجل فقال يا رسول الله أين تحل ؟ قال: ” إن الرجل مع رحله حيث كان ” وثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العريش اثنتى عشرة ليلة حتى بنى المسجد.
وهذه منقبة عظيمة لابي أيوب خالد بن زيد ، حيث نزل في داره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ) .
وتمر الأيام والسنون ، ويأتي أبو أيوب إلى البصرة ، وكان عبد الله بن عباس والياً عليها من قبل الإمام علي عليه السلام (فخرج له ابن عباس عن داره حتى أنزله فيها كما أنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في داره، وملكه كل ما أغلق عليها بابها.
ولما أراد الانصراف أعطاه ابن عباس عشرين ألفا، وأربعين عبدا) ( ).
وأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم شراء المربد وهو محل جمع التمور ليكون مسجداً فأبى بنو النجار إلا أن يبذلوه بلا ثمن ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبى إلا أن يدفع ثمنه ، وقد تكرر في الحديبية ذات البروك للناقة .
ولما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحذير وإنذار بديل وإخباره عن شأن واستنفار قريش قال (انا لم نجيء لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين وان قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فان شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس فان أظهر فان شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا والا فقد جموا وان هم أبوا فوالذي نفسي بيده لاقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن أمر الله) ( ).
لبيان مسألة وهي أن النبي محمداً هو الذي طلب صلح الحديبية وندب قريش للجلوس للتفاوض من غير أن يضع شروطاً لهذا الصلح بقوله(ماددتهم مدة) .
وترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعيين مدة الصلح لقريش وساعة التفاوض ، نعم أخبر عن مسألة وهي أن الحرب أنهكت قريشاً ،وهو من الشواهد على قانون ومعجزة قلة إنفاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المعارك بالنسبة لكثرة إنفاق المشركين فيها.
ولم ينس النبي صلى الله عليه وآله وسلم تذكير قريش بالتكليف بالإيمان والتنزه عن الكفر إن رأوا ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الناس الإسلام مدة الهدنة بقوله (فان أظهر) بآلاف المسلمين الذين انتموا للإسلام عن إيمان وصدق ، وقوله (فقد جُمُوا) أي استراحوا.
وأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله (حتى تنفرد سالفتي) والسالفة صفحة العنق كناية عن استعداد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقتل في طريق تبليغ الرسالة .
لقد أدرك بديل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لن يرجعوا إلى المدينة إلا بأحد أمرين :
الأول : أداء مناسك العمرة .
الثاني : الصلح .
وكانت قريش تخشى إطالة الأمر لما فيه من سخط القبائل عليها ، فالجميع يدركون أنه ليس لقريش منع أي أحد من زيارة البيت الحرام ، ولم يبق عن موسم الحج إلا أيام معدودة ، وفي القبائل أناس مسلمون ، وكذا في مكة ، فتخشى قريش إنقلاب الناس عليها , ومع هذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينتظر هذا الأمر ، إنما طلب أحد الأمرين أعلاه ، وكل منهما فيه تعجيل بالتسوية .
قال بديل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشا فقال إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا فان شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا) ( ).
مما يدل أن بديلاً وأصحابه لم يكونوا مبعوثين من قريش ، إنما تدخلوا بالأمر للتدارك ودفع الأذى عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وحينما سمعت قريش كلام بديل انقسموا إلى قسمين :
الأول : الذين غلب عليهم الغضب والسفاهة وقالوا لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشئ .
الثاني : أولوا الرأي الذين أظهروا الإنصات وقالوا : هات ما سمعته .
وهل كان بديل يتكلم مع قريش الذين خرجوا من مكة إلى بلدح أم أنه رجع إلى مكة واتصل بالرؤساء ، المختار هو الثاني .
فقام بديل بإخبارهم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لم يأت لقتال إنما جاء لأداء مناسك العمرة ، وأنه مستعد للصلح ووقف القتال إلى مدة وأجل تداوي فيه قريش جراحاتها ، وتعيد تجارتها ، كما قال لهم تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) .
وسلّمنا أن نزول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحديبية شاهداً على أنه ليس من الغزو ، ولكن هل كان محفوفاً بالمخاطر على شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل والصحابة من المهاجرين والأنصار ، الجواب نعم ، ولكن الواقية منها الوحي لأن خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة ونزوله بالحديبية لم يتم إلا بالوحي .
ومن فضل الله عز وجل أنه أنجاه من المشركين في طريق الهجرة إلى المدينة عندما كان معه أبو بكر كما في قوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ) تلاحقه قريش لقتله أو أسره، بينما جاء إلى الحديبية وأطل على مكة , ومعه ألف وأربعمائة من الأنصار والأصحاب , عدا الذين بقوا في المدينة من غير أن يكرههم على الإيمان. ويغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وهم يتعاهدون الفرائض الخمس والأخلاق الحميدة ،ويواظبون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
رسل قريش في الحديبية
لقد ابتدأت قريش رسلها ببعث خالد بن الوليد ومعه مائتا فارس ظناً منهم أنه يبعث الرعب في قلوب المسلمين ، وفيه رسالة بأن قريشاً لن تسمح لهم بالعمرة ، ولم يعلموا أن قلوب المسلمين ممتنعة عن الرعب والخوف في مثل هذه الحال ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
لقد جاء بديل بن زرقاء الخزاعي مع رجال من قومه وهم عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما سمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجعوا إلى قريش ، وأخبروهم بصيغة فيها لوم لهم على استنفارهم وتحشيدهم القبائل في الشهر الحرام لقتال النبي ، وذكرت خزاعة مسائل لقريش :
الأول : القول بأن قريشاً يتعجلون على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على حرمة البيت الحرام .
الثالث : لم يأت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقتال.
الرابع : موضوع مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه هو الزيارة وأداء مناسك العمرة ، بدليل الهدي الذي يقدمونه أمامهم ، وعدم وجود أسلحة عندهم .
فهاجت قريش في وجه بديل بن ورقاء الخزاعي وأصحابه ، وأتهموهم بالميل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم حلفاء بني هاشم .
(وَإِنْ كَانَ جَاءَ وَلَا يُرِيدُ قِتَالًا ، فَوَ اللّهِ لَا يَدْخُلُهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً أَبَدًا ، وَلَا تَحَدّثَ بِذَلِكَ عَنّا الْعَرَبُ) ( ).
لم تطمئن قريش لما قالته خزاعة فقاموا بارسال مكرز بن حفص العامري فلما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقبلاً : قال هذا رجل غادر .
والصحابة يعرفون مكرز بن حفص سواء المهاجرين أو الأنصار ، إذ أنه قدم بعد معركة بدر إلى المدينة ليتفاوض على مقدار فدية سهيل بن عمرو وهو من وجهاء قريش الذي أسره مالك بن الدخشم الأنصاري يوم بدر ، وعندما اتفقوا مع مكرز على فدائه ، قال (ضعوا رجلي في القيد حتى يأتيكم الفداء ففعلوا ذلك) ( ).
وقال مكرز في هذا الفداء :
(بأذواد كرام سبا فتى … ينال الصميم عربها لا المواليا
وقلت: سهيل خيرنا فاذهبوا به … لأبنائه حتى تديروا الأمانيا) ( ).
ولما جاء مكرز رسولاً من عند قريش استقبله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره أنه لم يأت لقتال ، وأنه لا يريد دخول مكة عنوة من غير اذن قريش ، وأنه مستعد للصلح والهدنة لتستطيع قريش تدارك حال الوهن والضعف الذي لحقت بها ، وهذا البيان النبوي ، وفرصة التدارك من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ومع أن مكرزاً رجل فاجر فقد استمع إلى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعترض عليه ، وقام بنقله إلى قريش ، وهل من موضوعية لإقامة مكرز في المدينة في إصغائه لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، إذ أنه رآى حينما كان في المدينة بديلاً عن سهيل في أسره المعجزات الحسية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد أدركت قريش أن قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى العمرة وأقامة عسكره في الحديبية من رشحات الوحي .
لقد أطمأنت قريش إلى مسائل :
الأولى : لم يأت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقتال .
الثانية : لا يدخل النبي مكة عنوة مع أنه له الحق في هذا الدخول .
الثالثة : عدم فساد موسم الحج ، فقاموا بارسال الوفود المتعاقبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبعثوا إليه وفداً رابعاً .
فبعثوا الحليس بن علقمة ، وكان يومئذ سيد الأحابيش وهم حلفاء قريش (فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه .
فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إعظاما لما رآى) ( ).
فامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يهاج الهدي بوجهه دفعة واحدة.
وفيه شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرف أهل مكة والأشخاص الذين يفدون عليه منهم أو من غيرهم ، ويأمر بما يناسب المقام.
واستقبل الصحابة الحليس بالتلبية ، وهم ينادون لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ) وقد أقاموا في الحديبية أسبوعين (وقد تفلوا( ) وشعثوا، صاح وقال: سبحان الله ” ما ينبغي لهؤلاء ان يصدوا عن البيت أبى الله أن تحج لخم وجذام وكندة وحمير ويمنع ابن عبد المطلب، ما ينبغي لهؤلاء أن يُصدَوا عن البيت هلكت قريش ورب الكعبة.
ان القوم انما اتوا عمارا، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” اجل يا اخا بني كنانة) ( ).
فرجع الحليس وأصحابه إلى قريش ، ووجه لهم اللوم (فقال: يا معشر قريش، إني قد رأيت مالا يحل صده: الهدى في قلائده، قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله) ( ).
والمراد من الهدي وهي الإبل والغنم والماعز التي تساق لتنحر في الحرم، قال تعالى [حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ] ( ) والمراد من القلائد ما يعلق في أعناق الهدي ليعلم الناس أنه من هدي الكعبة فلا يتعرضون له .
فقالت قريش للحليس (اجْلِسْ فَإِنّمَا أَنْتَ أَعْرَابِيّ لَا عِلْمَ لَك) ( ).
وفي رواية لا علم لك بالمكائد (كل ما رأيت من محمد مكيدة) ( ).
عندئذ غضب الحليس وقال لقريش لم نعاهدكم على منع عمار البيت الحرام .
