المقدمـــــــــــــة الحمد لله الذي جعل الهداية بيده سبحانه مثلما جعل ملك السموات والأرض له وحده , لبيان أن الهداية نعمة عظمى لا يقدر عليها إلا هو سبحانه ، وفي التنزيل [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ) وقد يقال أن اثبات شئ لشي لا يدل على نفيه عن غيره ، وكون الله عز وجل يهدي من يشاء لا يدل على حصر الهداية به سبحانه ، فقد يهتدي الإنسان بنفسه ، وقد يهديه غيره كما في قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام (لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ) ( ). والجواب إن الهداية من الناس فرع التوفيق والهداية من الله عز وجل ، فقد جعل الله عز وجل الآيات الكونية لهداية البشر ، وهل يصح حينئذ القول أن الله يهدي بالواسطة . الجواب إنما تكون الهداية إبتداء وموضوعاً وحكماً من عند الله عز وجل ، من غير أن ينقص من ثواب الذي هو سبب في الهداية ، أو في تقريب العبد إلى سبل الطاعة لذا تضمنت آيات القرآن الحضّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبيان وجوبهما مجتمعين ومتفرقين ، وكل واحد منهما يؤدي إلى الآخر ، فليس من برزخ ووسط بين الخير والشر أو بين المعروف والمنكر . الحمد لله الوهاب الذي يهب الكثير فضلاً منه وإبتداءً ومن غير استحقاق المسألة والدعاء . وليس لهبات الله عز وجل من حد أو منتهى ، وقد قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ). والنسبة بين النعمة والهبة العموم والخصوص المطلق ، فالهبة جزء من النعمة ، وهل يصدق القول بأن المتيقن في العجز عن الإحصاء يختص بعموم النعم ، الجواب هو الأول ، بلحاظ أن النعمة اسم جنس ، وتقدير الآية على وجوه : الأول : وإن تعدوا هبات الله لا تحصوها . الثاني : وإن تعدوا رحمة الله لا تحصوها . الثالث : وإن تعدوا فضل الله لا تحصوه . الرابع : وإن تعدوا رأفة الله لا تحصوها . الخامس : وإن تعدوا البركة من الله لا تحصوها . السادس : وإن تعدوا حب الله للعباد لا تحصوه . السابع : وإن تعدوا رزق الله لا تحصوه . الثامن : وإن تعدوا العفو من الله لا تحصوه . الحمد لله الذي أنزل القرآن كتاباً مباركاً وحبلاً ممدوداً من السماء إلى الأرض ، وتفضل وجعله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وهل هذا التبيان وعد من عند الله عز وجل ببقاء القرآن سالماً من التحريف والزيادة والنقصان ، الجواب نعم ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ). لقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بأن جعل كلامه مصاحباً لهم ، وألزمهم بتلاوته تلاوة عين . الحمد لله الذي تفضل عليّ بكتابة وتأليف أجزاء هذا السِفر المبارك هذا الجزء من التفسير ، ويختص بتفسير قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ). وهي الآية السادسة والثمانون بعد المائة من سورة آل عمران في آية علمية لم يشهد لها الـتأريخ مثيلاً ، ليس فقط من جهة الكم ، إنما من جهة الكيف في هذا السِفر المبارك من جهات : الأولى : استنباط المسائل من الآية القرآنية وأحكامها . الثانية : تأسيس قوانين متعددة مقتبسة من الآية القرآنية وأحكامها . الثالثة : استقراء العلوم والقوانين من علم المناسبة من الألفاظ المتشابهة في آيات القرآن ، ومن النظائر , وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا] ( ). الحمد لله الذي بدأ نزول القرآن وترتيبه باسمه وقرنه بصفة الرحمن والرحيم ، ليكون نزوله بشارة لأهل الأرض تتغشى النشأتين لحضور القرآن يوم القيامة أيضاً . ومن مصاديق رحمة الله هداية الناس للإيمان فعل الخيرات ، وتلاوة التنزيل ، والتبرأ من الشرك ومفاهيم الجحود , وقال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ). وهل المقصود من البسملة التبرك ، الجواب إنه أعم إذ أن البسملة سنة واعتقاد وفلسفة ونوع توكل على الله عز وجل في التلاوة والعمل بلحاظ أن آيات القرآن منهاج وهدى وضياء ينير دروب السالكين . الحمد لله الذي جعل الحمد كله له وحده ، وجعل كل مسلم ومسلمة يتلوان قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) سبع عشرة مرة في اليوم الواحد . والألف واللام في [الْحَمْدُ] لإستغراق الجنس أي أن عامة الحمد وألفاظه ، وكلمات الشكر والثناء من العباد كلها لله عز وجل ، إذ أن النعم كلها من عنده سبحانه ، ولا يستحق الحمد المطلق والمستديم , وفي النشأتين إلا هو سبحانه . والهداية إلى قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ] فضل ولطف من عند الله ، وفي التنزيل [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ). وهذا هو الجزء الثالث عشر بعد المائتين من تفسيري للقرآن ، ويختص بتفسير آية واحدة من سورة آل عمران تتضمن الإعجاز بالإخبار عن إبتلاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في الأموال والأنفس ، وتلقيهم الأذى من مشركي قريش . ومن إعجاز آية البحث أن موضوعها لم ينحصر بهذا الإخبار إنما يشمل الدعوة إلى التحلي بالصبر والخشية العامة والخاصة من الله عز وجل ، وهي طريق نجاة ووسيلة للثبات في منازل الهدى والإيمان . ومن فضل الله أني أقوم بالتأليف والمراجعة والتصحيح بمفردي والحمد لله ، كما أشرف على طباعة النسخ الورقية وتوزيع هداياه تعظيماً لشعائر الله ، وإظهاراً لعلوم مستحدثة في علوم القرآن إلى جانب القيام ومنذ عشرين سنة بتدريس البحث الخارج الفقهي والأصولي ، وهو أعلى مراحل الدراسة في الحوزة العلمية في النجف الأشرف . وقد صدر الجزء السابق وهو الثاني عشر بعد المائتين بخصوص قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) ويتعلق بموضوع صلح الحديبية ، وكيف أنه شاهد على عدم إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتال ، ودليل على إمتناعه عن الغزو . نعم كانت آيات القرآن تغزو القلوب ، وتمنع الجوارح من التعدي على المسلمين وعلى نحو التدريج في الكم والكيف في نقص هذا التعدي . وهل لآية البحث وهو قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ..] ( ) موضوعية من نقص هذا التعدي ، الجواب نعم ، خاصة وأنها تتضمن حضّ المسلمين على الصبر الوجودي المقرون بالتقوى والخشية من الله عز وجل ، ويدل الحضّ والأمر بالصبر للمسلمين مع شدة البلاء والأذى على قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) . وهل تدل آية البحث على دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى عدم الغزو ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز الغيري للآية لما فيها من الدعوة إلى الصبر في أشد الأحوال. وتبين آية البحث مجئ الإسلام بالتكافل الإجتماعي ، والتعاون للقضاء على الفقر أو تخفيف حدته ، وبعث الأمل في نفوس الفقراء ورؤيتهم لشواهد يومية من هذا التكافل ببذل الأغنياء المال في طاعة الله ، ودفع الزكاة والخمس إلى مستحقيه ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ). وهل في الآية إنذار بأن الذي لا ينفق ماله في سبيل الله يبتلى بما يجعله ينفقه من غير ثواب ، الجواب لا دليل عليه . الحمد لله في السراء والرخاء والشدة والضراء ، وهو سبحانه ولي النعم وكاشف الكرب ولا يقدر على نسخ العسر باليسر إلا هو سبحانه . الحمد لله في كل دقيقة من دقائق وساعات الحياة الدنيا ، ونحن أحياء ونحن أموات . الحمد لله الذي جعل القرآن مؤدباً وهادياً إلى سواء السبيل ، وفيه غنى عن السيف والإكراه على الإيمان . و(عن يحيى بن أبي كثير : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تتمنوا لقاء العدو فإنكم لا تدرون لعلكم ستبلون بهم وسلوا الله العافية ، فإذا جاءوكم يبرقون ويرجفون ويصيحون بالأرض ، الأرض جلوساً ثم قولوا : اللهم ربنا وربهم نواصينا ونواصيهم بيدك وإنما تقتلهم أنت ، فإذا دنوا منكم فثوروا إليهم واعلموا أن الجنة تحت البارقة) ( )( ). إذ ينهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تمني قتال المشركين الكفار ، ليكون من باب الأولوية القطعية إجتناب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصد القتال والغزو . إلا أن يكون القتال دفاعاً وضرورة وحاجة فيلزم أمرين : الأول : الصبر . الثاني : الدعاء . الحمد لله الذي جعل الدنيا مزرعة للآخرة , وبلغة للبشارة بالروح والريحان ، الحمد لله الذي يمد بعمر الإنسان ليتوب ويجدد الشكر لله سبحانه والثناء عليه . الحمد لله الذي ألهم العباد والخلائق الشكر له سبحانه ، وهل يمكن تسمية الحياة الدنيا (دار الحمد ) الجواب نعم . الحمد لله على حلمه علينا مع علمه بتقصيرنا وتخلفنا عن مقامات الحمد والشكر له سبحانه بالإنشغال بهموم الحياة الدنيا . لقد كان عرب الجزيرة يغزو بعضهم بعضاً ، ويسبون النساء والصبيان ويلحقهم الأذى والضرر ، حتى قامت بعض القبائل بوأد البنات . ونطرح هنا مسألة مستحدثة وهي : هل كان المشركون يئدون بناتهم خشية سبي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لهن ، الجواب لا ، مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز المشركين ، ولم يهددهم في عقر دارهم ، وما صلح الحديبية إلا شاهد عليه ، والموؤدة أي البنت تدفن خشية العار . وقوله تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ) من سورة التكوير وهي مكية ، ولم يرد لفظ [الْمَوْءُودَةُ]ولفظ [سُئِلَتْ] إلا في هذه الآية . وعندما اشتد القتال بين المشركين والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يئد المشركون بناتهم إنما كانت سورة التكوير حاضرة بينهم، مما يدل على عدم غزو النبي بالبرهان الإني من المعلول إلى العلة ، ومن الأثر إلى المؤثر ، فالضوء يدل على المصباح , وسماع أذان الظهر يدل زوال الشمس عن كبد السماء . وعندما جرت معركة حنين ، وتم سبي أطفال ونساء هوازن وثقيف أعادهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلهم إليهم حالما جاء وفد منهم وهو في الطريق لم يصل إلى المدينة بعد . ونزلت سورة التكوير قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، ولم يكن هناك قتال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين ، مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجاهد وهو في مكة لبناء صرح الأخلاق الحميدة . وأفضل رجل في التأريخ أزاح العنف عن المرأة وأنشأ صرح حسن المعاملة هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . ليكون الثأر وحب الإنتقام والبطش سبباً لإستئصال جنس البشر ، وتشرذمهم في الأمصار ، وتبعيتهم لغيرهم ، كما في تبعية بعض القبائل المجاورة لفارس لكسرى مع بقية تؤكد على هويتها واستقلالها وكان منه معركة ذي قار ، والقبائل المجاورة لبلاد الروم لقيصر ، ووجود حاكم لكسرى في اليمن أيام البعثة النبوية الشريفة . ويترشح الغزو عن الكفر للعصبية ومفاهيم الجاهلية ، وإنحياز كل قبيلة إلى الصنم والوثن الذي يعبدون ، وهذا الإنحياز من أسباب تحريض قريش القبائل على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان لكل قبيلة من العرب صنم خاص بها في الكعبة تتعاهده قريش . ولا يدل هذا على إتحاد الكفار في قتالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى] ( ) ولأن الله عز وجل يلقي بأسهم بينهم . ومن خصائص الآية القرآنية ومنها آية البحث أمور : الأول :دعوة الآية القرآنية للسلم المجتمعي في منطوقها أو مفهومها . الثاني : نبذ الآية القرآنية للعنف وقصد القتال والإمتثال . الثالث : تمنع الآية القرآنية من الحاجة إلى سلاح والقتال والقتل، وتسمى سورة النصر سورة التوديع لأنها تدل على قرب مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى . [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ) أي ليس بمواصلة القتال إنما بالذكر والدعاء . الرابع : الآية القرآنية حرب على الفساد ، وبرزخ دون وقوعه . الخامس : تدعو الآية القرآنية إلى الخلق الحميد ، وحسن المعاملة وفلسفة العفو , قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ( ). السادس : تنمي الآية القرآنية ملكة الصبر عند المسلمين وتدعوهم إلى تحمل الأذى ، ليكون من معاني العز والفخر للمسلمين عدم ردهم على الأذى بمثله ، قال تعالى [وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ] ( ) . السابع : بشارة الآية القرآنية بالأجر والثواب على مصاديق الإيمان والأفعال العبادية ، وعلى الصبر في مرضاة الله . الثامن : إعلاه كلمة التوحيد ، ونبذ مفاهيم الشرك ، وطرد أسباب الإرهاب . التاسع : إشاعة صبغة الأخلاق الحميدة بين الناس ، وجعل السلم والحوار والصلح بلغة ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ). وسيأتي الجزء التالي خاصاً بقانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وفيه مواضيع وقوانين متعددة خاصة بصلح الحديبية ومنافعه ، وكيف أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم سعى إليه ، وهيئ والقرآن مقدماته بالصبر والتقوى ، وهو من مصاديق أختتام آية البحث بقوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( ). حرر في الثامن عشر من شهر ربيع الآخر 1442 هجرية 4/12/2020 قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] الآية 186. الإعراب واللغة اللام : قيل واقعة في جواب قسم مقدّر ، والمختار أنها لام الإبتداء والتوكيد . تبلون : فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون . الواو : ضمير متصل في محل رفع الفاعل ، وحركت بالضم لإلتقاء ساكنين وللدلالة على المحذوف. النون في (تبلون) نون التوكيد لا محل لها من الإعراب . في أموالكم : في : حرف جر ، أموال : اسم مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة تحت آخره ، وهو مضاف ، والكاف : مضاف إليه . وأنفسكم : الواو حرف عطف ، أنفسكم معطوف على أموالكم . والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب قسم مقدر . ولتسمعن : الواو : حرف عطف ، وقيل (اللام) جواب قسم مقدر . تسمعن : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون . والواو المحذوفة فاعل ، حذفت لإلتقاء الساكنين . والنون : نون التوكيد الثقيلة . من الذين : من : حرف جر. الذين : اسم موصول مبني في محل جر متعلق بـ(تسمعن ). أوتوا : فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم . الواو : نائب فاعل ، والجملة لا محل لها صلة الموصول . الكتاب : مفعول به منصوب ، وعلامه نصبه الفتحة الظاهرة على آخره. من قبلكم جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من نائب الفاعل ، والضمير (كم) مضاف إليه . ومن الذين أشركوا : الواو حرف عطف . من الذين : جار ومجرور . أشركوا : فعل ماض . والواو : فاعل . أذى : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على الألف . وعامله تسمعن . كثيراً : صفة لأذى منصوب مثله . وإن تصبروا : الواو للإستئناف . إن : حرف شرط جازم . تصبروا : فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه حذف النون ، والواو : فاعل . وتتقوا : مثل تصبروا ومعطوف عليه . فان ذلك : الفاء رابطة لجواب الشرط . إن : حرف مشبه بالفعل . ذلك (ذا) اسم إشارة مبني في محل نصب اسم إن . اللام : للبعد . الكاف : للخطاب . من عزم : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر (إن) . الأمور : مضاف إليه مجرور , وعلامة جره الكسرة . سياق الآيات وفيه وجوه : الأول : صلة آية البحث بالآية السابقة [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ]( )( ). وفيه مسائل : المسألة الأولى : إبتدأت آية السياق بقانون من الإرادة التكوينية ، وهو [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( ). وهل يختص هذا القانون بالناس أو يشمل الجن وكل نفس يطرأ عليه الموت ، الجواب هو الثاني لبيان قانون وهو قهر الله للخلائق بالموت والعدم، واختتام حياة الإنسان بالموت نوع إكرام له ، وهو من مصاديق خلافته في الأرض وقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فلم تختتم حياة الإنسان بالعدم والإتلاف بل بأمر وجودي وهو الموت , والإنتقال إلى عالم آخر . ترى ما هي النسبة بين الموت والعدم ، الجواب هو العموم والخصوص من وجه ، فلا يعني الموت أنه العدم ، ومن إعجاز آية السياق كشفها لهذا القانون ، فبعد أن أخبرت عن مجئ الموت لكل نفس أخبرت عما يلقاه الإنسان بعد الموت ، مع بعث السكينة في نفوس المؤمنين لعالم الجزاء بلغة الأجر والمكاسب التي ينالون في الآخرة بقوله تعالى [وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ) ، مما يدل على أن الموت ليس عدماً ، إنما إنتقال من عالم إلى عالم آخر ، تدل على كون الموت أمر وجودي آيات متعددة منها قوله تعالى [إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ] ( ) . لبيان قانون وهو أن الموت زائر يحضر للبيت والجماعة والمملكة والدولة، ولكنه لا يقصد إلا شخصاً واحداً منهم ، ولا يلتفت إلى غيره مع إحاطتهم بالذي يداهمه الموت ، ولا يستطيعون دفعه عنه ، ومن ذخائر الحياة الدنيا أن كل يوم يمر على الإنسان فيه تذكير بالموت ، فصحيح أنه لا يأتي للإنسان إلا مرة واحدة ، ولا يأتيه عن سهواً أو خطأ ، ولا يخطئه فيذهب إلى غيره ، وإن كان ملاصقاً له ، وهو توأم له ، وتقع للإنسان شواهد يومية متعددة تذكره بالموت ، ومنها ما يكون عند ذات الشخص مثل المرض المستعصي ، والتقدم في العمر ، وطرو الشيب . ومن معاني الجمع بين الآيتين أن الدنيا دار إبتلاء ، وأن خاتمتها هو الموت ومغادرتها وما فيها من الأموال قهراً ، فسواء أبتلي الإنسان بماله أو لا فانه يغادره للتدبر بلزوم الإنفاق في سبيل الله ، وإخراج الصدقات والحقوق الشرعية . وفي التذكير بالموت بخصوص الإبتلاء بالنفس الإجتهاد في الواجبات العبادية البدنية . وهل يخفف أداء العبادات من الإبتلاء في الأموال والأنفس ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ). المسألة الثانية : ابتدأت آية السياق بجملة خبرية [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ( ) ثم جاءت بعدها جملة انشائية تفيد الإنشاء والخطاب إلى المسلمين . لبيان قانون في فلسفة الخطاب القرآني ، وهو الجمع بين القوانين الكونية العامة والخاصة مع التداخل بينها. والنسبة بين موضوع الجملتين العموم والخصوص المطلق ، فحلول الموت عام يحل بكل إنسان أما استيفاء الأجور في الآخرة فهو خاص بالمؤمنين ، ويدل قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، على عدم حصول تغير في عمارة الإنسان للأرض عند موت فرد أو جماعة وحتى بخصوص دويرة الميت لا تمر أيام حتى يتم تدارك وجوده ، وعودة الحياة والعمل من دونه وتقسيم الميراث وتعيين البديل عنه ، وقد يكون أحسن منه ولما أشرف الإمام علي عليه السلام (على القبور بظاهر الكوفة( ): قال يا أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة والقبور المظلمة ، يا أهل التربة ، يا أهل الغربة ، يا أهل الوحدة ، يا أهل الوحشة ، أنتم لنا فرط سابق ونحن لكم تبع لاحق. أما الدور فقد سكنت . وأما الازواج فقد نكحت . وأما الاموال فقد قسمت هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم . ثم التفت إلى أصحابه فقال : أما لو أذن لهم في الكلام لاخبروكم أن خير الزاد التقوى)( ). ومع أن الخطاب في الحديث أعلاه لأهل القبور إلا أنه موعظة للأحياء وتذكير بآية البحث [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ] وبيان مسألة وهي لزوم إتخاذ التقوى حرزاً ووسيلة وطريق إدخار للآخرة . وهل من أجر على التلبس بالتقوى كملكة وعزيمة أم لابد من العمل الذي يتصف بالتقوى الجواب هو الأول . ليكون العمل الذي يتصف بالتقوى والخشية من الله مناسبة لأجر وثواب آخر ، وهو من أسرار مضاعفة الثواب على العمل الصالح ، ويدل على التعدد والجمع بين التقوى والعمل المترشح عنها مجئ الآيات بالثواب على الإيمان والعمل الصالح ، قال تعالى [فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ). المسألة الثالثة : من مصاديق قوله تعالى في آية السياق [وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ]( )، بلحاظ آية البحث وجوه : الأول : وإنما توفون أجوركم يوم القيامة على التقوى والخشية من الله . الثاني : وإنما توفون اجوركم على الإبتلاء بأموالكم . الثالث : وإنما توفون أجوركم على الإمتحان والإبتلاء في النفوس . الرابع : وإنما توفون أجوركم على الإيمان . الخامس : وإنما توفون أجوركم بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وقد أخبرت الآية قبل السابقة عن تكذيب بعض الأقوام والطوائف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته بقوله تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ]( )، لبيان قانون وهو ترتب الأجر والثواب من جهات : الأولى : قانون ترتب الأجر والثواب يوم القيامة على التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . الثانية : قانون الأجر والثواب الخاص على التصديق بالنبوة أزاء تكذيب الآخرين وهذا الثواب غير الثواب في القانون أعلاه فحينما تجد طائفة أو أهل ملة يكذبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وينكرون معجزاته وتحتار أنت الإيمان والتصديق بها ففيه ثواب خاص ، وكذا في الثبات على الإيمان في هذه الحال . الثالثة : قانون الأجر والثواب على أذى وتعذيب المشركين للمسلمين الأوائل مثل بلال وصهيب وعمار بن ياسر الذي قتلت أمه سمية بنت خباط قتلها أبو جهل تحت التعذيب لثباتها على الإيمان ومنهم من يسميها سمية بنت خياط ، كما في مواضع من الطبقات الكبرى منها جزء 3 ص 246 والجزء 4 ص136 ، وكما في الإستيعاب 1/351 ، وفي الإصابة قال (سمية بنت خَبط بفتح أوله بغير ألف ) ( ) (سمية بنت خبط بفتح أوله بغير ألف مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم والدة عمار بن ياسر كانت سابعة سبعة في الإسلام عذبها أبو جهل وطعنها في قبلها فماتت فكانت أول شهيدة في الإسلام. وكان ياسر حليفاً لأبي حذيفة فزوجه سمية فولدت عماراً فأعتقه وكان ياسر وزوجته وولده منها ممن سبق إلى الإسلام) ( ). والصحيح هو سمية بنت خباط بكسر أوله ، وقيل هي سابعة سبعة دخلوا الإسلام . (وَرُوِيَ أَنّ عَمّارًا قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لَقَدْ بَلَغَ مِنّا الْعَذَابُ كُلّ مَبْلَغٍ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَبْرًا أَبَا الْيَقْظَانِ ثُمّ قَالَ اللّهُمّ لَا تُعَذّبْ أَحَدًا مِنْ آلِ عَمّارٍ بِالنّار) ( ). الرابعة : قانون الأجر والثواب على الصبر على محاربة مشركي قريش ، للنبوة والتنزيل بالسيف . الخامسة : قانون الأجر والثواب على أداء الفرائض والعبادات . المسألة الرابعة : من إعجاز القرآن إبتداء آية السياق بالإخبار عن حتمية الموت ، وكونه عاقبة كل إنسان في الحياة الدنيا ، بعد أن يمر على المقابر ، ويزورها ويقرأ سورة الفاتحة لساكنيها ، ويترحم عليهم . وتمر الأيام والسنين ، فيلتحق بهم ، ويمر عليه وهو في المقبرة أناس كثيرون يتعاقبون على الدنيا ، ثم أخبرت آية السياق عن الأجر والثواب يوم القيامة ، لبيان أن الموت نوع طريق وإنتقال من عالم إلى آخر ، ومن المائز بين المؤمنين والكفار تسليم المؤمنين باليوم الآخر ، وعالم الحساب ، وإنكار الكفار له . فحينما يقول الله عز وجل [وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] ( ) يتلقى المؤمنون هذا الوعد بالتصديق ، ولا يفتنون بالإبتلاء في الأموال ويصبرون على الأذى في النفوس. المسألة الخامسة : لقد إبتدأت الإسلام ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة عندما بلغ عمره أربعين سنة وفي شهر رمضان ويوافق السنة 610 ميلادية . ليُسلم في اليوم الثاني والثالث كل من زوجته خديجة والإمام علي عليه السلام ، ويبدأ دخول الصحابة الإسلام فرادا ، ويزداد أذى كفار قريش للنبي وأهل بيته وأصحابه . فكانوا يلاقون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسخرية والإستهزاء ، والإيذاء الجسدي ، وبالنسبة لأهل البيت فرضت عليهم قريش الحصار الإقتصادي في شعب أبي طالب لثلاث سنوات ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزوجته خديجة معهم في هذا الحصار . ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية أن الحصار شمل بني هاشم مؤمنهم وكافرهم باستثناء أبي لهب عم النبي ، ليصبروا على الأذى مع الحرص على حراسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه ، والإمتناع عن تسليمه للمشركين ، وعدم الطلب منه بترك الدعوة إلى الله وتبليغ الرسالة وتلاوة آيات القرآن . فمن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه بدأها بتلاوة آيات القرآن ، والإخبار بأنها كلام الله عز وجل أنزله عليه ، أي أنه نبي رسول ، وما الإصلاح إلا فرع النبوة ، وفي التنزيل [إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ] ( ). وجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى قريش بالتذكير بالموت وما بعده من عالم الحساب . ومن إعجاز القرآن إخباره عن كون الموت أمراً وجودياً ،وليس عدمياً ، يزور الإنسان ليفارق الحياة ، قال تعالى [وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ] ( ). وليس في تلاوة [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ( ) من ضرر على قريش كي يحارب النبي محمداً ، إنما هو لطف ورحمة بهم ، فان قلت إخبار آية السياق عن فوز المسلمين بالأجر يوم القيامة تعريض بكفار قريش ، الجواب نعم ، هذا صحيح ، ولكن التعريض ليس موجهاً لهم بالذات ، إنما هو من مفهوم للآية يتعلق بذم الكفر والإقامة عليه ، وإلا فان قوله تعالى [إِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] ( ) ترغيب للناس جميعاً بالإيمان ، وهداية لهم . وهل في قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ] ( ) نوع تحذير من دخول الإسلام لما فيه من الإبتلاء ، الجواب لا ، إذ تقدمت آية السياق بالبشارة بالأجر والثواب . ليصدح قانون وهو : البشارة باعث على تلقي الإنذار والتحذير بالقبول والرضا لأن هذا الإنذار في طاعة الله . وتقدير الجمع بين الآيتين : لتبلون في أموالكم وأنفسكم وتوفون أجوركم يوم القيامة . لبيان قانون وهو قلة البلاء في الدنيا مع عظيم الثواب عليه وهل في قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ] نوع تحذير من دخول الإسلام لما فيه من الإبتلاء ، الجواب لا ، إذ تقدمت آية السياق بالبشارة بالأجر والثواب لبيان قانون وهو البشارة باعث على تلقي الإنذار والتحذير بالقبول والرضا لأن هذا الإنذار في طاعة الله . وتقدير الجمع بين الآيتين لتبلون في أموالكم وأنفسكم وتوفون أجوركم يوم القيامة . ليتجلى قانون وهو قلة البلاء في الدنيا مع عظيم الثواب عليه في الآخرة . بالإضافة إلى قانون عدم انحصار البلاء في الدنيا بأهل التقوى والإيمان فان البلاء فيها عام شامل للناس جميعاً . مع قانون الفرق بين بلاء المؤمنين وبلاء الكفار ، ففي بلاء المؤمنين الأجر والثواب ، وليس في بلاء الذين كفروا إلا الأذى والضرر الخاص والعام عليهم ، قال تعالى [فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ). ليكون من معاني الرجاء في الآية أعلاه إخبار آية السياق عن الأجر والثواب العظيم للمؤمنين . ويمكن تسمية الدنيا دار البلاء فليس من إنسان إلا ويصيبه البلاء فيها ، ولو آمن الناس جميعاً فهل يأتي البلاء لهم أم ينقطع ، المختار هو الأول ، قال تعالى [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ]( )، وتبين قصة ولدي آدم عليه السلام ضرباً من مطلق البلاء فقد كان ولدي نبي هبط إلى الأرض من الجنة ، ويروي لهم أخبار الملائكة ويتحلى بالتقوى ، وقرب كل من هابيل وقابيل ولدي آدم قرباناً إلى الله ، إذ قال تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ]( ). ولم يرد لفظ (قربا) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، فان قلت تدل الآية أعلاه على اختصاص التقوى بهابيل . الجواب بين الإسلام التقوى عموم وخصوص مطلق ، فمن أهل الإسلام في الأمم المتعاقبة من لا يرتقي إلى مرتبة التقوى ، وجاءت الآية أعلاه للحضّ على التقوى والتحلي بها ، واتخاذها طريقاً لقبول العمل الصالح ، ، والفوز بمرضاة الله عز وجل . المسألة السادسة : وردت واو الجماعة في آية السياق بقوله تعالى [تُوَفَّوْنَ]وورد ضمير الخطاب للجمع الكاف في الآية السابقة مرة واحدة بقوله تعالى [أُجُورَكُمْ] بينما وردت صيغة الجمع في آية البحث على نحو متعدد : الأول : واو الجماعة في لتبلون . الثاني : ضمير الجمع (الكاف) في أموالكم . الثالث : ضمير الخطاب للجمع في [أَنْفُسِكُمْ] . الرابع : واو الجماعة في [أُوتُوا]. الخامس : خطاب الجمع الكاف في [قَبْلِكُمْ]. السادس : واو الجماعة في [الَّذِينَ أَشْرَكُوا] لإرادة الغائب . السابع : واو الجماعة للجمع المخاطب في [تَصْبِرُوا]. الثامن : واو الجماعة للجمع المخاطب في [تَتَّقُوا]. ويمكن الجمع بين الآيتين من استنباط المسائل من صيغة الخطاب ولغة الجمع فيهما . ويكون التقدير على وجوه متعددة منها : الأول : لتبلون في أموالكم وكل نفس ذائقة الموت لبيان أن الإنسان يترك أمواله من خلفه ، ولا يأخذ معه إلى الآخرة إلى ما انفقه في سبيل الله ، وما أداه من الزكاة والخمس والصدقات ، قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ). وقد يسارع المسلم في جمع المال فتأتي آية البحث والسياق لتخبره بأنه سيبتلى بماله ، وأن الموت يزحف إليه كل يوم يمر عليه يقربه إلى أجله وهو من معاني كون الموت حياً ، قال تعالى [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ] ( ) . وفيه بعث للسكينة في النفوس وعدم الحسرة على الإنفاق على العيال ، الجواب نعم . الثاني : البشارة بالأجر والثواب على التوفيق في الإبتلاء بالمال ، ومن مصاديق التوفيق في المقام الكسب الحلال ، وإخراج الحقوق الشرعية ، وقضاء حاجة المحتاجين ، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ). الثالث : من معاني الجمع بين أول الآيتين المواساة على فقد المال أو قلته أو تعطيل الزراعات والكسب بسبب أذى المشركين ، فمثلاً حينما صار ثلاثة آلاف رجل من المشركين عند جبل أحد على مشارف المدينة يرومون إقتحامها سرّحوا خيلهم وإبلهم في زروع أهلها ، ومن يخرج منهم لأرضه يرمونه بالسهام والنبال ، ليصدق عليه الإبتلاء بالمال والأنفس ، لذا تضمنت آية البحث قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( ) وهي ذات الجملة الشرطية التي وردت بخصوص معركة أحد ، إذ قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ). ومن معاني الجمع بين آية البحث والآية أعلاه عدم إنقطاع الأذى عن المسلمين بمعارك مشركي قريش وغاراتهم على المدينة ، إنما يأتيهم الأذى من غيرهم الذي يجعلهم يبتلون في أموالهم ،وإن قالوا ما هو الحل ، أجابت كل من آية البحث والآية أعلاه بطريق الحل ، ويتألف من أمرين : أولاً : الصبر . ثانياً : التقوى والخشية من الله . نعم في آية البحث بشارة التخفيف عن المسلمين ، فبعد الهجوم المتكرر من جيوش المشركين على المدينة يتفضل الله عز وجل بصلح الحديبية ( )، وقال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) وفيه تعطيل لآلة الحرب وسفك الدماء. وهل صلح الحديبية من مصاديق رد واحتجاج الله على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) حينما سألوه عن علة جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وهو الذي يفسد فيها ويسفك الدماء . فمن علم الله عز وجل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإستئصال عبادة الأصنام وتحمله وأصحابه الأذى في جنب الله ورضاهم بقوله تعالى في آية البحث [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ] ( ). وهل هذا التحمل من مصاديق الخلافة في الأرض وإحتجاج الله على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ). الجواب نعم ، وكأن الله يقول للملائكة كيف تذكرون الفساد وهو منقطع ببعثة الأنبياء ، وصبر المؤمنين على الأذى . الرابع : إيتدأت آية البحث بالإخبار عن امتحان المسلمين والمسلمات في أموالهم ، وهل هذا الإمتحان خاص بهم ، أم أنه من سمات الحياة الدنيا ومصاحب لأهلها . الجواب هو الثاني مع المائز بأن المؤمنين يؤجرون على هذا الإمتحان ، وهو الذي تدل عليه آية السياق بقوله تعالى [وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ). ومن إعجاز آية البحث مجيؤها بصيغة المضارع [لَتُبْلَوُنَّ] ليصاحب هذا الإبتلاء المؤمنين ، وتضمنت ذات الآية الدعوة إلى الصبر والتقوى ، ويحتمل الأجر الذي ذكرته آية السياق وجوهاً : الأول : إنه خاص بالإبتلاء والإمتحان . الثاني : إنه شامل لصبر المؤمنين على الأذى . الثالث : الأجر والثواب على التقوى . ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وفيه نكتة وهي أن التحلي بالصبر والتقوى مع الإبتلاء والأذى أعظم أجراً . المسألة السابعة : من خصائص التنزيل بعث المؤمنين للتهيئ والإستعداد لمصاديق البشارة والإنذار فلا يفرحون ويطغون مع البشارة ، ولا يفزعون عند تحقق الإنذار . فمثلاً لما هجم عشرة آلاف من الرجال على المدينة في حصار الخندق لم يفزع المسلمون ، إنما قالوا [هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا] ( ). وعن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : إنّ الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً) ( ). أي يكونوا بعد تسعة أو عشرة أيام على أطراف المدينة ، ويتضمن الوعد المذكور في الآية أعلاه الإخبار عن النصر والغلبة للمؤمنين . ومن مصاديق الوعد في المقام بشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه وهم يحفرون الخندق . المسألة الثامنة : وتتألف (إنما) في قوله تعالى [وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ]( )، من حرفين : الأول : إن : وهو حرف مشبه بالفعل ، يفيد التوكيد . الثاني : ما : اختلف فيه على جهات : الأولى : يفيد النفي ، واليه ذهب أبو علي الفارسي وجمع من الأصوليين . الثانية : هي (ما) الكافة التي تكف إن وأخواتها عن العمل . الثالثة : (ما) في (إنما) هي ما الزائدة . والمختار هي الثانية أعلاه ، ويستفاد الحصر وموضوعه من سياق الكلام، في منطوقه ، أو في دلالة المفهوم ، كما في قوله تعالى [إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ]( )، فالمراد أنك لست رقيباً عليهم أو مجازياً لهم ، ويفسر القرآن بعضه بعضاً قال سبحانه [لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ]( )، بدليل ورود آيات تبين تعدد وظائف نبوة محمد منها [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ]( ) . وهل تختص الأجور على الإيمان والعمل الصالح في الآخرة . المختار إنها أعم ، وأن فضل الله عز وجل على المؤمنين في الدنيا عظيم، وما أعدّه لهم من الثواب والأجر العظيم ، في الآخرة لا يعلمه إلا هو سبحانه ، وهل يمكن تقدير الآية [إِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] الجواب نعم وتقدير آية البحث بلحاظ استيفاء الأجور على وجوه : الأول : إنما توفون أجوركم يوم القيامة على إبتلائكم في الأموال . الثاني : إنما توفون أجوركم يوم القيامة على ابتلائكم بالأنفس والتعذيب الذي تعرضتم له من قبل المشركين ، وملاقاتهم في ميادين القتال. وتحتمل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بلحاظ آية البحث جهات : الأولى : انها من الإبتلاء بالأموال . الثانية : إنها من الإبتلاء بالأنفس . الثالثة : الهجرة من الإبتلاء بالأموال والأنفس . الرابعة : إنها ليست من الإبتلاء لما في الأموال ولا في النفوس . وباستثناء الوجهة الأخيرة أعلاه فان الجهات الثلاثة الأولى كلها صحيحة. الثالث : إنما توفون أجوركم يوم القيامة على صبركم ، قال تعالى [وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ). الرابع : وانما توفون أجوركم يوم القيامة على تقواكم . المسألة التاسعة : ذكرت آية السياق الزحزحة والإبعاد عن النار يوم القيامة ، وأنه فوز عظيم ، وهل تدل الآية على وجود برزخ بين الجنة والنار، وأن الإبعاد عن النار لا يدل على دخول الجنة الجواب لا ، إنما تفيد الواو في وادخل الجنة المعية . ومن إعجاز آية البحث أنها لم تنسب الزحزحة للإنسان نفسه إنما يزحزحه غيره ، إذ ورد الفعل (يزحزح) بصيغة المبني للمجهول ، ولا يقدر على هذه الزحزحة إلا الله عز وجل . وعن عبد الله (ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أحب أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه) ( ). وذكرت آية البحث وجوهاً من أسباب الزحزحة عن النار وهي : الأول : تعطيل الأعمال والهجرة ، وترك أسباب الرزق المعتادة ، ومحاصرة المشركين للمسلمين . الثاني : بذل وإنفاق المسلمين في سبيل الله ، ليكون من معاني الجمع بين الآيتين : فمن انفق المال في سبيل الله فقد زحزح عن النار ، قال تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ). الثالث : إتخاذ المسلمين الصبر جلباباً ومنهاجاً وسجية ، وليس من حصر لضروب الصبر في المقام ومنه : أولاً : الصبر على البلاء والإمتحان بالمال . ثانياً : الصبر في طاعة الله وأداء الفرائض العبادية ، ومنه قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( )، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في الآية أعلاه قال : الصبر هو الصوم( ). ومن معاني الآية أعلاه عطف الخاص على العام فذات الصلاة صبر . ومن الإعجاز في الصلاة وصبغة الصبر فيها أنها تدفع عن الإنسان وجوهاً من البلاء وتخفف عنه ضروباً من الصبر . ثالثاً : الصبر على المصائب في الدنيا ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ). رابعاً : الصبر عن المحارم وما نهى الله عز وجل عنه ، فقد تقترب المعصية والفاحشة من الإنسان ، وتزول عنها الموانع ، وتنهى عن مقدماتها ، ولا يبقى إلا الصبر والتقوى والخشية من الله عز وجل ، وهو أعم وأعظم زاجر، ليكون من معاني [وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]( )، بخصوص هذا الوجه مجئ المدد من عند الله لصرف الفاحشة ، ولطرو موانع حسية دونها . وهل يختص الأمر بالصبر في ذات موضوع الفاحشة أم هو أعم . الجواب هو الثاني فمثلاً أداء فريضة صلاة الفجر يدفع عن الإنسان الفاحشة سواء القريبة أو البعيدة ، والظاهرة أو الخفية والتي يعلم بها أو أنها تنكشف له يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( )، لتأكيد قانون وهو من معاني النهي في المقام صرف الفحشاء ، وإبعاد المنكر والمعصية عن الإنسان . ويدل عليه قوله تعالى في يوسف عليه السلام [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( ). ولقد توارث الأنبياء الصلاة وتعاهدوها ، وتركوها إرثاً عقائدياً وزينة لأبنائهم ، قال تعالى [وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ). المسألة العاشرة : لقد أختتمت آية السياق بقانون من الإرادة التكوينية [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ) للإخبار عن قانون يصاحب حياة الناس في الأرض من أيام أبينا آدم إلى يوم القيامة ، وهو إتصاف الدنيا بصبغة الغرور. ومن مصاديق عله هذا القانون بخصوص آية البحث وجوه : الأول : طرو الموت على كل إنسان ، إذ ابتدأت آية البحث بقوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ( ) والتي تدل على أن الموت أمر وجودي ، وكما يأتي بصيغة الفاعل كما في قوله تعالى [حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ] ( ) فأنه يأتي بصيغة المفعول ، والمتأثر والذي يقع عليه فعل الفاعل ، وهو من معاني آية السياق [ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] وإن كان يعرب في الصناعة النحوية (مضاف إليه ) ( ) فالموت يُذاق ، وله مذاق . وتدل آيات القرآن والسنة النبوية ، والوجدان والشواهد على أن مذاق الموت مرّ ، وكذا شدائده وسكراته ، وفي التنزيل [وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ]( ). وهل يدخل القتل في الآية ، الجواب نعم ، إذ أن النسبة بين الموت والقتل هي العموم والخصوص المطلق . الثاني : قصر عمر الإنسان في الحياة الدنيا ، وسرعة ذهاب اللذة ، إذ أنها حسية ، سواء كانت في المأكل أو اللبس أو المسكن أو الجاه والشأن ، ومن معاني الغرور الذي لا بقاء له . الثالث : نيل الأجر على الإيمان وعمل الصالحات في الآخرة ، ومواطن الحساب والجزاء . الرابع : من إعجاز الآية نسبة العموم والخصوص بين الإخبار عن الموت وبين الأجر والثواب ، ومجئ أول الآية بصيغة الجملة الخبرية ، ثم انتقلت إلى لغة الخطاب ، وكأنه من الإلتفات في الإصطلاح البلاغي فلم تقل الآية : كل نفس ذائقة الموت ، وإنما يوفى الناس أجورهم يوم القيامة ، إنما خصت الآية الذين آمنوا من جهات : الأولى : دلالة نظم وسياق الآيات ، إذ ورد نداء التشريف [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ). الثانية : مجئ الآية قبل السابقة خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتتضمن الإخبار عن تكذيب طائفة من الناس برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ] ( ) لبيان أن الجحود بالتوحيد وإنكار الرسالة برزخ دون القول بالأجور يوم القيامة . الثالثة : دلالة آيات الأجر المتعددة في القرآن ، منها قوله تعالى [إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً] ( )وقال تعالى [إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ] ( ) وقوله تعالى [وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ) ويستلزم الإبتلاء بالأموال والأنفس الصبر في جنب الله ، وفي التنزيل [أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ] ( ). الرابعة : ابتداء آية البحث بالخطاب إلى المسلمين ليكون معطوفاً في معناه على صيغة الخطاب في الآية السابقة ، إنما توفون أجوركم . المسألة الحادية عشرة : أختتمت آية السياق بالإخبار عن كون الدنيا دار الغرور والزوال لتكون مواساة للمسلمين والمسلمات في ملاقاتهم الإبتلاء ، وتلقيهم الخسارة في المال ،وإنفاقهم في سبيل الله بلحاظ أن قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ] ( ) لبيان الإعجاز في لفظ [لَتُبْلَوُنَّ]. قال تعالى [وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] ( ). من الإعجاز في آية السياق أنها لم تبين أن إستيفاء المؤمنين أجورهم يوم القيامة سبب وعلة تامة للزحزحة عن النار ، إنما ذكرت هذه الزحزحة بقانون مستقل بعد الأجور ، لبيان أنها قد تدخل الإنسان الجنة ، وأن الأجور توضع بميزان ، قال تعالى [وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ]( ). ويحتمل ميزان الآخرة وجوهاً : الأول : إنه ميزان عدل . الثاني : إنه ميزان رحمة . الثالث : إنه ميزان رحمة للمؤمنين ، وميزان عدل للذين كفروا . الرابع : إنه ميزان عدل ورحمة للناس جميعاً . والمختار هو الأخير . قال تعالى [فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ] ( ) لإفادة المجازاة يوم القيامة ، وأختلف في ميزان الآخرة على قولين : الأول : الميزان أمر حقيقي وحسي وله لسان وكفتان ، وهو مشهور علماء الإسلام ، وهو المختار ، ويدل عليه ظاهر الآيات ، ولإقامة الحجة على الناس يوم القيامة ، وفي التنزيل [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) فصحيح أن الأعمال ليست أجساماً وأشياء محسوسة ولكنها تصير بسنخية تصلح للثقل والترجيح . الثاني : المراد من الميزان أمر معنوي . وهل هو ميزان واحد أم موازين متعددة وكثيرة ، المختار الثاني ، قال تعالى [وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ] ( ). ومع أن الأعمال أعراض ليس لها وزن إلا أنها توزن بكيفية تتصف بالدقة بعظيم قدرة الله عز وجل ، وقيل توزن صحائف الأعمال وهو بعيد. وبلحاظ الميزان يكون تقدير آية البحث : لتبلون في أموالكم وأنفسكم،لتثقل موازينكم ، وتترجح كفة الحسنات ، وهو الذي تدل علية آية السياق بأن استيفاء أجور المؤمنين يوم القيامة ، وفيه شاهد بأن الأجور توضع في الميزان . وليس ذات الأعمال لإرادة مضاعفة الأجور بالنسبة للعمل ، قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] ( ). المسألة الثانية عشرة : لقد أخبرت آية البحث عن نيل المؤمنين الأجر والثواب يوم القيامة ، على ما لاقوه في الحياة الدنيا ، وعلى صبرهم واجتهادهم في طاعة الله عز وجل ، وأخبرت آية البحث عن تلقيهم الأذى من المشركين ، ومن طائفة من أهل الكتاب ، فهل في تلقي هذا الأذى ثواب لهم ، الجواب نعم . وقد وصفت آية البحث هذا الأذى بكونه [كثيراً] لتصاحبه البشارة بالثواب العظيم ، وهذه المصاحبة مواساة للمؤمنين ، وتخفيف عن شدة الأذى ، وكأن الجمع بين آية البحث وآية السياق يفيد مسألة وهي كلما كان الأذى كثيراً إزداد الأجر والثواب أضعافاً . لذا أختتمت آية البحث بالحضّ على الصبر والتقوى ، وفيه شاهد على أن القرآن يدعو إلى السلم ومقابلة الأذى الكثير بالصبر ، وعدم الرد بمثله أو بأذى أقل من عنده . وفيه يجتمع الصبر والتقوى في موضوع واحد مثل الصيام وأداء الصلاة، وفي التنزيل [وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ). (عن أبي ذر قال : قلت : يا نبي الله ، أي العمل أفضل ؟ قال : الإيمان بالله والجهاد في سبيله . قال : قلت : أي الرقاب أفضل يا نبي الله ؟ قال : أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا . قال : قلت : أرأيت إن لم أفعل . قال : تعين ضعيفا أو تصنع لأخرق( ). قال : قلت : أرأيت إن ضعفت . قال : تكف شرك عن الناس ، فإنه صدقة منك على نفسك) ( ). المسألة الثالثة عشرة :لقد ذكرت آية السياق الفوز بقوله تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ] ( ) وهل هذا الفوز في الآخرة ، وهو ظاهر الآية القرآنية ، ولعدم القول بالاستصحاب القهقري ، أم أنه شامل للحياة الدنيا ، أي يحتمل تقدير الآية وجوهاً : الأول : فقد فاز في الدنيا . الثاني : فقد فاز في الآخرة . الثالث : فقد فاز في الدنيا والآخرة . والمختار هو الأول ،وجاءت الآية للبشارة ، ولينعم المؤمنون وهم في الدنيا بالبشارة بالفوز بالجنة ، فمن إعجاز القرآن الغيري أن بشاراته الأخروية ضياءً ينير مسالك الرشاد للناس عامة وللمؤمنين خاصة . وهل هذه البشارة سبب لجذب الناس للإيمان ، ودخولهم الإسلام ، الجواب نعم . وهو من الشواهد على عدم وصول النوبة لقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغزو ودخول المعارك ، إنما كان هو وأصحابه في حال دفاع ، وحينما تمنى نفر من الصحابة ممن لم يحضر معركة بدر مجئ جيش الكفار في معركة أحد ، وبعد أن سمعوا بزحفهم نحو المدينة ، خاطبهم الله عز وجل بصيغة العتاب [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ). وقيل (وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت ، وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإلحاحهم عليه ، ثم انهزامهم عنه وقلة ثباتهم عنده) ( ) . والمختار أنه ليس توبيخاً ، إنما هو ثناء على المؤمنين وصبرهم وثباتهم في الدفاع عن الإسلام والنبوة ،وهو من مصاديق آية البحث وقوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]. الوجه الثاني : صلة آية البحث بالآية قبل السابقة [فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ] ( ) وفيه مسائل : المسألة الأولى : جاءت آية السياق خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبصيغة الجملة الشرطية [فَإِنْ كَذَّبُوكَ] وتتصل هذه بالآية التي قبلها بخصوص الذين اشترطوا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كي يسلموا أن يأتيهم بقربان يجعله في الأرض سواء شاة أو غيرها فتنزل نار من السماء فتأكله . وأخبرت الآية أن رسلاً سابقين جاءوا بهذه الآية مع بينات ومعجزات تدل على نبوتهم ، ومع هذا قابلهم فريق من الناس بالتكذيب ، لبيان سنة في صلى الله عليه وآله وسلم الناس بالنبوة بوجود أمة تؤمن بالرسول وتتبعه فيما جاء به من عند الله ، وأمة تكذبه وتجحد برسالته، وفيه مواساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وطرد للشك من نفوس أصحابه . ويمكن القول أن آية البحث من آيات الإيمان ، ومن إعجاز القرآن تعقبها لآية التكذيب ، لبيان قانون بقاء الإيمان في الأرض ، ونسخ التكذيب بالرسل . وليكون من البشارات التي نزل بها القرآن تنامي سنن التقوى ،وإزدياد نسبة أهل الإيمان وتحملهم البلاء في مرضاة الله ، ومنه قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ). المسألة الثانية : ذكرت آية البحث نزول البلاء والإمتحان بالذين آمنوا، وشمول هذا الإمتحان لهم في خسارة الأموال والنفوس ، وتلقيهم الأذى الشديد ، لبيان مسألة بلحاظ آية السياق ، ودلالة إخبارها عن تكذيب شطر من الناس للرسل السابقين بمصاحبة هذا التكذيب إبتلاء الرسل والذين آمنوا معهم، إذ يواظب الرسل على الدعوة إلى الله ، ويصرّ الذين كفروا على الجحود ، فيحصل التعارض ويتحمل الرسل والمؤمنون الأذى المترشح عن هذا التعارض ، فلا يرضى المشركون بالوقوف عنده ، فيقابلون الدعوة إلى التوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسيف والسهام ، ليفيد الجمع بين الآيتين دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة إلى الصبر الذي يتقوم بالدعوة إلى الله وإقامة الفرائض ، قال تعالى [إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا] ( ). وكان ما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مشركي قريش صورة ومثالاً للأذى الذي أصاب الأنبياء السابقين من قومهم ، وفي التنزيل حكاية عن قريش [أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ] ( ). إذ تناجى الوجهاء من قريش بلزوم البقاء على عبادة الأصنام ولا يلتفتوا إلى دعوة التوحيد التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم،وتولى أبو جهل بن هشام ، وعتبة وشيبة ولدا ربيعة بن عبد شمس ، وأمية بن خلف والعاص بن وائل ، وأبو معيط وغيرهم من وجهاء قريش حضّ عامة الناس على الإقامة على عبادة الأصنام ، وعلى الإعراض عن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى التوحيد . ولم يقفوا عند هذا الحد مع قبحه الظاهر ، إذ قاموا بتعذيب عدد من المسلمين الأوائل ، وإيذاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومحاصرة أهل البيت ، لبيان أن قولهم [أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ] ( ) تهديد ووعيد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وإخبار عن عزم الملأ من قريش إبتداء الحرب على النبوة والتنزيل ، والسعي لوقف قطار الإيمان الجارف بقطار وأموال وقوافل قريش وتعطيل تجارتهم ، وفي هذا التعطيل أذى لقريش ، وهو من مصاديق نزول الألم بهم ، كما في قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ). وهل ينحصر قوله تعالى [وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ] ( ) بكفار قريش أم أنه يحكي قصص الأمم السابقة ،وصدود الذين كفروا عن الأنبياء الذين يبعثهم الله بين ظهرانيهم ، والجواب هو الثاني ، لذا أخبرت آية السياق عن ملاقاة الرسل السابقين بالتكذيب . ترى لماذا ذكرت آية السياق الرسل ولم تذكر الأنبياء ، فلم تقل الآية (فان كذبوك فقد كذب أنبياء من قبلك) لأن الأنبياء أعم من جهة الكثرة ، والرسل أعلى في المرتبة ، فقد فازوا بالنبوة ثم الرسالة لبيان أمور : الأول : يأتي الرسل بالمعجزات الحسية الظاهرة . الثاني : تكرار المعجزات الحسية على يد الرسول . الثالث : تسبق البشارة الرسول ، إذ يبشر به الرسول السابق له . كما في عيسى عليه السلام [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..] ( ) وهل تدل هذه البشارة على أن عيسى رسول من عند الله ، الجواب نعم ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ…] ( ). الرابع : إجهار الرسول بدعوته بين عامة الناس ، فلا يحصر دعوته بأهل بيته [ذِي الْقُرْبَى] إنما تكون دعوته عامة ، ومن مصاديق تفضيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته أنه كان يقيم الصلاة اليومية في البيت الحرام ، فيراه وفد الحاج والمعتمرون ، وإذا رآى شخصاً غريباً ليس من أهل مكة في الحرم جلس بجاوره ودعاه إلى الإسلام ، وأخبره أنه رسول من عند الله ، وقام بتلاوة آيات القرآن عليه ، وقد يطلب منه أن يكتم الأمر خشية تهيج وسخط كفار قريش ليس خوفاً منهم إنما رأفة بهم . وهل كانت هجرة نفر من الصحابة إلى الحبشة من دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم العلنية للإسلام ، الجواب نعم . وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ انفرد ببعث عشرات ومئات من أصحابه دعاة إلى التوحيد في دار الغربة والبلاد البعيدة، إلى جانب الأنصار عند أهليهم في المدينة (يثرب) نعم كان بعض الرسل يبعث عدداً من أصحابه في الدعوة ، ولكنه قليل ، وقد يلاقون التعذيب والقتل . المسألة الثالثة : لقد أخبرت آية السياق عن أمرين : الأول : تكذيب المشركين للرسل السابقين ،ومضمون قوله تعالى [فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ] ( ) التعاقب بين الرسل من جهة الزمان ، والتباين في المكان ، وتقدير الآية : كلما بعث الله رسولاً كذبه قومه ، ومنهم نوح وهود وصالح وإبراهيم عليهم السلام. ومن الآيات أن قوم هؤلاء الرسل كانوا في نعمة ورغد عيش ، فمثلاً كان قوم صالح ينحتون من الجبال بيوتاً وأراضيهم خصبة تزرع كل عام ، إذ ورد خطاب صالح عليه السلام لهم في القرآن [أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ] ( ) ثم أنعم الله عز وجل عليهم بآية عظمى وهي الناقة خرجت لهم من الصخرة بناء على طلبهم الذي جعلوه شرطاً للإسلام ، والتصديق برسالة صالح عليه السلام . كان طريق قوافل الحاج القادمة من الشام تمر بجبل الطاق الذي عقرت فيه ناقة صالح ، ثم مبرك الناقة ، ثم قرى صالح ، ثم ديار ثمود التي نحتوها من الجبال ، وفيها مسجد النبي صالح عليه السلام ، ثم تصل القوافل إلى العلا التي تبعد عن المدينة ست مراحل وهي من ملحقاتها ، لتكون موعظة وعبرة وتذكيراً بآيات القرآن ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ) . ومن الإعجاز في الحج أن كل بلد وما خلفه لهم طريق خاص لذا تعددت المواقيت إلى الحج ، وهي ثابتة إلى يوم القيامة ، ليكون من مصاديق [وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ) أي يأتوك من كل جهة ومصر وحدب على كل ضامر . الثاني : تكذيب قريش ومن والاهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع مجيئه بالمعجزات، وتوالي نزول آيات القرآن عليه ، وكل آية معجزة من جهات : الأولى : نزول الآية القرآنية من عند الله . الثانية : عدم نزول الآية القرآنية قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم تنزل آيات قرآنية بعده . الثالثة : تجلي الإعجاز في مضامين الآية القرآنية . الرابعة : دلالات الآية القرآنية . الخامسة : صلة الآية القرآنية مع آيات القرآن الأخرى . واقتباس الدروس واستنباط المسائل منها ، وقد خصصت باباً في تفسير كل آية عنوانه في سياق الآيات لصلة آية البحث بالآيات المجاورة ، ومنه هذه السطور (قانون التحدي بالأقصر ) . لقد عجز الناس في كل زمان وفي أيام التنزيل عن الإتيان بمثل آيات القرآن ، وقد وقف أساطين البلاغة من قريش متحيرين وفي حال دهشة عند سماعهم آيات القرآن ، وظلوا صاغرين أمام آيات الإنذار والوعيد إلى القلوب ، وتجرأ بعضهم وأدعى إمكان إتيانه بمثله دون دليل ، قال تعالى [إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ] ( ) . ولم يكتف القرآن بذكر قولهم وشهادة الواقع والوجدان على بطلانه ، وفضح تقادم الأيام له ، إنما نزل التحدي متعدداً من وجوه : الأول : التحدي العام كما في قوله تعالى [أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ] ( ) فقال المشركون أن النبي محمداً اختلقه وافتراه من عند نفسه . ومن إعجاز الآية أعلاه مجيؤها بصيغةالفعل المضارع لبيان تجدد مثل هذا القول في الأزمنة اللاحقة ، لذا تضمنت آية البحث الأمر بالصبر والخشية من الله بقوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( ) وليكون من معاني عزم الأمور نفع الصبر والتقوى في الحال والمستقبل . الثاني : التحدي الخاص بعدد من سور القرآن من غير تعيين أو حصر لها ، وقال تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ] ( ). ومن الإعجاز في هذا التحدي أن بعض سور القرآن قصيرة مثل سورة الكوثر وسورة العصر وسورة النصر ، وكل واحدة منها تتألف من ثلاث آيات . الثالث : التحدي الأخص المتكرر والفرد ألأقل من الآيات والسور بقوله تعالى [وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ) وقال تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ). وكما أن الله عز وجل يعطي بالأتم والأكمل مما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه ، فانه تعالى يتحدى بالأقل والأدنى من فضله وآياته ، لبيان أن هذا الأقل عظيم في السموات والأرض ، وهو من مصاديق إحكام الآيات من عند الله ، وإلى جانب التحدي بأقصر السور فقد جاء التحدي باقل المخلوقات خلقاً وعملاً ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ] ( ). وهل عدم خلق الذباب للصرفة عنه ، أم للعجز ، الجواب هو الثاني مع ضعف وصغر هذه الحشرة ، فلم يأت التحدي بالأكبر كالبقرة والفيل ، والذي تدل عليه الآية أعلاه من باب الأولوية القطعية . لقد جعل الله عز وجل في الأرض مئات الملايين من الذباب ، ولا يعلم نفعها إلا الله ، كما أن وجودها في مكان يدل على قذارته أو قلة نظافته أو المكان القريب معه ، فان قيل يصنع العلماء فوجاًمن الذباب ويطير في الجو ، الجواب هذا ممكن ولكنه لا يطابق الذباب في خلقته وعمله وعمره وقدرة الذباب على التكييف والعيش مع كل الأحوال البيئية . ومن أسرار خلق الذباب كثرة أنواع الذباب ، وذباب المنازل عشرة أنواع من بين مائة ألف نوع منها ، ويتكون جسم الذبابة من رأس وصدر وبطن ، وللذبابة عينيان في كل واحدة منها قرنية وشبكية وقزحية ، وفي كل واحدة أربعة آلاف عدسة مع أن مساحة العين الواحدة نصف ملميتر وتعمل وتطير الذبابة بجد ونشاط مع أن وزن دماغها جزء واحد من مليون من الغرام ، وفيها مليون خلية عصبية وتسعة ملايين خلية جسمانية . ولكن ارتقى العلم وكثرت الصناعات التكنلوجية ليكشف العلماء أسرار في المخلوقات ، وتصل هذه الأسرار إلى عامة الناس ، لتكون من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ). هل يشمل التحدي الإستنساخ كما في استنساخ النعجة دولي ، الجواب نعم ، وإن كان هذا الإستنساخ من خلية حية من ذات الجنس . ويمكن القول أن الحياة الدنيا دار التحدي ، إذ تبرز ضروب ومصاديق التحدي للناس مجتمعين ومتفرقين في كل ساعة من ساعات وجودهم في الدنيا ، ويغادرها جيل ليأتي جيل آخر وتعرتضه تلك الآيات في اليوم والليلة مع غيرها من الآيات الخاصة والعامة ، والثابتة والطارئة ، وجاء العلم الحديث ليبين إعجاز القرآن في إخباره عن المغيبات . وهل يختص التحدي في قوله تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ) في الصيغة والمضمون والكلمات عن الآية والسورة القرآنية أيام نزولها ، وفي الأجيال اللاحقة ، الجواب هو الثاني . ومن الإعجاز في هذا التحدي التكرار وعدم التقييد بسورة مخصوصة من جهة كثرة الآيات والكلمات والموضوع والدلالة ، ليتبادر إلى الذهن إرادة التحدي بأقل السور كلمات وآيات ، وهي سورة الكوثر إذ أن عدد آياتها ثلاث آيات عدا البسملة ، وعدد كلماتها (41) كلمة ، وتشمل التحدي موضوع الآية من جهات : الأولى :أسباب النزول وأنها مؤاساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قال ابن عباس : نزلت هذه السورة في العاص بن وائل ابن هشام بن سعيد بن سهم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخرج من المسجد وهو يدخل فالتقيا عند باب بني سهم وتحدّثا وأناس من صناديد قريش في المسجد جلوس، فلما دخل العاص قالوا له : من الذي كنت تحدث؟ قال : ذاك الأبتر، يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان قد توفى قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان من خديجة، وكانوا يسمّون من ليس له ابن أبتر، فسمّته قريش عند موت إبنه أبتر وصنبوراً فأنزل الله سبحانه {إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}( ) ) ( ). الثانية : توجه خطاب الإكرام من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان عظيم منزلته ومنزلة الآنبياء عند الله عز وجل ، والملائكة ، وفيه دعوة للمسلمين والناس لإكرامه والإنصات له ، قال تعالى [لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ). الثالثة : مجئ الآية بصيغة الماضي [أَعْطَيْنَاكَ] وفيه دعوة للناس لرصد ما عطى الله رسوله . ومن معاني الكوثر : الأول : الخير الكثير . الثاني : الفضل العظيم . والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] ( ). الثالث : ما ورد في حديث الإسراء إذ رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعمى عظمى هو نهر سلسبيل . الرابع : وعن الإمام الصادق عليه السلام (أنه قال: نهر في الجنة أعطاه الله نبيه عوضا من ابنه) ( ). الخامس : الكوثر هو النبوة والكتاب ، نسب إلى القيل( ). السادس : القرآن ، فهو الكوثر والمعين الذي لا ينضب . السابع : كثرة النسل والذرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى يوم القيامة بواسطة فاطمة عليها السلام ، ونيلهم الشرف والشأن بين الناس. وهو لا يتعارض مع كونه في الجنة (عن أنس بن مالك قال: أغفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إغفاءة، فرفع رأسه مبتسما، إما قال لهم وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إنه أنزلت عليَّ آنفا سورة”. فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } حتى ختمها. قال: “هل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: “هو نهر أعطانيه ربي، عز وجل، في الجنة، عليه خير كثير، تردُ عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يُخْتَلَج العبد منهم فأقول: يا رب، إنه من أمتي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) ( ). ومن إعجاز الآية لزوم قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشكر لله عز وجل باقامة الصلاة وأداء المناسك . المسألة الرابعة :من إعجاز آية السياق أنها لم تقل (فان كذبوك فقد كذب رسلاً ) إنما ورد لفظ [رسل]من جهتين : الأولى : صيغة نائب الفاعل . الثانية :لغة التنكير ، ولم تقل (كذب الرسل ). ومن الإعجاز في المقام ورود لفظ [ الرسل] معرفاً بالألف واللام بآيات تدل في معناها على إرادة العهد ، وليس العموم الإستغراقي للرسل ، كما في : الأول : قوله تعالى [وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ] ( ) فحصرت الآية التكذيب هنا بأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب الذي هو خطيب الملائكة (قال ابن إسحاق : هو شعيب بن ميكيل بن إسحاق بن مدين بن إبراهيم واسمه بالسريانية يثروب وأُمّه ميكيل بنت لوط وكان شعيب أعمى) ( ) و (تبع) ملك اليمن ، وسمّي تبعاً لكثرة أتباعه ، والأرجح أن التسمية لعموم ملوك اليمن ، إذ يسمون التبايعة كما يقال الأقيال للأعم منهم ، ويسمى كسرى ملك الفرس ، وقيصر ملك الروم ، والنجاشي ملك الحبشة ، وذكر أن تبعاً هو الذي كسا البيت الحرام. وكان يعبد النار فأسلم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصدّ عنه قومه حمير ، وقيل تحاكموا إلى نار مخصوصة عندهم كانت تأكل الذي على غير الحق عند الخصومة . كما في خبر الثعلبي باسناده عن محمدبن أسحاق الذي لم يرفع أو يسند الخبر ، قال (كان تبّع نزل بهم قبل ذلك، فقتل رجل منهم، من بني عدي بن النجّار، يقال له : أحمر، رجلاً من صحابة تبّع، وجده في عذق له بجدة فضربه بنخلة فقتله. وقال : إنّما التمرة لمن أبره، ثمّ ألقاه حين قتله في بئر من آبارهم معروفة. يقال لها : ذات تومان، فزاد ذلك تبعاً حنقاً عليهم، فبينا تبّع على ذلك من حربهم يقاتلهم ويقاتلونه. قال : فيزعم الأنصار أنّهم كانوا يقاتلونه بالنهار، ويقرونه بالليل، فيعجبه ذلك، ويقول : والله إنّ قومنا هؤلاء لكرام، إذ جاءه حبران من أحبار يهود بني قريظة، عالمان راسخان، وكانا ابني عمرو، وكانا أعلم أهل زمانهما، فجاءا تبّعاً حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة، وأهلها، فقالا له: أيّها الملك لا تفعل، فإنّك إن أتيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم يأمن عليك عاجل العقوبة . فقال لهما : ولِمَ ذاك؟ قالا : هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحيّ من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره، فتناهى لقولهما عمّا كان يريد بالمدينة، ورأى أنّ لهما علماً، وأعجبه ما سمع منهما، أنّهما دعواه إلى دينهما، فليتبعهما على دينهما . فقال تبع في ذلك : ما بال نومك مثل نوم الأرمد، أرقا كأنك لا تزال تسهد حنقاً على سبطين حلاّ يثرباً أولى لهم بعقاب يوم مفسد ولقد هبطنا يثرباً وصدورنا تغلي بلابلها بقتل محصد . ولقد حلفت يمين صبر مؤلياً قسماً لعمرك ليس بالتمردد أن جئت يثرب لا أغادر وسطها عذقاً ولا بسراً بيثرب يخلد حتى أتاني من قريظة عالم خبر لعمرك في اليهود مسود قال ازدجر عن قرية محفوظة لنبي مكّة من قريش مهتد فعفوت عنهم عفو غير مثرب وتركتهم لعقاب يوم سرمد وتركتهم لله أرجو عفوه يوم الحساب من الجحيم الموقد ولقد تركت بها له من قومنا نفراً أُولي حسب وبأس يحمد نفراً يكون النصر في أعقابهم أرجو بذاك ثواب ربّ محمّد فلمّا (……) تبع إلى دينهما أكرمهما وانصرف عن المدينة، وخرج بهما إلى اليمن ولمّا (دنا من) اليمن ليدخلها حالت حِمْير بينه وبين ذلك، وقالوا : لا تدخلها علينا، وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه . وقال : إنه دين خير من دينكم. قالوا : فحاكمنا إلى النار. وكانت باليمن نار في أسفل جبل يقال له : ندا، يتحاكمون إليها، فيما يختلفون فيه، فتحكم بينهم، تأكل الظالم، ولا تضرّ المظلوم، فلمّا قالوا ذلك لتبّع. قال : أنصفتم، فخرج قومه بأوثانهم، وما يتقرّبون به في دينهم، وخرج الحبران، مصاحفهما في أعناقهما متقلّداهما، حتّى قعدوا للنّار عند مخرجها التي تخرج منه، فخرجت النار إليهم، ولمّا أقبلت نحو حِمْير، حادوا عنها، وهابوها فدعاهم من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر لها؛ فصبروا حتّى غشيتهم، فأكلت الأوثان، وما قربوا معها، ومن حَمَلَ ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران ومصاحفهما في أعناقهما، يتلون التوراة، تعرق جباههما، لم تضرّهما، ونكصت النار حتّى رجعت إلى مخرجها الذي خرجت منه، فأطبقت حمير عند ذلك على دينهما. فمن هناك كان أصل اليهودية باليمن. وكان لهم بيت يعظمونه، وينحرون عنده، ويكلّمون منه، إذا كانوا على شركهم، فقال الحبران القرظيان، واسماهما كعب وأسد لتبّع : إنّما هو شيطان (يفنيهم ويلغيهم)، فخلّ بيننا وبينه. قال : فشأنكما به. فاستخرجا منه كلباً أسود، فذبحاه، ثمّ هدما ذلك البيت، فبقاياه اليوم باليمن كما ذكر لي) ( ). وكما في قوله تعالى [فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمْ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ] ( ) . (عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم) ( ). (وعن ابن عباس : كان نبياً) ( ). لبيان مسألة وهي تعدد الرسل والأنبياء الذين بعثهم الله عز وجل إلى كل من عاد وقوم هود ، وثمود قوم صالح . وهل يمكن إستقراء مسألة من التباين بين لفظ (رسل) و(الرسل) أن هناك رسلاً تلقاهم قومهم بالتصديق ، ولم يكذبهم أحد ، الأقرب نعم ، كما في آدم عليه السلام فانه نبي رسول ، ولم يرد تكذيب بعض أولاده له ، وهذا التباين في اللفظ من إعجاز القرآن . ومن الإعجاز في تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن آدم رسول نبي ، أي أنه لم يكن نبياً فقط . وقد يستدل بأن نوحاً هو أول الرسل بما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ويستدل بأن نوحاً أول الرسل بما ورد عن أبي هريرة في حديث يوم القيامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال (فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سمّاك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك) ( ) . ولكن المراد أن نوحاً أرسل إلى الناس والمجتمعات ، وبيان أحكام الشريعة أما آدم فانه نبي رسول من عند الله عز وجل قبل أن تكون ذرية وأحفاد ، فآدم عليه السلام نبي رسول (عن أبي ذر قلت : يا رسول الله من أول الأنبياء؟ قال : آدم . قلت : نبي كان؟ قال : نعم مكلم . قلت : ثم من؟ قال : نوح وبينهما عشرة آباء) ( ). ثم أن مسألة الفرق بين النبي والرسول ليست ظاهرة في كل آيات القرآن، فقد يأتي لفظ (النبيين ) ويراد منه (الأنبياء والرسل ) وقد يأتي لفظ الرسل ويراد منه الأنبياء والمرسلون جميعاً . ويعرف التعيين وإفادة الرسل دون الأنبياء من القرائن من وجوه : الأول : النص ودلالته على مجئ الرسول بشريعة مبتدأة . الثاني : الأمارات والقرائن . الثالث : السنة النبوية . وإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كون عدد من الأنبياء نالوا مرتبة الرسالة , وذكر (أن أبا ذر قال : يا نبي الله أي الأنبياء كان أوّل؟ قال : آدم . قال : أو نبي كان آدم؟ قال : نعم . نبي مكلم ، خلقه الله بيده ، ثم نفخ فيه من روحه ، ثم قال له يا آدم قبلاً . قلت : يا رسول الله كم وفى عدة الأنبياء؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً . الرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر . جماً غفيراً) ( ). وهل اُبتلي الأنبياء والرسل بمثل ما ذكرته آية البحث في إِبتلاء المسلمين بالأموال والأنفس ، الجواب نعم . بالإضافة إلى أن ذات تكذيب الأنبياء إبتلاء لهم ، وتقدير الآية : لتبلون في أموالكم وأنفسكم كما أبتلي الرسل من قبل . وهل سمع الأنبياء والرسل أذى كثيراً من الذين أشركوا ، الجواب نعم. المسألة الخامسة : جاءت آية السياق خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل يمكن تقدير الآية بلحاظ لغة الخطاب الموجهة للمسلمين ، الجواب نعم ، وتقديرها : فان كذبوا رسولكم كما كذب رسل من قبله مع مجئ كل واحد منهم بالبينات والبرهان الذي يدل على نبوته . ليكون من معاني الجمع بين الآيتين بقاء لغة الخطاب للآية القرآنية حية وحاضرة في كل زمان خاصة وأن التكذيب بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا ينحصر بزمانه دون الأزمنة الأخرى . وجاء زمان العولمة وتداخل الحضارات وتقارب الأمم ، وظهور الأراء بواسطة شبكة التواصل الإجتماعي ، ووسائل الإعلام التي ترصد الأحداث والوقائع ، لتكون كل من آية البحث والسياق مواساة للمسلمين ، وليكون من الإعجاز ورود قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( ). يمكن تقدير آية البحث : وإن يكذبوا رسولكم . ترى كيف يواجه المسلمون هذا التكذيب ، الجواب قد تضمنت آية البحث كيفية المواجهة وتتألف من وجهين : الأول : الصبر . الثاني : التقوى والخشية من الله عز وجل . وفيه شاهد على ان الإسلام دين الرحمة والرأفة والصبر ، وأن القرآن ينهى عن البطش والإنتقام والإرهاب . ومن دلالات آية البحث أنها توصي المسلمين بالصبر والتقوى ، ليكون من معاني الجمع بينهما الإحتجاج بالبرهان ، والرد بالحكمة على الذين يكذبون بالنبوة مع الإتيان بالدليل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشرائع الإسلام . ومن هذا الدليل آيات القرآن ومضامنيها القدسية ودلالاتها . وقد رغّب القرآن بكظم الغيظ ، والعفو عن الناس مطلقاً ، قال تعالى [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ). ومن معاني الجمع بين الآيتين صدق إيمان المسلمين وتحملهم الأذى في مرضاة الله ، فهم يسمعون تكذيب المشركين للرسالة ، ويبتلون في أموالهم وأنفسهم ، وإذا ما نودي إلى الصلاة سارعوا إليها بشغف ورغبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( ) وهل أداء الصلاة في أوقاتها من عزم الأمور ، الجواب نعم . وهي من مصاديق الصبر ، والتقوى ليكون من فضل الله عز وجل على الناس إتيانهم بفعل متحد ليكون مصداقاً للإمتثال لعدة أوامر ، وهل يكون الثواب متحداً أم متعدداً ، الجواب هو الثاني ، فيثاب المؤمن لأنها على وجوه : الأول : الصلاة عبادة . الثاني : إنها صبر في طاعة الله وإعراض عن الذين كفروا . الثالث : الصلاة من سنن التقوى ، فالمتقون هم الذين يعمرون الأرض بالصلاة . الرابع : المواظبة على الصلاة من عزائم الأمور . المسألة السادسة : لقد ذكرت آية السياق ما جاء به الأنبياء والرسل من قبل من وجوه : الأول : البينات والدلالات الواضحات على صدق نبوتهم ومجيئهم رسلاً مبعوثين من عند الله عز وجل . الثاني :الوحي والتنزيل من عند الله سبحانه . الثالث : الكتاب والشرائع وأحكام الحلال والحرام بقوله تعالى في آية السياق [جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ] ( )وفيه مسائل : الأولى : إقامة الحجة على الذين كفروا من الأمم السابقة . الثانية : الإخبار عن قانون وهو مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبينات والبراهين والحجج التي تدل على صدق رسالته ، والذي تدل عليه كل من آية البحث والسياق بقوله تعالى [فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ] ( ) . الثالثة : بيان قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله رزقه الله ما رزق الأنبياء وفضله بلغة الخطاب في آية السياق ، وما فيها من الشهادة للأنبياء والرسل السابقين من جهات : الأولى : شهادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على رسالتهم ، قال تعالى [فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا] ( ). الثانية : تصديق المسلمين ببعثة الأنبياء والرسل السابقين ، فمن الشواهد على فضائل المسلمين ودرجة إيمانهم تصديقهم بكل الأنبياء والرسل السابقين ، قال تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ] ( ) ومن معاني التصديق بالرسل وجوه : الأول : الإقرار بأن الله بعث في كل أمة رسولاً يدعوهم إلى عبادته سبحانه وحده ، قال تعالى [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ). الثاني: التسليم بقيام الرسل بالتبليغ على أتم وجه ، قال تعالى [فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ). الثالث : التقيد بالأوامر والنواهي التي جاء بها الرسل. الرابع : إقامة الصلاة إذ تتقوم بها السماوات والأرض . الثالثة : إقتباس المسلمين دروس الصبر من سيرة الأنبياء السابقين وإتباعهم ، فكما يتأذى المسلمون من تكذيب كفار قريش لنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونعته بأنه ساحر وشاعر ومجنون ، فقد نعت المشركون في الأمم السابقة الأنبياء بذات الوصف ، قال تعالى [كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ] ( ) . الرابعة : ترغيب المسلمين للأقتداء بالأنبياء بالفرار إلى الله ، والإستعاذة به من شرور القوم الكافرين ،فان طريق الإيمان ليس معبداً . وإذ ذكرت آية السياق تكذيب الأمم السابقة للأنبياء ، وأشارت إلى تكذيب شطر من الناس لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فقد توجهت آية البحث بالخطاب إلى المسلمين بالمواساة والإعجاز فيما يصيبهم من الإبتلاء مما يدل على أن قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد إيذاءً له وللمسلمين من غير أقوام الأنبياء السابقين . وتبين الآية مسألة وهي أن أذى كفار قريش يلحق المسلمين والمسلمات، وليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده ، وتقدير آية السياق : فقد كُذب رسل من قبلك ، أما أنت فان قومك يكذبونك ويؤذونك وأصحابك في أموالهم وأنفسهم . ويستمر الأذى الموجه لهم في حياتك وبعد مماتك . وهل في الآية أمر من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة المسلمين للصبر على الأذى من غير تفريط بالوظائف العبادية ، الجواب نعم . ومن الرسل السابقين وأصحابهم وأنصارهم من سمع الأذى من أهل الكتاب من قبلهم ، ومنهم من لم يسمع الأذى منهم ، أما المسلمون فأنهم يسمعون الأذى من القريب والبعيد بلحاظ أن أهل الكتاب أقرب إليهم من المشركين الكفار ، نعم ليس كل أهل الكتاب يؤذون المسلمين بالتشكيك بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتكذيب بها ، ومؤاخذتهم على إسلامهم أو على بعض أحكام الشريعة ، كما في تحويل القبلة ، كما قال تعالى [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ). ويحتمل بلاء المؤمنين بأموالهم وأنفسهم بلحاظ الفرار إلى الله عز وجل وجوهاً : الأول : إنه من الفرار من الله . الثاني : إنه طريق إلى الفرار إلى الله . الثالث : لا صلة للموضوع بالفرار إلى الله . الرابع : فرار المؤمنين إلى الله سبب للإبتلاء بالأموال والأنفس . وباستثناء الوجه الثالث أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق آية البحث من غير أن يلزم الدور بين صيرورة الفرار إلى الله نتيجة وغاية كما في الوجه الثاني ، ومن كونه سبباً للإبتلاء للتباين الجهتي ، والقصد والنية ، لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى [فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( ). المسألة السابعة : لقد ذكرت آية السياق ما جاء به الأنبياء والرسل من قبل من وجوه : الأول : البينات والدلالات الواضحات على صدق نبوتهم ، ومجيئهم رسلاً مبعوثين من عند الله عز وجل . الثاني : الوحي والتنزيل من عند الله , قال تعالى [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا] ( ) . الثالث : الكتاب والشرائع وأحكام الحلال والحرام . ومن المقاصد السامية في آية السياق بيان أحوال الأمم السابقة ، وهل هي من عمومات قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ) الجواب نعم ، وفي الآية دعوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم للإجتهاد في التبليغ ، وعدم الإلتفات إلى تكذيب كفار قريش لرسالته ، لتكون هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من رشحات آية السياق في مواصلة الجهاد والتبليغ والإقامة على الصبر . وهل في تكذيب الكفار للرسل بلاء لهم ، الجواب نعم ، فقد أبتلي الأنبياء واتباعهم وأنصارهم في أموالهم وأنفسهم ، وهو من معاني الجمع بين آية البحث والسياق مع مائز للمسلمين وهو أن الأذى جاءهم متعدداً من الكفار ، ومن طائفة من أهل الكتاب من قبلهم ، كما تدل عليه آية البحث . المسألة الثامنة : كل من آية البحث والسياق حجة على الذين كفروا في موضوعها ودلالتها ، إذ أخبرت آية السياق عن مجئ الأنبياء السابقين بالحجج المتعددة على نحو دفعي . ولو دار الأمر بين مجئ كل رسول بآية واحدة مما ذكرته آية السياق أو كل الآيات وهي : الأولى : البينات . الثانية : الزبر وهي الكتب والمراد الكتب السماوية والوحي . الثالثة : الكتاب المنير الذي ينير مسالك الرشاد للناس بتضمنه الأحكام الشرعية ، وبيانه للحلال والحرام . فالمختار هو مجئ كل رسول بالمعجزات أعلاه كلها ، وأن كل رسول يأتي بالمعجزة الحسية ، وينطق بالوحي ، ويبين أحكام الشريعة مما يأمره الله عز وجل به ، لبيان عظيم وظيفة الرسول وأن كل يوم من أيام حياته جهاد في سبيل الله ، ودعوة للخير والهداية والصلاح . المسألة التاسعة : لقد أخبرت آية السياق عن تكذيب شطر من الناس للرسل السابقين ، فهل لهذا التكذيب من أثر في البلاء الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون . الجواب نعم ، وكان المكذبون بالرسالات يوحي بعضهم إلى بعض مناهج التكذيب والإفتراء مع التباين في أزمنتهم ، والجامع بينهم النفس الغضبية والشهوية، وحب الدنيا والإستكبار وإغواء الشيطان ، وحربه على النبوة وأهل الإيمان ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] ( ). وأختلف هل لإبليس أولاد ، والقائل بالإيجاب استدل بظاهر قوله تعالى [أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً] ( ) وعن مجاهد في الآية أعلاه قال (ذرّيته: هم الشياطين، وكان يعدّهم “زلنبور صاحب الأسواق ويضع رايته في كلّ سوق ما بين السماء والأرض، و “ثبر” صاحب المصائب، و “الأعور” صاحب الزنا و”مسوط” صاحب الأخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس، ولا يجدون لها أصلا و”داسم” الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر الله( ) بصره من المتاع ما لم يرفع، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه) ( ). (عن قتادة( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي )…. الآية، وهم يتوالدون كما تتوالد بنو آدم، وهم لكم عدوّ) ( ). ولا أصل لذكر أولاد ابليس وتقسيم أعمالهم . (وأخرج الطبراني وابن عساكر عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : دخل إبليس العراق فقضى منها حاجته ، ثم دخل الشام فطردوه حتى بلغ بيسان ، ثم دخل مصر فباض فيها وفرخ وبسط عبقرية) ( ). ولم يثبت هذا الحديث إذ عاد السيوطي وجعله في كتابه اللآلي المصنوعة من الأحاديث الموضوعة ، إذ قال ((الأزدي) حدثنا عبد الله بن زياد حدثنا أحمد بن عبد الرحمن حدثنا عمي عبد الله بن وهب أخبرني يحيى بن أيوب وابن لهيعة عن عقيل عن ابن شهاب عن يعقوب بن عتبة بن الأخنس عن ابن عمر مرفوعا : إن إبليس دخل العراق فقضى حاجته منها ودخل الشام فطردوه حتى بلغ ميسا ثم دخل مصر فباض فيها وفرخ وبسط عبقرية لا يصح عقيل بن خالد يروي عن الزهري مناكير ويحيى بن أيوب ليس بالقوي وابن لهيعة مطروح وأحمد بن أخي بن وهب كذاب (قلت) كلا بل أحمد ثقة روى له مسلم وقال ابن عدي كل ما أنكروه عليه فمحتمل وإن لم يروه غيره لعل عمه خصه به) ( )( ). وذكره ابن الجوزي في الموضوعات . ويحتمل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فباض فيها وفرخ) في باب المثال وكثرة الإفتتان به في السوق ، وإذا ورد الإحتمال بطل الإستدلال . وعن أبي العلاء (عن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله ان الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا قال : ففعلت فأذهبه الله عني) ( ) . (وروي أن الله تعالى قال لابليس: لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها فليس أحد من ولد آدم ، إلا وله شيطان قد قرن به. وقيل: إن الشياطين فيهم الذكور والاناث يتوالدون من ذلك، وأما إبليس فان الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرا وفي اليسرى فرجا فهو ينكح هذه بهذا فيخرج له كل يوم عشر بيضات) ( ). الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى [لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ]( ) ( )، وفيه مسائل : المسألة الأولى : جاءت آية السياق أعلاه بصيغة الجملة الخبرية ، وبيان وجوه : الأول : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن الناس إلى الإنفاق في سبيل الله . الثاني : بيان قانون في الحياة الدنيا وهو بذل المال في طاعة الله سواء على نحو الوجوب كالزكاة أو الندب والصدقة المستحبة لبيان مسائل : الأولى : المال امتحان وإختبار وإذا كان قوله تعالى [أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ]( )، خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فان آيات في ذات الموضوع توجهت بالخطاب إلى الناس جميعاً كما في قوله تعالى [وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ]( ). ومن العمل الصالح الإنفاق بقصد القربة إلى الله تعالى وإعانة الفقراء . الثانية : تسليم الجاحدين بأن الأمر بالصدقة والإنفاق في سبيل الله جاء من عند الله عز وجل وليس من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقولهم [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ]( ). لتدل الآية على حب الله للفقراء وإقامة الحجة على الأغنياء جميعاً بعلمهم بالأمر الإلهي بوجوب الإنفاق والبذل في سبيل الله . الثالثة : من وجوه الإنفاق في سبيل الله عز وجل إعانة المؤمنين لصد هجوم مشركي قريش وإغارتهم على أطراف المدينة ، وإرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وكانت جيوش المشركين في معركة بدر وأحد والخندق وحنين تتصف بأمور : الأول : كثرة عدد وأفراد جيوش المشركين ، فمثلاً كان عددهم في معركة الخندق عشرة آلاف مقاتل أحاطوا بالمدينة وحاصروها والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في داخلها لأكثر من عشرين ليلة . الثاني : إنفاق قريش للأموال الطائلة في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] ( ). الثالث : تنظيم جيوش المشركين ، ووجود رؤساء عامين للجيش ورؤساء كتائب وسرايا ، وتتولى قريش هذه الرئاسة . أولاً : قيام رؤساء قريش بالتحريض على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وطوافهم على القبائل لهذا الغرض ، ومرافقة الشعراء لهم بالقاء القصائد التي تتضمن مسائل : الأولى : الثناء على هذه القبائل. الثانية : تذكير هذه القبائل بحلفها وتعاونها مع قريش . الثالثة: الذم والسخرية من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . لقد اتخذت قريش الشعراء آلة إعلامية لهجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصدّ الناس عن الإسلام فتنزل آية قرآنية لتنسخ أقوال وافتراء الشعراء ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن . ثانياً : إنفاق قريش على شؤون الجيش ، ومقدمات القتال . ثالثاً : إغداق قريش على رؤساء القبائل وتسليمهم المال ، وإرجاء ما عليهم من الديون من غير تحميلها أرباحاً ربوية إذ كان الربا في الجاهلية على وجوه منها : الوجه الأول : يبيع الرجل العين والبيع على رجل آخر إلى أجل مسمى من غير ربا بيع نسيئة ، فاذا جاء الأجل قال البائع : أتقضي أم تربي ، أي تزيد في مال القرض ، ويرجئ القضاء إلى عام مثلاً ، وهذا الربا لا يكون ضعفاً بالضرورة فقد يكون أقل من الضعف بحسب الإتفاق والمدة . الوجه الثاني : يعرض المدين عند حلول الأجل ، الزيادة فيه والزيادة في المال ، أي أن العرض يأتي من المدين ، وقد يرضى الدائم أو يطلب مضاعفة المال أو قصر الآجل . و(عن عطاء قال : كانت ثقيف تداين بني المغيرة في الجاهلية ، فإذا حل الأجل قالوا : نزيدكم وتؤخرون عنا . فنزلت [لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( ). وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال : إن الرجل كان يكون له على الرجل المال ، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه فيقول المطلوب : أخِّر عني وأزيدك في مالك فيفعلان ذلك . فذلك [الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] فوعظهم الله [وَاتَّقُوا اللَّهَ]( )، في أمر الربا فلا تأكلوا [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] لكي تفلحوا [وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( )، فخوف آكل الربا من المؤمنين بالنار التي أعدت للكافرين [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ] ( )، يعني في تحريم الربا [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، يعني لكي ترحموا فلا تعذبون)( ). ووردت الرواية بأن قريشاً هم الذين يربون أموالهم في ثقيف ، ويقرضونهم مع الزيادة عند حلول الأجل ، و(عن السدي في قوله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا]( )، الآية . قال : نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ، ورجل من بني المغيرة ، كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى ناس من ثقيف من بني ضمرة وهم بنو عمرو بن عمير ، فجاء الإِسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله [وَذَرُوا مَا بَقِيَ] من فضل كان في الجاهلية [مِنْ الرِّبَا])( ). وهذا المعنى هو الأنسب لأن قريشاً كانت ذات أموال وتجارة ، وهو لا يتعارض مع قيام بعض رجالات من ثقيف بتسليف قريش الأموال إذ تحتاجه قريش في تجارتهم إلى الشام واليمن ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ). رابعاً : تولي قريش لشؤون البيت الحرام ، وما فيه من عظيم الشأن بين القبائل ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ). الثالث : كثرة أفراد وسرايا الجيوش ، وتولي قريش الإنفاق العام في الجملة ، وحضور أفراد الجيش والقبائل بالوقت والمكان المتفق عليه مع رؤساء قريش . وكان الإقتراض والربا شائعاً عند قريش وعموم أهل مكة والقرى المحيطة بها ، وذكر أن قريشاً استلفت أموالاً من عموم أهل مكة في قافلة أبي سفيان والتي كانت تتألف من ألف بعير ، وهي السبب الظاهر لمعركة بدر ، إذ بعث أبو سفيان خبراً إلى قريش بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يريدون الإستيلاء على القافلة ، ولما كان عامة أهل مكة لهم أموال في هذه القافلة تناجوا في ثلاثة أيام للخروج والقتال ، ونذكر هنا مسائل : الأولى : هل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقصد الإستيلاء على القافلة عند عودتها من الشام محملة بالبضائع ، ومنها الذهب والفضة . الثانية : هل تعمد أبو سفيان ومن معه في القافلة تهييج قريش وعامة أهل مكة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بادعاء أنه يريد الإستيلاء على القافلة . وشواهد هذا المكر في التأريخ كثيرة خاصة مع التلبس بالكفر ، وعدم الخشية من الله عز وجل . الثالثة : هل كان اقتراض رجال القافلة من عموم أهل مكة قبل خروج القافلة الى الشام بقصد التحريض على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزّهْرِيّ ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَائِنَا عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، كُلّ قَدْ حَدّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ فَاجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ فِيمَا سُقْت مِنْ حَدِيثِ بَدْرٍ . قَالُوا : لَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ الشّامِ ، نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ وَقَالَ هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ فَاخْرُجُوا إلَيْهَا لَعَلّ اللّهَ يُنْفِلُكُمُوهَا . فَانْتَدَبَ النّاسُ فَخَفّ بَعْضُهُمْ وَثَقُلَ بَعْضُهُمْ وَذَلِكَ أَنّهُمْ لَمْ يَظُنّوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَلْقَى حَرْبًا وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ دَنَا مِنْ الْحِجَازِ يُتَحَسّسُ الْأَخْبَارَ وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مِنْ الرّكْبَانِ تَخَوّفًا عَلَى أَمْرِ النّاسِ . حَتّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرّكْبَانِ أَنّ مُحَمّدًا قَدْ اسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ لَك وَلِعِيرِك فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ . فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيّ ، فَبَعَثَهُ إلَى مَكّةَ ، وَأَمَرَ أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا فَيَسْتَنْفِرَهُمْ إلَى أَمْوَالِهِمْ وَيُخْبِرَهُمْ أَنّ مُحَمّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ . فَخَرَجَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو سَرِيعًا إلَى مَكّةَ ( ). والمختار أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يقصدوا الإستيلاء على قافلة أبي سفيان ، إنما أرادت قريش تعجيل القتال ، والإجهاز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ومن أسباب هذا التعجيل : أولاً : رؤية قريش وعامة الناس تزايد أعداد المسلمين . ثانياً : خروج السرايا من المدينة واتصالها بالقرى وأهل القبائل ودعوتهم للإسلام . ثالثاً : عقد يهود المدينة المواثيق مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي تدل بالدلالة التضمنية تصديقهم برسالتهم ، أو لا أقل امتناعهم عن محاربته والإجهار بتكذيبه ، خاصة وأنهم أهل كتاب فيلتفت ويتعظ الناس من هذه المواثيق بما ينفع في الدعوة إلى الإسلام بأرجح ، وأكثر من صدود وجحود كفار قريش الذي يقدسون الأصنام . وهل نقم كفار قريش على يهود المدينة ، المختار نعم ، ولكنهم لم ييأسوا منهم ، إذ كثرت إتصالاتهم معهم ، وتشجيع وتقريب من يقوم بالتحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في كعب بن الأشرف ، وهو من رؤساء يهود المدينة . المسألة الثانية : لقد أخبرت آية السياق عن سماع الله عز وجل لما قاله الجاحدون والذين يصدون عن الدعوة للإنفاق على الفقراء والبذل في سبيل الله ، لبيان قانون وهو [وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] ( ) . وهل قولهم هذا من مصاديق ابتلاء المسلمين بأموالهم وأنفسهم ، الجواب نعم ، إذ تدل دعوتهم للإنفاق وصدودهم عنها حاجة الإسلام للبذل والإنفاق في سبيل الله عز وجل ، فاذا تخلى الناس عن الإنفاق فان المسلمين يتحملون العبأ كاملاً ، وفيه البركة والأجر والثواب . إن قيام المهاجرين والأنصار بالإنفاق في سبيل الله باب للبركة ووسيلة ومقدمة للفتح والنصر والغلبة . وفيه حجة على الذين كفروا والمنافقين الذين امتنعوا عن دفع الزكاة والصدقة الواجبة والمستحبة . وهل من موضوعية لهذا الإنفاق والبذل في إتمام صلح الحديبية وتخلي قريش عن استكبارها وإمتناعهم عن الشروط التعجيزية ، الجواب نعم . المسألة الثالثة : لقد قال الذين كفروا واستكبروا [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ] ( ) وسخروا من دعوة القرآن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى البذل والإنفاق في سبيل الله ، وصيرورة هذا الإنفاق بمنزلة الإقراض إلى الله عز وجل . أما الذين آمنوا فأنهم يقولون : إن الله غني ونحن الفقراء ، وهذا القول عام يجب أن يتغشى الناس جميعاً في الدنيا والآخرة ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] ( ). لبيان أن الإنفاق في سبيل الله من مصاديق الفقر والفاقة إلى رحمة الله والحاجة الى عفوه ومغفرته ، وليس من حصر لوجوه الفقر إلى الله عز وجل، ومنها دعوته للبذل والإنفاق ، ومنها الإبتلاء بالأموال والأنفس وصرف أذى المشركين عن كل من : الأول : آيات التنزيل وأحكام التأويل . الثاني : النبوة ومعجزاتها . الثالث : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . الرابع : أهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار . الخامس : أحكام الحلال والحرام . وهل قول لجاحدين [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ] ( )من حربهم على هذه الأحكام ، الجواب نعم . ليكون هذا القول من أسباب ابتلاء المسلمين في أموالهم وأنفسهم ، وإداء الكفار الإضرار بهم من غير وجه حق . ويكون من معاني الجمع بين آية البحث والسياق صبر المسلمين على أذى الذين كفروا ، والإجتهاد في أداء الوظائف العبادية البدنية من الصلاة والصوم والمالية من الزكاة والخمس ، والبدنية المالية وهو أداء الحج والعمرة، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ). (عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله ، الدرهم بسبعمائة ضعف . وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله ، الدرهم بسبعمائة . وأخرج أبو داود والحاكم وصححه عن معاذ بن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الصلاة والصيام والذكر تضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف) ( ). المسألة الرابعة : لما أخبرت آية البحث عن سماع المؤمنين أذى كثير من المشركين ذكرت آية السياق صفحة من هذا الأذى بتجاوزهم على مقام الربوبية وسنن التوحيد ، لبيان مسألة وهي أن الأذى الذي يأتي من المشركين لا يختص بالأموال ونفوس المؤمنين ، إنما يشمل تجاهر المشركين بالكفر ومفاهيم الضلالة ، لأن الله عز وجل دعاهم إلى الإنفاق ، وقال سبحانه [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ] ( ). وقد جاء الأنبياء السابقون بالأمر بالإنفاق في سبيل الله ، وهل وردت الكتب السماوية السابقة باقراض الله عز وجل بالإنفاق في سبيله وإعانة الفقراء ، الجواب نعم . منه : (15: 1 في اخر سبع سنين تعمل ابراء 15: 2 و هذا هو حكم الابراء يبرئ كل صاحب دين يده مما اقرض صاحبه لا يطالب صاحبه و لا اخاه لانه قد نودي بابراء للرب 15: 3 الاجنبي تطالب و اما ما كان لك عند اخيك فتبرئه يدك منه 15: 4 الا ان لم يكن فيك فقير لان الرب انما يباركك في الارض التي يعطيك الرب الهك نصيبا لتمتلكها) ( ). ومنه : (15: 10 ويل لي يا امي لانك ولدتني انسان خصام و انسان نزاع لكل الارض لم اقرض و لا اقرضوني و كل واحد يلعنني 15: 11 قال الرب اني احلك للخير اني اجعل العدو يتضرع اليك في وقت الشر و في وقت الضيق 15: 12 هل يكسر الحديد الحديد الذي من الشمال و النحاس 15: 13 ثروتك و خزائنك ادفعها للنهب لا بثمن بل بكل خطاياك و في كل تخومك) ( ). إعجاز الآية الذاتي من إعجاز الآية أنها ذكرت الأذى ، ولم تقل : ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب ضرراً قليلاً أو كثيراً ) لأن الأذى الكثير أدنى مرتبة من الضرر القليل ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) لبيان فضل الله عز وجل في حجب الضرر عن المسلمين . ومن مصاديق هذا الحجب عجز المشركين عن تحقيق النصر في معركة بدر أو معركة أحد أو معركة الخندق . ترى لماذا قالت الآية أعلاه [أَذًى] من غير وصفه بالكبير ، بينما ذكرت آية البحث سنخية الأذى بأنه كبير ، فهل هو من المطلق والمقيد . ويكون تقدير الآية أعلاه (لن يضروكم إلا أذى كثيراً ) الجواب لا ، للتباين الموضوعي فالأذى الكثير الذي ذكرته آية البحث إنما في السماع ، ومنه الإستهزاء بالتنزيل والصلاة ، وإنكار معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالساحر ، وقالوا [وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ] ( ) ونعت النبي بالساحر (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ) ( ). لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يلاقي أشد الأذى ويصبر ويعفو ، ويدعو للذين يؤذونه بالهداية وفيه دعوة نبوية للمسلمين لتحمل الأذى سواء الذي يقع على الأموال أو الأنفس ، وسواء كان الفعلي أو القولي، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا] ( ). ومن إعجاز الآية الذاتي فصلها بين أهل الكتاب والمشركين ، مع إتحاد الموضوع ، وهو إيذاء المسلمين ، فأهل الكتاب غير المشركين ، إذ تدل واو العطف في [وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا] ( ) على الغيرية . ومن الذين أوتوا الكتاب : الأول : اليهود . الثاني : النصارى . الثالث : المجوس . الرابع : الصابئة . وليس من قائد أو زعيم يخبر قومه بأن البلاء سيأتيهم إن انضموا تحت لوائه واتبعوا ، ومع هذا يأمرهم بالفرائض من الصلاة والصوم والزكاة ، إنما يلتحق الناس بالرئيس والزعيم للإنتفاع الدنيوي من جهات : الأولى : الشأن والجاه والمصلحة . الثانية : المال والكسب السريع الوافر . الثالثة : المنزلة في الوظيفة والمجتمع . الرابعة : الأمن والعصمة من الإستضعاف . الخامسة : موافقة الرأي والولاء . وقد تجتمع هذه الجهات عند بعضهم أو تكون إحداها سبباً في هذا الإلتحاق ، ولكن الأنبياء لم يأتوا بمصالح الدنيا والجاه وإن ظهر فيما بعد ، إنما جاءوا بأمور : الأول : الدعوة إلى الله . الثاني : تقيد كل مكلف بالواجبات العبادية العينية وعامة المكلفين بالواجبات الكفائية ، والواجب العيني هو الذي يجب على كل مكلف أداءه، ويثاب عليه ، ولا يجوز تركه عمداً ، ويؤثم على هذا الترك . الثالث : الصبر في طاعة الله وتحمل الأذى الشديد من المشركين وأهل الرياسة المستكبرين الذين لا يرضون الإنقياد إلى الأنبياء أو التخلي عن حياة اللهو واللعب التي هم عليها . ولا يسقط الواجب العيني أفراد الواجب الكفائي عن المكلفين الذي إن أداه أحدهم أجوأ وكفى ،وإن لم يؤده أحدهم أثم الجميع مثل إنقاذ الغريق وإطفاء الحريق سواء كان الغريق مسلماً أو غير مسلم ، والحريق في بيت مسلم أو غير مسلم . وقد أخبر القرآن عن إبتلاء الأنبياء ، وشدة ابتلاء بعضهم ، كما في يونس ، وأيوب ، كما ورد في التنزيل [وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ). ويمكن تسمية آية البحث آية (لتبلون) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية ، ومن الإعجاز فيها مخاطبتها للذين آمنوا بالإبتلاء الشامل لهم في شطر من أموالهم وأنفسهم . إعجاز الآية الغيري من خصائص الدعوة للإنضمام إلى طائفة أو كيان الترغيب والبذل والوعود ، ولكن الإعجاز في دعوة الأنبياء أنها تحضّ على الصبر ، وتخبر عن مصاحبة الأذى للإيمان مع بيان عائدية ملكية الكائنات كلها لله عز وجل [أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ] ( ). فمن الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ابتداء آية البحث بإخبار المسلمين عن الإبتلاء والإمتحان في الأموال والأنفس ، ومع هذا دخل الناس الإسلام لأن المعجزة مصاحبة للدعوة النبوية ، ولأن الله عز وجل [يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] ( ) . ومن إعجاز آية البحث أمور : الأول : إستعداد المسلمين لتلقي الأذى بالقبول والصبر والرضا. الثاني : دعوة أهل البيت والصحابة إلى الصبر على الأذى الذي يأتي من كفار قريش وغيرهم. الثالث : آية البحث برزخ دون إرتداد بعض المسلمين . الرابع : تنمية ملكة الصبر عند المسلمين ، ومنه عدم رد الأذى بمثله ، وعدم قيام المسلمين بغزو المشركين ، ومن الإعجاز أن ذات الصبر دعوة لهم للإيمان ، ودخول المشركين الذين قاتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام من مصاديق قانون أمر الله عز وجل المسلمين بالصبر ، وتقدير آية البحث على وجوه : الأول : وإن تصبروا وتتقوا يكف عدوكم أيديهم عنكم . الثاني : عدم رد اعتداء المشركين بمثله من مصاديق الصبر . لبيان تجليات قانون : لم يغز النبي (ص) أحداً ، وأن منافع هذا القانون والمنهج توالي دخول الناس الإسلام ، لذا قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ). الخامس : من إعجاز آية البحث دعوة الصحابة للصبر والتحمل في ميادين القتال خاصة مع تعمد المشركين الهجوم والإغارة على المدينة كما في معركة أحد ، ومعركة الخندق . وورد في معركة أحد قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ) وهل يمكن القول أن آية البحث من ولاية الله عز وجل للمؤمنين ، الجواب نعم . (عن جابر بن عبد الله قال : فينا نزلت . في بني حارثة ، وبني سلمة { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا }( ) وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله { والله وليهما })( ). وهل إنسحاب نحو ثلث جيش المسلمين من وسط الطريق إلى معركة أحد بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول من مصاديق قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ…] ( ) . الجواب نعم ، إذ صار الصحابة في عددهم أقل من ربع عدد جيش المشركين يومئذ ، فساروا للدفاع متوكلين على الله عز وجل . لقد تحلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأسمى مراتب الصبر في التأريخ أسوة بالأنبياء والرسل السابقين ، قال تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ] ( ) . ويمكن تقدير الآية على جهات : الأولى : يا أيها الرسول إن تصبر وتتق الله فان ذلك من عزم الأمور . الثانية : يا أيها الذين آمنوا إن تصبروا وتتقوا الله فان ذلك من عزم الأمور . الثالثة : إن تصبروا وتتقوا الله كما صبر واتقى رسول الله والأنبياء السابقين فان ذلك من عزم الأمور . السادس : بعث الفزع واليأس في قلوب المشركين من صبر المسلمين . السابع : من إعجاز آية البحث الغيري أن صبر المسلمين على البلاء لم يجعلهم يقصرون في أداء الفرائض العبادية والتي تسمى التكاليف ، وهي جزء من الأحكام التكليفية ، ومن الآيات التي تدل على الجمع بين الصبر على العبادة والصبر على المكاره والأذى من المشركين قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ). وتبعث آية البحث المسلمين على التعاون في صرف البلاء، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( )وهل يخفف هذا التعاون من البلاء ، الجواب نعم ، وتقدير الآية: لتبلون في أموالكم وأنفسكم فتعاونوا لدفعه ورفعه . وهل ينفع هذا التعاون في صرف ضرر الأذى الذي يسمعه المسلمون من المشركين وغيرهم ، الجواب نعم ، وفيه تنمية لتعاون المسلمين في باب الإحتجاج والجدال ، وفضح افتراء المشركين على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . الآية سلاح لقد أشرقت شمس النبوة على الجزيرة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط قوم ورؤساء يقدسون الأصنام ، ولا يرضون بذمها لأن هذا الذم يدل بالدلالة الإلتزامية على ذم آبائهم ، حيث كانوا يتقربون بها إلى الله ، ويعتنون بها ، ويطلبون منها الحاجات ، ويستخيرون الله عندها ، لطلب الفعل أو تركه ، ونزلت الآيات المكية بذمها وذم الذين يعبدونها وتقبيح فعلهم , منها : الأولى : قوله تعالى [أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنْ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ]( ). الثانية : قوله تعالى [قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ). الثالثة : قوله تعالى [وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ]( ). الرابعة : قوله تعالى [وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنْ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَوْلاَ نَصَرَهُمْ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ]( ). الخامسة : قوله تعالى [وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] ( ). السادسة : قوله تعالى [قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ]( ). السابعة : قوله تعالى [أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ] ( ). الثامنة : قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ] ( ). وغيرها من الآيات المكية واستمر ذات الذم للأوثان وعبادتها حتى في السور المدنية ، منه قوله تعالى [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ] ( ) ومنه ما ورد في سورة المائدة من أواخر سور القرآن نزولاً ، قال تعالى [قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ). ترى لماذا استمر نزول آيات النهي عن عبادة الأوثان والشرك حتى بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وبعد فتح مكة ، ومجئ وفود العرب في السنة التاسعة إلى المدينة يعلنون إسلامهم ، فيه مسائل : الأولى : بيان قانون وهو مصاحبة نهي القرآن للناس عن عبادة الأوثان إلى يوم القيامة . الثانية : قانون حاجة الناس في كل زمان إلى النهي السماوي عن عبادة الأوثان . الثالثة : قانون نزول القرآن بتنزيه الأرض عن مفاهيم الشرك والضلالة . الرابعة : جذب الأذهان للتفكر بعظيم صنع الله وسعة سلطانه ، وربوبيته المطلقة ، وفي التنزيل [مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ]( ). فاستاءت قريش ، لأن في هذا الذم جرح وتعريض بآبائهم لأنهم كانوا عاكفين على عبادة الأصنام ، وهو من أسباب شدة إلحاح قريش منها ما ذكره ابن إسحاق إذ قال (وَمَضَى رَسُولُ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ يُظْهِرُ دِينَ اللّهِ وَيَدْعُو إلَيْهِ ثُمّ شَرَى الْأَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حَتّى تَبَاعَدَ الرّجَالُ وَتَضَاغَنُوا . وَأَكْثَرَتْ قُرَيْشٌ ذِكْرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بَيْنَهَا ، فَتَذَامَرُوا فِيهِ وَحَضّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ ثُمّ إنّهُمْ مَشَوْا إلَى أَبِي طَالِبٍ مَرّةً أُخْرَى . فَقَالُوا لَهُ يَا أَبَا طَالِبٍ إنّ لَك سِنّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِينَا ، وَإِنّا قَدْ اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنْ ابْنِ أَخِيك فَلَمْ تَنْهَهُ عَنّا . وَإِنّا وَاَللّهِ لَا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا مِنْ شَتْمِ آبَائِنَا ، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا ، وَعَيْبِ آلِهَتِنَا ، حَتّى تَكُفّهُ عَنّا . أَوْ نُنَازِلَهُ وَإِيّاكَ فِي ذَلِكَ حَتّى يَهْلِكَ أَحَدُ) ( ). وتبين آية البحث قانون إنذار المؤمنين وإصلاحهم لتلقي الإبتلاء بالصبر والحكمة والإجتهاد في طاعة الله. والآية واقية من اليأس والقنوط ، قال تعالى [لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ] ( ) فلا يقنط ولا يتشاءم المسلم إذا أُبتلي في ماله أو بدنه أو ولده ، فقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الإبتلاء ، وليس من إنسان إلا ويأتيه البلاء طوعاً وإنطباقاً وقهراً . ويمتاز المؤمن في المقام بأمور : الأول : الإبتلاء في الصالحات . الثاني : المدد والعون من عند الله على الإبتلاء ، وهل آية البحث من هذا المدد ، الجواب نعم ، فمن إعجاز القرآن قانون الآية مدد. الثالث : الإخبار والتنبيه من الله عز وجل من إبتلاء المؤمنين كما في آية البحث ، وآيات عديدة أخرى منها قوله تعالى [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ] ( ). مفهوم الآية من مفاهيم الآية قانون صعوبة طريق الإيمان ، ولكنه ليس وعراً بل معبداً مضاءَ بمصابيح التنزيل ، نعم فيه إبتلاءات متعددة ، ويتعرض فيه المسلمون إلى الأذى من غيرهم ، لا لشئ إلا لأنهم إختاروا الهدى والإيمان، ترى لماذا لا يصرف الله عز وجل البلاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهو سبحانه بيده مقاليد الأمور ، وسيأتي بعد ثلاث آيات قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ). الجواب من وجوه : الأول : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الإبتلاء والإمتحان . ويأتي الإبتلاء بالنعمة وبالإذى والضرر، قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] ( ) لقد بذل المشركون الوسع في المكر والخبث للإضرار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنعه من تبليغ رسالته ، فجعل الله عز وجل له ولأصحابه آيات القرآن عضداَ ، قال تعالى [لَقَدْ ابْتَغَوْا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ] ( ). الثاني : ليس من استثناء في بلاء الدنيا إلا أن يشاء الله . الثالث : بلاء المؤمن في الدنيا سبب ونوع طريق لفوزه بالأجر والثواب . الرابع : إقامة الحجة على الذين كفروا بصبر وتقوى المؤمنين حتى مع الأذى الشديد . الخامس : دعوة الناس لدخول الإسلام ، وتحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الأذى وامتناعهم عن الإنتقام والبطش والثأر . وهذا الإمتناع من معجزاته ومن الصبر والتقوى اللذين أمرت بهما آية البحث ، ليكون في معاني آية البحث أصبروا واتقوا ، ليدخل الناس في الإسلام ، فيمتنع الأذى من طرفهم إذ ينتقلون بالنطق بالشهادتين من منازل العداوة والإضرار إلى مقامات الأخوة ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ). وهل يختص الإبتلاء بالمؤمنين أم أنه يشمل الذين كفروا ، الجواب هو الثاني مع التباين في الأثر ونوع الجزاء ، إذ يكون إبتلاء الذين كفروا وبالاً عليهم ، وباعثاً للحسرة في نفوسهم ، ويترتب عليه الإثم ، وفي التنزيل [هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) . وهل البلاء الذي يأتي للمؤمنين بسبب إيمانهم حصة زائدة عن الإبتلاء العام في الدنيا ، الذي يصيب البر والفاجر ، أم أنه بذات المرتبة العامة ، المختار هو الأول ، فهناك من ضروب الإبتلاء ما لا تأتي إلا مع الإيمان والتقوى . ليكون من معاني آية البحث الوعد الكريم على الإبتلاء ، ومن وجوه تقدير الآية : لتبلون في أموالكم وأنفسكم فتؤجرون على هذا البلاء . وهل يمكن القول أن الأجر هو علة هذا البلاء أي يبتلى المؤمنون كي يأتيهم الأجر والثواب ، الجواب نعم. والله عز وجل قادر أن يمحو البلاء ويكتب أجره ، نعم الأجر في نزول البلاء وتحمله أكثر وأعظم ، وهو في نماء وإزدياد إلى يوم القيامة ، ليكون من وجوه تقدير الآية : لتبلون في أموالكم وأنفسكم ، فيكتب لكم الأجر ، ويضاعفه الله عز وجل . وهل هذا الإبتلاء من مصاديق قوله تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] ( ) الجواب نعم ، فهذا الإبتلاء حسن ، وكذا بالنسبة للصبر عليه ، والتحلي بالتقوى والخشية من الله عز وجل . لقد تضمنت آية البحث الإخبار عن الإبتلاء المتعدد الذي يأتي للمؤمنين، ويحتمل من جهة الإفراد والجمع وجوهاً : الأول : كل إبتلاء يأتي منفرداً في زمانه ، فاذا جاء الإبتلاء والنقص في المال لا يصاحبه الإبتلاء في النفوس ،وإذا أنفق المؤمن في سبيل الله صرف الله عز وجل عنه في سنته أنواع البلاء . الثاني : يجتمع الإبتلاء في الأموال والأنفس مرة ، ويكون المؤمن في سلامة منهما . الثالث : قد يأتي أحد أفراد الإبتلاء لطائفة من المسلمين مما يملي على المسلمين التعاون في درء البلاء ، وهذا التعاون من التقوى ومقدمة للصبر . الآية لطف آية البحث من علم الغيب الذي تفضل الله عز وجل وأخبر به المسلمين، وصار ثروة وتراثاً عندهم ، وتدل التلاوة المتعاقبة لآية البحث بأن البلاء قد حلّ بالمسلمين ومنه ما سيحل وينزل بهم ، وهو متعدد وليس بسيطاً متحداً . ليأخذ المسلمون حذرهم ، ويحتاطوا للبلاء ويحترزوا من أضراره الظاهرة والنفسية ، فقد يدبّ الشك ، ويجد المنافقون آذاناً صاغية لهم ، فنزلت آية البحث حصانة عامة وخاصة منه ، فلا يفاجئ المسلم بالإبتلاء ، إنما يلجأ إلى العبد والخشية من الله ، كما في قوله تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا] ( ). ومن معاني اللطف الإلهي في آية البحث أمور : الأول : تقريب الناس إلى عبادة الله ، وإبعادهم عن معصيته . الثاني : إقتران الإنذار بالبلاء في الأموال والأنفس بالبشارة بالأجر والثواب ، وتقدير قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( ) وأن تصبروا وتتقوا تفوز بالأجر والثواب ، وفي الثواب على الصبر خطاب الملائكة لأهل الجنة [سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ] ( ). الثالث : دعوة المسلمين للتعاون فيما بينهم لتخفيف وطأة البلاء وتعدده. الرابع : استحضار المسلمين لآية البحث من جهات : الأولى : نزول البلاء لدفعه وشروره . الثانية : بعد نزول البلاء للإتعاظ ورجاء الثواب . لذا كان معنى قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( ) شامل لهذه الجهات كلها . إفاضات الآية من خصائص الآية القرآنية أمور : الأول : إجتماع وتعدد وجوه الإعجاز فيها . الثاني : استدامة تجدد ذات الإعجاز . الثالث : استحداث معجزات للآية مع تعاقب السنين ، لقانون كل آية قرآنية خزينة ، ومنه مجئ آية البحث بصيغة المضارع[ لتبلون ] لبيان تجدد البلاء ، وهل هو من الإعجاز الموضوعي للقرآن ، الجواب نعم , وفيه شاهد على إفاضة الآية وتلاونها الصبر على المسلمين . وتبين الآية حصول البلاء في أهم أمرعند الناس وهو المال والنفوس ، والنسبة بين قوله تعالى [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ) وآية البحث هو العموم والخصوص المطلق ، إذ يدخل الأبناء في النفوس ، وتقدير آية البحث : لتبلون في أموالكم وأنفسكم وأبنائكم وأزواجكم . ومن إعجاز الآية مفهوم التبعيض في حرف الجر (في) بقوله تعالى [فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ] لدلالته على معنى الوعاء والظرفية ، وبقاء الأصل من الأموال والنفوس ، ولأن الإبتلاء في سبيل الله فان الله عز وجل يجعل بهذا الأصل البركة والنماء المتصل , فلا يأتي الإبتلاء على كل أموال ونفوس المسلمين . لتكون الآية شاهداً على استدامة وبقاء الإسلام إلى يوم القيامة ، وأنهم يبقون في حال غنى وعندهم أموال ، ولكنها عرضة للإبتلاء الذي فيه الأجر والثواب ، ما دام بقصد القربة , وبصبغة الإيمان . وكذا في معاني (في) المصاحبة ، كما في قوله تعالى [قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ] ( ) . ليصاحب الإبتلاء المسلمين في أموالهم وأنفسهم وسلاح الوقاية هو الدعاء والعلاج هو ما ذكرته آية البحث وهو الصبر والتقوى . الآية بشارة من مبادئ علم الأصول أصالة الظاهر ، إذ تدل الآية في ظاهرها على الإنذار للمسلمين والمسلمات بنزول الإبتلاء عليهم ، وهذا الإبتلاء ليس بسيطاً إنما هو مركب من جهتين : الأولى : الأموال . الثانية : النفوس . الثالثة : الحالة الإجتماعية بالكدورة التي تترشح عن تكذيب المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسباب الريب التي يثيرها المنافقون ، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ). ومن معاني البشارة في آية البحث دلالتها الإلتزامية على صيرورة المسلمين أصحاب أموال وثروة إذ نزلت هذه الآية في المدينة ، والمسلمون في حاجة إلى السلاح والعدة والرواحل للدفاع ضد المشركين . وظاهر آية البحث أنها تحذير وتنبيه وإنذار للمسلمين إلا أنها تتضمن في ثناياها ومفهومها البشارة بالرزق الكريم ، ومن دلالاته نسبة المال إلى المسلمين [فِي أَمْوَالِكُمْ] لبيان أن أموالهم حلال وطاهرة ، وهو من الشواهد على وجوب الزكاة ، وتقيد المسلمين بدفعها . وتبعث الآية الأمل في نفوس المسلمين بفرص العمل وتنشيط التجارات والمكاسب ، وجمع الأموال ، وإن البلاء فيها عرضي . وتبين الآية منافع الصبر والتحمل والخشية من الله عز وجل في بناء صرح الإيمان، وأن كلاً من الصبر والتقوى مما عزم الله على المؤمنين فعله وإتيانه . وهل تدل الآية على إستدامة البلاء على الأفراد من المؤمنين ، الجواب لا ، والمختار أن البلاء في الآية عرض زائل ، لذا تفضل الله عز وجل بهداية المسلمين إلى طريق الصبر والتقوى ، والجمع بينهما لمواجهة الإبتلاء ، والخروج منه بسلام . لتتضمن آية البحث قانونا وهو : الصبر والخشية من الله طريق التغلب على البلاء وآثاره . الآية إنذار ابتدأت آية البحث بما يدل على الإنذار إذ تحس وتسمع جرسه يدق عند تلاوة [لَتُبْلَوُنَّ] فالإخبار عن قدوم الإبتلاء إنذار ودعوة للإستعداد والتهيئ له . لقد أحب الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، فقرب لهم الإنذار ، ويدل الإنذار على وجود أمر منذر منه ، ومن خصائص الإنذار القرآني أمور : الأول : إنه حق وصدق . الثاني : قانون الإنذار القرآني شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم . الثالث : التعدد في صيغ ووجوه الإنذار القرآني ، كما في آية البحث بين ضروب متعددة من الإنذار ، وكل إخبار عن إبتلاء هو إنذار ، ليكون الإنذار في آية البحث على وجوه : الأول : قانون الإنذار للمسلمين من الإبتلاء بالأموال . الثاني : قانون إنذار المسلمين للإبتلاء بالنفوس من جهات : الأولى : قانون الهجرة وقصد بلاد الغربة . الثانية : تعذيب المسلمين من قبل رؤساء الكفر من قريش . الثالثة : هجوم جيوش المشركين على المدينة ، ووقوع القتل والجرحى بين صفوف المسلمين . الرابعة : شدة الجراحات التي أصابت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهذه الجراحات إبتلاء للمسلمين في نفوسهم جميعاً . بحث بلاغي إمتاز العرب بالعيش في الصحراء والقرى والمدن الصغيرة والحل والترحال وقلة تكاليف الحياة مما صاحبه صفاء الأذهان ، والميل إلى الأدب والبلاغة ، وقد اعتنوا بالشعر والنثر وكانت لهم منتديات وأسواق خاصة للتباري في قصائد الشعر ، واتخذوا منه سلاحاً في المعارك وشحذ الهمم, ووسيلة للإسترزاق والوصف في المدح والذم ، مما أدى إلى إرتقائهم في علوم البلاغة وإختيار الرفيع من الألفاظ والمعاني ، والملاحة فيها . والبلاغة لغة من البلوغ . ويقال (بَلغَ الشيءُ يَبْلُغُ بُلُوغاً وبَلاغاً وصَلَ وانْتَهَى وأَبْلَغَه هو إِبْلاغاً هو إِبْلاغاً وبَلَّغَه تَبْلِيغاً) ( ). (والإطنابُ: البلاغةُ في المنطق في مَدْحٍ أو ذمٍّ)( ). والرجل البليغ هو الذي يجمع بين أمرين : الأول : الفصاحة . الثاني : حسن الكلام ، وبلوغ المراد والقصد . وكان العرب أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة . وسئل إعرابي (عن البلاغة فقال دنو المآخذ ونزع الحجة وقليل من كثير. وقال خالد ابن صفوان لرجل رحم الله أباك فإنه كان يقرى العين جمالاً والأذن بياناً)( ). ومن كلام (عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان من كلامه: القلم شجرة ثمرتها المعاني والفكر بحر لؤلؤه الحكمة. وكان يقول: لو كان الوحي ينزل على أحد بعد الأنبياء فعلى بلغاء الكتاب. وذكر البلاغة فقال هي ما رضيته الخاصة وفهمته العامة)( ). ولكن الوحي لا يقبل النزول على غير الأنبياء وهو لا يتعلق بأهلية البلغاء ونحوهم ، إنما يصلح الله الأنبياء له . وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديث (أعطيت جوامع الكلم) ( ). إذ نسب الأعطاء والفضل إلى الله عز وجل ، وعن أبي قلابة : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنما بعثت فاتحا وخاتما وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه. قال تعالى : ” ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ( ). البديع المعنوي: ويندرج تحت هذا المبحث أنواع عدّة هي: 1- الطّباق. 2- المقابلة. 3- الإقتباس . 4- حسن التّعليل. 5- التّورية. 6- المذهب الكلامي. 7- المُزاوجة. 8- المُشاكلة. 9- مُراعاة النّظير. 10- الإرصاد. 11- حسن الابتداء. 12- حسن الانتهاء . 13- حسن التّخلّص. 14- المبالغة 15- التبليغ ، الغلو ، الإغراق ، ومنهم من يدخل هذه الثلاثة في المبالغة. 16- اللّفّ والنّشر. 17- تأكيد المدح بما يشبه الذم، وعكسه. البديع اللفظي: ويندرج تحت هذا المبحث أنواع عدّة هي: 1- الجناس 2- الأزدواج. 3- ردّ العجز على الصّدر. 4- السّجع 5- التشطير. 6- الموازنة 7- حسن التقسيم. 8- المماثلة 9- التصحيف. 10- التسميط 11- التوشيح ويسمى التشريع 12- الإنسجام . 13- التطريز. 14- لزوم ما لا يلزم. 15- المواربة. 16- التصريع. 17- التّضمين 18- ائتلاف اللفظ مع اللفظ. علم الصلة تتجلى في هذا الموضوع , وفي كل آية من آيات القرآن دلائل وأسرار ملكوتية في ثنايا الآية ، والجمع بين كلمات ومضامين الآية القرآنية . لتكون صلة الآية محل البحث على جهات : الأولى : صلة أول الآية القرآنية بأول الآية التي سبقتها ، فمثلاً تسبق آية البحث الآية [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ] ( ) فان استحضار الموت وحتميته وسيلة للتخفيف عن المسلمين فيما يلاقونه من الإبتلاء والأذى , وعندما يعلم المؤمن أن الموت قادم عليه يهون عليه البلاء في المال، ويدرك معها أن ملك الموت يقبض روح عدوه الكافر أيضا ، فلابد من الوقوف بين يدي الله للحساب ، حيث الأجر والثواب للمؤمن على الإبتلاء في المال والنفس . الثانية : صلة أول الآية القرآنية بوسط الآية السابقة لها ،ويكون تقدير آية الجزء البحث بوسط الآية التي قبلها [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( ) . ليفيد الجمع بين الآيتين المواساة والبشارة للمؤمنين بأن جهدهم وصبرهم لن يذهب سدى ، إنما يرزقون الأجر العظيم في الآخرة . الثالثة : من إعجاز نظم القرآن تعدد موضوع وسط الآية القرآنية ، مما يعني تعدد معاني الصلة بينه وبين أول وآخر الآية السابقة والتالية لها بالإضافة إلى تعدد المعاني والدلالة في علم الصلة بين أول وآخر الآية الذي أفردنا له باباً خاصاً في تفسير كل آية من آيات القرآن . ومن تقدير وسط الآية (185) وأول الآية 186 من سورة آل عمران لتبلون في أموالكم وأنفسكم ، فمن زحزح عن النار ادخل الجنة . لبيان قانون وهو إبتلاء المؤمن في ماله ونفسه واقية من النار وسلّم للوصول إلى الجنة . الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين قد فزتم بالإبتلاء بالأموال والأنفس . الخامسة : صلة أول الآية القرآنية بخاتمة الآية السابقة لها ، وتقدير الجمع بين الآيتين : لتبلون في أموالكم وأنفسكم وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور . إذ تخدع الدنيا الإنسان ، وتجعله يظن إطالة مدة بقائه فيها ، وكأنه لا يفارقها ، بينما هي فانية وإلى زوال ، والمتاع ما يتمتع به ، ويتنفع به الإنسان. ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) إخبار القرآن عن قانون الدنيا متاع الغرور ، فيكون الإبتلاء بالمال والنفس سبيل الله من تسخير المال في طاعة الله ، وفيه عصمة من الغرور والإغترار بالدنيا وزينتها . ومن معاني الجمع بين الآيتين عدم الحزن أو الأسى على ما يفقده أو ينفقه المؤمن في سبيل الله ، قال تعالى [مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ]( ). السادسة : صلة وسط آية البحث بأول الآية السابقة ، فمثلاً يكون التقدير بالنسبة لآية البحث وصلتها بالآية السابقة (لتبلون في أنفسكم)( كل نفس ذائقة الموت ) فلابد أن يموت الإنسان ، ولكن الذي يبتلى بماله ونفسه في سبيل الله يفوز بالأجر وينال المقام الحسن في الآخرة ، ويكون من الذين [فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ). السابعة : ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً ، وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ، لبيان أن تلقي الأذى سبب ونوع طريق لنيل الأجر والثواب . الثامنة : صلة وسط الآية القرآنية بخاتمة الآية السابقة ، ومن إعجاز القرآن أن خواتيم آياته قوانين من الإرادة التكوينية . التاسعة : صلة خاتمة آية البحث بأول الآية السابقة لها ، فمثلاً التقدير في آية البحث كل نفس ذائقة الموت فان ذلك من عزم الأمور ، إذ أن التسليم بالموت ومغادرة الإنسان الدنيا قهراً وإنطباقاً سبيل صلاح ، وطريق للتقوى، ومواساة في مصائب الدنيا ، وما يتعرض له الفرد والجماعة من البلاء، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ]( ). العاشرة : صلة خاتمة آية البحث بوسط الآية السابقة والتقدير في آية البحث ، فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز فان ذلك من عزم الأمور ، وفيه بعث للناس لركوب جادة الهدى ، والتقيد بسنن التنزيل, والإمتناع عن الشرك والضلالة والظلم والجور . الحادية عشرة : صلة خاتمة الآية بخاتمة الآية السابقة ، إذ تجتمع في هذا الباب قوانين متعددة تستقرأ منها المسائل والسنن والأحكام . كما في تقدير خاتمة هذه الآية والآية السابقة : وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور فان ذلك من عزم الأمور . وقد أفردت أبواباً خاصة للصلة بين خاتمتي آيتين متجاورتين ، إذ تتجلى في هذا السٍفر المبارك علوم مستحدثة في باب (سياق الآيات) ، كما في : الأول : صلة آية قرآنية بآية قرآنية مجاورة لها كما في الجزء الخامس والعشرين بعد المائة من هذا التفسير , الذي اختص بالصلة بين الآية (152) والآية (153) من سورة آل عمران . والجزء الواحد والتسعين بعد المائة من تفسيرنا للقرآن بالصلة بين الآية (180) والآية (181) من سورة آل عمران. الثاني : صلة شطر من آية قرآنية بشطر من آية قرآنية مجاورة لها ، كما في الجزء الخامس والعشرين بعد المائة , والذي اختص بالصلة بين شطر من الآية (154) وشطر من الآية (153). والجزء الواحد والخمسين بعد المائة من تفسيرنا هذا للقرآن ، إذ اختص بالصلة بين شطر من الآية ( 161 ) بشطر من الآية( 164 ) من سورة آل عمران , في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً . الصلة بين أول وآخر الآية ابتدأت آية البحث بحرف اللام الذي قيل أنها لام القسم ، والمختار أنها لام الإبتداء ، وأنها تفيد تأكيد مضمون الخبر والتي لا تدخل إلا على الاسم، وعلى الفعل المضارع ، كما في آية البحث [لَتُبْلَوُنَّ] ثم ذكرت موضوع الإبتلاء ، وهو شامل للأموال والأنفس ، ترى لماذا قدمت الآية الأموال ، هذا ما نبينه ( ). وأخبرت الآية عن الإبتلاء في كل من الأموال والأنفس ، وتقدير الآية على وجوه : الأول : لتبلون في أموالكم . الثاني : لتبلون في أنفسكم . الثالث : لتبلون في أموالكم وأنفسكم في آن واحد . وهل الوجه الأخير هو الأشد منها ، الجواب لا ، فقد يكون الإبتلاء في النفوس وحدها بالقتال والقتل والشهادة . لأن هذا الإبتلاء بلحاظ أفراد الزمان الطولية من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، فمرة يكون شديداً وأخرى قليلاً ، وهل تأتي أيام على المسلم أو عامة المسلمين ليس فيها إبتلاء من الكفار ولا سماع أذى منهم . الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ). ولم ينحصر ابتلاء المسلمين بالأموال والنفوس ، إنما أخبرت الآية عن تلقيهم الأذى الكثير من طوائف من أهل الكتاب ، ومن المشركين . وقد تكررت لام الإبتداء أو ما تسمى لام القسم في الآية مرتين : الأولى : في [لَتُبْلَوُنَّ] ( ) . الثانية : في [لَتَسْمَعُنَّ] ( ). وجمعت بينهما واو العطف أعلاه , وتحتمل وجوهاً : الأول : إفادة مطلق الجمع والمشاركة بين المعطوف وهو [لَتَسْمَعُنَّ] على المعطوف عليه وهو [لَتُبْلَوُنَّ] في الأذى القادم إلى المسلمين . الثاني : تفيد الواو الترتيب والتفصيل والتعقيب أي أن سماع المسلمين الأذى يأتي بعد الإبتلاء بالأموال والأنفس . الثالث : إرادة الجمع بين المشاركة والترتيب . ولا تعارض بين هذه الوجوه ، فكأن هناك ملازمة بين إبتلاء المسلمين بأموالهم وأنفسهم وبين سماعهم الأذى من الذين أشركوا وأهل الكتاب . من غايات الآية في الآية مسائل : الأولى : تبين آيةالبحث حب الله عز وجل للمؤمنين ، إذ يدل إخبارها عن نزول البلاء بهم على الوعد من عند الله عز وجل ، بصرف البلاء ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ). الثانية : لقد كان المشركون يخوفون الناس من دخول الإسلام ، ويتوعدون الصحابة ، وهل نزول آية البحث تأكيد لهذا التخويف ، الجواب لا ، إنما هي حصن من هذا التخويف . الثالثة : جاءت الآية بصيغة الإكرام ، وتقديرها على وجوه : الأول : يا أيها الذين آمنوا لتبلون في أموالكم . الثاني : يا أيها الذين آمنوا لتبلون في أنفسكم . الثالث : يا أيها الذين آمنوا لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أذى كثيراً . الرابع : يا أيها الذين آمنوا لتسمعن من الذين أشركوا أذى كثيراً . الخامس : يا أيها الذين آمنوا اصبروا . السادس : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله . السابع : يا أيها الذين آمنوا إن الصبر والتقوى من عزم الأمور . الرابعة : تتضمن آية البحث الإخبار عن حقيقة وجود أمة من أهل الكتاب أيام البعثة النبوية ، ونزول القرآن ، ومع هذا ذكرت الآية قد [مِنْ قَبْلِكُمْ] لبيان الكتب السماوية السابقة نزلت قبل القرآن . إذ أنزلت التوراة على موسى عليه السلام وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام . الخامسة : تبين الآية أفراداً من علم الغيب التي لا يعلمها إلا الله عز وجل ، بأن طريق الإيمان فيه تضحية ، ويأتي معه البلاء من أعوان الشيطان، ولكن العاقبة والظفر للمؤمنين . السادسة : دعوة المسلمين إلى كظم الغيظ ، والعصمة من الإنفعال والغضب ، فمن خصائص الإنسان خفة وطأة الأذى والمصيبة أن جرى التمهيد والتوطئه لها . فتفضل الله عز وجل بآية البحث ليتعاهد المسلمون حسن السمت والخلق الحميد ، قال تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ). أسباب النزول ورد في أسباب النزول وجوه : الأول : قيام كعب بن الأشرف بهجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وتحريض المشركين عليهم . الثاني : لما سُئل فنحاص سيد بني قينقاع الإمداد قال : احتاج ربكم إلى أن نمده ، وبه قال عكرمة( ). الثالث : المراد من الأذى ما كان يسمعه المؤمنون من المشركين . الرابع : في قوله تعالى [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ] ( ) وروي أن الآية نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد جزعوا من أذى المشركين( ) . الخامس : قيل نزلت الآية في عمار بن ياسر ، وكان يعذب في الله . السادس : نزلت (في ناس أسلموا بمكة ، فكتب إليهم المهاجرون : لا يقبل منكم إسلامكم حتى تهاجروا ، فخرجوا فتبعهم المشركون فردّوهم ، فلما نزلت كتبوا بها إليهم؛ فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا) ( ). السابع : نزلت الآية في مهجع بن عبد الله ( ). (عن كعب بن مالك قال : كان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الأذى ، فأمر الله رسوله والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم ، ففيهم أنزل الله { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً }( ) وفيهم أنزل الله { ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً })( ). وعن الحسن البصري (في قوله { وإن تصبروا وتتقوا . . . } الآية . قال : أمر الله المؤمنين أن يصبروا على من آذاهم رغم أنهم كانوا يقولون : يا أصحاب محمد لستم على شيء ، نحن أولى بالله منكم ، أنتم ضلال . فأمروا أن يمضوا ويصبروا) ( ). وقيل نزلت الآية (في ناس أسلموا بمكة ، فكتب إليهم المهاجرون : لا يقبل منكم إسلامكم حتى تهاجروا ، فخرجوا فتبعهم المشركون فردّوهم ، فلما نزلت كتبوا بها إليهم؛ فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا . وقيل : في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب ، وهو أوّل قتيل من المسلمين يوم بدر) ( ). التفسير قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ] إبتدأت الآية بالإخبار الذي يفيد القطع واليقين بأن الإمتحان يأتي للمسلمين والمسلمات في أموالهم وأنفسهم ، ويحتمل المراد من الأموال في آية البحث وجوه : الأول : بيت المال العام للمسلمين . الثاني : أموال الأغنياء من المسلمين . الثالث : إرادة مال ورزق كل مسلم ، فالمعنى انحلالي ينبسط على المسلمين والمسلمات . ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية لتدل بالدلالة التضمنية على البشارة بالرزق الكريم والسعة للمسلمين ، والمندوحة في كسبهم وعيشهم ، وهو الذي تجلى في السنة الثانية للهجرة إذ نزل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) ( )، حيث جلب المسلمون الغنائم من المعتدين إلى المدينة ، وبادلوا أسراهم بنحو مائتي ألف درهم فضة ، مما يعادل آنذاك عشرين ألف مثقال ذهب عيار ثماني عشرة حبة . وان تباين مقدار فداء الأسرى ، فمنهم من دفع أربعة آلاف درهم كأبي وداعة ، قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ : أَبُو وَدَاعَةَ بْنُ صُبَيْرَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ كَانَ أَوّلَ أَسِيرٍ اُفْتُدِيَ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ افْتَدَاهُ ابْنُهُ الْمُطّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ( ). وكأبي عزيز واسمه زرارة بن عمير ، دفعتها أمه لأنها كانت ثرية ، وهو أخو الصحابي الجليل مصعب بن عمير ومنهم من دفع مائة أوقية من الفضة كالعباس بن عبد المطلب ، والأوقية 119 جم . وقال له رسول الله (فافد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر) قال : ما أخال ذاك عندي يا رسول الله. قال: (فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل، فقلت لها: ان أصبت في سفري فهذا المال لبني الفضل بن العباس وعبد الله بن العباس وقثم بن العباس) . فقال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والله يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لا ذاك شي أعطاناه الله تعالى منك) ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، وأنزل الله عز وجل [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )( ). وكان فداء بعض الأسرى ألف درهم ، وبعضهم عفى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعلم عشرة من صبيان الأنصار القراءة والكتابة بدلاً وفداء عن أسره لبيان عناية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطلب العلم ، وشرائه بالمال الوفير . وقيل تفيد اللام في [لَتُبْلَوُنَّ] القسم وتقدير الآية (والله تبلون) والمختار أن اللام ليست للقسم وأن الله عز وجل يخبر عن الوقائع والأحداث من غير أن تصل النوبة في المقام إلى القسم . وهل يمكن اختصاص الخطاب بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا ، إذ تحمل صيغة الجمع على ظاهرها ، والمراد عموم المسلمين والمسلمات لأصالة العموم ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لتبلون ..) وهل هذا الإبتلاء والإختيار من الكلي المتواطئ الذي هو على مرتبة واحدة أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متباينة ، الجواب هو الثاني ، وهل هو ثابت بالنسبة للأفراد من جهة الكم والكيف ، الجواب لا ، لقوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) فبالدعاء يخفف الله عن المسلمين والمؤمنات الإبتلاء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ). ليكون من الإعجاز في آية البحث قانون الدعاء لمحو الإبتلاء في الأموال والأنفس (عن عبد الله بن عمر قال كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك ) ( ). وهل تدل الآية على مصاحبة الإبتلاء للمسلمين في كل أيام حياتهم ، الجواب لا ، وهو ظاهر الآية بأن يأتي البلاء على نحو عرضي ، إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار التخفيف ، قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ) . قانون الإعجاز في تقديم الإبتلاء بالأموال ومن معاني اللام في [لَتُبْلَوُنَّ] وجهان : الأول : ستبلون لإفادة المستقبل القريب . الثاني : سوف تبلون لإرادة المستقبل البعيد . ترى لماذا قدمت آية البحث الأموال على الأنفس مع أن الأنفس هي الأهم والأسمى ، الجواب من وجوه : الأول : بيان رأفة الله عز وجل بقانون الإبتلاء الإبتدائي بالأموال واقية للنفوس . الثاني : الإخبار عن قانون وهو أن الإبتلاء أخف من الإبتلاء بالنفوس . ثم ذكرت آية البحث إبتلاءً آخر أخف وطأة ، وهو سماع الأذى من المشركين ومن طائفة من أهل الكتاب . ودعا القرآن المسلمين إلى العفو والصفح عند سماع الأذى لقوله تعالى [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ). الثالث : قانون تعويض الخسارة بالمال بفضل من الله عز وجل . الرابع : البعث على الإنفاق في سبيل الله للنجاة وسلامة النفوس، وهذه السلامة مناسبة لأداء الفرائض العبادية . الخامس : تهيئة أذهان المسلمين للإبتلاء في الأموال مع الثبات في منازل الهدى والإيمان . السادس : إرادة التخفيف عن المسلمين ، فما دام الشخص سالماً فان الإنفاق يُعوض ، ويأتي غيره بفضل من الله . السابع : بيان قانون وهو الإبتلاء في المال أخف من الإبتلاء في النفوس . الثامن : إرادة سلامة نفوس المؤمنين ، بعدم الأسى والحسرة على المال . التاسع : ليس من بعد الإبتلاء بالنفوس والقتل إبتلاء بالمال لذات الشخص المقتول ، إذ ينتقل المال إلى الورثة ، لذا فان تقديم الأموال من إعجاز آية البحث . العاشر : بيان قانون وهو أن الإبتلاء بالمال مستمر في حال السلم والحرب ، إذ تجب الزكاة والخمس وتستحب الصدقة ، قال تعالى [وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ]( ). قال ابن عباس في الآية أعلاه : منسوخ نسخ كل صدقة في القرآن الآية التي في التوبة { إنما الصدقات للفقراء}( ). النسبة بين البلاء والإبتلاء إبتدأت آية البحث بقوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ] ولم تقل الآية لتبتلون ، وتحتمل النسبة بين البلاء والإبتلاء وجوهاً : الأول : نسبة التساوي ، فكل منهما اختبار وامتحان . الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين : الأولى : البلاء أعم من الإبتلاء . الثانية : الإبتلاء أعم من البلاء . الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء ، وأخرى للإفتراق بينهما . أما الوجه الرابع وهو التباين فهو ممتنع . والمختار هو الوجه الأول ، والشعبة الثانية من الوجه الثاني ، فقد يفيد البلاء معنى الإبتلاء ، وقد يكون خاصاً إذ أن صيغة الإفتعال للمبالغة ، لذا فمن رحمة الله عز وجل ذكر الآية للبلاء ، وليس الإبتلاء ، وما فيه من دلالة التضعيف ، وللبشارة بأن البلاء يأتي ويزول ، لذا أمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالصبر ، بقوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]لبيان الحاجة إلى الصبر في أمور : الأول : الدعاء لرفع ومحو مصاديق من البلاء . الثاني : الصبر عند نزول البلاء . الثالث : التحلي بالتقوى واللجوء إلى العبادة عند البلاء . الرابع : الشكر لله عز وجل عند صرف البلاء ، وهذا الشكر من مصاديق [وَتَتَّقُوا]. وتدل الآية على عدم مجئ البلاء على عامة الأموال والنفوس ، إنما يكون البلاء أمراً عرضياً طارئاً . قانون الإعجاز في بذل المسلمين الأموال في سبيل الله تتضمن آية البحث الإخبار عن بذل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الأموال في سبيل الله ، وهذا البذل من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ أنه يدل على التصديق برسالته ، وقيام الصحابة بالتضحية في أموالهم ، وهو من جهات : الأولى : هجران المهاجرين مساكنهم ودورهم ، ومن الشواهد في المقام استيلاء كبار المشركين أو ذوي القربى عليها ، وقيامهم ببيعها، كما في دورالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبني هاشم . (عن أسامة بن زيد ، أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله أين تنزل غدا ، فقال : وهل ترك لنا عقيل من رباع) ( ). الثانية : ترك المهاجرين أعمالهم ومهنهم وسهامهم في تجارة قريش إلى الشام واليمن وغيرهما ، خاصة وأن هذه السهام عن وراثة لهم من آبائهم سواء في رأس المال أو في كيفية المساهمة أو في المادة والنوع الذي تكون فيه تجارتهم ، فهذا الترك من مصاديق أول آية البحث وقوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ…] ( ). الثالثة : مغادرة المهاجرين مكة من غير أن تأذن لهم قريش بأخذ أموالهم ، قال تعالى [الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] ( ). وكان إبراهيم عليه السلام صاحب مواشي وأموال من الذهب والفضة، ولما أخرجه قومه بعد أن أنجاه الله له من الحرق استولوا على غنمه وقيل كانت ألفي رأس فقال لهم أرجعوا لي عمري الذي صرفته في جمعها ، فقالوا وكيف نستطيع اعادته ، وأظهروا عجزهم عنه ، فاعادوا له غنمه وأمواله . لقد أراد إبراهيم عليه السلام قبل مغادرته أن يؤكد لهم بأن نمروذ ليس رباً وأنه عاجز عن إعادة عمر إنسان حتى وإن كان في هذه الإعادة فائدة له ولقومه ومصادرة أموال ومواشي إبراهيم عليه السلام . ليكون هذا الإحتجاج تتمة لإحتجاجه في حضرة نمروذ كما ورد في التنزيل [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]( ) . وليبقى تركة بيد قومه ، فمن لم يسمع بمناظرة واحتجاج إبراهيم في مجلس نمروذ فانه يسمع بهذا الحديث العام ، لبيان أن إبراهيم ابتلي في نفسه وماله ، وأن أعادوا له ماله ، ولكن مشركي قريش استحوذوا على أموال ومساكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، لبيان أن مشركي قريش أشد ظلماً من قوم إبراهيم ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ]( ). وفي سفرالتكوين (13: 2 و كان ابرام غنيا جدا في المواشي و الفضة و الذهب . 