معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 215

المقدمـــــــــــــة
الحمد لله الذي جعل السموات والأرض وما بينهن ملكاً طلقاً له وحده سبحانه لا يشاركه فيه أحد إذ أن كل الخلائق مملوكة له , منقادة إليه , وهذا الإنقياد أعظم نعمة على الخلائق مجتمعة ومتفرقة .
إذ أن المشيئة واللطف الإلهي المتصل رحمة بالخلائق ومنهم الناس.
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا من رحمته ورأفته وتعجز الخلائق عن إحصاء أفراد الرحمة والنعم على الناس في كل دقيقة من دقائق الساعة اليدوية .
وفيه دعوة للناس للشكر لله عز وجل والإجتهاد في طاعته , فتفضل وبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لهداية الناس إلى مسالك العبادة , وجاء الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي والتنزيل لتعيين كل من :
الأول : أفراد العبادة الفردية من الصلاة والصيام والحج والزكاة والخمس , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثاني : موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , قال تعالى وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ.
وهل تدل الآية أعلاه على أن الأمر بالمعروف واجب كفائي , الجواب نعم , وتدل أيضاً على كونه واجباً عينياً عند الحصر والتعيين ومناسبة الحكم والموضوع بلحاظ التخصيص بلفظ (أمة) في الآية أعلاه ، وهو عنوان عام (والأُمَّةُ: الجماعةُ. قال الأخفش: هو في اللفظ واحدٌ وفي المعنى جمعٌ)( ).
الحمد لله الذي جعل الدنيا مزرعة للآخرة , وفرصة سانحة لجني الصالحات واكتناز الحسنات , ومن مصاديق الإكتناز في المقام أداء الوظائف العبادية والخلق الحسن ، والسعي في مسالك السلم ونشر الأمن.
الثالث : تحديد أوقات الصلاة , مع التعدد اليومي في الوجوب العيني إذ أنها تؤدى خمس مرات في اليوم بأوقات مخصوصة وهي :
الأولى : صلاة الصبح .
الثانية : صلاة الظهر .
الثالثة : صلاة العصر .
الرابعة : صلاة المغرب .
الخامسة : صلاة العشاء .
وهل من معاني المحافظة في قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ] ( )، تعاهد أوقات الصلاة وأداؤها في أوقاتها وعدم تأخيرها الجواب نعم , وكل فريضة منها دعوة للسلم , ووسيلة لنشر الأمن ، وتعاهد النسيج المجتمعي ، ومرتكزات المواطنة ، ومن أظهر مضامين هذا الجزء المبارك قراءة واستدلال بعدم نسخ قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).

حرر في الثلاثين من شهر جمادى الأولى 1442
14/1/2021

قانون كل نبي حامل للواء السلم
لقد تقدم في الجزء التاسع بعد المائتين من هذا السِفر ذكر ماٍئة وثماني وعشرين آية ذكر أنها منسوخة , ومنها ما نسخ بآية السيف , والمختار أن أغلب هذه الآيات غير منسوخة , إذ أن أحكام السلم ثابتة وباقية إلى يوم القيامة .
ومن خصائص الأنبياء أنهم جاءوا بالسلم , وهم حملة لوائه في أيام حياتهم , وبعد مماتهم , ومن الشواهد توثيق القرآن لسيرتهم السلمية , وتأديبهم أصحابهم على أمور :
الأول : قانون طلب السلم .
الثاني : قانون السعي إلى السلم .
الثالث : قانون تعاهد السلم .
الرابع : إظهار الرغبة والترغيب بالسلم , لذا تفضل الله عز وجل وجعل صلح الحديبية فتحاً قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
ويحتمل احتساب الصلح فتحاً بلحاظ السعة والضيق وجوهاً :
الأول : حكم الصلح فتح خاص بصلح الحديبية .
الثاني : المقصود أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلها بأن يسعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصلح سواء مع أهل الكتاب أم مع المشركين , وهذا الصلح فتح .
الثالث : قانون الصلح فتح في سنن الأنبياء .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , فما من نبي إلا واجتهد في تحقيق السلم , ودفع الحرب ومقدماته , ليكون هذا الإجتهاد من الشواهد على صدق نبوته بلحاظ قانون وهو أن استتباب الأمن مناسبة ووسيلة لأمور :
الأول : تجلي وظهور معجزات الأنبياء .
الثاني : قيام الأنبياء بتبليغ الرسالة وأحكام الشريعة .
الثالث : تدبر الناس في معجزات النبي .
الرابع : إخبار النبي أكبر عدد من الناس بالوحي .
الخامس : استحضار النبي لمعجزات الأنبياء ، وإظهاره التصديق بنبوتهم.
السادس : إجتهاد النبي بدعوة الناس إلى الهدى والإيمان .
السابع : من خصائص الصلح أنه مناسبة للحجب بين رؤساء الكفر وعامة الناس والأتباع .
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى] ( ).
ومنه أخبار الأنبياء , فهل فيها إشارة إلى دعوتهم للسلم , الجواب نعم , إذ كان سلاح الأنبياء الوحي , ووظيفتهم البشارة والإنذار , وفي قوله تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) إخبار عن ملاقاة نوح منهم أشد الأذى , واظهاره الإصرار على الإقامة على عبادة الأوثان ولم يرفع عليهم سلاحاً , ولم يحشد أصحابه , وفي التنزيل [وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا]( ) إنما أظهر نوح الصبر , وصبر النبي في مواجهة عبادة الأوثان سلم ودعوة للسلام , كما إتجه إلى الدعاء والإستغاثة والشكوى إلى الله عز وجل وفي التنزيل [وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا] ( ).
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إجتهاده في الدعاء لصلاح قومه , وتركهم عبادة الأصنام , ولم ينفك عن هذه السنّة المباركة بل صاحبته طيلة مدة النبوة
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يطوف على أهل الموسم بالنداء بكلمة التوحيد , وبين هذا النداء والدعوة للنطق بالشهادتين عموم وخصوص مطلق .
إذ أن كلمة التوحيد قول لا إله إلا الله , وهو سور الموجبة الكلية الجامع للمسلمين وأهل الكتاب أما النطق بالشهادتين فهو خاص بالمسلمين .
لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أي آية أنزلت من السماء أشد عليك .
وعن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟ .
فقال كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركوا العرب وافناء الناس في الموسم ، فنزل عليّ جبريل فقال { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس }( ) قال : فقمت عند العقبة ، فناديت : يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي ولكم الجنة ، أيها الناس قولوا لا إله إلا الله ، وأنا رسول الله إليكم ، وتنجحوا ولكم الجنة .
قال : فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون عليّ بالتراب والحجارة ، ويبصقون في وجهي ويقولون : كذاب صابئ ، فعرض عليّ عارض فقال : يا محمد ، إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك ، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه ، قال : الأعمش فبذلك تفتخر بنو العباس ، ويقولون : فيهم نزلت( ).
ولا دليل على موضوعية هذا الفخر خاصة وأن الآية مدنية ونزلت في غدير خم وبيعته .
ويبن هذا السؤال وتلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالقبول والإجابة عليه على أن ماهية التكليف في آيات القرآن على مراتب متفاوتة من حيث الشدة والسعة والخفة من جهات :
الأولى : ما تتضمنه الآية القرآنية من التكليف الخاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويكون من مختصاته .
و(عن أبي جحيفة قال : قيل : يا رسول الله قد أسرع إليك المشيب .
قال : شيبتني هود وأخواتها : الحاقة، والواقعة، وعمّ يتساءلون .
وهل أتاك حديث الغاشية.
وعن زيد قال : رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقرأت عليه سورة هود فلمّا ختمتها قال : يا زيد قرأت ، فأين البكاء)( ).
والمراد من زيد هو يزيد بن أبان كما في تفسير القرطبي( )، وهو أبو عمرو الرقاشي البصري ، ويرد اسمه في بعض الكتب باسم زيد كما في التأريخ الكبير ( )، وقال ابن سعد (كان ضعيفاً قدرياً) ( ).
الثانية : توجه الأمر والتكليف في القرآن إلى المسلمين مما يستلزم إجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التبليغ والعمل بمضمونه لأنه الأمام في الإمتثال للأوامر الإلهية , وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
الثالثة : آيات الذم للكفار وعبادتهم الأوثان , وما زاد في الشدة في المقام أن رؤساء قريش جعلوا هذا الذم شتماً لآبائهم لأنهم كانوا يعبدون الأوثان, وهذا المعنى من أسباب زيادة عداوتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقيامهم بإيذائه مع توالي نزول آيات القرآن .
وقد إجتمع عدد من رؤساء ووجهاء قريش في حجر إسماعيل في البيت الحرام وأخذوا يتذاكرون أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصيغ المكر والكيد التي يتخذون أزاءه , وكانوا يغمزون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مرّ بهم وقد مشى جماعة منهم إلى أبي طالب ليشكوا له ما يفعله بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وعن (ابن إسحاق: فقالوا : يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه.
فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما هو عليه، يُظهر دين الله ويدعو إليه.ثم شرى الامر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا.
وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينها، فتذامروا فيه وحض بعضهم بعضا عليه.
ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ،أو كما قالوا. ثم انصرفوا عنه( ).
وفي الذين كفروا وعكوفهم على الأصنام ورد قوله تعالى [قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ] ( ) وهل ذم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأصنام وعبادتها تبكيت لآبائهم الذين ماتوا على عبادتها.
الجواب لم يقصد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذا وإنما بعثه الله لهداية الناس وصلاحهم ولابد أن تمر سبل الهداية بنقض وفضح عبادة الأوثان .
قانون ذم عبادة الأوثان سلم وإرتقاء
لقد خلق الله عز وجل الناس لعبادته ، والتنزه عن الشرك به فجاهد الأنبياء في الدعوة إلى التوحيد ، ولزوم النفرة من عبادة غير الله .
وهل ذم الأوثان وعبادتها من معاني وشواهد السلم .
الجواب نعم من جهات :
الأولى : جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذم عبادة الأوثان بآيات من عند الله عز وجل , فهو سبحانه [رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) ولا يرضى للناس إلا أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً , قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ).
الثانية : عبادة الأوثان مجلبة للفقر والفاقة , وهي سبب لسخط الله عز وجل قال تعالى أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
الثالثة : من رشحات عبادة الأوثان إثارة الفتن واشتداد الخصومة بين الناس , ومن الدلائل عليه قيام قبائل العرب بالإقتتال بينهم لسنوات متعددة, يعتدي أحدهم على الأخر ثم يقع التسلسل في القتل , ويتحول من القضية الشخصية إلى القبلية .
تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الآيات القرآنية التي تذم الأصنام وتنهى عن مسائل :
الأولى : التزلف إلى الأصنام .
الثانية : إتخاذ الأصنام وسيلة للتقرب إلى الله عز وجل ، وفي التنزيل [أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ]( ).
عبادة الأصنام وبيان قبحها ، وفي التنزيل [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ* إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ] ( ).
الثالث : لقد كانت قريش تتفاخر بين العرب وعند الملوك بأنهم ذرية وورثة إبراهيم عليه السلام وأنهم ولاة ومجاوروا بيت الله الحرام ، فأمر الله عز وجل أن يحارب الأصنام وعبادتها ، وكان يذم الذين يعبدونها .
لقد كان قومه يتجاهرون بعبادة الأصنام ، ولم يكتفوا بالقول : نعبد أصناماً ، ولم يستحوا من هذا القول ، إنما أصروا على مداومتهم على عبادتها .
وهل توعدوا إبراهيم من الإضرار بالأصنام ،والحاق الأذى بها ، الجواب نعم ، وهذه المسألة تبين هنا للمرة الأولى لبيان أن إبراهيم عليه السلام حينما كسّر الأصنام كان يعلم شدة انتقام قومه منه ، وأنه لم يقدم على كسرها عن حال غضب ، إنما كان عمله جهاداً في سبيل الله .
ترى لماذا لم يكتفوا باعلان عبادتهم للأصنام ، فاردفوا [فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ] ( ) ونظل في المقام بمعنى (ندوم) والعكوف الإقامة على الشئ .
وقال الرازي (ضموا إليه زيادة على الجواب وهي قولهم {فَنَظَلُّ لَهَا عاكفين} وإنما ذكروا هذه الزيادة إظهاراً لما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار بعبادة الأصنام) ( ).
والمختار أنهم أضافوا هذه الزيادة من جهات :
الأولى : سماع تهديد ووعيد إبراهيم بالكيد بالأصنام [وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ] ( ).
الثانية : إصرار الذين كفروا على الجحود وإرادة بعث اليأس في نفس إبراهيم من هدايتهم .
الثالثة : إعلان محاكاتهم لأبائهم في عيادة الأصنام .
الرابعة : بيان المشقة في جهاد إبراهيم مع قومه ، وأن كسر الأصنام كان الوسيلة لزجرهم عن الوثنية ، بينما حين أعلن النبي دعوته بادر عدد ن أهل البيت والصحابة للتصديق به ، لتترسخ عبادة الأوثان ، وهل بنى إبراهيم عليه السلام البيت الحرام ليكون وسنن التوحيد والحجج فيه عوناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته ، الجواب نعم، وهو من مصاديق ما ورد في التنزيل حكاية عنه ، قال تعالى [وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
والجار والمجرور [منهم] لبيان وجود طائفة من قريش وعامة العرب ينصرون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : الإخبار عن حراستهم للأصنام ، وعجز إبراهيم عن الوصول إليها ، فهم يقولون له كيف تكيد للأصنام ونحن لا نفارقها حتى جاءت مناسبة الكيد وكأنهم نسوا تهديد إبراهيم ، وظنوا أنه يخرج معهم إلى العيد ، أو أنهم نسوا تهديده في غمرة الفرح بالعيد .
وعدم خروجه معهم من مصاديق [لأَكِيدَنَّ] ( ) ولم يرد لفظ [أَكِيدَنَّ] في القرآن إلا في الآية اعلاه .
(عن ابن مسعود قال : لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه فقالوا: يا إبراهيم ، ألا تخرج معنا .
قال : إني سقيم ، وقد كان بالأمس قال : { تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين }( ) فسمعه ناس منهم ، فلما خرجوا انطلق إلى أهله فأخذ طعاماً ثم انطلق إلى آلهتهم فقرّبه إليهم فقال : ألا تأكلون .
فكسرها إلا كبيرهم ، ثم ربط في يده الذي كسر به آلهتهم ، فلما رجع القوم من عيدهم دخلوا فإذا هم بآلهتهم قد كسرت ، وإذا كبيرهم في يده الذي كسر به الأصنام ، قالوا : من فعل هذا بآلهتنا .
فقال الذين سمعوا إبراهيم قال {تالله لأكيدن أصنامكم }( ) سمعنا فتى يذكرهم ، فجادلهم عند ذاك إبراهيم) ( ).
السادسة : إعلان قوم إبراهيم الإمتناع عن الإقرار بالتوحيد ، وعن أداء الصلاة، وليس عندهم متسع لعبادة أخرى غير عبادة الأصنام (عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس، قوله:( قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ) قال: الصلاة لأصنامهم) ( ).
وهل في آيات محاربة إبراهيم لعبادة الأصنام دعوة للسلم ، الجواب نعم، إذ تتجلى حقيقة وهي إصرار الذين كفروا على القتل والقتال من أجل البقاء على عبادة الأصنام ، فلابد من إزاحة سبب وعلة هذا البقاء وما يعنيه من الكفر والضلالة ، خاصة وأن إبراهيم عليه السلام نبي رسول .
قانون الحنيفية سلام ولطف
لقد دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى ملة إبراهيم بأمر من عند الله عز وجل [قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِين] ( ) وهل الحرب على الأصنام من الحنيفية ، الجواب نعم .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلاوته لآيات قبح عبادة الأصنام في البيت الحرام ،وعند قدوم وفد الحاج لبعث النفرة في نفوسهم من الشرك .
ترى لماذا لم يقم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكسر الأصنام كما فعل إبراهيم والله عز وجل ينجيه من كيد المشركين .
الجواب قد تفضل الله عز وجل ونجىّ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من كيد المشركين وأمره بالهجرة ليعود بعد ثمان سنوات ، فاتحاً لمكة ويقوم بكسر الأصنام من غير خشية من المشركين .
لقد كسر إبراهيم عليه السلام الأصنام وأعادوا هياكلها وعبادتها ، وهو من مصاديق ما ورد في التنزيل [فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ] ( ) أي وإن كسرتها ، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد أزاح الأصنام وإلى يوم القيامة، وهو من مصاديق تفضيله على الأنبياء ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ]( ) التأكيد بخلو وتنزيه الأرض من عبادة الأوثان ، ويكون من معاني الآية : قل جاء الحق فلا يغادر الأرض ، وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنماً فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأكبت لوجهها وقال { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً }( ))( ).
وقبل فتح مكة كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يكسرون الأصنام حيث يحلون ، والله عز وجل هو الواسع الكريم ، ويدل دعاء إبراهيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على تقوم دعوته بالحجة والبرهان ، لتنقطع عبادة الأصنام إلى يوم القيامة ، قال تعالى [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] ( ).
وهذه الآية شاهد على رفع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للواء السلم واستغنائه عن القتال ، وكرهه له ، وهل عبادة الأصنام برزخ دون سيادة المسلم في الأرض الجواب نعم ، لأنها ضد لتقوى الله ، ومادة لإنتفاء الزاجر عن الباطل والتعدي ، وسبب لجلب سخط الله.

قانون بركات النبوة
يتخلف الإحصاء عن مقدار المنافع والإفاضات ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها بلوغ المسلمين مراتب التقوى والخشية من الله، وهي نعمة متعددة ومتكثرة من وجوه:
الوجه الأول: النعمة على كل مسلم يخشى الله، ذكراً كان او أنثى، كبيراً أو صغيراً، فان قلت لم يتوجه الخطاب التكليفي للصغير.
والجواب الخشية من الله أعم من التكليف، فترى الصبي من أبناء المؤمنين يتجنب السرقة والتعدي خشية من الله، وتجد معالم هذه الخشية عند عموم الأطفال بالفطرة ، وفيه وجوه :
الأول: إنه من الفطرة التي خلق الله الناس عليها وهو من عمومات قوله تعالى[فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا]( ).
الثاني: إنه من عمومات رحمة الله عز وجل بالناس، ودليل على أن أسباب الهداية تدرك الصغير أيضاً مثلما تدرك البالغ الرشيد.
الثالث: إنه من تجليات نفخ الله من روحه في آدم، وظهور منافعه على الإنسان في صباه.
الرابع: إنه رشحة من رشحات خلافة الإنسان في الأرض، قال تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، واحتج الملائكة على جعل الخليفة كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
وهل يدخل في إحتجاجهم الأطفال، وأنهم يقصدونهم أيضاً في موضوع الفســاد والقتل، أم أنهم خارجون بالتخصيص عن هذا الإحتجاج.
الجـواب هو الأول، ويدل عليه الوجدان أن الأطفال قد يذنبون ويفعلون المعــاصي، فجاء قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) لتوكيد أن الله عز وجل جعل عند الأطفال مصاديق الهداية , والقدرة النسبية على إكتسابها منها :
الأول: ما يخشون به الله عز وجل.
الثاني: ما يكون مقدمة للإنزجار عن الذنوب والمعاصي.
الثالث: التهيئة الذهنية لدخول الإسلام وأسباب الإقرار بالوحدانية، والتصديق بالنبوة ، قال تعالى [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
الوجه الثاني: كل مرة يتقي فيها المسلم الله عز وجل نعمة مستقلة قائمة بذاتها، وهو من فضل الله على ذات الفرد والجماعة ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( ).
الوجه الثالث: يمكن تقسيم التقوى إلى شعبتين :
الأولى: التقوى الشخصية، بأن يكون المسلم متقياً مواظباً على أداء الفرائض والعبادات.
الثانية : التقوى النوعية العامة، وهي التي تأتي من جماعة المسلمين، ومنها أمور:
أولاً : الأمر بالمعروف.
ثانياً : التناهي عن المنكر.
ثالثاً : المناجاة بمصاديق التقوى.
رابعاً : حث بعض المسلمين بعضاً على أداء الواجبات وفعل الصالحات.
خامساً : التنزه عن أكل المال بالباطل .
قال تعالى في مدح المؤمنين[الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الوجه الرابع : تفقه المسلمين في أحكام الشريعة، وإرتقاؤهم في مراتب التقوى.
ومن معجزات النبوة ، والشواهد على صدق الوحي كعمود نور وعلم نازل على أشخاص الأنبياء ترشح البركة عنها ، فهي تفيض بالخير وتمنع الشر ، ويتجلى بأدنى تأمل التبدل النوعي في حياة الناس نحو الأحسن والأفضل برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ونزول القرآن.
والإعجاز في باب الإصلاح العام بتوالي نزول القرآن نجوماً .
ويمكن القول بقانون وهو كل آية قرآنية بركة وتفيض بالبركة ، وهي دعوة إلى السلم وترغيب بالموادعة والصلح والوفاق ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).

قانون النبي خليفة
لقد إبتدأت عمارة الإنسان للأرض بهبوط آدم وحواء إلى الأرض ، وكان آدم هو الخليفة ، وهو نبي رسول ، لبيان عظيم منزلة الخلافة ، ولم تبدأ إلا بقوانين النبوة والوحي والتنزيل ، ودعوة الناس إلى الإيمان ، والتي ابتدأت بدعوة آدم لأبنائه وأحفاده تشد عضده حواء إذ عاشت في الجنة ورآت ما فيها من الآيات ، وكلمت الملائكة ، وذاقت ويلات الإصغاء إلى ابليس بعد أن حذرها الله عز وجل وآدم منه ، إذ قال سبحانه [وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ) فجاء الأمر الإلهي بالسكن في الجنة لآدم ، أما أختيار الموضع فهو راجع لهما معاً ، ثم نهاهما الله عز وجل مجتمعين ومتفرقين عن الأكل من الشجرة.
ومن وجوه تقدير الآية :
الأول : يا آدم لا تقرب هذه الشجرة .
الثاني : يا حواء لا تقربي هذه الشجرة .
الثالث : يا آدم تعاهدوا البقاء في الجنة بعدم الإقتراب من هذه الشجرة ، وعندما أكل من الشجرة باغواء من إبليس أمر الله عز وجل بهبوط آدم وحواء إلى الأرض ، ليهبط آدم بصفة الخليفة ، وهي نعمة عظمى لم ينلها جنس آخر من الخلائق حتى الملائكة ، لبيان لزوم شكر الله عز وجل على نعمة عمارة الأرض بصفة الخلافة ، وعدم استرقاقهم من قبل جنس أو نوع آخر من الملائكة ، نعم هبط إبليس إلى الأرض أيضاً مع آدم وحواء ، ولكن ليس له سلطان إلا على الذين اتبعوا الهوى ، لذا يتخلى عنهم إبليس يوم القيامة ، ويحتج عليهم ، قال تعالى [وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) .
والنبوة نعمة عظمى لعصمة الناس من إغواء إبليس ، ولإصابته بالخيبة ، فان قلت قد كان آدم نبياً رسولاً فكيف أغواه وحواء إبليس بالأكل من الشجرة، مع تحذير وإنذار الله لهما قُبُلاً ، والجواب إن نواميس السماء تختلف عن نواميس الأرض ، وأن التكليف في عالم الدنيا ، وحال وهيئة إبليس في الجنة غيرها في الأرض ، وحتى الاسم فقد كان يسمى الحارث لكثرة وطول سجوده ، فلما عصى الله وأمتنع عن السجود لآدم سُمي إبليس أي أنه طرد من رحمة الله ، وهو يدعو ويعمل للفتنة بين الناس ، وأشعال الحروب ، أما الأنبياء فيدعون إلى السلم ودرء الفتنة ومقدماتها .
قانون الخلافة رحمة
لقد احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لأنه يفسد في الأرض ولوقوع القتال بين الناس ، وهو أمر لم يألفه الملائكة ، ولا يريدون رؤيته في ملك الله عز وجل الواسع في السموات والأرض .
لقد رآى الملائكة نوع تضاد وتناف بين الخلافة والفساد ، وأنت ترى أن الملك والسلطان إذا علم بأن أحد الولاة وكبار الموظفين يفسد ويرتشي فانه يزيحه ويعرضه للعقاب ، أما إذا علم بأن شخصاً يتصف بسنخية الفساد والفسوق ، فانه يجتنب توليته ولا يجعله أميناً في عمل من أعمال الدولة ومؤسساتها ، وإن كان ذات السلطان فاسداً ، وهو من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض ، وعمومات قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) بتنحيةالفاسد عن شؤون الولاية والحكم .
وجعل الله عز وجل الإنسان خليفة في عموم الأرض ، وهل كان من إحتجاج الملائكة موضوع تبعيتهم للإنسان في الأرض لأنه خليفة ، ولم ينل الملائكة هذه الرتبة لا في السماء التي هي محل سكناهم ولا في الأرض التي ينزلون إليها حيث يشاء الله عز وجل ، الجواب لا دليل عليه ، ولأن سكن الملائكة في السماء ، لبيان الملائكة للمفاضلة بقوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ) .
والمختار أنه ليس احتجاجاً إنما هو نوع دعاء وتوسل ليرتقي الناس إلى مرتبة الملائكة ، وتقدير الآية: اتجعل فيها من يفسد فيها يسفك الدماء اللهم اجعل الناس مثلنا يقدسون لك ويسبحون بحمدك ، فأجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ليكون من مصاديق علم الله عز وجل بلحاظ هذا القانون وجوه :
الأول : لله عز وجل ملك السموات والأرض، ومن معاني هذه الملكية علمه تعالى بما يقع في الأرض .
الثاني : قانون التباين الرتبي الواسع الكبير بين علم الله وعلم الملائكة ، فهم عاجزون عن معرفة كنه علم الله ، أو الإحاطة بجزء يسير من علم الله ، قال تعالى [وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ] ( ) .
الثالث : قانون خلق الإنسان وخلافته في الأرض شاهدان على بديع صنع الله .
الرابع : قانون إنفراد الله عز وجل بعلم الغيب فيما يخص خلق الإنسان وسنخية عمله في الدنيا .
الخامس : قانون دلالة كشف أحوال الإنسان على سعة علم الله وفي التنزيل [وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا] ( )، إذ تجعل خصال المتقين الملائكة في انبهار ، من صلاح الإنسان وعمارته الأرض بتقديس مقام الربوبية والتسبيح لله عز وجل .
قانون السلم دين الفطرة
لقد خلق الله عز وجل الناس على الفطرة والكيفية التي يريدها لهم ، والتي تتصف بالرحمة والرأفة منه تعالى ، وفيه تخفيف ولطف بهم ، قال تعالى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا] ( ).
والفطرة هي أصل الميول والغرائز التي يتصف بها الإنسان من غير أثر مستحدث للبيئة والتربية .
وتتقوم فطرة الإنسان بالإقرار بالربوبية لله عز وجل ، والنفرة من الكفر ومفاهيم الشرك ، وهناك آيات كثيرة في القرآن تدل على الفطرة السليمة ، وأن الله عز وجل لم يجعل الإنسان يعيش على الأرض ، ويصل إلى سن البلوغ إلا وقد أدرك الوظائف التي تترشح عن الفطرة ، ومنها قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ]( ) ومنها قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ومن أسماء الله (الفاطر ) وقد ورد في ست مرات في القرآن تبين أن الله عز وجل خلق السموات والأرض ابتداءً ، منها قوله تعالى [قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ] ( ).
والله عز وجل مبدع السموات والأرض ، وموجودها من غير سابق مثال ، والشاطر والمخترع لها ، وهو سبحانه فتقها فتقاً ، وجعل السموات سبعاً ، ومثلهن من الأرض ، وفصل بينهما بالهواء ، وخلق جنوداً لا يعلمها أحد إلا هو سبحانه ، وفتق الله السماء بالمطر ، وجعل الأرض تستجيب له بالفتق بالنبات ، قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
وجاءت سورة من القرآن باسم فاطر وهي مكية وعدد آياتها (45) آية وهي السورة (35) في ترتيب المصحف ، وإذ ذكر القرآن اسم فاطر لله عز وجل بخصوص السموات والأرض ، فهو لم يذكر الفطر للإنسان ، والجواب من وجوه :
الأول : إرادة معنى الفتق والإبداع في ذات خلق السموات والأرض ، وتبديل صورتهن وهيئتهن ، وتفضله تعالى بانشطار كل من السماء والأرض.
الثاني : من معاني فطر السماء والأرض خلق الإنسان ، لأنه خلقه من أديم الأرض ولهذا سمي آدم ، قال تعالى [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى]( ).
الثالث : إرادة إكرام الإنسان ، إذ أن الله عز وجل خلقه بمشئيته ، ونفخ فيه من روحه ، ولم يفتقه فتقاً .
لقد أكرم الله عز وجل الإنسان بالفطرة الإيمانية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ) .
وحال حياة الناس بلحاظ الفطرة على وجوه:
الأول : حال السلم وهو الفطرة .
الثاني : حال الحرب والقتال هي الفطرة العامة والسلم ، أما الحرب فهو استثناء .
الثالث : التباين الزماني أو المكاني ، فمرة يكون السلم هو الفطرة وأخرى الحرب هو الفطرة .
الرابع : إرادة الإشتراك وأن الإنسان مجبول على السلم والحرب ، وتدل عليه قصة ولدي آدم ، وقتل أحدهما الآخر وهو مثال الحرب وإمتناع هابيل عن الرد بالمثل ، وعن استباق أخيه بالقتل ، وهو عنوان السلم والسلام ، قال تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ] ( ).
الخامس : لا صلة لحال السلم والحرب بالفطرة الإنسانية ، وكل منهما أمر عرضي طارئ .
السادس : الأصل هو حال اللاسلم واللاحرب .
والمختار هو الأول ، فالسلم والسلام والأمن المجتمعي هو أصل الفطرة ، ومنه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) كما سيأتي بيانه في هذا الجزء ، وتقدير الآية : ادخلوا في السلم فانه من الفطرة التي فطر الله الناس عليها .
وفيه بيان وتأكيد لقانون الملازمة بين الفطرة والسلم .
ليكون احتساب الأعمال والأجر والثواب على اختيار السلم والصلح وتثبيت مفاهيم الإيمان في الأرض ، وهذه المفاهيم تتقوم وتستديم بها الفطرة.
وفيه حجة لله عز وجل ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).

قانون وجوب السلم
استقرأت هذا القانون من قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، لقد ورد لفظ (ادخلوا) عشرين مرة في القرآن ، وجاءت اكثرها على وجهين :
الأول : خصوص بني اسرائيل ، وقد ورد هذا اللفظ مرتين في آية واحدة وهي [وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وفي وصية يعقوب النبي لأولاده عند ذهابهم إلى مصر للميرة [وَقَالَ يَابَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ]( ).
الثاني : إرادة يوم الجزاء ودخول المؤمنين الجنة ، والكافرين النار ، قال تعالى في البشارة للمؤمنين [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( )، وفي سوء عاقبة الكافرين قال تعالى [ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ]( ).
وهل تختص الآية أعلاه بالمتكبرين والمتعالين على الناس في الأرض ، الجواب لا ، إنما المراد المتكبرون على دعوة الأنبياء لعبادة الله ، والجاحدون بالنعم الإلهية وإن كانوا من الأشياع لرؤساء الكفر ، فيكون تكبرهم على الناس من باب الأولوية القطعية .
قانون الدخول في السلم من الهدى والرشاد
جاء لفظ (ادخلوا) في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، وهي الآية الوحيدة من آيات (ادخلوا) التي إبتدأت بنداء التشريف بصفة الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وفي معنى الدخول في الآية وجوه :
الأول : السلم الطاعة ، عن ابن عباس .
الثاني : السلم الإسلام ، عن ابن عباس ، وقال امرئ القيس بن عابس الكندي في إنذار قومه من الردة :
(دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمّا… رَأَيْتُهُمُ تَوَلَّوْا مُدْبِرينَا)( ).
لما ارتدت كندة مع الأشعث بن قيس بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ( ).
الثالث : ادخلوا في السلم ، يعني أهل الكتاب عن ابن عباس أيضاً( ).
الرابع : نزلت الآية ( في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام النضري وأصحابه وذلك إنهم عظموا السبت وكرهوا لحم الإبل وألبانها بعدما أسلموا وقالوا : يا رسول الله إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم بها في صلاتنا بالليل فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}( ) أي في الإسلام قاله قتادة والضحاك والسدي وابن زيد)( ).
الخامس : ادخلوا في أمر الدين ، قاله طاوس ومجاهد .
السادس : ادخلوا في أنواع البر كلها عن سفيان الثوري( ).
السابع : اثبتوا على شرائع محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا تخرجوا منها ، نسبه السمرقندي إلى بعضهم ( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، ومضامين ودلالة الآية القرآنية أعم من أسباب وموضوع النزول وأيام النبوة ، وهي متجددة في كل زمان ، وفيها نهي عن أمور :
الأول : الإمتناع عن إثارة الفتن .
الثاني : تعاهد صبغة الأخوة الإيمانية .
الثالث : نشر المحبة والمودة بين الناس .
الرابع : التنزه عن الإرهاب والتفجيرات والقتل العشوائي .
الخامس : المساهمة في الأمن والسلم المجتمعي .
ويحتمل لفظ [كَافَّةً] في الآية الكريمة [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ( ) وجوهاً:
الأول : إنه عائد إلى الذين آمنوا ، والمراد ادخلوا جميعكم في السلم .
الثاني : المراد السلم أي ادخلوا في السلم على كل حال ، بلحاظ ورود صيغة الجمع للذين آمنوا في بداية الآية .
الثالث : إرادة المعنى الأعم ، والمقصود من لفظ [كَافَّةً] المسلمون ، وأيضاً مصاديق السلم .
الرابع : المراد المسلمون وعامة الناس .
والمختار هو الوجه الأخير أعلاه لعموم بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد ورد لفظ [كَافَّةً] في أربع آيات من القرآن ، والثلاثة الأخرى هي الآيات :
الأولى : قوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
وتكرر لفظ [كَافَّةً] في الآية أعلاه ، وكل منهما بخصوص جنس البشر ، لبيان عدم التعارض بين حال الدفاع ، والدخول السلم وهو من الأستثناء .
الثانية : قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] ( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( )وفيه شاهد على أن المراد من [كَافَّةً] في آية البحث هم الذين آمنوا ، والمراد المسلمون والمسلمات .
قانون ترغيب الناس بالسلم
قد تقدم في الجزء السادس والثلاثين من هذا السِفر (وهل يدخل المنافقون في النداء الذي أفتتحت به آية البحث (يا أيها الذين آمنوا) الجواب نعم، وتلك آية في علوم القرآن وأهليته للبقاء غضاً طرياً، والمراد من الذين آمنوا هم كل من آمن ظاهراً بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونطق بالشهادتين.
والمنافق منهم ولكنه يحرم نفسه من نعمة العمل بمضامين الآية ، لتكون إمتحاناً له ، قال تعالى [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] ( ).
بالإضافة إلى توجه الخطاب التكليفي للمنافق بعرض واحد مع المؤمن رجاء توبته وإتخاذ الفرائض وسيلة للتنزه من النفاق والرياء ، كما في قوله تعالىيَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( ).
وسئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام أن خطاب (يا أيها الذين آمنوا ” في غير مكان من مخاطبة المؤمنين أيدخل في هذا المنافقون.
قال : نعم يدخل في هذا المنافقون والضلال وكل من اقر بالدعوة الظاهرة) ( ).
ومعنى [كَافَّةً] الجماعة والأمة ، وهو سور الموجبة الكلية ، وعنوان للإحاطة والشمول ، ويكون تقدير آية السلم بلحاظ هذا القانون على وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ليقتدي بكم الناس .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة لمنع الحرب والقتال ، إذ أن القتال نوع مفاعلة من طرفين ، فاذا امتنع أحدهما عن القتال ، ومقدماته فقد لا يقع ، وإن وقع فهو حجة على الظالم، وقد بدأت معركة بدر وأحد والخندق من طرف واحد وهم المشركون وإصرارهم على القتال.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ، وأدعوا الناس للدخول فيه .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ، وهذا الدخول جهاد في سبيل الله ، وفيه الأجر والثواب.
الخامس : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ، وهو من صفات [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
السادس : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة فانه من مصاديق [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( ).