بمعنى لن نرضى أن نكون شركاء في منع المعتمرين والحجاج ، ولا نريد أن تكون سنة بحيث تأذن قريش لمن تشاء ، وتمنع من تشاء ، فليس لها ولا لغيرها هذا الأمر ، قال تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ).
(وَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاَللّهِ مَا عَلَى هَذَا حَالَفْنَاكُمْ ، وَلَا عَلَى هَذَا عَاقَدْنَاكُمْ .
أَيُصَدّ عَنْ بَيْتِ اللّهِ مَنْ جَاءَ مُعَظّمًا لَهُ وَاَلّذِي نَفْسُ الْحُلَيْسِ بِيَدِهِ لَتُخَلّنّ بَيْنَ مُحَمّدٍ وَبَيْنَ مَا جَاءَ لَهُ أَوْ لَأَنْفِرَن بِالْأَحَابِيشِ نَفْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ .
فَقَالُوا لَهُ مَهْ كُفّ عَنّا يَا حُلَيْسُ حَتّى نَأْخُذَ لِأَنْفُسِنَا مَا نَرْضَى بِهِ) ( ).
وفي كلام قريش هذا نوع استدراك واستعداد للتفاوض ، لبيان مسألة وهي من الإعجاز في قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية ، وميل الناس إلى الحق والإنصاف،ووقوع الإختلاف والفرقة بين صفوف المشركين.
والأحابيش قبائل عربية تحالفت أيام الجاهلية عند جبل حبشي جبل في أسفل مكة .
وتحالفوا بالله أنهم يد واحدة على غيرهم ماسجا ليل وأوضح نهار ، وما أرسى حبشي مكانه( ) منهم :
الأول : بنو المصطلق .
الثاني : بنون الهون بن خزيمة .
الثالث : بنو أسد من تهامة .
وقيل سموا الأحابيش لإجتماعهم لأن معنى التحابش هو التجمع .
وحينما خرجت قريش لمعركة بدر كان عددهم نحو ألف ، وهزموا في المعركة ، بينما في معركة أحد خرجت معهم الأحابيش فكان عددهم ثلاثة آلاف ، نعم كان هذا الخروج سبباً في إرهاب قريش بكثرة الإنفاق والبذل على القائلين وتوفير الرواحل والأسلحة لكثير منها .
لقد قام الحليس بتهديد قريش بأن يجعل الأحابيش تنفر معه لدخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة عنوة على قريش ، وذكره للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة ابن عبد المطلب اشارة إلى أن هذه النفرة ليست اسقاطاً للعهود التي بين الأحابيش وقريش لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريش وتعرف العرب كلها منزلة وشأن عبد المطلب،ولا تستطيع قريش أن تواجه المسلمين والأحابيش في آن واحد .
وساطة عروة بن مسعود
التوسط بين الناس من الوساطة( )، يقال توسط بين الطرفين أي عمل الوساطة لفض نزاع وخلاف أو لغرض الصلح ودفع الكدورة .
لقد سأل عروة بن مسعود الثقفي قريشاً أن يبعثوه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وينظر إلى أصحابه وهيئتهم وحالهم ، وأن يكون عيناً لقريش يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لبيان مسألة وهي الأصل أن تبعث قريش رجلاً عاقلاً حكيماً ينصت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتجنب إثارة الفتنة .
حينما وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأنبياء في حديث الإسراء قال : أما عيسى ففوق الربعة ودون الطويل عريض الصدر ظاهر الدم جعد الشعر يعلوه صهبة كأنه عروة بن مسعود الثقفى( ).
لقد ابتدأ عروة بالطلب من قريش أن تصغي إليه ، ومن حسن تهذيبه أنه ابتدأ بمقدمة ذكر فيها خصالاً يتصف بها تؤكد إخلاصه لقريش ، مما يدل بالدلالة الإلتزامية على صيرورة قريش في حال شك من أي فرد يطرح عليهم اقتراحاً بخصوص التهدئة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرضا بدخوله مكة لأداء العمرة .
لقد تطوع عروة بن مسعود للتوسط فابتدأ بالقول : (أي قوم ألست بالوالد قالوا بلى قال أولستم بالولد قالوا بلى) ( ).
أي أني لكم كالأب وأنتم كالأبناء ، وورد الخبر بصيغة ثانية (فقام عروة بن مسعود فقال أي قوم ألستم بالوالد قالوا بلى قال أولست بالولد) ( ).
أي أنا ابن لكم ، وبار بكم .
والأصح هو الثاني أعلاه .
إذ أن الفرد إذا أراد أن يبين صلته مع القوم والقبيلة يصغر نفسه لهم .
ثم ذكر عروة واقعة تدل على إخلاصه لهم خاصة بالنسبة لشأن قريش ، وهي أنه استنفر قومه لنصرتهم ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ألستم تعلمون اني استنفرت اهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن اطاعني قالوا بلى) ( ).
ومعنى بلحوا أي امتنعوا ، وفيه نكتة وهي أن القبائل العربية أبت أن تستجيب لرؤسائها في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية والظاهر أنه من أسباب رضا وموافقة قريش على الصلح يومئذ .
ترى ما المقصود بالإستنفار هنا ، الجواب يحتمل وجوهاً :
الأول : الإستنفار إلى معركة بدر ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إلى معركة أحد .
الثالث : إلى معركة الخندق .
الرابع : إلى صلح الحديبية .
والصحيح هو الأخير ، أي أنه يستشهد بوجوده وأبنائه وأتباعه بين ظهراني قريش لنصرتهم ضد النبي ومنعه من دخول مكة أو مقاتلته ، وفيه شاهد بأن قريشاً أرسلت إلى القبائل العربية ومدينة الطائف ونحوهم تدعوهم لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن النفرة لا تصدق على منع عمار المسجد الحرام ، إنما هي للقتال .
ليبين عروة مسألة بالعرض وهي أننا جزء منكم ، ومستعدون للقتال معكم ، فلابد أن تستمعوا لنا لما نبينه من رأي ، ومن خصائص قريش إتصافها بالإستماع إلى الرأي والاقتراح والقول السديد .
قال عروة (فان هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته قالوا أئته فأتاه) ( ).
ولم يذكر عروة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة ولا بالاسم بل اكتفى بالإشارة (هذا) ، وهل فيه تورية وتقية من قريش أم لأنه واحد من معسكرهم .
المختار هو الجامع بين الأمرين لمعرفة عروة بظلم وعناد واستكبار قريش، ولأنه يريد الوساطة .
فرضيت قريش بعرضه خاصة مع تهديد الحليس رئيس الأحابيش ومعرفة أهل مكة والقبائل نبأ مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لزيارة البيت ، وليس للقتال ، ومنع قريش له ولأصحابه من دخول مكة بغير حق .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قدومه إلى العمرة صيرورة العرب معه ضد قريش ، فكل يوم يمر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في إقامتهم في البرية عند الحديبية يجعل العرب تستهجن فعل حبس قريش لهم ، ولا يرضون بأن يكون هذا الحبس سابقة تجعل قريش تأذن لمن تشاء وتمنع من تشاء لدخول مكة ، إنما للعرب كلهم الحق بدخول مكة .
والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أوسط قريش، ومعه عدد كثير من المهاجرين من بيوتات وقبائل قريش وأهل مكة .
ولابد من الفصل بين الخصومة وبين زيارة البيت .
فمن عادة العرب آنذاك توجه الجميع للعمرة والحج في الأشهر الحرم السرد وهي ذو القعدة وذو الحجة والعودة إلى أهليهم بأمان في محرم الحرام، وإن كانت بينهم معارك وحروب وثارات ، فأنها تعطل في الأشهر الحرم ، وكان بعضهم يستعمل النقاب واللثام كيلا يعرف وتحدد هويته ثم يُقتل بعد إنقضاء الأشهر الحرم .
لقد أدرك العرب أن إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الحديبية لأسبوعين شاهد على عدم إرادته القتال .
فتحتم هذه القواعد على قريش الإذن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بدخول مكة ، ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخل مكة عنوة في الشهر الحرام لا في ليل ولا نهار بل بقي هو وأصحابه عند حدود الحرم ينتظر الإذن من قريش مع شوقه لوطئ رجله أرض الحرم طاعة لله عز وجل .
لقد أقبل عروة بن مسعود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وابتدأ بكلام عتاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا أصل له إذ قال (أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك) ( ).
وليس في مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجتياح لأهله ، إنما فيه عز لهم ، ولم يقصد بالذات بل قصد وأصحابه البيت الحرام زائرين ، وهم أحق به ، ولم يرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هلاك قريش ، وكان يدعو لهم بالهداية ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ] ( ).
وهل كنانة وغيرها ممن يكون أحياناً في حرب مع قريش يدخلون مكة في الأشهر الحرم ، الجواب نعم ، ولا يعدون هذا إجتياحاً .
ثم قال عروة بن مسعود للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن تكن الأخرى أي هلاك أصحابك عند دخولكم مكة وإن كان بقصد الزيارة ، لقد أراد عروة خلط الأوراق وبعث الرعب في قلوب المسلمين ، وجعل نتيجة مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم منحصرة بأمرين :
الأول : إبادة قريش .
الثاني : هلاك الصحابة .
ولا أصل لهذا الحصر .
كما جاء عروة بن مسعود بتهديد وإخبار كاذب عن تحشيد قريش الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال (وهم يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تجتاحهم) ( ).
ولم تكن قريش تستعد لقتال ، كما أن الأحابيش ليسوا معهم ، ثم أمضى بالإفتراء والرياء وقام بذم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال (واني والله لا أرى معك وجوها واني لا ارى الا اوباشا.
وفي رواية: فاني لارى أشوابا من الناس، لا اعرف وجوههم ولا انسابهم، وخليقا ان يفروا ويدعوك.
وفي رواية: وكأني بهم لو قد لقيت قريشا أسلموك فتؤخذ أسيرا، فأي شئ أشد عليك من هذا ؟
فغضب أبو بكر – وكان قاعدا خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -فقال: امصص بظر اللات، انحن نخذله أو نفر عنه) ( ).