13: 3 و سار في رحلاته من الجنوب الى بيت ايل الى المكان الذي كانت خيمته فيه في البداءة بين بيت ايل و عاي . 13: 4 الى مكان المذبح الذي عمله هناك اولا و دعا هناك ابرام باسم الرب . 13: 5 و لوط السائر مع ابرام كان له ايضا غنم و بقر و خيام . 13: 6 و لم تحتملهما الارض ان يسكنا معا اذ كانت املاكهما كثيرة فلم يقدرا ان يسكنا معا . 13: 7 فحدثت مخاصمة بين رعاة مواشي ابرام و رعاة مواشي لوط و كان الكنعانيون و الفرزيون حينئذ ساكنين في الارض . 13: 8 فقال ابرام للوط لا تكن مخاصمة بيني و بينك و بين رعاتي و رعاتك لاننا نحن اخوان . 13: 9 اليست كل الارض امامك اعتزل عني ان ذهبت شمالا فانا يمينا و ان يمينا فانا شمالا . 13: 10 فرفع لوط عينيه و راى كل دائرة الاردن ان جميعها سقي قبلما اخرب الرب سدوم و عمورة كجنة الرب كارض مصر حينما تجيء الى صوغر . 13: 11 فاختار لوط لنفسه كل دائرة الاردن و ارتحل لوط شرقا فاعتزل الواحد عن الاخر . 13: 12 ابرام سكن في ارض كنعان و لوط سكن في مدن الدائرة و نقل خيامه الى سدوم . 13: 13 و كان اهل سدوم اشرارا و خطاة لدى الرب جدا) ( ) . أما قريش فانهم استولوا على أموالهم ومساكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وباعها بعضهم على بعض ، ليكون من معاني وتقدير قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ…] ( ) . لقد ابتليتم في أموالكم ولتبلون بها ). الرابعة : عدم وجود عمل ومصدر للكسب للمهاجرين في المدينة ، فهي مدينة زراعات محدودة ، ومنها النخيل الذي يكفي أهله بالعناية به وسقيه وجني التمر . وهل يصح تقدير الآية : [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) ولقد نصركم الله ببدر إذ ذهبتم راجلين فعدتهم على الإبل والغنائم تساق أمامكم ، وتدخل المدينة قبلكم ، ومنه أيضاً : ولقد نصركم الله ببدر بأن دخل معكم المدينة سبعون أسيراً من المشركين . الخامسة : قيام المشركين بالهجوم المتكرر والمتعدد في جهة الصدور على المدينة ، فلم يكن كفار قريش وحدهم الذين يقومون بالهجوم ، إنما كانت قبائل عديدة تخرج معهم أو أنها تخطط للهجوم على المدينة. السادسة : قيام المشركين بالتضييق على المسلمين في خروجهم من المدينة، ومنعهم من مزاولة التجارة أو بيع التمور والثمار خارج المدينة . السابعة : قانون حاجة المسلمين إلى السلاح والرواحل والخيل سواء في سرايا الإستطلاع أو في الدفاع ، فحينما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة بدر كان كل اثنين أو ثلاثة أو أربعة يعتقبون بعيراً ، ومنهم من قطع مسافة الطريق في الذهاب مشياً على قدميه ، إذ كان عدد الصحابة ثلاثمائة وثلاثة عشر ، بينما لم يكن معهم إلا سبعون بعيراً ، ولكن حينما عادوا من معركة بدر لم يعودوا راجلين بفضل الله عز وجل إذ جلبوا معهم الغنائم والإبل التي تركها المشركون في هروبهم ، وهو من مصاديق نسبة النصر في معركة بدر إلى الله عز وجل وحده ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) . وهل عودة الصحابة من بدر على الرواحل من شكر الله عز وجل والثواب العاجل لهم ، الجواب نعم ، والذي يدل على أن شكره تعالى الآجل أكبر وأعظم ، لذا صار عدد من الصحابة الذين تخلفوا عن معركة بدر يتمنون لقاء العدو حين قدومه للفوز بشكر الله العاجل والآجل ، فقال تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( )( ) . قانون أفضل الجهاد الجهاد لغة مصدر جاهد ، وهو من الجهد أي بذل الوسع والطاقة وما فيه مشقة . أما في الإصطلاح فالمشهورخصه بجهاد الكفار في سوح المعارك ، وأنه لا ينصرف إلى غيره إلا مع القرينة . والمختار أن الأصل في الجهاد هو المعنى الأعم ، وإرادة الإجتهاد في طاعة الله ، ولا يتعين أحد وجوه الجهاد إلا مع الدليل خاصة ، وأن جهاد الكفار ورد في مواضع من القرآن بصيغة القتال ، وقاتلوا ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ) مما يدل على أن هذا القتال دفاعي وعلى نحو الإضطرار والضرورة ، وإلا فقد ورد قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ..] ( ) من غير تقييد بصفة الكره ونحوه مع أنه تكليف وعبادة . فلا يعني إطلاق لفظ الجهاد إرادة جهاد السيف ، وهل المتبادر من لفظ [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] الجهاد بمعناه الأعم ، الجواب نعم ، فيدخل فيه أداء الفرائض والإنفاق في سبيل الله ، ومنه تحمل الإبتلاء في الأموال والنفوس بسبب أختيار الإيمان . وقيل هناك تعارض بين الجهاد والصبر المستقرأ من الآيات والسور المكية، والجهاد الإيجابي أو العدائي في الآيات القرآنية المدنية . ولا أصل لهذا القول ، وليس من تعارض في منطوق آيات القرآن أو في مفهومها ، إنما ازداد إعتداء المشركين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعد الهجرة ، وأخذ صبغة العدوان والهجوم وغزوا المدينة . فلا يصح القول إن جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عدواني ، إنما تغيرت الحال بعد الهجرة باشتداد عدوان قريش ، فبعد أن كانوا في مكة يؤذون شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويسمعونه كلمات السخرية والإستهزاء ، ويضرون بعض أصحابه على نحو القضية الشخصية , صاروا يجهزون الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد ورد لفظ (أفضل الجهاد ) في الحديث النبوي ، ومع أن (أفضل) اسم تفضيل ويتبادر إلى الذهن أن هناك فرداً واحداً من الجهاد هو الأفضل وينصت السامع وتشرئب الأعناق لمعرفة هذا الأفضل ، ولكن يفاجئ المرء بأن هذا الأفضل متعدد في موضوعه وكيفيته ومناسبته ، وهو من الإعجاز في الحديث النبوي والسنة الشريفة ، من جهات : الأولى : إستنباط واستقراء أفضل الجهاد من آيات القرآن منه الدفاع : أولاً : الدفاع ورد عدوان المشركين . ثانياً : الصبر ، قال تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] ( ) . ولو أجريت إحصائية في آيات القرآن كفرع لدراسة مقارنة بين ورود الصبر والجهاد باقسامه لوجدت أن آيات الصبر أضعاف الجهاد . وقد يجتمع الصبر والجهاد في أمر واحد كما في قوله تعالى [ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) ومنها قوله تعالى [فَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا] ( ). أي جاهدهم بالقرآن ، خاصة وأن الآية مكية ، وليس هناك قتال ، وعدوان عساكر من المشركين . ثالثاً : الهجرة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ). رابعاً : البلاء وتحمله كما في آية البحث بقوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( ) . إذ تبين الآية تعدد وكثرة وشدة البلاء الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة . خامساً : الجهاد بالحجة والبيان . سادساً : اتباع الرسل ، قال تعالى [قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ). سابعاً : الجهاد بأداء الفرائض والعبادات . الثانية : ورود لفظ (أفضل الجهاد ) في الحديث النبوي . الثالثة : ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للجهاد ،وإرادة العهد من الألف واللام في الجهاد . الرابعة : إستقراء مفهوم أفضل الجهاد من النصوص والأحاديث . ومن الإعجاز في السنة النبوية أنها مرآة للقرآن ، ومنهاج عمل للمسلمين في أمور دينهم ودنياهم ، وفيه من شآبيب ومعاني الرحمة ما لا يحصى للتخفيف عنهم ، وللبشارة بالأجر والثواب ، ومنه تعدد وجوه أفضل الجهاد ، ودلالات هذا التعدد منه : الأول : جهاد النفس ومنعها من إتباع الشهوات في حال الرخاء والخلوات ، وعن الإمام علي عليه السلام قال (إن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث سرية فلما رجعوا قال: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الاصغر وبقي عليهم الجهاد الاكبر، قيل: يارسول الله وما الجهاد الاكبر . قال: جهاد النفس ثم قال صلى الله عليه وآله: أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه) ( ). الثاني : عن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام قال (سأل رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الجهاد فقال : ألا أدلك على جهاد لا شوكة فيه الحج . وأخرج عبد الرزاق عن عبد الكريم الجزري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إني رجل جبان ولا أطيق لقاء العدوّ . فقال : ألا أدلك على جهاد لا قتال فيه؟ قال : بلى يا رسول الله . قال : عليك بالحج والعمرة) ( ). وقد يتبادر إلى الذهن تقييد الحج كجهاد بأنه للضعيف والكبير والمرأة لسقوط الجهاد الدفاعي عنها ، ولكن الحج جهاد مطلق في موضوعه وحكمه كما عن (عمرو بن عبسة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الأعمال حجة مبرورة أو عمرة مبرورة) ( ). الثالث : أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر ، كما ورد في حديث ابي سعيد الخدري (قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة العصر ، ثم قام خطيبا بعد العصر إلى مغربان الشمس حفظها من حفظها ، ونسيها من نسيها ، وأخبر فيها بما هو كائن إلى يوم القيامة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن الدنيا حلوة خضرة . وإن الله تعالى مستخلفكم فيها ، فناظر كيف تعملون ، ألا فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء ، ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى فمنهم من يولد مؤمنا ، ويحيى مؤمنا ، ويموت مؤمنا ، ومنهم من يولد كافرا ويحيى كافرا ويموت كافرا ، ومنهم من يولد مؤمنا ويحيى مؤمنا ويموت كافرا . ومنهم من يولد كافرا ويحيى كافرا ويموت مؤمنا ، ألا إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم ، ألم تروا إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه، فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئا فليلزق بالأرض . ألا إن خير الرجال من كان بطيء الغضب سريع الفيء ، وشر الرجال من كان سريع الغضب بطيء الفيء ، فإذا كان الرجل سريع الغضب سريع الفيء فإنها بها وإذا كان الرجل بطيء الغضب بطيء الفيء فإنها بها . ألا إن خير التجار من كان حسن القضاء حسن الطلب ، وشر التجار من كان سيء القضاء سيء الطلب . فإذا كان الرجل حسن القضاء سيء الطلب فإنها بها ، وإذا كان الرجل سيء القضاء حسن الطلب فإنها بها ، ألا لا يمنعن رجلا مهابة الناس أن يقول بالحق إذا علمه . ألا إن لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته ، ألا وإن أكبر الغدر غدر إمام عامة، ألا وإن الغادر لواؤه عند استه . ألا وإن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ، فلما كان عند مغربان الشمس ، قال : إن مثل ما بقي من الدنيا فيما مضى منها كمثل ما بقي من يومكم هذا فيما مضى) ( ). (عن أبي أمامة : أن رجلا قال عند الجمرة : يا رسول الله أي الجهاد أفضل ؟ قال : أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) ( ) . ومن الإعجاز في الحديث أنه لا يطلب من المؤمن رفع السلاح في وجه الحاكم ،وإن كان جائراً ، إنما هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومهما كان جور الحاكم فاذا اطمئن أن الطرف الآخر لا يهدد سلطانه في كلمة فقد لا يضره ، وإن ضره وآذاه فان الأجر والثواب عظيم . الرابع : ورد عن أبي ذر قال (سألت رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أي الجهاد أفضل قال أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله عز و جل)( ). كما وردت أحاديث نبوية تدل على أن الجهاد باقسامه يأتي بالمرتبة الثانية بعد الإيمان بالله ورسوله ، وقد تطلب الهجرة بذاتها ، وليس للقتال ، قال تعالى [وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ). وعن الإمام علي عليه السلام قال (أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشنآن الفاسقين؛ فمن أمر بالمعروف شدّ ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق، ومن شنأ المنافقين وغضب لله عز وجل غضب الله تعالى له. وقال أبو الدرداء : لتأمرنّ بالمعروف ولتنهوُنّ عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطاناً ظالماً لا يجلّ كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم، ويستنصرون فلا ينصرون، ويستغفرون فلا يغفر لهم) ( ). وقال الحسن البصري (قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل هذه الجزيرة على الإسلام لا يقبل منهم غيره، وكان أفضل الجهاد) ( ) وهذا رأي للحسن البصري وهو تابعي (21-110 )هجرية . قانون التباين في الإنفاق على القتال تتجلى معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنسبة وقلة إنفاق النبي وإصحابه في معارك الإسلام الأولى بالقياس إلى إنفاق بلحاظ كثرة أفراد جيوش المشركين وجعجعة السلاح مع تحقق النصر على المشركين وهو شاهد على صدق نبوته ومدد الملائكة له إذ أن المختار أن هذه النسبة نحو 5% وهذا علم جديد نقترح النحقيق فيه ، وبامكان رجال الإقتصاد والتأريخ استحضار الوقائع في بدر وأحد ، والخندق وحنين . وتقدير النسبة مع هامش خطأ قليل في معارك الإسلام بدر وأحد والخندق وحنين مجتمعة ، ومن غير ذكر غنائم المسلمين وإلا فالنسبة في معركة بدر أقل إلى جانب الخسارة الفادحة والخزي للمشركين ، وكذا في معركة أحد والخندق , ومن الشواهد على قلة انفاق ومؤن المسلمين في المعارك نعتهم بالذلة في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ). وقد أكرم الله قريشاً بتخصيص سورة كاملة لهم ، ولم يذكر اسم قريش في سور القرآن الأخرى وهذه السورة مكية وتتصل بسورة الفيل ، واسم السورة إيلاف قريش ، وتسمى قريش ، وهي سورة بدليل الفصل بينها وبين سورة الفيل ، ومع هذا تقرآن معاً في الركعة الواحدة كما مبين في رسالتنا العملية (الحجة) ( ) . كما ورد عن عمر بن الخطاب أنه قرأ الفيل وقريش في ركعة واحدة وكذا ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام وذكر أنه في مصحف أبي بن كعب الجمع بين السورتين , ولكن المدار على المرسوم في المصحف ويمكن أن نؤسس قانوناً وهو : رسم المصحف برزخ دون الخلاف والشقاق بين المسلمين . ومن وجوه الصلة بين الآيتين هو أن هلاك أبرهة وجنوده عند إصرارهم على هدم البيت نعمة على قريش [فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ] ( ) [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ] ( ) ، فتكون اللام في لايلاف للتعليل ، أي لأجل إيلاف قريش . وهل إيلاف قريش من أجل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . الجواب نعم ، فايلاف قريش ليس مطلوباً بذاته فقط إنما هو وسيلة وواسطة لما فيه تعظيم شعائر الله واشراقة النبوة على أرض الحرم ، وليكون مناسبة لتدبرهم وعمارة المسجد الحرام بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستحضار بشارة إبراهيم عليه السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وهو من مصاديق دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام [وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( )، ليكون من معاني هذا الدعاء بالإستدلال بالبرهان الإني بالمعلول على علته بتقريب وهو تجلي العلة وعموم الدعاء السابق بواسطة ظهور المعلول وتحقق المصداق اللاحق ، وهذه فلسفة مستحدثة وأشراقة في علم التفسير والحمد لله ، تفتح آفاقاً للعلماء . فمن مصاديق سؤال إبراهيم وإسماعيل الله عز وجل منع إحتلال أبرهة للبيت الحرام وعدم هدمه الكعبة التي رفعا قواعدها بوحي من الله عز وجل . الجواب نعم ، ولا يقدح فيه محاربة قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلو إحتل أبرهة مكة وهدم البيت وبقى جنوده في مكة لما تهيأت ذات الأسباب والمقدمات لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بالتبليغ على الوجه الأتم . وفي رسالتي العملية (الحجة) المسجلة في دار الوثائق والكتب ببغداد برقم 345 لسنة 2001 ميلادية (الأقوى اتحاد سورتي الفيل وقريش، وكذا سورتي الضحى والإنشراح مرتبتين في حال القراءة مع الفصل بالبسملة بينهما)( ). لقد كانت قريش تشن الغزو بعد الغزو على المدينة ، وتبعث الأشخاص لإغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإذا هو وأصحابه على مشارف مكة وفي أطراف الحرم من غير عدة وأسلحة ودروع ، وقد أبطأ عنه الأعراب وأهل القرى خشية انقضاض قريش عليهم ، وهذه الخشية ليست عن فراغ إنما هي عن وجدان وتجربة ومعرفة بحال الأحنة والضعن الذي يستحوذ على قريش أزاء النبي وأصحابه والثارات التي بينهم . لقد تناجى بعض أهل القرى والقبائل حول المدينة بالإمتناع عن الذهاب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعمرة . وفي قوله تعالى [سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا]( )، ورد عن مجاهد قال : أعراب المدينة: جهينة ومزينة، استتبعهم لخروجه إلى مكة، قالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوه، فقتلوا أصحابه فنقاتلهم ، فاعتلوا بالشغل( ). اعتذروا واعتلوا أي أن الأعراب سيعتذرون لك عند الرجوع إلى المدينة بأن أموالهم وأفعالهم شغلتهم وليس عندهم من يقوم بتعاهدها غيرهم ، وهذا الإعتذار ليس صحيحاً ، إنما خافوا من بطش قريش , وقد تقدم البيان . وفي قولهم (قد جاءوه) شاهد تأريخي على أن المشركين هم الغزاة في معارك الإسلام الأولى ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يذهب إلى ديار المشركين إلا لأداء العمرة في البيت الحرام ، وإن كانت مناسكها إبتدأت من الإحرام من الميقات من ذي الحليفة الذي يبعد عن المسجد النبوي نحو أربعة عشر كيلو متراً . وبشر النبي وأصحابه بقدوم وائل بن حجر الحضرمي ابن أحد ملوك اليمن مسلماً راغباً طائعاً من غير أكراه . وقال صلى الله عليه وآله وسلم (يأتيكم بقية أبناء الملوك) ( ) . وبعدها ببضعة أيام دخل المدينة وائل بن حجر مسلماً فرحب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأدنى مجلسه ، وبسط له رداءه ، ودعا له ولأولاده وذريته وقال وائل (فلما أردت الرجوع كتب: ثلاث كتب كتاب خاص بي فضلني فيه على قومي: ” بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى المهاجر بن أبي أمية إن وائلاً يستسعيني ونوفلاً على الأقيال حيث كانوا من حضرموت) ( ). وقال (الامام أحمد: حدثنا حجاج، أنبأنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن علقمة ابن وائل، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقطعه أرضا. قال: وأرسل معى معاوية أن أعطها إياه – أو قال أعلمها إياه : فقال معاوية: أردفني خلفك. فقلت: لا تكون من أرداف الملوك. قال: فقال: أعطني نعلك. فقلت: انتعل ظل الناقة. قال: فلما استخلف معاوية أتيته فأقعدني معه على السرير فذكرني الحديث. قال سماك: فقال: وددت أنى كنت حملته بين يدي) ( ). منهاج وسنة النبي محمد (ص) في ملاقاة الإبتلاء لقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي والتنزيل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) لبيان إضاءة الوحي مسالك وسبل الهداية والرشاد . وهو حاضر عند الإبتلاء والفتنة ، وفي حال السراء والضراء ، ليكون من مصاديق تلاوة كل مسلم ومسلمة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) سبع عشرة مرة الصدور عن الوحي والتنزيل ، وإتخاذ السنة النبوية قدوة وطريق هداية . ومن خصائص بعثة الأنبياء مصاحبة الإبتلاء للنبي والذين يؤمنون ببعثته، وتعرضهم للأذى الشديد ، ومنهم من يسقط شهيداً في بدايات الدعوة أو حتى عند سيادة أحكام الشريعة وتسليم عامة الناس بالرسالة . وكان منهاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ملاقاة الإبتلاء مرآة لقوله تعالى في آية البحث [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ). ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، إشراقة سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الناس في أيام الإبتلاء ، والحوادث الطارئة سواء فيما يتعلق بالأموال أو النفوس والأفراد أو الجماعات ، ليقتدي بها المؤمنون وينتفع منها عامة الناس. وهل اتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإبتلاء من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، الجواب نعم ، بلحاظ أنها شعب من الوحي ، وتتقوم سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المقام بالصبر والتقوى ، وهي تفسير للقرآن ، قوال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، وتدل سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ضروب الإبتلاء على قانون وهو أن الإقامة على الصبر وتعاهد سنن التقوى من خصال الأنبياء وهو طريق للنجاة والفوز . قانون (لتبلون) واللحن ليس من حصر لمواطن الإبتلاء إذ تكون في القول والعمل ، وفي الأمور الخاصة والعامة وأسباب الخصومة والفتنة و(عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إليّ ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه ، فإنما أقطع له قطعة من النار)( ). وأم سلمة هي هند المخزومية أم المؤمنين . وفي الحديث إخبار عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن كونه بشر لا يعلم الغيب ، إلا أن يشاء الله ولا يعلم المحق من المبطل إلا بالبينة أو الوحي وهذا الحديث من وجوه تفسير قوله تعالى [إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ). ومعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ألحن بحجته أي : أفطن وأبين لها وأجدل وأنطق بها . فقد يكون أحد الخصمين أعلم بأفراد الحجة ومناسبة استحضارها ، وعدم خلطها مع غيرها ، قال تعالى [وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ]( ) . ويمكن ضرب مثل في المقام مثل المحامي الحاذق يقابل خصماً يجهل مواد القانون . (واللحن عند العرب : الفيطنة) ( ). (واللَّحَن بفتح الحاء: الفطنة، واللَّحْن: الخطأ في الكلام)( ). ولعل اللحن والخطأ في الإعراب كان موجوداً أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه قليل . كما ذكر في بعض كتب اللغة حديثاً لم يثبت ولا سند له وهو : أن رجلاً لحن بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي : ارشدوا أخاكم فقد حنك ( ). وكثرة اللحن عند دخول العجم في الإسلام ، واختلاطهم مع العرب ، وتصديهم للكلام ونقل الأحاديث والروايات ، وسرد الأخبار والقصص فأملى الإمام علي عليه السلام أصول علم النحو على أبي الأسود الدؤلي وهو ظالم بن عمرو منها : الكلام كله ثلاثة أشياء اسم وفعل وحرف ومنها بيان أقسام الإعراب وهي الرفع والنصب والجر والجزم ومنها تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة . وقال ابن أبي الحديد في ذكره لمناقب الإمام علي عليه السلام (ومن العلوم علم النحو و العربية و قد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه و أنشأه وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه و أصوله من جملتها الكلام كله ثلاثة أشياء اسم و فعل وحرف . ومن جملتها تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة و تقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع و النصب و الجر و الجزم و هذا يكاد يلحق بالمعجزات لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر و لا تنهض بهذا الاستنباط)( ). ليكون من معاني (لتبلون) بلحاظ اللحن وجوه : الأول : قانون التفقه في الدين تنمية لملكة الحجة والفطنة . الثاني : قانون القرآن مدرسة البرهان . الثالث : قانون الإيمان حرز من اللحن والخطأ في القول والعمل . الرابع : قانون تفضل الله عز وجل بفتح باب التوبة من اللحن والخطأ . ترى ما هي النسبة بين الفقاهة واللَحَن في الحجة ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالفقاهة أعم ، فنزلت آية البحث للإخبار عن ابتلاء المسلمين وللتخفيف عنهم من جهات : الأولى : الإرتقاء والحذق في الحجة . الثانية : الوقاية من الخطأ واللحن الذي قد يجلب البلاء . الثالثة : قانون اللجوء إلى الدعاء لصرف البلاء . قوله تعالى [وَأَنْفُسِكُمْ] لقد فتح الله باب الإبتلاء المترشح عن الإيمان لوجوه : الأول : الأجر والثواب على كل فرد من أفراد الإبتلاء سواء بالمال أو النفس . الثاني : جذب الناس إلى الإيمان . الثالث : كف أيدي الكفار عن المؤمنين وإخبارهم بأن أذاهم لا يزيد المؤمنين إلا ثباتاً وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه”)( ). لقد سقط عدد من الشهداء في معارك الإسلام الدفاعية منهم أربعة عشر في معركة بدر ، وسبعون في معركة أحد ، وهل كثرة جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام وأكثر الصحابة يوم معركة أحد من قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ]الجواب نعم لبيان الحاجة إلى خاتمة آية البحث في تعاهد الصبر والتقوى والإجتهاد في التبليغ الذي هو من [عَزْمِ الْأُمُورِ]. كما تم اغتيال وقتل عدد من الصحابة غدراً ، كما في واقعة بئر معونة التي أشرنا إلى بعض الدروس المستقرأة منها في هذه الجزء . وكما في سرية الرجيع ، وكان عددهم عشرة برئاسة عاصم بن ثابت الأنصاري ، فخرج عليهم نحو مائة رجل رام من بني هذيل واتبعوا آثارهم إذ كان مأكلهم تمر يثرب وأحاطوا بهم ،وقتلوا أكثرهم وأسروا خبيب بن عدي الأنصاري . وزيد بن الدثنة وباعوهما على قريش ليتباهوا بقتلهما ، وكان خبيب (أول من صلب في الإسلام، وأول من سنَّ صلاة ركعتين عند القتل)( ), كما كان داعية إلى الله حتى آخر لحظة من حياته . فحينما قدموه للصلب في التنعيم ، توجه نحو المدينة لسلام على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأثنى عليه ، ثم القى شعراً من الطويل بين الجموع كما عن ابن إسحاق : (لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا … قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وقد قربوا أبناءهم ونساءهم … وقربت من جذع طويل ممنع وكلهم يبدي العداوة جاهدا … علي لأني في وثاق بمضيع إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي … وما جمع الأحزاب لي عند مصرعي فذا العرش صبرني على ما أصابني … فقد بضعوا لحمى وقد ضل مطمعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ … يبارك على أوصال شلو ممزع وقد عرضوا بالكفر والموت دونه … وقد ذرفت عيناي من غير مدمع وما بي حذار الموت إني لميت … ولكن حذاري حر نار تلفع فلست بمبد للعدو تخشعا … ولا جزعا إني إلى الله مرجعي ولست أبالي حين أقتل مسلما…على أي حال كان في الله مصرعي)( ). وتوجه خبيب بالدعاء على الكفار فقال (اللهم أحصهم عددا وخذهم بددا ) . ثم خرج أبو سروعة بن الحارث بن عامر ابن نوفل بن عبد مناف فضربه فقتله) ( ) وبمثل هذا الدعاء دعا الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء . لتمر الأيام ويكون التنعيم الذي يبعد عن المسجد الحرام نحو(7) كم ميقات أهل مكة والمقيمين فيها للحج والعمرة . وقد تقدم التفصيل في ذكر قصتهما . ويحتمل قتل الصحابي بلحاظ آية البحث جهات : الأولى: إنه من الإبتلاء بنفسه على نحو الخصوص . الثانية : إنه إبتلاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشهيد وعياله. الثالثة : إنه امتحان وإختبار وابتلاء لعامة المسلمين . والمختار هو الثالثة أعلاه ، ليكون من معاني تقدير آية البحث : لتبلون في شهادة بعض منكم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] ( ). ومن وجوه الإبتلاء العام في شهداء بئر معونة أنهم من القُراء وحفظة القرآن ، فكانت صدورهم خزائن لآيات وسور القرآن ، كما كانوا يتدارسون الآيات ومضامينها ودلالاتها . وأورد البخاري في اسناده (عن أنس بن مالك، أن رعلا وذكوان وعصية وبنى لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عدو فأمدهم بسبعين من الانصار، كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل . حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من العرب: على رعل وذكوان وعصية وبنى لحيان، قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رفع ” بلغوا عنا قومنا أنا لقد لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا) ( ). قال الواقدي (حدثني عبد الله بن الحارث، عن أبيه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم محمد بن مسلمة في عشرة، فورد عليهم ليلاً، فكمن القوم حتى نام ونام أصحابه، فأحدقوا به وهم مائة رجل، فما شعر القوم إلا بالنبل قد خالطتهم. فوثب محمد بن مسلمة وعليه القوس، فصاح بأصحابه: السلاح! فوثبوا فتراموا ساعةً من الليل، ثم حملت الأعراب بالرماح فقتلوا منهم ثلاثة، ثم انحاز أصحاب محمدٍ إليه فقتلوا من القوم رجلاً، ثم حمل القوم فقتلوا من بقي. ووقع محمد بن مسلمة جريحاً، فضرب كعبه فلا يتحرك، وجردوهم من الثياب وانطلقوا، فمر رجلٌ على القتلى فاسترجع، فلما سمعه محمدٌ تحرك له فإذا هو رجلٌ مسلم، فعرض على محمدٍ طعاماً وشراباً وحمله حتى ورد به المدينة. فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلاً إلى مصارعهم فلم يجد أحداً واستاق نعماً ثم رجع. قال أبو عبد الله: فذكرت هذه السرية لإبراهيم بن جعفر ابن محمود بن محمد بن مسلمة فقال: أخبرني أبي أن محمد بن مسلمة خرج في عشرة نفر: أبو نائلة، والحارث بن أوس، وأبو عبس بن جبر، ونعمان بن عصر، ومحيصة بن مسعود، وحويصة، وأبو بردة ابن نيار، ورجلان من ميزنة، ورجلٌ من غطفان، فقتل المزنيان والغطفاني، وارتث محمد بن مسلمة من القتلى. قال محمد: فلما كانت غزوة خيبر نظرت إلى أحد النفر الذين كانوا ولوا ضربي يوم القصة، فلما رآني قال: أسلمت وجهي لله! فقلت: اولى!) ( ). أي أنه خشي مؤاخذة وانتقام محمد بن مسلم فبادر إلى الإخبار عن توبته وإسلامه وقرأ قراناً للإحتجاج والشهادة بقوله تعالى [فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ] ( ) . فأجابه محمد بن مسلم هذا هو الأولى والأحسن وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إن الاسلام يجبّ ما قبله) ( ) . وهل يختص هذا الإبتلاء بأفراد السرية نفسها أم أنه عام يشمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وعوائلهم ، الجواب هو الثاني ، ليكون من معاني آية البحث : لتبلون في أموالكم وأنفسكم بأن يقتل الكفار عدداً منكم فاصبروا واتقوا الله . ومن الآيات أن تحمل المسلمين الإبتلاء والجرح والقتل برضا وصبر مع إظهار حب لقاء الله عز وجل سبب لكف أيدي طائفة من الناس عنهم ، ودخول طائفة الإسلام لأن هذا الرضا والصبر معجزة غيرية للقرآن وشاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بايجاد أمة مؤمنة تضحي في سبيل الله ، وتتلقى البلاء بشوق ، ليكون من معاني قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ]تحدي الكفار ، وبعث الخوف والرعب في نفوسهم من صبر المسلمين ، وملكة التحمل عندهم . وقد نزلت فريضة الصلاة مع بدايات البعثة النبوية ليتلو فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والذين آمنوا معه من الصحابة وأهل البيت سورة الفاتحة وبعض السور المكية ، وهو من أسرار قصر هذه السور . وهل هذه التلاوة من مصاديق آية البحث [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ] الجواب نعم . وقد كانت قريش تؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لتلاوتهم آيات القرآن ، كما في إعتدائهم بالضرب على أبي ذر الغفاري وعبد الله بن مسعود . وعن (عبد الله بن مسعود قال اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا والله ما سمعت قريش بهذا القرآن يجهر لها به قط فمن رجل يسمعهم , فقال عبد الله بن مسعود أنا قالوا إنا نخشاهم عليك إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه فقال دعوني فإن الله سيمنعنى . قال فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها حتى قام عند المقام ثم قال (بسم الله الرحمن الرحيم – رافعا بها صوته – [الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ]( ). قال ثم استقبلها يقرأ فيها قال وتأملوا وجعلوا يقولون ما يقول ابن أم عبد ثم قالوا إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه . وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه فقالوا هذا الذى خشينا عليك قال ما كان أعداء الله أهون على منهم اليوم لئن شئتم لاغادينهم غدا بمثلها قالوا لا حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهون) ( ). لقد كانت تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقرآن سبباً لدخول طائفة من الناس الإسلام ، وإنبهار اساطين اللغة ، وأقرارهم بنزوله من عند الله ، ودخول أكابر منهم الإسلام لسماعهم آيات من القرآن . (عن ابن إسحاق، قال: كان الطفيل بن عمرو الدوسي يُحدث أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل شريفاً شاعراً لبيباً. فقالوا: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل بين أظهرنا، قد عضل بنا وفرّق جماعتنا، وإنما قوله كالسحر، يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبينه وبين زوجه، وإنما نخشى عليك وعلى قومك، فلا تكلمه ولا تسمع منه. قال: فوالله ما زالوا بي حتى اجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه، حتى حشوت أذني كرسفاً، فرقا أن يبلغني من قوله، وأنا أريد أن لا أسمعه. قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي عند الكعبة . قال: فقمت قريباً منه، فأبى الله إلا أن يسمعني قوله، فسمعت كلاماً حسناً . قال: فقلت في نفسي: واثكل أمي! والله إني لرجل شاعر لبيب ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع هذا الرجل ما يقول! إن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته. قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته، فتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فقلت: يا محمد، إن قومك قالوا لي كذا وكذا، ثم إن الله أبى إلا أن أسمع قولك، فسمعت قولاً حسناً، فاعرض علي أمرك. قال: فعرض علي الإسلام، وتلا علي القرآن، وقال: فوالله ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه، فأسلمت، وقلت: يا رسول الله، إني امرؤٌ مطاع في قومي، وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية، تكون لي عوناً عليهم فيما أدعوهم إليه. فقال: ” اللهم، اجعل له آية ” . قال فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثينة تطلعني على الحاضر، وقع نور بين عيني مثل المصباح، قال: فقلت: اللهم، في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنوا أنها مثلة لفراقي دينهم. فتحولت في رأس سوطي، فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق، وأنا أهبط إليهم من الثنية، فلما نزلت أتاني أبي، وكان شيخاً كبيراً، فقلت: إليك عني أبة، فلست منك ولست مني. قال: ولم، أي بني؟ قلت: إني أسلمت. قال: أي بني، فديني دينك، فأسلم. ثم أتتني صاحبتي، فقلت لها مثل ذلك، فأسلمت، وقالت: أيخاف عليّ من ذي الشرى؟ – صنم لهم – فقلت: لا، أنا ضامن لذلك. ثم دعوت دوساً فأبطئوا عن الإسلام، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقلت: يا رسول الله، إنه قد غلبني على دوس الزنا، فادع الله عليهم. فقال: ” اللهم اهد دوساً، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم ” . قال: فرجعت، فلم أزل بأرض قومي دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وقضى بدراً وأحداً والخندق، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمن أسلم معي من قومي، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر، حتى نزلت المدينة بسبعين أو بثمانين بيتاً من دوس، ثم لحقنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر، فأسهم لنا مع المسلمين. ثم لم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى فتح الله، عز وجل، عليه مكة، فقلت: يا رسول الله، ابعثني إلى ذي الكفين – صنم عمرو بن حممة – حتى أحرقه. فخرج إليه طفيل يقول وهو يحرقه، وكان من خشب: ” الرجز ” يا ذا الكفين لست من عبادكا … ميلادنا أقدم من ميلادكا! ثم رجع طفيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان معه بالمدينة، حتى قبض الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. فلما ارتدت العرب خرج مع المسلمين مجاهداً أهل الردة حتى فرغوا من نجد، وسار مع المسلمين إلى اليمامة، فقال لأصحابه: إني رأيت رؤيا فاعبروها، إني رأيت رأسي حلق، وأنه خرج من فمي طائر، وأنه لقيتني امرأة فادخلتني في فرجها، وأرى ابني عمراً يطلبني طلباً حثيثاً، ثم رأيته حبس عني، قالوا: خيراً . قال : أما أنا فقد أولتها، أما حلق رأسي فقطعه، وأما الطائر فروحي، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تحفر لي، فأغيّب فيها، وأما طلب ابني لي ثم حبسه عني فإني أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابني، فقتل الطفيل باليمامة شهيداً، وجرح ابنه عمرو بن الطفيل ثم عوفي، وقتل عام اليرموك) ( ). ترى هل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة والإمام علي عليهما السلام وباقي الصحابة يتوقعون الإبتلاء والأذى عند صلاتهم في البيت الحرام ، بين قوم مشركين ، الجواب نعم . وهل هو من مصاديق آية البحث أم أن القدر المتيقن منها البلاء أوان نزول الآية وما بعده ، وأن آية البحث مدنية نزلت بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب هو الأول ، ليكون تقدير آية البحث على وجوه : الأول : لقد ابتليتم بأموالكم وأنفسكم . الثاني: اشكروا الله عز وجل على نجاتكم من ضروب الإبتلاء التي تعرضتم لها . الثالث : البشارة بالثواب على الإبتلاء . لقد تلقي الأنصار من الأوس والخزرج التهديد والوعيد من مشركي قريش بسبب إسلامهم وإيوائهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ،وهو من الإبتلاء الشديد في الأموال والنفوس ، فقد يجتمع الإبتلاء في موضوع متحد لمعاني السيوف في ميادين المعارك وسقوط القتلى من المسلمين. وقد يقال قد رزق الله عز وجل الشهداء مرتبة عظيمة وهم أحياء عند الله ، قال سبحانه [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] ( ) . والجواب ليس من تعارض بين الآية أعلاه وبين جعل القتل في ميدان المعركة من الإبتلاء في النفوس لأنه زهوق للروح ، وقطع لعبادة الشهيد الشخصية ، وأذى وحزن ومصيبة عند أهله وأصحابه . وهل من معاني قوله تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] ( ) أن الشهيد يتم صلاته وعباداته بعد موته ، وهو من معاني الحياة أم يكتب له أجرها وإن لم يؤدها ، الجواب هو الثاني ، إذ ليس من عمل وتكليف في الآخرة . وهذا الأجر من مصاديق الحياة في الآخرة ، ولبيان مسألة بخصوص آية البحث ، وهو أن إبتلاء المؤمنين في الدنيا رحمة لهم في الآخرة ولذويهم ، وليكون من معاني قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) ومؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار فوز الحي والمعافى بأجر ابتلاء الشهيد والمبتلى منهم . فيكون من معاني وتقدير الآية : ولتبلون في أمواتكم وأنفسكم بفقد عدد من أحبائكم المؤمنين . ويمكن تقسيم الإبتلاء في النفوس إلى أقسام : الأول : الإبتلاء الذاتي الذي يصيب ذات الفرد . الثاني : الإبتلاء الغيري المترشح عن مجئ الإبتلاء مثل حال اليتم الذي يلحق ابن الشهيد وصيرورة زوجته أرملة وفاقداً ( ). الثالث : الإبتلاء السالب لإنخرام عمر الشهيد ، والحيلولة دون إنجابه للأبناء وعمارته للأرض بالذكر والصلاة والدعاء , ومن الشهداء في معارك الإسلام الأولى من مات دارجاً لم يعقب . ومن الإعجاز في المقام قصة غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر الذي كانت الأوس تتفاخر به ، حينما يتفاخر الحيان الخزرج والأوس فتقول (منا غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر) ( ). إذ بادر حنظلة إلى الخروج إلى معركة أحد في الصباح ، وكان قد ألّم بأهله . ولما سمع النفير سارع إلى الخروج قبل أن يغتسل الجنابة لأن جيش المشركين على مشارف المدينة . وعن عبد الله بن الزبير (قال: كان حنظلة بن أبي عامر الغسيل التقى هو وأبو سفيان بن حرب فلما استعلى حنظلة رآه شداد بن شعوب فعلاه بالسيف حتى قتله . وقد كاد يقتل أبا سفيان فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ” إن صاحبكم تغسله الملائكة فاسألوا صحابته ” فقالت خرج وهو جنب لما سمع الهيعة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ” لذلك تغسله الملائكة) ( ) لبيان مسألة بخصوص قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ]وهي أن الملائكة تواسي المؤمنين أحياءً وأمواتاً عندما يأتيهم البلاء ، وفيه بعث للطمأنينة في نفوس المؤمنين والمؤمنات ، والصبر عند تلقي البلاء والأذى والمصيبة ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ). ليولد ولده عبد الله يتيماً في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويكون من زهاد الأنصار ، ليكون من وجوه ومعاني آية البحث [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ] فيثيبكم الله ، ويجعل لكم خلفاً وذرية يتصفون بالصبر والتقوى . وروى (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ الْمَلَائِكَةِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْهَمٌ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً) ( ). ومن الإعجاز والدلالة الفقهية في الحديث تقييد الحرية بأن المربي يعلم بحرمة الربا ، وأن المال الذي يقبضه ربوي . (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِى عَامِرٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أُمِرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاَةٍ طَاهِرًا أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ فَلَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ أُمِرَ بِالسِّوَاكِ لِكُلِّ صَلاَةٍ) ( ). وعنه (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الرجل أحق بصدر دابته وصدر فراشه ، وأن يؤم في رحله) ( ). وعنه (قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوف بالبيت على ناقة لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك) ( ). كما روي الحديث (عن قدامة بن عبد الله قال : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يرمي الجمار على ناقة ليس ضرب ولا طرد ولا إليك إليك) ( ). ويدل في ظاهره على أن الني صلى الله عليه وآله وسلم طاف على ناقته من غير علة أو مرض . ومن الإبتلاء في النفوس حال الفزع عند أهل المدينة والخوف من غزو المشركين في كل يوم ، خاصة وأن التهديد بالغزو لم ينحصر بقريش والجيوش التي تقدم إلى مكة ، إنما كانت بعض القبائل والرؤساء يجمعون الجموع لغزوها ، إلى جانب وقوع الإغتيالات للمؤمنين وسعي المشركين لإغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وهل كان الذي يأتي من المنافقين من البلاء يؤذي المؤمنين في الأموال والأنفس ، الجواب نعم ، وهو الذي بيناه في قانون (قانون الإبتلاء بالمنافقين)( ). قانون الصفّة معجزة للنبي (ص) الصُفّةُ بالضم : السَقيفة . فأصحاب الصُفّة: أي أصحاب السقيفة. (عن يحيى بن يعيش بن الوليد ابن قيس بن طخفة الغفاري، قال: وكان أبي من أصحاب الصُّفَّة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمر الرجل يأخذ بيد الرجل، والرجل يأخذ بيد الرجلين، حتى بقيت خامس خمسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : انطلقوا، فانطلقنا معه إلى بيت عائشة. فقال : يا عائشة ، أطعمينا، فجاءت بدشيشةٍ فأكلنا، ثم جاءت بحيسة مثل القطاة فأكلنا، ثم بِعُسٍّ عظيم فشربنا، ثم انطلقنا إلى المسجد)( ). كما كانت هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم معجزة له ، فكذا هجرة الصحابة ، فكل فرد منها وراءه قصة تدل على الإعجاز الغيري للقرآن ، وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبرهان الإني بالإستدلال من المعلول إلى العلة ، ومن الأثر إلى المؤثر ، قال تعالى في الثناء على الأنصار والمهاجرين [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ). فلم يترك هؤلاء المهاجرون أموالهم ، ويقصدوا الغربة ، ويتحملوا الأخطار إلا لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإدراكهم لوجوب إتباعه . وهل إنقطع الإبتلاء بالهجرة ، الجواب لا ، بدليل أن آية البحث مدنية ونزلت بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأكثر الصحابة ، وجاءت بصيغة المضارع [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ]( )، وللوجدان والشواهد التي تدل على تعدد وتوالي إبتلاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة . ومنه : الأول : كثرة وتزايد وجود الصحابة من المهاجرين في المدينة وما فيه من الحاجة إلى الأموال وتوفير النفقات الإضافية في الإطعام والسكن . الثاني : قلة فرص العمل مع اشتداد أذى قريش . الثالث : صبر المسلمين وعموم أهل المدينة من الأنصار وعامة الأوس والخزرج واليهود . ويدل عليه استحداث صفة وهي أصحاب الصفّة وهم المهاجرون الفقراء ممن دخلوا المدينة وليس لهم مأوى أو مسكن ، وليس من فرصة عمل تناسبهم في المدينة ، إذ يغلب فيها العمل الزراعي ، وليس للمهاجرين من قريش ، ومن حول مكة خبرة في الزراعة والحرث والسقي ، فقد كان أهل مكة يزاولون التجارة ، لذا ورد قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ..] ( ). وبعدما تحولت قبلة المسلمين من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بعد ستة عشر شهراً من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، كما في قوله تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ] ( ) بقى حائط القبلة الأولى في مؤخر المسجد النبوي قائماً ، ليس هناك حركة دخول وخروج منه، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فظلل، وأطلق عليه اسم الظلة أو الصفّة ، وليس لها ما يسترها من جوانبها . وحينما أزداد عدد المهاجرين ، ولا يستطيع الأنصار إيواءهم في بيوتهم خاصة بعد المؤاخاة بين المهاجرين الأوائل والأنصار . فصار المهاجرون الجدد يأوون إلى الصفّة ، يذكرهم الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الغذاء ، وكذا عدد من الصحابة . ونزل بعض الأنصار من أهل المدينة في الصفّة مواساة للمهاجرين ، وزهداً في الحياة والتفرغ للعبادة منهم : الأول : كعب بن مالك الأنصاري . الثاني : حنظلة بن أبي عامر الأنصاري . الثالث : حارث بن النعمان الأنصاري . وليس من عدد ثابت لأهل الصفّة ، إنما كانوا يزدادون مرة وينقصون أخرى ، من جهات : الأول : عدد الوافدين إلى المدينة . الثاني : أحوال الجزيرة . الثالث : شدة أو خفة الضغوط والقهر من قريش وحلفائها . الرابع : إتساع الدعوة إلى الإسلام . الخامس : عجز الكفار عن منع الهجرة أو صدّ المؤمنين منها ذكوراً وأناثاً شباباً وكهولاً وشيبة . السادس : مبادرة الأنصار لإيواء المهاجرين الجدد إلى المدينة , وتهيئة سكن خاص , والأخوة بينهم . السابع : زواج بعض المهاجرين من أهل المدينة ، وانتقالهم إلى مسكن خاص . الثامن : تهيئة فرصة عمل وسبب للكسب لبعض المهاجرين . وتدور الأيام ليورث عدد من أهل الصفة أموالاً طائلة فمثلاً ترك خباب بن الأرت مالاً قدره أربعين ألف دينار , وترك عبد الله بن مسعود تسعين ألف درهم ودفع عثمان لورثته (25) ألف أخرى كان قد حبسها لسنتين . وكانت تركة الزبير بن العوام نحو (35) مليون درهم عدا الأراضي الزراعية كما أنه اتجه إلى شراء العقارات في المدينة والكوفة والبصرة والفسطاط وغيرها . وقدرت تركة طلحة بن عبيد الله (600) ألف دينار ذهب ، ونحو مليوني درهم فضة عدا الدور والأراضي الزراعية وكانت له ضيعة في العراق يقدر دخلها بنحو (400) ألف درهم سنويا . لقد كان نظام أصحاب الصفّة طوعياً وإنطباقياً ، وهو من أحكام الضرورة ، ليبقى شاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا يهاجر مئات الأشخاص إلى مكان واحد ، تاركين خلفهم الأهل والأموال والأمن بين أبناء العمومة ليعيشوا في ظلة ليس لها جدران ويتطلعون لمن يمدهم برغيف خبز ، ومع هذا يتعرضون للأخطار من المشركين ، ولكنها عقيدة التوحيد القاهرة ، التي تستحوذ وتسيطر على النفس والجوارح ، والنظر إلى الطلعة البهية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وصيرورة لذة المؤمن في حضور صلاة الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء أو الصبح ، وغاية بهجته في الإستماع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتلو آيات القرآن، أو حينما يرتقي المنبر ، فتشع أركان المسجد بضياء كلماته ، وما فيها من أنوار الهداية والرشاد . ومن بين أصحاب الصفة : الأول : أبو ذر الغفاري حيث نسب نفسه إليهم . الثاني : أبو هريرة حيث نسب نفسه إليهم. الثالث : واثلة بن الأسقع. الرابع : قيس بن طهفة الغفاري، حيث نسب نفسه إليهم . الخامس : كعب بن مالك الأنصاري. السادس : سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي . السابع : سلمان الفارسي رضي الله عنه. الثامن : أسماء بنت حارثة بن سعيد الأسلمي. التاسع : حنظلة بن أبي عامر الأنصاري (غسيل الملائكة). العاشر : حازم بن حرملة. الحادي عشر : حارثة بن النعمان الأنصاري النجاري. الثاني عشر : حذيفة بن أسيد أبو سريحة الأنصاري. الثالث عشر : حذيفة بن اليمان وهو من المهاجرين حالف الأنصار فعد في جملتهم. الرابع عشر : جارية بن جميل بن شبة بن قرط . الخامس عشر : جعيل بن سراقة الضمري. السادس عشر : جرهد بن خويلد (وقيل بن رزاح) الأسلمي. السابع عشر : رفاعة بن لبابة الأنصاري، وقيل اسمه بشير بن عبد المنذر من بني عمرو بن عوف. الثامن عشر : عبد الله ذو البجادين. التاسع عشر : دكين بن سعيد المزني وقيل الخثعمي. العشرون : خبيب بن يساف بن عنبة. الحادي والعشرون : خريم بن أوس الطائي. الثاني والعشرون : خريم بن فاتك الأسدي. الثالث والعشرون : خنيس بن حذافة السهمي. الرابع والعشرون : خباب بن الأرت. الخامس والعشرون: الحكم بن عمير الثمالي . السادس والعشرون : حرملة بن أياس، وقيل هو حرملة بن عبد الله العنبري . السابع والعشرون : زيد بن الخطاب ،وهو أخو عمر بن الخطاب لأبيه. الثامن والعشرون : عبد الله بن مسعود. التاسع والعشرون : الطفاوي الدوسي . الثلاثون : طلحة بن عمرو النضري. الحادي والثلاثون : صفوان بن بيضاء الفهري . الثاني والثلاثون : صهيب بن سنان الرومي. الثالث والثلاثون : شداد بن أسيد. الرابع والثلاثون : شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم. الخامس والثلاثون : السائب بن خلاد. السادس والثلاثون : سالم بن عمير من الأوس من بني ثعلبة بن عمرو بن عوف. السابع والثلاثون : سالم بن عبيد الأشجعي . الثامن والثلاثون : سفينة مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. التاسع والثلاثون : سالم مولى أبي حذيفة. الأربعون : أبو رزين الحادي والأربعون : الأغر المزني . الثاني والأربعون : بلال بن رباح. الثالث والأربعون : البراء بن مالك الأنصاري الرابع والأربعون : ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الخامس والأربعون : ثابت بن وديعة الأنصاري. السادس والأربعون : ثقيف بن عمرو بن شميط الأسدي. السابع والأربعون : سعد بن مالك أبو سعيد الخدري . الثامن والأربعون : العرباض بن سارية ، وفي سنة خمس وسبعين للهجرة (توفي العرباض بن سارية السلمي ، أحد أصحاب الصفة بالشام)( ). التاسع والأربعون : غرفة بن مالك الأزدي ، ذكره ابن سكن في الصحابة في معرفة الصحابة 2/424 ، وقال غرفة (دخلني شك من شأن علي ، فخرجت معه على شاطئ الفرات، فعدل عن الطريق ووقف حوله، فقال بيده: هذا موضع رواحلهم، ومناخ ركابهم ومهراق دمائهم، بأبي من لا ناصر له في الأرض ولا في السماء إلا الله! فلما قتل الحسين خرجت حتى أتيت المكان الذي قتلوه فيه، فإذا هو كما قال، ما أخطأ شيئاً، قال: فاستغفرت الله مما كان مني من الشك، وعلمت أن علياً عليه السلام لم يقدم إلا بما عهد إليه فيه. أخرجه ابن الدباغ مستدركاً على أبي عمر) ( ). الخمسون : عبد الرحمن بن قرط. الحادي والخمسون : عباد بن خالد الغفاري. الثاني والخمسون : فضالة الليثي ، ويُعد في أهل البصرة له صحبة (حديثه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال له : ” حافظ على العصرين ” يعني الصبح والعصر . روى عنه ابنه عبد الله) ( ). الثالث والخمسون : خريم بن فاتك الأسدي . الرابع والخمسون: خبيب بن بساف . الخامس والخمسون : الحارث بن نبيه ، ذكره أبو عبد الرحمن السلمي في أصحاب الصفة( ). السادس والخمسون : ربيعة بن كعب الأسلمي أبو فراس (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إلى أهل العامة من الناس فيقول : فلان اذهب بفلان فأضفه , فلا يزال حتى بقيت أنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خامس خمسة فقال : انطلقوا إلى البيت فانطلقنا معه فدخلنا بيت عائشة وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب فقال : يا عائشة أطعمينا فجاءت بحشيشة فأكلنا. ثم قال : يا عائشة أطعمينا فجاءت بحيسة كأنها قطاة فأكلوا ثم قال : يا عائشة اسقينا فجاءت بقعب فيه ضياح فأكلوا ثم قال لنا : إن شئتم فبيتوا ههنا وإن شئتم فانطلقوا إلى المسجد فقلنا : لا بل ننطلق إلى المسجد وكرهنا أن نشق على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنمت في المسجد فبينا أنا مضطجع على بطني إذا أتاني رجل فحركني برجله فقال : انحرف هكذا فإنها نومة يبغضها الله تعالى فنظرت فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ). السابع والخمسون : سالم بن عمير ، وهو من البكائين الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستحملونه في الخروج إلى تبوك (فقال – عليه الصلاة والسلام – : لا أجد ما أحملكم عليه، وهم: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب المازني، والعرباض بن سارية، وهرم بن عبد الله، وعمرو بن عتمة، وعبد الله ابن مغفل، وعبد الله ابن عمرو المزني، وعمرو بن الحمام، ومغفل المزني، وحضرمي بن مازن، والنعمان، وسويد، ومعقل وعقيل، وسنان، وعبد الرحمن، وهند، بنو مقرن، وهم الذين قال الله تعالى فيهم : (تَوَلوَا وأعيُنُهُم تَفِيضُ مِنَ آلدَّمعِ حَزَناً ألا يجدوا مَا ينُفِقُونَ)( )( ). لقد ضاقت أزقة المدينة بالمهاجرين من مكة وغيرها ، وهل هو من الإبتلاء ، الجواب نعم ، سواء بالنسبة للمهاجرين أو الأنصار ، وفي الأموال والأنفس ومع هذا أظهر الصحابة الرضا والغبطة بهذا التزاحم ، وكانوا يستبشرون بقدوم أي مهاجر ، ويتابعون أنباء الهجرة ، إذ يكون الحضور في المسجد النبوي أوقات الصلوات اليومية كاللوحة الضوئية الواهية إلى جانب حال اصحاب الصفّة ومعرفتهم بالصحابي الذين يقدم عليهم مسلماً . ولم يكن أصحاب الصفة منعزلين عن الأنصار . ومن وجوه الإلتقاء والجمع بينهم : الأول : الصلوات اليومية الخمس ، وأداؤها جماعة . الثاني : تفقه أهل الصفة على يد المهاجرين الأوائل والأنصار ، وتدارسهم للقرآن ، وحفظهم لآياته ، لتكون الصفّة مدرسة المهاجرين في الفقاهة والتفسير . الثالث : قيام الأنصار والمهاجرين الأوائل بأخذ عدد من أهل الصفة إلى بيوتهم كل يوم في أوقات الغذاء والعشاء . الرابع: التدبر بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . (وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث وإن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس وسادس) ( ). و(عن طلحة بن عمرو قال كان الرجل إذا قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان له بالمدينة عريف نزل عليه وإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة قال وكنت فيمن نزل الصفة فوافقت رجلا وكان يجرى علينا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل يوم مد من تمر بين رجلين) ( ) . وفي رواية عن فضالة الليثي قال : (كان يجري علينا من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل يوم اثنين مدان من تمر) ( ) . ولا تعارض بين الخبرين ، والراجح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يوسع عليهم أحياناً عندما يكون عنده من الخمس أو الزكاة والصدقات، وأحياناً يسقيهم اللبن أو يطعمهم الحيسة وهي طعام من التمر والدقيق والسمن أو شعير محمص أو الجشيشة ، وهي (حِنْطَةٌ تُطْحَنُ جَليلاً، فَتُجْعَلُ في قِدْرٍ، ويُلْقَى فيها لَحْمٌ أو تَمْرٌ، فَيُطْبَخُ) ( ). ومن مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (بعثت لاتمم مكارم الاخلاق) ( ) أنه كان يدخل أهل الصفّة وهم فقراء المسلمين الذين لا مأوى لهم إلى بيته مع صغر هذا البيت ، ويقدم لهم كل ما عنده من طعام ليبقى هو وأزواجه من غير عشاء ، (عن أبي هريرة :قال ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ادع لي أصحابك فجعلت أتتبعهم رجلا رجلا، فجئنا باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستأذنا فأذن لنا، قال أبو هريرة فوضعت بين أيدينا صحفة صنيع قدر مد من شعير فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليها يده . وقال: ” كلوا باسم الله ” فأكلنا ما شئنا وكنا ما بين السبعين إلى الثمانين، ثم رفعنا أيدينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضعت الصحفة: ” والذي نفسي بيده ما أمسى لال محمد طعام)( ). ومقدار المدّ نحو (750)غرام أي سواء جاء الصحابة بطعام لأهل الصفة ودعوهم إلى بيوتهم أو لا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجري عليهم مقداراً ثابتاً من الطعام . وفي قوله تعالى [وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ] ( ) ورد عن البراء بن عازب أنه قال (نزلت فينا معشر الأنصار كنا أصحاب نخل ، كان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته . وكان الرجل يأتي بالقنو( ) والقنوين فيعلقه في المسجد ، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام ، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر والتمر فيأكل . وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحفش( ) وبالقنو قد انكسر فيعلقه ، فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه }( ) قال : لو أن أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا عن اغماض وحياء . وقد أشتكى أهل الصفّة من أكل التمر وحده كأدام فاعتذر منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبشرهم بالنعم العظيمة (من طريق أبي حرب بن أبي الأسود أن طلحة حدثه وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فقال رجل من أهل الصفة أحرق بطوننا التمر فصعد المنبر فخطب فقال لو وجدت خبزاً ولحماً لأطعمتكموه أما إنكم توشكون أن تدركوا ذلك أن يراح عليكم بالجفان وتسترون بيوتكم كما تستر الكعبة. قال وكانت الكعبة تستر بثياب بيض تحمل من اليمن يزيد أحدهم على الآخر كلهم من طرق عن داود بن أبي هند عنه منهم من قال عن طلحة ولم ينسب ومنهم من قال طلحة بن عمرو.) ( ). وهل كانت شكوى أهل الصفّة من إنحصار طعامهم اليومي بالتمر مثل شكوى الذين قالوا [يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ] ( ) ، الجواب لا، إذ كان المن والسلوى ينزلان من السماء وهما أشهى وأطيب طعام ، فالمنّ ينزل على الأشجار ، وهو كالعسل ، ويجف جفاف الصمغ . والسلوى طائر أكبر من العصفور ، وينزل منهما ما يكفي القوم كلهم في البيداء ، وتدل الآية أعلاه على أنهم سئموا أكل العسل واللحم الشهي ، وأظهروا ميل طباعهم إلى البقول والحبوب ، وفيه تذكير للناس باستمرار الحنطة والشعير والذرة والبقوليات . وقال الثعلبي (وهما اثنان؛ لأن العرب تعبّر عن اثنين بلفظ الواحد) ( ). والمختار إرادتهم تكرار ذات الطعام كل يوم وإن كان أكثر من نوع مع تسليمهم بأنه نعمة من عند الله عز وجل . لقد كان عدد من أصحاب الصفّة يخرون من الجوع في الصلاة أحياناً ، ومع هذا كانوا يتحلون بمكارم الأخلاق ، ويحرصون على مفاهيم الأخوة الإيمانية (عن أبي هريرة قال كنت في الصفة يعني من أصحاب الصفة فبعث إلينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتمر عجوة فكنا نقرن التمرتين من الجوع فكان أحدنا إذا قرن يقول لصاحبه إني قد قرنت فاقرنوا) ( ). فالذي يأكل تمرتين يخبر صاحبه بأن يأكل الثانية ليحصل التساوي في الإطعام . (وعن أبي هريرة قال : كان أهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ووالله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع وأشد الحجر على بطني من الجوع ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه فمر بي أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله وما أسأله إلا ليستتبعني فمر ولم يفعل ثم مر عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما أسأله إلا ليستتبعني فمر ولم يفعل ثم مر أبو القاسم صلى الله عليه و سلم فتبسم حين رآني وقال : أبا هر ! فقلت : لبيك يا رسول الله فقال : الحق . ومضى فاتبعته ودخل منزله فاستأذنت فأذن لي فوجد لبنا في قدح . فقال : من أين هذا اللبن لكم ؟ فقيل : أهداه لنا فلان . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : أبا هر قلت : لبيك يا رسول الله . قال : الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي وهم أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم فأصاب منها وأشركهم فيها فساءني ذلك وقلت : هذا القدح بين أهل الصفة وأنا رسوله إليهم فسيأمرني أن لأدور به عليهم فما عسى أن يصيبني منه وقد كنت أرجو أن أصيب منه ما يغنيني ؟ ! ولم يكن بد من طاعة الله وطاعة رسوله فأتيتهم فدعوتهم فلما دخلوا عليه فأخذوا مجالسهم قال : أبا هر خذ القدح فأعطهم فأخذت القدح فجعلت أناوله الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرده فأناوله الآخر حتى انتهيت به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم . وقد روي القوم كلهم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم القدح فوضعه على يده ثم رفع رأسه إلي فتبسم وقال : أبا هر . فقلت : لبيك يا رسول الله . فقال : اقعد واشرب . فشربت . ثم قال : اشرب فشربت ثم قال : اشرب . فلم أزل أشرب ويقول : اشرب حتى قلت : والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا . فأخذ القدح فحمد الله وسمى وشرب) ( ). لقد تحلى أهل الصفّة وعامة الصحابة بالزهد ورضوا بالقليل من الزاد والخشن من الثياب ، وكان همّهم أداء الفرائض العبادية ، والحرص على الإنقطاع ، ومن أسباب هذا الرضا التأسي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو الإمام بالزهد والصبر والشكر لله عز وجل . ترى كم كان عدد أصحاب الصفّة ، الجواب ليس من عدد ثابت لهم ، إنما هو يزيد وينقص بحسب عدد الذين يفدون على المدينة ، ومغادرة الذين يجدون مأوى ومسكن وعمل . ومجموع عدد الذين توافدوا على الصفّة خلال تسع سنوات من بداية الهجرة النبوية هو أربعمائة صحابي . (عن أبي هريرة قال : رأيت سبعين من اهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء اما بردة واما كساء قد ربطوها في اعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساق ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهيه ان تبدو عورته) ( ). ليكون من الإعجاز إيمان الصحابة بنبوته مع مصاحبة شدة الفقر والفاقة لإيمانهم ، فلم يسألوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مثلما سألته قريش بأن يجعل لهم جبل الصفا ذهباً أو ينزل عليهم المن والسلوى مثلما كانا ينزلان على بني إسرائيل في البيداء وكل يوم من أيام الأسبوع عدا يوم السبت ، إنما صبر الصحابة على الجوع والفقر وأذى المشركين . وأظهروا صدق الإيمان والتجأوا إلى الدعاء ليفتح الله عز وجل أبواب رحمته ، وخزائن الأرض ، وهل هذا الفتح من مصاديق قوله تعالى بخصوص صلح الحديبية [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ). ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن عشرات من أهل الصفّة صاروا أما ولاة أو قادة أو قضاة . لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتفقد أهل الصفّة على نحو يومي ، إذ يمر عليهم في طريقه إلى المسجدأحياناً ، ويكثر من مجالستهم ، ويتلو عليهم آيات القرآن ، ويجيب على اسئلتهم ، وقد ورد لفظ [يسألونك] خمس عشرة مرة في القرآن ، ولا بد أن بعض الأسئلة من أهل الصفة ، فيتفضل الله عز وجل ويتولى الإجابة ،وحينما ولد الإمام الحسن عليه السلام في النصف من شهر رمضان من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة ورد عن الإمام علي عليه السلام قال (عَقّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَنْ الْحَسَنِ شَاةً وَقَالَ يَا فَاطِمَةُ احْلِقِي رَأْسَهُ ، وَتَصَدّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضّةً فَوَزَنّاهُ فَكَانَ وَزْنُهُ دِرْهَمًا أَوْ بَعْضَ دِرْهَمٍ) ( ). وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر فاطمة أن تتصدق به على أهل الصفة . (عن الإمام علي عليه السلام : أنه قال لفاطمة عليها السلام ذات يوم: لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء أباك سبي، فاذهبي فاستخدميه. فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يدي. فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما جاء بك، أي بنية؟ قالت: جئت لأسلم عليك. فاستحيت أن تسأله ورجعت. فقال لها علي: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله. فأتيا جميعاً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لله . فقال علي: يا رسول الله، لقد سنوت( ) حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: يا رسول الله، لقد طحنت حتى مجلت يدي، وقد جاءك الله بسبي وسعة، فأخدمنا. فقال: والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، فرجعا، فأتاهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطيت رءوسهما تكشف أقدامها، وإذا غطيت أقدامهما تكشف رءوسهما . فقال: مكانكما. ثم قال: ألا أخبركما بخير مما سألتما؟ قالا: بلى. قال: كلمات علمنيهن جبريل قال: تسبحان دبر كل صلاة عشراً وتحمدان عشراً وتكبران عشراً، فإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين) ( ). ومع أن موضوع السبي لا يتعلق بأهل الصفة لأنهم عزاب ، وفي حال جوع وفقر ، ولا يستطيعون الإنفاق على السبي ، فان الخبر يدل على بيان أهل البيت كحال الأيتام التي يتصفون بها ، مع أن الإمام علي عليه السلام هو فارس الإسلام ولسيفه موضوعية في كل معركة من معارك الإسلام الكبرى ، إلا أنه وسيدة النساء رضيا بحال الفاقة . ولقد تأسى الصحابة وأهليهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العناية بأهل الصفّة ، وتولوا إطعامهم ، وكان عدد منهم يأخذون جماعة منهم إلى بيوتهم لتناول طعام العشاء ، ويصحبونهم مثلما يصحبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معه . وكان عدد من الصحابة ممن يسمون القراء يعملون النهار في جمع الحطب ثم يأتون ليبيعوه في باب المسجد ، ويشتروا به طعاماً لأهل الصفّة . وكان كل صحابي يأتي بعذق من التمر من بستانه فيوضع في المسجد لأهل الصفّة وعامة الفقراء . إذ وضع حبل بين ساريتين في المسجد النبوي ، فيأتي الأنصار بقنوان (أي عذوق) الرطب لتوضع في المسجد ، منها ما كان من الزكاة الواجبة،ومنها ما كان صدقة مستحبة أو هدية ، وربما اجتمع عشرون قنواً . وهل كان هذا التصدق سبباً للوقاية من آفة تصيب النخيل ، الجواب نعم . وكان معاذ بن جبل يتولى حراسة الأقناء في المسجد . ومن الآيات استمرار تعليق عذوق الرطب في المسجد النبوي لمئات السنين بعد البعثة النبوية . وقد ألف عدد من العلماء المتقدمين كتباً خاصة بأهل الصفّة . لقد كان صبر الصحابة على الجوع والفاقة وحال الفقراء دعوة للأخلاق الحميدة ، والتنزه عن السرقة والخداع والغش ، والإضرار بالغير ، قال تعالى [لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ] ( ) . وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يُفْطَنُ له فَيُتَصَدقَ عليه، ولا يسأل الناس شيئا”)( ). قال : فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده .) ( ). وفي قوله {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ}( ) . الآية نزلت في قوم من أهل الصفّة تمنوا سعة الدّنيا والغنى. قال خباب بن الأرت : فينا نزلت هذه الآية وذلك إنّا نظرنا إلى بني قريظة والنضير وبني القينقاع ، فتمنيناها فأنزل الله تعالى {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ} أي وسع الرزق لعباده) ( ). وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يواسي أهل الصفة ، ويثني عليهم ويعدهم بالأجر والثواب . قال الثعلبي (وذُكر لنا أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على أهل الصفة، مكاناً يجتمع فيه فقراء المسلمين وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعاً. قال : أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أُخرى، ويغدى عليه بحفئة ويُراح عليه بأُخرى. ويستر بيته كما يستر الكعبة؟ قالوا : نحن يومئذ خير.) ( ). (عن أبي هريرة، قال : لمّا نزلت هذه الآية {أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون}( ) بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلمّا سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حنينهم بكى معهم فبكينا ببكائه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : لا يلج النار من بكى من خشية الله، ولا يدخل الجنة مصرّ على معصية، ولو لم تذنبوا لجاء الله سبحانه بقوم يذنبون ثم يغفر لهم) ( ). وتبين الآية قانونا وهو : في الإبتلاء بالأموال صرف للأذى ودفع للضرر عن النفوس ، قال تعالى [وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) لبيان أن الإنفاق في سبيل الله واقية للنفوس ، وبرزخ دون فتك المشركين بالصحابة ، ليتجلى قانون مستنبط من قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ) . وهو أن صبرالمؤمنين على الجوع والفاقة من القوة التي تذكرها الآية أعلاه ، ومن أسباب إجتناب الذين كفروا الإغارة عليهم . وآية البحث مدنية ويدل مجئ الآية بصيغة المضارع على تجدد الإبتلاء والإمتحان ومنه هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة من جهات: الأولى : زمان وأوان الهجرة إذ أراد المشركون قتله في ذات الليلة التي هاجر فيها ، فنزل جبرئيل وأمره بالهجرة . الثانية : طلب قريش له ، ووضعهم الجعل والجائزة لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حياً أو ميتاً ، وقد تعهدت الأنصار بالذب عنه عند وصوله إليهم . الثالثة : إختفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غار ثور ، ومعجزة بيت العنكبوت . الرابعة : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأم معبد . الخامسة : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الطريق . السادسة : إنشاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسجد النبوي حال وصوله إلى المدينة ، وهناك معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أصحاب الصفّة . وكان عددهم يصل إلى ثلاثمائة أو أربعمائة وينقص أحياناً ، وموضوع هذا القانون هو معجزات الكتاب والسنة في أصحاب الصفّة ، وهم من قبائل شتى ، وتقع الصفّة في الركن الشمالي الشرقي من المسجد ، وصارت تعرف بدكة الأغوات . ومن الإعجاز في الصفّة وأصحابها مسائل : الأولى : هجرة كل واحد من أصحاب الصفّة وعددهم نحو أربعمائة على مدى تسع سنوات قصة تدل على الإعجاز في بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن كلاً منهم ترك مضاربة الصبا والأهل ومصدر الكسب ، وتوجه إلى الغري ، وإرهاب وتهديد قريش في طريق الهجرة ، وحتى عند الوصول إلى المدينة . الثانية : يبعث أصحاب الصفّة اليأس والقنوط في قلوب المشركين ، إذ أنها تدل على سلامة المسلمين من الإرتداد . الثالثة : المواظبة على حضور الصلوات اليومية الخمسة . الرابعة :لقد ضاقت أزقة المدينة فلم يتضايق الأنصار . الخامسة :صيرورة أهل الصفّة ولاة وقادة وقضاة . السادسة :صبر أهل الصفّة على أكل التمركل يوم. لقد ضاقت أزقة المدينة بالمهاجرين [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ] ( ) فأظهر المهاجرون والأنصار الصبر والرضا منه بلباس التقوى ، وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ). لم يكن أصحاب الصفّة (السقيفة ) عمل لأن عمل أهل المدينة الزراعة، وأهل مكة عملهم التجارة في الغالب ، وليس كل أصحاب الصفّة من مكة . عندما تحولت القبلة بقي الحائط القبلة الأولى في الجهة الشمالية الشرقية للمسجد . وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعطي كل واحد منهم مداً من التمر (750) غم ، وفي رواية اشتكوا بأن التمر أحرق بطونهم فصعد المنبر صلى الله عليه وآله وسلم وقال لوجدت خبراً رغماً لاطعمتكم ثم بشرهم خيراً ، وقال بأنهم ستسترون بيوتكم كما تستر الكعبة كانت تستر بثياب بيض وعشرات منهم صاروا ولاة وقادة ، وقضاة ، إذ أنه مناسبة للتفقه في كل صحابي يأتي بعذق من التمر قيعلقه ، ويتولى معاذ بن جبل حراسة الأقناء . وهل شكايتهم هذه مثل الذين قالوا [لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ] ( ) الجواب لا ، لأنه كان ينزل عليهم المن السلوى وهو أشهى وألذ طعام . وكان أهل الصفّة يخرون من الجوع في الصلاة احياناً ، وكان عددهم غير ثابت خلال تسع سنوات ، وهم كالجيش الإحتياطي ساعة النفير لتواجدهم بجوار المسجد ، كما كانوا يحضرون الصلاة الخمس ، ولم يكن أصحاب الصفّة منعزلين عن الأنصار ، فمن الإعجاز في الصلاة اليومية الإجماع الطوعي والإنطباقي في خمس مرات في اليوم بقصد القربة إلى الله والأخوة الإيمانية . هجرة صهيب وآية البحث وتبين الآية وجوه الإبتلاء والأذى الذي يلحق الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه : الأول : الإبتلاء بالمال سواء بالإنفاق في سبيل الله , وفيه الأجر والخلف العاجل والآجل ,قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ), أو بمصادرة المشركين أموال المسلمين . الثاني : ترك المهاجرين أموالهم وأعمالهم , لاختيارهم النجاة بدينهم . الثالث : تعطل أعمال وزراعات الأنصار للإنشغال بالمرابطة والسرايا , ومستلزمات الدفاع . الرابع : التضييق على المؤمنين من قبل المشركين . و( عن صهيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهرانى حرتين، فإما أن تكون هجر أو تكون يثرب) ( ). وكان صهيب ينوي الخروج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووردت في هجرته روايات : الأولى : أراد صهيب الهجرة في الليلة التي هاجر فيها إلى المدينة ، ولكن فتياناً من قريش صدوه عن الهجرة ، ورأوه يقوم ولا يقعد (فقالوا: قد شغله الله عنكم ببطنه)( ) إذ ظنوا أن الإسهال قد غلب عليه فاسهده ومنعه الرقاد. فخرج ، ولحقه جماعة من قريش وهم يريدون رده إلى مكة فعرض عليهم أن يعطيهم أواقي من الذهب ويخلون سبيله ، ويوفون له ، قالوا نعم. فتبعهم صهيب إلى مكة فقال لهم ، أحفروا تحت أسكفة( ) الباب فان بها أواقي أي أنه كان يخفي ماله تحت عتبة باب داره من الداخل ، وأذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين ، فوجدوا ما أخبرهم فتركوه وشأنه . الثانية : في رواية أنهم حينما لحقوا بصهيب الرومي لينصره نثر كنانته واستعد لرميهم بالسهام ، وأخبرهم عن عزمه على قتالهم (عن سعيد بن المسيب قال : خرج صهيب مهاجرًا إِلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فاتبعه نفر من المشركين فنثر كنانته وقال لهم: يا معشر قريش قد تعلمون أَني من أَرماكم، والله لا تصلون إِليَّ حتى أَرميكم بكل سهم معي، ثم أَضربكم بسيفي ما بقي منه في يدي شيء، فإن كنتم تريدون مالي دللتكم عليه. قالوا: فدُلَنا على مالك ونخلّي عنك. فتعاهدوا على ذلك، فدلهم ولحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ربح البيع أَبا يحيى” فأَنزل اللّه تعالى فيه : وَمنَ النَّاس مَن يَشْري نَفْسَهُ ابْتغَاءَ مَرْضَات اللّه”( ))( ). ونسب أكثر المفسرين سبب نزول الآية أعلاه لصهيب . الثالثة : قامت قريش بتعذيب صهيب ورهط من المسلمين الأوائل ، فقال لهم صهيب اني شيخ ضعيف لا ينفعكم ، إن كنت منكم ، ولا يضركم إن كنت من عدوكم ، قالوا : صدقت . قال فتأخذون أهلي ومالي وتدعوني وديني ففعلوا ، ونزلت الآية أعلاه. وبلحاظ قصة صهيب وأمثاله من المؤمنين يكون تقدير الآية أعلاه على وجوه : الأول : ولتبلون بأموالكم ربح البيع . الثاني : ولتبلون بأنفسكم ربح البيع . الثالث : لتبلون بسماع الأذى من طائفة من أهل الكتاب وربح البيع . الرابع : لتبلون بسماع الأذى من المشركين وربح البيع . قانون تعدد الأذى على النبي (ص) والصحابة يدل توالي وتعدد الأذى الشديد على المسلمين بلحاظ قوانين التي هي عناوين الأجزاء من هذا التفسير على وجوه : الأول : هذا الأذى من الشواهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً ، لأن الصبر وتحمل الأذى نقيض الغزو . الثاني : صيرورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع وصبر على الأذى والبلاء ، وشرور فتنة الكفار والمنافقين . الثالث : تجلي مصاديق لقانون التضاد بين القرآن والإرهاب ، إذ تدل شواهد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة على إتخاذ كفار قريش الإرهاب منهاجاً . ومن صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحمله الأذى هجرة أصحابه إلى الحبشة والأرض البعيدة قبل هجرته إلى المدينة ، وقد وصف الله عز وجل بيت المقدس بالبعد ، كما في قوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] ( ) مع أن المسافة بين مكة والمسجد الأقصى أقل من المسافة بين مكة والحبشة إلى جانب لزوم عبور البحر للوصول الى الحبشة ومملكة أكسوم ، ولم يعتد عامة رجال قريش ركوب البحر , وفيه مصداق لآية البحث لقوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ] ( ). لقد كانت هجرة ثلاثة وثمانين صحابياً وثمان عشرة صحابية إلى الحبشة( ) إبتلاء وإمتحان في أموالهم وأنفسهم بأن تركوا أموالهم وخاطروا بأنفسهم في سبيل سلامة دينهم ، وقصد الإعراض عن مشركي قريش مع أن الأصل هو أن المسلمين أولى وأحق بجوار البيت الحرام ، وتولي شؤونه والعناية بأمور وفد الحاج والمعتمرين . ومن أهمها تهيئة مقدمات أدائهم المناسك والفرائض العبادية ، وتنزيه المسجد الحرام من الأصنام ومن التوسل بها . وهل كان الأذى في هجرة الحبشة خاصاً بالمهاجرين أنفسهم أم أنه شامل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعامة أصحابه ، المختار هو الثاني ليس بالواسطة، إنما يأتي الإبتلاء للنبي وعامة أصحابه بالذات ، فليس أشق على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أن يأمر أو يدعو طائفة من أصحابه بمغادرة مكة ، وفراق البيت الحرام ومرابض الصبا . وقد يقال أن آية البحث مدنية ، وجاءت بصيغة المضارع بينما وقعت هجرة الحبشة في السنة الخامسة للبعثة النبوية قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة في السنة الثالثة عشرة للبعثة . والجواب من جهات : الأولى : استدامة الأضرار التي جاءت من ناحية المشركين قبل الهجرة إلى ما بعدها . الثانية : تدل الوقائع والأحداث على مصاحبة الإبتلاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من بدايات البعثة النبوية . وتقدير آية البحث ، لقد بلوتم وستبلون بأموالكم وأنفسكم ، ولقد سمعتم وتسمعون من كفار قريش وحلفائهم أذىً كثيراً . ووصفت آية البحث الأذى الذي يلقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون من المشركين وطائفة من أهل الكتاب بأنه كثير ، وتحتمل هذه الكثرة في جهة صدورها وجوهاً : الأول : صدور الأذى الكثير من طائفة من أهل الكتاب . الثاني : صدور الأذى الكثير من المشركين . الثالث : إنما يكون الأذى كثيراً عند إجتماع الأذى من الطرفين . والمختار عدم التعارض بين هذه الوجوه ، لبيان شدة الإبتلاء الذي تعرض له النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين . وهل كثرة الأذى بالكم وكثرة العدد وحدهما ، أم بالكيف أيضاً الجواب هو الثاني . ومن إعجاز آية البحث والصلة بين أولها وآخرها أنها لم تكتف بالإخبار عن شدة الأذى الذي يلقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، إنما بينت ما هو الحل وكيفية ملاقاة ضروب الإبتلاء المتعددة والأذى الشديد ، ويتبادر إلى الذهن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الرد بالمثل ،ومواجهة المشركين خاصة وأن ملك السموات والأرض لله عز وجل وحده ، وهو الذي وعد رسوله الكريم بالنصر والغلبة ، ولكن الله عز وجل تفضل وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأمرين : الأول : الصبر . الثاني : التقوى والخشية من الله عز وجل . ولا تتعارض صيغة الجملة الشرطية بقوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( ) مع قواعد الأمر المستقرأ في القرآن . بالإضافة إلى قانون التفسير الذاتي للقرآن ، وأن آياته تفسر بعضها بعضاً، إذ ورد الأمر للمسلمين بالصبر والمصابرة والتقوى في آية واحدة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ). ومن وجوه الثناء على المسلمين في آية البحث أنه مع الإبتلاء الشديد فانهم ينصتون للأحكام والسنن الواردة فيه ، وهذا الإنصات مقدمة للتقيد والعمل بالأوامر الإلهية ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ). وإن حمل الإنصات في الآية على الإستحباب ، وأن الإستماع الواجب هو عند قراءة الإمام في الصلاة ، وهو لا يتعارض مع إطلاق الآية وما يفيده الإنصات من التدبر والتفكر . وأختتمت الآية بقوله تعالى [فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] أي أن الصبر والتقوى مما أوجبه وألزمه الله لبيان مسألة وهي الإطلاق الزماني لوجوب الصبر والتقوى من أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة . وسيأتي المراد من اسم الإشارة (ذلك) في باب التفسير ( ). قانون ابتلاء الأنبياء يأتي البلاء للأنبياء والمؤمنين من جهات : الأولى : إصرار الذين كفروا على الإقامة على الجحود ، فصحيح أن هذا الإصرار فعل ذاتي ، وليس أمراً انفعالياً بين طرفين ، إلا أنه ابتلاء للأنبياء لما فيه من الصدود عن دعوتهم ، وحضّ لهم على السعي الحثيث في التبليغ ، لذا قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ). الثانية : تكذيب الذين كفروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين ، لأن هذا التكذيب تثبيط للعزائم ، وباعث على القنوط، ولكنه لم يزد الأنبياء إلا سعياً في مرضاة الله عز وجل ، فمن الإعجاز في خلق النبوة ، الهمّة العالية والتحلي بأسمى مراتب الصبر ، واليقين بالنصر ، قال تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ] ( ). الثالثة : قانون الإبتلاء الذاتي والإمتحان الذي يأتي للأنبياء بما هم من البشر ، كما في قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا] ( ). ومنه ابتلاء نبي الله أيوب عليه السلام في ماله وبدنه وولده ، فقد كان عنده أولاد كثيرون وأموال وأنعام ، وزروعات ، فذهبت كلها ، ثم ابتلي أيوب بالجذام في جميع أجزاء بدنه( ) ، ولم يسلم إلا قلبه ولسانه حيث بقي لهجاً بذكر الله ، منقطعاً إليه ، راجياً رحمته. وابتعد عنه الناس خشية العدوى وأفردوا له ناحية ، ولم يبق معه إلا زوجته تتولى شؤونه ومداراته ، لبيان الحكمة الإلهية في خلق حواء مع آدم في الجنة ، ولم يهبط إلى الأرض إلا وهي معه ، وقال تعالى [وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً] ( ) لبيان مصداق لهذه الرحمة بعدم تخلي زوجة أيوب عنه،(ويقال: إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من أجله) ( ). ولم يغادر أيوب الدنيا حتى عافاه الله وأتاه العوض والبدل في الأولاد والرزق ، قال تعالى [وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ] ( ). وهل من المودة والرحمة في الآية أعلاه مبادرة خديجة عليها السلام للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة بيوم واحد ، الجواب نعم . ويلتقي نسبها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجد الخامس (قصي بن كلاب )( وتوفيت خديجة بنت خويلد في شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين، ولها خمس وستون سنة، ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي تجود بنفسها. فقال: بالكره مني ما أرى، ولعل الله أن يجعل في الكره خيراً كثيراً، إذا لقيت ضراتك في الجنة يا خديجة فأقرئيهن السلام. قالت: ومن هن يا رسول الله؟ قال: أن الله زوجنيك في الجنة وزوجني مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم وكلثوم أخت موسى . فقالت: بالرفاء والبنين. ولما توفيت خديجة، جعلت فاطمة تتعلق برسول الله وهي تبكي وتقول: أين أمي؟ أين أمي؟ فنزل عليه جبريل فقال: قل لفاطمة أن الله تعالى بنى لأمك بيتا في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب. وتوفي أبو طالب بعد خديجة بثلاثة أيام وله ست وثمانون سنة، وقيل بل تسعون سنة. ولما قيل لرسول الله أن أبا طالب قد مات عظم ذلك في قلبه ، واشتد له جزعه ثم دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرات وجبينه الأيسر ثلاث مرات ثم قال: يا عم ربيت صغيراً وكفلت يتيماً ونصرت كبيرا، فجزاك الله عني خيراً، ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول: وصلتك رحم وجزيت خيراً، وقال: اجتمعت على هذه الأمة في هذه الأيام مصيبتان لا أدري بأيهما أنا أشد جزعا، يعني مصيبة خديجة وأبي طالب) ( ). لقد كانت قصة زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خديجة معجزة له ، وفيها تخفيف للبلاء الذي كان يلاقيه لبيان قانون وهو أن الله يخفف بالإسباب الظاهرة والخفية ضروب الإبتلاء عن الأنبياء والمؤمنين والناس جميعاً . وكانت خديجة تشد عضده ،وتمده بالمال، وترى معجزات النبوة عن قرب فتقابلها بالتصديق مع معرفة قريش بحلمها وذكائها وحسن إدارتها لشؤون التجارة ، فكانت حجة عليهم في هذا التصديق ، وفيه نكتة وهي هناك مع الإبتلاء شآبيب من الرحمة وضياء من الأمل المترشح عن حسن التوكل على الله . الرابعة : قانون الإبتلاء والإختبار الذي يأتي للأنبياء من عند الله عز وجل ، ليكونوا أسوة وموعظة للمؤمنين والناس جميعاً ، وينالوا أسمى الدرجات . كما ورد في إبتلاء أيوب أعلاه ، فقد اُبتلي إبراهيم واسماعيل عليهما السلام بأن رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يذبح ولده ،ورؤيا الأنبياء حق . وفي التنزيل [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ] ( ) أي صار يمشي معه إلى العمل مما يدل على بلوغه وإدراكه ، فجاء الجواب من ابنه بالإستجابة لحكم هذه الرؤيا مما يدل على تصديقه بنبوته وتوطين النفس عل الصبر لدرجة التضحية والشهادة حيث يشاء الله ، فخفف الله عز وجل عنه وفداه بكبش ، قال تعالى [وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ] ( ). فمع أذى المشركين ورؤسائهم للأنبياء يأتي الإمتحان الخاص في النفس والولد والمال ، فلا يظهر الأنبياء الجزع ، إنما يتفانون في الدعوة إلى الله عز وجل ، ليكونوا أسوة للمؤمنين ، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ). لقد امتحن الله عز وجل الأنبياء بأشد ضروب الإمتحان ، ومنهم من تعرض للقتل على أيدي المشركين ، ولم يكن هذا القتل لأمور شخصية أو دنيوية ، إنما قتلوا لأنهم يدعون إلى الله ، ويحاربون عبادة الأوثان ، والإنقياد التام للطواغيت . ومن إعجاز القرآن وتأديبه للمسلمين ، وتنمية ملكة الصبر عندهم ذكره لصفحات مشرقة من جهاد الأنبياء ، وتلقيهم الإبتلاء بصبر ورضا ولجوء إلى الله عز وجل ، قال تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ]( ) ومن الأنبياء من صبر على أذى زوجته ، ومن اللطف الإلهي في القرآن اقتران الأمر بالصبر بالوعد الكريم في الدنيا والآخرة ، كما في قوله تعالى [اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ] ( ) . لتمر الأيام فيكون الحكم والإمامة والدولة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، كما قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبشارة بأيام المهدي من ذريته ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ). وهل كان لهذا الذكر نفع في صلاح المسلمين وصبرهم في ميادين الدفاع عن النبوة والتنزيل ، الجواب نعم . الخامسة : قانون تجلي أبهى وأعظم مصاديق الصبر في تأريخ الإنسانية بسيرة وسنة الأنبياء ، فليس من نبي إلا وإتخذ من الصبر جلباباً ، وكانت قصة نوح مثالاً للصبر ، إذ أنه كان يدعو قوماً أقاموا على عبادة الأوثان ، ونسوا أركان التوحيد ، فقابلوا دعوته إلى الله بالمناجاة بالبقاء على عبادة الأوثان ، وقال تعالى [وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا] ( ) لإرادة التحدي ومواجهة دعوة التوحيد بالصدود والجحود . ومن الآيات أن نوحاً يدعو قومه بمفرده ، بينما يخبر القرآن عن صيغة الجمع بالنسبة للمشركين [وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ]. وكذا صيغة الجمع في الأوثان التي يعبدون ، لبيان التوحيد رحمة بالناس وسبيل وحكمة لتوحيدهم ، وإزالة الفوارق والإختلاف البغيض بينهم . السادسة : من وجوه إبتلاء الأنبياء قلة الذين آمنوا برسالاتهم ودعوتم إلى الله عز وجل ، ووجود أشخاص من ذويهم يعلنون لهم العداء ، ومع كثرة الذين حاربوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باللسان والمال والسيف ، نزل القرآن بذم أبي لهب وهو عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصنو أبيه . أي لا تفاوت بين الأب والعم مثل عدم التفاوت بين صنوي النخلة ، وهما الفسيلان يقطعان من النخلة الأم ، قال تعالى [وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ] ( ) ويقال : لا صنو له أي لا مثيل له ولا شبيه له . وقيل أن النخيل من الأشجار التي لا تشبه بذورها الأصل ، فاذا أخذت نواة تمر برحي وزرعتها فانها قد لا تخرج مثل الأم ، وهو ما يسمى (غير صنوان) . قوله تعالى [وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا] لقد اقترن صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تحمل الأذى بالتقوى , ليكون مرآة لآية البحث . إذ إجتهد في دعوة الناس للإسلام (قال محمد بن عمر الأسلمي: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين من أول نبوته مستخفيا ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين، يوافي الموسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه . ولهم الجنة، فلا يجد أحدا ينصره ولا يجيبه حتى إنه سأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا العرب وتذل لكم العجم وإذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنة. وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابئ كاذب، فيردون عليه أقبح الرد ويؤذونه ويقولون: قومك بك أعلم) ( ). (وقال جابر بن عبد اللهّ: مكث رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ، ومَجَنَة وفي المواسم يقول: ” مَنْ يؤويني، مَنْ ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ ” حتى بعثنا الله إليه فأويناه وصدقناه) ( ). وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقف في موسم الحج ، ويخاطب كل قبيلة باسمها ويقول آل فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً . ولكن أبا لهب خلفه يرميه بالحجارة ويقول لا تطيعوه ، فلم يمنع هذا الفعل النبي محمداً عن التبليغ ، وأهل الموسم ينظرون ، ولم يعلم أبو لهب وأمثاله أن أذاهم هذا يجعل جميع أهل الموسم يعلمون برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته إلى الله ، ويبعثهم على السؤال والتحري عنه ، لتملي عليهم التفكر فيها ، والتدبر في أحكام الإسلام ، وفي التنزيل [قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لاَ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ] ( ) . (وأتى رسول الله كندة في منازلهم فدعاهم إلى الله عز وجل، فأبوا، وأتى كلباً في منازلهم فلم يقبلوا منه، وأتى بني حَنيفة في منازلهم، فردوا عليه أقبح رد ، وأتى بني عامر بن صعصعة، وكان لا يسمع بقادم من العرب له اسم وشرف إِلا دعاه وعرض عليه ما عنده.) ( ). وهل كان تكذيب قريش لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصاً بأيامه ، الجواب لا . فأخباره ووقائعه من مصاديق لغة المضارع في قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ]وهو من مصاديق سماع الأذى اللاحق من المشركين . وتتضمن الآية نوع تخفيف عن المسلمين بسماعهم كأمة متحدة أذى كثيراً من المشركين ، ومن طائفة من أهل الكتاب ، ويحتمل موضوع هذا الأذى وجوهاً : الأول : الإتحاد والتشابه ، فما يسمعه المسلمون من الأذى من المشركين يسمعون مثله من أهل الكتاب . الثاني : التعدد والتباين . الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين أفراد أذاهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. والمختار هو الثالث. ومن هذا الأذى وجوه : الأول : التشكيك بالتنزيل . الثاني: الجدال بآيات القرآن ، قال تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ] ( ) . الثالث: التحريض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإغراء السفهاء لإيذائه والمؤمنين . الرابع : الطعن في الدين والسخرية والإستهزاء من أحكام الشريعة . الخامس : قول المشركين والجاحدين [إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ] ( ) . السادس: الشماتة بالمسلمين إن إصابتهم مصيبة ، وكما لحقتهم الخسارة وكثرة الشهداء في معركة أحد ، وإن لم يخسروا المعركة ولم ينهزموا فيها . السابع : تخويف الصحابة من بطش وانتقام المشركين عند ملاقاتهم . الثامن : إثارة الريب في المدينة وخارجها . التاسع : حضّ وإغراء الشعراء والخطباء على القدح بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . ومن وجوه جهاد النبي محمد ذي الصبغة السلمية : الأول : لقاء الأشخاص من الجماعات وتلاوة آيات القرآن عليهم ، ومفاتحتهم بدخول الإسلام . الثاني : الحرب العلنية على الأصنام وذم عبادتها واللجوء إليها . الثالث : أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في المسجد الحرام من الأيام الأولى للبعثة النبوية ، وكان الإمام علي وأم المؤمنين خديجة عليهما السلام يقفان خلفه في الصلاة ، ويركعان ويسجدان بركوعه وسجوده ، لتكون أول جماعة عقدت في الإسلام في البيت الحرام ، وهي مصاحبة لأيام البعثة الأولى . الرابع : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن على المسلمين وعمار المسجد الحرام وعامة الناس ، وهل كان يتلوه على رؤساء الكفر من قريش وفي أنديتهم ، الجواب نعم ، فكان حجة عليهم . ليكون من جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحمله لإستهزائهم وسخريتهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( ). (عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش – وكان ذا سن فيهم – وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيُكَذِّب بعضكم بعضاً . فقالوا : أنت فقل ، وأتم لنا به رأياً نقول به . قال : لا ، بل أنتم قولوا لأسمع . قالوا : نقول كاهن . قال : ما هو بكاهن . . . لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكهان ولا بسجعهم . قالوا : فنقول مجنون . قال : ما هو بمجنون . . . لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا بحائحه ولا وسوسته . قالوا : فنقول شاعر . قال : ما هو بشاعر . . . . لقد عرفنا الشعر كله ، رَجَزه وهَزَجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر . قالوا : فنقول ساحر . قال : ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثه ولا بعقده . قالوا : فماذا نقول؟ قال : والله إن لقوله حلاوة؛ وإن عليه طلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناء ، فما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول أن تقولوا هو ساحر ، يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجه ، وبين المرء وعشيرته . فتفرقوا عنه بذلك . فأنزل الله في الوليد وذلك من قوله { ذرني ومن خلقت وحيداً . . . }( ) إلى قوله { سأصليه سقر . . . }( ) وأنزل الله في أولئك النفر الذين كانوا معه { الذين جعلوا القرآن عضين }( ) أي أصنافاً { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون }( ) .) ( ). وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عضداً للقرآن في هذه الحرب أم أن القرآن عضد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما قال تعالى [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ] ( ) الجواب لا تعارض بين الأمرين . وهل من الإعجاز في إجتماع القرآن والسنة في الحرب على مفاهيم الكفر والضلالة . قانون الإبتلاء بالمنافقين المنافق في الإصطلاح الشرعي هو الذي يظهر الإيمان والتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه يخفي الكفر والجحود والصدود، ولا ينحصر معنى النفاق بالإعتقاد ، وكون السريرة خلاف الظاهر ، وبروز البواطن في عالم السلوك عندما تحين الفرصة ، كما لو حدثت ثغرة وحال ضعف أو نقص عند المسلمين ، كما في قوله تعالى [وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا] ( ). (عن مقاتل بن حيان { وإن منكم لمن ليبطئن }( ) قال : هو فيما بلغنا عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين { ليبطئن } قال : ليتخلفن عن الجهاد { فإن أصابتكم مصيبة } من العدو وجهد من العيش { قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيداً }( ) فيصيبني مثل الذي أصابهم من البلاء والشدة { ولئن أصابكم فضل من الله }. يعني فتحاً وغنيمة وسعة في الرزق { ليقولن } المنافق وهو نادم في التخلف { كأن لم يكن بينكم وبينه مودة } يقول : كأنه ليس من أهل دينكم في المودة فهذا من التقديم { يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً }( ) يعني آخذ من الغنيمة نصيباً وافراً ) ( ). إنما كان المنافقون يقومون بالصدود عن الذكر ، ويسعون في منع الناس من الدفاع ، كما في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ). وبين الكافر والمنافق عموم وخصوص من وجه ، ومن مادة الإلتقاء الإضرار بالمؤمنين ومحاولة تثبيط عزائمهم ، ومنها ما ينزل من البلاء والعذاب عليهم ، وفي التنزيل [وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] ( ). وإذ أبتلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه بالمنافقين، فان الآية أعلاه تدل على أن الله عز وجل يبتليهم بأمور : الأول : العذاب لقوله تعالى [وَيُعَذِّبَ] ولو دار الأمر بين جهات : الأولى : العذاب في الدنيا . الثانية : العذاب في الآخرة . الثالثة : العذاب في النشأتين . فالمختار هو الجهة الأخيرة أعلاه . الثاني : شمول العذاب للمنافقات ، سواء كن أزواجاً للمنافقين أو لا ، وقد يترشح العذاب والضرر على المنافقات من عذاب المنافقين . الثالث : اشتراك المشركين والمشركات بالعذاب الذي يلحق المنافقين ، وهل هذا العذاب من الكلي المتواطئ أم أنه على درجات متباينة، المختار هو الثاني بلحاظ سوء العمل وشدة الظلم للذات والغير . الرابع : سخط الله عز وجل على المنافقين، وحجبهم شآبيب من رحمة الله عن أنفسهم ، قال تعالى [مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ). الخامس : نزول لعنة الله عزوجل بالمنافقين والمنافقات، وطردهم من رحمة الله عز وجل ، وحرمانهم من الفضل الإلهي الذي يتغشى الناس، سواء في الأبدان أو الرزق أو الشأن ، والمراد من فضل الله في المقام غير ما كتب الله للعبد من الرزق ، قال تعالى [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ] ( ). السادس : سوق المنافقين والمنافقات إلى نار جهنم ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( )وهل يدل قوله تعالى [وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] ( ) على أن النار مخلوقة الآن ، الجواب نعم . السابع : اختتام الآية بالتوبيخ والتبكيت للمنافقين والمنافقات بقوله تعالى [وَسَاءَتْ مَصِيرًا]لبيان سوء العاقبة للمنافقين والمشركين ، ويكون تقدير الخاتمة على وجوه منها : الأول : سوء المصير على النفاق . الثاني : شدة العذاب للذين عبدوا الأصنام، وتقربوا بالأوثان ، وتركوا التوحيد وامتنعوا عن التصديق بالنبوة ، وعن أداء الفرائض والعبادات . الثالث : نزول البلاء والعذاب بالمنافقين والكفار في الدنيا ، ثم تختتم عاقبتهم بالخلود في النار . ويحتمل حال المنافقين وجوهاً : الأول : إنهم فرقة . الثاني : كانوا طائفة . الثالث : إنهم أفراد وجماعات صغيرة متفرقة . والمختار هو الأخير ، وهو لا يمنع من إجتماعهم على أمر قبيح من صفات الغدر والنكوص ، كما في إنخزال ثلاثمائة من جيش المسلمين المتوجه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول مع حاجة النبوة والتنزيل والإسلام يومئذ إلى الفرد الواحد . (عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ ، قَالَ لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى أُحُدٍ ، رَفَعَ حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ وَهُوَ الْيَمَانِ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ ، وَثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ فِي الْآطَامِ مَعَ النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانِ لَا أَبَا لَك ، مَا تَنْتَظِرُ ؟ فَوَاَللّهِ لَا بَقِيَ لِوَاحِدِ مِنّا مِنْ عُمُرِهِ إلّا ظِمْءُ حِمَارٍ إنّمَا نَحْنُ هَامَةُ الْيَوْمِ أَوْ غَد ، أَفَلَا نَأْخُذُ أَسْيَافَنَا ، ثُمّ نَلْحَقُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لَعَلّ اللّهُ يَرْزُقُنَا شَهَادَةً مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ؟ فَأَخَذَا أَسْيَافَهُمَا ثُمّ خَرَجَا ، حَتّى دَخَلَا فِي النّاسِ وَلَمْ يُعْلَمْ بِهِمَا ، فَأَمّا ثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ وَأَمّا حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ فَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ أَسْيَافُ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ أَبِي ، فَقَالُوا : وَاَللّهِ إنْ عَرَفْنَاهُ وَصَدَقُوا . قَالَ حُذَيْفَةُ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَنْ يَدِيَهُ فَتَصَدّقَ حُذَيْفَةُ بِدِيَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَزَادَهُ ذَلِكَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ خَيْرًا) ( ). لبيان قانون وهو آيات ذم المنافقين رادع عن النفاق وإصلاح للنفوس والأفعال ، ولا يعلم منافع هذه الآيات إلا الله عز وجل ، وهي من جهات: الأولى : إحتراز المؤمنين من النفاق . الثانية : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفة علامات النفاق وصفات المنافقين . الثالثة : امتناع عامة المسلمين من الإنصات للمنافقين ، قال تعالى [وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] ( ) . الرابعة : توبة شطر من المنافقين . الخامسة : حرص المنافقين على إخفاء نفاقهم ، وعدم جريانه على اللسان ، وفي عالم الفعل ، ويقف المنافقون في صفوف الصلاة ليسمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتلو الآيات التي تذم المنافقين ، فتكون حجة عليهم ، ودعوة للتوبة وإصلاح السريرة . (عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تلك صلاة المنافق ، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً) ( ). ومن إعجاز القرآن ذكره لأبي لهب بصيغة الذم والتبكيت ، وهو مات على الكفر ، بينما لم يذكر اسم رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول مع ورود آيات بسبب نفاقه . وفيه نكتة عقائدية بقانون إكرام الله للمسلم الذي ينطق بالشهادتين بعدم ذكره بالاسم في الذم في القرآن ، ولأن طريق التوبة والإنابة يتكرر عنده خمس مرات في اليوم في الصلاة اليومية (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “أرأيتم لو أنبباب أحدكم نهرًا غَمْرًا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يُبقي من درنه شيئا؟” قالوا: لا يا رسول الله. قال: “وكذلك الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الذنوب والخطايا) ( ). ومن إعجاز القرآن في المقام تخصيص سورة من سوره باسم سورة المنافقون ، ويستحب قراءتها في صلاة الجماعة ، وفي رسالتي العملية الحجة: (مسـألة377) الاقوى عدم جواز العدول من (الجمعة) و(المنافقون) الى غيرهما في الجمعة وظهرها الا لوجود ضرورة او مرجح( ). ومن إعجاز القرآن بيان صفات وأفعال المنافقين ، وكل صفة منها من إبتلاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بهم ومن مصاديق قوله تعالى في آية البحث [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ]. ومن هذه الصفات : الأولى : المخادعة والحيلة مع المؤمنين ، فيظهرون الخير وإرادة الصلاح ، ولكنهم يعملون بالسر والخفاء على الإضرار بالإسلام , ولا ينحصر موضوع هذه المخادعة بها بالذات إنما تشمل ما يترتب عليها من المقاصد والأثر ، قال تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] ( ). الثانية : الصدود عن التنزيل والإعراض عن الأوامر والنواهي الإلهية . الثالثة : الإمتناع عن الخروج في سرايا الدفاع . الرابعة : قد يخرج المنافقون في سرايا الدفاع ، ولكن بقصد النفع وجلب الغنائم ، مع القيام بتثبيط العزائم عند الخطر والشدة، ليكون من معاني [لَتُبْلَوُنَّ ] في آية البحث وجوه : الأول : لتبلون بالمنافقين. الثاني : لتبلون في قعود المنافقين عن الدفاع . الثالث : لتبلون في إظهار المنافقين الجبن والخور وشدة الخوف . الرابع : لتبلون في إثارة المنافقين الريب والجزع عند هجوم العدو ، و(عن السدي قال : حفر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق ، واجتمعت قريش ، وكنانة ، وغطفان ، فاستأجرهم أبو سفيان بلطيمة قريش، فاقبلوا حتى نزلوا بفنائه ، فنزلت قريش أسفل الوادي ، ونزلت غطفان عن يمين ذلك ، وطليحة الأسدي في بني أسد يسار ذلك ، وظاهرهم بنو قريظة من اليهود على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما نزلوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم تحصن بالمدينة ، وحفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخندق . فبينما هو يضرب فيه بمعوله إذ وقع المعول في صفا ، فطارت منه كهيئة الشهاب من النار في السماء ، وضرب الثاني فخرج مثل ذلك . فرأى ذلك سلمان الفارسي فقال : يا رسول الله قد رأيت خرج من كل ضربة كهيئة الشهاب ، فسطع إلى السماء فقال : لقد رأيت ذلك؟ فقال : نعم يا رسول الله . قال : تفتح لكم أبواب المدائن ، وقصور الروم ، ومدائن اليمن ، ففشا ذلك في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فتحدثوا به ، فقال رجل من الأنصار يدعى قشير بن معتب : أيعدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يفتح لنا مدائن اليمن ، وبيض المدائن ، وقصور الروم وأحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته إلا قتل ، هذا والله الغرور . فأنزل الله تعالى في هذا { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً }( ))( ). الخامس : محاولة الإفساد وإثارة الفتنة بين الصحابة سواء في حال السلم أو عند خروج سرايا الدفاع ، قال تعالى [لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ] ( ). السادس : السخرية والإستهزاء بالمؤمنين الذين يجتهدون في طاعة الله . السابع : القول والسعي بخلاف ما أمر الله عز وجل ، إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا تتقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكن المنافقين يسعون بين الناس في فعل القبيح ، قال تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ). الثامن : مناجاة المنافقين بالإثم والمكر والحيلة ، وأبى الله إلا فضحهم وظهور سوء فعلهم بلحن القول . التاسع : إثارة الريب والإرجاف في المدينة لإرادة الفتنة وبعث النفوس على الشك بالرسالة والتنزيل . العاشر : إظهار المنافقين الفرح والغبطة إذا نزلت مصيبة بالمسلمين ، قال تعالى [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] ( ). الحادي عشر : العناد والإصرار على الإقامة على الصدود والجحود، قال تعالى [وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ] ( ). ويصح تقدير الآية : لتبلون بأموالكم وأنفسكم بسبب المنافقين فاصبوا عليهم , واتقوا الله . لماذا ذكر القرآن المنافقين وصفاتهم لقد ورد ذكر المنافقين في آيات متعددة من القرآن ، وبيّن الله خصالهم وخبثهم ، وفيه جهات : الأولى : تحذير المسلمين والمسلمات من شرور المنافقين . الثانية : قانون لزوم عصمة عامة المسلمين والمسلمات من النفاق ، فمن إعجاز القرآن ذكرالصفات المذمومة ليبتعد عنها جميع الناس . الثالثة : بيان قانون وهو عدم رضا الله عز وجل عن المنافقين والمنافقات. الرابعة : قانون جهاد المؤمنين للمنافقين بالحجة والبرهان ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ). الخامسة : قانون فضل الله عز وجل على المنافقين والمنافقات ببيان سوء عاقبة النفاق وإخفاء الكفر ليكفوا عن النفاق ، فمن خصائص القرآن أنه مدرسة الإصلاح . السادسة : قانون دعوة المنافقين والمنافقات إلى التوبة ، والتخلص من إخفاء الكفر بصيرورة الباطن والإعتقاد مثل الظاهر الإيماني ، ومن الظاهر الوقوف في صفوف الصلاة خلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . السابعة : تأكيد قانون قصد القربة في العبادات ، وليعلم المنافق وغيره لزوم إخلاص النية عند أداء الفرائض العبادية ، قال تعالى [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ] ( ). الثامنة : قانون إفاضة نبوة محمد على الناس ، ومنهم المنافقون بانذارهم في القرآن والسنة والصبر عليهم ،وأيهما أكثر المنافقون الذين تابوا إلى الله أم الذين لم يتوبوا من النفاق ، المختار هو الأول . التاسعة : قانون إعجاز القرآن في إصلاح النفوس وعالم الأفعال . العاشرة : قانون تفقه المسلمين وإرتقاؤهم في المعارف الإلهية . الحادية عشرة : قانون فصل القرآن المنافقين عن المشركين بالإنذار والتخويف والوعيد ، إذ تدل آيات القرآن على البعث على التوبة والإنابة . الثانية عشرة : من دلائل فضح القرآن للمنافقين أنه كتاب نازل من عند الله ، ويخبر عن نوايا ووقائع وأحاديث خاصة بين المنافقين لا يعلم بها إلا الله ، لتكون إرثاً ومادة عند المسلمين . وفيه بيان لقانون وهو أن الله عز وجل حينما ندب المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فانه سبحانه بيّن لهم مصاديق المعروف ، وهداهم إليها ، وأفراد المنكر وحذّرهم منها . الثالثة عشرة : قانون التلاوة في الصلاة زاجر عن النفاق ، وحصانة منه ، وهو من الإعجاز في وجوب التلاوة على كل مسلم ومسلمة ، ويشمل هذا الوجوب المنافق والمنافقة ، فاذا تلى آية فيها ذم للنفاق استدرك والتفت إلى نفسه باللوم ، واستحى مما هو فيه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] ( ) وقوله تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] ( )وفيه وجوه : الأول : قانون ذم الله عز وجل للمنافق نفسه الذي يتلو الآية القرآنية . الثاني : قانون ذم المنافق لنفسه . الثالث : إدراك قانون وهو ذم المسلمين للمنافق . الرابع : بعث المنافق على التفكير بالحاجة إلى التوبة من النفاق. الخامس : منع مقدمات الفتن وأسباب الخصومة التي تترشح عن المنافقين وخداعهم . السادس : الفصل بين المنافقين والمشركين . الرابعة عشرة : دعوة المسلمين للصبر على المنافقين ، وعدم الإجهاز عليهم . ولا تعارض بين هذا الصبر وإقامة الحجة عليهم خاصة وقد تكفل القرآن بذمهم خمس مرات في اليوم بتلاوة النبي وعامة المسلمين والمسلمات لآيات القرآن في الصلاة . وهل يختص الذم للمنافقين في المقام بالآيات التي تذكرهم بالذم والتوبيخ أم يمكن تشريع قانون وهو تلاوة كل آية من القرآن ذم للمنافقين وزجر عن النفاق . الصحيح هو الثاني ، وعندما نزل قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] ( ) . (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجبرئيل : ما هذه؟ قال : لا أدري حتّى أسأل، ثمّ رجع فقال : يا محمد إن ربّك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك. قال الإمام جعفر الصادق : أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية)( ). الخامسة عشرة : قانون تذكير المنافقين باليوم الآخر ، ووقوفهم بين يدي الله للحساب . ومن الآيات الواردة في ذم المنافقين في كتاب الله : الأولى : قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ]( ). الثانية : قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ]( ). الثالثة : قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( ). الرابعة : قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ). الخامسة : قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا * وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا] ( ). السادسة : قوله تعالى [وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَالَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا]( ). السابعة : قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلاَ أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً] ( ). الثامنة : قوله تعالى [وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً]( ). التاسعة : قوله تعالى [يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا]( ). العاشرة : قوله تعالى [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]( ). الحادية عشرة : قوله تعالى [بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا *الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً * إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا *إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا *إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا]( ). الثانية عشرة : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا]( ). الثالثة عشرة : قوله تعالى [أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ]( ). الرابعة عشرة : قوله تعالى [يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ * يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ * الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ]( ). الخامسة عشرة : قوله تعالى [لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ * لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ]( ). السادسة عشرة : قوله تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ * قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ). السابعة عشرة : قوله تعالى [وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ]( ). الثامنة عشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ]( ). التاسعة عشرة : قوله تعالى [وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ]( ). العشرون : قوله تعالى [الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ). الحادية والعشرون : قوله تعالى [فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ]( ). الثانية والعشرون : قوله تعالى [وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ]( ). الثالثة والعشرون : قوله تعالى [إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ). الرابعة والعشرون : قوله تعالى [يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لاَ تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ). الخامسة والعشرون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ). السادسة والعشرون : قوله تعالى [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ). السابعة والعشرون : قوله تعالى [وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ * أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ]( ). الثامنة والعشرون : قوله تعالى [وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنْ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً* أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً]( ). التاسعة والعشرون : قوله تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ]( ). الثلاثون : قوله تعالى [ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ]( ). الحادية والثلاثون : قوله تعالى [وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ]( ). الثانية والثلاثون : قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ]( ). الثالثة والثلاثون : قوله تعالى [ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ] ( ). الرابعة والثلاثون : قوله تعالى [إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ] ( ). الخامسة والثلاثون : قوله تعالى [سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا]( ). السادسة والثلاثون : قوله تعالى [وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( ). السابعة والثلاثون : قوله تعالى [ أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنْ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ). الثامنة والثلاثون : قوله تعالى [أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ]( ). التاسعة والثلاثون : قوله تعالى [إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ). الأربعون : قوله تعالى [فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ]( ). قانون حفظ العهود عهد لقد جاءت آيات القرآن بأمور : الأول : الترغيب بحفظ العهود والمواثيق لأن فيه أمناً من الحرمان يوم القيامة، فقد جاءت الآيات بالوعيد للذين ينقضونها. الثاني : إدراك حقيقة وهي أن الوفاء بالعهود لا يتم إلا بالإيمان، لأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءت بالعهود والمواثيق التي أخذت على الأمم السابقة ، قال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ). الثالث : بيان إستحقاق المسلمين لمنزلة حفظ العهود والمواثيق، ودعوتهم الناس للعمل بمضامينها، وهذه الدعوة من جهات: الأولى : حث الناس على دخول الإسلام ، وهو بذاته عهد ، وكذا أداء فرائضه وأحكامه. الثانية : تقيد المسلمين بالعهود والمواثيق حجة على الناس، وشاهد على نفعه، وهو من مصاديق خروج المسلمين للناس بالخير المحض وأسباب الهداية. الثالثة : توبيخ الذين ينقضون العهود والأيمان ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان) ( ) . وفي هذا الحديث أمور : الأولى : قانون بعث النفرة من النفاق . الثانية : قانون قبح النفاق وضرره العام والخاص ، وقانون سوء عاقبة النفاق ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ). الثالثة : قانون تنمية ملكة الصدق في الكلام عند المسلمين ، ليشمل الحديث النبوي أعلاه مفهوم الموافقة ، بفضح المنافقين ، ومفهوم المخالفة بحرص المسلمين على الإبتعاد عن الكذب والرياء ، وخلف الوعد . الرابعة : توكيد آية السياق لعالم الآخرة، وأن الله عز وجل هو الذي يحاسب الناس، حيث يحرم الكفار أنفسهم من أسباب الرحمة، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ). والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار . وقانون الوفاء بالعهد من جهات : الأولى : العهد بين العبد وربه ، وهو أسمى مراتب العهود ، والأصل فيها ولها ، قال تعالى [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ). الثانية : العهود بين المسلمين أنفسهم . الثالثة : العهود والعقود بين المسلمين والناس جميعاً ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ) ( ) وفي رواية أعم أنه قال (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاهَا اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهَا اللَّهُ) ( ). وقال تعالى [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً] ( )وهذا الوفاء دعوة للسلم ونشر للأمن ، ومناسبة لبيان حجج التوحيد ، ومن عمومات قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ) . والوفاء بالعهد من طرفيه أو أطرافه من شآبيب الرحمة التي تتغشى المجتمعات ،وهو قاعدة وقانون عند المسلمين، وقد خالف مشركو قريش بنود صلح الحديبية( ) . الرابع : العهود بين أهل الملل . الخامس : العهود بين الأفراد . السادس : العهود داخل الأسرة ، وبما لا يخالف الكتاب والسنة (عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج) ( ). لقد وعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً في مكان فانتظره ثلاثة أيام في نفس المكان وفاءً بوعده . (عن ابن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال بعد الفتح: فوا( ) بحلف الجاهلية ، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة ، ولا تحدثوا حلفاً في الإسلام( ) . وأخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم وابن جرير والنحاس عن جبير بن مطعم . أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن الزهري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا حــلف في الإسلام ، وتمسكوا بحلف الجاهلية) ( ). والمراد لا حلف مع المشركين ، ولا يعقد حلف مع مشركي مكة ونحوهم مما يخالف أحكام الشريعة ، فلا حلف معهم في التوارث والنصرة ، وقد نزلت آيات الميراث جلية وواضحة بخصوص طبقات الميراث . لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الأمن لتكون وعاءً ومناسبة لأداء الفرائض العبادية ، والأمن من مقدمات هذا الأداء ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) . وقد أراد الله عز وجل الأمن للذين آمنوا والناس جميعاً فبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية ، ولكن الذين يتبعون الشيطان لم يكتفوا بالإعراض عن التنزيل إنما حاربوا الأنبياء . وتجلت هذه الحرب جلية في شدة إيذاء قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وقيامهم بغزو المدينة على نحو متكرر من غير أن يتقيدوا بالعهود والأعراف ولم يرعوا حرمة للأشهر الحرم التي هي نوع عهد وميثاق من أيام آدم , ثم إبراهيم عليهما السلام , قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ). بحث منطقي التعريف الحقيقي على شعبتين : الأولى : التعريف بالحد ، أي أنه يميز المحدود عن غيره وهو يذكر صفة من ماهية الشئ تميزه عن غيره ، وتكون من الجنس والفصل وهو على شعبتين : الأولى : التعريف بالحد التام كما في تعريف الإنسان (الخليفة الناطق) وهذا الإصطلاح منا ، وذو صبغة قرآنية ، إذ أنه يعرف في علم المنطق بالحيوان الناطق . الثانية : التعريف بالحد الناقص وهو إذا كان الوصف والتعريف بالجنس البعيد والفصل القريب مثل الإنسان جسم ناطق ، أو (المصحف كتاب). الثانية : التعريف بالرسم وفيه بيان لبعض خواص أو الشئ، أو ذكر عرض يميزه عن غيره من غير توضيح لجوهره وماهيته ، وهو على قسمين : الأول : الرسم التام بتعريف المركب بغير المقوم وذكر الجنس القريب والخاصة مثل النخلة شجرة خضراء . الثاني : التعريف بالرسم الناقص ، وهو تعريف المفرد بغير المقوم (العرضي) مثل النخلة زراعة خضراء . هل الإمام المهدي (ع)من علامات الساعة الصغرى أم الكبرى تقسم علامات وأشراط الساعة التي تدل على قرب فناء الدنيا وبعث الناس من القبور . لقد جعل الله عز وجل الأنبياء مبشرين ومنذرين ولكن الإنذار لا يختص بالأنبياء انما يشمل الكتب السماوية المنزلة والآيات الكونية ، وآيات في ذات الناس . والموت انذار يومي متجدد فاثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره، أي اثبات قيام الأنبياء بالإنذار لا ينفي وجود منذرات متعددة وقد تقدم في تفسيرنا تسمية الحياة الدنيا (دار البشارة) و (دار الإنذار). وتقسم الظواهر والأحداث التي تدل على قرب يوم القيامة تقسيماً استقرائياً إلى قسمين : القسم الأول : علامات الساعة الصغرى ، وهي التي تتقدم عن يوم القيامة بزمن ليس قصيراً وضمن أشراط الساعة الصغرى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في خطبته : نحمد الله ونثني عليه بما هو أهله ، ثم يقول : من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، ثم يقول : بعثت أنا والساعة كهاتين) ( ). وأشار بالسبابة والوسطى للدلالة على قرب الساعة كالقرب بين هذين الأصبعين . وفي رواية أكثر وضوحاً عن جابر (أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسط) ( ). ومن العلماء من فسر الحديث بأنه ليس هناك نبي آخر من بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه آخر الأنبياء . ولأنه نبي آخر الزمان وليس بينه وبين القيامة نبي آخر ، إذ كيف يكون القرب وقد مضى أكثر من ألف وأربعمائة سنة على بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وما زالت الدنيا باقية والمساجد والكنائس والبيع قائمة ، والإمام المهدي لم يخرج بعد ، ولم تتحقق بعض العلامات الحتمية لظهوره . ولا يتعارض هذا الحديث وما يدل عليه من قرب يوم القيامة مع الحديث الآخر الوارد عن عمر الذي (كان واقفاً بعرفة ، فنظر إلى الشمس حين تدلت مثل الترس للغروب ، فبكى واشتد بكاؤه ، وتلا قول الله تعالى { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان }( ) إلى { العزيز } فقيل له فقال : ذكرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو واقف بمكاني هذا ، فقال: أيها الناس لم يبق من دنياكم هذه فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى) ( ). ليكون من الإعجاز في الجمع بين الحديثين تأكيد ما أظهره العلم الحديث من طول عمر الدنيا فيما مضى وعن ابن عمر (قال: سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم يقول: “إنَّمَا آجالُكُم فِي آجال مَن خَلا مِنَ الأمَم، كَما بَينَ صَلاةِ العَصْرِ إلى مَغْرِبِ الشَّمْس) ( ). وقد ورد لفظ (الساعة) في القرآن سبعاً وأربعين كلها بخصوص الوقت الذي تفنى فيه الدنيا وتقوم الساعة ، إلا آية واحدة وهو قوله تعالى [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ] ( ). وأخرج الطبراني (إذا طلبت وأحببت أن تنجح فقل : لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب السموات والأرض ، ورب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون . اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر ، والفوز بالجنة والنجاة من النار. اللهم لا تدع لي ذنباً إلا غفرته ولا همّاً إلا فرجته ولا حاجة هي لك رضاً إلا قضيتها يا أرحم الراحمين والحمد لله رب العالمين) ( ). وسمّي اوان قيام القيامة باسم الساعة لأنها تأتي فجأة وتباغت الناس ، وهم مشغولون بالبيع والشراء وأمور الدنيا . أما العلامات لغة فهي الدلالات على الشئ ، ومنها الإشارات التي تنصب في الصحراء مثلاً لتدل على الطريق ، ومنها اللوحات في الطرق العامة في الإشارة إلى المسافة المتبقية للوصول إلى المدن واتجاهها . وأوان قيام القيامة من علم الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ). وهل يحتمل تعدد السؤال في هذه الآية صدوره من المسلمين واليهود والمشركين ، الجواب نعم، فلا بد من علة لهذه التعدد في الآية الواحدة . قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا* فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا]( ). وقال تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا] ( ) أي ينفتتها ويقتلعها . فليس من ملك مقرب أو نبي مرسل يعلم أوان قيام الساعة ، وهل عدم معرفة الملائكة لقيام الساعة من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) . الجواب نعم ,فمن معاني قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) علم الله تعالى بأوان قيام الساعة وإصلاح الناس للتوبة والإنابة قبل حلول الأجل (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من مات فقد قامت قيامته) ( ). وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (إذا مات أحدُكم فقد قامتْ قيامتُه واعبدوا اللهَ كأنكم ترونه واستغفروه كلَّ ساعةٍ) ( ). الصغرى وهي على قسمين : الأول : العلامات التي وقعت وانقضت . الثاني : العلامات التي لم تقع بعد ومنها ما تحقق ووقع ، وإن كانت تذكر في العلامات التي لم تقع مثل : الأول : صيرورة جزيرة العرب جنات وأنهاراً . الثاني : انتفاخ الأهلة ، فيخرج الهلال ذو الليلة الواحدة وكأنه لليلتين . الثالث : إخراج الأرض كنوزها ، كما في إستخراج ملايين براميل النفط يومياً . واختلف علماء الإسلام في ظهور الإمام المهدي عليه السلام ، هل هو من علامات الساعة الصغرى أم علامات الساعة الكبرى . تقسم العلامات إلى قسمين : الأول : العلامات الصغرى ، وتنقسم إلى شعبتين : الأولى : العلامات التي ظهرت وانقضت . الثانية : العلامات التي لم تقع بعد . الثاني: العلامات الكبرى. ومنهم من قسم علامات الساعة إلى ثلاثة أقسام : الأول : العلامات الصغرى . الثاني : العلامات الوسطى ، وهي التي ما تزال تقع مع تعاقب الأيام وتوالي السنين ، ومنهم من جعل خروج الإمام المهدي من علامات الساعة الوسطى . الثالث : العلامات الكبرى , ويمكن أن يكون التقسيم بلحاظ أفراد الزمان الطولية بأن يكون على قسمين : الأول : العلامات البعيدة عن يوم القيامة . الثاني : العلامات القريبة من يوم القيامة . ومن علامات الساعة الصغرى : الأولى : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويدل عليه قوله تعالى [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ] ( ) (عن ابن مسعود قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنى فانشق القمر حتى صار فرقتين ، فتوارت فرقة خلف الجبل فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اشهدوا) ( ). (عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال { اقتربت الساعة وانشق القمر }( ) ألا وإن الساعة قد اقتربت ، ألا وإن القمر قد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، ألا وإن اليوم الضمار وغداً السباق) ( ). وقال تعالى [وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا]( ). الثانية : موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ ورد نص عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجعله من علامات الساعة من بين ست علامات ذكرها في حديث واحد إذ ورد (عن عوف بن مالك الأشجعي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة أدم فقال : أعدد ستّاً بين يدي الساعة : موتي . ثم فتح بيت المقدس . ثم موتان يأخذكم كقعاص الغنم . ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً . ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته . ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين راية تحت كل راية اثنا عشر ألفاً زاد أحمد فسطاط المسلمين يومئذ في أرض يقال لها الغوطة في مدينة يقال لها دمشق) ( ). الثالثة : كثرة الأموال ، كما ورد في أحاديث متعددة ، وهل منه العملة الورقية ، الجواب نعم ، إذ كانت العملة من الدينار الذهبي ، والدرهم الفضي ، وكل منهما معدن محدود الكمية ، لا يمكن أن تضرب منه مقادير إلا بالشراء بخلاف طباعة الورق وإن كانت لها إحتياطي . الرابعة : التطاول في البنيان ، ومنه بناء العمارات العالية والسكن العمودي ، وناطحات السحاب ، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الآتي (وحتى يتطاول الناس في البنيان)أي يجتهدون ويتباهون في علو الأبنية . الخامسة : وعن أبي هريرة قال : (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة . وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله . وحتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن وكثر الهرج وهو القتل . وحتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته . وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه لا أرب لي به، وحتى يتطاول الناس في البنيان . وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه ، وحتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، وذلك حين لا ينفع إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيراً . ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوباً بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه لا يسقي به ، ولتقومن الساعة وقد رفعت أكلته إلى فيه فلا يطعمها) ( ). السادسة : نزول مطر عام يتغشى الأرض ، ولا يخرج معه نبات ، كما ورد عن (أنس بن مالك يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يأتي على الناس زمان يمطر الناس مطرا عاما ، ولا تنبت الأرض شيئا) ( ). السابعة : عن الإمام علي عليه السلام قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن من أشراط الساعة أن يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع) ( ). اللكع أي من لا يعرف له أصل وحسب ، ولا يتصف بخلق حميد ، والمراد من أشراط الساعة أي العلامات التي تدل على قرب يوم القيامة . الثامنة : (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ) ( ) وفيه شاهد على إكرام الله عز وجل للمسلمين بالبقاء على ملة الإسلام ، وبأمامة الإمام المهدي من آل محمد حتى مع نزول عيسى عليه السلام . وهل يمكن الربط بين خروج الإمام المهدي وبين نزول عيسى عليه السلام من جهة الزمان ، المختار نعم ، وفيه رواية عن الإمام الباقر عليه السلام( ) . التاسعة : (في خبر عبد الله بن سلام أنه سأل النبي صلى الله عليه واله وسلم عن أول أشراط الساعة، فقال: نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب) ( ). وهل يدل هذا الحديث على حرب نووية ، ولزوم توفر واقية للناس للنجاة منها، ولكنها تؤدي إلى تسمم الفضاء والهواء مما يجعل الناس يتركون مدنهم ومحل سكناهم بالإنتقال بعيداً عنها ، الجواب لا دليل عليه . وفي حديث آخر أن هذه النار أول شرائط الساعة . العاشرة : وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الساعة فقال (عند إيمان بالنجوم، وتكذيب بالقدر)( ). الحادية عشرة : زخرفة المساجد والتسابق والتفاخر بها (وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد”)( ). الثانية عشرة : (عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : بين يدي الساعة يظهر الربا ، والزنا ، والخمر) ( ). الثالثة عشرة : (عن عبد الله بن عمرو قال : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ، فيسلبها حليها ويجردها من كسوتها ، كأني أنظر إليه أصيلع أفيدع ، يضرب عليها بمسحاته ومعوله) ( ). الرابعة عشرة : (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا لِلْمَعْرِفَةِ) ( ). لا يفلت منهم مخبر . وهناك تقسيم آخر لعلامات الساعة وهو : الأولى : الساعة الشخصية، وهي موت الإنسان نفسه ، بلحاظ كبرى كلية بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من مات فقد قامت قيامته)( ) لإنقطاع عالم العمل ودخوله إلى عالم الحساب الذي يبدأ من القبر . الثانية : الساعة الكبرى ، وهو يوم القيامة . وتنقسم علامات الساعة الصغرى إلى ثلاث أقسام : الأول : العلامات التي حدثت وانقطعت . الثاني : العلامات التي وقعت وهي في حال تكرار مثل : الأولى : ضياع الأمانة . الثانية : شهادة الزور . الثالثة : استفاضة المال وشيوع التجارات . الثالث : عودة الجزيرة جنات وأشجاراً . الرابع : انتفاخ الأهلة . الخامس : ورد عن أبي هريرة (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب ، فيقتتل الناس عليه ، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون ، ويقول كل رجل منهم : لعلي أكون الذي أنجو) ( ). وهل انتفاخ الأهلة يعد من العلامات التي لم تظهر ، والمختار أنها ظهرت ، وكيف ظهرت ، الجواب هذا الإختلاف في حكم الهلال ، منهم من يقول بوحدة الحكم مع إختلاف الآفاق . فترجح الدراسات الفلكية رؤية الهلال ، ولا أقول تثبت في جزء من المحيط الأطلسي ، وقد يعلن بعضهم ثبوت رؤية الهلال ، ويبني عليه حكم صيام شهر رمضان أو الإفطار في شوال بينما ورد قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) نعم يستأنس باخبار وعلوم الفلك ، وكذا بالنسبة للحج، ونذكر هنا مسألة مستحدثة وهي : هل قوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ) يدل على لزوم التدبر والتأكد من رؤية الهلال في ذات الجزيرة بلحاظ كلمة معلومات. الجواب لا دليل عليه لعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) وأن هذا التأكد يبدأ من هلال شهر شوال بلحاظ أن أشهر الحج ثلاثة أشهر، وهي : الأول : شوال . الثاني : ذو القعدة . الثالث : ذو الحجة . ومن الإعجاز في المقام أن هلال شوال فيه الإفطار بعد صيام شهر رمضان ليجتمع فيه حكمان من أهم ما في الأهلة وضبطها ، ومثلما يمنع قوله تعالى [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ) الزيادة في الأشهر الحرم والزحف في حساب أيام مناسك الحج ، ويمنع من التعجيل في الإكتفاء برؤية الهلال في بعض أجزاء الأرض من غير الإكتفاء بالهلال في العراق والجزيرة. القسم الثاني : علامات الساعة الكبرى : وهي العلامات التي تقع قبل يوم القيامة بوقت قصير ، لتكون إنذاراً لزوال الدنيا ، قال تعالى [يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ] ( ). وذكر بخصوص الآية أعلاه أن المراد يوم الحشر والناس وقوف في الموقف ، أي أنه لاحق للنشور . ومنهم من قسم علامات الساعة الكبرى إلى قسمين : الأول : العلامات الكبرى الأرضية مثل : أولاً : خروج الدجال . ثانياً : يأجوج ومأجوج . ثالثاً: الخسوفات العظيمة في المشرق والمغرب ، وفي جزيرة العرب . رابعاً : خروج الدابة ، قال تعالى [وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ] ( ). الثاني :العلامات الكبرى السماوية مثل نزول عيسى عليه السلام ، وطلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، قال تعالى [فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ] ( ). (عن أبي سريحة حذيفة بن أسيد قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غرفة ونحن أسفل منه فاطلع إلينا فقال ما تذكرون ؟ قلنا الساعة قال إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات خسف بالمشرق . وخسف بالمغرب . وخسف في جزيرة العرب. والدخان والدجال ودابة الأرض . ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها . ونار تخرج من قعرة عدن ترحل الناس) ( ). وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المسيح الدجال ، وبيّن صفاته ، وحذّر منه ، وهو رجل قصير القامة متباعد بين ساقيه ، شعره كثيف أجعد ، أبيض البشرة ، يجول الأرض في أربعين يوماً كما وصفه رسول الله. ففي حديث النواس بن سمعان الكلابي (قلنا : يا رسول الله فما إسراعه في الأرض ؟ قال : كالغيث استدبرته الريح . قال : فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر ، ويأمر الأرض فتنبت ، وتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت درا، وأسبغه ضروعا ، وأمده خواصر ، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم ، فتتبعه أموالهم ويصبحون ممحلين ما بأيديهم شيء) ( ). والظاهر أنه يستعمل السحر ووسائل تقنية خاصة . والإيمان الإجمالي بعلامات الساعة واجب بلحاظ أن الإيمان باليوم الآخر من أركان الإيمان ، وعلامات الساعة مقدمة لها . وفيه زيادة في الإيمان، وتثبيت له في القلوب ، وتطلع إلى الغيبيات ، ولجوء إلى الله بالدعاء . (عن ابن أبي عمير، عن عمر بن حنظلة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قبل قيام القائم عليه السلام خمس علامات محتومات: اليماني والسفياني والصيحة وقتل النفس الزكية والخسف بالبيداء) ( ). والله العالم بالحقائق المطلع على الأسرار . وأختلف في عمر بن حنظلة ، والمختار وثاقته . ويقسم الإجماع إلى قسمين : الأول : الإجماع البسيط وهو إجماع الفقهاء على كلمة مخصوصة لمسألة معينة سواء كان إجماعاً تعبدياً أو إجماعاً مدركياً . وأستدل على حجية الإجماع بقوله تعالى [وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] ( ) ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أمتي لا تجتمع على ضلالة) ( ). الثاني : الإجماع المركب وهو ورود قولين في مسألة واحدة أو إدعاء الإجماع على قولين فيها ، مما يعني في مفهومه عدم وجود قول ثالث ،ولا حجة فيه خاصة مع العلم بخطأ أحد القولين. فهذا الإختلاف صغروي ، وهو يدل على إجماع علماء الإسلام على حتمية ظهور الإمام المهدي ،وهو المستقرأ من النصوص الثابتة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وقد يقال أن النوبة لا تصل إلى الإجماع لثبوت النص ، ولا يتعارض معه الإستدلال بالإجماع المركب على عدم وجود إحتمال وقول ثالث . ومنهم من عرف الإجماع المركب بأنه الإتفاق في الحكم مع الإختلاف في المذهب . فقد يختلف في مسألة على قولين ، مما يدل على عدم وجود قول ثالث كما في قوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ..] ( ) . وهل المراد الحيض أم الطهر ، والمختار هو الطهر فلو طلق الرجل امرأته وبعد يوم جاءها الحيض ، فقد انقض قرء وذهب إليه الشافعي ايضاً، وقال أبو حنيفة بأن المراد من القرء الحيض . فيدل هذا الإختلاف في القرء على الإجماع المركب بأنه ليس هناك قول ثالث في معنى القرء . في المسائل الفرعية ومثلاً بخصوص الصلوات اليومية الخمس إذ تؤدى كل صلاة في وقتها ، ويجوز الجمع بين صلاة الظهر والعصر ، وكذا يجوز الجمع بين صلاة المغرب والعشاء ، تقديماً في وقت الأولى ، وتأخيراً في وقت الثانية ، والمراد من التقديم أداء صلاة الظهر في وقتها ثم تصلى العصر في ذات وقت صلاة الظهر ، وقبل أن يدخل وقت العصر ، ويسمى جمع تقدير مع القصد بالترتيب بينها . أما المراد من لفظ (تأخيراً) أي تؤخر صلاة الظهر لتصلى في وقت العصر ثم تصلى بعدها مباشرة صلاة العصر ، ويسمى جمع تأخير ، لذا يمكن أن نؤسس قاعدة مستحدثة في علم الأصول وهي : إذا ورد قولان فقط في مسألة معينة فهو ينفي وجود قول ثالث إلا مع الدليل . مما يدل على عدم القول بأداء الصلاة في غير وقتها باستثناء الظهرين والعشائين ، وعلى عدم القول بالخروج عن تقديم الصلوات حتى في حال السفر ، وعلى عدم الجمع بين العصر والمغرب . (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمًا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَبَدَتْ النُّجُومُ وَعَلِقَ النَّاسُ يُنَادُونَهُ الصَّلَاةَ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَجَعَلَ يَقُولُ الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ قَالَ فَغَضِبَ قَالَ أَتُعَلِّمُنِي بِالسُّنَّةِ شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَوَجَدْتُ فِي نَفَسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَسَأَلْتُهُ فَوَافَقَهُ) ( ). (عن نافع ان ابن عمر استصرخ على صفية بنت ابي عبيد وهو بمكة وهي بالمدينة فاقبل فسار حتى غربت الشمس وبدت النجوم فقال له رجل كان يصحبه الصلاة الصلاة فسار ابن عمر فقال له سالم الصلاة فقال ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا عجل به امر في سفر جمع بين هاتين الصلاتين فسار حتى إذا غاب الشفق جمع بينهما وسار ما بين مكة والمدينة ثلاثا) ( ). وقوله (ثلاثا) أي قطع المسافة بين المدينة ومكة على الإبل في ثلاث ليالي، وكان المتعارف قطع الإبل لهذه المسافة في تسع أو عشر ليالِ إذ يقطع الجمل في الساعة نحو 7-10 كم ، وبعد دخول السيارات في خدمة الحجيج صار ركوب الجمل يقل تدريجياً ، كما أن دخول سيارات إلى مكة في بدايته سبب نفرة ورعباً للإبل ويتعرض معها الحجاج الراكبين عليها والسابلة للخطر فقامت السلطة بمنع سير السيارات في شوارع مكة حينئذ ، ثم صار الحجاج يأتون في السيارات اللوري والصالون ، ويأتون على الجبال لرخص أجرتها ، أو أن راكب الجمل هو مالكه فيأتي على ظهره إلى أن أصدرت السلطة في سنة 1953 م أمراً يمنع ركوب الجمل أوان مناسك الحج ، ولكنه لم يختفي عن المناسك . وهل يشمل قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ) وسائط النقل الحديثة من السيارات والقطارات والطائرات ، الجواب نعم لطول المسافة . وكان الحاج يقطع المرحلة في يوم واحد ، والرحلة هي المسافة بين منزلين، ومقدار الرحلة نحو 40 كم على إختلاف ، وهي بريدان ، والبريد أربعة فراسخ ، والفرسخ 5,40 كم . ويتعلق الإجماع بمسائل الحلال والحرام ، والأحكام التكليفية ، ومن الإجماع : الأول : الإجماع الصريح . الثاني : الإجماع السكوتي ، بأن يقول أحد المجتهدين قولاً ورأياً، فيسكت الفقهاء الآخرون ، ولم يخالفوه مع إنعدام وجود المانع من الرأي حوله . وأختلف في حجيته ، ومنهم من جعله بمنزلة الإجماع الصريح ، مثل جعل الأحفاد بمنزلة الأولاد الصلبيين عند فقدهم في الميراث . ويدل على حقيقة وحتمية ظهور الإمام المهدي وكونه من علامات الساعة اختلاف علماء الإسلام فيه على قولين : الأول :ظهور الإمام المهدي من علامات الساعة الصغرى . الثاني : ظهور الإمام المهدي من علامات الساعة الكبرى . وهل يجوز الجمع مطلقاً بخصوص كل من : الأول :حال السفر . الثاني : المرض . الثالث : المطر الذي يبل الثياب . الرابع : البرد . الخامس : الخوف . السادس : الحاجة . وتسالم الإمامية ثم الحنابلة والشافعية والمالكية بخصوص الجمع بين الصلاتين ، باستثناء الحنفية إذ نسب إليهم عدم جواز الجمع في حال السفر والمرض وغيرها من الأعراض . إجماع علماء الإسلام على خروج الإمام المهدي عليه السلام في آخر الزمان (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أُبَشِّرُكُمْ بِالْمَهْدِىِّ يُبْعَثُ فِي أُمَّتِي عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْ النَّاسِ وَزَلَازِلَ فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا وَيَرْضَى عَنْهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ وَسَاكِنُ الْأَرْضِ وَيَمْلَأُ اللَّهُ قُلُوبَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ غِنًى فَلَا يَحْتَاجُ أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ فَيُنَادِي مُنَادٍ مَنْ لَهُ فِي الْمَالِ حَاجَةٌ قَالَ فَيَقُومُ رَجُلٌ فَيَقُولُ أَنَا فَيُقَالُ لَهُ ائْتِ السَّادِنَ يَعْنِي الْخَازِنَ فَقُلْ لَهُ قَالَ لَكَ الْمَهْدِيُّ أَعْطِنِي قَالَ فَيَأْتِي السَّادِنَ فَيَقُولُ لَهُ فَيُقَالُ لَهُ احْتَثِي فَيَحْتَثِي فَإِذَا أَحْرَزَهُ قَالَ كُنْتُ أَجْشَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ نَفْسًا أَوَعَجَزَ عَنِّي مَا وَسِعَهُمْ قَالَ فَيَمْكُثُ سَبْعَ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ تِسْعَ سِنِينَ ثُمَّ لَا خَيْرَ فِي الْحَيَاةِ أَوْ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُ ) ( ). وتسمى أيضاً أشراط الساعة ، وذكرها على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فضل الله من جهات ، منها : الأولى : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الساعة وأشراطها من الوحي ، قال تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ). الثانية : في الإخبار عن علامات الساعة تحذير وإنذار الناس ، وطرد للغفلة عنهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ). الثالثة : بيان حاجة الناس للسنة النبوية القولية والفعلية ، وتأكيد قانون وهو أنها مرآة وترجمان للقرآن. الرابعة : تأكيد قانون الحجة بقوله تعالى [قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ]( ). وقد تقدم الكلام في اختلاف علماء الإسلام في أوان خروج الإمام المهدي على قولين ، وهل هو من علامات الساعة الصغرى أم الكبرى ، مما يدل على الإجماع على خروجه ، وعدم وجود قول ثالت ، وهذا الإختلاف واستقراء عدم وجود قول ثابت أقرب إلى الإجماع المركب في مقابل الإجماع البسيط . وتقسيم علامات الساعة إلى صغرى وكبرى تقسيم استقرائي ، وكذا اختيار العنوان الصغرى والكبرى ، ويمكن مناقشته إذ أن المتبادر منه والتبادر من علامات الحقيقة ، أن التباين في الكم بين العلامة الصغيرة والكبيرة ، إنما هو التباين في البعد والقرب عن يوم القيامة ، لتكون النسبة بين هذه العلامات عموم وخصوص من وجه . فمادة الإلتقاء هي كل منها علامة ودلالة على قرب يوم القيامة ، أما مادة الإفتراق فان الصغرى قد انقضت أو أنها ستقع ، أما الكبرى فانها التي تكون قريبة من يوم القيامة ، ومنهم من حصرها بحديث حذيفة بن أسيد الغِفاريّ قال : اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ السَّاعَةَ فَقَالَ مَا تَذْكُرُونَ قَالُوا نَذْكُرُ السَّاعَةَ فَقَالَ إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ عَشْرَ آيَاتٍ الدُّخَانُ وَالدَّجَّالُ وَالدَّابَّةُ وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَثَلَاثُ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ( ). وقال تعالى [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ] ( ). اقتربت أي ما بقي بين نزول القرآن وبين يوم القيامة إلا قليل بالنسبة لعمر الدنيا ، وهو الذي اكدته الدراسات الحديثة . وآدم الذي عاش تسعمائة وستين سنة . وفي سنة 2004 توصل العلماء من تحليل الأصل الوراثي الجامع للأعراض البشرية ،وتوصلوا إلى نتيجة وهي : رجوع الناس في النسب إلى رجل واحد قبل ستين ألف سنة ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا] ( ). وأنشق القمر في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلقتين ، وتبين الآية قانوناً وهو ذات الساعة ويوم القيامة هو الذي يقترب للناس لا يستطيعون وقف إقترابه ودنوه ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين ،وأشار بالسبابة والوسطى للدلال على قرب يوم القيامة. ومن علامات الساعة الحتمية خروج الإمام المهدي ، وتوليه مهام الحكم والإمامة ، إذ ورد عن عبد الله بن مسعود عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (لاَ تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ الْعَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِى يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِى) ( ). وقال ابو عيسى الترمذي والمتوفى سنة 297 للهجرة وفي باب عن علي عليه السلام وأبي سعيد الخدري وأم سلمة وأبي هريرة ، وهذا الحديث حسن وصحيح ( ). قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا]( ) أي متى رسوها وزمانها . تقسيم العلامات إلى الصغرى والكبرى تقسيم استقرائي ، ويتبادر إلى الذهن الفرق في الحكم ، وينخرم هذا المعنى بأن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من علامات الساعة وهي من العلامات الكبرى في موضوعها وأثرها ، إذ نزل القرآن بالإخبار عن كون التصديق باليوم الآخر ووقوف الناس بين يدي الله للحساب من أركان الإيمان ،وهو أصل من أصول الدين ، وليس فرعاً منه كالصلاة والصوم . ويمكن تقسيم علامات الساعة تفسيراً آخر أوضح وأبين مثل تقسيمات العلامات الصغرى إلى : الأول : علامات انقضت . الثاني : علامات لم تأتي . الثالث : علامات تتكرر . ويمكن الفصل بينها وجعل كل فرد منها قسيماً للآخر ،فنقول : الأولى : علامات الساعة التي انقضت، ومنها بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنها علامة كبرى من حيث الحم والكيف . الثانية : العلامات التي حدثت بعد بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه المسألة تستلزم التحديث بين الحين والآخر ، فمثلاً إلى الآن حين نذكر علامات الساعة الصغرى تذكر أمور هي حدثت مثل : الأول : صيرورة جزيرة العرب جنات وأنهاراً. الثاني : إخراج الأرض كنوزها ، كما في استخراج ملايين براميل النفط من الأرض كل يوم . الثالث : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . الرابع : موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . الخامس : كثرة الأموال . السادس : التطاول في البناء بأن يجتهد ويتباهى الناس في علو الأبنية ، وهل منه دخول علو البناء في موسوعة غينيس للأرقام القياسية مثل أعلى مبنى ، وأوسع سكن ، الجواب نعم . السابع : زخرفة المساجد والتسابق فيها . الثامن : سلام الرجال من أجل المعرفة , بينما أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بافشاء السلام مطلقاً . ويدل قوله تعالى [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ] ( )على أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على اقتراب الساعة وأن انشقاق القمر من علاماتها . لتكون الواو في [وَانْشَقَّ] من عطف الخاص على العام، والفرع على الأصل ، ولبيان مسائل وهي : الأولى : تعدد علامات يوم القيامة المتفرعة عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . الثانية : علامات الساعة بخصوص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس ، لعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ). الثالثة : تطرد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عن الساعة وقرب يوم القيامة الغفلة عن الناس ، وهل يمكن القول بأن العناية بمباحث أشراط وعلامات الساعة من مصاديق التصديق باليوم الآخر ، وهو أصل من أصول الدين ، وركن من أركان الإيمان ، الجواب نعم ، قال تعالى [فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى]( ). وتدل الآية في أول البحث عن سؤال المسلمين وغيرهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أوان الساعة . وقد ورد لفظ [يَسْأَلُونَكَ] في القرآن خمس عشرة مرة كلها موجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها مرتان في آية واحدة ، وأكثرها السؤال عن الساعة إذ ورد ثلاث مرات ، وحتى قوله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا] ( ) يتعلق بيوم القيامة ، وفيه ترغيب بالتفكر في أشراط الساعة والتدبر والتذاكر فيها . وهناك من العلامات ما هي مرتبة أو في زمان واحد مثل خروج الإمام المهدي ، ونزول عيسى عليه السلام ، وفتنة الدجال . أن التذكير بنزول عيسى عليه السلام وظهور الإمام المهدي عليه السلام باعث للأمل ، وتخفيف من وطأة البلاء ، ودعوة لتعاهد الفرائض العبادية ونبذ الإرهاب والعنف . قصيدة دعبل عن دعبل الخزاعي أنه لما قلت (لما قلت ” مدارس آيات ” قصدت بها أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام وهو بخراسان ولي عهد المأمون في الخلافة، فوصلت المدينة، وحضرت عنده، وأنشدته إياها فاستحسنها وقال لي : لا تنشدها أحدا حتى آمرك . واتصل خبري بالخليفة المأمون، فأحضرني وسألني عن خبري، ثم قال: يا دعبل أنشدني ” مدارس آيات خلت من تلاوة “. فقلت : ما أعرفها يا أمير المؤمنين . فقال : يا غلام أحضر أبا الحسن علي بن موسى الرضا قال: فلم يكن ساعة حتى حضر. فقال له : يا أبا الحسن سألت دعبلا عن ” مدارس آيات ” فذكر أنه لا يعرفها . فقال لي أبو الحسن : يا دعبل أنشد أمير المؤمنين . فأخذت فيها فأنشدتها فاستحسنها وأمر لي بخمسين ألف درهم وأمر لي أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام بقريب من ذلك، فقلت: يا سيدي إن رأيت أن تهبني شيئا من ثيابك ليكون كفني . فقال : نعم، ثم رفع إلي قميصا قد ابتذله ومنشفة لطيفة . وقال لي : احفظ هذا تحرس به. ثم دفع إلي ذو الرئاستين أبو العباس الفضل بن سهل وزير المأمون صلة وحملني على برذون( ) أصفر خراساني، وكنت اسايره في يوم مطير، وعليه ممطر خز وبرنس منه فأمر لي به ودعا بغيره جديد فلبسه، وقال: إنما آثرتك باللبيس لانه خير الممطرين قال: فاعطيت به ثمانين دينارا فلم تطب نفسي ببيعه. ثم كررت راجعا إلى العراق فلما صرت في بعض الطريق خرج علينا الاكراد فأخذونا، وكان ذلك اليوم يوما مطيرا، فبقيت في قميص خلق وضر جديد وأنا متأسف من جميع ما كان معي على القميص والمنشفة ومفكر في قول سيدي الرضا عليه السلام إذ مر بي واحد من الحرامية تحته الفرس الاصفر الذي حملني عليه ذو الرئاستين، وعليه الممطر، ووقف بالقرب مني ليجتمع عليه أصحابه وهو ينشد “مدارس آيات خلت من تلاوة ” ويبكي. فلما رأيت ذلك منه عجبت منه ، ثم طمعت في القميص والمنشفة فقلت: يا سيدي لمن هذه القصيدة ، فقال : ما أنت وذاك ويلك . فقلت : لي فيه سبب اخبرك به، فقال: هي أشهر بصاحبها أن تجهل، فقلت : من هو ، قال: دعبل بن علي شاعر آل محمد جزاه الله خيرا. فقلت له: والله يا سيدي أنا دعبل، وهذه قصيدتي فقال: ويلك ما تقول قلت: الامر أشهر من ذلك فأرسل إلى أهل القافلة فاستحضر منهم جماعة، وسألهم عني فقالوا بأسرهم: هذا دعبل بن علي الخزاعي . فقال : قد أطلقت كل ما اخذ من القافلة خلالة( )، فما فوقها كرامة لك ثم نادى في أصحابه من أخذ شيئا فليرده فرجع على الناس جميع ما اخذ منهم ورجع إلي جميع ما كان معي، ثم بذرقنا إلى المأمن فحرست أنا والقافلة ببركة القميص والمنشفة)( ). وتائية دعبل هذه ابتدأت بالأبيات : مَدارِس آياتِ خَلَتْ مِن تِلاَوةٍ … ومَنْزِلُ وَحْي مُقْفِرُ العَرَصَاتِ لآل رَسُولِ الله بالخَيْفِ مِن مِنىً … وبالبَيْتِ والتَّعْرِيفِ والجَمَراتِ ديارُ عليٍّ والحُسَيْنِ وجَعّفَرٍ … وحَمْزَةَ والسَّجادِ ذيِ الثَّفِناتِ قفا نَسْأَلِ الدَّارَ التي خَفَّ أَهْلُها … مَتَى عَهْدُها بالصَّوْمِ والصَّلواتِ وأَيَن الأَلَى شَطَّتْ بِهمْ غَرْبَةُ النَّوَى … أفَانِينَ في الآفاقِ مُفْتَرِقاتِ أُحِبُّ قَصِيَّ مِن أجْلِ حُبِّهِمْ … وأهْجُرُ فيِهِم زَوْجَتِي وبَنَاتِي( ). وله التانية الأخرى في ذات حب أهل البيت وأولها : طَرقَتْكِ طارقَة ُ المُنى بِبَياتِ لا تظهري جَزعاً فأنتِ بداتِ في حبِّ آل المصطفى ووصيِّه شغلٌ عن اللذّاتِ والقيناتِ إنَّ النَّشيدَ بِحبِّ آلِ محمّدٍ أَزكَى ، وأَنفعُ لِي مِن القُنياتِ فاحْشُ القَصيدَ بهمْ وفرِّغْ فِيهمُ قَلباً، حَشَوْتَ هَواهُ باللَّذات واقطع حبالة من يريد سواهم في حبِّه ، تحلل بدارِ نجاة . رضاع الكبير ورد حديث رضاع الكبير بخصوص سهلة بنت سهيل إذ أخرج الطبراني وابن منذر وغيرهما (عن عائشة : أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وكان ممن شهد بدراً تبنى سالماً ، وأنكحه بنت أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وهو مولى لامرأة من الأنصار ، كما تبنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم زيداً ، وكان من تبنى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه وورثه من ميراثه حتى أنزل الله في ذلك { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم }( ) فردوا إلى آبائهم ، فمن لم يعلم له أب كان مولى وأخاً في الدين . فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : إن سالماً كان يدعى لأبي حذيفة ، وإن الله قد أنزل في كتابه { ادعوهم لآبائهم }( ) وكان يدخل عليَّ ، وأنا وحدي ، ونحن في منزل ضيق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ارضعي سالماً تحرمي عليه) ( )( ). وذكره مالك بعنوان (ما جاء في الرضاعة بعد الكبر ). ومذهب الصحابة والأئمة عليهم السلام وما عليه إجماع العلماء ، والمختار هو أن الرضاع الذي ينشر الحرمة ما كان في الحولين ، وهما مدة الرضاعة لقوله تعالى [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ] ( ) . أما مسألة سهلة أعلاه ، فهي قضية عين خاصة بها ، على فرض صحة هذا الحديث ودلالته ، كما أنه كان يدعيه أبو حذيفة قبل نزول قوله تعالى [ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ] ( ) . ونسب إلى أبي موسى الأشعري القول بنشر الحرمة عند إرضاع الكبير ثم رجع عنه لقول عبد الله بن مسعود . وفي مرسلة يحيى بن سعيد الأنصاري (أن رجلا سأل أبا موسى الأشعري فقال : إني مصصت عن امرأتي من ثديها لبنا فذهب في بطني ، فقال أبو موسى لا أراها إلا قد حرمت عليك . فقال عبد الله بن مسعود انظر ماذا تفتي به الرجل فقال أبو موسى فماذا تقول أنت . فقال عبد الله بن مسعود :لا رضاعة إلا ما كان في الحولين ، فقال أبو موسى لا تسألوني عن شيء ما كان هذا الحبر بين أظهركم) ( ). ويحيى بن سعيد (68-143) هجرية ، ولم يلق أبا موسى الأشعري ، ولم يسمع منه ، وقد تولى يحيى بن سعيد القضاء لأبي جعفر المنصور . قانون استنباط المعاني من الآيات الأخرى من خصائص القرآن استنباط المعاني من الآية القرآنية بلحاظ آيات القرآن الأخرى ، التي يرد فيها اللفظ والمضمون ، ومن خصائص القرآن اقتباس المسائل ، وتأسيس القوانين من الآية القرآنية ، ومن الجمع بينهما وبين الآية القرآنية الأخرى من جهات : الأولى : الآية المعطوفة عليها . الثانية : الآية المجاورة للآية القرآنية مطلقاً سواء إتحد الموضوع أو اختلف. الثالثة : الصلة بين آيات السورة الواحدة . الرابعة : الصلة في الكلمات المتشابهة ، فمثلاً أختتمت آية البحث بقوله تعالى [مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( ) الذي ورد في آيتين أخرتين من القرآن : الأول : قوله تعالى [يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( ). الثاني : قوله تعالى [وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( ). وسيأتي مزيد بيان في باب علم المناسبة . لبيان قانون تعدد معاني الآية القرآنية من وجوه : الأول : قانون دلالة مضامين الآية القرآنية . الثاني : استنباط المسائل والأحكام من الجمع بين الآيتين من القرآن ، وفيه دعوة للعلماء للإجتهاد في الغوص في بحار القرآن , واستخراج الكنوز من الصلة بين آياته . الثالث : استقراء أفراد وشواهد من الأحكام التكليفية الخمسة من القرآن . الرابع : بيان الإعجاز في مطابقة السنة النبوية القولية والفعلية لآيات القرآن متحدة ومجتمعة . ومن مصاديق القانون محل البحث بخصوص آية البحث قانون الإبتلاء إذ يفيد الجمع بين آيات القرآن بخصوص الإبتلاء تأكيد الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة ، وقيام المشركين بتجهيز الجيوش لقتالهم وسقوط الشهداء في ميدان المعركة ، ففي شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة قدم إلى المدينة أحد فرسان العرب وهو عامر بن مالك أبو براء ، وهو سيد بني عامر ، ويلقب بملاعب الأسِنة، وكان إذا لا ركب فرسه وصل إبهاما قدميه إلى الأرض لطوله . وأحضر معه هدية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبيان كيف أن الفرسان العرب يتصاغرون بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كانوا على الكفر ، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام ، ودعاه إليه ، فلم يسلم ، ولكنه أظهر الميل إلى الإسلام . (وقال يا محمد لو بعثت رجالا من اصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انى اخشى اهل نجد عليهم قال ابو براء انا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك) ( ). وقال أني أرجو أن يستجيب أهل نجد لك (فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إنّي أَخْشَى عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ ، قَالَ أَبُو بَرَاءٍ . أَنَا لَهُمْ جَارٍ فَابْعَثْهُمْ فَلْيَدْعُوا النّاسَ إلَى أَمْرِك ) ( ). وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين رجلاً من المسلمين ، وقيل سبعين من خيار المسلمين ، وجعل عليه المنذر بن عمرو أحد بني ساعدة ، ولما نزلوا (بئر معونة ، وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، ثم بعثوا منها حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عدو الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، عامر بن الطفيل. فلما أتاه لم ينظر في كتابه، ثم عدا عليه فقتله، ثم استنهض إلى قتال الباقين بني عامر، فأبوا أن يجيبوه، لأن أبا براء أجارهم، فاستغاث عليهم بني سليم، فنهضت معه عصية ورعل وذكوان، وهم قبائل من بني سليم، فأحاطوا بهم، فقاتلوا فقتلوا كلهم رضوان الله عليهم، إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار، فإنه ترك في القتلى وفيه رمق، فارتث من القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق) ( ) . وقام حسان بن ثابت بتحريض بني أبي براء على عامر بن طفيل ومنه قوله: (بَنِي أُمّ الْبَنِينَ أَلَمْ يَرْعَكُمْ … وَأَنْتُمْ مِنْ ذَوَائِبِ أَهْلِ نَجِدْ تَهَكّمْ عَامِرٌ بِأَبِي بَرَاءٍ … لِيُخْفِرَهُ وَمَا خَطَأٌ كَعَمْدِ أَلَا أَبْلِغْ رَبِيعَةَ ذَا الْمَسَاعِي … فَمَا أَحْدَثْت فِي الْحَدَثَانِ بَعْدِي أَبُوك أَبُو الْحُرُوبِ أَبُو بَرَاءٍ … وَخَالُك مَاجِدٌ حَكَمُ بْنُ سَعْدِ) ( ). وقيل أن ربيعة وهو ابن ملاعب الأسنة جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فقال: يا رسول أيغسل عن أبي هذه الغدرة أن أضرب عامر بن الطفيل ضربة أو طعنة قال: ” نعم ” فرجع ربيعة فضرب عامراً ضربة أشواه منها فوثب عليه قومه فقالوا لعامر بن الطفيل: اقتص فقال: قد عفوت) ( ). ولم يثبت هذا القول . وتبين هذه الواقعة بلحاظ آية البحث مسائل : الأولى : شدة البلاء الذي لحق المسلمين إذ قتل أفراد سرية تبليغ وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، ولم يخرجوا لقتال . الثانية : شدة الغيظ التي يتصف بها المشركون بسبب البعثة النبوية ، وإحتمال قيامهم بغزو المدينة في أي يوم ، أو يباغتون أهلها ليلاً ، وهذا الإحتمال من الإبتلاء الذي تذكره آية البحث [َتُبْلَوُنَّ] فيشمل الإبتلاء مكر وكيد المشركين ، وبلوغ أخباره إلى المدينة ، خاصة وأن رؤساء قريش وغيرهم كانوا يبعثون الرسائل بالتهديد والوعيد إلى كل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار . وهل قتل شهداء بئر معونة من الإبتلاء في أنفسهم وحدهم أم أنه ابتلاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعامة المسلمين ، الجواب هو الثاني . الثالثة : من إعجاز القرآن أن معاني ودلالات الآية القرآنية لا تنحصر بمضامينها القدسية ، وإن كان فيها ما يكفي المسلمين والناس في أمور الدين والدنيا ، وأحكام الحلال والحرام ، ولكن للآية القرآنية دلالات كثيرة تنبسط من صلتها بآيات القرآن الأخرى . قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] وفي الوقت الذي أخبرت فيه آية البحث عن إبتلاء المسلمين في أموالهم وأنفسهم ، وسماعهم للأذى الكثير ، وأسباب الجدال والإستهزاء من غيرهم ، فان الله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين باللجوء إلى التسبيح لصرف الأذى النفسي الذي قد يترشح عنه ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ]( )، وقال تعالى [وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا]( )، لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا حزبه أمر وداهمته مصيبة دعا بلالاً للنداء للصلاة . و(عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ ، قَالَ : عُدْنَا رَجُلا مِنْ خُزَاعَةَ ، فَقَالَ : وَدِدْتُ أَنَّ الصَّلاةَ قَدْ أُقِيمَتْ وَصَلَّيْتُ فَاسْتَرَحْتُ ، فَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ : يَا بِلالُ ، أَقِمِ الصَّلاةَ ، وَأَرِحْنَا بِهَا)( ). ومن إعجاز القرآن مجئ البشارة مع الإنذار ، وأسباب الغبطة والسعادة مع الأذى فقال تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ]( )، وقال تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ). وورد اللفظ [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ثلاث مرات في القرآن ، كلها في سورة آل عمران : الأولى : [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] ( )( ). الثانية : [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ) ( ). الثالثة : آية البحث . وسورة آل عمران مدنية مما يدل على كثرة البلاء والأذى الذي لحق النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بعد الهجرة ، ولبيان استدامة البلاء بلحاظ تغشي آيات القرآن ودلالتها لأفراد الزمان الطولية إلى يوم القيامة . وهل قيام بعض الأفراد بالإرهاب ونعت المسلمين به من هذا الإبتلاء والأذى الكثير الذي تذكره آية البحث . الجواب نعم ، مما يملي به المسلمين الصبر عند الإبتلاء وسماع الأذى من أهل الكتاب أو من المشركين ، وهل فيه نهي عن الرد بالمثل وإسماع الغير ما فيه أذى كثير . الجواب نعم ، لبيان قانون وهو أن الله عز وجل أدّب المسلمين على الصبر وتحمل الأذى ، قال تعالى [وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ) . ومن مصاديق قوله تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( )، والعفو أسمى مرتبة وفيه دعوة للناس لنشر مفاهيم التسامح ، والخلق الكريم ، وكفى الأذى عن المسلمين ، وفيما بين الناس جميعاً . ومن معاني قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] وجوه : الأول : وإن تصبروا وتتقوا الله على ما معنى من البلاء والأذى ، وفيه نهي للمسلمين عن الثأر والإنتقام ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الذي قتل مسلماً أو عدداً من المسلمين ، إذا دخل الإسلام لا يؤاخذ بما فعل ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الإسلام يجّب ما قبله ( ). الثاني : وان تصبروا وتتقوا الله عما تقاسمون من البلاء والأذى . الثالث : وان تصبروا وتتقوا الله فيما يأتيكم في قادم الأيام فان ذلك من عزم الأمور . و(قال المفسرون جميع ما غزا رسول الله بنفسه ستة وعشرون غزاة وأول غزاة غزاها غزوة الأبواء ثم غزوة بواط ثم غزوة العشيرة ، ثم غزوة بدر الأولى ثم غزوة بدر الكبرى ثم غزوة بني سليم ، ثم غزوة السويق ، ثم غزوة ذي أمر ، ثم غزوة أحد ، ثم غزوة الأسد( )، ثم غزوة بني النضير ، ثم غزوة ذات الرقاع ، ثم غزوة بدر الأخيرة ، ثم غزوة دومة الجندل ، ثم غزوة بني قريظة ، ثم غزوة بني لحيان ، ثم غزوة بني قرد ، ثم غزوة بني المصطلق ، ثم غزوة الحديبية ، ثم غزوة خيبر ، ثم غزوة الفتح فتح مكة ، ثم غزوة حنين ، ثم غزوة الطائف ، ثم غزوة تبوك . قاتل منها في تسع غزوات غزوة بدر الكبرى و هو يوم الجمعة السابع عشر من رمضان سنة اثنتين من الهجرة وأحد و هو في شوال سنة ثلاث من الهجرة ، والخندق ، و بني قريظة في شوال سنة أربع ، وبني المصطلق ، وبني لحيان في شعبان سنة خمس ، وخيبر سنة ست ، والفتح في رمضان ثمان ، وحنين والطائف في شوال سنة ثمان فأول غزوة غزاها بنفسه فقاتل فيها بدر و آخرها تبوك ، وأما عدد سراياه فست وثلاثون سرية على ما عد في مواضعه)( ). بحث نحوي الواو في [وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا] من جهات : الأولى : عطف أذى المشركين على لاحقه فان أذى المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من بداية البعثة النبوية وهو سابق لأذى طائفة من أهل الكتاب . ومن الشواهد على عطف الشئ على لاحقه قوله تعالى [كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ]( )، وإن كان اسم الإشارة (ذلك) في قوله تعالى [ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( )، دليل على إفادة الحضور في التشبيه وليبقى هذا المعنى وكأن النبي محمداً حاضر بين ظهرانينا عند تلاوة الآية أعلاه في أي زمان ، ومنه [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ). قال سيبويه (ولم تُلْزِمِ الواوُ الشيئين أن يكون أحدهما بعد الآخر ، ألا ترى أنك إذا قلت : مررت بزيد عمرو ، لم يكن في هذا دليل أنك مررت بعمرو بعد زيد)( ). ومنه قول حسان بن ثابت : بهالِيلُ منهُمْ جَعْفَرٌ وَابْنُ أُمّهِ … عَلِيٌّ، ومِنهُمْ أحْمَدُ المُتَخَيَّرُ( ). ولو كانت الواو تفيد الترتيب لقدم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه سيد ولد آدم إنما قدُم علي ثم جعفر . وهذا البيت من قصيدة يرثي بها حسان بن ثابت جعفر الطيار ومن قتل معه في مؤتة وهي : تأوَّبني همٌّ بيثربَ أعسَرُ … وهمٌّ إذا ما نوَّمَ الناسُ مُسْهرُ لذكرى حبيب هيَّجت لك عبرةً … سفوحاً وأسبابُ البكاءِ التّذكُّرُ فلا يبعدنَّ الله قتلى تتابعوا … بمؤتةَ منهمْ ذو الجناحين جعفرُ غداة مضَى بالمؤمنينِ يقودهم … إلى الموت ميمون النَّقيبةِ أزهَرُ فطاعنَ حتَّى مالَ في غير مُوسِدٍ … لمعترك فيه القنا يتكسَّرُ وكنَّا نرَى في جعفر ومحمدٍ … وقاراً وأمراً حازماً حين يأمُرُ وما زالَ في الإسلامِ من آل هاشمٍ … دعائمُ عزٍّ لا يُرام ومفخرُ وهمْ جبل الإسلام والنَّاس حولهم … رُكامٌ إلى طودٍ يروقُ ويقهرُ بهاليلُ منهم جعفرٌ وابن أُمَّةٍ … عليّ ومنهم أحمدُ المتخيَّرُ وحمزةُ والعبَّاس منهمْ ومنهمُ … عقيلٌ وماءُ العود من حيث يعصرُ بهم تُقدحُ اللأواءُ في كلِّ معركٍ…عَماسٍ إذا ما ضاقَ بالنَّاس مصدرُ( ). ومنه مثلاً قوله تعالى [ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا]( )، فقدمت الآية الثبات ، والأبكار أولى ، لذا فان تقدير الأموال على الأنفس في آية البحث لا يعني الترتيب وأهمية المال على النفس ، إذ يدل النقل والعقل على أن التقوى هي الأهم، ولكن موضوع الخطاب يستلزم تقديم الأموال لأن النفوس تتلقى ذات الخطاب فهي موجودة وإن زال وتلف المال ، وحتى لو مات الإنسان فان المال ينتقل إلى الأحياء من الورثة مرتبة بعد مرتبة . الثانية : عطف المصاحب ، كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، إذ يأتي البلاء بالأموال والأنفس وسماع الأذى من أهل الكتاب ومن المشركين في آن وزمان واحد ، وهل هو أشده على المسلمين . الجواب لا ، فالمدار ليس على الكم إنما على الكيف ، فقد يأتي ابتلاء في جهة واحدة يكون أشد على المسلمين ، كما في يوم معركة أحد ، إذ ابتلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة بكثرة الجراحات التي أصابتهم مع سقوط سبعين شهيداً منهم . الثالثة : العطف على السابق ، وهو الأكثر في الإستعمال اللغوي ولغة التخاطب ، ومنه قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، فقد ورد أن الله خلق الجن قبل الناس ، وهل يمكن الإستدلال بوجود إبليس يوم خلق الله عز وجل آدم ، الجواب نعم ، ومنه [قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ]( )، وفي التنزيل [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ). فقد ذكر الآباء الأنبياء على نحو التوالي ، فابراهيم هو أبو إسماعيل وإسحاق ، وقد ولد إسماعيل قبل إسحاق ، ومع أن إسماعيل هو عم يعقوب النبي فقد ذكره أبناؤه بأنه أب ، وهو من إعجاز القرآن بأن يسمى العم أباً ، وإن كان من الطبقة الثالثة في الميراث . وهل كان يوسف عليه السلام موجوداً مع أخوته عند احتضار يعقوب ، ويكون ممن خاطب أباه بالخطاب أعلاه الذي يتضمن الوعد والعهد ، الجواب نعم . ورد حرف العطف الواو في آية البحث أربع مرات في كل من : الأولى : [وَأَنْفُسِكُمْ]. الثانية : [وَلَتَسْمَعُنَّ]. الثالثة : [وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا]. الرابعة : [وَتَتَّقُوا]. كما جاءت الواو في خاتمة الآية للإستئناف وكما في قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( ). وحتى هذا الإستئناف لا يمنع من إرادة العطف أيضاً ، بخصوص الحال ليكون عطف صبر وتقوى المسلمين على البلاء الذي نزل بهم . وفي الواو العاطفة قولان : القول الأول : إنها لمطلق الجمع ، وهو مشهور النحويين . القول الثاني : تفيد الواو الترتيب ، وبه قال الكسائي ، وقطرب ، وهشام ، ونسب إلى الشافعي والفراء وثُعلب ولم يثبت ويمكن أن يستدل على التريتيب بقوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ] ( )، وما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير الآية ، إذ ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري (لما دنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الصفا في حجته قال : إن الصفا والمروة من شعائر الله ، ابدأوا بما بدأ الله به فبدأ بالصفا فرقي عليه)( ). وبين حرف الواو وبين الفاء ، وبخصوص العطف عموم وخصوص مطلق ، إذ تفيد الواو الجمع والترتيب ، بينما تفيد الفاء الترتيب . وأستدل على إفادة الواو الجمع دون الترتيب بشواهد من السماع والقياس ، ومن الأدلة السمعية قوله تعالى [يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ]( )، إذ تقدم في الآية السجود ، ولو كانت الواو للترتيب لقدم الركوع على السجود ، لوحدة الموضوع في أداء المؤمنين الصلاة في شرائع الموحدين وعدم مجئ دليل يدل على أن صلاتهم آنذاك تختلف عن الصلاة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ومع أنه استدلال لطيف إلا أن الآية تحتمل تعدد الموضوع والأمر ، وبعض صلوات النصارى سجود وحده ، لإفادة الآية صلاة الفرد من لفظ (اسجدي) وصلاة الجماعة من [وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ]. والبشارة لمريم لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومما يدل على عدم الترتيب بقوله تعالى [سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا]( )، فلو كانت الواو للترتيب لقدمت الأيام لأنها أكثر وتقع الليالي السبع بينها . قانون الصبر لجوء إلى الله قال تعالى [فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ] ( ). لم يأت لفظ [فَفِرُّوا] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، ومن الفرار اللجوء إلى الله عز وجل , والتحلي بالصبر ، إذ تدل آية البحث على تقييد الصبر بالتقوى والخشية من الله عز وجل . وكما في قوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ) فلو توجه الأمر إلى النار بأن تكون برداً وحده يحمد إبراهيم عليه السلام وسط النار ، ولكن الله عز وجل قيد حال البرد بأنه سلام وأمن وغبطة وسعادة ، وكذا بالنسبة لآية البحث فانها قيدت الصبر بالتقوى ، لبيان أنه أمر وجودي، وسعي في سبيل الله ، وفيه صرف لضروب أخرى من البلاء ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( ) وأن تصبروا وتتقوا تصرف عنكم افراد كثيرة أخرى من الإبتلاء . فالصبر برداء التقوى والخشية من الله عزوجل على البلاء باب لدفع ضروب أخرى منه ، ويكون من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) ، والتقدير : يمحو الله ما يشاء من البلاء ويثبت لكم بتقواكم أسباب العز والظفر وعنده أم الكتاب . وجاءت الآية بصيغة الجملة الشرطية [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( ) وهل يمكن تقديرها بلغة الأمر ، واصبروا واتقوا) الجواب نعم وهو من إعجاز القرآن . ابتدأ هذا الشطر من الآية بواو العطف مع لام الإبتداء ، والتي يقال أنها لام القسم ، ترى لماذا لم تقل الآية (وتسمعن من الذين …. ) الجواب لإفادة الإمتحان والإختبار للمؤمنين بالإبتلاء بأمور : الأول : النقص في الأموال من سوء عمل ومقاصد الكفار ، فقد أكرهوا بعض الصحابة على ترك داره وسكنه وأمواله وتجارته واختار الهجرة بدينه من مكة وغيرها . كما في هجرة صهيب الرومي وحمل قريش له على ترك ماله في مكة للإستحواذ عليه . (قال عمار بن ياسر : لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم ورسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فيها فقلت له : ما تريد فقال لي : ما تريد أنت فقلت : أردت الدخول إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأسمع كلامه قال : فأنا أريد ذلك . قال : فدخلنا عليه فعرض علينا الإسلام فأسلمنا ثم مكثنا يومنا حتى أمسينا ثم خرجنا مستخفين فكان إسلام عمار وصهيب بعد بضعة وثلاثين رجلا وهو ابن عم حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان يلتقي حمران وصهيب عند خالد بن عبد عمرو وحمران أيضا ممن لحقه السباء من سبي عين التمر يكنى صهيب أبا يحيى) ( ). الثاني : قيام المشركين بتهديد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه باللسان والرسائل , والتخويف المستمر , قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ]( ). الثالث : الإبتلاء بالنفوس ،وتلقي الأذى والضرر الجسدي ، وهو على جهات : الأولى : تلقي العذاب من رؤساء قريش وأعوانهم . الثانية : تحمل أعباء ومخاطر الهجرة . الثالثة : التخويف والوعيد المتكرر والمتصل من كفار قريش . الرابعة : المكر والغدر بالمؤمنين ، وإتخاذ الحيلة والضرب والحبس وسيلة ومحاولة بقصد إرتدادهم ، فحتى في صلح الحديبية وأثناء كتابة شروط الصلح بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسهيل بن عمرو من طرف المشركين جاء أبو جندل ابن سهيل بن عمرو هذا يرسف في الحديد ، الذي كان أبوه قيده به لاسلامه وخشية لحوقه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة . لتكون معجزة حسية أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهداً على البلاء الخاص والعام للمسلمين من القوم المشركين . ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما رآى سهيل بن عمرو (سُهل أمركم ) قادما في الحديبية وجوهاً : الأول : التفاؤل بالأسماء ، ويدل اسم سهل على اليسر . الثاني : النطق عن وحي بقرب الفرج ، وإجراء مفاوضات الصلح . الثالث : كأن النبي ينتظر قدوم سهيل بن عمرو بما أوحاه الله عز وجل ، وكأنه من رشحات قوله تعالى [فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا] ( ). الرابع : إشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى صلة الرحم الخاصة بين سهيل بن عمرو وبين عدد من المسلمين من أبنائه وأخوته . الخامس : بيان مسألة وهي عدم التعارض بين استحباب التفاؤل وكراهية الطيرة للتباين الموضوعي . الخامسة : هجوم جيش المشركين على المدينة على نحو متعدد ومتكرر . (عن أسامة بن زيد قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله{ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً }( )) ( ). أقل عشر سور في القرآن حروفاً هي : ومع أن سورة الإخلاص من أعظم سور القرآن في موضوعها ودلالتها ونفعها فانها ثاني أقصر سورة في القرآن من بين (114) سورة لبيان قانون وهو إدراك التوحيد أمر سهل وقريب من الناس . ت اسم السورة عدد الآيات عدد الكلمات حروف الآيات 1 سورة الكوثر 3 10 42 2 سورة الأخلاص 4 15 47 3 سورة العصر 3 14 70 4 سورة العلق 19 72 281 5 سورة قريش 4 17 73 6 سورة النصر 3 19 79 7 سورة الناس 6 20 80 8 سورة المسد 5 29 81 9 سورة الكافرون 6 27 95 10 سورة الفيل 5 23 96 إحصائية في سور القرآن وعدد كلمات وحروف كل منها ( ). ت اسم السورة عدد الآيات عدد الكلمات عدد الحروف مكية أو مدنية 1 سورة الفاتحة 7 29 139 مكية 2 سورة البقرة 286 6144 25613 مدنية 3 سورة ال عمران 200 3503 14605 مدنية 4 سورة النساء 176 3712 15937 مدنية 5 سورة المائدة 120 2837 11892 مدنية 6 سورة الأنعام 165 3055 12418 مكية 7 سورة الأعراف 206 3344 14071 مكيّة 8 سورة الأنفال 75 1243 5299 مدنيّة 9 سورة التوبة 129 2506 10873 مدنيّة 10 سورة يونس 109 1841 7425 مكيّة 11 سورة هود 123 1947 7633 مكيّة 12 سورة يوسف 111 1795 7125 مكيّة 13 سورة الرعد 43 854 3450 مدنيّة 14 سورة إبراهيم 52 831 3461 مدنيّة 15 سورة الحجر 99 658 2797 مكيّة 16 سورة النحل 128 1845 7642 مكيّة 17 سورة الإسراء 111 1559 6480 مكيّة 18 سورة الكهف 110 1583 6425 مكيّة 19 سورة مريم 98 972 3835 مكيّة 20 سورة طه 135 1354 5288 مكيّة 21 سورة الأنبياء 112 1174 4925 مكيّة 22 سورة الحج 78 1279 5196 مكيّة 23 سورة المؤمنون 118 1051 4354 مكيّة 24 سورة النّور 64 1317 5596 مدنيّة 25 سورة الفرقان 77 896 3786 مكيّة 26 سورة الشعراء 227 1322 5517 مكيّة 27 سورة النّمل 93 1165 4679 مكيّة 28 سورة القصص 88 1441 5791 مكيّة 29 سورة العنكبوت 69 982 4200 مكيّة 30 سورة الرّوم 60 818 3388 مكيّة 31 سورة لقمان 34 550 2121 مكيّة 32 سورة السجدة 30 374 1523 مكيّة 33 سورة الأحزاب 73 1303 5618 مدنيّة 34 سورة سبأ 54 884 3510 مكيّة 35 سورة فاطر 45 780 3159 مكيّة 36 سورة يس 83 733 2988 مكيّة 37 سورة الصافات 182 865 3790 مكيّة 38 سورة ص 88 735 2991 مكيّة 39 سورة الزمر 75 1177 4741 مكيّة 40 سورة غافر 85 1228 4984 مكيّة 41 سورة فصّلت 54 796 3282 مكيّة 42 سورة الشورى 53 860 3431 مكيّة 43 سورة الزخرف 89 837 3508 مكيّة 44 سورة الدّخان 59 346 1439 مكيّة 45 سورة الجاثية 37 488 2014 مكيّة 46 سورة الأحقاف 35 646 2602 مكيّة 47 سورة محمد 38 542 2360 مدنيّة 48 سورة الفتح 29 560 2456 مدنيّة 49 سورة الحجرات 18 353 1493 مدنيّة 50 سورة ق 45 373 1473 مكيّة 51 سورة الذاريات 60 360 1510 مكيّة 52 سورة الطور 49 312 1293 مكيّة 53 سورة النجم 62 359 1405 مكيّة 54 سورة القمر 55 342 1438 مكيّة 55 سورة الرحمن 78 352 1585 مدنيّة 56 سورة الواقعة 96 379 1692 مكيّة 57 سورة الحديد 29 575 2475 مدنيّة 58 سورة المجادلة 22 475 1991 مدنيّة 59 سورة الحشر 24 447 1913 مدنيّة 60 سورة الممتحنة 13 352 1519 مدنيّة 61 سورة الصف 14 226 936 مدنيّة 62 سورة الجمعة 11 177 749 مدنيّة 63 سورة المنافقون 11 180 780 مدنيّة 64 سورة التغابن 18 242 1066 مدنيّة 65 سورة الطلاق 12 279 1170 مدنيّة 66 سورة التحريم 12 254 1067 مدنيّة 67 سورة الملك 30 337 1316 مكيّة 68 سورة القلم 52 301 1258 مكيّة 69 سورة الحاقة 52 261 1107 مكيّة 70 سورة المعارج 44 217 947 مكيّة 71 سورة نوح 28 227 947 مكيّة 72 سورة الجن 28 286 1089 مكيّة 73 سورة المزّمّل 20 200 840 مكيّة 74 سورة المدّثر 56 256 1015 مكيّة 75 سورة القيامة 40 164 664 مكيّة 76 سورة الإنسان 31 243 1065 مدنيّة 77 سورة المرسلات 50 181 815 مكيّة 78 سورة النبأ 40 174 766 مكيّة 79 سورة النازعات 46 179 762 مكيّة 80 سورة عبس 42 133 538 مكيّة 81 سورة التكوير 29 104 425 مكيّة 82 سورة الإنفطار 19 81 326 مكيّة 83 سورة المطفّفين 36 169 740 مكيّة 84 سورة الإنشقاق 25 108 436 مكيّة 85 سورة البروج 22 109 459 مكيّة 86 سورة الطارق 17 61 249 مكيّة 87 سورة الأعلى 19 72 293 مكيّة 88 سورة الغاشية 26 92 378 مكيّة 89 سورة الفجر 30 139 573 مكيّة 90 سورة البلد 20 82 335 مكيّة 91 سورة الشمس 15 54 249 مكيّة 92 سورة الليل 21 71 312 مكيّة 93 سورة الضحى 11 40 164 مكيّة 94 سورة الشرح 8 27 102 مكيّة 95 سورة التين 8 34 156 مكيّة 96 سورة العلق 19 72 281 مكيّة 97 سورة القدر 5 30 112 مكيّة 98 سورة البينة 8 94 394 مدنيّة 99 سورة الزلزلة 8 36 156 مدنيّة 100 سورة العاديات 11 40 164 مكيّة 101 سورة القارعة 11 36 158 مكيّة 102 سورة التكاثر 8 28 122 مكيّة 103 سورة العصر 3 14 70 مكيّة 104 سورة الهمزة 9 33 133 مكيّة 105 سورة الفيل 5 23 96 مكيّة 106 سورة قريش 4 17 73 مكيّة 107 سورة الماعون 7 25 112 مكيّة 108 سورة الكوثر 3 10 42 مكيّة 109 سورة الكافرون 6 27 95 مكيّة 110 سورة النصر 3 19 79 مكيّة 111 سورة المسد 5 29 81 مكيّة 112 سورة الإخلاص 4 15 47 مكيّة 113 سورة الفلق 5 23 71 مكيّة 114 سورة النّاس 6 20 80 مكيّة ومن الصبر والتقوى التقيد بأداء الفرائض العبادية والسعي في مسالك الإصلاح ، والتنزه عن الإرهاب والتطرف والعنف ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ] ( ). قانون الإعجاز الموضوعي للقرآن من العلوم المتوارثة أن الإعجاز البلاغي والبيان للقرآن سبب تسليم أساطين العرب أنه نازل من عند الله ، وهو علة دخول كثير من الصحابة الإسلام . والمختار أن السبب أعم من البلاغة ، إذ إندهش العرب من القرآن من وجوه : الأول : قانون شمول القرآن لعلوم الغيب القريبة والبعيدة . الثاني : قانون بيان القرآن لقصص الماضين بما لم يعلمه إلا الله ، ومن الإعجاز أنه تضمن قصص الأنبياء وحسن عاقبتهم ونصر القرآن لهم ، وأخبار الطواغيت ، وخزيهم وهلاكهم لتكون إنذاراً للمشركين ، وإخباراً غيبياً عن هزيمتهم عند غزوهم المدينة المنورة ، وهو الذي تجلى في قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )( ). الثالث : قانون الإعجاز في ترتيب حروف القرآن ، وترتيب جمله . الرابع : قانون الصلة بين آيات القرآن من جهات : الأولى : النسق . الثانية : التداخل الموضوعي . الثالثة : قانون استنباط الأحكام من آيات القرآن . الرابعة : قانون سلامة آيات القرآن من التعارض. الخامسة : قانون تعدد الكنوز العلمية والذخائر في الآية القرآنية . السادسة : قانون إجتماع البشارة والإنذار في الآية القرآنية أو استقلال بعض الآيات بفرد واحد منهما . السابعة : أحكام التشريع وبيان مصاديق الحلال والحرام في القرآن . الثامنة : وجوه الشبه والإلتقاء بين القرآن والكتب السماوية السابقة . التاسعة : تأكيد القرآن على التوحيد وملكية الله عز وجل للسموات والأرض ووجوب عبادة الله ، ونبذ الأوثان فلم يكن القرآن يهادن رؤساء الكفر ، إنما أخبر عن ضلالتهم وآبائهم ، لبيان إعلان القرآن الحرب على الكفر إلى يوم القيامة . العاشرة : ثناء الله عز وجل على القرآن ، بما يتضمن التحدي بالإخبار عن إرتقائه على الكتب والأشعار والقصص ، قال تعالى [قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ]( ). الحادية عشرة : بيان القرآن للظواهر الكونية باسلوب إعجازي يبين عظيم قدرة الله في تلك الآيات وفي صياغة لغة القرآن ، كما في ذكره للمطر ونزوله ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ]( ). الثالثة عشرة : الإعجاز العلمي للقرآن ، وتجليات حقائق التنزيل بالعلم التجريبي ، والإكتشافات الحديثة . ومن إعجاز القرآن ورود ست سور بأسماء الأنبياء وهي : السورة ترتيب السورة عدد الآيات عدد الكلمات تكرار اسم اللَّه يُونُس 10 109 1839 62 هود 11 123 1947 38 يُوسُف 12 111 1795 44 إبراهيم 14 52 830 37 مُحَمَّد 47 38 541 27 نوح 71 28 227 7 المجموع 165 461 7179 215 ومنها ثلاث سور متتالية وهي سورة يونس ، سورة هود ، سورة يوسف، ومع أن يونس عليه السلام لم يرد اسمه في القرآن إلا أربع مرات فقد وردت سورة باسمه ، وجاءت سورة يوسف خاصة بقصته . وقد جاءت سور قرآنية باسم صفات مثل سورة المزمل وسورة المدثر والمراد صفات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولبيان المائز والإكرام الخاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى في تسمية سور القرآن ، ودلالتها . قانون آيات القرآن تذكير بالموت يمكن إجراء إحصاء وتحقيق في آيات القرآن وذكر الآيات التي تذكر بالموت ، وتؤخذ كل آية على نحو مستقل من جهات : الأولى : موضوع الآية وصلته بالتذكير بالموت . الثانية : كيفية وطريق تذكير الآية بالموت . الثالثة : دلالة ومنطوق الآية أو مفهومها على التذكير بالموت . الرابعة : ذكر الآية القرآنية الحياة ما بعد الموت وجحود الكفار به ، قال تعالى [وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ). الخامسة : دراسة مقارنة بين الآيات المكية والآيات المدنية بخصوص ذكر الموت . السادسة : التباين بين الناس في العاقبة بعد الموت . السابعة : كيفية قبض الروح . الثامنة : هل يكرم الموت المؤمن عند زيارته له ، أم أنه لا يفرق بين الناس ، وهل يحضر قوله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ) ساعة الموت، المختار نعم للإطلاق الوارد في الآية أعلاه . التاسعة : الوصية عند الموت ، حكمها الشرعي والأصل فيها الندب ، وقد تكون واجبة عند تعلق حقوق الله عز وجل والعباد ، ولا تقع إلا في المشروع ، وتجوز في الثلث من التركة . ( عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: مَنْ مَاتَ عَلَى وَصِيَّةٍ مَاتَ عَلَى سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ وَمَاتَ عَلَى تُقًى وَشَهَادَةٍ وَمَاتَ مَغْفُورًا لَهُ) ( ). ومن خصائص الوصية ابتداؤها بالتعريف بصاحبها والإستفتاح بحمد الله عز وجل والثناء عليه ، والتسليم بالنبوة والتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وهل تنحصر الوصية بحال الحضور وعلامات الموت ، أو في يوم من أيام حياة الإنسان ، الجواب هو الثاني ، فلا يعلم الإنسان أجله خاصة مع الأحداث والوقائع وموت الفجأة في هذا الزمان. (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنه استعاذ من سبع موتات . موت الفجأة ، ومن لدغ الحية ، ومن السبع ، ومن الغرق ، ومن الحرق ، ومن أن يخر عليه شيء ، ومن القتل عند فرار الزحف) ( ). عن أبي بن كعب (قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة) ( ) . (عن أنس بن مالك رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قبلا فيقال لليلتين وأن تتخذ المساجد طرقا وأن يظهر الموت الفجاء) ( )أي يكثر موت الفجأة بالحوادث، كحوادث الطرق والطائرات وبالخصومات الشخصية الطارئة ، كما في هذا الزمان ، وكان موت الفجأ قليلاً ونادراً (عن ابن عباس قال : مات داود عليه السلام يوم السبت فجأة ، فعكفت الطير عليه تظله) ( ). والمراد من إتخاذ المساجد طرقاً أن يمر بها الإنسان إلى الجهة والشارع المقابل إنما خصصت المساجد للعبادة والصلاة ، ولذا تستحب صلاة تحية المسجد ، والمختار أن الحديث لا يشمل توسعة الطرق وشق الشوارع والبناء ذا المصلحة العامة في أرض يقع المسجد من ضمنها . ترى ما هي منافع ذكر آيات القرآن للموت ، وقيامنا باحصاء الآيات التي تذّكر الناس بالموت ، الجواب ليس من حصر لهذه المنافع منها : الأول : بيان إعجاز القرآن ، وإحاطته باللامتناهي من الأحداث والوقائع . الثاني : إستحضار الموت ، وعن ابن عباس قال (عن أنس بن مالك قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوم من الأنصار يضحكون ، فقال: أكثروا ذكر هادم اللذات) ( ). الثالث : بعث المسلم للإستعداد للموت ، وليس من نبي إلا وجاء بهذا البعث ، وهو من مصاديق إجتماع واستقلال البشارة والإنذار في قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ). ومن مصاديق القانون محل البحث وهو تذكير آيات القرآن بالموت بلحاظ الآية أعلاه وجوه : الأول : تفضل الله عز وجل ببعث الأنبياء والرسل إلى الناس . الثاني : بعثة الأنبياء دعوة للإيمان بالغيب ، قال تعالى * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] ( ). الثالث : مجئ الأنبياء والرسل بالبشارة بحسن الثواب للمؤمنين . الرابع : قانون كل نبي جاء بالحضّ على الصبر ، وإتخاذه جلباباً في الحياة الدنيا ، وواقية من الإفتتان بزينتها . الخامس : قيام الرسل باصلاح الناس للإستعداد للموت وما بعده . السادس : إخبار كل نبي عن المعاد ، ووقوف الناس بين يدي الله للحساب . السابع : قانون ما من نبي إلا وأظهر استعداده للموت في قوله وفعله اليومي ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من ذكر الموت ويحث على الأكثار في ذكره ، ويقوم بذكر علامات الساعة . قوله تعالى [فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] أختتمت آية البحث بقانون من الإرادة التكوينية و[ذَلِكَ] اسم اشارة للبعيد ، ويمكن القول أنه من الأضداد ، فقد يراد منه التفخيم والإكرام ، كما في قوله تعالى [فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ] ( )وقوله تعالى [وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ]( ). وتبين الآية حاجة المؤمنين إلى التحلي بملكة الصبر في ذات الله عز وجل، وتبين الآية أن هذا الصبر ليس ضعفاً أو جبناً إنما هو عزيمة وواجب ، وضابطة كلية مصاحبة للإيمان ، وجاء قوله تعالى [فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( )، جواباً للشرط بصيغة الجملة الشرطية ، ولبيان تعدد الوظائف العبادية التي يجب أن يقوم بها المسلمون بتنجز وعلى الوجه الأتم ، فيجب أن يكون الصبر على كل ضرب من ضروب الإبتلاء بالمال ، والإبتلاء بالنفوس . وتقدير الآية بلحاظ خاتمتها على وجوه : الأول : يا أيها الذين آمنوا لابد أن تصبروا على الإبتلاء في الأموال ، والخسارة فيها . الثاني : يا أيها الذين آمنوا لابد أن تصبروا في الإنفاق في سبيل الله ، لبيان مسألة وهي أن هذا الإنفاق واخراج الزكاة والحقوق الشرعية يستلزم الصبر ، والمبادرة إلى الإعطاء . الثالث : يلزم المسلمين الصبر عند سقوط الشهداء في الدفاع إلى النبوة والتنزيل ، خاصة وأن غزو المشركين للمدينة تكرر في بدر وأحد والخندق ، وفي كل مرة كانوا يعلنون القصد من غزوهم هو : الأول : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وايقاف نزول آيات القرآن . الثاني : قتل عدد من المهاجرين ، واخذ الباقين أسرى مقيدين بالسلاسل إلى مكة . الثالث : قتل الأنصار الذين حاربوا ويحاربون المشركين في معارك الإسلام . الرابع : استباحة المدينة ، ونهب أموال أهلها من المسلمين واليهود وغيرهم ، وقد حال الله عز وجل دون ذلك مما يدل على أن الذي محاه الله عز وجل عن المسلمين في باب الإبتلاء بالأموال كثير ليكون تقدير أول آية البحث لتبلون في أموالكم وما محاه الله من البلاء أكثر وأعظم مما تبتلون به . وتجلى كل من قصد كفار قريش استباحة المدينة ، وصرف الله عز وجل الإبتلاء والإستباحة في قدوم عشرة الآف رجل من المشركين مدججين بالسلاح في معركة الأحزاب في السنة الخامسة للهجرة وإحاطتهم بالمدينة وهم يرومون دخولها ، قال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا]( ). وذكرت الآية أعلاه إبتلاء المؤمنين ، وهوشامل للأموال والأنفس ، فاذا اقتحم المشركون المدينة فانهم يقتلون أهلها ، وينهبون أموالهم ، وكان ليهود بني قينقاع سوق في المدينة فلا يتركه المشركون وصرف الله عز وجل شرور المشركين ، ومنع من الإبتلاء الشديد ، فقال سبحانه [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( )، لبيان عظيم فضل الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وعموم أهل المدينة ، فلم يقع قتال ولقاء بين الفريقين كما حدث في معركة أحد ، مع أن عدد المشركين في معركة الأحزاب (الخندق) عشرة آلاف رجل ، بينما كان عددهم في معركة أحد ثلاثة آلاف ، ويبعد موضع معركة أحد عن المسجد النبوي خمسة كيلو متر . بينما أحاط جيش المشركين بالمدينة في معركة أحد ، نعم وقعت مبارزة شخصية قتل فيها الإمام علي عليه السلام فارس قريش عمرو بن ود العامري الذي اجتاز الخندق وألح على المبارزة وتحدى المسلمين . ولا يعلم مقدار الأموال والجهود التي بذلها رؤساء قريش في تهيئة مقدمات معركة الأحزاب وما بذلوه في الإنفاق على الجيوش وفي العدة والأسلحة والخيل والرواحل إلا الله عز وجل ، مما يدل على عزمهم وحزنهم في السعي لمحاربة مبادئ التوحيد مما يعني لزوم إتصاف المؤمنين بالعزم والحزم ، فاذا كان أهل الباطل يعملون بعزم وحزم فلابد من مقابلتهم بالمثل ، وهو من عمومات قوله تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( )، مع المائز ففي تحلي المؤمنين بالعزم الأجر والثواب لسنخيته ولأنه طاعة لله عز وجل بينما لا يجلب عزم المشركين لهم إلا الخسارة والخيبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ). وتبين الآية أن حصاراً اقتصادياً خاصاً يقع على أموال المسلمين من قبل مشركي قريش ، مع سعيهم لعزلة اجتماعية للمسلمين وتضمنت الآية هداية المسلمين إلى الصبر والتقوى والخشية من الله ، ومن مصاديق التقوى في المقام الثبات على الإيمان ، وتعاهد الفرائض العبادية . ومن معاني [مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] أي الأمور التي يجب العزم عليها ، والثبات في مقامات الصبر والتقوى ، وأن لا يكون هذا الصبر في حال من الإبتلاء أو الأذى دون غيره ، إنما يجب أن يكون كلاً من الصبر والتقوى لازمين على كل حال . ويكون التحلي بهما بقصد القربة وعن إيمان وصدق . وقيل (العزم والحزم بمعنى واحد) ( )، ولكن النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه ، ومنه المثل القائل : لا خير في عزم بغير حزم ، ليكون من مصاديق آية البحث بلحاظ قوله تعالى [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ]( )، قانون وهو أن الإبتلاء والإمتحان بالأموال والنفوس ليس عائقاً دون السعي في مرضاة الله ، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو من أسرار سيادة الإسلام في الجزيرة ، فمع الأذى الشديد الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فانهم كانوا يسارعون في الخيرات ، ويسعون في إصلاح المجتمعات ، وإظهار قبح عبادة الأصنام ، وكانوا يلاقون المشركين في ميدان القتال بالبسالة والتفاني في الدفاع عن النبوة والتنزيل . وتبين الآية طلب عزائم الأمور بذاتها ، وجعلها وسيلة وبلغة لتحقيق غايات حميدة ، منها : الأولى : دفع شرور المشركين . الثانية : تحمل الإبتلاء والخسارة بصبر ورضا . الثالثة : إدراك قانون وهو أن عزائم الأمور في مرضاة الله تدفع البلاء الأشد . وهل يمكن تقدير قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، بلحاظ خاتمة آية البحث ، وان تصبروا وتتقوا لن يضروكم إلا أذى ، الجواب نعم ، وقد صرف الضرر عن المسلمين بفضل من الله عز وجل إنما ينقص الصبر والتقوى من الأذى والإبتلاء الذي يأتي للمسلمين وتدل عليه الشواهد المتعددة ، فحينما أظهر الصحابة الصبر والتقوى في معركة بدر وأحد والخندق ، توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأداء العمرة في شهر ذي القعدة من السنة السادسة فكان صلح الحديبية الذي جعله الله عز وجل فتحاً بقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ) . فلم يذكر القرآن النصر في معركة بدر بأنه فتح مع أنه نصر مبين في أول معركة للمسلمين ، ولكن الله نعت صلح الحديبية بأنه فتح مبين ، لبيان أن الإسلام لم ينتشر بالسيف . ومن خصائص تحلي المؤمنين بالصبر والزهد والرضا بقضاء الله إستقامة أمورهم في الدنيا ، وإنتفاع الناس من حسن سمتهم ، ليكون من معاني عزم الأمور في الآية تثبيت مكارم الأخلاق في الأرض ، وصيرورة سيرة المؤمن سبباً لهداية الناس ، وتنزيه الأرض من الشرور . ترى ما هي النسبة بين [وَتَتَّقُوا] وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يحتمل الجواب وجوهاً : الأول : نسبة التساوي وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو التقوى. الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين : الأولى : التقوى أعم من الأمر والنهي . الثانية : الأمر والنهي أعم من التقوى . الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما . الرابع : نسبة التباين وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير التقوى . وهل التقوى كيفية نفسانية ، الجواب أعم ، إنما هي ملكة وقول وفعل . لذا فالمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ، لذا تضمنت الآية الحضّ على الصبر والتقوى ، لإتخاذهما مجتمعين ومتفرقين سلاحاً لهداية الناس . أي من خير وأحسن الأمور ، وأفضل الأعمال وأكثر نفعاً في الآخرة ، ومن معاني عزم الأمور : الصبر والتقوى والسعي بجد في مقدماتهما ، ولزوم تعاهدهما مجتمعين ومتفرقين ، وعدم الملل أو الضجر أو اليأس أو الحزن عند الإقامة عليهما ، ففيهما الفلاح والظفر. (عن عروة أن أسامة أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركب على حمارٍ عليه إكاف( ) تحته قطيفة ٌ فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدرٍ. قال فسارا حتى مرا بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي وإذا في المجلس أخلاطٌ من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود وفي المسلمين عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال لا تغبروا علينا فسلم رسول الله عليهم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فقال له عبد الله بن أبي بن سلول أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا وارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبد الله بن رواحة بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخفضهم حتى سكنوا ثم ركب النبي صلى الله عليه وآله وسلم دابته فسار حتى دخل إلى سعد بن عبادة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب – يريد عبد الله بن أبي – قال كذا وكذا فقال سعد بن عبادة يا رسول الله اعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اجتمع أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك فذلك الذي فعل به ما رأيت فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم). وكان الصبر والتقوى من خصال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال السراء والضراء ، عن جرير قال ( أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل ترعد فرائصه ، فقال : هوّن عليك فإنما أنا ابن إمرأة من قريش كانت تأكل القديد في هذه البطحاء ثم تلا جرير { وما أنت عليهم بجبار}( ). وأخرج الحاكم وصححه عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض ، ويتبع الجنائز ، ويجيب دعوة المملوك ، ويركب الحمار، ولقد كان يوم خيبر ويوم قريظة على حمار خطامه حبل من ليف وتحته اكاف من ليف) ( ). و(ذلك) اسم إشارة للبعيد ، لبيان أن كلاً من الصبر والتقوى وكذا اجتماعهما واستحضارهما والتقيد بسننهما عند الإبتلاء إنما هي أمور مباركة , ومن تجليات الكتاب والتنزيل , وهي فرع اسم الإشارة في قوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ). وورد في خاتمة الآية الإشارة للبعيد [ذَلِكَ] ويحتمل المراد منه وجوهاً : الأول : الإبتلاء بالأموال في سبيل الله . الثاني : الإبتلاء بالنفوس في سبيل الله . الثالث : الصبر . الرابع : التقوى . الخامس : الصبر عند نزول البلاء . السادس : التقوى والخشية من الله عند البلاء في الأموال والنفوس . ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وهو من مصاديق قاعدة إرادة المتعدد السابق من اسم الإشارة للبعيد ، فيمكن أن يقال أن [ذَلِكَ] يفيد الإشارة للمتعدد المتشابه ، وليس للبعيد وحده . وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين، ولك بمثله”. والأحاديث في هذا كثيرة، وفي الصحيح: “مثل المؤمنين في تَوادِّهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهَر) ( ). فمن أسرار اسم الإشارة[ذَلِكَ] تعدد ضروب الإبتلاء مع فضل الله عز وجل بمحو الكثير منها . ومن معاني اسم الإشارة وإرادة البعد والتعدد الأذى الذي يلحق المؤمنين عند نزول البلاء بأحدهم . وقد تضمنت آيات القرآن مواساة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر بالصبر ، وعدم الحزن على إصرار الذين كفروا على الإقامة على الجحود ، مع تجلي المعجزات الحسية والعقلية . وعن الصحاني (سهل بن سعد الساعدي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان، كما يألم الجسد لما في الرأس) ( ). قانون هجرة الأنبياء لقد أبى الله عز وجل إلا أن يكون ملك السموات والأرض له وحده لا يشاطره فيه أحد ، وتتجلى سعة السموات والأرض في هذا الزمان باثبات العلم والتقنية الحديثة العجز عن إدراك سعة السموات وأسرار عالم الأفلاك ، وسرعة حركة الكواكب ، والمسافة بين الكواكب . فمثلاً ذكر أن المسافة بين الشمس والأرض نحو (150) مليون كيلو متر ، وهو أمر يفوق التصور الذهني ، ويستغرق وصول ضوء الشمس إلى الأرض ثماني دقائق كي يصل إلى الأرض مع أنه يسير بسرعة (300,000 ) وهناك أفلاك تبعد عن الأرض مسافات أكثر من بعد الشمس . ومع هذه السعة التي تفوق التصور الذهني فان الله عز وجل يخلق الكواكب جديدة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ). وقد هاجر عدد من الأنبياء بدينهم منهم : الأول : نبي الله إبراهيم عليه السلام ، وقد تنقل في الأمصار ، إذ هاجر من أور في جنوب العراق إلى بلاد الشام وهاجر إلى مصر ،وهو يدعو الطواغيت وعامة الناس إلى الإسلام وهاجر إلى مكة فرزقه الله عز وجل بناء البيت الحرام ، ودعوة الناس لحجه . الثاني : هجرة لوط عليه السلام ، إذ هاجر إلى فلسطين وإلى سدوم وعمورة في الأردن حالياً ، وهو يدعو الناس إلى عبادة الله ، وينذرهم من الكفر ، وإرتكاب المعاصي والفواحش ، فتوعدوه بالطرد فنزل قوله تعالى [فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ] ( ) وأخبره عن نزول عذابه بالقوم الذين يجمعون بين الكفر وإرتكاب المعصية . الثالث : هجرة يعقوب النبي وأهله ، ومن عجائب الزمان أن تتداخل المعجوة النبوية مع الأحداث العامة ، والوقائع التي تغير مجرى التأريخ فتأتي المعجزة لتثبيت هذا التغيير إن كان نحو الأحسن ، ويهدي إلى سبل الصلاح، والحيلولة دونه إن كان ضاراً بالناس ضرراً عاماً . ومنه معجزة تولي النبي يوسف عليه السلام الوزارة في مصر بعد القاء إخوته له في البئر ، وبعد مراودة امرأة العزيز له ، والحضَ على سجنه ، وقيامهم بايداعه السجن ، ليخرج منه إلى الوزارة مباشرة وهو الغريب عن البلد . وهل منه في هذا الزمان نيل المهاجر جنسبة البلد وإرتقائه في المناصب الوزارية على فرض حدوثه ، الجواب لا يصل هذا الأمر إلى معشار معجزة تولي يوسف مرتبة الصدر الأعظم ، والوزير المفوض بشؤون البلاد والعباد مع جهل حاله . وتوليه الوزارة حال خروجه من السجن ،والوزراء وحاشية السلطان يرجون نواله بصاع من الحنطة أو الشعير . ولما جاء أخوة يوسف للميرة وطلب الطعام عرفهم يوسف عليه السلام فأرسل في طلب أبيه النبي يعقوب وهو نفسه إسرائيل ، فجاء يعقوب وأهله من بلاد كنعان بناء على طلب من يوسف [وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ]( )، ليكونوا نواة وجود بني إسرائيل في مصر ، وتكاثرهم بسرعة مع تسخير آل فرعون لهم للأعمال البدنية والخدمة الخاصة والعامة . لقد قدموا نحو سبعين فرداً إلى مصر وأعطاهم فرعون زمانه أرضاً في ناحية من نواحي مصر ، و(عن ابن مسعود قال : كان أهله حين أرسل إليهم، فأتوا مصر ثلاثة وتسعين إنساناً ، رجالهم أنبياء ، ونساؤهم صِدِّيقات، والله ما خرجوا مع موسى عليه السلام ، حتى بلغوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً)( ). ولم يثبت كون رجالهم أنبياء . وكانوا في حال طيبة مع وجود يوسف في الوزارة ، وبعد وفاة يوسف عليه السلام بزمان وكثرة بني اسرائيل صار آل فرعون يستضعفونهم ، ويذلونهم ، مما يؤكد معجزة يوسف عليه السلام بتوليه الوزارة مع شدة تمسك أهل مصر بالبلدية والإنتساب لمصر ، فلم يجعلهم فرعون وقومه يعيشون بسلام فكيف بالشخص الواحد الغريب الذي كان في السجن ، ومع هذا تولى الوزارة بمعجزة . وهل لإدعاء فرعون الربوبية موضوعية وأثر في استضعاف بني إسرائيل، الجواب نعم ، خاصة وأنهم قوم موحدون ، ويدل على تعاهدهم التوحيد قوله تعالى [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( )، إذ أعطاه أولاده وأحفاده العهد والميثاق بالبقاء على التوحيد، وتوارث ملة الإيمان بالله ورسله وملائكته واليوم الآخر . لقد كانت هجرة آل يعقوب أيام يوسف عليه السلام ، وقبل هجرة وخروج موسى عليه السلام منها إذ أن نسب موسى هو (موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب)( ). ولاوي هو أخو يوسف لأبيه . والمختار أن نسب موسى إلى لاوي أبعد إذا قلنا بأن عدد بني اسرائيل الذين خرجوا معه من مصر هو ستمائة ألف ، إذ ورد عن ابن عباس قال : لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل( ). وتتحدث كتب المسيح عن هجرة مريم ويوسف النجار بالسيد المسيح وهو صغير الى بلاد مصر مع بيان ورسم خارطة طريق الهجرة . لقد طلب الملك الطاغية هيرودس عيسى خشية على ملكه وأمر بذبح من وُلد فظهر الملاك ليوسف النجار ، وأمره أن يهرب بمريم وولدها عيسى إلى مصر . وفي إنجيل متى (2: 13 و بعدما انصرفوا اذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا قم و خذ الصبي و امه و اهرب الى مصر و كن هناك حتى اقول لك لان هيرودس مزمع ان يطلب الصبي ليهلكه . 2: 14 فقام و اخذ الصبي و امه ليلا و انصرف الى مصر . 2: 15 و كان هناك الى وفاة هيرودس لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل من مصر دعوت ابني)( ). الرابع : هجرة موسى عليه السلام ، وفي التنزيل [فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] ( ). لقد أتصف جهاد موسى عليه السلام أنه كان متعدداً ومركباً إذ يدعو قومه بني إسرائيل إلى عبادة الله ، وكانوا قوماً مستضعفين ، وصار موسى عليه السلام يدعو فرعون وملئه إلى التوحيد ونبذ الشرك ، وكان فرعون عقبة في هذا الطريق ، إذ أنه يدعي الربوبية ، وهذا الإدعاء مع السلطنة والحكم المطلق أكثر تأثيراً في الناس من عبادة الأوثان . وتبين حال المسلمين الأوائل الذي صدّقوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كيف انتقم الكفار من العبيد والمستضعفين منهم في بداية الأمر . وكذا بالنسبة لآل فرعون وإنتقامهم من بني إسرائيل الذين كانوا أمة وعددهم بعشرات الآلاف إذ أنهم بقية من آل يعقوب بعد تولي يوسف عليه السلام الوزارة في مصر ومجئ أبيه وأخوته ، قال تعالى [اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ] ( ). وقد تلقت طائفة من بني إسرائيل رسالة موسى بالتصديق مما سبب سخط آل فرعون وتوعدهم ، قال تعالى [فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ). ومن معجزات موسى عليه السلام أن الله جعل هارون أخاه وزيراً له ثم أمرهما بالتوجه إلى فرعون . فان قلت هل يصدق على هذا التوجه معجزة ، الجواب نعم خصوصاً وأنها بأمر من عند الله ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ). ومن خصائص الأنبياء طاعة الله عز وجل ، وهو من أسرار فضل الله عز وجل في إرتقاء هارون إلى مرتبة النبوة ، فلم يتردد بالإستجابة لأمر الله بالذهاب إلى فرعون ودعوته إلى الإسلام مع ما بينهما من التضاد ، ومع إدعائه الربوبية ، فان الله عز وجل أمرهما بالرفق به ، قال تعالى [اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] ( ) لبيان أن منزلة النبي أكبر من منزلة الملك ذي السلطان المطلق في زمانه . ومن هذا اللين مناداته بالكنية ، يا أبا الوليد ومنه أن فرعون قد ربّى موسى عليه السلام وأحسن مداراته في صغره ، فله حق الأبوة والحضانة . وقد وعده موسى عليه السلام بلذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته( ) . فهاجر موسى عليه السلام بقومه بني إسرائيل من مصر بأمر من عند الله عز وجل لقوله تعالى [فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ] ( ) وكانت مناسبة أن يكف عنهم فرعون خاصة بعد أن رآى آية العصا ، وكيف أنها تحولت إلى ثعبان أراد أن يلتهمه . وتفضل الله عز وجل وجعل الأنبياء يهاجرون في أرضه ، ولو شاء لبقوا في بلدانهم وأمصارهم ، وأهلك الظالمين الطغاة ، الذين يصدون عن دعوتهم ، ويسعون في قتلهم ، كما في قيام نمروذ والملأ من قومه حرق إبراهيم في النار ، لولا أن أنجاه الله عز وجل بفضله ورحمته ، وكما في إرادة فرعون قتل موسى عليه السلام ، فجعل الله عز وجل الهجرة سبيل نجاة، وطريق هداية للناس ، لتكون من معجزات الأنبياء الهجرة من جهات: الأولى : قانون هجرة الأنبياء . الثانية : قانون أسباب هجرة الأنبياء . الثالثة : آيات القرآن الخاصة بهجرة الأنبياء . الرابعة : قانون دفع الأضرار بواسطة هجرة الأنبياء . الخامسة : قانون منافع هجرة الأنبياء . السادسة : قانون عدم شمول الهجرة لكل الأنبياء ، لبيان لطف الله بالأنبياء والناس . السابعة: قانون هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي معجزة له . وكانت المعجزة مصاحبة لموسى عليه السلام في حله وترحاله ، وسواء كان مع قومه أو بحضرة فرعون ، أو بمفرده كما يدل عليه ما ورد في التنزيل [قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى]( )، ومنه أنه كان يطرد بها الذئاب والسباع عن غنمه ، وإذا أراد غصناً عالياً حناه برأسه العصا ، وقربه إليه فيأكل من الثمر ما لا يطاله الناس. وهل يكون النبي هارون مهاجراً أيضاً ، الجواب نعم ، لقد سارا ببني إسرائيل نحو أرض فلسطين عبر جزيرة سيناء لينزل عليهم في البرية المن والسلوى ، مع ظلال من الغيوم . فكان المنّ ينزل عليهم مثل سقوط حبات الثلج ، وهو أشد بياضاً من الثلج ، ووقت سقوطه بين الطلوعين ، من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومه ، وإذا أخذ أكثر فسد عليه ، أما في يوم الجمعة فيأخذ له وليوم السبت لأنه يوم عيد لا عمل فيه ، ولا يطلب فيه معاش ليستنبط منه قانون وهو أن الله عز وجل ينجي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه وأصحابه في طريق الهجرة ، لذا ورد قوله تعالى بخصوص هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم [إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ). وهل تدل الآية أعلاه وشواهد نجاة موسى عليه السلام وبني اسرائيل في هجرتهم وهم في التيه والصحراء على نجاة الذين هاجروا أيضاً من الصحابة من مكة إلى المدينة ، الجواب نعم ، وهو الذي حصل ، ولا عبرة بالقليل النادر ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نجاة المهاجرين إلى الحبشة ، مع الأذى والخطورة من جهات : الأولى : بعد المسافة بين مكة والحبشة ، واضطرار المهاجرين إلى ركوب البحر . الثانية : قيام خيالة قريش بمحاولة اللحاق بهم لمنعهم من ركوب البحر ، ولكنهم نجوا بمعجزة إذ وجدوا سفينتين تريدان أن تبحرا إلى الحبشة ، فركبوا كل فرد منهم بنصف دينار ، وحينما تكون السفينة مستعدة على الرحيل يرضى الملاح بأي أجرة مع السعة فيها ، ولم يعتد رجال قريش ركوب البحر ، ولكن الإيمان والحرص على سلامة الدين علة للتحدي والإقدام على ركوب البحر بشوق ورغبة. ومن خصائص الأنبياء وأتباعهم سؤال الله عز وجل النجاة من القوم الكافرين لتشمل النجاة السلامة في الدين ، وليس الأبدان وحدها ، كما ورد في تلقين الله عز وجل لنوح عليه السلام عند ركوبه السفينة أيام الطوفان ونجاته من الكفار ، قال تعالى [فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( )، ومنهم من جعل نوحاً من الأنبياء المهاجرين بركوبه في السفينة ومن آمن معه ، وانتهاء هذه الهجرة في ستة عشر يوماً عندما استقرت السفينة على الجودي . وفي دعاء موسى عليه السلام في التنزيل إذ دعا لنفسه دعاءً خاصاً عندما توجه إلى مدين وطلب آل فرعون له بيان للحاجة إلى الدعاء عند الهجرة وعموم الإبتلاء ، كما ورد في التنزيل [فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( )، وأخبر القرآن عن استجابة الله له لما ورد على لسان شعيب عليه السلام [قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( )، وعند خرج من مصر الخروج العام ومعه بنو اسرائيل متوجهين إلى أرض فلسطين قال [وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( )، الخامس : هجرة نبي الله يونس عليه السلام ، إذ بعثه الله عز وجل إلى أهل نينوى في شمال العراق ، وقيل أيام الدولة الأشورية، فأعرض قومه عن دعوته ، وهو يريد إصلاحهم ،ويريهم المعجزة ، فغضب وخرج من بلدته مهاجراً ، قبل أن يأمره الله عز وجل بالهجرة ، ونزل قوله تعالى [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ] ( ) لبيان أن الإيمان وحده كاف للنجاة . (وكان يونس بعد سليمان. وبعض العلماء يجعل بينهما أيوب، وتقديم أيوب على ما اخترنا أوضح. وهو يونس بن متى، ومتَى أبوه، وهو من ولد بنيامين بن النبي يعقوب عليه السلام . وكان قبل النبوة من عباد بني إسرائيل، هرب بدينه فنزل شاطىء دجله، فبعثه الله نبياً إلى أهل نينوي من أرض الموصل وهو ابن أربعين سنة، وكانوا جبارين. قال وهب بن منبه: فضاق بالرسالة ذرعاً وشكى إلى الملك الذي أتاه ضيق ذرعه، فأعلمه انه إن أبلغتهم الرسالة فلم يستجيبوا له عذبهم الله، وإن لم يبلغهم أصابه ما يصيبهم من العذاب، وإن الأجل أربعون يوماً، فأنذرهم وأعلمهم بهذا الأجل، فقالوا له: إن رأينا أسباب العذاب أصابك. ثم انصرفوا عنه على ذلك، فلما مضى من الميقات خمسة وثلاثون يوما غامت السماء غيماً أسود يدخن، واسودت سطوحهم، فأيقنوا بالعذاب وبرزوا من القرية بأهليهم بهائمهم، وفرقوا بين كل ذات ولد وولدها، ثم تضرعوا إلى ربهم فرحمهم الله تعالى وقبل توبتهم. ثم إن يونس ساح فرأى راعياً في فلاة فسقاه لبناً وهومستند إلى صخرة، فأعلمه إنه يونس وأمره أن يقرأ على قومه السلام، فقال: يا نبي الله لا أستطيع لأن من كذب منا قتل. قال: فإن كذبوك فالشاة التي سقيتني من لبنها وعصاك والصخرة يشهدون لك. فأتاهم الراعي فأخبرهم فأنكروا قوله، فأنطق الشاة والعصى والصخرة فشهموا له فقالوا له: أنت خيرنا حين نظرت إلى نبينا فملكوه عليهم أربعين سنة)( ). وذو النون هو اسم ثان للنبي يونس عليه السلام ، فحينما غادر قومه ركب سفينة، وهاج البحر وألقى ركابها امتعتهم تخفيفاً للأثقال. وبقي الخطر يداهم السفينة حتى ساعة إلقاء الأمتعة واضطروا إلى اللجوء لإلقاء أحدهم ليخف الوزن بدل أن يهلك الجميع ، فأجروا القرعة فيما بينهم بأن كتبوا أسماءهم على سهام ، كل سهم عليه اسم أحدهم ، فخرج اسم النبي يونس فاشفقوا عليه لما رأوا من صلاحه وأنهم كانوا يتوسمون نجاة السفينة بدعائه ، فاعادوا القرعة مرة أخرى فظهر اسمه أيضاً عندئذ ألقوه في البحر . (عن ابن عباس قال : أتى جبرئيل يونس (عليهما السلام) فقال له : انطلق إلى السفينة ، فركبها فاحتبست السفينة فساهموا فسهم، فجاء الحوت يبصبص بذنبه فنودي الحوت : إنّا لم نجعل يونس لك رزقاً. إنّا جعلناك له حرزاً ومسجداً . فالتقمه الحوت فانطلق به من ذلك المكان حتى مرّ به على الإبلّة. ثمَّ مرَّ به على دجلة ثم انطلق حتى ألقاه في نينوى، فكان ابن عباس يقول : إنّما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت) ( ). و(عن سعيد بن المسيّب قال : سمعت سعد بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : اسم الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متّى . قال : فقلت : يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين . قال : هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامّة إذا دعوا بها) ( ). بحث بلاغي / اللف والنشر ومن البديع اللف والنشر ، وهو إجتماع فردين مع التقييد الإجمالي لهما وإن تباين الموضوع ، ولكن السامع يستطيع الفصل والتمييز بينهما ، ويرد كل واحد منهما إلى ما يناسبه فمعنى اللف هو الجمع بينهما كما تقول لف الثوب إذا جمعه ، وقد يسمى الطي والنشر وأما النشر فهو التفريق بينهما ، كما يقال نشر الثياب إذ فرقها، قال تعالى [وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ]( )، أي يفرقها بين عباده ، ومنه قوله تعالى [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( )، واستدل عليه بقوله تعالى [وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ]( )، إذ جمع الله بين الليل والنهار بحرف العطف الواو ، والمراد [لِتَسْكُنُوا فِيهِ] أي في الليل [وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ] أي السعي وطلب الرزق في النهار ، والمختار أن معنى الآية أعلاه أعم من هذه الدلالة البلاغية ، إذ أنها تتضمن إمكان طلب الرزق في الليل أيضاً لتشير الآية إلى هذا الزمان وما فيه من وجبات العمل لتكون على مدار الساعة في بعض المصانع والمحلات ، أو تستوعب ساعات النهار وشطر من الليل كما في عمارة الأسواق في المساء ، وكان في مكة سوق الليل . وهو من أقدم الأسواق فيها ، وكان عامرا في القرن الثالث الهجري , وخلافاً لعادة الناس بانقضاء يوم العمل عند غروب الشمس ، كان سوق الليل يبدأ بعد العصر ويستمر لجزء من الليل في بيع السمن والعسل وغيرهما ، ويوقدون الفوانيس والسرج ، وينشط هذا السوق أيام الحج ، وكنا نشتري الهدايا بالجملة منه أيام الحج ، فمع كثرة المتسوقين حينئذ فان عدداً من الباعة فيه لا يزيدون في الأسعار . وكانت ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضع من هذا السوق ، وهو الآن مكتبة مكة العامة ، وفيه زقاق الحجر , نسبة إلى الحجر الذي كلّم النبي محمداً ، وبجانبه دار أم المؤمنين خديجة ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام ، ودخل هذا الزقاق وغيره من الأزقة في توسعة المسجد الحرام في هذا الزمان . وهل في قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( ) في آية البحث لف ونشر ، الجواب نعم ، وتقدير الآية وإن تصبروا على البلاء في أموالكم ، وتصبروا على البلاء في أنفسكم ، وتتقوا الله بتعاهد الفرائض العبادية فان ذلك من عزم الأمور , لبيان مسألة وهي أن موضوع الصبر والتقوى في خاتمة الآية أعم من موضوع البلاء في أولها . وذات العبادة من الصبر ، كما في قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ). و(عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : كانوا – يعني الأنبياء ، يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة) ( ). و(عن حذيفة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة)( ). علم المناسبة ورد لفظ [فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ] ثلاث مرات في القرآن إحدها في آية البحث أما الآيتان الأخريين فهما : الأولى : قال تعالى [انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] ( ). وفي الآية أعلاه ورد عن السدي قال (جاء رجل زعموا أنه المقداد وكان عظيماً سميناً ، فشكا إليه وسأله أن يأذن له فأبى ، فنزلت يومئذ فيه {انفروا خفافاً وثقالاً}( ). فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها ، فنسخها الله فقال {ليس على الضعفاء ولا على المرضى}( )الآية )( ) . ونزلت الآية أعلاه بخصوص كتيبة تبوك في شدة الحر وقلة الزاد والظهر. ومن الآيات أنه لم يقع في كتيبة تبوك قتال مع الروم أو مع غيرهم . الثانية : قال تعالى [تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] ( ). لتبين الآية وجوب الإيمان والتصديق بالنبوة والتنزيل ، وأداء الفرائض العبادية ، وإعانة الفقراء ، والإنفاق في سبيل الله ، ومن الجهاد بالأموال والنفس الصبر على البلاء والأذى اللذين تذكرهما آية البحث ، وجاءت خاتمة كل من الآيتين أعلاه بقوله [إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] لبيان وجوب التفقه في الدين والتنزه عن المعاصي والظلم والتعدي والإرهاب .