قانون القرآن أول سفير للإسلام
لقد كان القرآن أول سفير في الإسلام ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يكون السفير سماوياً نازلاً من عند الله ، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لما للقرآن من أثر على النفوس ، ومنزلة في المجتمعات ، فقد كان مدافعاً وناصراً وحجة وبرهاناً ، وفيه غنى عن السيف ، وعن تسمية قوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) بآية السيف، خاصة وأنه لم يرد في القرآن لفظ السيف ، فكل آية من القرآن دعوة إلى الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
وقد تفضل الله وجعل كل آية من القرآن خزينة وكنزاً من العلوم .
ومن إعجاز القرآن الغيري أن كل إنسان يدرك أنه يستنبط من آيات القرآن ما يظن أنه ينفرد به ، أو أنه توصل إليه بفكره وتدبره في آيات القرآن.
وهل تختص المدينة (يثرب ) بانتشار آيات القرآن وتلاوتها قبل بيعة العقبة الأولى ، الجواب لا ، فكان انتشارها وجريانها على الإلسن أعم .
ومن الإعجاز في بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها في مكة ، وكان الناس يفدون إليها طيلة أيام السنة للعمرة والحج ، والتجارة ، من وجوه :
الأول : أداء مناسك العمرة الذي يتغشى أيام السنة كلها باستثناء أيام الحج .
الثاني : حضور الوفود في موسم الحج لأداء مناسكه ، وهو أكثر أيام السنة التي يفد فيها الناس إلى مكة، وكان لكل قبيلة موضع ومحل سواء في عرفات أو في منى خاصة في منى حيث الإقامة أطول منها في عرفة .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمشي في أسواق مكة ، ومحل تجمع الحجيج ، وهو ينادي بكلمة التوحيد (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) ليدل في مفهومه على أن الإيمان بالربوبية المطلقة لله عز وجل واجب ،وأن الشرك وعبادة الأوثان ضلالة .
ومفهومها : لا يفلح ولا يرى التوفيق من يعبد الأصنام ، ولا يقول لا إله إلا الله .
ولم تنقل الوفود والركبان كلمة التوحيد وحدها، إنما كانوا ينقلون آيات القرآن ، وهذا النقل بالذات والعرض ، إذ يتلون آيات القرآن من غير قصد النقل ، وهو من إعجاز القرآن بأن يجد الإنسان مسلماً أو غير مسلم عذوبة في تلاوته ، وينشغل بالتفكر في آياته ، قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا] ( ).
وهل كانت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس للإسلام في موسم الحج جهاداً في سبيل الله ، الجواب نعم ، لذا كانت تحيط به المخاطر وتأتيه ضروب البلاء من كفار قريش ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
الثالث : وفود العرب إلى مكة لحل الخصومات ، ورجاء توسط وشفاعة قريش ، أو تحكيمها في الخلافات ، والسعي لوقف الإقتتال وفك الأسرى ،وإعادة السبايا التي تقع بسبب الغارات بين القبائل وحتى بين ابناء العمومة الواحدة .
لذا فان بناء قريش دار الندوة حاجة لإستقبال الوفود ، وللإجتماع والتشاور والتدارس ، ونشر الألفة والإصلاح بين الناس ، ومع هذا كانت تقع المعارك والحروب بين قبائل العرب ، ليتجلى قانون وهو : أن التنزيل والنبوة هما وسيلة الإصلاح بين الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) من جهات :
الأول : يبعث الله عز وجل الأنبياء [مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
الثاني : مصاحبةالكتب السماوية والوحي للناس إلى يوم القيامة ، لقانون الملازمة بين استمرار خلافة الناس الأرض ومصاحبة التنزيل لهم ، وهو من ملك التصرف والمشيئة لله عز وجل للأرض ومن عليها .
الثالث : نزول الكتب السماوية بالإصلاح والصلاح والهداية إلى الأخلاق الحميدة ، وتنمية ملكة الإيمان في النفوس ، وهي واقية من الإقتتال ومن الإرهاب .

قانون القرآن قطعي النزول قطعي الدلالة
ومن الإعجاز الذاتي أن ذات القرآن ونزوله بركة وفيض ومناسبة للنماء في مال وولد المسلمين وإزدهار الأسواق ، وسيادة الأمن والسلام في الأمصار ، وهو من مصاديق قوله [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن الغيري أن التقيد بأحكام الأوامر والنواهي الإلهية سبب للرزق الكريم والنماء فيه، ومن مصاديق التقوى والخشية من الله التي يصاحبها الفضل من الله عز وجل.
ويردد بعض أهل العلم في علم الأصول أن القرآن ظني الدلالة قطعي الصدور، والسنة قطعية الدلالة ظنية الصدور).
وهذه المقولة تحتاج إلى تنقيح، والقرآن مثلما هو قطعي النزول والصدور فانه قطعي الدلالة من وجوه:
الأول : تبادر معاني آيات القرآن عند قراءة أو سماع آياته، والتبادر من علامات الحقيقة.
الثاني : مجئ آيات القرآن بالنص الجلي في أبواب العلم المختلفة , ومنها آيات الأحكام.
الثالث : تسمية القرآن بالبيان وإفادته الوضوح والبيان ، وترشح العلوم عنه، وتأسيسه لمدرسة البيان التي تنفرد بخصوصية وهي بقاؤها إلى يوم القيامة، قال تعالى[وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ]( ).
الرابع : قد تستلزم المعرفة التفصيلية للحكم الوارد في الآية القرآنية الرجوع إلى آيات أخرى من القرآن، وهو لا يخرج عن صدق كونه قطعي الدلالة، فان قلت قد يستلزم الأمر الرجوع إلى السنة النبوية، لبيان الحكم التفصيلي كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، لمعرفة عدد الركعات ومقدار النصاب، والجواب إنه لا يتعارض مع قطعية دلالة القرآن من جهات:
الأولى : جاء تثبيت أصل الحكم في القرآن، مما يدل على أنه نص جلي ، وقطعي الدلالة كما في تشريع الصلاة والزكاة ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ).
الثانية : السنة النبوية شعبة من الوحي.
الثالثة : تضمن القرآن بيان موضوعية السنة النبوية في الحكم، كما في قوله تعالى [مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
ويدل قوله تعالى أعلاه على أن الله عز وجل يعلم بأن السنة ستكون عند المسلمين قطعية الصدور أيضاً، ولا تنخرم هذه القاعدة مع وجود إختلاف وضعف في السند والدلالة لعدد من الأحاديث النبوية ، لأن المسلمين إتفقوا على منطوق ودلالة الكثير منها ، وطرح العلماء الكثير من الأحاديث التي هي موضوعة .
ومع هذا ندعو الذين يقولون أن القرآن ظني الدلالة إلى إحصاء الآيات والمضامين التي تفيد الظن في الدلالة والحكم ، كي تناقش ويبين وجه القطعية في دلالتها بعد الإجماع على قطعية الثبوت ، خصوصاً وأن الآية القرآنية متعددة المعاني والمفاهيم .
وقد تكون الآية في معنى ذي صبغة قطعية، مع معنى أخر قد يقال أنه ظني ، بالإضافة إلى أن آيات القرآن يفسر بعضها بعضاً، فما يظن أنه ظني الدلالة تبين آية أخرى الجزم والقطع في معناه ، ومعاني الآية القرآنية متعددة ، منها ما هو قطعي الدلالة ومنها ما هو ظني الدلالة ، وهذا التقسيم على فرض وجوده فانه لا يضر بقاعدة القرآن قطعي الدلالة.
وهل هناك آيات تتضمن الإخبار عن قانون القرآن قطعي الدلالة الجواب نعم ، منها [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، فالقرآن كاشف وبيّن ومظهر لغيره من الأشياء والأحكام والأعراض .
ومن معاني قطعي الدلالة النص أي الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً ، كما في قوله تعالى [يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ]( )، فبينت الآية سهام الأولاد ، والتقييد بالأولاد لأن الأخوة من الأم مثلاً إذا كانوا شركاء في الأرض يقسم بينهم بالتساوي .
ومن خصائص القرآن أنه قطعي الثبوت في نزوله من عند الله عز وجل، وتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له ، ورواه أهل البيت والصحابة ونقله التابعون بالتواتر بما تستحيل معه الزيادة أو النقيصة .
ترى ما المراد بظني الدلالة ، فيه وجهان :
الأول : الذي يكون له أكثر من معنى .
الثاني : الذي يحتمل أكثر من وجه ومعنى ، ففي قوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ]( )، هل القرء هو الطهر أم الحيض ولو قلنا أن القرآن قطعي الدلالة وظني الدلالة لتعدد معاني الآية القرآنية فهل يصح هذا المختار لا ، فحتى الذي يعتقد أنه ظني يمكن رده إلى القطعي كما يرد المتشابه في القرآن إلى المحكم ، قال تعالى [مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
ومثلاً جاءت آية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( )، لبيان أن القرآن قطعي الدلالة إذ أنه نص على حرمة الربا على نحو الإطلاق، ولا يحتمل معنى مغايراً وحكماً آخر من الأحكام التكليفية الآخرى كالكراهة والإباحة، أو التقييد وقد يقال في موارد مخصوصة ، ومنه قوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ]( )، ومنه الأسماء الحسنى ، ومنه [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، بينما لم يذكر القرآن نصراً للمسلمين في معركة أحد وإن لم ينهزموا فيها .
ومن معاني قطعية الدلالة في القرآن أن قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) دعوة للألفة والوئام ، وتحريم للإقتتال والإرهاب .
قانون التوكل على الله دعوة للسلم
تدل صيغة العموم بالتوكل على الله عز وجل على أن آيات السلم محكمة غير منسوخة لأن الله عز وجل هو الذي يصرف كيد الكافرين والمنافقين ، ومن وجوه هذا الصرف توبتهم وصلاحهم .
وهل يدعو الأمر بالتوكل على الله إلى نبذ الإرهاب والتفجيرات والعنف ،وإخافة الناس في الطرقات العامة والمنتديات ، الجواب نعم .
وأختتمت الآية بقانون من الإرادة التكوينية مصاحب للناس في الحياة الدنيا ، وهو قوله تعالى [وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً] ( ) والوكيل على وزن فعيل ، من قولك وكلت أمري إليه ، وتوكل به أي صار يليه وينظر فيه .
والنسبة بين الوكيل والكفيل عموم وخصوص مطلق فالوكيل أعم .
ويثني الله عز وجل على نفسه في موضوع الوكالة بأنه نعم الوكيل كما في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ) .
لبيان إنفراد الله عز وجل بهذه الصفة ، وتجلي منافع التوكل بطرد شبح الحرب والقتال .
وبخصوص الآية أعلاه ، فقد أنذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المشركين الذين حضروا معركة أحد ، وانسحبوا إلى مكة وهم يرومون العودة والإغارة إلى المدينة ، وكان جيش المشركين ثلاثة آلاف رجل سقط منهم أربعة وعشرون قتيلاً في معركة أحد .
وقد كثرت يومئذ جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وفقدوا سبعين شهيداً منهم حمزة عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وعندما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبأ عزم جيش المشركين على الكرة على المدينة نادى في أصحابه في اليوم التالي لمعركة أحد للخروج خلف جيش المشركين .
واشترط النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يخرج معه إلا من شارك في معركة أحد ، وهذا الشرط معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشاهد على صدق توكله على الله عز وجل وكفايته جيوش المشركين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
(وكانت وقعة أحد يوم السبت، النصف من شوال من السنة الثالثة من الهجرة، فلما كان من الغد يوم الأحد لست عشرة ليلة خلت لشوال، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الطلب للعدو، وعهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يخرج معه أحد إلا من حضر المعركة يوم أحد، فاستأذنه جابر بن عبد الله أن يفسح له في الخروج معه، ففسح له في ذلك.
فخرج المسلمون على ما بهم من الجهد والجراح، وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مرهباً للعدو ومتجلداً، فبلغ حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، فأقام بها الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة) ( ).
ليكون نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم للذين لم يحضروا معركة أحد عن الخروج معه إلى حمراء الأسد خلف المشركين من مقدمات ومصاديق قوله تعالى [وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ] ( ) .
إذ أن المنافقين انسحبوا من وسط الطريق إلى معركة أحد ، وحينما يخرجون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يؤمن جانبهم .
فخرج الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس معه إلا مائتان ونيف من أصحابه ، ومنهم من حملوه على البعير حملاً لكثرة جراحاته.
ولو علم جيش المشركين برئاسة أبي سفيان وخالد بن الوليد ، وعكرمة بن أبي جهل ،وغيرهم بقلة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكثرة جراحاتهم ففيه وجوه محتملة :
الأول : ترك جيش المشركين القتال لأن أبا سفيان أعطى موعدة للقاء للقتال العام القادم في بدر ،أي في شهر شوال من السنة الرابعة للهجرة .
الثاني : إكتفاء جيش المشركين بقتل سبعين من الصحابة في معركة أحد .
الثالث: رجوع جيش المشركين للقتال .
الرابع : حصول خلاف ونزاع في جيش المشركين حول العودة للقتال أو عدمها ، خاصة وأن ثلثي جيش المشركين من المستأجرين للقتال ، وأقرب لما يسمى في هذا الزمان بالمرتزقة .
الأصل هو الثالث أعلاه ،وإن حدث خلاف بينهم ، ولكن الله عز وجل صرف كيدهم ، وبعث الخوف في قلوبهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً] ( ) ، وقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
التضاد بين الكفر والسلم العام
لقد سعى كفار قريش لنقض حال السلم بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ هاجر إلى المدينة معرضاً عن أذاهم ، ومبتعداً عن شرورهم وكيدهم ، وحينما وصل إلى المدينة مهاجراً لم يقم بعسكرة البلدة ، ولم يحرض الناس على القتال ، ولم يجعل المهاجرين والأنصار في سرايا للتدريب والقتال ، إنما قام حال وصوله ببناء المسجد النبوي لإقامة الصلوات اليومية الخمس ، وإرتقاء المنبر لبيان أحكام الحلال والحرام.
وهل كانت أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة تصل إلى قريش ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : قيام الأوس والخزرج بزيارة البيت الحرام للحج والعمرة ، ومن خصائص العمرة أنها زيارة للبيت الحرام على مدار أيام السنة .
الثانية : وفود التجار إلى المدينة والخروج منها .
الثالثة : من خصائص الناس في تلك الأزمنة عدم البخل في الأخبار ، وذكر ما يشاهدون .
الرابعة : العيون التي ينشرها رجال قريش ، فقد كانوا أشبه بسلطان دولة ، وكانوا أصحاب خبرة في أحوال الأمم والحكومات ، فيعقدون المنتدى في دار الندوة المجاورة للكعبة الشريفة والتي بناها قصي بن كلاب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فجعلوا منها محلاً للتخطيط والبطش والإنتقام من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لا لشئ إلا لأنهم قالوا لا إله إلا الله .
وفي التنزيل [الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ]( ).
وتحذر الآية من الأماني التي لا أصل لها ، والسعي من أجل تحقيقها من غير موضوعية للحلال والحرام ، وحقوق الناس ، وقد يكون السعي إلى غاية مخصوصة بطرق غير شرعية بإغواء من الشيطان .
وقد يقوم بعضهم بتزيين هذه الأماني لتقع بسببها الفتن والمعارك .
فجاء القرآن بالنهي عن الرغبة بالباطل والسعي إليه .
لقد تضمنت الآية النهي الصريح عن اتباع خطوات الشيطان ، لتفيد المنع عن محاكاة المنافقين والكافرين الذين يصدون عن سبيل الله ، لأن هذا الصدّ من أثر وخطوات الشيطان ، لبيان قانون وهو النهي عن اتباع الواسطة في خطوات الشيطان ، فقد يفتتن الإنسان بها بلهث الكفار وراء زينة الدنيا ، وما يبثه المنافقون من تهويل سطوة كفار قريش ، وقوة جيوشهم ، إذ يسعى المنافقون لنشر الفساد وتعطيل الأحكام والتشكيك بالمعجزات .

قانون بالعفو يسود السلام
من أسماء الله عز وجل (العفّو) وهو الذي يعفو عن السيئات ويمهل مرتكب المعصية حتى يتوب أو يقربه إلله عز وجل لسبل الطاعة أو يأتيه العفو من عند الله عز وجل إبتداءّ أو شفاعة .
وقد أخبر الله عز وجل عن نفسه بأنه العفو والغفور ورغّب الناس بالعفو فيما بينهم .
قال سبحانه [إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا] ( ) .
ومن الآيات في خلق الإنسان تفضل الله عز وجل بجعله يميل إلى العفو , ويستأنس به , وقد يختار العقوبة , ولكنه حينما يسمع بآخر قد عفى عمن أساء له فإنه يكبر هذا الخلق الحميد , وهذا الإكبار سجية عامة عند الناس , وهو من مصاديق التقوى لذا قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ( ) لبيان أن الله عز وجل يحب العفو , ويرضى عن الذي يعفو عن غيره , وأن التجاوز عن السيئة من سبل التقرب والزلفى إلى الله عز وجل .
ولأن العفو عن الغير نوع طريق للفوز بالعفو والمغفرة من عند الله عز وجل , قال تعالى [وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وصحيح أن أسباب النزول خاصة في موضوع الآية حينئذ ولكنها أعم في دلالتها وموضوعها فأحكام العفو باقية إلى يوم القيامة , وهو طريق لأمرين:
الأول : المغفرة والعفو من عند الله عز وجل عمن يقوم بالعفو والصفح عن غيره وكأنه من مصاديق قوله تعالى [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ] ( ).
الثاني : الأجر والثواب على ذات العفو وعلى كظم الغيظ الذي هو مقدمة للعفو , قال تعالى [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
وبلحاظ موضوع هذا الجزء من التفسير (آيات السلم محكمة غير منسوخة) ما هي الصلة بين العفو والسلم .
والمختار أن الحياة الدنيا تتقوم بالعفو , من وجوه :
الأول : تفضل الله عز وجل بالعفو عن الناس , وعدم مؤاخذتهم على ذنوبهم ومعاصيهم , وتقصيرهم في عبادته , سواء كان التقصير عن جهالة أو غفلة أو تفريط , إذ يحتاج هذا التقصير العفو عند الله عز وجل لأنه خلاف علة الخلق وقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثاني : العفو مفتاح المودة , وهو ناسخ للغضاضة والكدورة .
الثالث : بالعفو تنقطع الفتن , ويمنع من الشغب وتهييج الشر .
ولقد كان الأنبياء الأئمة في العفو , ومن سنن الأنبياء القريبة سنة موسى وعيسى والنبي محمد عليهم السلام إذ تظهر آيات العفو في سيرة كل منهم في القرآن والسنة , وقد صاحب العفو وعدم إنتقام الإنسان منذ أيام أبينا آدم كما في إمتناع هابيل عن قتل أخيه أو الرد بالمثل مع بيان علة هذا الإمتناع وهي الخشية من الله عز وجل.
وفي التنزيل [لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ] ( ).
كما يذكر القرآن عفو يوسف النبي عن إخوته مع أنهم سعوا في قتله , وحينما تولى الوزارة في مصر عفى عنهم ورفع شأنهم ولكن بعد أن ذكّرهم بسوء فعلهم ووعظهم , وبيّن موضوعية الصبر والتقوى في نجاته وإرتقائه بفضل من الله عز وجل وأظهروا الإعتراف بظلمهم وخطئهم , كما ورد في التنزيل [قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ *قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
لقد نزل القرآن بالحضّ على العفو والصفح والتسامح , وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في العفو , وهل كان صلح الحديبية من مصاديق العفو , الجواب نعم لما فيه من قطع للثأر والبطش ومنع من إستحواذ النفس الغضبية على الخيارات والجوارح .
ومن فضل الله عز وجل في خلقه للناس جعله العفو حلواً وعذباً عند كل من :
الأول : الذي يعفو .
الثاني : الذي يقع عليه العفو .
الثالث : الذي يسمع بالعفو .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ) أي أقرب للتقوى عند المذكورين أعلاه ، وفي الذراري ، وهو من الأثر الحسن في ذات موضوع العفو وفي غيره ، وهل العفو طريق إلى السلم وتمهيد لنشره وإشاعته ، الجواب نعم ، ليكون العفو من مصاديق الدخول في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
ترى ما هي النسبة بين العفو والصلح ، المختار أنه من العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
كما أن العفو مقدمة للصلح ، ويترشح عنه في آية من اللطف الإلهي في إصلاح الناس واستدامة الحياة الدنيا ، ليكون الجمع بين الصلح والعفو من مصاديق التعارف الحسن والتقوى في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
ومن بديع صنع الله عز وجل , وسلطانه على النفوس عدم توجه اللوم من الناس للذي يعفو , وإن كان الذنب كبيراً .
وقد خلّد التاريخ رجالاً إتصفوا بالحلم , واختاروا العفو , وهل من موضوعية للقرآن في هذا التخليد ، الجواب نعم لأنه رغّب بالعفو ودعا إليه , ووعد عليه الثواب والأجر العظيم ، قال تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( )، إذ سمّى الله القاتل أخاً ، كما وردت أحاديث في السنة تحض على العفو .
(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن مكارم الأخلاق عند الله أن تعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، ثم تلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين }( ))( ).
(وأخرج أحمد عن سعيد بن عبد العزيز عن أشياخه ، أن عيسى عليه السلام مرَّ بعقبة أفيق ومعه رجل من حواريه ، فاعترضهم رجل فمنعهم الطريق ، وقال : لا أترككما تجوزان حتى ألطم كل واحد منكما لطمة ، فحاولاه فأبى إلا ذاك .
فقال عيسى عليه السلام : أما خدي فالطمه . فلطمه فخلى سبيله وقال للحواري : لا أدعك تجوز حتى ألطمك فتمنع عليه .
فلما رأى عيسى ذاك أعطاه خده الآخر فلطمه ، فخلى سبيلهما فقال عيسى عليه السلام : اللهم إن كان هذا لك رضا فبلغني رضاك ، وإن كان هذا سخطاً فإنك أولى بالعفو .
وعن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قال : بينما عيسى عليه السلام جالس مع أصحابه مرت به امرأة؛ فنظر إليها بعضهم فقال له بعض أصحابه : زنيت فقال له عيسى : أرأيت لو كنت صائماً فمررت بشواء فشممته أكنت مفطراً ، قال : لا) ( ).
وهل يشترط قصد القربة في العفو كشرط للفوز بالثواب المختار لا ، لصيغة الإطلاق في الآية وما فيها من التراحم بين الناس ، وكذا تعاهد حال السلم والأمن المجتمعي فلا يشترط فيها قصد القربة ، مع جوازه وترتب الثواب عليه .
و(عن عبد الله بن مسعود قال كان قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام آخر وقت الظهر وأول وقت العصر) ( ).
والمقصود وقت أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصلاة الظهر والتفاوت فيه بين الصيف والشتاء , ففي الصيف يصلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا صار ظل الشاخص بمقدار (90-150 سم) بلحاظ أن متوسط مقدار القدم 30سم .
بحث أصولي
دليل الحجة في المتعارضين على وجوه أربعة :
الأول : شمول دليل الحجة لهما معاً وهو لا يصح إذ لا يكون التعبد بالمتعارضين في الموضوع المتحد .
الثاني : افتراض الحجة في احدهما على نحو التعيين من غير دليل ، ويكون من الترجيح بلا مرجح .
الثالث : انتزاع الحجة لكل واحد منهما بتقدير عدم الأخذ بالآخر .
الرابع : الأخذ بأحد المتعارضين للأهلية الذاتية من غير موضوعية لترك الآخر .
ولا أصل لها .
وأختلف الأصولين في دخول كثير من المسائل في علم الأصول خاصة مع الإختلاف في تعريف علم الأصول ، فمثلاً مباحث الألفاظ ذكر أنها من المباحث اللغوية ، وبعض الأصول العملية كالبراءة والإستصحاب ذكر أنها تتعلق بالإستدلال بالدليل ، وليس في أحوال وسنخية الدليل الذي هو موضوع علم الأصول .
وحتى باب الإجتهاد والتقليد ذكر أنه خارج علم الأصول ، لأنه لا يدخل في استنباط الأحكام الشرعية ، إلا بعض العلوم .
ومنها مبحث التعارض والتعادل والتراجيح ، لصدق تعريف علم الأصول عليه ، بلحاظ أنه القواعد الكلية العامة التي هي نوع طريق لإستنباط الأحكام الشرعية العملية الفرعية من أدلتها ، كما ذكرت له تعاريف متعددة .
إذا تعارضت الأخبار ، فاذا امكن الجمع يجمع بينها وإلا يؤخذ بأحدها لوجود المرجح أي لا تصل النوبة إلى التساقط .
نعم في الشهادات إذا تعارضت يكون التساقط حتى مع إمكان الجمع ، مثل تعارض البينتين ، ويطلب الحكم من دليل وبينة أخرى ، أو يرجع إلى أصالة البراءة .
ومن المرجحات في الرواية كثرة الرواة .
ودلائل طاعة الله والرسول ، ويستقرأ عدم التعارض من قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) وقوله تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] ( ).
وإن وقع التعارض في حكمين متناقضين كالإباحة والتحريم قيل بالتساقط والرجوع إلى البراءة .
واحتمال القرعة وهي سابقة للتعارض .
وإن لم يحصل الترجيح قيل بالتوقف .
أو القول بالتخيير .
ولا يعني التخيير عند التساقط أنه بحسب الحكم الواقعي لعدم تحقق إصابته ، ولو كان لبان ، ولترجح ، ولكن معناه أن التخيير مراد من الترديد، والأخذ بواحد منهما يكفي للإجزاء ، وفيه العذر عند الخطأ ، ولكي لا يبقى المكلف متردداً إذ أن الحكم منجز عليه ، فلابد من الأخذ بأمثل النصوص بخصوص المتعارضين ، وهي على شعبتين :
الأولى : عدم وجود مرجح لأحد المتعارضين ، وفيه أقوال :
الأول : التخيير .
الثاني : التساقط .
الثالث : التوقف عن الحكم .
الرابع : الإحتياط في حال العمل .
الثانية : وجود مرجح فيعمل به كما لو كان أحدهما متأخراً في زمان صدوره ، إذ يتبع الأحدث فالأحدث ، لتكون النسبة بينه وبين النسخ العموم والخصوص المطلق ، إذ يشمل التعارض الأحاديث والنصوص . والمختار أن السنة لا تنسخ القرآن ، وأن القرآن خال من التعارض ، وفي هذا الزمان وسعة فضاء التأليف ، والجمع والإحصاء نقترح ذكر وحصر الأحاديث التي يقال أنها متعارضة مثل خبر صلاة الضحى مثل خبر صلاة الضحى ، مثلاً ورد عن عبد الله بن شقيق قال (قلت لعائشة هل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى قالت لا الا ان يجئ من مغيبه) ( ).
(عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصليها اربعا) ( ).
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى حَتَّى نَقُولَ لَا يَدَعُهَا وَيَدَعُهَا حَتَّى نَقُولَ لَا يُصَلِّيهَا) ( ).
(عن أنس بن مالك : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي الضحى ست ركعات) ( ) .
(عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يصلي الضحى إلا أن يقدم من سفر أو يخرج) ( ).
وعن (معاذة قالت قلت لعائشة أكان النبي يصلي الضحى قالت نعم أربع ركعات ويزيد ما شاء الله عز و جل)( ).
(عاصم بن ضمرة : سألنا عليا عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمليته قبل قال في الخبر : إذا كانت الشمس من ههنا كهيئتها من ههنا عند العصر صلى ركعتين ، فهذه صلاة الضحى) ( ).
(عن أيوب بن صفوان عن مولاه عبد الله بن الحارث بن نوفل أن ابن عباس كان لا يصلي الضحى قال: فأدخلته على أم هانئ فقلت: أخبري هذا ما أخبرتني به.
فقالت أم هانئ: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح في بيتي ثم أمر بماء صب في قصعة ثم أمر بثوب فأخذ بيني وبينه فاغتسل ثم رش ناحية البيت فصلى ثمان ركعات، وذلك من الضحى قيامهن وركوعهن وسجودهن وجلوسهن سواء قريب بعضهن من بعض فخرج ابن عباس وهو يقول: لقد قرأت ما بين اللوحين ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن) ( ).
وفي ذات الصفحة ذكر ابن كثير ما يدل على أن ابن عباس لم يسمع من أم هانئ (عن موسى بن أبي كثير ،عن ابن عباس أنه بلغه: أن أم هانئ ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة صلى الضحى ثمان ركعات) ( ) .
والمختار أن حمل صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة على الشكر لله عز وجل ، خاصة وأن مقياس صلاة النوافل في الحضر وليس السفر (روي عن علي (عليه السلام) أنه خرج في يوم عيد فرأى ناسا يصلون فقال يا أيها الناس قد شهدنا نبي الله في مثل هذا اليوم فلم يكن أحد يصلي قبل العيد أو قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم .
فقال رجل يا أمير المؤمنين ألا تنهى أن يصلوا قبل خروج الإمام .
فقال لا أريد أن أنهي عبدا إذا صلى ولكنا نحدثهم بما شهدنا من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أو كما قال) ( ).
هذا الجزء المبارك
لقد نهض عدد من العلماء كابراً بعد كابر بوظائف تفسير آيات الذكر الحكيم ، واجتهدوا وبرعوا ، وصنفوا فرائد الكتب وأجادوا وافادوا الأجيال ، وفازوا بالذكر الحسن بين الناس ، والأجر والثواب في الآخرة .
ومن العلماء من إجتهد في شرح بعض المؤلفات في النحو والبلاغة واللغة وعلم الفقه والأصول والكلام ونحوها .
وأكثروا من الشروح عليها ، فمثلاً يؤلف أحد العلماء من المتقدمين كتاباً في الفقه أو الأصول ، فيتوالى عدد الذين يشرحون الكتاب ويعلقون عليه .
وجاء هذا الزمان لتكثر دراسات الماجستير والدكتوراه على ذات الكتاب المتن وعلى شروحه أيضاً ، وهي أمور علمية حسنة ، وتدل على الإرتقاء الفكري ، ولكن لو أجرينا مقارنة بين كتب تفسير وعلوم القرآن ، وهذه الشروحات لظهرت النسبة أن كتب التفسير هي الأقل ، إلى جانب الأصل وهو قانون تجلي صبغة القرآنية في هذه الشروح في العلوم المختلفة .
وقد أنعم الله عز وجل علينا بهذا السِفر المبارك وتوالي أجزاءه ، وقد صدرت أكثر أجزاءه باختصاص كل جزء بآية واحدة من القرآن ، لبيان قانون وهو أن علوم القرآن من اللامتناهي ، وليجتهد العلماء في الأجيال القادمة في التحقيق وصنوف التأويل .
الحمد لله الذي جعل هذا التفسير إشراقة علمية لم يرّ الـتأريخ مثلها ، ولم يحسب كثير من العلماء أن تصل أجزاء التفسير إلى هذا الكم والكيف ، إذ المدار ليس على كثرة الصفحات والأجزاء ، إنما على العلوم التي تتضمنها والمضامين القدسية بين ثناياها .
وهذا هو الجزء الخامس عشر بعد المائتين من تفسيري (معالم الإيمان في تفسير القرآن) ، ولا زلت في سورة آل عمران وهي السورة الثالثة في ترتيب القرآن بعد سورة الفاتحة وسورة البقرة ، وفي هذا التفسير استحداث علوم جديدة صدرت في كل منها أجزاء متعددة وهي :
الأول : قانون لم يغز النبي (ص) أحداً .
الثاني : قانون التضاد بين القرآن والإرهاب .
الثالث : قانون آيات الدفاع سلام دائم .
الرابع : قانون آيات السلم محكمة غير منسوخة .
وجاء هذا الجزء بالقانون الأخير أعلاه .
ومن فضل الله عز وجل أني أقوم بتأليف وتصحيح ومراجعة كتبي بمفردي وإلى حين طبعها وصدورها بلطف وعون ومدد من عند الله عز وجل .
وفي التنزيل [وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] ( ).
قال الإمام محمد الباقر عليه السلام (تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعلمه صدقة، وبذله لاهله قربة.
والعلم ثمار الجنة، وانس في الوحشة، وصاحب في الغربة، ورفيق في الخلوة، ودليل على السراء، وعون على الضراء، ودين عند الأخلاء، وسلاح عند الأعداء .
يرفع الله به قوما فيجعلهم في الخير سادة، وللناس أئمة، يقتدى بفعالهم، ويقتص آثارهم، ويصلي عليهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه) ( ).
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار سلم وسلام ، وهو لا يتعارض مع كونها دار بلاء وامتحان يستلزم الصبر ، وهل يحتاج السلم الصبر ، الجواب نعم .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة التي نعتها الله عز وجل بأنها دار السلام ، كما في قوله تعالى [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
والآخرة دار السلام للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ليصرف الله عز وجل الحرب والإقتتال من الناس في الحياة الدنيا ، ويتدبروا في أسرار الخلق، وحال فاقتهم وفقرهم في النشأتين ، وتتجلى معاني وصفة عبودية الناس العام لله عز وجل بإجتناب الإقتتال لذا تضمن هذا الجزء قراءة في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ) .
ومن معاني وغايات هذا الجزء بيان نزول القرآن قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة بالتعايش السلمي ، وتقبل الآخر وتنمية خصال المواطنة ، وتعاهد القوانين الوضعية التي هي سور الموجبة الكلية لأهل البلد ، وهل هي من السلم الذي ورد في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، الجواب نعم فمنه التعايش والتراحم والسلم المجتمعي ، والتقيد بالقوانين الوضعية وآداب المواطنة المقرونة بالسلم وروابط الأخوة العامة .
ويدل الأمر الإلهي بالدخول بالسلم ، وصيغة العموم بسور الموجبة الكلية (كافة) على التداخل بين الأفراد والأمم وأهل الملل المختلفة ، وأن الجامع المشترك بينها هو الإيمان والسلم .