لم يغضب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما قاله عروة ، وكأنه يعلم بأن طريقاً إلى الهدى سالكة ، وسيمّن الله عليه بالتوبة والإنابة ، ولكنه أخذ يبين له حقيقة عدم نيته دخول مكة عنوة ، وأنه لا يريد القتال ، ويطلب الصلح والمدة لوقف القتال بينه وبين قريش .
ومن إعجاز النبوة سكوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تهديد وذم عروة بن مسعود لأصحابه لأنه أراد أن يرى بنفسه إخلاصهم وتفانيهم في طاعة الله وطاعته ، فلقد أبقاه جالساً يتحدث عنده وينظر إلى الصحابة ، فلاحظ عروة أموراً منها :
الأول : إذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بأمر بادروا إليه، وسارعوا فيه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا]( ).
الثاني : إذا توضأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كادوا يقتتلون على وضوئه( ) أي على فضلة وضوئه ، إذ كانوا يتوضؤون بالأقداح والآنية ، كما أنهم لا يجعلون قطرة ماء تسقط من وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا تلاقفوها تبركاً .
الثالث : إذا تكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم خفضوا أصواتهم عنده .
الرابع : لا يحد الصحابة النظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هيبة وتعظيماً لشأنه.
وبيّن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القصد من مجيئه وحقه وأصحابه بزيارة البيت ، وعرضه الهدنة على قريش ، وأنه ينتظر الإذن منهم لدخول مكة .
ولم يرد على التهديد بمثله ، ولم يوبخ عروة على تعريضه بالصحابة ، فانصرف عروة مندهشاً من تقديس الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ورجع إلى قريش برسالة تتضمن الإشارة إلى صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يخشاهم ، إذ أنه بيّن للناس ما رآه من إنقياد الصحابة للنبي إذ قال لقريش :
(أَيْ قَوْمُ وَاَللّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ عَلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالنّجَاشِيّ وَاَللّهِ مَا رَأَيْتُ مَلِكًا يُعَظّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظّمُ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ مُحَمّدًا وَاَللّهِ إنْ تَنَخّمَ نُخَامَةً إلّا وَقَعَتْ فِي كَفّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلّكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وُضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدّونَ إلَيْهِ النّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا)( ).
وفي رواية أنه توعد قريشاً ، ولم يبق في مكة يومئذ إذ قال (وما أراكم الا ستصيبكم قارعة، فانصرف ومن معه)( ).
وتمر الأيام ويدخل عروة بن مسعود الثقفي الإسلام فيما بعد ، فعندما فرغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من معركة حنين ، وحصار الطائف ، وتوجه إلى المدينة المنورة أدركه عروة بن مسعود وأعلن إسلامه ، ثم استأذن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرجع إلى قومه في الطائف، يدعوهم إلى الإسلام .
(فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : إن فعلت فإنهم قاتلوك.
فقال له عروة : يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبصارهم وكان فيهم محببا مطاعا) ( ).
ولما عاد لقومه ودعاهم إلى الإسلام ، وصار يؤذن لصلاته قبل إقامتها رموه بالنبل فأصابه سهم فقتله ، ولما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبر استشهاده قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (مثله في قومه مثل صاحب يس في قومه) ( ).
وذكر أن قوله تعالى [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] ( ) أن الوليد بن المغيرة قال : لولا أنزل القرآن عليّ أو على عروة بن مسعود .
بعثة النبي (ص) الرسل إلى قريش
لم يبق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية من غير سعي وإتصال مع قريش والناس ، ولم يكتف بمجئ الوفود التي تبعثها قريش وقد ترضى قريش بوجوده في حدود الحرم رجاء دبيب اليأس والملل في نفوس الصحابة ، والعودة إلى المدينة ، مثلما حاصرت جيوش قريش وحلفائها المدينة أكثر من عشرين ليلة .
وكلتا الحالتين شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً .
قال ابن اسحاق : وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له يقال له الثعلب: ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأرادوا قتله، فمنعه الاحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
وفي مرسلة ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس أن قريشاً بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين إلى الحديبية وأمروهم بأمور :
الأول : الطواف حول معسكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، ورصد حالهم .
الثاني : التحرش بالصحابة لإيجاد سبب لتهييج الناس عليهم .
الثالث : رمي معسكر الرسول بالحجارة والنبل .
الرابع : إصابة بعض الصحابة وأخذهم كالأسرى إلى مكة ، ولما وصلوا فعلوا ما أمروا به .
باستثناء الوجه الأخير أعلاه إذ أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذوهم وجاءوا بهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلم يحبسهم ، إنما (عفا عنهم وخلى سبيلهم)( ).
ليقطع الطريق على قريش باتخاذهم حبسهم ذريعة لمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من دخول مكة ، أو مقاتلتهم بسبب هؤلاء ، وكأن قريشاً في محاولتهم قتل خراش يريدون منع مجئ وفد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة للتفاوش على دخوله لها .
ومع هذا لم يمتنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إرسال الوفود إلى مكة فقد دعا عمر بن الخطاب وطلب منه الذهاب إلى مكة وإبلاغ الرؤساء فيها أنه جاء للعمرة وليس للقتال .
(فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي ، وَلَيْسَ بِمَكّةَ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ أَحَدٌ يَمْنَعُنِي ، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إيّاهَا ، وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا ، وَلَكِنّي أَدُلّك عَلَى رَجُلٍ أَعَزّ بِهَا مِنّي ، عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ .
فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ ، فَبَعَثَهُ إلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ ، يُخْبِرُهُمْ أَنّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبِ وَإِنّهُ إنّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ وَمُعَظّمًا لِحُرْمَتِهِ)( ).
وكان عدد البدريين من بني عدي أربعة منهم عمر بن الخطاب .
إذ أن عدد البدريين من المهاجرين ثلاثة وثمانون رجلاً منهم من صلب قريش (واحد وأربعون رجلاً : من هاشم ثلاثة ، ومن بني المطلب أربعة؛ ومن بني عبد شمس واحد ، ومن بني عبد العزى واحد ، ومن بني عبد الدار اثنان؛ ومن بني زهرة ثلاثة ، ومن بني تيم واحد ، ومن بني مخزوم ثلاثة ، ومن بني عدي أربعة ، ومن بني جمح خمسة ، ومن بني سهم واحد ، ومن بني عامر خمسة ، ومن بني الحارث ستة.
والخمسة والأربعون موالي وحلفاء)( ).
وقيل ألحق بهؤلاء ثلاثة لم يشهدوا بدراً وكتب لهم أجرها وهم عثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن زيد .
ولما ذهب عثمان ساُل رجال قريش أن يأذنوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم دخول مكة ونحر الهدي وينصرف ، ولم يحدد لهم أيام بقائه في مكة، أي لو أذنوا له بزيارة البيت يوماً واحداً لكان كافياً أن ينحر الهدي ويطوف بالبيت ، علماً بأن العمرة ليس فيها هدي ، إنما الهدي الواجب في حج التمتع أو الحج القارن لقوله تعالى [فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ).
إنما حمل هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العمرة على التطوع ، مثل حج المفرد ، فيجوز أن يتقرب المعتمر إلى الله بالهدي ، وكذا يجوز لمن كان في بلده ولم يأت للحج ، إقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ بعث هدايا إلى مكة وهو يقيم في المدينة .
وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة ووقوع عدة معارك بينه وبين المشركين وسقوط القتلى ، جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل مكة في الحديبية بمثل الذي جاء به في أول البعثة النبوية قبل تسع عشرة سنة وهو الدعوة إلى الإسلام ، ونبذ عبادة الأصنام .
وقام عثمان بتبليغ هذه الدعوة إلى رجالات قريش قبل أن يطلب منهم الإذن بزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم البيت لقاعدة تقديم الأهم على المهم ، إذ أن واجبهم التكليفي المتجدد كل ساعة هو دخولهم الإسلام، ومعه تصبح عمرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإذن بدخوله مكة فرعاً له ، بل لا يلزم حينئذ صلى الله عليه وآله وسلم الإذن منهم.
فقالت قريش لعثمان (قد سمعنا ما تقول، ولا كان هذا ابدا، ولا دخلها علينا عنوة، فرجع الى صاحبك فاخبره انه لا يصل الينا)( ).
وأقام عثمان ثلاثاً في مكة ثم أنصرف عائداً إلى الحديبية .
عجز قريش عن مهاجمة النبي في الحديبية
لقد غزا عشرة آلاف من المشركين المدينة في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ، وأحاطوا بها وأرادوا اقتحامها ، وقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وبعدها بنحو ثلاثة عشر شهراً خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ألف وأربعمائة من أصحابه بلباس الإحرام وسيماء التقوى يريدون العمرة ، ليس عندهم سلاح إلا سلاح الراكب .
وعندما وصلوا الحرم لم يدخلوه إنما تطلعوا للإذن من قريش ، الذي لم يأذنوا وأزدادوا استكباراً وعناداً .
فان قلت هلا يشكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الله عز وجل على أن قريشاً لم يهجموا عليهم ويبيدوهم في الحديبية ، ولو أرادت قريش أن تكر وتهجم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فهل تستطيع تحقيق النصر الجواب نعم ، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه شاكرين لله وهم يكبرون ويهللون ويلبون ، وفيه وجوه :
الأول : كان الشهر ذي القعدة ، وهو من الأشهر الحرم التي لايجوز فيها القتال .
الثاني : تخلي القبائل التي جاءت مع قريش في الأحزاب عن نصرتها في مثل هذه المعركة ، وقد استهجنوا قيام قريش بمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دخول مكة .
الثالث : من حيث العدد سيكون عدد جيش المشركين أقل من عدد المسلمين الذي حضروا الحديبية .
الرابع : انكار القبائل لما تفعله قريش ، وهذا الإنكار نصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : استعداد المسلمين للدفاع والتضحية وهو الذي أحسّ به عروة بن مسعود وغيره ، ونقلوه إلى قريش .
السادس : لقد ألقى الله عز وجل الرعب في قلوب المشركين ، فهم أدنى من أن يغيروا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم في لباس الإحرام ، ليكون من الإعجاز والأثر المبارك لقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، خشية مشركي مكة من الهجوم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الحديبية .
السابع : لقد كانت قريش تخشى المسلمين الذين في مكة وهم على وجوه:
أولاً : الرجال والنساء الذين يخفون اسلامهم .
ثانياً : الذين يظهرون إسلامهم ، ولا يخشون قريشاً ، وكان بعض رؤساء قريش يحبس ابنه المسلم كما يأتي في واقعة أبي جندل بن سهيل بن عمرو .
ثالثاً : المسلمون من أفراد القبائل الذين يدخلون مكة مع وفود قبائلهم ، فلا تستطيع قريش فصلهم من قبائلهم أو منعهم من الدخول .
الثامن : ميل الناس إلى أهل الإيمان ، والإقرار بلزوم إنصافهم بعد قطع أكثر من أربعمائة كيلو متر بين المدينة ومكة لأداء مناسك العمرة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
إعراب كلمة التوحيد
مع أن المسلمين ينادون خمس مرات في الأذان اليومي : لا إله إلا الله وعلى نحو التكرار ، فان هذا اللفظ لم يرد في القرآن إلا مرتين ، قال تعالى [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ] ( ) وبقوله تعالى [إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ] ( ).
مع أن القرآن يتقوم بها ، وبها تقوم السموات والأرض ، وهي كلمة التوحيد ، وقد وردت كلمة التوحيد بصيغ أخرى ثمانية وعشرين مرة أكثرها لا إله إلا هو ومنها ايضاً [لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا] ( ) وقوله تعالى [لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ] ( ).
وفي إعراب كلمة التوحيد وجوه متعددة منها :
لا : لنفي الجنس ، وهذا النفي أعم وجوه النفي .
إله : اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب ، وخبرها محذوف وتقديره على وجوه منها موجود ، حق ، معبود .
إلا : أداء حصر .
اسم الجلالة : بدل من خبر (لا) المحذوف المقدر بـ (موجود)أو (حق) .
وقد أوصل ابن هشام الأنصاري النحوي (708-861 )هجرية إعرابها إلى عشرة أوجه رفع اسم الجلالة في (إلا الله) في ستة منها ، وأما نصب اسم الجلالة بعد (إلا) فيكون من وجهين :
الأول : أن يكون على الإستثناء ،إذ قدر الخبر محذوفاً مثل : لا إله في الوجود إلا الله .
الثاني : أن يكون الخبر محذوفاً ، ويكون (إلا الله ) صفة لإسم (لا) على اللفظ أو على الموضع إذ يترتب على دخول (لا ) نصب الموضع .
وعلى إعراب (لا) حرف استثناء يكون اسم الجلالة منصوباً مستثنى من الآلهة والتي تكون عبادتها باطلة .
والمختار أن الإستثناء لا يصح في المقام ، فليس من معنى الآية تعدد الآلهة ثم استثناء الإله الحق من بينها ، قال تعالى [لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ]( ).
نعم ورد قوله تعالى [وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا]( ) إنما جاءت الآية أعلاه في ذم الذين كفروا.
بينما ينطق المسلمون والمسلمات بكلمة التوحيد التي تسمى أيضاً كلمة الإخلاص ، ويرددونها في الأذان والإقامة ويتلونها في الصلاة ، ليكون هدم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأصنام في مكة وغيرها مصداقاَ عملياً لبقاء كلمة التوحيد بالأصل .
والأصل لا تقدير لخبر مقدر للحرف (لا) في الكلام بالكلية ، وهو صحيح (لا إله إلا الله ) جملة تامة من غير تقدير ، وبه قال الزمخشري .
كما يصح التقدير : (الله إله) مبتدأ وخبر قُدم الخبر للتأكيد والقطع ، ومنع من الإنكار .
إنما ياتي التقدير في الصناعة النحوية والتفسير والمعنى مع القول بجواز وجوه الإعراب النحوية الأخرى .
فيكون الإعراب :
لا : نافية للجنس .
إله : مبتدأ مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره .
إلا : أداة حصر .
الله : خبر مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره .
ويصح دخول (لا) و(إلا) على المبتدأ والخبر
وكذا يصح لا إله غيره ، وفي التنزيل [وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ] ( ).
والمراد من تقدير (موجود ) أي موجود حقيقة وشرعاً .
وأجاب أحد العلماء وفي فتوى (معنى لا إله موجود إلا الله، وهذا ليس بصحيح، بل هناك آلهة موجودة غير الله، فالبدوي إله موجود، والحسين إله عند أهله موجود، وعبدالقادر الجيلاني عند اتباعه موجود، وهكذا أصنام موجودة في الهند، وفي غير الهند، وفي كل مكان، وفي الصين، وفي.. وفي أماكن كثيرة أصنام تعبد مع الله، تعتبر آلهة مع الله لكنها باطلة، فلا إله حق إلا الله.
أما من قال لا إله موجود فهذا غلط. لكن لو زيد فيه لا إله موجود بحق استقامت الكلمة).
ولا يخلو هذا الكلام من المغالطة فورد التقدير وفق الصناعة النحوية ، وتصح الآية على الأصل بدون هذا التقدير ، ولم يتخذ أحد سيد بدوي أو الإمام الحسين عليه السلام إلهاً .
وتتضمن كلمة التوحيد نفي وجود آلهة غير الله ، وإذا كان بعض المشركين قد اتخذ الأصنام آلهة فهو معصية وإثم ، ولا يتعارض مع نفي وجود آلهة غير الله ، فهناك تباين بين إتخاذ بعضهم آلهة ، وبين إمتناع وجود آلهة .
كثرة انفاق المشركين على القتال
هل كان نصر المسلمين في بدر معجزة ، وهل هو معجزة عقلية أم حسية.
المختار أنه معجزة عقلية حسية .
عدد إبل المسلمون سبعون ، وعدد إبل المشركين سبعمائة .
خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة إستطلاع حول المدينة وحضر المشركون إلى بدر مستعدين للقتال .
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيراً واحداً أي يتناوبون عليه ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأبى أن يركب من غير حصنه ، فاذا كانت المسافة إلى بدر (150) كم فقد مشى 100 كم ودخل المعركة ، وكذا باقي الصحابة كان الثلاثة والأربعة على بعير واحد ،قال ابن اسحاق (قال ابن اسحق وكانت ابل اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ سبعين بعيرا فاعتقبوها فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى بن ابى طالب ومرثد بن ابى مرثد يعتقبون بعيرا وكان حمزة وزيد بن حارثة وابو كبشة وأنسة موليا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتقبون بعيرا وكان أبو بكر وعمر و عبدالرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا ) ( ).
(عن عبدالله بن مسعود، قال كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، كان أبو لبابة وعلي زميلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: فكانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالا: نحن نمشي عنك.
فقال: ” ما أنتما بأقوى منى، ولا أنا بأغنى عن الاجر منكما “)( ).
ولعله قبل أن يرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا لبابه من الروحاء كان زميلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هما الإمام علي عليه السلام ومرثد .
ولعل بعضهم كان يمشي كل الطريق لأنه عددهم ثلاثمائة وثلاث عشر والإبل سبعون ، وليس معهم من الخيل إلا فرسين ، وحتى في معركة كتيبة تبوك في السنة التاسعة كان الإثنان والثلاثة يعتقبون على بعير واحد ، نعم كان عددهم ثلاثين ألفا ً .
إطعام المسلمين في الطريق قليل من التمر .
بينما تذبح قريش كل يوم عشرة من الإبل .
وكانت فرسان قريش 100 فرس
الأسلحة : النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس معه سيف مما يدل على أنه لم يقصد القتال ، ولم يكن يطلب القافلة .
لم يثبت هذا الطلب ، فان منه قوله تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ).
المؤدة كيفية نفسانية ، وجاءت بصيغة المضارع ، ولم تقل وددتم ، وحينما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المدينة لم تكن قريش قد عزمت على الخروج إلى بدر وإلى القتال .
الإطعام في الطريق .
عدة وأسلحة وسهام المشركين ، وقلة أسلحة المسلمين .
المؤون والأرزاق التي جاءت بها قريش إذ أن أبا جهل حينما بعث لهم أبو سفيان رسالة أن ارجعوا فأبوا عليه .
(ورأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برأس الثنية عبدا متسلحا، فقال العبد: أقاتل معك يا رسول الله .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” ارجع الى سيدك لا تقتل معي فتدخل النار) ( ).
وتسمى غزوة تبوك والمختار أنها كتيبة تبوك إذ لم يلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتالاً ، ولم يغز بلدة .
قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
أصل بدر آبار ماء متعددة متقاربة ، وفيها تقام سوق للعرب كل سنة فلها من الأول من ذي القعدة إلى الثامن منه ، كما تقع على طريق القوافل المتوجهة من مكة إلى الشام وبالعكس .
وتبعد عن المدينة (150) كم ، وعن مكة (310 ) كم وعن جدة (270) كم .
وفيها نزل الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة ويظهر جبل الملائكة ومن معانيها ومن معالمها في هذا الزمان (مسجد العريش) الذي أنشئ في الموضع الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي ويسأل الله النصر عشية وصبيحة يوم معركة بدر ، ومقبرة الشهداء ، كما يستبين موضع [بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا] ( ) وهو محل قدوم المسلمين من المدينة ، وموضع [بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى] ( ) موضع قدوم المشركين من مكة ، قال تعالى [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ]( ) .
المطعمون يوم بدر اثنا عشر رجلا من قريش يطعم كل واحد عشر جزر وهم :
الأول : أبو جهل .
الثاني : أمية بن خلف .
الثالث : العباس بن عبد المطلب .
الرابع : عتبة بن ربيعة .
الخامس : الحارث بن عامر بن نوفل .
السادس : طعمية بن عدي بن نوفل .
السابع : أبو البَخْترِي والعاصي بن هاشم .
الثامن : حكيم بن حزام .
التاسع : النضر بن الحارث .
العاشر : نُبَيْه بنُ حجاج السهمي .
الحادي عشر : أخوه مُنَبه .
الثاني عشر : سهيل بن عَمرو العامري.
وأستأجر أبو سفيان يوم أحد ألفين من العرب وأنفق أربعين أوقية من الفضة .
ولو شاء الله عز وجل لأوحى لنبيه الكريم بأن يخرج بالوقت المناسب ويلتقي بقافلة أبي سفيان خاصة أيام معركة بدر ، وأنه ليس معها إلا أربعين رجلاً ، أنما تركه يغير طريقه ويسلك طريق الساحل فيسير بالسهول المنخفضة .