وجوب الصيام والحج
لقد نزل القرآن بوجوب الصيام وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) وسياتي قانون الصيام دعوة للسلم .
ويتغشى وجوب الصيام مدة شهر كامل محصور بين هلالين هما هلال شهر رمضان وهلال شهر شوال لا يقبل النقيصة , وما زاد من الصيام يدخل في المستحب والمندوب والكفارات .
قال تعالى بخصوص شهر رمضان [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) .
وقال تعالى بخصوص هلال شهر شوال [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .ويلتقي الصيام والسلم بملاك الصبر ، فكل منهما يتقوم بالصبر وضبط النفس ، وسلامتهما من غشاوة الشهوة والغضب ،وعصمتهما والجوارح من اتباع خطوات الشيطان .
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية فرض الصيام على الغني والفقير ، والملك والأعوان ، والسيد والعبد بعرض واحد ، كما يتغشى المجتمعات الرأفة ويسود التراحم ، وتقبض الجوارح عن التعدي ومنها اللسان واليد ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ] ( ) وجوه :
إلاول : خير لكم في أنفسكم وصلاحكم .
الثاني : خير لكم في الأجر والثواب .
الثالث : خير لكم في العصمة من التعدي والظلم .
الرابع : خير لكم في اتخاذ شهر الصيام أمناً وسلاماً .
الخامس : خير لكم بعدم تعدي الناس عليكم في شهر الصيام .
فصحيح أن شهر رمضان ليس من الأشهر الحرم التي لا يجوز فيها القتال ، كما في قوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ).
ولكنه الشهر الوحيد الذي ورد اسمه في القرآن ، وقال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) .
لبيان ما له من القدسية ، وفي إطلالته على الأرض من النعم ونشره لألوية السلام ، وربما تبادر إلى أذهان كثير من الناس أن شهر رمضان شهر حرام ، وأنه لا يصح القتال فيه ابتداء أو استدامة .
والصوم رقابة ذاتية ، وتنمية لملكة الخشية من الله عز وجل والورع عن محارمه .
لذا أختتمت آية الصيام بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] وعندما يحين أوان الغروب من أي يوم من أيام شهر رمضان تجتمع الخشية والخضوع لله بأداء الصلاة والرخصة والجواز بالإفطار ، وأكل الطيبات ، ولا يعلم سر امتناع المسلم عن تناولها في النهار إلا الله سبحانه ، وهو من مصاديق الحديث القدسي الوارد (عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله جعل حسنة ابن آدم عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم ، والصوم لي وأنا أجزي به) ( ).
وتجب الزكاة وهي حق شرعي في المال المكتسب , وهذا الحق مقيد ببلوغ نصاب معين سواء في النقدين أو الغلات أو الأنعام , مع بيان القرآن لوجوه صرف الزكاة والمنع من الإختلاف والإجتهاد خلاف النص فيها, قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ) .
ويجب أداء حج بيت الله الحرام على الذي يمتلك الزاد والراحلة , قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) .
ومن خصائص الفرائض العبادية أنها رسالة سلام إلى الناس جميعاً وبها وبالتنزيل استطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجذب الكثير من الناس إلى الإسلام لما فيها من معاني العبودية والخضوع إلى الله عز وجل ، والنفع الخاص للناس في الحياة الدنيا والآخرة .
لقد جعل الله عز وجل البيت الحرام قبلة للمسلمين يتوجه كل واحد منهم إليه خمس مرات في اليوم وفيه دعوة للسلام , ومن معاني السلام العالمي في البيت الحرام قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
فلم ترد الآية بذكر المسلمين ولم تقل إن أول بيت وضع للمسلمين , إنما ذكرت الناس جميعاً ليكون من وجوه تقدير الآية إن أول بيت وضع للسلام بين الناس للذي ببكة مباركاً .
وهل السلم أو الحرب من البركة المذكورة أعلاه الجواب هو الأول.
وتقدير الآية : إن أول بيت وضع للناس للسلم بينهم وموضوع السلم هو أبهى وأشرف موضوع ، وهو عبادة الله والإنقطاع إلى طاعته .
ومنها تعاهد أوقات الصلاة وأداؤها في أوقاتها وعدم تأخيرها الجواب نعم
الحمد لله الذي جعل ذكره وقاية ودواء وحرزاً في النشأتين ، ومفتاحاً للبركة وسبيل مودة ونشراً للسلام بين العباد وفي البلاد .
ومن معاني قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) دعوة الناس للتآلف والوفاق , ونبذ الخصومة والإقتتال إن سور الموجبة الكلية الجامع بين الناس على وجوه :
الأول : تفضل الله عز وجل بالخلق والنشأة ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] ( ).
الثاني : الرزق الكريم من عند الله عز وجل للفرد والجماعة والشعب والأمة والناس جميعاً , لينهل الإنسان من الرزق الخاص والعام , فترى أهل القرية أو أهل البلدة , أو الوطن الواحد يفرحون بمكسب عام لهم , أو تصيبهم مصيبة فيتحدون في دفعها عامة وفيه طرد للغفلة وحضّ على الدعاء والمسألة .
الثالث : عبودية الناس جميعاً لله عز وجل وهو أسمى معاني الفخر .
الرابع : وجوب إتيان الفرائض العبادية , إذ أن الدنيا دار خضوع وخشوع لله عز وجل , ويتقوم هذا الخشوع بالتقوى , وإتيان الصلاة والفرائض العبادية الأخرى .
الحمد لله الذي جعل الصلاة ملازمة للإنسان من أول أيام هبوط آدم إلى الأرض , وهل يدفع ويرجئ أداء الناس الصلاة أوان يوم القيامة , ويؤخر زوال النعم ويمنع من فناء الدنيا إلى أجل .
المختار نعم , وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) وفيه ترغيب وبعث للناس للتقيد بآداب العبادة والذكر ، ودعوة لهم لتعاهد السلم .
وهل هو من أسرار عدم تعيين أوان قيام الساعة قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) المختار لا , إذ أن الله عز وجل يعلم مقدار وكم وكيف أعمار الناس ودعاءهم , وما يمحوه ومدة إبعاد أو تقريب يوم القيامة, ولكنه جعل أمره خاصاً به سبحانه لأنه من علم الغيب الذي انفرد به سبحانه وليجتهد الناس في الدعاء والذكر , ويحذروا النفخ في الصور في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار .
قال تعالى [وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ] ( ).
وعن (أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ما من صباح إلا وملكان موكلان بالصور ينتظران متى يؤمران فينفخان) ( ).
وأحاديث الصور عديدة ومستفيضة وبعضها يتصف بالطول للدلالة على موضوعيتها , وتدل بالدلالة التضمنية على أن الملك الموكل بالنفخ لا يعلم هو الآخر أوان قيام الساعة ولا يحيط بأسباب وعلل وغايات إخفاء أوان الساعة عن الخلائق إلا الله سبحانه , وهو مناسبة لتجديد الحمد والشكر له تعالى كل صباح على إستدامة الحياة وإطلالة يوم جديد .
في منهجية التفسير
الحمد لله الذي تفضل عليًّ بكتابة هذا السِفر ، وبلوغه هذا العدد من الأجزاء ، والكيف المبارك ، فما هو أهم من العدد فيه من جهات :
الأولى : إستنباط الأحكام .
الثانية : إستقراء الدلائل .
الثالثة : تأسيس وأنشاء آلاف القوانين .
الرابعة : استخراج العلوم من المضامين القدسية لآية القرآنية ، وعظيم نفعها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الخامسة : بيان ذخائر من علوم الصلة بين الآية القرآنية وآية مجاورة لها .
السادسة : إظهار وجوه من تجليات الإعجاز في الآية القرآنية ، وكان الأنبياء يأتون بالمعجزات الحسية مثل سفينة نوح ، وناقة صالح ، وعصا موسى ، وإحياء عيسى الموتى ، فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزة العقلية وهو القرآن ،فقال تعالى بالإشارة إلى هذا التعدد في سنخية الإعجاز [وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
السابعة : الغوص في ذخائر الآية القرآنية .
فبعد أن كان علماء التفسير يفسرون الآية ببضعة سطور أو أكثر قليلاً , تضمن هذا السِفر تفسير الآية الواحدة بجزء كامل أو أكثر ، وبتحقيق واستنباط واستدلال مستحدث من مضامين الآية القرآنية .
ومن الآيات ما جاءت أربعة أجزاء في تفسيرها , كما في قوله تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ في آية علمية حاضرة تبين مصاديق قانون : علوم القرآن من اللامتناهي .
ومن فضل الله عز وجل أني أقوم بتأليف ومراجعة وتصحيح كتبي بمفردي , وأرجو إستدامة فضل الله تعالى في استدامة هذه النعمة .

قانون عصمة القرآن من الإرهاب
ليس في القرآن لفظ (إرهاب) و(عنف) و(تطرف) و(تفجير) لبيان موضوعية المواطنة والقوانين الوضعية في هذا الزمان وكيف أن أفراد الشعب متساوون في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الملة والمذهب والقومية.
ومن إعجاز القرآن أنه ذكر كلمة (الشعوب) مرة واحدة في القرآن ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( )، وليس لتتحاربوا وتزاولوا الإرهاب واللام في [لِتَعَارَفُوا] لام التعليل ، والتعارف مثل التحية والسلام ضد للإرهاب ، وجاء القرآن بالزجر عن القتل وسفك الدماء بالعقوبة الشديدة ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
وقد تقدم في الجزء الرابع والتسعون من هذا التفسير إمكان القول بقانون كل آية قرآنية دعوة سماوية للفلاح( ) .
وهل يمكن القول بأن كل آية من القرآن دعوة سماوية للسلم ، وما هي النسبة بين القانونين أعلاه ، الجواب نعم ، والنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق ، فالفلاح أعم ، والسلم شعبة منه ، وسبيل إليه ، إذ أن الإمتناع عن الهجوم والقتال من سبل الفلاح.
و(عن عبد الله بن عَمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “قد أفلح من أسلم ورُزق كفافا، وقَنَّعه الله بما آتاه”.)( ).
(وأخرج البيهقي عن عسعس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد رجلاً فسأل عنه ، فجاء فقال : يا رسول الله إني اردت أن آتي هذا الجبل فأخلوا فيه واتعبد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لصبر أحدكم ساعة على ما يكره في بعض مواطن الإِسلام خير من عبادته خالياً أربعين سنة .
وأخرج البيهقي من طريق عسعس بن سلامة عن أبي حاضر الأسدي : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد رجلاً فسأل عنه ، فقيل : إنه قد تفرد يتعبد .
فبعث إليه فأتى إليه فقال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا إن موطناً من مواطن المسلمين أفضل من عبادة الرجل وحده ستين سنة .
قالها ثلاثاً) ( ).
وعسعس هو عسعس بن سلامة البصري التميمي كنيته أبو صفرة ، والمختار أنه تابعي ، ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وروايته مرسلة ، وقال روى عنه الحسن البصري، والأزرق بن قيس الحارث ، وقال ابن عبد البر (يقولون حديثه مرسل ) ( ) كأنه يحتمل سماعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الحمد لله الذي لا تستعصي عليه مسألة في الأرض ولا في السماء ، فتفضل بتغشي رحمته للخلائق كلها في إيجادها ووجودها وسلامتها ، والمنع من زوالها إلا بمشئيته وقدرته ، ومن رحمته تعالى سيادة مفاهيم السلم في الأرض ، والمنع من إنتشار الحروب والإقتتال بين الناس ، وغلبة النفس الغضبية والشهوية ، أو اتباع إغواء الشيطان الذي يريد للناس الفتنة وسفك الدماء ، وليس من نبي إلا ورفع لواء السلم والسلام في الأرض ، وهو لا يتعارض مع قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) بلحاظ أن قتال الأنبياء دفاع وضرورة ، وهو من الشواهد على أن آيات السلم محكمة غير منسوخة ، لأن الأصل في منهاج الأنبياء هو السلم ، لبيان وجوه :
الأول : قانون الإحكام وعدم النسخ في منهاج السلم للأنبياء .
الثاني : قانون عدم التعارض بين منهاج الأنبياء وآيات السلم في القرآن .
الثالث : قانون الإتعاظ من قصص الأنبياء ، وكيف أنهم دعاة إلى الله بالحجة والبرهان .
قانون المغيبات في السنة النبوية
يدل الإعجاز في السنة النبوية على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول من عند الله ، ومن وجوه الإعجاز في السنة النبوية :
الأول : إعجاز الوحي والتنزيل .
الثاني : الإعجاز العلمي .
الثالث : الإعجاز البياني .
الرابع : الإعجاز في سوح الدفاع .
الخامس : الإعجاز في السنة القولية .
السادس : الإعجاز في السنة الفعلية .
السابع : الإعجاز في السنة التدوينية .
الثامن : الإعجاز الغيبي .
وهذا الإعجاز على أقسام :
الأول : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مغيبات من الزمن الماضي ، كما في قصص الأنبياء ، لذا قال الله تعالى [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ] ( ) الذي ورد مرتين ، مرة في قصة يوسف وأخرى في قصة مريم ومنزلتها الرفيعة عند الله عز وجل .
الثاني : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الواقع الحاضرة ، كما في إخباره عن موت النجاشي ، إذ نعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النجاشي في اليوم الذي مات فيه ، (وَذَكَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ صَلّى عَلَى النّجَاشِيّ ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ وَكَانَ مَوْتُ النّجَاشِيّ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَنَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى النّاسِ فِي الْيَوْمِ الّذِي مَاتَ فِيهِ وَصَلّى عَلَيْهِ بِالْبَقِيعِ ، رُفِعَ إلَيْهِ سَرِيرُهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتّى رَآهُ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فَصَلّى عَلَيْهِ وَتَكَلّمَ الْمُنَافِقُونَ فَقَالُوا : أَيُصَلّي عَلَى هَذَا الْعِلْجِ ؟
فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : وَإِنّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ.
وَمِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ أَبَا نيزر مَوْلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، كَانَ ابْنًا لِلنّجَاشِيّ نَفْسِهِ وَأَنّ عِلّيّا وَجَدَهُ عِنْدَ تَاجِرٍ بِمَكّةَ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ وَأَعْتَقَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ أَبُوهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ .
وَذَكَرَ أَنّ الْحَبَشَةَ مَرِجَ عَلَيْهَا أَمْرُهَا بَعْدَ النّجَاشِيّ ، وَأَنّهُمْ أَرْسَلُوا وَفْدًا مِنْهُمْ إلَى أَبِي نيزر ، وَهُوَ مَعَ عَلِيّ لِيُمَلّكُوهُ وَيُتَوّجُوهُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ فَأَبَى وَقَالَ مَا كُنْت لِأَطْلُبَ الْمُلْكَ بَعْدَ أَنْ مَنّ اللّهُ عَلَيّ بِالْإِسْلَامِ .
قَالَ وَكَانَ أَبُو نيزر مِنْ أَطْوَلِ النّاسِ قَامَةً ، قَالَ وَلَمْ يَكُنْ لَوْنُهُ كَأَلْوَانِ الْحَبَشَةِ ، وَلَكِنْ إذَا رَأَيْته قُلْت : هَذَا رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ) ( ).
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما من ساعة من ليل او نهار إلا والسماء تمطر فيها ، يصرفه الله حيث يشاء .
(أخرج البيهقي عن جرير البجلي قال قدمت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلبست حلتي ودخلت وهو يخطب فرماني الناس بالحدق فقلت لجليسي هل ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمري شيئا قال نعم ذكرك بأحسن الذكر بينما هو يخطب إذ عرض له في خطبته فقال ( إنه سيدخل عليكم من هذا الباب أو من هذا الفج من خير ذي يمن وإن على وجهه لمسحة ملك ) ( ).
ومنها إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن انتشار الأمن والأمان في ربوع الجزيرة ، للعصمة من الإرهاب ومن سفك الدماء والعنف والتطرف والقتل غيلة وغدراً وطمعاً بالسلب .
ومنها إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفتح القسطنطينية مع أن المسلمين كانوا في حال استضعاف وفقر وفاقة ، لتفتحن القسطنطينية ، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش .
والحديث صححه الحاكم والذهبي .
(عن عبد الله بن بشر الخثعمي عن أبيه انه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لتفتحن القسطنطينية، ولنعم الامير أميرها، ونعم الجيش ذلك الجيش) ( ).
وفتحت القسطنطينية سنة (853) هجرية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح .
كما ورد فتحها وجبل الديلم في الحديث النبوي أنه يتم على يد الإمام المهدي عجل الله فرجه (عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله قال: لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي يفتح القسطنطينية وجبل الديلم ولو لم يبق إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يفتحها) ( ) .
ولا تعارض بين الخبرين ، ويمكن الجمع بينهما ، ولعله من عمومات قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
(عن عبدالله بن بشر الغنوي حدثني أبي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ، ولنعم الجيش ذلك الجيش .
وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن أبي قبيل قال : تذاكر فتح القسطنطينية والرومية أيهما تفتح أولاً فدعا عبدالله بن عمر بصندوق ففتحه فأخرج منه كتاباً قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نكتب فقيل : أي المدينتين تفتح أوّلاً يا رسول الله قسطنطينية أو رومية؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مدينة هرقل تفتح أوّلاً يريد القسطنطينية) ( ).
ومنها فتح فارس .
ومنها حديث عدي بن حاتم الطائي ، وإخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له عن فتح الحيرة ،وعن الأمن والأمان في في ربوع الأرض بالإسلام وأحكامه الإسلام في عتاب إلى عدي لتخلفه من دخول الإسلام ، ليصبح من الصحابة الأجلاء .
وفي حديث طويل (قال عدي: فأسلمت فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد استبشر فقد رأيت الظعينة ترحل من الكوفة حتى تطوف بالبيت لا تخاف الا الله عز وجل، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بكم حياة سترون ما قال أبو القاسم صلى الله عليه وآله وسلم.) ( ).
وأشراط وعلامات الساعة التي جاءت في السنة النبوية ببيان جلي شاهد على صدق نبوته .
كتائب لم يقاتل فيها النبي
من معاني السلم في كتائب وسرايا التبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن أغلبها لم يقع فيها قتال ، ومنها :
الأولى : كتيبة بواط في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة ( ).
الثانية : كتيبة بدر الأولى في ذات الشهر أعلاه .
الثالثة : كتيبة ذات العشيرة في شهر جمادى الأولى من السنة الثانية للهجرة .
الرابعة : كتيبة السويق ، إذ غزا أبو سفيان ومعه مائتا رجل من المشركين أطراف المدينة في الخامس من شهر ذي الحجة ، وهو شهر حرام ، والأصل عناية قريش فيه بوفد الحاج ، وقتلوا اثنين من المسلمين في حرث لهما ، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طلبهم فانهزموا وخلفوا سويقاً كثيراً لتخف أثقالهم ،ولم يلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتالاً .
وسميت غزوة السويق ، وفي هذه التسمية خزي للمشركين لأن الغنائم كانت سويقاً تركوه خلفهم ، والسويق طعام من مدقوق الحنطة أو الشعير ، وسمي به لإنسياقه في الحلق ، وهو طعام الأنبياء .
الخامسة : كتيبة حمراء الأسد ، إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف جيش المشركين في اليوم التالي لواقعة أحد ، أي في اليوم السادس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، عندما بلغه عزمهم على العودة والإغارة على المدينة .
ووصل إلى حمراء الأسد وأقام فيها ثلاثاً ، وعاد ولم يلقى قتالاً ، وفيها نزل قوله تعالى الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ.
السادسة : كتيبة ذات الرقاع في شهر جمادى الأولى من السنة الرابعة للهجرة ، ومع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعمائة من الصحابة ، وتواجه الجمعان ، ولم يقع قتال ، ونزلت آية صلاة الخوف [وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا]( ).
السابعة : كتيبة بدر الموعد ، إذ خرج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ألفان من المهاجرين والأنصار في شهر شعبان من السنة الرابعة بناء على موعدة من أبي سفيان عند إنسحابه من معركة أحد .
وخرج أبو سفيان أيضاً للموعد في ألفين من المشركين ، ولكن بعث الله الخوف في قلوبهم ، وبين صفوفهم فرجعوا من مرّ الظهران بذريعة أنه عام جدب ، ليكون قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) في معركة أحد بشارة عدم وقوع قتال في بدر الموعد بخزي المشركين .
الثامنة : كتيبة دومة الجندل في شهر ربيع الأول من السنة الخامسة للهجرة، إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة ومعه ألف من الصحابة بعد أن بلغه أن أهل دومة الجندل يخططون للقيام بغزو المدينة ، ولم يلق قتالاً.
التاسعة : كتيبة بني لحيان ، فبعد أن جاء إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خبر قتل سبعين من القراء في بئر معونة توجه بالدعاء ثلاثين صباحاً على رعل وذكوان وبني لحيان ، ثم سار في مائتين من أصحابه نحو بني لحيان في شهر محرم من السنة السادسة للهجرة ، وقيل فيها نزلت صلاة الخوف ، ولا مانع من تكرار الأمر .
عن البيهقي (لما أصيب خبيب وأصحابه خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طالبا بدمائهم ليصيب من بنى لحيان غرة، فسلك طريق الشام ليرى أنه لا يريد بنى لحيان حتى نزل بأرضهم فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رءوس الجبال، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” لو أنا هبطنا عسفان لرأت قريش أنا قد جئنا مكة “.
فخرج في مائتي راكب حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين حتى جاءا كراع الغميم (ثُمّ كَرّ وَرَاحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَافِلًا) ( ).
وكان (جابر بن عبدالله يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول حين وجه آيبون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون
أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسواء المنظر في الاهل والمال)( ).
فذكر أبو عياش الزرقى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بعسفان صلاة الخوف.
وعن مجاهد، عن ابن عياش، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الظهر ، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم.
ثم قالوا: تأتى الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم.
قال: فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر: ” وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة “( ).
قال: فحضرت، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذوا السلاح، فصففنا خلفه صفين، ثم ركع فركعنا جميعا، ثم رفع فرفعنا جميعا، ثم سجد بالصف الذى يليه ، والآخرون قيام يحرسونهم، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء.
قال: ثم ركع
فركعوا جميعا ثم رفع فرفعوا جميعا، ثم سجد الصف الذى يليه والآخرون قيام يحرسونهم، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم.
ثم انصرف.
قال: فصلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرتين، مرة بأرض عسفان، ومرة بأرض بنى سليم) ( ).
قانون آيات القتال لمنع القتال
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً بمبادئ الشريعة وأحكام الحلال والحرام ، وابتدأ دعوته بنداء التوحيد (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) وهذا النداء من رشحات آيات القرآن التي توالى نزولها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي يقوم بتلاوتها وتبليغها حال نزولها مما أغاظ المشركين وجعل رؤساءهم يحرض بعضهم بعضاً ضده ، ثم تدارسوا كيفية التخلص منه ومن نزول القرآن .
وقد أبى الله عز وجل إلا أن يتم نزولها ، ولا تنزل على غيره أبداً [صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ] ( ) فتفضل الله ونجاه من كيد كفار قريش، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
فقام المشركون بتجهيز الجيوش لقتاله وأصحابه الذين كانوا قلة من جهة العدد مع النقص في أسلحتهم وأمتعتهم .
ولو دار الأمر بخصوص أسباب معركة بدر بين أمور :
الأول : عزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الإستيلاء على قافلة أبي سفيان .
الثاني : إرادة المشركين الإجهاز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قبل أن يكثر عددهم بعد الحجج الظاهرة والمعجزات الواضحات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : تشريع القتال في الإسلام .
والمختار هو الثاني ، إذ تدل أسباب نزول آيات القرآن وأخبار السنة النبوية وحال الضعف التي كان عليها المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد في خروجه من المدينة الإستيلاء على قافلة أبي سفيان ، إنما كان في كتيبة استطلاع وتبليغ .
ولو أراد الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الإستيلاء على قافلة أبي سفيان لأوحى إليه بالخروج بالوقت المناسب ، ولتلقاها في مكان مخصوص وقطع عليها الطريق خاصة وأنه لم يكن معها رجال كثيرون ، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبي السلام الذي يمتنع عن القتال والتعدي والظلم .
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بعثت بالحنيفية السمحة)( ).
وقد نزل القرآن بقوله تعالى [رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ] ( )رجاء التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من وجوه :
الأول : التكاليف العبادية .
الثاني : ضروب البلاء .
الثالث :المصائب والمحن .
الرابع : الكتدر والتعب في أمور الكسب والمعاش .
الخامس : القتال والحرب ، وهو أشدها على النفوس والمجتمعات ،لذا قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
مما يدل على أن المسلمين لا يرغبون في القتال ، ومع هذا فقد انتصروا بسبب إصرار الذين كفروا على القتال .
ولقد كانت واقعة بدر يوماً سالت فيه الدماء ، وسقط القتلى في الطرفين، ولم يقصده النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان يرجو ألا يقع قتال يومئذ ، وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية أعلاه [وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ].
ومن إعجاز القرآن أن آيات القتال معدودة وعددها نحو (38) آية وآيات الجهاد والنفير نحو (32) آية وكلها آيات دفاع واحتراز من مجموع آيات القرآن البالغة (6236)آية ، ولا تؤخذ الآية عند التفسير بمفردها، ففي القرآن كل من :
الأول : المطلق والمقيد .
الثاني : العام والخاص .
الثالث : المجمل والمبين .
الرابع : الناسخ والمنسوخ .
ومن أجل استقراء القواعد واستنباط القوانين من آيات القرآن في المقام لابد من الجمع بين آيات القتال التي هي آيات دفاع وآيات السلم ، واستخلاص الأحكام منها ، فمع التضاد بينهما ، فان الموضوع متحد .
فاما السلم أو الحرب بين الطرفين ، لذا قال تعالى بخصوص معركة بدر وأحد [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) لبيان أن المسلمين متحدون في الإيمان ، وأن المشركين يقاتلون من أجل بقاء مفاهيم الكفر والضلالة ، والدلالة على التضاد بينهما.
لقد نزلت آيات القتال لتكون شاهداً على إضطرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للدفاع ، وصدّ غزوات وهجوم الذين كفروا ، وهي من مصاديق الضرورات تقدر بقدرها ، فالأصل في البعثة النبوية هو حال السلم والأمن واللاحرب .
ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة صابراً يتحمل هو وأهل بيته وأصحابه الأوائل أشد الأذى من قريش ، دون أن يردوا عليهم ، ليس عن ضعف ولكنه الإيمان والصبر والحلم ، والحجة بتوالي المعجزات .
وإلا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل معركة بدر وعدد أصحابه أقل من ثلث عدد جيش المشركين ، وكان النصر والغلبة له ولأصحابه ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وعندما بايعه وفد الأنصار في العقبة لم يشترط عليهم القتال معه ، إنما كانت البيعة على مرحلتين :
الأولى : في بيعة العقبة الأولى في السنة الثانية عشرة للبعثة النبوية الشريفة ، إذ بايع اثنا عشر رجلاً من الأوس والخزرج النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الإعجاز في السنة النبوية وتأريخ الصحابة ذكر وتوثيق أسماء هؤلاء الأنصار لما فيه من السمو والحجة والبرهان وموضوع البيعة.
وأنها لم تكن للدفاع لذا سميت بيعة النساء( ).
وكانت مادة البيعة من وجوه :
الأول : عدم الإشراك بالله ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا] ( ).
الثاني : الإمتناع عن السرقة .
الثالث : التنزه عن الزنا .
الرابع : إجتناب الوأد وقتل الأولاد ، قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا] ( ) لبيان أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس ، وهي إصلاح للمجتمعات ، وتهذيب لعالم الأفعال وضبط السلوك وفق أحكام الشريعة السماوية السمحاء .
وهو من الشواهد على أن الإسلام دين السلام وحقن الدماء والمنع من مقدمات التعدي والظلم.
قانون الأخلاق الحسنة صرح سلام
لقد أبتنت الحضارات على الوحي ورسالات الأنبياء التي تتقوم بمكارم الأخلاق ، ومنها :
الأول : الصدق .
الثاني : التقوى .
الثالث : الإجتهاد في التبليغ .
الرابع : تعاهد الصلاة والنسك .
الخامس : الأمانة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا] ( ) .
السادس : الكرم .
السابع : الإيثار ، قال تعالى [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ]( ).
الثامن : العدل والإنصاف ، قال تعالى [اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ( ).
التاسع : الشكر لله والثناء عليه .
العاشر : حفظ اللسان والجوارح .
الحادي عشر : الرحمة والرفق .
الثاني عشر : الشورى ، قال تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]( ).
الثالث عشر : الوفاء بالعهد .
الرابع عشر : نشر السلم والسلام .
الخامس عشر : القناعة .
السادس عشر : التواضع .
السابع عشر : المروءة .
الثامن عشر : الشجاعة .
التاسع عشر : رفع لواء السلم .
العشرون : المساواة .
الواحد والعشرون : إجتناب المعاصي والفواحش ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] ( ).
الثاني والعشرون : التنزه عن التعدي والظلم ، قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
وبما أن الله عز وجل يحب الأنبياء واختارهم من بين الناس لأسمى مرتبة وهي النبوة فلابد أنهم منزهون عن التعدي ولذا ورد قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفضل الله عز وجل في تقوم سنته بالوحي والتنزيل ، وبلحاظ حال الأنبياء السابقين تحتمل الآية وجوهاً :
الأول : كل الأنبياء كانوا على خلق عظيم .
الثاني : اختصاص الخلق العظيم بالرسل .
الثالث : شطر من الأنبياء على خلق حميد ، وشطر على خلق عظيم وهو أعلى مرتبة .
الرابع : إنفراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخلق العظيم .
والصحيح هو الأول أعلاه .
وفي الحديث : ما وُضِع في الميزان شيء أثقل من حسن الخُلق) ( )، وفيه توكيد لأمور :
الأول : موضوعية الأخلاق الحميدة بالذات.
الثاني: حسن الخلق مقدمة ووعاء لفعل الصالحات.
الثالث: إتصاف المسلم بالخلق الحسن وسيلة لجذب الناس للإيمان وشاهد على إقراره بإنقضاء أيام الدنيا ووقوفه بين يدي الله للحساب.
الرابع: حسن الخلق تأس وإتباع لسنة وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ليكون من معاني الآية أعلاه دعوة المسلمين إلى حسن الخلق، وزجرهم عن الطبائع المذمومة كالغلظة والعبس والغضب وحدة المزاج ونحوها ليكون من باب الأولوية الإمتناع عن العنف والإرهاب.
ويتقوم علم الأخلاق بأمرين :
الأول : تهذيب النفس وإصلاح الذات.
الثاني : تقويم الأفعال، وإتصاف السلوك بالحسن والإمتناع عن الربا مصداق لكل فرد منها، ومدرسة في الصلاح إلى جانب موضوعية التقوى في علم الأخلاق.
وفي الخبر : التقوى رئيس الأخلاق) ( )، والتقوى أصل وفرع، وموضوع وحكم، وسبب ونتيجة.