وليس من تكافؤ بين الفريقين : ضعف المسلمين وقلة أسلحتهم وقوة شوكة المشركين وكثرة عددهم ، ليدرك الشاهد والسامع أن النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله وأنه سبحانه أراد خذلان المشركين ، وهل هذا الخذلان ومصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) أم أنه يخرج بالتخصص أو التخصيص ، الجواب هو الأول من جهات :
الأولى : هزيمة المشركين رادع لهم عن مواصلة القتال .
الثانية : دعوة الناس للإيمان .
الثالثة : بيان قانون وهو لحوق الخزي والخيبة بالذين يحاربون الأنبياء .
الرابعة : زيادة إيمان المسلمين ومنع إرتداد بعضهم (عن الضحاك قال : لما أنزل الله في الذين قتلوا مع مشركي قريش ببدر { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم }( ) . سمع بما أنزل الله فيهم رجل من بني ليث كان على دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقيماً بمكة ، وكان ممن عذر الله ، كان شيخاً كبيراً ، فقال لأهله : ما أنا ببائت الليلة بمكة . فخرجوا به حتى إذا بلغ التنعيم من طريق المدينة أدركه الموت ، فنزل فيه { ومن يخرج من بيته } الآية) ( ).
وقتل يوم بدر من المشركين سبعون وأسر منهم المسلمون سبعين آخرين، وحتى الأسرى ومع دفع أغلبهم العوض والبدل فأنهم صاروا دعاة للإسلام في مكة وما حولها ، ولا تستلزم هذه الدعوة إيمانهم إنما ينقلون ما رأوا من سنن التقوى وإقامة الصلاة ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما سمعوا وحفظوا من آيات القرآن ، فيؤمن أهليهم وجيرانهم وغيرهم ، فان قلت هل يحفظ الكافر آيات القرآن ، الجواب نعم ، وهو من أسرار قصر السور المكية ومضامينها القدسية في البشارة والإنذار ، ولغتها العالية .
لبيان قانون وهو عدم حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الغزو ، إنما تغزو آيات القرآن القلوب ، وتجذب الناس إلى الإيمان ، قال تعالى [قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ) .
و (عن عروة بن الزبير قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقتل في آي من القرآن ، فكان أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدراً .
وكان رئيس المشركين يومئذ عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فالتقوا يوم الجمعة ببدر لسبع أو ست عشرة ليلة مضت من رمضان، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً ، والمشركون بين الألف والتسعمائة ، وكان ذلك [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( ) : يوم فرق الله بين الحق والباطل ، فكان أول قتيل قتل يومئذ مهجع مولى عمر ورجل من الأنصار ، وهزم الله يومئذ المشركين فقتل منهم زيادة على سبعين رجلاً وأسر منهم مثل ذلك) ( ) .
وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام أن بدراً (كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة ، لسبع عشرة مضت من رمضان) ( ).
ومثله ورد عن الإمام الحسن بن علي ،وعن الإمام الصادق والإمام الباقر عليهم السلام .
وهل في معركة بدر نوع إرهاب يحتمل الجواب وجوهاً :
الأول : الإرهاب من طرف واحد وهم المشركون .
الثاني : الإرهاب من الطرفين .
الثالث : عدم وجود إرهاب .
والصحيح هو الأول من جهات :
الأولى : نصر الله للذين آمنوا والذين لا يعتدون لقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) والنسبة بين التعدي والإرهاب عموم وخصوص مطلق ، فالتعدي أعم ، والإرهاب جزء وفرع منه .
الثانية : الشواهد والوقائع التأريخية في يوم بدر ومقدمات المعركة ، منها إصرار المشركين على القتال يومئذ .
الثالثة : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينادي بين الصفين قولوا لا إله إلا الله تفلحوا .
قانون التقوى طريق إلى الشكر لله
يدل ظاهر قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) على أن الشكر لله غير التقوى والخشية منه ، وتحتمل النسبة بينهما وجوهاً :
الأول : نسبة العموم والخصوص من وجه بين التقوى والشكر ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ،وهو على شعبتين :
الأولى : الشكر لله فرع التقوى منه .
الثانية : التقوى فرع الشكر .
الثالث : نسبة التساوي وأن الشكر لله هو التقوى .
الرابع : نسبة التباين بين الشكر والتقوى .
الخامس : إنهما مما إذا اجتمعا إفترقا ، وإذا إفترقا إجتمعا زيادة على النسب الأربعة .
والمختار هو الوجه الأول وشعبتا الوجه الثاني والوجه الخامس من غير تعارض أو دور بينها ، بلحاظ التباين الجهتي بينها ، قال تعالى [وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ] ( ).
لقد أنعم الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالنصر مع قلتهم وضعفهم واستضعاف المشركين وقومهم لهم .
ومن هذا الإستضعاف هجرة طائفة من الصحابة إلى الحبشة ، وإرسال قريش الوفود إلى النجاشي لطلب إعادتهم إلى مكة ونعتهم بما فيه استصغار وتسفيه لهم ، مع تحريف لمعاني آيات القرآن وطلب إعادتهم إلى مكة معهم.
ومن وجوه تقدير ومعاني الصلة بين التقوى والشكر في آية البحث وجوه:
الأول : صيرورة التقوى مقدمة للشكر لله عز وجل .
الثاني : لعلكم تشكرون الله على النصر .
الثالث: لتشكروا الله على التخلص من حال الذل والضعف ولو على نحو الموجبة الجزئية .
الرابع : من شكر الله التحلي بالتقوى ، قال تعالى [فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ] ( ).
الخامس : لقد جاء النصر للنبي ولكن الأمر بالتقوى والشكر لله عام ، ويجب على أجيال المسلمين والمسلمات .
ويمكن الإستدلال بالآية الكريمة على أن مرتبة التقوى طريق إرتقاء إلى منازل الشكر ، ومن الشواهد النبوية عليه ما ورد من الأحاديث المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم باجتهاده بالعبادة رجاء الفوز بمرتبة الشكر لله ، و(عن أبي جُحيفة( ) قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوم حتى تفطر قدماه فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر .
قال : أفلا أكون عبداً شكوراً)( ).
وروى مثله عن عائشة وعن أنس وعن أبي هريرة .
وفيه شاهد على قانون ( لم يغز النبي (ص) أحداً )وعلى قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب ) فعندما تحقق النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بصلح الحديبية ثم فتح مكة لم يتجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الفتوحات في البلدان ، إنما اتجه إلى ضروب العبادة والإجتهاد في الصلاة وقيام الليل ، لبيان عبوديته لله عز وجل .
ويعطي تفرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعبادة بعد النصر للصحابة بأنه لا يريد الغزو ، ولا يسعى إليه ، وأنه يرجو منهم محاكاته في التقوى وضروب العبادة ، وهو أحسن وسيلة لكسب الناس لمنازل الإيمان .
وفيه شاهد بأن معارك الإسلام كانت دفاعية ، فلما إنقطع رؤساء الكفر في الجزيرة ، وصار تحشيد الجيوش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمراً ممتنعاً لدخول الناس في الإسلام تجلت سنن التقوى بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالشكر لله عز وجل على النصر والفتح .
ويبين قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) حب الله عز وجل للمتقين .
وورد في التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]ثلاث مرات واحدة في سورة آل عمران ، واثنتين في بدايات سورة التوبة .
ومن الإعجاز فيها تعلقها جميعاً بالوفاء بالعهد مع المشركين وهي :
الأولى : قوله تعالى [بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ).
قانون وجوب التقوى بعد النصر
التقوى لغة هي الوقاية والإحتراز وإجتناب أسباب الأذى ، وفي التنزيل [وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ] ( ) ولفظ التقوى عنوان اصطلاحي ورد في مواضع عديدة من القرآن ، وهو لإجتهاد في أداء الفرائض والسعي في طاعة الله ومجانبة المعاصي مخافة عذاب ، ومنهم من عرفها بأنها الإحتراز بطاعة عن عقوبته .
والمختار أن التقوى إذا وردت مطلقة فهي ذات شقين :
الأول : الإجتهاد في طاعة الله .
الثاني : الإمتناع عن المعاصي ، قال تعالى [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ] ( ).
نعم قد يرد لفظ التقوى بخصوص ترك المعاصي التي نهى الله عنها ، كما في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، في الحديث الوارد عن أبي سعيد الخدري ، قال (عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبة إلى مغيربان الشمس ، حفظها ونسيها من نسيها ، وأخبر ما هو كائن إلى يوم القيامة ، حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن الدنيا خضرة حلوة ، وان الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون .
ألا فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء . ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى ، فمنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت مؤمناً ، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت كافراً ، ومنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت كافراً ، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت مؤمناً .
ألا إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم . ألم تروا إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه؟
فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئاً فليلزق بالأرض . ألا إن خير الرجال من كان بطيء الغضب ، سريع الفيء . وشر الرجال من كان بطيء الفيء ، سريع الغضب . فإذا كان الرجل سريع الغضب سريع الفيء فانها بها ، وإذا كان بطيء الغضب بطيء الفيء فإنها بها . ألا وإن خير التجار من كان حسن القضاء حسن الطلب ، وشر التجار من كان سيء القضاء سيء الطلب . فإذا كان الرجل حسن القضاء سيء الطلب فإنها بها ، وإذا كان الرجل سيء القضاء حسن الطلب فإنها بها . ألا لا يمنعن رجلاً مهابة الناس أن يقول بالحق إذا علمه . ألا إن لكل غادر لواء بقدر غدرته يوم القيامة . ألا وإن أكبر الغدر أمير العامة . ألا وإن أفضل الجهاد من قال كلمة الحق عند سلطان جائر . فلما كان عند مغرب الشمس قال : ألا إن ما بقي من الدنيا فيما مضى منه كمثل ما بقي من يومكم هذا فيما مضى) ( ).
على وجوه :
الأول : يجب أن تتقوا الله ، والآية إنحلالية فكل مسلم ومسلمة يجب أن يتحليان بالتقوى .
الثاني : فاتقوا الله بالحفاظ على النصر .
الثالث : فاتقوا الله عند الإنتقال والتخلص من حال الذل ، إذ أن الآية تتضمن البشارة بالعز والأمن والرخاء للمؤمنين ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ] ( ) .
الرابع : فاتقوا الله الذي لا راد لأمره ، ومنه نصر الفئة القليلة من المؤمنين على الجيش العظيم من الكفار .
الخامس : فاتقوا الله حال النصر في معركة بدر، فستأتي معركة أحد والخندق ، لذا ورد بعد معركة بدر قوله [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ) .
السادس : فاتقوا الله فان النصر في معركة بدر ليس آخر المطاف .
السابع : فاتقوا الله وأحسنوا إلى الأسرى .
فاتقوا الله : الفاء هي الفصيحة : أتقوا ، فعل أمر ويحمل على الوجوب، وقد تقدم في تفسير هذه الآية في الجزء الثاني والسبعين من تفسيري هذا ، قانون فاتقوا الله ، وبينت فيه أن التقوى نصر آخر إلى جانب النصر في معركة بدر فهو نصر على النفس الشهوية وقهر للأخلاق المذمومة وطرد للشك والريب( ) .
الثامن : فاتقوا الله ولا تغزوا المشركين لما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ] من الوعد بالنصر في معارك الإسلام اللاحقة .
التاسع : وهل من معاني فاتقوا الله صرف وباء كورونا عن المسلمين والناس ، الجواب نعم ، لبيان قانون وهو أن قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) يتضمن معاني ، مباركة منها : أن العبادة باب لنزول الرحمة ودفع البلاء ومحو الآفات .
والنسبة بين العبادة والتقوى هو العموم والخصوص المطلق ، إذ أن العبادة أعم، فلذا جاءت علة الخلق المطلق للجن والإنس بالمعنى الأعم .
شكر المسلمين لله شاهد على تسليمهم بأن النصر يوم بدر من عند الله ، فلا يقدر المنافقون على جحود هذه النعمة ، كما أنه لا تأتي طائفة من المسلمين في الأجيال اللاحقة ، وتغفل عن قانون النصر هذا وعن نسبته إلى الله .
[لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) فينصركم الله في المعارك الاحقة .
لعلكم تشكرون الله على نعمة النصر .
ومن وجوه تقدير الآية :
أولا : فاتقوا الله بعد ماذا .
ثانياً : فاتقوا الله في ماذا .
ثالثاً : فاتقوا الله لماذا .
رابعاً : ولعلكم تشكرون على ماذا .
خامساً : ولعلكم تشكرون لماذا .
سادساً : الغايات الحميدة من لعلكم تشكرون .
قانون استقراء مئات المعجزات للنبي محمد (ص) من آيات القرآن
الحمد لله الذي جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ليكون هذا التبيان موضوعاً وحكماً ودلالة شاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومناسبة لإقتباس واستنباط المسائل والقوانين منه ، وإستقراء إعجاز النبوة منه .
والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة وللقوانين الكونية الثابتة ، المقرون بالتعدي ، السالم من المعارضة .
والأمر المعجز أي الذي يعجز عند البشر ولفظ المعحزة مأخوذ من العجز لعجر الناس عن الإتيان بمثلها ، قال تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( ).
والتاء في لفظ المعجزة تاء المبالغة ، وليس تاء التأنيث وذكر القرآن معجزات عديدة للأنبياء مع البيان وإظهار أنها مصداق لقانون المعجزة في الأرض ، منها معجزة السفينة للرسول نوح عليه السلام ، قال تعالى [وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ]( ).
ومن الشواهد على معجزات الأنبياء أنها لا تتكرر لغيرهم ، وإن جاءت العلوم الحديثة بما يحاكيها ، وقيل كان طول السفينة ألفي متر ، وعرضها ألف متر ، وهو لا يخلو من مبالغة .
وبالإمكان صناعة سفينة مثل سفينة نوح ولكن بالعلم وليس بالمعجزة ، وقد تصنع سفينة في هذا الزمان تنجي من مثل طوفان نوح بالعلم والتعلم والصناعة ، وليس بالمعجزة وقد أشار القرآن لهذا التباين بقوله تعالى [وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ]( ).
والألواح : الخشب ، والدسر : هي المسامير ، واحدها دسار ، لبيان أنها من صنع بدائي ومع هذا سارت في طوفان عال اشبه بأثر قنبلة نووية إذ ارتفع الماء وغطى أعالي الجبال كما في قصة ابن نوح [قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ]( ) .
ولم يجهز قوم نوح الجيوش عليه مع أنهم آذوه أشد الأذى ، ولكن حينما جاء العذاب تغشاهم جميعاً ، وكذا في قوم صالح وقوم هود لم ينج إلا المؤمنون .
أما قوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد أرادوا قتله واغتياله في فراشه ليلة الهجرة ، ثم جهزوا الجيوش لحربه كما في معركة بدر، وقاموا بغزوه كما في معركة أحد ، وحصار الأحزاب للمدينة ولم يغزهم النبي وحينما طلب منه أصحابه وفي ساحة المعركة أن يدعو عليهم ، فأبى وسأل الله لهم الهداية .
و(عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي آية أنزلت من السماء أشد عليك .
فقال : كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركو العرب وافناء الناس في الموسم ، فنزل عليّ جبريل فقال [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( )، قال: فقمت عند العقبة ، فناديت : يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي ولكم الجنة .
أيها الناس قولوا لا إله إلا الله ، وأنا رسول الله إليكم ، وتنجحوا ولكم الجنة .
قال : فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون عليّ بالتراب والحجارة ، ويبصقون في وجهي ويقولون : كذاب صابئ .
فعرض عليّ عارض فقال : يا محمد ، إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك( ) .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك ، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه ، قال : الأعمش فبذلك تفتخر بنو العباس ، ويقولون : فيهم نزلت{إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء }( ))( ).
وقد خرج العباس بعد هذه المعركة مع المشركين لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وتم أسره ودفع الفدية والعوض عن نفسه عن كل من الأسرى :
الأول : عقيل أبي طالب .
الثاني : نوفل بن الحارث .
الثالث : عتبة بن جحدم ، حليف العباس .
وقد وردت النصوص بأن الآية أعلاه من سورة المائدة نزلت في غدير خم عند إنقلاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع .
وعن عبيد بن عمير قال : إن كان نوح ليضربه قومه حتى يغمى عليه ، ثم يفيق فيقول : اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وقال شقيق : قال عبد الله : لقد رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يحكي نبياً من الأنبياء وهو يقول : اللهمَّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون( ).
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإِيمان عن أبي مهاجر الرقي قال : لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً في بيت من شعر ، فيقال له : يا نبي الله ابن بيتا . فيقول : أموت اليوم أموت غداً .
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن وهيب بن الورد قال : بنى نوح بيتاً من قصب فقيل له : لو بنيت غير هذا ، فقال : هذا كثير لمن يموت( ).
وعندما يتعرض العلماء لمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الواردة في القرآن يذكرون معجزة إنشقاق القمر في مكة كما في قوله تعالى [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ]( )، ومعجزة الإسراء كما في قوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( )، والمختار أن معجزاته في القرآن بالمئات، وقد تضمنت أجزاء التفسير استقراء أكثر من مائة معجزة مستحدثة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكانت معجزة صالح الناقة إذ سأله قومه أن يخرج لهم ناقة من بين الصخر ، فجاءه جبرئيل وأمره بأن يصلي ركعتين ويسأل الله الناقة ففعل ، فاستجاب الله عز وجل له ، وكان طولها ستين ذراعاً.
ولم ينحصر الإعجاز بتكوينها وطولها ، إنما يتجدد لها الإعجاز كل يوم آنذاك ، قال تعالى [لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ]( )، فكان يخصص لشربها يوم بين كل يومين ، فلا يزاحمونها في الشرب ولكنها تعطيهم من اللبن ما يكفيهم جميعاً .
لبيان قانون وهو في المعجزة الكفاية .
وكانت معجزة إبراهيم النجاة من النار بعد أن اشعلوا الحطب الكثير الذي يحيط به ، وهو موثق في وسطه ، وفي التنزيل [قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ).
وقد أسست قانوناً بخصوص لغة القرآن وهو إذا وردت صيغة الجمع فانها تحمل على إرادة الجماعة والكثرة ولا تحمل على المنفرد باستثناء ذكر الله عز وجل قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
ومع أن عدد كلمات الآية ست كلمات فقد ذكرت صيغة الجمع لله تعالى خمس مرات :
الأولى : [إِنَّا].
الثانية : [نَحْنُ].
الثالثة : [نَزَّلْنَا].
الرابعة : [وَإِنَّا لَهُ].
الخامسة : [لحافظون].
لبيان عظيم قدرة الله وسعة سلطانه ، والإخبار ولبيان الإعجاز واختصاص الله وحده بانزال القرآن من جهات :
الأولى : لا يقدر على إنزال القرآن من فوق سبع سماوات الا الله عز وجل ، قال تعالى [تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
الثانية : صيرورة القرآن ذكراً في كل زمان .
الثالثة : لا يقدر على حفظ القرآن من التحريف والزيادة والنقصان إلا الله عز وجل ، وهذا الحفظ من جهات :
الأولى : حفظ القرآن في اللوح المحفوظ .
الثانية : تفضل الله بتعاهد القرآن في السماء الدنيا .
الثالثة : نزول جبرئيل الأمين بآيات القرآن ، وهو معصوم من السهو والنسيان ، ومنزه عن القيام بالتحريف أو التبديل ، وقد أثنى الله عز وجل عليه بقوله [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ] ( ).
وفي هذا الثناء بعث للسكينة في نفوس المسلمين بسلامة القرآن عند النزول خاصة وأنه نزل نجوماً على مدى ثلاث وعشرين سنة .
الرابعة : عجز الجن عن إعتراض آيات القرآن عند نزولها .
الخامسة : تلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم التنزيل باصغاء تام وإنعزال قهري عن الناس ، لذا كان يتصبب عرقاً عند نزول الوحي عليه لقوله تعالى [إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] ( ) (عن عائشة : أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يأتيك الوحي؟
قال : أحيانا يأتيني الملك في مثل صلصلة الجرس ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ، وهو أشده علي وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول .
قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم، وإن جبينه ليتفصد عرقاً) ( ).
السادسة : حفظ الله عز وجل لكلمات القرآن ما بين تلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها من عند جبرئيل ، وإلقائه وتلاوته القرآن على المسلمين ، وأمره لكتّاب الوحي بكتابته .
السابعة : تعاهد النبي لحروف وكلمات القرآن بفضل من الله عز وجل مع تقادم الأيام والسنين ، ومنه تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن في الصلاة اليومية .
بيعة العقبة مقدمة لبيعة الرضوان
اسم هذه البيعة مقتبس من قوله تعالى [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا] ( ) لقد تم قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيعة الأنصار له في العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية ، وبينهما سنة كاملة لأن كلاً منهما جاءت في موسم الحج .
وتمت الأولى في السنة الثانية عشرة للبعثة النبوية ، ويقع موضع العقبة على يسار الداخل إلى منى قادماً من مكة قبل جمرة العقبة الكبرى ، وعلى بعد (300) منها على يمين الجسر ، وهو في شعبان من شعاب جبل ثبير .
وقد بنُي عليه مسجد سنة (144) للهجرة ، بناه أبو جعفر المنصور، وقيل سبب بنائه أن جده العباس بن عبد المطلب حضر البيعة الثانية .
وأشار إلى ذات موضعه المؤرخون في الأزمنة المتعاقبة منهم ، الأزرقي محمد بن عبد الله 250 هجرية في كتابه أخبار مكة إذ أنه يذكر تأريخ يؤدي إليها مكة ومعالم مكة وجبالها وأوديتها والمدن التي تجاورها ، والطرق التي تؤديها ، كما وصف الكعبة والمسجد الحرام .
ولاقى كتاب الأزرقي رواجاً لقدسية موضوعه حول مكة والبعثة النبوية، ولأنه صار كالدليل الجغرافي التأريخي ، وذكر احتساب أهل مكة للتأريخ بلحاظ الوقائع القريبة ، فقال (وقد ذكر الله تعالى الفيل وما صنع بأصحابه ، فقال : ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) ( ) إلى آخرها.
ولو لم ينطق القرآن به لكان في الأخبار المتواطئة ، والأشعار المتداولة في الجاهلية والإسلام وفيه بيان لشهرته ، وما كانت العرب تؤرخ به ، فكانوا يؤرخون في كتبهم وديونهم من سنة الفيل ، وفيها ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلم تزل قريش والعرب بمكة جميعا تؤرخ بعام الفيل ، ثم أرخت بعام الفجّار ، ثم أرخت ببنيان الكعبة فلم تزل تؤرخ به حتى جاء الله بالإسلام فأرخ المسلمون من عام الهجرة) ( ).
وألف من بعده محمد بن إسحاق الفاكهي ت 272 هجرية كتابه أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه ، وأحصى في كتابه مساجد مكة ، خصوصاً المساجد والمواضع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (ومنها مسجد يقال له : مسجد الشجرة بأعلى مكة في دبر دار منارة البيضاء التي عند سفح الجبل مقابل الحجون بحذاء مسجد الحرس ، كانت فيه شجرة ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاها من موضعها فجاءته ,حدثنا حسين بن حسن الأزدي قال : ثنا محمد بن حبيب ، عن هشام : يعني ابن الكلبي ، عن أبيه ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرض على ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف الإسلام ، ودعاه إلى الله تعالى ، وكان ركانة من أشد العرب ، لم يصرعه أحد قط .
فقال : لا يسلم حتى تدعو شجرة فتقبل إليك .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشجرة وهو بظهر مكة : أقبلي بإذن الله عز وجل ، وكانت طلحة أو سمرة .
قال : فأقبلت وركانة يقول : ما رأيت كاليوم سحرا أعظم من هذا ، مرها فلترجع .
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ارجعي بإذن الله تعالى، فرجعت ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أسلم.
قال : لا والله حتى تدعو نصفها فيقبل إليك ، ويبقى نصفها في موضعه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنصفها : أقبل بإذن الله تعالى .
فأقبل وركانة يقول : ما رأيت كاليوم سحرا أعظم من هذا ، مرها فلترجع .
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارجعي بإذن الله عز وجل، فرجعت .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسلم ، فقال له ركانة: لا حتى تصارعني ، فإن صرعتني أسلمت ، وإن صرعتك كففت عن هذا المنطق .
قال : فصارعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصرعه ، وأسلم ركانة بعد ذلك) ( ).
كما قام الخطيب البغدادي ت (463 )هجرية تأريخ بغداد ، وابن عساكر ت571 تأريخ دمشق يتناول فيه أخبار بلاد ماوراء النهر .
كما قام محمد بن أحمد الفاسي (755-832) هجرية بتأليف كتاب شفاء الغرام باخبار البلد الحرام وألفت كتب عديدة بهذا الخصوص.
ويسمى مسجد العقبة أيضاً مسجد البيعة وهذا المسجد شاهد على بيعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومقدمات الهجرة ، ولا يزال في موضعه شامخاً مع كثرة التوسعات والإعمار الحديث في جسور الجمرات ونحوها.
ويمكن القول بأن من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلاً من :
الأولى : بيعة العقبة الأولى .
الثانية : بيعة العقبة الثانية .
الثالثة : بيعة الرضوان .
وكل معجزة لها خصائص خاصة تدل على الإعجاز واللطف الإلهي فيها .
ومن خصائص البيعة لرسول الله إتصافها بالسلم وعدم المناجاة بالقتال أو غزو أحد ، إنما كانت ذات صبغة إيمانية محضة ، وكل واحدة من هذه البيعات تمت بحذر وصبر وحيطة من الذين كفروا .
فصحيح أن المدة بين بيعة العقبة الثانية في مكة ، وبين بيعة الرضوان سبع سنوات تحقق للمسلمين فيها النصر في المعارك على المشركين الا أن بيعة الرضوان جاءت بعد الخشية من إرتكاب قريش حماقة عن غرور وعتو بقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، أو قتل الصحابة الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة لإخبار قريش بأنه لا يريد قتالهم وأنه لا يدخل مكة من غير إذنهم له لأداء العمرة والمغادرة وانقلابه هو وأصحابه إلى المدينة .
وكأن إنقلاب ورجوع النبي محمد وأصحابه من حمراء الأسد التي جرت فيه واقعة أحد بيوم واحد مقدمة للإنقلاب بسلام من صلح الحديبية ، قال تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ]( ).
مقارنة بين بيعة العقبة والرضوان
لقد جعل الله عز وجل النبوة نعمة على أهل الأرض تتغشى أهل زمانها والأزمنة الأخرى اللاحقة ، وإن كانت بركاتها تشمل الأجيال السابقة لها أيضاً ، وتفوز طائفة من الناس بالتصديق بالنبي وصحبته واتباعه ، وليكونوا نواة لأمة مؤمنة تصير مادة وسبباً لإستدامة الحياة في الأرض لمفهوم قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
والبيعة نوع عقد وعهد ، وكأن الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعوا أنفسهم وما عندهم في سبيل الله ، وتعهدوا بطاعته وكانت البيعة بالمصافحة يداً بيد .
مع قول المبايع : أشهد أن لا أله إلا الله وأنك رسول الله ، ونبايعك على السمع والطاعة ، وقد يضاف لها : وفي المنشط والمكره ، ولا تختص البيعة بالرجال بل تشمل النساء أيضاً .
ويشترط في الذي يبايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمور :
الأول : الإسلام وذات البيعة عنوان الإسلام ودليل عليه .
الثاني : البلوغ .
الثالث : العقل .
الرابع : الإختيار .
الخامس : الرضا .
وتكون البيعة مرة واحدة في العمر ، نعم تكررت البيعة في بيعة الرضوان، ومن الإعجاز أن هذا التكرار شامل للأنصار وعدد من المهاجرين ، وقد يكون بعض المسلمين الأوائل دخل الإسلام من غير أن يصافح ويصفق على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وينطق بشروط البيعة والولاء والعهد والوفاء .
فجاءت بيعة الرضوان عامة وشاملة للجميع بالإضافة إلى الحاجة إلى تجديدها في الحديبية وتذكير المهاجرين والأنصار بها وببنودها .
وتدل بيعة الرضوان على الحرج والخطر المحدق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم بالحديبية ، سواء كان السبب مجئ خبر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن مشركي مكة قد قتلوا عثمان بن عفان لما أرسله إليهم ، أم مطلقاً وبياناً للصبر وأستعداداً للدفاع عن بيضة الإسلام .
فلم يكن الدفاع في الحديبية عند التعرض لهجوم خاصاً بالصحابة الموجودين هناك ، إنما يشمل المدينة وأهلها، إذ ليس من برزخ وحاجز يحول دون تقدم جيش المشركين إلى المدينة لو هجموا على الصحابة وهم عزل في الحديبية .
وقد يدّب الخوف والندامة أو الملامة إلى نفوس فريق من الصحابة يومئذ من جهات :
الأولى : لو بقوا في المدينة .
الثانية : لو لم يرموا من ميقات الشجرة ويسوقوا البدن .
الثالثة : لو كانوا قد رجعوا إلى المدينة بعد أن احصروا ومرّ عليهم أسبوعان في الحديبية .
الرابعة : إرادة السلامة من تهديد وتخويف قريش للصحابة .
الخامسة : لو جاءوا بأسلحتهم معهم ، قال تعالى [وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا] ( ) .
ومن إعجاز نظم القرآن مجئ لفظ [أَسْلِحَتِكُمْ] مرتين فيه ، وكلاهما في الآية أعلاه .
وأول مرة صلى الله عليه وآله وسلم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف في كتيبة ذات الرقاع في في جمادي الأولى من السنة الرابعة للهجرة .
وقيل أول صلاة خوف كانت في عسفان ، وكانت بعد الخندق ، وتعددت صلاة الخوف في خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الكتائب لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، وللرخصة النازلة من عند الله كما في الآية أعلاه ، ولقوله تعالى [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا] ( ) وقاعدة نفي الحرج في الدين ، ومنهم من قال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة الخوف أكثر من عشرين مرة، ومن أفراد صلاة الخوف ما ورد بخصوص الحديبية عندما دنا خالد بن الوليد والخيل التي معه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وصاروا قريباً من معسكر المسلمين ، ويرون شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصف خالد بن الوليد خيله بين المسلمين وبين القبلة في اشارة إلى منعهم من التقدم نحو مكة ، ولو كان هذا المنع بالسيف .