أسواق مكة
الأسواق جمع سوق ، وهو الموضع الذي يعرض فيه الناس بضائعهم ، ويتم فيه البيع والشراء ، ويتكون من مجموعة حوانيت ودكاكين ، أو بضائع مبسوطة على الأرض على نحو المجموعات المستقلة .
وتقع مكة بين جبال وعرة من الجهات الأربعة ، في واد ليس فيه ماء أو زراعة ، مما يعني عدم صلاحيتها للسكن والحياة ، وحتى في هذا الزمان حينما يقطع وفد الحاج الطريق إلى مكة يجد آلاف الكيلو مترات مثل موضع مكة من جهة انعدام الماء والزراعة ، وخالية من السكن ، لبيان قانون وهو عمارة مكة معجزة من عند الله عز وجل للنبي إبراهيم عليه السلام ، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل حكاية عن إبراهيم [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]( ).
وقال تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
لبيان قانون عمارة أسواق مكة من أيام إبراهيم ودعائه إلا على القول بتأخر استجابة الدعاء والأقرب هو الأول ، إذ نبع ماء زمزم في أيام ابراهيم واسماعيل بمعجزة من عند الله إذ نزل جبرئيل وضرب بجناحه الأرض ليتدفق الماء فيشرب منه الرضيع إسماعيل الذي كانت أمه تهرول بين الصفا والمروة طلباً للماء لشدة عطشه وخشية عليه من الموت فصارت هاجر تزمه بالتراب أي تحوطه بالتراب خشية فقدان الماء .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يرحم الله هاجر لو تركت زمزم لكانت عيناً معيناً( ).
ولم ينقطع ماء زمزم من ذلك الحين .
ويبعد البئر (20) متراً عن جدار الكعبة وهو من أقدم الآبار في الأرض وكان من أسباب عمارة الموضع ، وتختلف مكة عن غيرها من المدن إذ أن عمّارها على قسمين :
الأول : المقيمون فيها على نحو دائم ، وابتدأ بإسماعيل وذريته وقبيلة جرهم .
الثاني : الذين يفدون للحج والعمرة ، فنمت وازدهرت أسواق مكة .
ومنهم من ينسب بداية هذا الإزدهار ، والإستقرار إلى قصي بن كلاب وهو جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرن الخامس قبل الهجرة تقريباً ، ولكنه بدأ مع أيام إبراهيم وإسماعيل وترشح هذه البداية عن النبوة من مصاديق البركة في البيت الحرام وقوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
وهل من صلة بين ذكر القرآن لمقام إبراهيم وبين عمارة وأسواق مكة ، الجواب نعم ، وقد ورد ذكر المقام في القرآن مرتين :
الأولى : قوله تعالى [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
الثانية : قوله تعالى [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
إذ تجمع الآية أعلاه من سورة البقرة بين أمور :
الأول : عودة الناس للبيت الحرام .
الثاني : الأمن والسلام في جوار البيت الحرام .
الثالث : إتخاذ مقام إبراهيم محلاً للصلاة لله تعالى ، وفيه تحذير من نصب الأصنام في البيت .
الرابع : تطهير البيت لكل من :
الأول : الذين يطوفون بالبيت أشواطاً .
الثاني : العاكفون في البيت أي المقيمون فيه ، لأن العكوف لغة هو لزوم المكان والإقامة فيه .
و(عن ابن عباس قال : إذا كان قائماً فهو من الطائفين ، وإذا كان جالساً فهو من العاكفين ، وإذا كان مصلياً فهو من الركع السجود)( ).
الثالث : المصلون من الراكعين والساجدين ، ويدل قوله تعالى [وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
على أن الصلاة وجزئية الركوع والسجود منها ليس أمراً مستحدثاً في أيام نبوة محمد إنما هو تشريع من أيام إبراهيم عليه لاسلام ومن قبله من الأنبياء لبيان قانون وهو أن المسلمين ورثة الأنبياء في أداء الصلاة وكيفيتها.
ليكون من معاني لفظ (مقام ابراهيم) أيها الناس اقيموا في مكة للصلاة والطواف ، واقتدوا بالأنبياء والرسل واختلف في الأفضلية بين الطواف وصلاة النافلة في البيت على وجوه :
الأول : الطواف هو الأفضل لأن الله عز وجل قدّمه على الصلاة في قوله تعالى [وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( )، ولكن هذا التقدير لا يصح دليلاً في المقام لأنه جاء حتى على الصلاة الواجبة وصلاة الجماعة ، ولكن التقديم لكثرة الطائفين ، وأن الطواف يستلزم مسافة أكبر لابد من تطهيرها .
الثاني : الصلاة أفضل .
الثالث : التفصيل وهو الصلاة أفضل لأهل مكة ، والطواف أفضل لأهل الأمصار (عن مجاهد قال : الصلاة لأهل مكة أفضل والطواف لأهل العراق)( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : من أقام بمكة سنة فالطواف أفضل له من الصلاة ومن أقام سنتين خلط من ذا ومن ذا ومن أقام ثلاث سنين كانت الصلاة أفضل( ).
ومن مصاديق أفضلية الصلاة في قول إبراهيم كما ورد في التنزيل [رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]( )، وصارت القوافل تفد على مكة من أنحاء الجزيرة من غير حرب أو قتال بينها وأزدهرت أسواق مكة سواء بالبيع بالدينار والدرهم أو بالمقايضة ، واعتنت جرهم وخزاعة وذرية إبراهيم بالتجارة فيها .
فكان اللقاء نسك وعبادة واستمر تدفق الماء من زمزم وفيه دعوة للناس للحج والعمرة والإقامة في مكة ، وتربية الأنعام إلى أن ردمها الحارث بن مضاض زعيم جرهم بعد أن ألقى في البئر أمواله والسيوف لأن ماءه ونضبت بعد إسراف وطغيان قومه ، وهجمت عليهم خزاعة وأعمق حفر بئر زمزم ، ودفن فيها ما كان مدخراً من الذخائر للكعبة وأهال عليها التراب رجاء عودة جرهم إلى مكة والحكم فيها ، ولكن خزاعة استمرت بالحكم في مكة نحو ثلاثة قرون إلى أن غلبت عليها قريش إلى أن رآى عبد المطلب رؤيا بحفر بئر زمزم من جديد لتصبح السقاية والرفادة في آل عبد المطلب وابنائه وورثتهم ، وليس من أوان محدد لإبتداء أسواق مكة.
والمختار أنها بدأت مع أيام إبراهيم وإسماعيل ثم توسعت وازدادت هذه الأسواق ومنها ما صار دائمياً تلبية لحاجات أهل مكة والمعتمرين إذ تعرض فيها الحبوب والتمور والإقط والجلود ، والثياب ، والخيول ، والحمير ، والسيوف ، والدروع ، والرماح ، والطيب كالمسك والعنبر والبخور والأصباغ مثل الزعفران والكتم والحناء .
وهي من الشواهد على الحركة التجارية الدائمة لقريش ، وقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ]( )، وشاركت نساء قريش في التجارة مما يدل على حسن المعاملة والوثاقة .
ومن الأسواق الدائمة في مكة :
الأول : سوق الحزورة .
وضبطت الأوزان في مكة ، وكان الوزانون يستخدمون الفضة وأقرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ويدل قوله تعالى [وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا]( )، أي يجتهد النبي بالكسب والحلال ، ويلاقي ما معانيه الناس من الجهد والتعب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
و(عن ابن عباس قال : لما عيّر المشركون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفاقة فقالوا : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك ونزل عليه جبرئيل من عند ربه معزّياً له فقال : السلام عليك يا رسول الله ، ربّ العزة يقرئك السلام ويقول لك [وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ]( )، ويتّبعون المعاش في الدنيا .
قال : فبينا جبرئيل عليه السلام والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتحدّثان إذ ذاب جبرئيل حتى صار مثل الهردة ، قيل : يا رسول الله وما الهردة .
قال : العدسة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا جبرئيل مالك ذبت حتى صرت مثل الهردة .
قال : يا محمد فتح باب من أبواب السماء لم يكن فتح قبل ذلك،
فتحوّل الملك وأنّه إذا فُتح باب من السماء لم يكن فُتح قبل ذلك فتحوّل الملك ، إمّا ان يكون رحمة أو عذاباً وإنّي أخاف أن يعذب قومك عند تعييرهم إياك بالفاقة .
فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم وجبرئيل عليه السلام يبكيان إذ عاد جبرئيل فقال : يا محمد أبشر ، هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضى من ربّك .
فأقبل رضوان حتى سلّم ، ثم قال : يا محمد ، ربّ العزة يقرئك السلام ومعه سفط من نور يتلألأ ويقول لك ربّك : هذه مفاتيح خزائن الدنيا مع ما لا ينتقص لك مما عندي في الآخرة مثل جناح بعوضة .
فنظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبرئيل عليه السلام كالمستشير له فضرب جبرئيل بيده الأرض .
وقال : تواضع لله.
فقال : يا رضوان لا حاجة لي فيها ، الفقر أحبّ اليّ ، وأن أكون عبداً صابراً شكوراً.
فقال رضوان : أصبت أصاب الله بك.
وجاء نداء من السماء فرفع جبرئيل رأسه فإذا السموات قد فتحت أبوابها إلى العرش ، وأوحى الله سبحانه وتعالى إلى جنة عدن أن تدلي غصناً من أغصانها عليه عذق عليه غرفة من زبرجدة خضراء لها سبعون ألف من ياقوتة حمراء.
فقال جبرئيل : يا محمد ارفع بصرك فرفع فرأى منازل الأنبياء وغرفهم وإذا منازله فوق منازل الأنبياء فضلاً له خاصة ومناد ينادي : أرضيت يا محمد.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : رضيت ، فاجعل ما اردت أن تعطيني في الدنيا ذخيرة عندك في الشفاعة يوم القيامة، ويروون أنّ هذه الآية أنزلها رضوان [تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا] ( ) ( ).
ومن خصائص الأسواق الدائمية في مكة أنها قريبة من الحرم ، ومن معاني سورة قريش اتصاف قريش بالكرم والسخاء خاصة في موسم الحج ، كما كانوا يقرئون الضيوف ، ويعطون الشعراء ، ويحبسون بعض الريع لطعام العامة ، ويحملون الهدايا من الخيول والسيوف والأدم إلى الملوك والرؤساء .
وفي وفود أبي سفيان على كسرى ملك فارس ورد عن ( عبد الله بن دينار عن عبد الله بن بكر المري قال: قال أبو سفيان: أهديت لكسرى خيلاً وأدماً فقبل الخيل ورد الأدم، وأدخلت عليه، فكان وجهه وجهين من عظمه، فألقى إلي مخدة كانت عنده، فقلت: وا جوعاه!
أهذه حظي من كسرى بن هرمز؟
قال: فخرجت من عنده، فما أمر على أحد من حشمه إلا أعظمها، حتى دفعت إلى خازن له، فأخذها وأعطاني ثمانمائة إناء من فضة وذهب.
قال الأصمعي: فحدثت بهذا الحديث النوشجان الفارسي، فقال: كانت وظيفة المخدة ألفاً أن الخازن اقتطع منها مائتين)( ) .
ترى هل ذهب أبو سفيان إلى كسرى للتحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟
الأقرب نعم ولكن كسرى كان منشغلاً بالحرب مع الروم .
وقد اتخذت قريش ذات النهج في التحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، إذ بعثوا الهدايا إلى النجاشي ملك الحبشة وحاشيته من أجل أن يسلمهم الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة ومنهم عقيل بن أبي طالب ، وعثمان بن مظعون ، وعثمان بن عفان ، وقد تقدم البيان .
الثاني : أسواق مكة الموسمية التي تنشأ في موسم الحج ، لذا تسمى أحياناً أسواق العرب والتي يمتزج فيها الأدب والشعر مع التجارة والبيع والشراء ومن أشهرها سوق عكاظ ، وسوق مجنّة ، وسوق ذي المجاز ، وقد تقدم التفصيل .
لقد كانت أسواق مكة دعوة للوئام والسلم وتحبيب التعايش السلمي .
قانون السنة النبوية رحمة
لقد جعل الله عز وجل سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه:
الأول : إنها رحمة بالناس جميعاً، والمسلمين خاصة بلحاظ النهل منها ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثاني : تضمنت السنة البيان والتفسير للقرآن.
الثالث : السنة النبوية الشريفة هي المصدر الثاني للتشريع.
وهل السنة جزء من الوحي ، وفرع من القرآن ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَىإِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ). الجواب نعم بمعنى أن العمل على التنزيل والوحي ، وأن ما يأمر به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو من الوحي ومن أمر الله ، وليس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيه أمر خاص، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَىإِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
فليس من تعارض بين قوله تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ] ( ) وبين وجوب العمل بالسنة النبوية، وفي هذا العمل صلاح وفلاح وبقاء، ومن أفراده إجتناب الظلم والتعدي ، فقوله تعالى[لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ] ( ) دليل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعمل بما يوحي له الله عز وجل، بدليل شواهد كثيرة منها:
الأول : تعــدد مصاديق السنة القولية والفعلية.
الثاني : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إماماً في العبادات والسنن.
الثالث : تولي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحث المسلمين عليهما.
الرابع : تجلي المعجزات الحسية في قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآية أعلاه [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ] ( ) بالإستجابة والرضا ، وهل هي من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الجواب نعم .
لدلالة الآية على تفضل الله عز وجل بكفاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهذه الكفاية من رحمة الله بالمسلمين والناس جميعاً .
قبّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن بن علي عليه السلام (وعنده الأقرع بن حابس التميمي فقال الأقرع: لي عشرة من الولد، ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله صلى عليه وآله وسلم وقال: (إن من لا يرحم لا يرحم) ( ) .
لبيان نشر الرحمة وإظهار الرأفة بالأبناء ، وفيه تثبيت لمفاهيم الرحمة داخل الأسرة .
وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال (أتقبلون الصبيان فما نقبلهم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أملك لك ان نزع الله الرحمة من قلبك) ( ) .
وقد خص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذات الأعرابي باللوم لتنمية ملكة الرحمة عند الناس ، وفيه شاهد على أن مصاديق الرحمة النبوية جهاد في سبيل الله ونشر لمقدمات السلم .
(عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العرج في فتح مكة رأى كلبة تهر على أولادها وهن حولها يرضعنها، فأمر رجلا من أصحابه يقال له جعيل بن سراقة أن يقوم حذاءها، لا يعرض أحد من الجيش لها، ولا لأولادها) ( ).
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليعم السلم المجتمعات ، ويكون وسيلة وسبباً لجذب الناس إلى منازل الإيمان الذي هو سور الموجبة الكلية الحاجب عن الإرهاب والإقتتال .
ومن مصاديق الإطلاق في الرحمة بقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وجوه :
الأول : الرحمة في نزول آيات القرآن وتواليها .
الثاني : أوان البعثة النبوية ، إذ طغت عبادة الأوثان في الجزيرة ، ونصبت الأصنام في بيت الله ، وصارت البعثة النبوية حاجة للناس ، ووسيلة سماوية لمنع الإقتتال بين العرب .
الثالث : تكامل سنن الشريعة ، وبيان أحكام الحلال والحرام ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
الرابع : كل يوم من أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس .
الخامس : استدامة أحكام آيات السلم والصلح والموادعة في القرآن ، وسلامتها من النسخ .
السادس : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية وما فيها من طرد للشك والوهم بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي التنزيل بخصوص إبراهيم عليه السلام قال [قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي] ( ).
السابع : سلامة القرآن من التحريف والتبديل والزيادة والنقيصة ، ليتلقاه المسلمون والمسلمات بالقبول ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
قانون المنبر النبوي سلم ونور
والمنبر لغة هو(مَرْقاةُ الخاطب سمي مِنْبَراً لارتفاعه وعُلُوِّه) ( ).
لقد كان كل فرد من السنة النبوية آية إعجازية تقتبس منها الدروس والمواعظ، وضياءً يبعث على الإيمان والإجتهاد في طاعة الله، والإقتداء برسول الله في مناهج الصلاح ، ومنها منبر رسول الله .
ومن معجزات النبي محمد محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية بعد الهجرة المنبر النبوي وتفرع ملايين المنابر عنه أمس واليوم وغداً ومنها ومنها منبر الجمعة المتجدد كل اسبوع في مشارق ومغارب الأرض ، في موضوعه ونفعه .
فبعد أن وصل إلى المدينة للنجاة من بطش قريش وإرادتهم قتله ، قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببناء المسجد النبوي ، وهو ثاني مسجد يبنى في المدينة بعد مسجد قباء ، والصلاة فيه عن ألف صلاة في مسجد آخر عدا المسجد الحرام .
وعن (محمد بن المنكدر قال : رأيت جابراً وهو يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول : ههنا تسكب العبرات ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) ( ).
وبنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسجده في شهر ربيع الأول من السنة الأولى لهجرته ، وقيل كان طول المسجد سبعين ذراعاً وعرضه ستين ذراعاً أي نحو (35×30 )م والمختار أنه أقل من هذا في بدايته خاصة وأنه كان محلاً لجمع التمور ليتيمين من بني النجار بطن من الخزرج من الأزد القحطانية .
قال الزهري بخصوص أول دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة المنورة (فلبث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وابتنى المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه.
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راحلته فسار ومشى الناس حتى بركت به عند مسجد رسول الله بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مربدا للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمين أخوين في حجر أبي أمامة أسعد بن زرارة من بني النجار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بركت به راحلته : هذا المنزل إن شاء الله ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغلامين فساومهما بالمربد يتخذه مسجدا
فقالا : لا بل نهبه لك يا رسول الله
فأبى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقبله منهما حتى ابتاعه منهما، وبناه مسجدا ، وطفق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينقل معهم اللبن في بنائه وهو يقول :
هذا الجمال لا جمال خيبر
هذا أبر ربنا وأطهر
إن الأجر أجر الآخرة
فارحم الأنصار والمهاجرة
ويتمثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي قال ابن شهاب : ولم يبلغني في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمثل ببيت من الشعر تاما غير هؤلاء الأبيات ولكن يرجزهم لبناء المسجد) ( ).
وكانت المدينة صغيرة حتى أن البقيع هو خارج المدينة ، وأصبح جدار المسجد ملاصقاً له بعد التوسعات .
نعم قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد صلح الحديبية بتوسعة المسجد الشريف بشراء قطعة أرض مجاورة لأنه أصبح لا يستوعب عدد المصلين ، وكانت الإنارة بأسرجة توقد بالزيت ، ومشاعل من جريد النخل.
مثلما قام حينئذ ببعث الكتب إلى ملوك وأمراء عصره يدعوهم إلى الإسلام.
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من صعود المنبر ، وهذا الصعود وتعدده نوع جهاد، ومدرسة عقائدية ، وفي هذا الصعود المتكرر للمنبر وجوه محتملة :
الأول : يأتي الإذن الإجمالي للنبي في صعود المنبر ووعظ الناس، وهو يختار الوقت المناسب.
الثاني : لا يصــعد النبي المنبــر في كل مرة إلا بوحي وأمر وإذن من الله عز وجل.
الثالث : ليس من وحي في صعود النبي للمنبر، والقدر المتيقن من قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، هو الكلام واللفظ ، وليس الفعل ومقدمات الكلام والإرشاد.
الرابع : التفصيل في حال الصعود من جهات :
الأولى : كل مرة يصعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر بالوحي.
الثانية : مرة يكون فيها مخيراً، بين صعود المنبر وعدمه.
الثالثة : صورة يكتفي بها النبي بالكلام والبشارة والإنذار من غير إرتقاء للمنبر.
الرابعة : يصعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر إبتداء من غير وحي وأمر، ولكن كلامه على المنبر لا يكون إلا وحياً.
والصحيح هو الجهة الأولى من الوجه الرابع أعلاه، فلا يصعد النبي المنبر إلا بالوحي والأمر من الله ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
ولم يكن المنبر وارتقاؤه أمراً معهوداً في الجزيرة ليقترن بالنبوة ، ويكون وسيلة لتبليغ الأحكام وصلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعامة الناس لا يحجبه عنهم حاجب أو بواب .
ومن الإعجاز في نبوته ورود لفظ (يسألونك) في القرآن خمس عشرة مرة ، ولم يرد يشتكون عندك ، لبيان أن المنبر آلة تلقي الاسئلة ، والنطق بالأجوبة والفتوى بالوحي والتنزيل .
وانتفع خلفاء وائمة الإسلام وعامة المسلمين من المنبر وصلاة الجمعة انتفاعاً كبيراً.
ملايين المنابر، والملايين صيغة جمع ، وأقل الجمع اثنان ، ويستدل عليه [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ] ( ) قد لا يكون هذا الإستدلال تاماً لأن المراد من الخصمين اسم جنس .
و(عن أبي ذر أنه كان يقسم قسماً إن هذه الآية { هذان خصمان اختصموا في ربهم . . . } إلى قوله { ان الله يفعل ما يريد } نزلت في الثلاثة والثلاثة الذين تبارزوا يوم بدر وهم : حمزة بن عبد المطلب ، وعبيدة بن الحارث ، وعليّ بن أبي طالب ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة . قال علي عليه السلام : أنا أول من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة) ( ).
و(عن أبي العالية قال : لما التقوا يوم بدر قال لهم عتبة بن ربيعة : لا تقتلوا هذا الرجل ، فإنه إن يكن صادقاً فأنتم أسعد الناس بصدقه ، وإن يكن كاذباً فأنتم أحق من حقن دمه .
فقال أبو جهل بن هشام : لقد امتلأت رعباً .
فقال عتبة : ستعلم أينا الجبان المفسد لقومه . قال : فبرز عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة ، فنادوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فقالوا : ابعث إلينا أكفاءنا نقاتلهم . فوثب غلمة من الأنصار من بني الخزرج ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اجلسوا . . . قوموا يا بني هاشم . فقام حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث فبرزوا لهم ، فقال عتبة : تكلموا نعرفكم أن تكونوا أكفاءنا قاتلناكم . قال حمزة : أنا حمزة بن عبد المطلب . . . أنا أسد الله وأسد رسوله . فقال عتبة : كفء كريم! فقال علي : أنا علي بن أبي طالب . . . فقال : كفء كريم! فقال عبيدة . أنا عبيدة بن الحارث . . . فقال عتبة : كفء كريم! فأخذ حمزة شيبة بن ربيعة ، وأخذ علي بن أبي طالب عتبة بن ربيعة ، وأخذ عبيدة الوليد . فأما حمزة ، فأجاز على شيبة ، وأما علي فاختلفا ضربتين ، فأقام فأجاز على عتبة ، وأما عبيدة فأصيبت رجله . قال : فرجع هؤلاء وقتل هؤلاء ، فنادى أبو جهل وأصحابه : لنا العزى ولا عزى لكم ، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار . فأنزل الله { هذان خصمان اختصموا في ربهم . . . } .) ( ).
ويحتمل تنجز وأوان ملايين المنابر وجوهاً :
الأول : تحقق عدد ملايين المنابر الإسلامية قبل هذا الزمان .
الثاني : تحقق مصداق ملايين المنابر في هذا الزمان .
الثالث : يتحقق هذا الرقم والكم من المنابر في مستقبل الأيام .
وعلى المعنى المقصود بأنه المنبر المنصوب في المساجد ودور عبادة المسلمين فقد يكون هذا العدد قد تحقق في هذا الزمان إذ أنه يشمل الكرسي الموقت لخطيب الجمعة ومطلقاً .