فأمر النبي عباد بن بشر أن يتقدم بخيله ويكون بأزاء خالد بن الوليد لمنعهم من مباغتة المسلمين أو القيام برمي السهام والنبال نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فجأة ، ولما حان وقت صلاة الظهر أذّن بلال وأقام .
وكان المشركون يعرفون بلالاً وينظرون كيف أنه كان عندهم عبداً يخضع للتعذيب الشديد بسبب اسلامه ، وها هو يحتل منزلة وشأناً عند عموم الصحابة من المهاجرين والأنصار ، إذ يصدح صوته بالأذان ، ليخبر عن حلول وقت الصلاة إشعاراً بمقدماتها ، وإيذاناً ببدئها .
وقد نسب حديث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا أصل له وهو سين بلال شين( ) .
أي أن بلالاً كان يقول : أسهد أن لا إله إلا الله .
فيجعل الشين سيناً للثغة في لسانه ، ولكن ورد النص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أثنى على بلال في صوته .
وفي بدايات هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة كان الصحابة يجتمعون في أوقات الصلاة حسب موقع وحركة الشمس ، وعند طلوع الفجر يجتمعون لصلاة الصبح ، وعند زوال الشمس عن كبد السماء يصلون الظهر وهكذا من غير أن يكون هناك نداء أو تناد بينهم ، وكان يهود المدينة يتخذون البوق للإشعار بوقت صلاتهم .
فرآى عبد الله بن زيد الأنصاري الخزرجي رؤيا الأذان في السنة الأولى من الهجرة وبعد أن بنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسجده شهد بيعة العقبة الثانية ، ثم اشترك في الدفاع لرد غزو المشركين في بدر وأحد والخندق، وأشترك مع وحشي في قتل مسيلمة الكذاب ، رماه وحشي بالحربة ، وضرب عبد الله بن زيد بالسيف فقتله .
(توفي بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين وهو ابن أربع وستين) ( ).
وقل أن أوان موته غير هذا تقديماً وتأخيراً عنه .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحض أصحابه على الإعلان عن الرؤيا التي يرون في المنام سواء كانت رؤيا بشارة أو إنذار ويقوم بتأويلها ، فأتى عبد الله بن زيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقص عليه رؤياه.
فقال كما عن ابن إسحاق : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ طَافَ بِي هَذِهِ اللّيْلَةَ طَائِفٌ مَرّ بِي رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ .
فَقُلْت لَهُ يَا عَبْدَ اللّهِ أَتَبِيعُ هَذَا النّاقُوسَ ، قَالَ وَمَا تَصْنَعُ بِهِ .
قُلْت : نَدْعُو بِهِ إلَى الصّلَاةِ ، قَالَ أَفَلَا أَدُلّك عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ .
قُلْت : وَمَا هُوَ ، قَالَ تَقُولُ اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ ، اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، أَشْهَد أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ حَيّ عَلَى الصّلَاةِ حَيّ عَلَى الصّلَاةِ حَيّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيّ عَلَى الْفَلَاحِ اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، أَخْبَرَ بِهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالَ إنّهَا لَرُؤْيَا حَقّ إنْ شَاءَ اللّهُ ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِهَا عَلَيْهِ فَلْيُؤَذّنْ بِهَا ، فَإِنّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْك( ).
ويدل هذا الحديث على سلامة نطق بلال للحروف ، ولو كانت عنده لثغة لأكثر المشركون والمنافقون من السخرية والإستخفاف ، قال تعالى [وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ]( )، ولم يرد لفظ ناديتم في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وفي الحديبية حينما أذن بلال وأتم الإقامة استقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القبلة البيت الحرام ، ووقف المسلمون جميعاً خلفه ، فقرأ القرآن ثم (ركع بهم ركعة وسجد، ثم سلم، فقاموا على ما كانوا عليه من التعبئة ، وكان خالد بن الوليد وخيله ينظرون ، فقال خالد : قد كانوا على غرة لو حملنا عليهم أصبنا منهم)( ).
إذ أنه نظر الى جميع المسلمين وهم في حال ركوع ثم في حال سجود متكرر ، مما يدل على أن المشركين ينوون الإجهاز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم في الحديبية ، لم تمنعهم قدسية الشهر الحرام ، ولا مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من غير سلاح ، وعدم دخولهم مكة إلا باذن يستحصل من قريش ، فنزل جبرئيل بصلاة الخوف وكانت بيعة الرضوان حاجة .
ومن خصائص بيعة الرضوان أمور :
الأول : شد عزائم المسلمين ، وطرد الخمول والكسل عنهم .
الثاني : اجتهاد الصحابة في الصلاة والدعاء وكأن إقامتهم في الحديبية والإطلالة على الحرم نوع إعتكاف لهم ، خاصة وأنه لم يتم إلا بفضل الله وفيه نوع تحد وقهر للمشركين بمجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى عقر دارهم .
الثالث : المنع من الفعل الفردي من بعض الصحابة مما قد يتخذه المشركون ذريعة للتعدي .
الرابع : تنمية ملكة الصبر عند المسلمين ، ومنه الصبر الحال والعاجل في موضع الحديبية .
الخامس : تجديد إعلان المسلمين لطاعتهم لله ورسوله ، ورجاء الفرج منه تعالى ، وفي التنزيل [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، وقد تقدم في تفسير هذه الآية أن جملة [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] تعليلية وللرجاء مع بحث نحوي في معاني لعل في المقام( ).
لبيان أن بيعة الرضوان من مستجلبات رحمة الله ، وورد قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] بصيغة المبني للمجهول ، فهل يختص الأمر برحمة الله للمسلمين أم أنه أعم فيشمل وجوهاً :
الأول : رحمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين ، قال تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
الثاني : التراحم بين المسلمين أنفسهم .
الثالث : رحمة أهل الكتاب للمسلمين .
الرابع : رحمة المشركين بالصحابة فلا يجهزون عليهم في الحديبية.
الخامس : تسامح الناس مع المسلمين في إقامتهم الصلاة والفرائض العبادية .
الجواب الأصل هو الوجه الأول أعلاه وتكون الوجوه الأخرى من رشحات فضل ورحمة الله عز وجل .
والمراد من رحمة الله في الآية ما يشمل الوقائع والأحداث ، كل واقعة على نحو مستقل ومجتمعة مع غيرها ، كما أنه يشمل الحياة الدنيا والآخرة ، وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ومن وجوه تقديرالآية :
الأول : لعلكم ترحمون في الدنيا .
الثاني : لعلكم ترحمون في الآخرة .
الثالث : لعلكم ترحمون في زيادة الأجر والثواب .
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة وهم في الحديبية يرجون رحمة الله ، ويتطلعون إلى شآبيب فورية منها ، وما بيعة الرضوان إلا من هذا الرجاء ، فمن معانيها أنها استعانة بالله عز وجل .
لقد كان مجئ الصحابة إلى الحديبية من مصاديق طاعة الله ورسوله ، وكذا إقامتهم فيها لأسبوعين ، فهل مجئ سهيل بن عمرو للتفاوض من رحمة الله ، وعمومات قوله تعالى [لعلكم ترحمون] الجواب نعم ، لذا قال النبي (سُهّل أمركم) عند رؤية سهيل بن عمرو قد أقبل .
وحينما وصل سهيل إلى حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقدم بشبه أعتذار عن حبسهم لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين دخلوا مكة ، إذ قال (يا محمد إن الذي كان من حبس اصحابك وما كان من قتال من قاتلك لم يكن من راى ذوي رأينا بل كنا له كارهين حين بلغنا، ولم نعلم به، وكان من سفهائنا) ( ).
لقد أظهر سهيل الإعتراف بحبس صحابة النبي وبقيام مشركي قريش بقتال النبي وتبرأ قريش منه ، إشارة إلى مقتل ابن زنيم من المسلمين الذي (أطلع الثنية من الحديبية – فرماه المشركون فقتلوه)( ).
وتلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقتله بصبر بينما اتخذت قريش قتل ابن الحضرمي ذريعة لنشوب معركة بدر ، وفيه شاهد بان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد السلم ويسعى إلى السلام والوئام .
وهل أراد سهيل الإخبار بأن عثمان وأصحابه ساعون في مكة ، الجواب نعم.
وبعد هذه المقدمة ذات صيغة الإعتذار سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يطلق الذين قام المسلمون بأسرهم في الحديبية ، إذ تم أسر جماعة منهم ،ثم تم أسر جماعة أخرين من المشركين وعددهم أثنا عشر فارساً .
فلم يتردد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالموافقة ولكن اشترط إطلاق أصحابه ، وعودتهم إلى الحديبية سالمين ، فقال سهيل : قد أنصفتنا .
(فبعث سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص إلى قريشٍ الشتيم بن عبد مناف التيمي: إنكم حبستم رجالاً من أصحاب محمدٍ بينكم وبينهم أرحام، لم تقتلوهم وقد كنا لذلك كارهين .
وقد أبى محمد أن يرسل من أسر من أصحابكم حتى ترسلوا أصحابه، وقد أنصفنا، وقد عرفتم أن محمداً يطلق لكم أصحابكم.
فبعثوا إليه بمن كان عندهم، وكانوا أحد عشر رجلاً، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابهم الذين أسروا أول مرة وآخر مرة، فكان فيمن أسر أول مرة عمرو بن أبي سفيان) ( ).
مما يدل على أن الأمر في التفاوض وإتخاذ القرار لا يختص بسهيل بن عمرو ، وليس له الإنفراد بالقرار والإمضاء والإعتراف والتنازل ، أو أن يتولى الصلح ، فبعد أن تشاوروا بعثوا الشتيم ، وليخبر الشتيم قريشاً بأنه يحمل رسالة من الثلاثة مجتمعين .
وسيبدأ الجزء اللاحق الخاص بهذا القانون ( لم يغو النبي (ص) أحدا) بخصوص (مفاوضات صلح الحديبية).