مسائل ودراسات في المنبر النبوي
لم يكن المنبر النبوي معجزة متحدة بل هو من المعجزة المتعددة في ذاته وموضوعه وأثره ، ولم يعهد العرب المنبر ووظائفه ، وإن كان زمانه سابقاً لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه مسائل:
الأولى : قانون المنبر النبوي تشريف وإكرام للنبي والمسلمين.
الثانية : قانون المنبر شاهد على عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله عز وجل.
الثالثة : قانون بيان موضوعية حال إرتقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر ، وإنجذاب المسلمين له.
الرابعة : دعوة المسلمين والناس جميعاً إلى التدبر في كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر
ويدعو المنبر النبوي أهل العلم والمحققين إلى دراسات وبحوث علمية وتأليف مجلدات ورسائل دكتوراه خاصة بحال صعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر من جهات :
الأولى : أسباب صعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر.
الثانية : قانون حاجة المسلمين لصعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمنبر.
الثالثة : قانون إصغاء المسلمين لكلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر.
الرابعة: قانون المنبر وسيلة إعلامية عظيمة يصل صوت النبي من خلالها إلى أجيال المسلمين المتعاقبة جميعاً.
وهو من الشواهد على أن منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم معجزة ومن وجوه المعجزة في المنبر النبوي المنابر التي تفرعت عنها في أرجاء الأرض ولا يحصي من استمرارها في كل زمان ولا يحصي عددها إلا الله عز وجل وكذا ضروب وأسباب الصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تلقى من فوقها.
الخامسة : قانون تثبيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقواعد السلم بواسطة المنبر ليكون من عمومات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
قانون تجليات الإعجاز في المنبر النبوي
وفيه وجوه :
الأول : قانون المنبر أداة للتبليغ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ).
الثاني : الوحي والتنزيل الذي جاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر.
الثالث : الآيات القرآنية التي تلاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر مع ذكر المناسبة والموضوع، والإنتفاع من هذا الباب في علوم التفسير، وأسباب النزول في شطر منها.
الرابع : شواهد النبوة والإمامة من منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : قانون فزع الكفار من المنبر, وخوف المنافقين من صعود النبي له.
السادس : تأريخ المنبر النبوي.
السابع : قانون دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر، وموضوعه وقانون إنتفاع المسلمين من هذا الدعاء ، ومنه دعاؤه للإستسقاء في اثناء خطبته .
إذ قال (اللّهُمّ أَغِثْنَا اللّهُمّ أَغِثْنَا اللّهُمّ أَغِثْنَا اللّهُمّ اسْقِنَا اللّهُمّ اسْقِنَا اللّهُمّ اسْقِنَا.
الثّانِي : أَنّهُ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَعَدَ النّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ إلَى الْمُصَلّى فَخَرَجَ لَمّا طَلَعَتْ الشّمْسُ مُتَوَاضِعًا مُتَبَذّلًا مُتَخَشّعًا مُتَرَسّلًا مُتَضَرّعًا فَلَمّا وَافَى الْمُصَلّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ – إنْ صَحّ وَإِلّا فَفِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ – فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَكَبّرَهُ وَكَانَ مِمّا حُفِظَ مِنْ خُطْبَتِهِ وَدُعَائِهِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ.
اللّهُمّ أَنْتَ اللّهُ لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ تَفْعَلُ مَا تُرِيدُ اللّهُمّ لَا إلّا إلَه إلّا أَنْتَ أَنْتَ الْغَنِيّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَهُ عَلَيْنَا قُوّةً لَنَا وَبَلَاغًا إلَى حِينٍ .
ثُمّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَأَخَذَ فِي التّضَرّعِ وَالِابْتِهَالِ وَالدّعَاءِ وَبَالَغَ فِي الرّفْعِ حَتّى بَدَا بَيَاضُ إبْطَيْهِ ثُمّ حَوّلَ إلَى النّاسِ ظَهْرَهُ .
وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوّلَ إذْ ذَاكَ رِدَاءَهُ وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ فَجَعَلَ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ وَالْأَيْسَرَ عَلَى الْأَيْمَنِ وَظَهْرَ الرّدَاءِ لِبَطْنِهِ وَبَطْنَهُ لِظَهْرِهِ.
وَكَانَ الرّدَاءُ خَمِيصَةً سَوْدَاءَ وَأَخَذَ فِي الدّعَاءِ مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ وَالنّاسُ كَذَلِكَ .
ثُمّ نَزَلَ فَصَلّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ وَلَا نِدَاءٍ الْبَتّةَ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ.
وَقَرَأَ فِي الْأُولَى بَعْدَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ سَبّحْ اسْمَ رَبّكَ الأعَلَى وَفِي الثّانِيَةِ هَلْ أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ)( ).
الثامن : قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المنبر النبوي.
التاسع : الغايات السامية من صعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر.
العاشر : دلالات عدم ترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صعود المنبر إلى حين مغادرته إلى الرفيق الأعلى
الحادي عشر : إخبار الصحابة وأهل البيت عن صعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر.
الثاني عشر :تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأسئلة الخاصة والعامة على المنبر.
الثالث عشر: توجيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأسئلة الخاصة والعامة وهو على المنبر ، فان لم يسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبادر هو للسؤال لبيان موضوعية مسائل مخصوصة ، وعناية المسلمين بها.
الرابع عشر: فضائل صعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس عشر: هل من شرائط وموانع لصعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر.
السادس عشر : إظهار النبي معاني الرحمة والإحسان والرأفة والخشية من الله وهو على المنبر ، وعن عبد الله بن عباس عن أخيه الفضل قال : جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم موعوكا قد عصب رأسه.
فقال خذ بيدي فأخذت بيده فأقبل حتى جلس على المنبر ثم قال ناد في الناس.
فصحت في الناس فاجتمعوا إليه.
فقال أما بعد أيها الناس فانى أحمد الله إليكم الذى لا إله إلا هو وانه قد دنا منى حقوق من بين أظهركم.
فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقض منه .
ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقض منه ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه ولا يقول رجل إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ألا وان الشحناء ليست من طبيعتي ولامن شأني ألا وان أحبكم إلى من أخذ حقا إن كان له أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس( ).
السابع عشر : قانون منافع منبر الجمعة ، و(عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ)( ).
ويمكن تقسيم منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أقسام :
الأول : المنبر في الحضر .
الثاني : المنبر في السفر (المنبر المؤقت).
الثالث : منبر الجمعة .
الخامس : منبر الاستسقاء خارج المدينة.
الثامن عشر : قانون البشارة والإنذار في منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسع عشر : دراسة مقارنة بين خطبة صلاة الجمعة وصعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر في غيرها , وبينهما عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء إرتقاء المنبر وذكر الله.
ومادة الإفتراق من وجوه :
الأول : وجوب خطبة الجمعة.
الثاني : يلحق إصغاء المسلمين للخطبة بذات الصلاة، لذا صارت صلاة الجمعة ركعتين بدلاً من أربع ركعات التي هي صلاة الظهر.
الثالث: يؤتى بخطبة صلاة الجمعة في وقت مخصوص عند زوال الظهر من يوم الجمعة، أما صعود المنبر فهو أعم، ويكون في أي وقت من الليل والنهار، وفي الحضر والسفر، وفيه مسائل :
الأولى : إنه مناسبة ووسيلة في تعظيم شعائر الله .
الثانية : بعث المسلمين على الجهاد والتقوى والصلاح .
الثالثة : إنذار الناس من الكفر والجحود.
وعن أنس قال (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينزل من المنبر يوم الجمعة، فيكلمه الرجل في حاجته، فيكلمه، ثم يتقدم إلى مصلاه)( ).
الرابع : خطب صلاة الجمعة في وقت مخصوص عند الزوال من ظهر يوم الجمعة ، وهي جزء من العبادة .
قانون المواعظ والمنافع في المنبر النبوي
بعد أن كانت قريش تضيق على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في مكة ، وتؤذيه حتى وهو يؤدي الصلاة في المسجد الحرام ، صار يصعد المنبر في المسجد النبوي ويصغي له الناس بصفة الرسالة مما أغاظ قريشاً ولعله من أسباب تجهيزهم الجيوش في معركة بدر وأحد والخندق لقتاله ، ومن منافع المنبر وجوه :
الأول : المنبر وآيات السجدة ، وعن أبي سعيد الخدري قال (قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر “ص” فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه.
فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تَشَزّن الناس للسجود.
فقال : إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تَشَزّنْتُم ، فنزل وسجد وسجدوا)( ).
الثاني : المنبر والدفاع ، وتحريض المسلمين على النفير , والدفاع عن الإسلام .
الثالث : المنبر وتقسيم الهبات .
الرابع : قانون المنبر أمن وأمان.
الخامس : المنبر وعلم الغيب.
السادس : قانون موضوعية المنبر في الأمامة، وعدم صعود غير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر في حياته.
السابع : قانون المنبر النبوي حجة.
الثامن : قانون حرب المنبر النبوي على الشرك.
التاسع : أهل البيت في رحاب المنبر النبوي ، عن بريدة قال (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فأقبل الحسن والحسين عليهما السلام عليهما قميصان أحمران ، يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المنبر فحملهما واحداً من ذا الشق وواحداً من ذا الشق.
ثم صعد المنبر فقال : صدق الله ، قال : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة}( ) إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما) ( ).
العاشر : ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للجنة والنار وهو على المنبر .
الحادي عشر : المنبر والصلاة.
الثاني عشر : فلسفة المنبر، ودلائل الإعجاز فيه.
الثالث عشر : المنبر والزكاة والخمس.
الرابع عشر : المنبر والحج فريضة وندباً، قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
الخامس عشر: موضوعية المنبر النبوي في السنة النبوية.
السادس عشر: أثر المنبر في إسلام فريق من الناس.
السابع عشر : شكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله وهو على المنبر.
الثامن عشر : معاني العبودية لله التي يظهرها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو وعلى المنبر.
التاسع عشر : بكاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر.
العشرون : المنبر وعلوم القرآن.
الحادي والعشرون : المنبر وإصلاح المسلمين لمراتب التقوى.
الثاني والعشرون : المنبر والفقاهة في الدين .
الثالث والعشرون : تأريخ المنبر ، عن سعد بن إبراهيم عن أبيه وهو إبراهيم بن الصحابي عبد الرحمن بن عوف الزهري ( قال : أول من خطب على المنبر إبراهيم عليه السلام حين أسر لوط واستأسرته الروم ، فغزا إبراهيم حتى استنقذه من الروم ) ( ) .
الرابع والعشرون : قصص الأنبياء التي ذكرها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر.
الخامس والعشرون : آداب ومستحبات المنبر.
السادس والعشرون : مدرسة المنبر في الإحتجاج وذم المنافقين.
السابع والعشرون : صعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر خارج المدينة، ويمكن تسميته (المنبر المؤقت).
الثامن والعشرون : المنبر والملائكة وذكر النبي لها.
التاسع والعشرون : قراءة قرآنية في المنبر النبوي، فأول آية نزلت من القرآن هي[اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( )، وإرتقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر من المصاديق العملية لإمتثاله للآية أعلاه.
وأول آية في ترتيب القرآن بعد البسملة هي[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وصعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر مناسبة لشكر الله والثناء عليه وتأديب للمسلمين بلزوم شكر الله تعالى.
الثلاثون : منبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية حسية في حياته وبعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى، لما فيه من الدلالات ومعاني البركة ووحدة المسلمين.
الحادي والثلاثون : عناية المسلمين بالخطب والكلام الذي كان يقوله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، والأخبار التي تتعلق بالمنبر وتناقلهم وتوثيقهم لها.
الثاني والثلاثون : المنبر النبوي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الثالث والثلاثون: المنبر النبوي والصيام.
الرابع والثلاثون : مصاديق قوله تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ) عند صعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنبر، ومنها:
الأول: ليس من منع على دخول السلاح المسجد النبوي.
الثاني: إنعدام الفحص والتفتيش ونحوه في باب المسجد.
الثالث: عدم وجود الحرس قرب المنبر ساعة صعود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليه ، وإن كان الحال لا ينفي الحيطة والحذر عند المسلمين، وحرصهم على الحفاظ على رسول الله عليه وآله وسلم والذب عنه.
الرابع: إمكان وصول أي شخص للجلوس بقرب المنبر، وعدم حجز الأماكن القريبة لكبار الصحابة ، نعم هناك عدد قليل من الصحابة يكونون قريباً من المنبر طواعية لمنع التعدي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس والثلاثون : المنبر مقدمة ودعوة الإنتفاع الأمثل من المنابر الإعلامية في هذا الزمان الصوتية والمرئية والمكتوبة.
السادس والثلاثون : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السلم ودفعه لمقدمات الفتن وهو على المنبر .
والنبي القائد في ميدان المعركة والذي يبعث سرايا الإستطلاع والدفاع ، في الغزو ويقوم بتقسيم الغنائم وأموال الزكاة، وكل هذا من الوحي الــذي تفضل الله عز وجل به لتكون سنته ضياء ينير دروب الهداية للمسلمين ، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
قانون المنبر النبوي من رشحات آية الخلافة وقوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
شرائط النسخ
وهي على وجوه :
الأول : تعلق النسخ بطرفيه الناسخ والمنسوخ بالحكم الشرعي ، فلا يصح النسخ بالحكم العقلي الذي تكون فيه أصالة البراءة .
الثاني : أن يكون النسخ بآية قرآنية ، ومن العلماء من قال أن النسخ بخطاب شرعي ، وهو أعم ، وقد يراد منه دخول السنة في الناسخ .
الثالث : الإنفصال بين الناسخ والمنسوخ .
الرابع : تأخر نزول الناسخ زماناً ، فينزل المنسوخ ويعمل به أو لا يعمل به ، ثم ينزل الناسخ .
الخامس : تعذر الجمع بين الحكمين .
السادس : أن لا يكون المنسوخ أو الناسخ مقيداً بوقت مخصوص بالعمل.
السابع : التباين والتنافي بين الناسخ والمنسوخ من جهة الحكم مع إتحاد الموضوع بحيث لا يمكن العمل بهما معاً في آن واحد ، وإذا كان التنافي جزئياً فيكون من تخصيص العام .
الثامن : أن لا يكون الحكم محدداً بأجل وحال واضحة ، كما في قوله تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ( ) إذ يرتفع الحكم عند إنتهاء موضوعه أو أمده من غير أن تصل النوبة إلى النسخ .
التاسع : تعلق النسخ بالتشريع والأحكام الشرعية ، فلا يشمل العقائد ولا القصص والأخبار .
العاشر : إتحاد موضوع الناسخ والمنسوخ ، فمثلاً قوله تعالى [فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ] ( ) ليس ناسخاً لقوله تعالى [إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ] ( ) للإختلاف في الحال والموضوع.
وزمان النسخ هو مدة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول آيات القرآن عليه ، فليس من نسخ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإنقطاع القرآن والتنزيل والسنة بها .
أركان النسخ
وأركان النسخ هي :
الأول : الآمر بالنسخ وهو الله عز وجل ، فلا ينسخ الحكم الوارد في الآية القرآنية إلا الله عز وجل ، قال تعالى [قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ] ( ).
الثاني : موضوع النسخ ، وهو رفع حكم ثابت بحكم شرعي آخر ، ولا يكون النسخ في العقائد ولا في أصول العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس ، ولا في الأخلاق ، ولا في الأخبار والوقائع والقصص ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ) .
الثالث : المنسوخ ، وهو الحكم المرفوع وإن نزل القرآن بالإخبار عن تعلق النسخ بالآية وليس الحكم .
الرابع : الحكم الناسخ وهو الحكم الشرعي اللاحق الباقي الذي يحل بديلاً عن حكم شرعي سابق .
وهل في الشريعة تكرار النسخ على محل وموضوع واحد ، بحيث ينزل حكم ثم ينسخه حكم آخر ، ثم ينزل حكم ثالث ينسخ الثاني أيضاً ، الجواب نعم مع الدليل كما في مراتب حرمة الخمر .
الخامس : المنسوخ له وهو المكلف ، لذا فان قوله تعالى [نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا]( ) أي خير منها لكم في عبادتكم ومعاملاتكم ، وتقريبكم إلى منازل الطاعة.
أنواع النسخ
وهي :
الأول : نسخ القرآن بالقرآن ، وهو المقصود والمراد في موضوعنا هذا ، ومنه مراحل تحريم الخمر ، إذ كان الناس يصنعون الخمر ويربحون منه الأموال ، فالتمر والعنب قد يباعان بسعر زهيد، أما إذا دخلا في صناعة الخمر فان السعر سيزداد ، وتكون هناك أيادي عاملة فيه ، وتنشيط للسوق مع ما في الخمر من فقدان للعقل .
فنزل قوله تعالى [وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا]( ) لبيان أن السكر هو الخمر ، وفيه غياب للعقل والحكمة ، أما الرزق الحسن فهو التمر والعنب الخام ، والصناعات الحلال ومنها الخل والدبس ونحوهما .
(عن محمد بن كعب القرظي قال : نزلت أربع آيات في تحريم الخمر أولهن التي في البقرة ، ثم نزلت الثانية [َمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا]( )، ثم أنزلت التي في النساء ، بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بعض الصلوات إذ غنّى سكران خلفه ، فأنزل الله [لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى]( ) الآية . فشربها طائفة من الناس وتركها طائفة ، ثم نزلت الرابعة التي في المائدة ، فقال عمر بن الخطاب ، انتهينا يا ربنا)( ).
(عن قتادة قال : نزل تحريم الخمر في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب ، وليس للعرب يومئذ عيش أعجب إليهم منها .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الربيع قال : لما نزلت آية البقرة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن ربكم يقدم في تحريم الخمر ، ثم نزلت آية النساء ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن ربكم يقرب في تحريم الخمر ، ثم نزلت آية المائدة ، فحرمت الخمر عند ذلك) ( ).
الثاني : نسخ السنة بالقرآن ، بأن يعمل المسلمون بالسنة النبوية في موضوع ثم تنزل آية قرآنية تنسخ هذا العمل ، مثل نسخ القبلة.
إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يتوجهون في صلاتهم وهم في مكة قبل الهجرة إلى الكعبة الشريفة.
فلما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة توجهوا نحو الصخرة التي في بيت المقدس ، وفيه دعوة لليهود لتصديق نبوته لأنه يصلي إلى قبلتهم واستمروا على هذا ستة عشر شهراً ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب أن تتحول قبلته ويتطلع إلى أمر الله عز وجل بهذا التحويل.
(عن ابن عباس: كان أوَّل ما نُسخَ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما هاجرَ إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضْعَةَ عَشَرَ شهرًا .
وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء، فأنزل الله [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ]( ) إلى قوله[فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ] فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا [مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ) وقال [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]( )، وقال الله تعالىوَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ( ).
ويدل قوله تعالى [وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا..] ( ) على أن توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيت المقدس ليس اجتهاداً من عنده ، إنما كان بأمر ووحي من عند الله ، أخبر القرآن عنه بعد انتهاء العمل به ، لبيان حسن إيمان أهل البيت والصحابة بأت تلقوا أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتوجه إلى بيت المقدس في الصلاة .
الثالث : نسخ السنة بالسنة وهو على أقسام :
الأول : نسخ الحديث أو الفعل المتواتر بمثله متواتراً .
الثاني : نسخ الآحاد بالآحاد .
الثالث : نسخ الآحاد بالمتواتر .
وأختلف في نسخ الحديث المتواتر بالاحاد ، لإفادة التواتر القطعي ، وإفادة الآحاد الظن ، والقطعي أقوى فلا يرتفع بالظني .
وأستدل على الجواز بحديث أنس وعبد الله بن عمر ، إذ ورد (عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا يصلون نحو بيت المقدس ، فلما نزلت هذه الآية { فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام }( ) مر رجل من بني سلمة فناداهم وهم ركوع في صلاة الفجر نحو بيت المقدس ألا إنَّ القبلة قد حوّلت إلى الكعبة مرتين ، فمالوا كما هم ركوع إلى الكعبة .
وأخرج مالك وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود في ناسخه والنسائي عن ابن عمر قال : بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة) ( ).
(وعن أبي عبدالرحمن السّلمي : إنّ علياً عليه السلام مرّ بقاص يقصُّ في جامع الكوفة بباب كندة فقال : هل تعلم النّاسخ من المنسوخ .
قال : لا. قال : هلكت وأهلكت) ( ).
قانون النسخ سلم
من خصائص النسخ والمقاصد السامية فيه أنه تخفيف عن كل من :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : المسلمون والمسلمات .
الثالث : أهل الكتاب .
الرابع : الناس جميعاً .
وتحتمل الصلة بين القتال والسلم بخصوص النسخ وجوهاً :
الأول : حال السلم ناسخ للقتال .
الثاني : حال القتال ناسخ للسلم .
الثالث : ليس من نسخ بين القتال والسلم .
الرابع : التداخل وتبادل الحال ، فمرة يكون السلم ناسخاً للقتال ، وأخرى يكون القتال ناسخاً للسلم.
والمختار هو الأول ، فآيات السلم ناسخة ، وتدل على ثبات أحكام الشريعة ، واستئصال الشرك ، ومنع الناس من ولوج أبوابه وترويج مفاهيمه .
وتدل آية النسخ على هذا القانون لقوله تعالى [نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا] ( )إذ أن السلم خير من القتال والحرب ، فان قلت قد ورد قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
والجواب المراد من الخير في الآية الخير المحض الذي هو رحمة ونعمة من كل جوانبه ، وليس فيه كره أو شدة وضنك ، ويدل عليه ما ورد في آية النجوى التي هي آية منسوخة بالتي بعدها وعليه الإجماع ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
ويدل ذكر لفظ (خير ) في الآية المنسوخة على أن المنسوخ هو خير أيضاً، وأن الناسخ يكون خيراً أيضاً ، وقد يكون أكثر في ذات الخير ، (وخير) اسم تفضيل من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
والأصل في النسخ هو التخفيف والتيسير ، ومنه ما كان في القرآن ، ومنه في السنة النبوية .
وإن كان المختار تعلق النسخ في الإصطلاح بالقرآن ، فالناسخ والمنسوخ موجودان فيه ، نعم قد يرد النسخ في السنة النبوية وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينسخ بعضها بعضاً بلحاظ كون الحديث الناسخ متأخراً عن الحديث المنسوخ ، وكذا بالنسبة للسنة النبوية الفعلية .
قانون قلة النسخ في القرآن
قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
النسخ لغة على وجوه :
الأول : الإزالة ، وهي على شعبتين :
الأولى : الإزالة من غير عوض كقولك (نَسَخَتِ الشمسُ الظلَّ وانْتَسَخَتْهُ: أزالته. ونَسَخَتِ الريحُ آثارَ الدارِ: غَيَّرتها. ونَسَخْتُ الكتاب، وانْتَسَخْتُهُ) ( ).
الثانية : الإزالة إلى عوض وبدل ويقال (والشيءُ يَنسخ الشيء نسخا، أي : يُزيحه ويكون مكانَه) ( ).
وهل منه تناسخ الأيام أو تناسخ السكن على الأرض ، الجواب لا ، إنما هو من التعاقب ، وكل يوم هو غير الذي سبقه ، وكذا بالنسبة لعّمار الأرض .
الثاني : النسخ بمعنى التغيير ، كما يقال نسخت الريح آثار الدار أي غيرّتها ، وكان الشعراء يكثرون منها الوقوف على الأطلال ، وعبث الريح بالصروح ، ويستحضرون الذكريات ، وتكرار هذا المعنى في المعلقات منه قول زهير بن أبي سلمى :
(لِمَنِ الديارُ بقُنَّةِ الحِجْرِ … أَقْوَيْنَ من حِجَجٍ ومِنْ دَهْرِ) ( ).
الثالث : النسخ بمعنى التوثيق والتدوين والحفظ ، قال تعالى [إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ) .
الرابع : إبطال الشئ وإقامة آخر مقامه ، ومنه سقوط دولة أو نظام وقيام آخر بديلاً .
الخامس : إنقطاع طرف وقيام طرف آخر بدله على نحو الإنطباق والقهر، ومنه تناسخ الورثة ، أي وجود ميراث وموت الورثة ، وقيام ورثة آخرين مع بقاء أصل الميراث لم يقسم بعد كما لو مات رجل وترك داراً،وعنده ولدان وقد مات أبواه قبله ، ثم مات الولدان ولا تزال الدار باقية لم تقسم ، فينتقل الميراث إلى أولادهما ، ومع عدم وجود الأولاد والأزواج ينتقل الميراث إلى الطبقة الثانية من الأخوة والأجداد .
و(النسخ لغة هو الإزالة والنقل والتغيير والإبطال موضوعاً أو محمولاً أو اعتباراً ، ومنه قوله تعالى [فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ] ( ).
ومنه الحديث (صوم رمضان نسخ كل صوم) ( )، أي أزاله وحل بديلاً له من جهة الوجوب ، ويقال نسخت الشمس الظل أي أبطلته وحلّ ضياؤها محله .
ونسخ الشيء ينسخه نسخاً وإنتسخه وإستنسخه: إكتتبه عن كتاب حرف بحرف ، ومنه كيفية تصوير الكتاب الشائعة في هذا الزمان أي من غير إزالة ومحو للأصل والنسخة الأولى.
والنسخ في الإصطلاح تبديل أو رفع حكم كلي شرعاً بآخر يأتي به دليل معتبر لولاه لبقي ثابتاً مع تراخي الناسخ عنه لأجل إستيفاء أجله وأسبابه أوإنتفاء الملاك في جعله أو إنتقاله إلى غيره ، وتعلق المصلحة بأمر آخر مستحدث ومبين)( ).
والنسخ رفع حكم شرعي بدليل شرعي آخر ، وتقييد المنسوخ بأنه شرعي لتخرج الأعراف والعادة والحكم العقلي ، وما يبتنى على أصالة البراءة التي هي من الأصول العملية .
وتقيد الناسخ بأنه دليل شرعي لبيان أنه حكم من عند الله ، وكون العقل لا ينسخ حكم الشرع ، وهل ينسخ الإجماع الآية القرآنية ، الجواب لا، لأن الإجماع من رشحات القرآن وفرع منه .
وقد تقدم أن المختار هوعدم نسخ السنة النبوية للآية القرآنية .
فيه مسائل :
الأولى : الإخبار عن النسخ في القرآن ، ولم يرد لفظ [ننسخ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
الثانية : تعلق النسخ ببعض الآيات .
الثالثة : نسبة النسخ إلى الله عز وجل ، فهو وحده الناسخ والمبدل للآية، قال الله عز وجل مخاطباً النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ] ( ) فهل هذه الآية خاصة في واقعة أحد ، أم أنها أعم .
وإذا كانت من الثاني أعلاه فهل تشمل النسخ أنما النسخ لله عز وجل وحده .
المختار أن نسخ القرآن لا يكون إلا بالقرآن ، والذي يقل بخلافه ليأتي بالشواهد والأدلة المتعددة بشرط أن لا يكون من تقييد المطلق وتخصيص العام .
الرابعة : يدل قوله تعالى [نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا] ( ) على كون الناسخ قراناً، وتقدير الآية ، مثلها في القرآنية ، وصحيح أن السنة النبوية شعبة من الوحي ، ولكنها ليست بمرتبة القرآن .
الخامسة : لا يترك الله عز وجل كل وموضوع الآية خالياً ،إنما يأتي بآية أخرى خير منها أو مثلها .
نضيف قسيماً آخر لأقسام النسخ ، لتكون على ثلاثة وجوه :
الأول : المعنى اللغوي للنسخ .
الثاني : النسخ في الإصطلاح .
الثالث : النسخ في لغة القرآن .
فيتعلق الإصطلاح بالحكم المرفوع والناسخ بينهما وورد في القرآن بصيغة الآية [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
ومن الإعجاز في قوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ] ( ) وقوع النسخ في الآية وليس في الحكم ، فلم يقل الله (ما ننسخ من حكم أو ننسه).
وذكر في أسباب نزول الآية (إنّ المشركين قالوا : ألاّ ترون إلى محمّد يأمر أصحابه بأمر لم ينهاهم عنه، ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولاً ويرجع فيه غداً،
ما هذا القرآن إلاّ كلام محمّد يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضاً. فأنزل الله {وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ} ) ( ) .
ولم ينسب هذا القول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى أحد الصحابة وأهل البيت ، والظاهر أنه قول بعض المفسرين وأهل التأويل ، ومنهم من ينسب صدور هذا القول إلى يهود المدينة ، وأن موضوعها نسخ الكعبة وتحول النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى الكعبة .
وتحتمل النسبة بين الآية والحكم وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي بين الآية والحكم من عند الله بتقريب وهو أن الحكم من الله عز وجل آية وبرهان .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، فالآية أعم وأكبر والحكم جزء من الآية .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الحكم والآية .
والمختار هو الأول والثاني ، فذات الحكم من عند الله عز وجل آية ، وهو جزء من آية من آيات القرآن .
ولو أستعرضنا الآيات الكثيرة التي قيل أنها منسوخة لوجدنا الآية منها في الغالب وجوهاً :
الأول : النداء .
الثاني : الأمر .
الثالث : النهي .
الرابع : الخبر .
الخامس : الخاتمة .
وما يقال من النسخ فيها فهو يتعلق بأحد أطرافها أعلاه ، بينما ذكرت آية النسخ إرادة نسخ الآية بقوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ] ( ).
نعم ورد في النسخ قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
والصدقة في هذه الآية منسوخة بالآية التي بعدها ، لذا فالإجماع على النسخ في هذه الآية .
(عن مجاهد في قوله [فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً] قال: نهوا عن مناجاة النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله حتى يتصدّقوا، فلم يناجه إلا عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، قدّم دينارًا صدقة تصدق به، ثم أنزلت الرخصة.
حدثنا أبو كُرَيب قال : ثنا ابن إدريس، قال : سمعت ليثًا، عن مجاهد، قال، قال عليّ عليه السلام : آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم .
فكنت إذا جئت إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم تصدقت بدرهم، فنسخت، فلم يعمل بها أحد قبلي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً])( ).
لبيان أن مناجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تبعث السكينة في النفس وهي دعوة للسلم والإنقياد لأمر الله عز وجل في الواجبات والمستحبات ، وكل فرد من هذه المناجاة مدرسة وموعظة.
وقوله تعالى [أَوْ نُنسِهَا] من النسيان الذي هو الترك ، ومنه من قرأ ننساها الذي هو الترك ، ومنه من قرأ (ننساها ) أي نؤخرها ، أي نؤخر تلاوتها أو العمل بها .
وهل يشمل النسخ الآيات الكونية ، الجواب نعم ، ليكون القرآن مرآة لبديع صنع الله ، وآياته سبباً لبعث الناس على التفكر في أسرار الكون ، قال تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] ( ).
(عن ابن عباس قال : خطبنا عمر فقال : يقول الله ( ما ننسخ من آية أو ننساها}( ) أي نؤخرها) ( ).
وقوله تعالى [نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا]ليس الخير والتفضيل في ذات الآية ، فكل آية هي من عند الله سواء تعلق الأمر بآيات القرآن ، أو ببديع صنع الله ، ولكن الخير للمسلمين وعامة الناس ، فالتي تأتي من عند الله عز وجل أنفع وأيسر وأسهل على المسلمين ، وهي مناسبة لزيادة الأجر والثواب .
والمناسب من (ننسأ) هو ننسها إذ يتحد النسيان بمعنى الترك مع النسخ ، ويعني كل منهما الإزالة والإبطال والتعطيل والمجئ بآية أخرى .
ومن الإعجاز في قوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا] ( ) ويشترط تأخر الناسخ عن المنسوخ من جهة الزمان والنزول .
ويحتمل النسخ وجوهاً :
الأول : إحتمال وقوع النسخ .
الثاني : وقوع النسخ في القرآن .
الثالث : كثرة النسخ في القرآن .
الرابع : قلة النسخ في القرآن .
والمختار هو الثاني والرابع أعلاه .
قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) فهناك آية منسوخة وآية ناسخة في القرآن ، ولكن هذا النسخ قليل لا يتعدى بضع آيات ، وليس كما يذهب إليه بعضهم بأن آية السيف مثلاً نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية من آيات الصلح والموادعة والسلم .
وقد بينت الآية قانوناً وهو أن الناسخ هو خير وهو الأفضل والأحسن للناس لقوله تعالى [نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا] .
وقد ذكر الله تعالى أن القتال كره وأذى للمؤمنين بدليل قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ…] ( ) فيأتي النسخ للتخفيف ومنه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) إلا أن يقال أن قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ..] حكم جار إلى يوم القيامة ، لأن معنى كُتب أي فرض ولزم .
ويمكن الإجابة عليه بوجوه :
الأول : المراد القتال عند الحاجة والضرورة ، كما في قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
الثاني : إرادة التخفيف عن المسلمين بصرف القتال حتى لو اجتمعت مقدماته كما تدل الآية أعلاه على العفو عن الجاني ، والترغيب فيه حتى بعد استحقاق حكم القصاص .
الثالث : مجئ لفظ [كُتِبَ عَلَيْكُمْ] في القرآن ويراد منه الوجوب المتجدد في كل عام إلى يوم القيامة ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( )، ومجئ ذات اللفظ [كُتِبَ عَلَيْكُمْ] يستفاد منه الندب والإستحباب كما في كتاب الوصية ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( ).
ومن إعجاز نظم القرآن مجئ آيات [كُتِبَ عَلَيْكُمْ] متجاورة ومتقاربة في سورة واحدة هي سورة البقرة ، وهي الآيات (178-180-183-216-246) ويتعلق موضوع كل آيات [كُتِبَ عَلَيْكُمْ] بالمسلمين إلا واحدة منها وهي الآخيرة أعلاه وهو قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ] ( ) .
وتتضمن آية البحث مضامين وأطراف متعددة وهي :
الأول : نداء الإيمان وخطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] والمراد المسلمون والمسلمات ،ومن الإعجاز في هذا النداء أنه توليدي ، وأن المخاطبين به في إزدياد وإطراد إلى يوم القيامة .
الثاني : الأمر العام للمسلمين والمسلمات بالدخل في السلم بقوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ولغة الدخول من المجاز .
وكأن السلم له باب وسور ، وعليهم أن يدخلوا فيه ولا يجوز الخروج منه بأي حال من الأحوال إلا عند الدفاع عن الملة والنبوة والتنزيل ، كما في معركة بدر وأحد والخندق وحنين، ولا يضر بهذا المعنى نزول آية البحث بعد هذه المعارك أو بعد عدد منها ، بلحاظ أن أولها وهي معركة بدر وقعت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وآخرها معركة حنين التي وقعت في شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة .
الثالث : صيغة العموم وشمول الحكم للمسلمين والمسلمات بلفظ (كافة) وهو سور الموجبة الكلية ، مما يدل على حرمة الإقتتال فيما بينهم من باب الأولوية ، والإمتناع عن الإبتداء بالقتال والهجوم ، والتعدي ، وهل نسخت الآية حال الحرب والقتال والدفاع التي كان عليها المسلمون .
الجواب إن الدخول في السلم قانون ثابت من أيام آدم عليه السلام لذا ورد الخطاب في الآية بنداء التشريف [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
وتقدير الآية : قد قاتلتم ودافعتم فالآن ادخلوا في السلم كافة ، مع بقاء آيات الدفاع على حالها ، ولكن آية البحث بشارة الأمن واستئصال الفتنة والقتال ، وتجلت هذه النعمة في صلح الحديبية الذي سمّاه الله عز وجل فتحاً بقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) وقد أظهر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شكره لله على نعمة هذا الصلح ووصف الله له بأنه فتح لتأديب المسلمين بالسعي إلى الصلح وتلقي عامتهم له بالقبول .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (كان سبب نزول هذه السورة وهذا الفتح العظيم ان الله عزوجل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله في النوم أن يدخل المسجد الحرام ويطوف ويحلق مع المحلقين، فأخبر أصحابه وأمرهم بالخروج .
فخرجوا فلما نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة ، وساقوا البدن ، وساق رسول الله صلى الله عليه وآله ستاً وستين بدنة وأشعرها عند إحرامه ، وأحرموا من ذي الحليفة ملبين بالعمرة ، قد ساق من ساق منهم الهدي ، مشعرات مجللات .
فلما بلغ قريشا ذلك بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا ليستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله، فكان يعارضه على الجبال.
فلما كان في بعض الطريق حضرت صلاة الظهر فأذن بلال وصلى رسول الله صلى الله عليه وآله بالناس .
فقال خالد بن الوليد: لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لاصبناهم فانهم لا يقطعون صلاتهم ولكن تجئ لهم الآن صلاة أخرى أحب اليهم من ضياء أبصارهم فاذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم .
فنزل جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله بصلاة الخوف بقوله : وإذا كنت فيهم فاقمت لهم الصلوة) ( ).
وقال المأمون للإمام الرضا عليه السلام (أخبرني عن قول الله عزوجل [لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ]( ).
قال الرضا عليه السلام : لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنبا ” من رسول الله صلى الله عليه وآله، لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنما “، فلما جاءهم صلى الله عليه وآله بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم، وقالوا [أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ]( ).
[وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ]( ).
فلما فتح الله عزوجل علي نبيه مكة قال له : يا محمد [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ]( )، مكة [فَتْحًا مُبِينًا]( )، [لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ]( )، عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفورا ” بظهوره عليهم)( ).
لتكون الآية القرآنية ناسخة لحال كانت موجودة قبل نزولها ، وكأنه قريب من نسخ القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، قال تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ] ( ).
الرابع : النهي العام عن إتباع خطوات الشيطان ، وهذا النهي يشمل الفرد والجماعة والطائفة والأمة ، ومن مصاديق فضل الله عز وجل على المؤمنين تحذيرهم وإنذارهم من محاكاة الشيطان في غوايته وإغوائه .
الخامس : إخبار الآية عن قانون وهو عداوة الشيطان للمسلمين والمسلمات .
السادس :بيان سنخية عداوة الشيطان للمسلمين والناس بأنه [عَدُوٌّ مُبِينٌ].
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ [عَدُوٌّ مُبِينٌ] سبع مرات في القرآن كلها تتعلق بالشيطان وعداوته للناس مجتمعين ومتفرقين من أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة ، وهذه الآيات هي :
الأولى : قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الثانية : قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الثالثة : قال تعالى [وَمِنْ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الرابعة : قال تعالى [فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الخامسة : قال تعالى [قَالَ يَابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
السادسة : قال تعالى [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
السابعة : قال تعالى [وَلاَ يَصُدَّنَّكُمْ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
وإخبار القرآن الناس جميعاً عن عداوة الشيطان لهم من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( )، ومن فضل الله عز وجل على الناس أنه جعل عداوة الشيطان للناس بينة وظاهرة ، يدركها الفرد والجماعة بأدنى تفكر ، ليكون وصف القرآن للشيطان بأنه [عَدُوٌّ مُبِينٌ] على وجوه :
الأول : فيه حجة على الناس .
الثاني : إنه دعوة لهم للإحتراز من عداوته .
الثالث : تفقه الناس في أمور الدين والدنيا .
الرابع : إنه من فضل الله عز وجل على الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ).
الخامس : زجر الناس عن الإرهاب والفتنة والعداوة ، والأصل أن المسلمين أولى الناس بالتوقي من الشيطان ، ومن إتباع نهجه وقبيح فعله وخطواته .
السادس : فيه تدبر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودعوة للهدى والإيمان ، ليكون من معاني وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم كافة ليدخل الناس في الإسلام .
وعلى القول بالنسخ في هذه الآية فانه لا يتعلق إلا بالطرف الثاني أعلاه وهو [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ] ( )، أما المضامين والأطراف الأخرى فهي ثابتة وغير قابلة للنسخ أو التبديل .
وورد عن ابن عباس في قوله {ادخلوا في السلم} قال : يعني أهل الكتاب ، و{كافة} جميعاً( ).
وقال الثعلبي {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام النضري وأصحابه وذلك إنهم عظموا السبت وكرهوا لحم الابل وألبانها بعدما أسلموا وقالوا : يا رسول الله إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم بها في صلاتنا بالليل فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}( )، أي في الإسلام قاله قتادة والضحاك والسدي وابن زيد( ).
ومن خصائص النسخ أنه رحمة وتخفيف وتيسير ، وليس نسخ السلم إلى القتال من التخفيف إنما هو من الشدة والأذى فلا يصح إلا عند الحاجة والضرورة ، مما يدل على أن آية السيف ، وهو قوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
خاصة وموضوع النزول هو مشركوا مكة وما حولها ، ومن الدلائل على هذا المعنى إبتداء الآية بحرف الفاء الذي يفيد العطف على الآية السابقة التي تضمنت الإخبار عن وجود عهد وميثاق .
ولا يشمل لفظ (المشركين) في آية السيف والآية التي قبلها والآية التي بعدها أهل الكتاب ومنهم يهود المدينة ، ونصارى نجران ، ويدل قوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ] إرادة الإنسلاخ لمرة واحدة .
وتقدير الآية (فاذا انسلخ الأشهر الحرم من كل سنة) أمر بعيد لغة وحكماً وعقلاً خاصة وأن الآية تتضمن معنى قطع دابر الشرك إذ أنها تحصر نوع الحكم مع المشركين على أحد وجوه :
الأول : القتل .
الثاني : الحبس .
الثالث : الرصد والمتابعة للمشركين ، وفيه إنذار لمشركي مكة بخصوص تجارتهم وتعطيلها إذ يشق عليهم تسيير القوافل بين مكة والشام ، وبين مكة واليمن ، لتتجلى الحاجة إلى مصداق شرط العبادة في النعمة العظيمة بتجارة قريش وكثرة أموالهم ، كما في قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ* إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( ).
الرابع : التوبة والإنابة .
ويدخل في التوبة المؤلفة قلوبهم الذين دخلوا الإسلام .
فنزلت الآية من عند الله عز وجل باعطائهم من الصدقات والزكاة ، لإصلاحهم في أنفسهم وعشائرهم ، ومنهم أبو سفيان بن حرب ، والأقرع بن حابس ، وعبينة بن بدر ، خاصة وأنهم يحبون المال ويتخذون من إفراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بمال وسهم مخصوص استدامة لشأنهم ومقاماتهم في عشائرهم وبين الناس بعد زوال سلطان الشرك والضلالة .
و(عن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين، وإنه لأبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى صار وإنه لأحب الناس إلي)( ).
وقيل شهد صفوان معركة حنين وهو مشرك ، مما يدل على الإعجاز في الجمع بين آية السيف وتخصيص سهم من الصدقات للمؤلفة قلوبهم وأن تخييرهم بين القتل والحبس والتوبة يجعلهم يختارون التوبة ، هذا الإعطاء قبل نزول آية السيف ، وفيه شواهد كثيرة من أيام النبوة .
وهل من تعارض بين قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ] ( )، وقوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( )، الجواب لا ، إنما هو من تخصيص العام في جزء من الآية وليس كلها وهو السلم من جهات :
الأولى : الزمان وإرادة مدة أشهر معدودة بعد شهر محرم من السنة العاشرة .
الثانية : المكان وهو مكة وما حولها .
الثالثة : إرادة صنف من الناس وهم المشركون الذين يحاربون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن ، ويشنون الغارات على المدينة المنورة.
وهل الإستثناء في قوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( )، من الدخول العام في السلم ، الجواب نعم ، إذ أن التخصيص بآية السيف لا يشمل هؤلاء المشركين.
وجاءت الآية التالية لآية السيف لاستثناء المشركين من القتل والحبس والأسر في حال استجارتهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لقوله تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، وهذه الآية محكمة غير منسوخة.
والمراد من المشركين هم كفار قريش وأمثالهم ممن يعبد الأصنام لبيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في استئصال الشرك وعبادة الأوثان .
ويتعلق النسخ موضوعاً وحكماً بوجود الناسخ والمنسوخ بين الدفتين.
ولو تردد موضوع الآية بين كونها منسوخة أو غير منسوخة فالأصل أنها غير منسوخة وهو من الإعجاز بمجئ آية النسخ بصيغة الجملة الشرطية [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
إذ أن إعراب (ما) هو اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم.
وقوله تعالى [وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ) .
و(إذا) ظرف للزمن المستقبل يتضمن معنى الشرط أيضاً ولعل لغة الشرط هذه هي التي جعلت بعض العلماء يذهب الى القول بامكان النسخ وليس بوقوعه ، ولكن ليس ثمة مسافة بين الإمكان والوقوع في التصرف المطلق لله عز وجل في ملكه وفي سعة رحمته والتخفيف عن المؤمنين والناس ، وهو مضمون النسخ ، والله عز وجل إذا وعد فانه يفي ، ويعطي بالأتم الأكمل .
وهل تدعو لغة الشرط في النسخ المسلمين إلى الدعاء للتخفيف عنهم بلحاظ المعنى الأعم للنسخ وشموله للوقائع والأحداث وعمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، الجواب نعم .
ومنهم من استدل على عدم النسخ بقوله تعالى [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( )، ولكن هذه الآية تدل على النسخ وعدم التعارض بينها وبين آية النسخ ، ويدل الجمع بينهما على أنه لا يقدر على النسخ في القرآن إلا الله عز وجل ، وأنه سبحانه جعل المسلمين يرتقون الى مرتبة التمييز بين الناسخ والمنسوخ.
وهناك تباين بين النسخ وبين التزاحم أو التعارض ، إذ أن آيات القرآن سالمة من التزاحم أو التعارض سواء في الأوامر أو النواهي والأحكام مطلقاً أو الأخبار والقصص ، وإن كان المختار أن الأصل بالنسبة للتعارض بين الخبرين هو الجمع بينهما.
وقد ورد لفظ (آية ) مفرداً ومثنى وجمعاً في القرآن نحو ثلاثمائة وثمانين مرة ، وتتعلق بأمور منها :
الأول : آيات القرآن ، قال تعالى [وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ] ( ).
الثاني : بدائع الكون ، قال تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ] ( ).
الثالث : عظيم القدرة الإلهية .
الرابع : المعجزة والأمر الخارق .
الخامس : الحجة والبرهان .
السادس : المواعظ والعبر المترشحة عن فضل الله عز وجل ، ومنها قوله تعالى [فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) وقال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ]( ).
السابع : فضل الله العظيم على الناس لتكون دعوة لهم للإيمان ، قال تعالى [وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ]( ).
الثامن : علم الغيب .
التاسع : آيات الله والمعجزات التي خصّ الله بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في آية الإسراء ، وما خص به الأنبياء السابقين، قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا]( ).
وهل يثبت النسخ بخبر الواحد ، الجواب لا يثبت وإن قلنا بقبوله والإحتجاج به ، ولكن باب النسخ له شأن ، وإذا كان هناك نسخ لتجلى للصحابة وأهل البيت ، والأمر سهل ، إذ تدل الآية القرآنية بذاتها ومضامينها على عصمتها عن النسخ .
لا أصل لتسمية آية السيف
والمراد من هذه التسمية الآية الخامسة من سورة التوبة [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) .
وتسمية الآية بآية السيف خلاف الأصل ، إذ لم يرد لفظ (سيف) أو (السيف) أو صيغة الجمع (السيوف ) في ذات الآية، ولا في أي آية من القرآن ، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمّاها آية السيف ، وكذا لم ترد هذه التسمية عن أئمة أهل البيت ، ولا عن الصحابة إلا ما ندر .
وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصوص وأحاديث بتسمية آية الكرسي (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة أعطاه الله قلوب الشاكرين ، وأعمال الصديقين ، وثواب النبيين ، وبسط عليه يمينه بالرحمة، ولم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت فيدخلها) ( ).
نعم وردت بعض الأخبار عن عبد الله بن عباس بتسميتها بآية السيف على فرض صحة السند وعائدية التسمية إلى ابن عباس ، وليس لأحد الرواة للبيان والتسهيل ، ومنه (أخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس في قوله { قل لست عليكم بوكيل }( ) قال : نسخ هذه الآية ، آية السيف { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }( ))( ).
وفي قوله تعالى [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] ( ) وردت ذات التسمية لآية السيف عن عطاء ،وهو من التابعين إذ قال (وأمر بالعرف يعني لا إله إلاّ الله {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أبي جهل وأصحابه نسختها آية السيف وتعيين الجاهلين والمشركين بأسمائهم في أسباب نزول آيات القرآن شاهد على أن المراد من مضامين آية السيف هم مشركوا مكة ومن والاهم . ويقال لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجبرئيل : ما هذه؟
قال : لا أدري حتّى أسأل .
ثمّ رجع فقال : يا محمد إن ربّك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك) ( ).
(من عجيب المنسوخ قوله تعالى خذ العفو الآية فإن أولها وآخرها وهو وأعرض عن الجاهلين منسوخ، ووسطها محكم، وهو وأمر بالعرف وقال: من عجيبه أيضاً آية أولها منسوخ وآخرها ناسخ ولا نظير لها، وهي قوله (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم يعني بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا ناسخ لقوله (عليكم أنفسكم وقال السعيدي: لم يمكث منسوخ مدة أكثر من قوله تعالى قل ما كنت بدعاً من الرسل) الآية، مكثت ستة عشر سنة حتى نسخها أول الفتح عام الحديبية) ( ).
وصحيح أن المدار على المسمى وليس الاسم وأن الآية خالية من لفظ السيف ، إلا أن هذه التسمية لا أصل لها خاصة ، وأن الآية تتضمن وجوهاً وخيارات متعددة ، وتبين السماحة في الإسلام ، وهذه الوجوه هي :
الأول : إنحصار موضوع الآية بفترة انقضاء الأشهر الحرم .
الثاني : موضوعية مهلة الأشهر الحرم في التبليغ والإنذار والترغيب بالإيمان ، وتقدير الآية : يا أيها الذين كفروا إذا انسلخ الأشهر الحرم فانكم أما تقتلون أو تحبسون ، أو يضيق عليكم أو تختاروا الإسلام وفيه النجاة.
الثالث : الرحمة من عند الله بالمشركين في مدة الأشهر الحرم لقضاء حوائجهم ، وجمع ديونهم ، وتصفية تجاراتهم إن أصروا على الكفر ، وهنا تبرز موضوعية العقل فاي إنسان يختار الجمع بين الإيمان والحرية والسعة على القتل على الكفر والشرك وعبادة الأوثان ، لذا يمكن تسمية آية السيف آية الإمهال والسعة والرحمة ، ولو عدنا إلى ما ترتب على هذه الآية من الأثر هل هو القتل ، فتسمى آية السيف أم أن قريشاً ومن والاهم دخلوا الإسلام بهذه الآية ونحوها ، فتسمى آية الرحمة ، الجواب هو الثاني ، وكل الشواهد التأريخية تدل عليه ، ويمكن إنشاء قانون وهو تفسير وتسمية الآية بالأثر المترتب عليها .
فحينئذ لا تسمى هذه الآية آية السيف ، إنما تسمى آية الرحمة والجذب إلى الإيمان خاصة ، وأنه لم يحصل إشهار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه السيوف بعد نزول هذه الآية .
خاصة وأنه تزامن نزول آية السيف مع مجئ وفود القبائل من إنحاء الجزيرة إلى المدينة لدخول الإسلام حتى سمّى العام التاسع من الهجرة عام الوفود ،ويوافق سنة(631)م ، وكانت هذه الوفود وقدومها إلى المدينة بعد كتيبة تبوك .
وهل لآية السيف هذه موضوعية في كثرة هذه الوفود حتى بلغ ستين وفداً ، ومنهم من جعلها سبعين ومائة وفد ، الجواب نعم .
وقال محمد بن إسحاق (لَمّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَكّةَ ، وَفَرَغَ مِنْ تَبُوكَ ، وَأَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ وَبَايَعَتْ ضَرَبَتْ إلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَنّهَا كَانَتْ تُسْمَى سَنَةَ الْوُفُودِ) ( ).
مما يدل على أن دخول قبائل العرب بعد فتح مكة ودخول ثقيف الإسلام قبل نزول آية السيف ، ليتجلى قانون وهو سبق دخول المشركين الإسلام على نزول آية السيف ، إنما جاءت هذه الآية لخصوص أفراد متفرقين أصروا على البقاء على الكفر والشرك .
ويدل عليه قوله تعالى [وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ] ( ).
وكان أشهر هذه الوفود وفد بني تميم لما لها من الشأن والمكانة بين قبائل الجزيرة ، ولما يتصفون به من الخطابة والشعر ، وكان قدومهم بسبب قيام سرية عينية بن حصن في شهر محرم من السنة التاسعة للهجرة .
وكان آمر السرية وهو عينية بن حصن الفزاري من المؤلفة قلوبهم الذين أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل واحد منهم من غنائم معركة حنين مائة من الإبل .
(قال ابن إسحاق حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن قائلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا رسول الله أعطيت عيينة والأقرع مائة مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمري فقال: ” أما والذي نفسي بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع ولكني تألفتهما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إيمانه) ( ).
وكان عينية بن حصن الغزاري قائد جيش غطفان ، ومن تبعهم من أهل نجد معركة الأحزاب .
كما أغار في أربعين فارساً من المشركين قبل صلح الحديبية على أطراف المدينة ، ليستاقوا عشرين لقحة ،وهي الإبل دوات اللبن القريبة العهد بالولادة ، وكانت ترعى في الغابة ، وكان فيها ابن لأبي ذر فقتلوه ، أما ابن اسحاق فقال أنه رجل من غفار ، إذ قال (كان فيهم رجل من غفار وامرأة، فقتلوا الرجل، وسبوا المرأة، فركبت ناقة ليلاً حين غفلتهم تريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونذرت؛ لئن نجت، لتنحرنها، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرته بذلك، فقال: ” لا نذر في معصية، ولا لأحد فيما لا يملك) ( ).
فكانت بسببها كتيبة ذي قرد مما يدل على أن كتائب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانت دفاعية ، وخرجت هذه السرية إلى بني العنبر وهم من بني تميم أنهم وبعد أن جمعت الصدقة وثبوا فانتزعوها من المصّدق الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو من خزاعة .
وكان عينية وأصحابه يسيرون في الليل ويكمنون في النهار وورد (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أصابت بنو العنبر دماء في قومهم فارتحلوا فنزلوا بأخوالهم من خزاعة .
فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصدقاً إلى خزاعة فصدقهم ثم صدق بني العنبر فلما رأت بنو العنبر الصدقة قد أحرزها وثبوا فانتزعوها فقدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال يا رسول الله إن بني العنبر منعوا الصدقة فبعث إليهم عيينة بن حصن في سبعين ومائه فوجد القوم خلوفا فاستاق تسعة رجال وإحدى عشرة امرأة وصبيانا فبلغ ذلك بني العنبر فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم سبعون رجلاً منهم الأقرع بن حابس ومنهم الأعور بن بشامة العنبري وهو أحدثهم سنا فلما قدموا المدينة بهش إليهم النساء والصبيان فوثبوا على حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في قائلته.
فصاحوا به يا محمد علام تسبى نساؤنا ولم ننزع يداً من طاعتك.
فخرج إليهم فقال: اجعلوا بيني وبينكم حكما فقالوا: يا رسول الله الأعور بن بشامة فقال بل سيدكم بن عمرو.
قالوا يا رسول الله الأعور بن بشامة فحكمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحكم أن يفدي شطر وأن يعتق شطر) ( ).
وتتجلى معاني الرحمة والسماحة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لم يحل بين الوفد والأسرى ، وأنه طلب منهم أن يختاروا حكماً من بينهم ، وليس في التأريخ أن يكون الخصم هو الحكم ، وفيه مقدمة لدخولهم الإسلام .
(وأخرج ابن إسحق وابن مردويه عن ابن عباس قال : قدم وفد بني تميم وهم سبعون رجلاً أو ثمانون رجلاً منهم الزبرقان بن بدر وعطارد بن معبد وقيس بن عاصم وقيس بن الحارث وعمرو بن أهتم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فانطلق معهم عيينة بن حصن بن بدر الفزاري.
وكان يكون في كل سدة حتى أتوا منزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنادوه من وراء الحجرات بصوت جافٍ يا محمد أخرج إلينا يا محمد أخرج إلينا يا محمد أخرج إلينا.
فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالوا : يا محمد إن مدحنا زين وإن شتمنا شين ، نحن أكرم العرب .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كذبتم بل مدحة الله الزين وشتمه الشين وأكرم منكم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم .
فقالوا : إنا أتيناك لنفاخرك ، فذكره بطوله وقال في آخره : فقام التميميون ، فقالوا : والله إن هذا الرجل لمصنوع له ، لقد قام خطيبه فكان أخطب من خطيبنا ، وقال شاعره فكان أشعر من شاعرنا قال : ففيهم أنزل الله [إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ]( ) من بني تميم [أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ] قال : هذا كان في القراءة الأولى وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
لقد ذكر وفد تميم أنهم أكرم العرب بينما احتج عليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بافضلية كرم يوسف بن يعقوب لبيان عظيم شأن النبوة والنسب الرفيع في ملاك الكرم والتفاخر فيه ، ولكن يوسف عليه السلام ليس من العرب ، مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يبين قانوناً وهو أن الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو أكرم العرب.
ولم ينزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسرى والسبايا في سجن أو حبس ، إنما أنزلهم في بيت إحدى المؤمنات من الأنصار للأمن وحفظ النساء، وفيه شاهد على قلة عددهم خاصة مع صغر بيوت المدينة آنذاك.
وكان رجال الوفود من الأغنياء والفقراء ، ويقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستضافتهم ، ومنهم من كان يأوي إلى الصفّة التي كانت محل إقامة الفقراء من المهاجرين.
(عن عبادة بن الصامت قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يشغل إذا قدم الرجل مهاجرا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن فدفع إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا وكان معي في البيت أعشيه عشاء أهل البيت فكنت أقرئه القرآن.
فانصرف إلى أهله فرأى أن عليه حقا فأهدى إلي قوسا لم أر أجود منها عودا ولا أحسن منها عطفا.
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت ما ترى يا رسول الله فقال جمرة بين كتفيك تعلقتها أو قال تقلدتها)( ).
الرابع : أسر المشركين وعدم قتلهم لقوله تعالى [وَخُذُوهُمْ]( ) أي خذوهم أسرى ، لذا يقال للأسير الأخيذ.
ومن إعجاز الآية تأخر الأخذ والأسر والحصر على القتل ، وإلا فانه بالقتل تزهق الروح ولا يبقى موضوع للوجوه الأخرى ، مما يدل على أن في الأسر تقديماً وتأخيراً ، وأن القتل لا يكون في الحال أو مباشرة ، إنما يعرض الإسلام على الرجل ، ويمهل ويؤسر .
كما في أسر أبي أمامة قبل صلح الحديبية .
(أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأسير يقال له أبو أُمامة وهو سيد اليمامة،
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا أُمامة أيّها أحب إليك : أعتقك أو أفاديك أو أقتلك أو تسلم؟
فقال : أن تعتق تعتق عظيماً .
وأن تفادِ تفاد عظيماً .
وإنْ تقتل تقتل عظيماً .
وأما أن أسلم فلا والله لا أسلم أبداً.
قال فأني أعتقتك. فقال : إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسوله.
وكانت مادّة ميرة مكة من قبل اليمامة فقال لأهل مكة : والذي لا إله إلا هو لاتأتيكم ميرة أبداً، ولا حبّة من قبل اليمامة حتى تؤمنوا بالله ورسوله فأضرّ إلى أهل مكة فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيّهم له حزب يشكون ذلك إليه، فكتب إلى أبي أُمامة : لاتقطع عنهم ميرة كانت من قبلك، ففعل ذلك أبوأمامة) ( ).
وأبو أمامة هو ثمامة بن أثال وهو سيد بني حنيفة ، ومن أشراف بكر بن وائل ، جاءت به سرية محمد بن مسلمة التي بعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شهر محرم من السنة السادسة( ) إلى نجد ، وفي طريق العودة وجدوا ثمامة فجاءوا به إلى المدينة ، والظاهر أنه قبل صلح الحديبية .
ولم يعلموا من هو (حَتّى أَتَوْا بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ أَتَدْرُونَ مَنْ أَخَذْتُمْ ؛ هَذَا ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيّ ، أُحْسِنُوا إسَارَهُ وَرَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى أَهْلِهِ فَقَالَ اجْمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَكُمْ مِنْ طَعَامٍ فَابْعَثُوا بِهِ إلَيْهِ وَأَمَرَ بِلِقْحَتِهِ أَنْ يُغْدَى عَلَيْهِ بِهَا وَيُرَاحُ فَجَعَلَ لَا يَقَعُ مِنْ ثُمَامَةَ مَوْقِعًا وَيَأْتِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَيَقُولُ أَسْلِمْ يَا ثُمَامَةُ فَيَقُولُ إيْهَا يَا مُحَمّدُ إنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ وَإِنْ تُرِدْ الْفِدَاءَ فَسَلْ مَا شِئْت ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَمْكُثَ ثُمّ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمًا : أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ فَلَمّا أَطْلَقُوهُ خَرَجَ حَتّى أَتَى الْبَقِيعَ ، فَتَطَهّرَ فَأَحْسَنَ طُهُورَهُ ثُمّ أَقْبَلَ فَبَايَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَمّا أَمْسَى جَاءُوهُ بِمَا كَانُوا يَأْتُونَهُ مِنْ الطّعَامِ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُ إلّا قَلِيلًا ، وَبِاللّقْحَةِ فَلَمْ يُصِبْ مِنْ حِلَابِهَا إلّا يَسِيرًا فَعَجِبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِمّ تَعْجَبُونَ.
أَمِنْ رَجُلٍ أَكَلَ أَوّلَ النّهَارِ فِي مِعَى كَافِرٍ وَأَكَلَ آخِرَ النّهَارِ فِي مِعَى مُسْلِمٍ إنّ الْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَإِنّ الْمُسْلِمَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ) ( ).
ولو قلت أن آية السيف (وخذوهم واقتلوهم) لحصرت عاقبة الأسر بالقتل ، ولقتل المشرك قبل أن يصل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنها جعلت الأخذ والحصر والحبس والرصد بعد القتل .
ومن معاني الجمع بي [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ] أي إن وقع القتال بينكم وبينهم فدافعوا عن أنفسكم وقوموا بأسر من تستطيعون أسره ، ولا يعني هذا قتل وأسر جميع أفراد الجيش ، لذا قال تعالى [وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ].
ومن الشواهد المتقدمة زماناً على آية البحث معركة بدر ، إذ حضر جيش المشركين وعددهم نحو ألف ، وبعد أن أصروا على القتال ، قُتل منهم سبعون وأسر سبعون ، وفّر الباقون عائدين إلى مكة ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أنهم سيعدون العدة ويهجمون على المدينة حنقاً وثأراً وعدواناً ، ومع هذا لم يلاحقهم في البيداء مع أنهم انهزموا متفرقين بخلاف إنسحابهم من معركة أحد ، إذ كان وفق ترتيب ونظام .
وبدأت الآية بلفظ [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] وهل يمكن تقدير الآية : فاقتلوا المشركين إن قاتلوكم ، الجواب نعم ، إذ ورد لفظ [اقْتُلُوهُمْ] أربع مرات في القرآن وهي :
الأولى : قال تعالى [ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ] ( ).
الثانية : قال تعالى [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا] ( ).
الثالثة : قال تعالى [سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا] ( ).
أما لفظ [اقْتُلُوا] فقد ورد في القرآن خمس مرات وهي :
الأولى : قال تعالى [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ] ( ).
وابتدأت هذه الآيات وفق نظم القرآن بقصة موسى عليه السلام مع قومه من بني إسرائيل لعبادتهم العجل عند غيابه عنهم ، وأصل القتل إماتة الحركة ، وهو في الإصطلاح زهوق الروح ، ومعنى القتل في الآية أعلاه على وجوه :
الأول : يقتل بعضكم بعضاً .
الثاني : يقتل المؤمن الجاحد ، لأن هذا القتل طريق للتوبة ، وقد خفف الله عز وجل عن المسلمين بأن جعل لهم الإستغفار طريق التوبة والإنابة .
الثالث : ارضوا بحكم القتل وإن لم ينجز ولم يقع ، لأنه بمنزلة القتل ، عن أبي إسحاق( ).
الرابع : البخل والإنتحار ، وهو خاص بالذين عبدوا العجل كطريق للتوبة .
والمختار هو الثاني والثالث ، إذ أدركتهم التوبة من الله عز وجل .
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: “فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّ تَوْبَتَهُمْ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ كُلَّ مَنْ لَقِيَ مِنْ وَالِدٍ أَوْ وَلَدٍ فَيَقْتُلَهُ بِالسَّيْفِ، وَلا يُبَالِي مَنْ قَتَلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ، فَتَابَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ قَدْ خَفِيَ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ مَا اطَّلَعَ اللَّهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، فَاعْتَرَفُوا بِهَا وَفَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، فَغَفَرَ اللَّهُ لِلْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ)( ).
وصحيح أن الآية ابتدأت بقوله تعالى [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ]( ) ولكن الأمر صادر من الله عز وجل إلى موسى بالوحي ، فما قاله موسى لهم السلام ليس من عنده ، إنما هو بالوحي والإخبار من الله عز وجل .
الثانية : قال تعالى [وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا] ( ).
وهل تدل الآية الثانية أعلاه على قلة القتل في بني إسرائيل لقوله تعالى [وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ].
أم أن اختلاف الموضوع ينفي المقارنة لأن الآية أعلاه بخصوص المنافقين ونحوهم، وجاءت بلفظ (لو) وهو حرف إمتناع لإمتناع أي إمتناع الجواب لإمتناع الشرط ، وقد يسمى أمتناع الثاني لإمتناع الأول .
ويحتمل الضمير الهاء في [مَا فَعَلُوهُ] وجوهاً :
الأول : قتل النفوس .
الثاني : الخروج من الديار .
الثالث : العنوان الجامع من قتل النفوس والخروج من الديار .
والمختارهو الثاني أعلاه .
الثالثة : قال تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
الرابعة : قال تعالى [اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ] ( ).
الخامسة : قال تعالى [فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ).
(قال ابن العربي قوله تعالى (فإذا انسلخ الأشهر الحرم ) ناسخة لمائة وأربع عشرة آية ثم صار آخرها ناسخا لأولها وهي قوله ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم)( ).
وعلى هذا النسخ المتتالي لابد من وقف قتل أو أخذ المشركين رجاء توبتهم ، وهو باب مفتوح للعبد إلى ساعة مغادرته الدنيا إلا أن يقال بمصر الإنذار والتغيير بذات الأشهر الحرم من السنة التي نزلت فيها الآية.
وفي الإتقان عن ابن العربي أيضاً (وهي فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) الآية نسخ مائة وأربعة وعشرين آية، ثم نسخ آخرها أولها) ( ).
وكان ابن عباس والعلماء المتقدمون يطلقون النسخ على التخصيص والإستثناء ونحوه .
ويكون الناسخ مدنياً ، وأن ينسخ آية وحكمها مكياً أو مدنياً نزل قبله زماناً .
ولا تنحصر الآيات المنسوخة بالنسخ بآية السيف ، لذا ذكر أن مجموع الآيات المنسوخة هو خمسمائة آية وقيل خمسمائة وخمسين ، والمختار قلة عدد الآيات المنسوخة.
وإلى جانب آية النسخ ورد قوله تعالى [وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) وفيه دليل على أن القرآن لا ينسخه إلا قرآن ، وإن كان قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي لقوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
وآية السيف هي الخامسة من سورة التوبة ، ومن الإعجاز ورود ذات الآية بالندب إلى التوبة والترغيب بها ، وحسن استقبال المسلمين لمن يتوب من الكفار ، وحتى على تسمية السورة سورة براءة فان البراءة لا تعني السيف ، إنما تعني الإعراض والإمهال ، وإذا لم تسم الآية آية السيف فماذا يكون أسمها ، الجواب ليس بالضرورة أن يكون للآية اسم مخصوص ، وإذا كان لابد من التسمية بمعنى آية الإمهال ونحوه .
وهل يمكن أن تكون آية السيف دعوة مغلظة للمشركين لدخول الإسلام ، الجواب نعم ، وهذه الدعوة لوجود المقتضي وفقد المانع ، وتجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقريب والبعيد ، وللناس جميعاً على اختلاف مشاربهم ، والتباين في مداركهم واهتمامهم ، خاصة وأن أهل مكة يختلفون عن غيرهم بأن إبتدأت البعثة النبوية بين ظهرانيهم ، ورأوا المعجزات وأنصتوا لآيات القرآن ، وبعد الهجرة صارت أخبار النبوة والتنزيل تترى عليهم .
ولم تكن آية السيف وحدها الناسخة عند المكثرين في النسخ من تابعي التابعين ، فهناك آية أخرى ناسخة لبعض آيات السلم والتسامح ، وهي التاسعة والعشرون بعد المائة من سورة التوبة ، وهو قوله تعالى [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( ).
قانون عمل الصحابة بأحكام الآية دليل على عدم نسخها
من إعجاز القرآن وجود الناسخ والمنسوخ ، قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
والنسخ لغة هو الإزالة كما يقال (والنَّسْخ: نَسْخُك كتاباً عن كتاب.
وكل شيء خَلَفَ شيئاً فقد انتسخه: انتسختِ الشمسُ الظلَّ، وانتسخ الشيبُ الشبابَ.
ونَسخَ أيضاً ينسَخ، مثل انتسخ) ( ).
والنسخ في الإصطلاح هو رفع حكم ثابت في الشريعة بآخر بديلاً عنه ، سواء في الأحكام التكليفية أو الوضعية ، وإيقاف العمل بمضامين الآية القرآنية في موضوع مخصوص لنزول آية أخرى في ذات الموضوع ، وغالباً ما تكون من باب التخفيف وارادة مصلحة عامة الناس ، وهو من عمومات قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ…] ( ).
وهل النسخ في القرآن من النفي والإثبات ، بمعنى أن المنسوخ هو المنفي والناسخ هو الثابت ، فيكون المنسوخ مرفوعاً ، وهل يعني النسخ بأن العمل بالمنسوخ انقطع وانتهى ، وأن مضمون الآية المنسوخة انتهى في موضوعيته وأثره ، الجواب لا ، فالمختار أن النسخ لا يأتي على الآية ، إنما تبقى من جهات :
الأولى : رسم الآية القرآنية المنسوخة .
الثانية : صلة الآية القرآنية بالآيات المجاورة لها .
الثالثة : إتحاد موضوع الآية مع آيات أخرى .
الرابعة : ثبوت النسخ أو عدمه .
الخامسة : تجدد موضوع الآية في قادم الزمان ، ولو على نحو الموجبة الجزئية.
وهذه المسألة ذات أهمية خاصة في علم التفسير والتأويل ، فكثير من الآيات التي يقال أنها منسوخة لم يثبت نسخها .
السادسة : إحتمال تعلق النسخ بجهة من موضوع الآية ، وهل يمكن القول بالتباين بين قانون النسخ ، وقانون النفي والإثبات ، الجواب نعم ، فليس من نفي لرسم الآية القرآنية ، ولا لمضامينها القدسية .
ومن شرائط النسخ أمور :
الأول : كون الناسخ خطاباً شرعياً ، فلا يجوز النسخ بالإجتهاد أو حكم العقل والظن المعتبر .
الثاني : لا يصح النسخ في الإعتقاد وضروريات الدين ، والإخبار ، لذا قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
الثالث : سلامة أصول العبادات من النسخ .
الرابع : قد يدخل النسخ على الأوامر والنواهي في القرآن مع الدليل .
وذكر من النسخ قبلة المسلمين كما في قوله تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ] ( ).
ليكون النسخ على وجوه :
الأول : نسخ الآية القرآنية بآية قرآنية أخرى .
الثاني : نسخ الحديث النبوي بآية قرآنية ناسخة .
الثالث : نسخ الحديث النبوي بحديث آخر .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث (وإني كنت نهيتكم عن ثلاث: نهيتكم عن زيارة القبورفزوروها، لتذكركم زيارتُها خيرًا، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا وأمسكوا ما شئتم، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية، فاشربوا في أي وعاء ، ولا تشربوا مسكرا”)( ).
الرابع : قيل بنسخ الآية القرآنية بحديث نبوي .
والمختار عدم جواز هذا الوجه فالسنة النبوية لا تنسخ القرآن ، وهل عدم النسخ من هذا الوجه من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) المختار نعم .
ولو تنزلنا وقلنا بأن السنة تنسخ القرآن كما يذهب إليه جمع من العلماء ، فاين هو الناسخ والمنسوخ ، لبيان بقاء مضامين الآية القرآنية وسلامتها من النسخ بالحديث النبوي .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد ويجاهد من أجل بقاء أحكام القرآن ودلالة آياته .
والمختار أن الإجماع وحده لا يثبت النسخ ، إذ أن إجماع العلماء من رشحات آيات القرآن ، وفرع عنها ، ولا يغير الفرع نوع وسنخية الأصل قطعي الثبوت والدلالة .
ومن أظهر مواضيع النسخ هو نسخ أو عدم نسخ آيات السلم ، ومن وجوه ضعف القول بنسخها القول بأن آية السيف نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية منها ،ولا دليل عليه في الاسم والمسمى والموضوع .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الخلافة التي تتقوم بالسلام ، ودار العبادة التي يؤتى بها كاملة وعامة بالأمن والسلم المجتمعي ، وبعث الأنبياء بلواء السلم إذ تحملوا شتى ضروب الأذى بصبر .

موارد الجمع في الصلاة اليومية
ينحصر هذا الموضوع بأمرين :
الأول : الجمع بين صلاة الظهر والعصر ، وتسمى صلاة الظهرين أو العصرين .
الثاني : الجمع بين صلاة المغرب والعشاء ، وتسمى صلاة العشائين ، فلا يصح الجمع بين صلاة العصر والمغرب .
عن الصادق عليه السلام : ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الظهر والعصر باذان واقامتين وجمع بين المغرب والعشاء في الحضر من غير علة بأذان واقامتين”.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الظهر والعصر جميعا.
والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر( ).
وقال الإمام مالك والشافعي : أرى ذلك بعذر المطر ، والأصل البراءة وعدم المطر .
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقام بخيبر ستة أشهر ، يصلي الظهر والعصر جميعا ، والمغرب والعشاء جميعاً( ).
ومشهور علماء الإسلام جواز الجمع بين الصلاتين في أحوال منها :
الأول : في عرفات بجمع الحاج بين الظهر والعصر جمع تقديم والجمع بين المغرب والعشاء بعد الإفاضة من عرفات جمع تأخير ، أي تأخير صلاة المغرب إلى أوان صلاة العشاء.
وفي حديث جابر بن عبد الله بخصوص حجة الوداع ، قال : ثم أذن بلال ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً ، ثم ركب القصواء حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل جبل المشاة بين يديه .
فاستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حين غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه فدفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد شنق للقصواء الزمام حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله وهو يقول بيده اليمنى :
السكينة أيها الناس كلما أتى جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى صعد حتى أتى المزدلفة ، فجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً .
ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبين له الصبح ( ).
الثاني : في السفر جمع تقديم العصر مع الظهر ، والعشاء مع المغرب ، أو جمع تأخير الظهر مع العصر في وقت العصر ، والمغرب مع العشاء ، وبه قال الشافعية ، والحنابلة والمالكية .
الثالث : حال المرض بلحاظ جواز الجمع لعذر مطلقاً والمرض عذر ، ومشقة إفراد كل صلاة من الصلوات الخمس على المريض أكثر منها على المسافر فيكون الجمع في المرض من باب قياس الأولوية ، وقال الحنفية وجمع من الشافعية بعدم جواز الجمع لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : في حال البرد ، والمطر الذي يبل الثياب .
الخامس : في الخوف واستدل بمفهوم رواية ابن عباس (من غير خوف ولا سفر) لدلالة الرواية على جواز الجمع في حال الخوف .
السادس : العذر مطلقاً ، من الخوف على النفس أو المال أو الضرر في المكسب والمعيشة.
ولا يجيز الحنفية الجمع بين الصلاتين إلا في عرفة ومزدلفة للنسك.
وعن معاذ بن جبل (أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ قَالَ وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ .
ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا ثُمَّ قَالَ إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَيْنَ تَبُوكَ وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوا بِهَا حَتَّى يَضْحَى النَّهَارُ فَمَنْ جَاءَ فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ فَجِئْنَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ.
فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ هَلْ مَسِسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا فَقَالَا نَعَمْ فَسَبَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ .
ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِيهِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتْ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ فَاسْتَقَى النَّاسُ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَاءً هَاهُنَا قَدْ مَلَأَ جِنَانًا)( ).

قانون الصلاة في أول وقتها سلام
من سنن التقوى المبادرة إلى أداء صلاة الفريضة في أول وقتها حتى في الأسواق وأثناء العمل الحر مع الإمكان ، قال تعالى[رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ] ( )، وفي هذه المبادرة في الأسواق، وعند حال البيع والمعاملة التجارية أمور:
الأول: إنها من تعظيم شـــعائر الله, قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ( ).
الثاني: فيها إنزجار عن المعصية.
الثالث: إنها واقية من المعاملة الربوية ، ونقص المكيال والتدليس والغش في البيع .
الرابع:إن ترك الإنشغال بالحلال كــالبيع والشــراء وقت الأذان والإنصراف إلى الصــــلاة تذكير للناس جميعــــاً بلزوم الإمتناع عن الربا.
الخامس: إدراك حقيقــة وهي أن الرزق كثرة وقلة بيـــد الله عز وجل وهو الذي أمر بالصلاة لتكون سبباً للبركة والنماء في المال ، الأمر الذي يدل على أن الله يرزق العبد الممتنع عن الحرام والباطل طاعة له سبحانه من الرزق الحلال الطاهر ما يكون أضعافاً مضاعفة.
لذا يستحب بناء المساجد المتقاربة في الأسواق ولو كانت صغيرة بما يكفي لأهل السوق ويلبي حاجتهم بعدم الإبتعاد عن محلاتهم لأداء الصلاة والفوز بثواب المسجدية .
وهذا الإستحباب مترشح من إستحباب بناء المساجد مطلقاً ، وما فيه من الأجر العظيم، وفي حديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(وَمَنْ بَنَى مَسْجِدًا يُذْكَرُ فِيهِ اسم اللَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)( ).
وأخبرت آيات القرآن بأن الله عز وجل ولي المؤمنين، ومنها قوله تعالى [وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وهذه الولاية مطلقة وعــامة لا تنــحصر بميادين القتال، فتشمل الأسواق والمعاملات، ومنها نهيهم عن الكسب الحرام وإن كان مالاً كثيراً مما يستلزم توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على نعمة الولاية في حال الحضر والسفر، والسلم والقتال، وحال دخول الأسواق إذ تكون معالم ولاية الله للمسلمين ظاهرة جلية من وجوه :
الأول: نقض خوف المسلمين بالأمن والسلامة من الفشل والهم به، قال تعالى[وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا]( ).
الثاني: كثرة أموال المسلمين، وقدرتهم على البيع والشراء، والتسليم والإستلام.
الثالث: حضور أحكام الإسلام في الأسواق بمراعاة سنن الحلال والحرام، فبعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تغيرت أحوال السوق وصارت هناك موضوعية للشريعة عند كل عقد للبيع أو الإيجار أو الرهن وغيرها.
الرابع: تقديم المسلمين أداء الصلاة عند حلول وقتها، وعزوفهم عن غيرها حينئذ وفيه ذكر لله ولزوم عبادته، وإستحضار لأوامره ونواهيه في المعاملات، وهو من مصاديق التقوى، وفيه بشارة الفلاح والفوز قال تعالى[أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ]( ) وأداء الصلاة مطلقاً عنوان للسلام سواء أُديت في أول وقتها أو آخر وقتها ، وجماعة أو فرادى.
(عن ابن عباس ، أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلى به الصلوات وقتين ، إلا المغرب) ( ).
وقد ذكرت في رسالتي العملية (الحجة) ( ):
أوقات اليومية
(مسـألة1) وقت الظهرين اي صلاة الظهر والعصر وهو ما بين الزوال الى غروب الشمس، وتختص صلاة الظهر باوله بمقدار اداء اربع ركعات بواجباتها وشرائطها على الاقوى، وان تكرر قول الفقهاء “بحسب حال المصلي” لكن مسألة الوقت كونية، ويختص العصر بآخره.
(مسـألة2) اذا سقط القرص وذهبت الحمرة المشرقية دخل وقت صلاة المغرب والعشاء ويمتد وقتهما الى نصف الليل، وتختص صلاة المغرب باوله وبمقدار ادائها، وصلاة العشاء بآخره بمقدار اربع ركعات، هذا للمختار اما المضطر لنوم او نسيان او حيض وغيره من حالات الأضطرار فان وقتهما يمتد الى طلوع الفجر.
ومشهور علماء الإسلام ابتداء وقت صلاة المغرب من الغروب الكامل لقرص الشمس ، وينتهي بغيبوبة الشفق الأحمر .
(مسـألة3) وقت صلاة الصبح ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس وعليه النص والإجماع، ويعرف طلوع الفجر باعتراض البياض الأفقي الحادث المتصاعد في السماء.
(مسـألة4) وقت صلاة الجمعة مضيق يبدأ عند زوال الشمس، ويخرج اذا صار ظل كل شيء مثله.
(مسـألة5) وقت فضيلة الظهر من الزوال الى بلوغ الظل الحادث مثل الشاخص يعبر عنه بالقامة والذراع، والذراع مقدار ما بين المرفق الى اطراف الأصابع ويساوي قدمين تقريباً، وقامة الشاخص الذي يجعل لمعرفة الوقت،وقد يراد منه اوان الإنتهاء من النافلة.
(مسـألة6) وقت فضيلة العصر من مثل الشاخص الى مثليه وهو المشهور.
(مسـألة7) وقت فضيلة العشاء من ذهاب الشفق الى ثلث الليل، واداؤها قبل ذهاب الشفق مجز .
(مسـألة8) وقت فضيلة الصبح من طلوع الفجر الصادق الى حدوث الحمرة المشرقية ، وهو أوان إسفار الصبح .
(مسـألة9) يعرف الزوال بحدوث ظل الشاخص المنصوب معتدلاً في أرض مستوية كما في مكة في بعض الأحيان، او زيادة الظل بعد نقصانه، او حدوثه بعد انصرافه، ويعرف ايضاً بميل الشمس الى الحاجب الأيمن.
(مسـألة10) يعرف وقت المغرب بثبوت سقوط القرص وذهاب الحمرة المشرقية من سمت الرأس ، واختلف في نصف الليل هل هو النصف ما بين غروب الشمس وطلوعها ام بينه وبين طلوع الفجر وهو قول الأكثر، اما في لسان الروايات الذي نلفت النظر اليه فيعرف بزوال النجوم التي طلعت اول الغروب عن وسط السماء وانحدارها الى طرف المغرب مما يستلزم جدولاً خاصاً لليالي السنة.
(مسـألة11) المراد باختصاص اول الوقت بصلاة الظهر في الظهرين عدم جواز اتيان صلاة العصر فيه لعدم التكليف اثناءه الا بصلاة الظهر، وكذا بالنسبة للمغرب، اما اختصاص صلاة العصر بآخره أي عدم جواز اتيان صلاة الظهر فيه اذا كانت صلاة العصر لم تؤد بعد، وكذا بالنسبة لإختصاص ما قبل نصف الليل بمقدار اربع ركعات بصلاة العشاء.
(مسـألة12) يجب تأخير صلاة العصر عن الظهر، والعشاء عن المغرب سواء في الوقت المختص بالظهر او المغرب او الوقت المشترك، أما لو قدم سهواً فاذا كان في الوقت المختص بصلاة الظهر او المغرب فالصلاة باطلة وان كان في الوقت المشترك فالصلاة صحيحة اذا كان بعد الفراغ منها، اما لو كان التذكر في الإثناء عدل بنيته الى السابقة مع بقاء محل العدول وعليه الإجماع والنص.
(مسـألة13) لو حاضت المرأة بعد الزوال بمضي مقدار اربع ركعات فيجب عليها قضاء خصوص صلاة الظهر، اما لو طهرت من الحيض ولم يبق من الوقت الا مقدار اربع ركعات فيجب عليها اتيان خصوص صلاة العصر، وهكذا بالنسبة للحالات الثابتة الأخرى كبلوغ الصبي وافاقة المجنون الإدواري، والقضاء عن الذي مات بعد مضي مقدار اربع ركعات او قبل خروج الوقت ونحوه.
(مسـألة14) اذا بقي مقدار خمس ركعات الى غروب الشمس قدم الظهر واذا بقي اربع ركعات او اقل قدم العصر ثم يأتي بصلاة الظهر قضاء، والمدار على غروب الشمس وليس على وقت صلاة المغرب احتياطاً، واذا بقي الى نصف الليل مقدار اربع ركعات او أكثر قدم صلاة المغرب لتقع ركعة من صلاة العشاء في الوقت، واذا بقي مقدار ثلاث او اقل قدم العشاء.
(مسـألة15) الحمرة التي تظهر في السماء كل يوم والمعتبرة في اوقات الصلاة حدوثاً او ذهاباً على اقسام:
الأول : حدوث الحمرة المشرقية: وهو آخــر وقت فضيلة الصــبح، وتحـدث بعد نصف ساعة تقريباً من طلوع الفجر الذي هو أول وقت الفضيلة.
الثاني : ذهاب الحمرة المشرقية : يعرف بذهابها وقت صلاة المغرب، وتكون بعد سقوط قرص الشمس بنحو عشر دقائق.
الثالث : الحمرة المغربية : يكون ذهابها بعد غروب الشمس ويسمى سقوط الشفق.
الرابع : يستحب التفريق بين الصلاتين المشتركتين في الوقت كالظهرين والعشاءين ويكفي مسمى التفريق عرفاً بالإضافة الى صلاة النوافل، ويجوز الجمع بينهما .
قانون التقيد بأوقات الصلاة سلم
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين والمسلمات أداء الصلاة في أوقاتها ، وعدم الإنشغال بالخصومة والشقاق ، فأمرهم بالسلم ، ليكون وعاء لأداء الصلاة جماعة وفي أوقاتها ، وفي المساجد من غير خشية من الإقتتال .
ومن الإعجاز في معاني ودلالات الصلاة أنها دعاء وسلم وأمن بالذات ، وهي محل تلاوة آيات القرآن ، والتذكير والترغيب بالسلم في التلاوة ، وفي حال الخشوع والخضوع والتذلل والتطامن بين يدي الله عز وجل .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكره حمل السلاح في المسجد ، ويمنع من إشهاره ورفعه فيه (عن محمد بن عبيد الله قال : كنا عند أبي سعيد الخدري في المسجد ، فقلّب رجل نبلا .
فقال أبو سعيد : أما كان هذا يعلم أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن تقليب السلاح في المسجد وسله) ( ).
(عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال من حمل علينا السلاح فليس منا) ( ).
(عن ابن مسعود قال : سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي العمل أحب إلى الله .
قال : الصلاة على وقتها .
قلت : ثم أي .
قال : ثم بر الوالدين .
قلت : ثم أي .
قال : ثم الجهاد في سبيل الله) ( ).
ولابد من أسباب وغايات سامية ومنافع في تقديم موضوع الصلاة في أول الوقت منها :
إشاعة التقوى ، وغلبة الخشوع والخضوع والمسكنة لله عز وجل على الجوارح والأركان ، ونشر ألوية السلم ، وإتخاذ صلاة الجماعة وسيلة لتنمية ملكة الأخوة والمحبة .
وحين تخرج السرايا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوصيهم بتقوى الله ، وتعاهد الصلاة في أوقاتها ، وتعظيم شعائر الله ، وعدم ابتداء القتال .
وينهاهم من الإجهاز على الجريح أو قتل المرأة أو الصبي أو الشيخ أو رجل الدين ، ولا يرضى باشاعة القتل ، وكان يترك الذي يفر ويهرب من المشركين .
ومن الإعجاز في نبوته عودة هذا الفار إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لينطق بالشهادتين ، ويدخل الإسلام .
(عن أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحرقات من جهينة فصبحناهم وقد ندروا بنا فخرجنا في آثارهم فأدركت منهم رجلا .
فجعل إذا لحقته قال لا إله إلا الله فظننت أنه يقولها فرقا من السلاح فحملت عليه فقتلته فعرض في نفسي من أمره شئ .
فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
قال لي أقال لا إله إلا الله ثم قتلته قلت إنه لم يقلها من قبل نفسه إنما قالها فرقا من السلاح .
قال لي أقال لا إله إلا الله ثم قتلته فهلا شققت عن قلبه حتى تعلم أنه إنما قالها فرقا من السلاح .
قال أسامة فما زال يكررها علي أقال لا إله إالله ثم قتلته حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ) ( ).
وفيه دعوة نبوية لقبض اليد ، واجتناب اشهار السلاح والتعجل في استخدامه وحضّ على حقن الدماء والإمتناع عن القتل لأدنى سبب ، ولبيان قانون وهو الأصل في السرايا الحساب على التعجل في القتل ، كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحياناً يدفع الديات لولي المقتول .
قانون سيادة الأمن بالنبوة
لقد كان الناس يتقاتلون في الجزيرة بصيغة الإنتماء إلى القبيلة ، ويكثر الغزو والنهي بينهم ، وفتحوا على أنفسهم بابا لا ينغلق وهو الثأر ، سواء على نحو القضية الشخصية بالثأر من القاتل للأخ أوالأب أو القريب أو الثأر النوعي بين أفراد القبائل .
فجاء قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ( ) لنسخ عادات الغزو والنهب والثأر .
لتكون هذه الآية ناسخة غير منسوخة من جهات :
الأولى : الآية ناسخة لأخلاق مذمومة .
الثانية : تقطع الآية جريان أنهار من الدم .
الثالثة : تمنع الآية من نزول المصيبة بالبيوت والعوائل .
الرابعة : تحول الآية دون حال اليتم والأسر النسبي .
فان قلت قد حصل قتال في بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، والجواب من جهات :
الأولى : معارك الإسلام الأولى دفاعية محضة ، إذ أصر المشركون على القتال ، ويدل عليه تفضل الله بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) وقانون عدم حب الله للمعتدين بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) لبيان أن نصر الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه شهادة بتنزههم عن الإعتداء .
الثانية : بمعارك الإسلام الأولى استؤصل القتل والغزو والنهب والسبي في الجزيرة ، وكانت أربعة أشهر في السنة القمرية حُرماً ، فجعل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشهر السنة كلها خالية من الإقتتال والنهب والسبي .
الثالثة : إنقطاع السرقة ، ولا ينحصر هذا الإنقطاع بعقوبة السارق في الإسلام كما في قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاًمِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ) إنما إرتقت أخلاق الناس ، وساد الصدق والعفة المجتمعات ونماء ملكة الصبر والزهد عند المسلمين والمسلمات .
وهل لكل من الصبر والزهد موضوعية في دخول المسلمين في السلم أو أنهما يترشحان عن هذا الدخول ، الجواب كلا الأمرين صحيح إذ أن الصبر والزهد طريق ومقدمة للدخول في السلم ، كما أنهما يتفرعان عن حال السلم العامة ، وتقيد الأفراد بالسلم ونبذ العنف والإرهاب .
أجزاء الصلة بين الآيات المتجاورة
الحمد لله الذي جعل كل آية من القرآن كنزاً للعلوم وخزينة ينهل منها الناس جميعاً الدرر ، وما يضئ لهم سبل الهداية والرشاد وتتجدد ذخائره، وتتوالى إفاضاته مع تعاقب الليل والنهار وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( ).
ففي كل يوم يطل علينا القرآن بعلوم مستحدثة ، وشواهد من علم الغيب يختلف عنها أي تحقيق أو إحصاء أو تأويل سابق لهذا اليوم .
وعدد آيات القرآن هو (6236) آية عدا البسملة المتكررة وجاءت في (114) سورة أولها وفق ترتيب المصحف سورة الفاتحة وآخرها سورة الناس، عدا سورة براءة.
وأطول سورة في القرآن هي سورة البقرة من جهة عدد الكلمات والآيات ، وهي كالآتي :
عدد الآيات : 286 .
عدد الكلمات : 6144 .
عدد الحروف : 25613 .
وتأتي بعد سورة البقرة كل من :
الأولى : في ترتيب المصحف سورة آل عمران .
الثانية : في عدد الآيات سورة الشعراء (227) آية مع أن سورة الشعراء تقع في الجزء التاسع عشر من القرآن ، ثم سورة آل عمران وعدد آياتها (200) آية وخاتمتها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثالثة : في عدد الكلمات تأتي بعد سورة البقرة سورة النساء ، وعدد كلماتها (3712) ثم سورة آل عمران (3503) آية ، ولابد من أسرار ملكوتية في هذا الترتيب .
الرابعة : في عدد الحروف بعد سورة البقرة تأتي سورة النساء أيضاً وعدد حروفها (15937) ثم سورة آل عمران وعدد حروفها (14605) ، وقد تقدمت احصائية في سورة القرآن وعدد كلمات وحروف كل منها ( ).
الحمد لله الذي أنعم علينا بتوالي أجزاء هذا السِفر المبارك وكانت الأجزاء تتوالى بالتعاقب في تفسير الآيات إذ ابتدأ الجزء الأول منه في سورة الفاتحة ثم جاءت نحو (48) جزءً في سورة البقرة ثم استمرت الأجزاء في تفسير سورة آل عمران ، ومنها ما اختص بالصلة بين آية وآية ، أو آيات مجاورة لها من سورة آل عمران ومنها :
الأول : الجزء الواحد والثمانون ويختص بالصلة بين الآية (110) وهو قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]( )، وفيه دعوة للمسلمين لتعاهد مقامات التقوى وأداء الفرائض ، والصلاح والسلم ، والتعاون في سبل المعروف ومناهج الخير.
وهل تدل الآية على الزجر عن الإرهاب وعن اشاعة القتل والتفجيرات سواء في ذاتها أو صلتها مع الآيات المجاورة لها .
الجواب نعم ، وهذا الزجر من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويدل وصف (خير أمة) على وجوب التنزه العام من الإرهاب ، والعصمة منه فمن خصائص الإيمان التحلي بالأخلاق الحميدة ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ). الآيات (101-109) من سورة آل عمران
الثاني : الجزء السادس والسبعون، ويختص بصلة الآية (110) بالآيات (64-69) من سورة آل عمران .
الثالث : الجزء السابع والسبعون ، ويختص بالصلة بين الآية (110) والآيات (70-77) من سورة آل عمران .
الرابع : الجزء الثامن والسبعون ، ويختص بالصلة بين الآية (110) والآيات (78-84) من سورة آل عمران .
الخامس : الجزء التاسع والسبعون ويختص بالصلة بين الآية (110) والآيات (85-93) من سورة آل عمران .
السادس : الجزء الثمانون ويختص بالصلة بين الآية (110) والآيات (94-102) من سورة آل عمران .
السابع : الجزء الخامس والعشرون بعد المائة ويختص بالصلة بين الآية (152) وهو قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( )، بالآية التي قبلها من سورة آل عمران وهو قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
الثامن : الجزء الثاني والعشرون بعد المائة ويختص بالصلة بين شطر من الآية (153) وهو قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( )، وشطر من الآية (151) وهو قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
التاسع : الجزء الخامس والعشرون بعد المائة والذي يختص بالصلة بين شطر من الآية (154) وهو قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( )، وشطر من الآية (153) وهو قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
العاشر : الجزء الواحد والخمسون بعد المائة ويختص بالصلة بين شطر من الآية ( 161 ) وهو قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( )، بشطر من الآية (164) وهو قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( )، من سورة آل عمران .
الحادي عشر : الجزء الواحد والتسعون بعد المائة ويختص بالصلة بين الآيتين المتجاورتين (180) وهو قوله تعالى [وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ]( )، والآية (181) وهو قوله تعالى [لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ]( )، من سورة آل عمران.
هذه إلى جانب الأجزاء الخاصة بتفسير كل آية من الآيات أعلاه .
قانون ترشح النعم عن إشاعة السلم
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار النعم والفضل منه تعالى ، قال سبحانه [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ) وتأتي النعم من عند الله على وجوه :
الأول : الإبتداء بالنعمة من عند الله عز وجل .
الثاني : قانون النعمة شكر من الله عز وجل للعباد ، قال تعالى [وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( ) .
الثالث : مجئ النعمة بالدعاء والمسألة، قال تعالى [وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ]( ).
الرابع : النعمة رحمة ورأفة من الله عز وجل .
الخامس : النعم التي تأتي لحب الله عز وجل للناس .
السادس : النعم التي تأتي للناس لصفة الخلافة في الأرض ، فيكون من معاني قوله تعال [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )أي خليفة أغدق عليه النعم.
ومن الآيات أن كل نعمة من عند الله توليدية تتفرع عنها نعم كثيرة ، ومنها نعمة السلم التي تترشح عن نعمة الإيمان ، وتتفرع عنها نعم غير متناهية .
من معاني قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ( ) كافة أمور:
الأول : تقوم الإيمان بالسلم ، فلا إيمان من غير دخول في السلم ونشر الأمن ، ولم يرد لفظ [فِي السِّلْمِ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
الثاني : الزجر عن الخصومة والإقتتال بين المؤمنين .
الثالث : إنتفاء الإستثناء من الدخول في السلم ، لبيان عدم العموم في قول بعض العلماء ، ما من عام إلا وقد خصّ .
وردت الآية بصيغة الخطاب للجمع المذكر [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فهل يشمل النساء أم يختص بالرجال كاختصاص القتال بهم ، الجواب هو الأول ، فكما ورد التكليف بالصيام بصيغة جمع المذكر ويشمل النساء ، فكذا بالنسبة للدخول بالسلم .
لبيان قانون وهو أصالة العموم الإستغراقي في نداءات القرآن يا أيها الناس ، يا أيها الذين آمنوا ونحوه إلا مع وجود دليل على الإستثناء لجنس أو طائفة أو أفراد .

تعدد الأوامر في آية البحث
من إعجاز الآية [وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ] ( ) مجئ الأوامر والرغائب من جهات :
الأولى : أوان وزمان واحد ، كل منهم يريد أمراً .
الثانية : اتحاد سنخية ما يريده الكافرون والمنافقون من الغايات الخبيثة .
الثالثة : مناجاة وترتيب الكافرين والمنافقين فيما يطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وموضوع الآية أعم من الطلب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن مصاديقها ( ولا تطع الكافرين والمنافقين فيما يفعلون وما يريدون من الناس .
لتتضمن الآية قانوناً وهو إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمجتمع ، ومن وظائف هذه الإمامة الجمع بين :
الأول : الصبر على الجاحدين والمنافقين .
الثاني : بناء صرح الإيمان ، قال تعالى [فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
الثالث : جذب الناس لسبل الهداية والرشاد ، وفيه فتح باب لتوبة الكافرين والمنافقين ،
فمن إعجاز السنة النبوية التي هي فرع الوحي والأوامر والنواهي من الله أن صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الكافرين والمنافقين نوع طريق لتوبتهم وصلاحهم ، فلا تصل النوبة إلى القتال ولمعان السيوف ، لذا فهذه الآية من آيات السلم ، وهي غير منسوخة ، فالنهي عن طاعة الكفار والمنافقين مستمر ومتجدد .
ومع قلة كلمات الآية فانها تبدأ بالنهي ثم الأمر المتعدد ، ثم قانون من الإرادة التكوينية .
وقد عطفت هذه الآية بداية الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يبشر المؤمنين بأن لهم من الله عز وجل فضلاً كبيراً في النشأتين ، ثم جاءت الآية بالنهي المتحد في لفظه المتعدد في موضوعه ، وتقديره على وجوه:
الأول : يا أيها النبي لا تطع الكافرين .
الثاني : يا أيها النبي لا تطع المنافقين .
ومن الإعجاز في التباين بين جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للكافرين وجهادهم للمنافقين إفراد الكافرين بأن جهادهم جهاد كبير .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا الكافرين .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا المنافقين .
الخامس : يا أيها الذي آمن لا تطع الكافرين .
السادس : يا أيها الذي آمن لا تطع المنافقين .
السابع : يا أيتها اللائي آمنّ لا تطعن الكافرين والكافرات والمنافقين والمنافقات .
الثامن : يا أيها التي آمنت لا تطيعي الكافرين والمنافقين والكافرات والمنافقات .
ثم جاء الأمر المتعدد في الآية وهو على جهتين:
الأولى : وهو على وجهتين :
الأول : يا أيها النبي دع أذى الكافرين .
الثاني : يا أيها النبي دع أذى المنافقين .
ويكون تقدير ذات الوجوه أعلاه في المقام بالصبر على أذاهم .
وتبين الآية أن ترك الأذى أمر وجودي .
الثانية : يا أيها النبي توكل على الله ، وهو تفويض الأمور إلى الله والإستسلام لحكمه ، وصدق الإعتماد على مشيئته وعظيم قدرته ، ورجاء فضله في استجلاب المنافع ، وصرف المضار ، والتسليم بأن الله عز وجل هو الذي يعطي ويمنع ، ولا ينفع الناس في الدنيا والآخرة إلا الله سبحانه .
وهل قوله تعالى في آية البحث [وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( ) خاص بمضامين هذه الآية وترك أذى الكفار والمنافقين .
الجواب هو أعم فالتوكل على الله في حال الرخاء والشدة ، وفي الأمور الخاصة والعامة ، وفي الحرب والسلم .
ليكون التوكل على الله طريق النجاة من أذى الكفار والمنافقين .
ومن إعجاز الآية أن ترك أذى الكفار والمنافقين ليس فرداً مستقلاً بذاته ، إنما يصاحبه التوكل على الله ، لبيان مسألة وهي أن أذى الكفار يذهب سدى مع التوكل على الله .
وليكون من معاني قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )أي لن يضروكم لأنكم تتوكلون على الله ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( ).

وجوه تقدير آية السلم
تقدير آية البحث بلحاظ قانون هذا الجزء ، وهو (آيات السلم محكمة غير منسوخة ) على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا ارفعوا لواء السلم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا ادعوا إلى السلم ، قال تعالى [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الثالث : يا أيها الذين آمنوا اتبعوا نهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نشر لواء السلم .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا اعملوا على تثبيت السلم في الأرض .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا أنتم رواد مناهج السلم .
السادس : يا أيها الذين آمنوا من حب الله لكم أن هداكم للسلم ، وجعلكم دعاة له .
ويتلو كل مسلم ومسلمة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )ومن مصاديق هذا الصراط تعاهد السلم ، وما يسمى بالطاقة الإيجابية .
السابع : يا أيها الذين آمنوا من شرائط الإيمان الدخول العام في السلم والوئام والصلح .
الثامن : يا أيها الذين آمنوا تتقوم الحياة الدنيا بالسلم .
التاسع : يا أيها الذين آمنوا قد حبّب الله إليكم السلم فاتخذوه دثاراً وجلباباً .
العاشر : يا أيها الذين آمنوا : بالسلم تتجلى معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) فان السلم نوع طريق لبلوغ الآيات وبينات التنزيل لأهل الأرض .
الحادي عشر : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ، واتركوا العنف واجتنبوا الإرهاب ، فبينه وبين السلم نوع تناف وتضاد .
الثاني عشر : يا أيها الذين آمنوا إن الله هو السلام ، فأراد للمؤمنين السلم فيما بينهم ومع غيرهم من أهل الأرض .
قانون الملازمة بين السلم وملكية الله المطلقة للأرض والسماء
لقد جعل الله عز وجل ملك السموات والأرض له وحده ، وتحدى الخلائق بذكر هذا القانون في الكتب السماوية ، وجاء به الأنبياء ، وليس للناس إلا التسليم والخضوع له سبحانه ، ومن معاني الملكية في المقام السلطان المطلق والمشيئة ، وحضور جميع الأشياء عنده سبحانه .
والله سبحانه لا يرضى للناس القتال ، وعندما احتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) اجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ومن علم الله عز وجل أنه يشيع السلم في ملكه ، ويمنع من الإقتتال ، ويُنزل آيات السلم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويجعلها غير قابلة للنسخ ، إنما يبقى رسمها وتفسيرها وحكمها إلى يوم القيامة .
لذا فان آية السيف لا تنسخ هذه الآيات ، إنما موضوعها خاص بأيام نزولها في آخر السنة التاسعة ، قال تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وقد تقدم البيان ، وتقدير الآية : فاذا انسلخ الأشهر الحرم السرد تلك السنة ، فان قلت المراد هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، وهي ليست في سنة واحدة ، والجواب المقصود أشهر متتالية ، ومجموع الأشهر الحرم في السنة أربعة ، وإلى جانب الأشهر الثلاثة أعلاه ، هناك شهر رجب منفرد .
ومن إعجاز الآية أعلاه أنها لم تذكر السنة وعدة الأشهر الحرم ، وتقدير الآية : فاذا انسلخ الأشهر الحرم الثلاثة المتتالية هذه ، ليكون هذا الحصر من مصاديق الإطلاق الزماني والموضوعي في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
ومن الشواهد على إنحصار الآية بتلك السنة ورود جمع القلة (الأشهر) وهي الأشهر الثلاثة على نحو الحصر والتعيين ، بينما ورد جمع الكثرة في قوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ).
وهذا التباين في صيغة الجمع بين (الأشهر) و(الشهور) من الشواهد على عدم استدامة موضوع آية السيف ، إنما هو محصور بأوانه .
قانون وجوب توارث الإيمان
لقد إبتدأت عمارة الإنسان للأرض بالإيمان والعمل الصالح ، فأول من سكن الأرض هو آدم وحواء ، إذ هبطا من الجنة بأمر من الله عز وجل ،وهو الذي تكفل سلامتهما عند الهبوط ، وهل هبوط المركبات الفضائية بأمن مرآة لهذا الهبوط ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ) .
وكان آدم نبياً رسولاً ، وزوجه حواء مؤمنة أقامت في الجنة برهة من الوقت ، نعم هبط ابليس معهم ليسعى في افتتان بعض من ذرية آدم ، والذي ابتدأ بقتل قابيل لأخيه هابيل ، فجاء قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
ليتوارث المسلمون الإيمان باجتناب الإقتتال فيما بينهم بلحاظ أن هذا الإقتتال فتنة وإنشغال عن الذكر والعبادة .
وفي القتال سفك للدماء وخسارة بالنفوس والأموال ، وهو مانع من الإنجاب بسبب إنخرام عمر المقتول إلى جانب الإثم على القتال بالباطل .
ومن خصائص السلم في موضوع الإيمان وجوه :
الأول : قانون السلم مقدمة للإيمان .
الثاني : قانون السلم تثبيت للإيمان .
الثالث : قانون السلم من رشحات الإيمان .
ويمكن إنشاء قانون وهو توارث الإيمان حاجة للأحياء والأموات ، والذين لم يولدوا بعد ، إنه الأمانة العظمى في الأرض ، قال تعالى [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً] ( ).
وتفضل الله عز وجل ببعثة الأنبياء ، وأنزل الكتب والأحكام والسنن من السماء .
لتنجز وقضاء هذه الحاجة ، لذا قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ).
وهل يتوارث الناس السلم أم أن القدر المتيقن هو وجوب توارث الإيمان وحده ، الجواب هو الأول بلحاظ أن السلم ملازم للإيمان ، ويدل عليه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) فليس من استثناء وخروج لأفراد أو طائفة عن السلم.
وتبين هذه الآية التضاد بين الإيمان وبين إتباع وسوسة وخطى الشيطان ، إذ أنه يدعو إلى الفتنة ، ويقرب الناس من الإقتتال ، والمقصود الشيطان على وجوه :
الأول : وجود شخص الشيطان وله أثر مادي ملموس .
الثاني : المراد النفس الغضبية .
الثالث : سوء السريرة .
الرابع : المراد من الشيطان قرين السوء والذي يسلك مسالك الشيطان الذي أغوى آدم وحواء بالأكل من الشجرة .
والمختار هو الأول ، والأصل في الكلام العربي هو إرادة الحقيقة وليس المجاز .
ومن أهل العلم من ينكر وجود دليل عقلي على كون الشيطان كائناً موجوداً ، وهو نوع مغالطة إذ أن العقل في المغيبات يتبع النقل ، ويكون فيها القرآن والسنة حجة نقلية وعقلية .
ولو قلنا باستقلال العقل في الحكم في المقام فان الشواهد الكثيرة تدل على وجود الشيطان باشعال نار الفتنة من غير أسباب موجبة ، وبتقريب المعصية والفاحشة للإنسان ، وبامتناعه عن التدبر والتفكر ، ولو صبر ساعة لانكشف له الغطاء .
وذات العقل الذي يستدل به على وجود أو عدم وجود الشيطان لا يرى، ومع إرتقاء الطب الحديث فان لم ينكشف جرم خاص للعقل ، ومع هذا يكون هو المدرك فهو وظيفة وعمل للدماغ أو القلب .
وكذا فان الشيطان موجود ، ويظهر أثره بعالم الأفعال ، وهو لا يمنع من تنجز الإغواء من قرين السوء ومن النفس الأمارة بالسوء .
ليدل قوله تعالى [لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ] أن الشيطان له خطوات وأفعال وإغواء يزينها للناس ، ويحاول جذبهم إليها ، ومنها أسباب الفتنة والإقتتال .
وعندما أرادت قريش الخروج إلى معركة بدر تلبس الشيطان بهيئة سراقة ، وضمن لهم عدم إغارة بني بكر على مكة وأموال قريش عند خروجهم لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإحراز خروج أكبر عدد منهم لإغوائهم عندما يلتقي الجمعان بالقتال وعدم الخشية من المسلمين .
و(عن عروة بن الزبير قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذى كان بينها وبين بنى بكر، فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجى، وكان من أشراف بنى كنانة، فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تكرهونه.
فخرجوا سراعا قلت: وهذا معنى قوله تعالى: ” ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط( ).
(وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم)( ) .
فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال: إنى برئ منكم إنى أرى ما لا ترون إنى أخاف الله والله شديد العقاب) ( ).
والشيطان هو ابليس ، ولا يمنع تعدد الشياطين بالجنس والعدد ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] ( ).
ومن فضل الله عز وجل على الناس أن الشيطان وجنوده لا يستطيعون منع توارث الإيمان في الأرض ، وعجزهم هذا من الشواهد على قوله تعالى [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
وتفضل الله بتعليم آدم الأسماء واتقانه لها ، وهو في السماء وشهادة الملائكة وسجودهم له ، لبيان قانون وهو توارث الإيمان في الأرض من أيام آدم دعوة لتعاهد السلم ، وتوارث السعي في سبل الأمن المجتمعي ، وصيرورة ما شذّ وخالف هذا القانون أمراً قليلاً يبعث على الندامة والأسى.
ليكون من معاني قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ( ) يا أيها الذين آمنوا احفظوا دماءكم ودماء الناس جميعاً بدخولكم في السلم الذي يعني وجوهاً :
الأول : الإمتناع عن الإبتداء بالقتال مع أهل الكتاب أو الكفار .
الثاني : الصبر وتحمل الأذى .
الثالث : الإجتهاد في طاعة الله ، وأداء الفرائض لأنه سلم محض .
الرابع : اللجوء إلى الصلح والموادعة ، ومن الشواهد ومصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) صلح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المشركين في الحديبية في السنة السادسة للهجرة .
الخامس : الإصلاح بين الناس .
السادس : دفع مقدمات الإقتتال .
السابع : التحلي بالأخلاق الحميدة .
قانون المدد الملكوتي سلم
لقد نزل الملائكة يوم معركة بدر عند إصرار الذين كفروا على القتال وإرادتهم قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، إذ كانوا في أقل من ثلث عدد المشركين في ميدان المعركة ، مع قلة عدتهم وأسلحتهم .
فتفضل الله عز وجل ونصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالملائكة .
فقُتل من المشركين يومئذ سبعون وأُسر سبعون ، ليكون من مصاديق نسبة النصر إلى الله عز وجل بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
ولقد نصركم الله بضرب الملائكة لأعناق الذين كفروا .
(عن بعض بني ساعدة قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما أصيب بصره يقول : لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى .
فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس ، وأوحى الله : إليهم إني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، وتثبيتهم أن الملائكة عليهم السلام تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول : ابشروا فإنهم ليسوا بشيء والله معكم كروا عليهم.
فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه وقال : [إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ]( ) وهو في صورة سراقة ، وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول : لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه كان على موعد من محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ثم قال: واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمداً وأصحابه في الحبالس، فلا تقتلوا وخذوهم أخذاً) ( ).
والظاهر أن قول أبي جهل أعلاه (فلا تقتلوا وخذوهم أخذاً) قبل التقاء الصفين ولمعان السيوف ، وإلا فقد سقط أربعة عشر من المهاجرين والأنصار شهداء بسيوف المشركين يوم بدر .
كما طلب عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد بن ربيعة المبارزة ، وحين برز لهم ثلاثة من الأنصار لم يرضوا بمبارزتهم .
(ثُمّ نَادَى مُنَادِيهِمْ يَا مُحَمّدُ أَخْرِجْ إلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ وَقُمْ يَا عَلِيّ ، فَلَمّا قَامُوا وَدَنَوْا مِنْهُمْ قَالُوا : مَنْ أَنْتُمْ ؟
قَالَ عُبَيْدَةُ عُبَيْدَةُ وَقَالَ حَمْزَةُ حَمْزَةُ وَقَالَ عَلِيّ : عَلِيّ ، قَالُوا : نَعَمْ أَكْفَاءٌ كِرَامٌ .
فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ وَكَانَ أَسَنّ الْقَوْمِ عُتْبَةَ ( بْنَ ) رَبِيعَةَ ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَبَارَزَ عَلِيّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ .
فَأَمّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ شَيْبَةَ أَنْ قَتَلَهُ وَأَمّا عَلِيّ فَلَمْ يُمْهِلْ الْوَلِيدَ أَنْ قَتَلَهُ وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَيْنِ كِلَاهُمَا أَثْبَتَ صَاحِبَهُ وَكَرّ حَمْزَةُ وَعَلِيّ بِأَسْيَافِهِمَا عَلَى عُتْبَةَ فَذَفّفَا عَلَيْهِ وَاحْتَمَلَا صَاحِبَهُمَا فَحَازَاهُ إلَى أَصْحَابِهِ) ( ).
ويوم خلق الله عز وجل آدم أخبر الملائكة عن خلافته وذريته في الأرض فاحتجوا بفساد عظيم ، وسفكهم للدماء ، فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) وتمر مئات وآلاف السنين فيبعث الله عز وجل النبي محمداً فاستبشر الملائكة ، ولكن المشركين حاصروه وأصحابه في معركة بدر ، وكان القتل قريباً منه لقلة أصحابه والنقص في أسلحتهم ، ولم تنزل أكثر آيات القرآن بعد ، ولم يستتب الإيمان والإسلام في الجزيرة ، وكان الملائكة يتطلعون إلى نزول قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
فضج الملائكة بالدعاء ، وسألوا الله نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فاذن الله عز وجل لهم بالنزول إلى الأرض ، فنزل ألف منهم ، وخاطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتنجز البشارة ، وعدم وجود ثمة فاصل زماني بين كل من :
الأول : حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للمدد .
الثاني : أمر الله عز وجل إلى الملائكة بالنزول من السماء لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالث : نزول قول الله تعالى خطاباً وبشارة [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ).
ولم يرد لفظ [ثَبِّتُوا] ولفظ [بَنَانٍ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
الرابع : إجتماع الملائكة للنزول إلى الأرض .
الخامس : قطع الملائكة المسافة بين السماء والأرض .
السادس : حضور الملائكة لميدان المعركة ومباشرتهم إخافة ودفع المشركين .
وأختلف في وظيفة وعمل الملائكة يومئذ على وجوه :
الأول : تثبيت الذين آمنوا .
الثاني : القتال مع المسلمين .
الثالث : تكثير سواد المسلمين ، وأن قوله [فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ] ( ).
والمختار أن عمل الملائكة يومئذ على وجوه :
الأول : تثبيت الذين آمنوا في الميدان .
الثاني : بعث الفزع والخوف في قلوب المشركين .
الثالث : القتال.
الرابع : القيام بأسر بعض أفراد من المشركين .
ونعتت أخبار قتال الملائكة يومئذ بالضعف ، ولكنه ظاهر الآية الكريمة، والظاهر حجة في المقام ، ويعضد ضعف الأحاديث (عن سهيل بن عمرو قال: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين، يقتلون ويأسرون) ( ).
(كان ابن عباس يقول: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
فحدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان الملك يتصور في صورة من يعرفون من الناس يثبتونهم، فيقول: إني قد دنوت منهم فسمعتهم يقولون: لو حملوا علينا ما ثبتنا، ليسوا بشيء، وذلك قول الله تبارك وتعالى: ” إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا.. “( ) ، إلى آخر الآية.) ( ).
أي أن الملك يأتي إلى المسلمين بهيئة أحد الصحابة ويقول لهم أني سمعت المشركين يقولون لو حمل علينا المسلمون لم نثبت لهم ، وأن المشركين ليسوا بشئ ، ولم يكن الملائكة يكذبون ، فلابد أنهم سمعوا هذا القول فعلاً من جيش المشركين .
ويحتمل هذا الأمر من أسرار الملائكة وجوهاً :
الأول : إرادة حسن عاقبة الذي يقع في الأسر ، وعن الإمام علي عليه السلام (قال جاء رجل من الأنصار قصير برجل من بني هاشم ولفظ أبي نعيم بالعباس أسيرا يوم بدر فقال الرجل إن هذا والله ما أسرني لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس ابلق ما أراه في القوم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذاك ملك كريم .
واخرج احمد وابن سعد وابن جرير وأبو نعيم عن ابن عباس قال كان الذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو وكان أبو اليسر رجلا مجموعا وكان العباس رجلا جسيما فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا أبا اليسر كيف أسرت العباس قال يا رسول الله لقد اعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده هيئته كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقد أعانك عليه ملك كريم ) ( ).
الثاني : كفاية المسلمين شر الذي يقع في الأسر .
الثالث : بعث الرعب في قلوب المشركين .
ولا تعارض بين هذه الوجوه .
لقد كان نزول الملائكة يوم بدر انشاء للسلم وديموته في الأرض لما في هذا النزول من استئصال لمفاهيم الكفر والفساد ، والتجرأ على سفك الدماء من قبل المشركين ، ليكون من معاني احتجاج الله على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) علمه تعالى بأنهم سينزلون إلى الأرض ، ويساهمون في استئصال الفساد ، وفي المنع من سفك الدماء بغير حق ، وهو من أسرار إخبار الله عز وجل لهم عن جعل [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وبيان قانون ، وهو مع كل أمر ونهي من عند الله أسباب ونتائج وغايات عظيمة .
من معاني ثبتوا الذين آمنوا
من معاني قوله تعالى [فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا] ( ) فثبتوا أجيال الذين آمنوا من الرجال والنساء على مبادئ الإيمان والصلاح من غير تجدد القتال ، وما يترتب عليه من حال الجزع والخسارة وسفك الدماء .
فلم يكن المراد من التثبيت في الآية أعلاه خصوص ثبات الصحابة في ميدان معركة بدر وحده ، إنما يشمل وجوهاً :
الأول : ثبتوا الصحابة في معركة بدر .
الثاني : ثبتوا الصحابة حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يصل إليه المشركون .
الثالث : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في كل معارك الإسلام الدفاعية .
الرابع : ثبتوا الذين آمنوا في حال السلم ليوم المعركة .
الخامس : ثبتوا الذين آمنوا في منازل الإيمان .
السادس : ثبتوا الذين آمنوا بالعصمة من الإرتداد والتنزه عن النفاق .
السابع : ثبتوا الذين آمنوا في طاعة الله ورسوله لتنزل عليه الرحمة ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الثامن : قيام الملائكة بما يجعل التباين ظاهراً بين ثبات الذين آمنوا في الميدان وخوف وفزع الذين أشركوا ، وهو من أسرار سرعة فرارهم يوم بدر ووقوع سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً منهم يومئذ .
وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة بدر ، ويتعاقب كل أثنين أو ثلاثة على بعير واحد ، بينما كان جيش المشركين يذبحون كل يوم تسعة أو عشرة أباعر ، ليعود المسلمون إلى المدينة ركباناً على الإبل التي تركها المشركون في ميدان المعركة أو قتل أو أسر أصحابها .
خطبة الوداع
هذا العنوان مستقرأ من مناسبة الحال والموضوع لتسمية حجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السنة العاشرة للهجرة بحجة الوداع ، وكانت هذه الخطبة أيام التشريف من تلك الحجة في مناسبة خالدة ، باقية مع الأيام والدهور ، تخالط أذهان المؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغارب الأرض ، وفي أيام السنة كلها ، وإلى يوم القيامة .
وهو من الإعجاز في الأثر للسنة النبوية ، فمن فضل الله عز وجل والإعجاز في المقام التوفيق لأداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حج بيت اله الحرام بعد أن خرج طريداً من مكة ، ولحقه الطلب في أكثر من جهة يريدون قتله .
وكان حديث سراقة بن مالك بن جعشم في طريق الهجرة شاهداً في البيان ، ولم ينج منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالمعجزة ، وقد تقدم البيان
إذ ورد عن سراقة بن جعشم أنه قال (جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما مائة ناقة من الابل لمن قتله أو أسره .
فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا (ونحن جلوس) فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل – وفي لفظ: ركبة ثلاثة – أراها محمدا وأصحابه.
قال سراقة : فعرفت أنهم هم، فأومأت إليه بعيني أن أسكت، فسكت، ثم قلت له: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا يبتغون ضالة لهم.
ثم لبثت في المجلس ثم قمت فدخلت بيتي فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فحططت بزجه الارض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي حتى رأيت أسودتهما، فلما دنوت منهم عثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت .
فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الازلام فاستقسمت بها أضرهم، أم لا أضرهم، فخرج الذي أكره: أني لا أضرهم، وكنت أرجو أن أرده فآخذ المائة ناقة، فركبت فرسي وعصيت الازلام فرفعتها تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الارض حتى بلغت الركبتين فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها.
فلما استوت قائمة إذا لاثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالازلام فخرج الذي أكره – ألا أضرهم – قال: فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع مني وأنه ظاهر، فناديتهم بالامان وقلت:
أنظروني فوالله لا آذيتكم ولا يأتيكم مني شئ تكروهونه.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر (قل له وما تبتغي منا) .
فقلت: إن قومك قد جعلوا فيكما الدية وأخبرتهما أخبار مايريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني شيئا ولم يسألاني إلا أن قال: (أخف عنا) فسألته أن يكتب لي كتاب موادعة آمن به، قال: (اكتب له يا أبا بكر) – وفي رواية: فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
ومن الإعجاز في المقام أن سراقة هذا يعود في حجة الوداع ليسأل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويبقى سؤاله والجواب عليه باباً للتخفيف عن المسلمين في أداء الحج إلى يوم القيامة .
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (قال أهللنا أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحج خالصا ليس معه غيره بالحج خالصا وحده فقدمنا مكة صبح رابعة مضت من ذي الحجة .
فأمرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال أحلوا واجعلوا عمرة فبلغه عنا أنا نقول لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نحل فنروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر من المني .
فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخطبنا فقال قد بلغني الذي قلتم وإني لابركم وأتقاكم ولولا الهدي لحللت ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت قال.
وقدم علي من اليمن فقال بما أهللت قال بما أهل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال فاهد وامكث حراما كما أنت قال .
وقال سراقة بن جعشم يا رسول الله أرأيت عمرتنا هذه ألعامنا هذا أو للابد قال هي للابد) ( ).
(عن جابر بن عبد الله : أن سراقة بن مالك قال : يا رسول الله أفي أي شيء نعمل .
أفي شيء ثبتت فيه المقادير ، وجرت فيه الأقلام أم في شيء نستقبل فيه العمل .
قال : بل في شيء ثبتت فيه المقادير وجرت فيه الأقلام .
قال سراقة : ففيم العمل إذن يا رسول الله .
قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية {فأما من أعطى واتقى}( ) إلى قوله {فسنيسره للعسرى}( ))( ).
(عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التى مع حجته) ( ).
(عن أبي حمزة الرقاشي عن عمه – وكانت له صحبة – قال : كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوسط أيام التشريق أذود الناس عنه فقال : يا أيها الناس ، هل تدرون في أي شهر أنتم ، وفي أي يوم أنتم ، وفي أي بلد أنتم .
قالوا : في يوم حرام ، وشهر حرام ، وبلد حرام .
قال : فإن دماءكم وأموالكم واعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه ، ثم قال : اسمعوا مني تعيشوا ، ألا لا تتظالموا ألا لا تتظالموا ، إنه لا يحل مال امرىء إلا بطيب نفس منه ، ألا أن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة ، وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني ليث فقتله هذيل.
ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوع، وإن الله قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب ، [لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ] ( ).
ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، ألا [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ] ( ).
ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكنه في التحريش بينهم .
واتقوا الله في النساء فانهن عوان عندكم لا يملكن لأنفسهن شيئاً ، وإن لهن عليكم حقاً ولكم عليهن حقاً أن لا يوطئن فرشكم أحداً غيركم ، ولا يأذن في بيوتكم لأحد تكرهونه ، فإن خفتم[ نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ] ( ) ضرباً غير مبرح ، ولهن [رزقهن وكسوتهن بالمعروف] ( ) ، وإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وبسط يديه .
وقال : اللهمَّ قد بلغت ألا هل بلغت ، ثم قال : ليبلغ الشاهد الغائب فإنه رُبَّ مُبَلَّغِِ أسعد من سامع) ( ).
معنى (رُبَّ مُبَلَّغِ أسعد من سامع)
وهذا الحديث هو آخر خطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع ، وعن أبي بكرة أن الخطبة يوم النحر( ).
أي في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة .
كما روي عن ابن عباس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (رُبَّ مبلغ أسعد من سامع) ( ).
ومن الإعجاز في النبوة إلى جانب آيات القرآن أن كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شعبة من الوحي ، فلابد أن تكون له خصائص يرقى بها عن كلام الناس ، وإن لم يصل إلى مرتبة إعجاز القرآن .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أوتي جوامع الكلم .
عن عمر بن الخطاب (انطلقت أنا فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب ، ثم جئت به في أديم ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما هذا في يدك يا عمر .
فقلت يا رسول الله ، كتاب نسخته لنزداد به علماً إلى علمنا ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى احمرت وجنتاه ، ثم نودي بالصلاة جامعة .
فقالت الأنصار : أغضب نبيكم السلاح .
فجاؤوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال : يا أيها الناس ، إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه ، واختصر لي اخت
صاراً ، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية ، فلا تتهوّكوا ولا يغرنكم المتهوّكون)( ).
والمراد من جوامع الكلم إيجاز اللفظ مع كثرة وجزالة المعنى والمفهوم والدلالة .
وقلة اللفظ مع سعة المعنى والنظم الحسن والبتادر إلى فهمه .
ويقال وعيت الحديث أعيه وعياً .
أي فهمت المقصود منه ، وحفظته ، ويقال :فلان أوعى من فلان ، ليكون من معاني الحديث أن الذي ينقل إليه الحديث قد يعيه ويفهمه وينتفع منه أكثر من الناقل له ، وأنه يبادر إلى العمل به .
وفي آخر الزمان يكون من الناس من أفهم وأعلم ممن سبقه لتعدد العلوم والمواظبة عليها ، وتداخل الحضارات وكثرة المصادر ، وفرص الكسب العملي ، وهو الحاصل في هذا الزمان ، ومع هذا فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قيده بلفظ القلة (رُبَّ).
وورد لفظ (مبلّغ) في الخطبة النبوية بصيغة المبني للمجهول ، أي يصل إليه التبليغ سواء شفاها أو بالكتب أو الرسائل أو وسائط الإتصال الحديثة .
وهل يدل هذا الحديث على موضوعية علم الرجال وتعديل الرواة أو تجريحهم ، والقواعد التي تبنى عليها معرفة أحوال الرواة ، ومناسبة الحديث لآيات القرآن ، وعدم تعارضه معها الجواب نعم ، فمن المسائل المستقرأة من الحديث قانون عدم اشتراط الفقاهة براوي الحديث.
وقد يكون النفع ولفظ أوعى بالواسطة ، فينقل أحدهم الحديث إلى غيره ، وهذا الغير ينقله إلى من هو أوعى ، من يقوم بالتبليغ به واستنباط المسائل منه ، والإستشهاد به على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
معنى لا ترجعوا بعدي كفاراً
يدل قول النبي (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) في خطبة الوداع على أمور :
الأول : قانون إتصاف الكفار بالإقتتال فيما بينهم .
الثاني : قانون الإقتتال الذاتي من خصال الكفار .
الثالث : تفضل الله عز وجل على المسلمين فانجاهم من هذا الفعل المذموم ، وهو الإقتتال الداخلي .
الرابع : قانون سلامة المسلمين من الإقتتال فيما بينهم أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذه السلامة أمر جلي ظاهر في القرآن والسنة وعليه الإجماع.
الخامس : قانون تجلي منافع التنزيل في السيرة العامة للمسلمين بالتنزه عن الإقتتال بينهم .
السادس : حاجة المسلمين للدفاع ضد المشركين .
السابع : دعوة الناس للإسلام ، وتحبيب الإيمان إلى قلوبهم ما دام المسلمون يجتنبون الإقتتال فيما بينهم .
الثامن : إمتناع المسلمين عن الإقتتال بينهم من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ) وهو من الشواهد على إنشغالهم بطاعة الله .
التاسع : صيرورة التقوى سور الموجبة الكلية للمسلمين .
العاشر : قانون وجوب نبذ الناس الكفر لأنه نوع طريق وسبب للإقتتال.
الحادي عشر : قانون إنتفاء أسباب الإقتتال ، ولقد احتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لأنه يفسد فيها ويسفك الدماء .
الثاني عشر : بيان قانون الإيمان برزخ دون الإقتتال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
الثالث عشر : من مضامين هذه الخطبة التوكيد على أوامر ونواهي وردت في القرآن ، منها الدخول العام في السلم والإحتراز من الشيطان والنفس الغضبية ، والغفلة والجهالة .
لبيان قانون وهو خطبة الوداع مرآة وبيان لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ) وآيات قرآنية عديدة .
ليكون هذا الحديث النبوي (لا ترجعوا بعدي كفاراً ..) من مصاديق احتجاج الله على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
فمن علم الله عز وجل تحذير وإنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين من الإقتتال فيما بينهم ، والذي يدل بالدلالة التضمينة على أن حينما علمت الملائكة ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم استبشروا وفرحوا ، ليكون من معاني ومصاديق هذا الإستبشار ، أنه يحول دون الإقتتال ، والفساد الذي يكون سبباً له ، والفساد الذي يترشح عنه .
الثاني عشر : يبين الحديث قانوناً وهو جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسيادة السلم المجتمعي العام ، وسعيه في إستئصال أسباب المعارك والحروب .
الثالث عشر : الحديث زجر عن العصبية القبلية ، وحجة على المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وهو ضياء ينير لهم دروب الرشاد .
الرابع عشر : قانون التعاون بين المسلمين لمنع الفتنة والإقتتال ، ومن إعجاز القرآن قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( )لمنع مقدمات الإقتتال وإثارة الأسباب التي تؤدي إليه سواء من أطرافه أو من غيرهم .
الخامس عشر : يتضمن الحديث حرمة الإرهاب والتفجيرات العشوائية والقتل غيلة .
السادس عشر : عدم إنحصار نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإقتتال بأيام التابعين أو تابعي التابعين فهذا النهي متجدد إلى يوم القيامة.
ترى ما هي الصلة بين هذا الحديث النبوي وبين قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
السابع عشر : بيان موضوع الإقتتال المنهي عنه ، وهو مفاهيم الكفر ، إذ أنها سبب للعصبية ، وغشاوة تمنع من الرجوع إلى أحكام الشريعة في فك الخصومة .
الثامن عشر : هذا الحديث نص بالنهي عن لمعان السيوف ، وسيلان الدماء وسقوط القتلى ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر ضرب الرقاب .
التاسع عشر : تذكير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بأن الملائكة نزلوا لضرب رقاب الذين كفروا في ميدان المعركة ، قال تعالى [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ) .
ولم يرد لفظ [اضْرِبُوا] في القرآن إلا في الآية أعلاه على نحو مكرر ، وكأنه كلمة سر من الله عز وجل للملائكة خاصة .
قانون تعاهد السلم بقصد القربة
يحب الله الذين يتعاهدون السلم في ملكه ، يكون تقدير آية البحث : ادخلوا في السلم في ملك الله .
ومن معاني هذا الحب الرزق الكريم والسعة ودفع الكدورة ، وصرف البلاء ، لذا تجد الحرب والقتال باباً للمصائب والأحزان .
والمراد من قصد القربة هو إتيان العبد عمله العبادي ، بقصد وجه الله تعالى ، ويتقرب بهذا العمل إليه سبحانه ، ويترشح قصد القربة طوعاً وإنطباقاً بالإمتثال لأمر الله كما في أداء الصلاة عند سماع الأذان أو صيام شهر رمضان عند رؤية الهلال ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ) فالأمر بالصوم يلزم إتيانه بقصد القربة ، وكذا وردت آية البحث بصيغة الأمر في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
فلفظ (ادخلوا في السلم) أمر يفيد معنى الوجوب إلا مع القرينة الصارفة وهي معدومة في المقام .
وهل قصد القربة من شرائط الدخول في السلم أم أن هذا القيد خاص بالعبادة .
المختار هو الثاني ، لبيان الأجر والثواب الذي يفوز به المؤمنون في كل يوم يتعاهدون فيه السلم ، ويحرصون على التقيد بآدابه ، ودفع مقدمات القتال بقصد القربة إلى الله ، والذي يتجلى في جانب منه بأمور :
الأول : التحلي بالصبر وضبط النفس، قال تعالى [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثاني : السماحة في المعاملة .
الثالث : إتخاذ البينة والحجة والبرهان سبلاً لانتزاع الحق ، ودفع الباطل.
الرابع : قانون لزوم تنزه المسلمين عن الظلم الخاص والعام ، وهذا التنزه مقدمة للسلم ، وحاجة في استتبابه.
ومن فضل الله عز وجل وسلطانه المطلق في الأرض أن أيام السلم في كل بقعة من بقاع الأرض وأمصارها أضعاف حال الحرب والقتال ، وأن أيام السلم والمهادنة والأمن بالنسبة للإنسان أكثر بكثير من أيام الحرب والقتال ، ليكون قصد القربة في إطلالة كل يوم من أيام السلم باباً للأجر والثواب للمؤمنين بخصوص الإمتثال لأمر الله عز وجل بالدخول في السلم.
ومن الإعجاز في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، توجه الخطاب إلى جميع المسلمين بعرض واحد ، فهو لا يخص الحكام والعلماء والأمراء بالخطاب ، ولم يعطهم خصوصية فيه ، إنما تخاطب الآية المسلمين جميعاً .
لبيان مسألة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعث بالسيف أو القتل ، إنما بعث بالحجة والبرهان ، وهذا الأمر معروف عند الأنبياء السابقين ، لذا كان دعاء إبراهيم له [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
وهل تدخل النساء في هذا الخطاب أم لا لسقوط القتال عنها ، الجواب هو الأول ، إذ يشمل الخطاب المسلمات جميعاً .
ومن الإعجاز في بيان وتفسير السنة النبوية لآيات القرآن ، كون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام في تثبيت قواعد السلم ، كما كان ينهى عن مقدمات الخصومة ، والإعانة عليها .
(عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيّما رجل شدّ عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في ظلّ سخط الله سبحانه حتى ينزع .
وأيّما رجل حال في شفاعة دون حدّ من حدود الله تعالى أن يقام فقد كايد اللّه حقّاً وحرص على سخطه وأن عليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة،
وأيّما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يريد أن يشينه بها في الدنيا كان حقّاً على الله أن يذيبه في النار .
وأصله في كتاب الله سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ}( ) الآية) ( ).
لقد أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالدخول في السلم ، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد بدفع أسباب القتال ، وحينما يبلغه عن قوم عزمهم على الإغارة على المدينة يبادر إلى الخروج إليهم ، فلا يخبر عن الجهة التي يريد ، ليكون وصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بغتة سبباً في تفرق وتشتيت القوم ، وإنكسار رؤسائهم ، ولحوق الخزي بهم ، وهذا الخزي من أسباب عدم عودة الناس لإتباعهم خاصة وأن المعجزات تترى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل هذا الخزي من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو خصوص معركة أحد.
الجواب هو الأول ، ليتجلى مصداق من إعجاز الآية وهو ذكرها للذين كفروا على نحو الإطلاق بقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] وورد حرف العطف (أَوْ) فلم تقل الآية (ويكبتهم) لبيان تعدد المآل فمرة يهلك بعض فرسان الكفار لإصرارهم على القتال .
وأخرى يتفرق جمع الكفار الذين تأبّط شراً ويريد الكيد بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، لقد اتخذت قريش من صلتها وحلفها مع عدد من قبائل العرب ، وحاجتهم لأموال قريش وسيلة لتحريضهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فتفضل الله عز وجل وأنذرهم بأن الأموال التي هي عندهم إنما من فضل الله ليسخروها في طاعة الله ، وللتنزه عن عبادة الأوثان ، ولبيان مسألة وهي عدم الخشية من أرباب الأصنام الذين يريدون نصبها في البيت الحرام ، فقد كان لكل قبيلة صنم في البيت الحرام يتزلفون إليه عند حجهم أو أداء العمرة ، وكأنه رمز لهم وعنوان مستقل يدل على الشأن الخاص الذي يتصفون به ، فذكّرهم الله عز وجل بأن أنزل سورة قريش [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( ).
وأن الله عز وجل أهلك أبرهة حينما أراد هدم الكعبة من أجل تآلف قريش ومزاولتهم التجارة وزيادة أموالهم ورفعتهم وعلو شأنهم في الجزيرة، وعند الدول آنذاك مثل الدولة الرومانية والفارسية ، والحبشة ، وليكون تقدير [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ] على وجوه :
الأول : لإيلاف قريش وتلقيهم دعوة النبي للإسلام بالقبول .
الثاني : لإيلاف قريش فلا تتعدى القبائل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين إعلانه نبوته .
الثالث : لإيلاف قريش ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة وبعدها ، لبيان قانون بخصوص بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : قبل ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : عند ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأيام رضاعته وصباه ، ومنه حديث حليمة السعدية ، والخير والخصب الذي صار في ديار بني سعد عندما أخذوا النبي محمداً معهم أيام رضاعته .
الثالث : البركة عند بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل يستدل بقوله في عيسى عليه السلام [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا] ( ) وقانون كل نبي مبارك ، الجواب نعم .
وقد أمر الله عز وجل نوحاً أن يسأله المنزل المبارك بعد أن ركب الفلك [وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ] ( ).
بينما ذكر الله عز وجل البركة في القرآن الذي نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أكثر من موضع من القراءة ، قال تعالى [كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ] ( ) وقال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
كما تفضل الله عز وجل وأخبر عن البركات في تحية السلام ، إذ قال [فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ) بالقول السلام عليكم سواء في حال الدخول في بيوت ذوي القربى أو البيوت الفارغة ، أو المساجد والأسواق .
أما إذا كان المكان فارغاً فيقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
(وأخرج الحاكم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلها ، واذا طعمتم فاذكروا اسم الله ، وإذا سلم أحدكم حين يدخل بيته وذكر اسم الله على طعامه يقول الشيطان لأصحابه : لا مبيت لكم ولا عشاء ، وإذا لم يسلم أحدكم ولم يسم يقول الشيطان لأصحابه : أدركتم المبيت والعشاء) ( ).
كما جعل الله البركة المستمرة والمتصلة في البيت الحرام ، لتكون محلاً لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبدايات دعوته ، وموضع تبليغ وفد الحاج والمعتمرين ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
وأبى الله عز وجل إلا أن يجعل الحياة الدنيا دار البركة لعموم الناس ، لتكون سبب هداية ورشاد ووسيلة للسلم والتآخي بين الناس ، ومن ضروب البركة العامة تغشي عموم الأرض بالأمطار وما يترشح عنها من استحداث النبات ودوام الشجر ،وظهور الثمر ، وموسم الحصاد ، ولعل ما ينبت من غير جهد وسعي من الإنسان ومنه استدامة بعض الشجر ونبات الأمطار والسقي سيحاً أكثر مما ينبت بجهد وبذور وحرث الإنسان ، وهو من مصاديق البركة المذكورة في قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ]( ).
ومن الإعجاز في المقام نسبة الإنبات إلى الله تعالى بقوله [فَأَنْبَتْنَا].
كتابة الوحي سلم وأمن
من إعجاز الآية القرآنية مبادرة المسلمين للعمل بمضامينها القدسية ، فليس ثمة وقت بين أمور :
الأول : نزول جبرئيل بالآية القرآنية على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية .
الثالث : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض كتّاب الوحي للكتابة وتدوين الآية القرآنية .
وذكر أن عدد كتّاب الوحي عشرون ، ومنهم :
أولاً : أبي بن كعب .
ثانياً : الإمام علي عليه السلام .
ثالثاً : أبو بكر .
رابعاً : عمر بن الخطاب.
خامساً : عامر بن فهيرة ، وهو الذي كتب بأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً لسراقة في طريق الهجرة الذي لحقهم طمعاً بجائزة قريش .
سادساً : زيد بن ثابت.
سابعاً : آبان بن سعيد بن العاص .
ثامناً : معاذ بن جبل .
تاسعاً : أرقم بن أبي الأرقم .
عاشراَ : ثابت بن قيس بن شماس.
الحادي عشر : عبد الله بن سعد بن أبي سرح .
الثاني عشر : خالد بن سعيد بن العاص .
الثالث عشر : عبد الله بن أرقم .
الرابع عشر : العلاء بن الحضرمي .
الخامس عشر : معاوية بن أبي سفيان .
السادس عشر : المغيرة بن شعبة .
السابع عشر : عبد الله بن بديل .
قال ابن كثير (وقد تقدم مع كتاب الوحي عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي قتل يوم صفين وكان أمير الميمنة لعلي فصارت أمرتها للأشتر النخعي) ( ).
الرابع : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتفسير الآية ، وبيان معانيها .
الخامس : استعراض المسلمين لأسباب نزول الآية .
السادس : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية في الصلاة ، ومن الإعجاز في تثبيت آيات القرآن في الوجود الذهني والحافظة العامة للمسلمين إلى جانب تدوينها أنه ليس بين نزولها وإقامة الصلاة إلا دقائق أو ساعة أو اكثر قليلاً .
السابع : دراسة المسلمين الآية القرآنية ،وتذاكرهم بخصوصها في المسجد النبوي أو في السفر والخروج للسرايا .
الثامن : تدارس جبرئيل عليه السلام آيات القرآن مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرة كل سنة ، وفيه حفظ للقرآن ، ومنع من تضييع بعض كلماته (قال مسروق عن عائشة ، عن فاطمة عليه السلام، أسر إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي) ( ).
التاسع : حفظ طائفة من المسلمين القرآن عن ظهر قلب ، ومن إعجاز القرآن الغيري أنه ليس من مسلم أو مسلمة إلا ويحفظان آيات وسور من القرآن لوجوب قراءتها في الصلاة اليومية .
قانون ذخائر كتابة الوحي
وفي كتابة الوحي مسائل :
الأولى : إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه نشر لواء السلم.
الثانية : إشاعة نعمة الأمن والأمان .
الثالثة : الإنشغال العام بكلام الله عز وجل .
الرابعة : إدراك الصحابة والناس جميعاً قرب كلام الله منهم ، وهو من مصاديق فضل الله عز وجل وسعة رحمته في الدنيا .
لقد كان العرب يكتبون الأشعار ويستنسخون قصص الأمم الأخرى مثل فارس والروم ، والأساطير ، فتفضل الله وأبدلهم بكتابة كلامه الذي نزل به جبرئيل ، مع تجلي قانون وهو التباين بين كلام الله وكلام البشر فصحيح أن كلاً منهما يتألف من حروف مقروءة ، ولكن التباين من وجوه منها :
الأول : قانون تنزه كلام الله عن التعارض أو الإختلاف أو الخطأ ، قال تعالى [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
الثاني : يستلزم كلام الله التدبر والتفكر وإعمال العقل .
الثالث : قانون عجز الناس عن الإحاطة بكلام الله ، بينما كلام البشر محدود في ذاته وموضوعه .
الرابع : إختصاص اللغة العربية بوجوه ومعاني خاصة لا تستقرأ إلا بذات اللغة .
الخامس : قانون ملائمة كلام الله لكل الأزمنة في الموضوع والحكم .
السادس : قانون تعدد معاني اللفظ القرآني ، مع تجدد واستحداث معان لذات اللفظ .
السابع : قانون تضمن القرآن لعلوم الغيب ، وليس في كلام البشر من هذه العلوم .
الثامن : قانون نفاذ كلام الله إلى شغاف القلوب طوعاً وقهراً.
التاسع : الأجر والثواب في قراءة كل حرف وكلمة من القرآن ، وهو أمر يختص بالقرآن ، ففي قراءة كل حرف منه عشر حسنات ، و(عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له به حسنة . لا أقول {بسم الله}( ) ولكن باء ، وسين ، وميم .
ولا أقول {الم}( )، ولكن الألف ، واللام ، والميم)( ).
العاشر : ترشح الأثر والنفع العظيم بتلاوة القرآن على ذات الذي يتلوه على غيره .
الحادي عشر : قانون تلاوة القرآن سلم وموادعة ونبذ للإرهاب والعنف ، إذ يدرك المسلم أنه كتاب نازل من عند الله بالحجة والبرهان ، وأنه كاف لدعوة الناس للهدى والإيمان ، فلا تصل النوبة إلى العنف والإرهاب .
الثاني عشر : قانون سلامة القرآن من الزيادة أو النقيصة وإلى يوم القيامة .
الثالث عشر : قانون الإعجاز الذاتي والغيري والموضوعي للآية القرآنية.
الرابع عشر : قانون علوم القرآن من اللامتناهي .
الخامس عشر : إخبار الله عز وجل بأن القرآن كلامه ، وهو الذي أنزله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وورد لفظ [كَلاَمَ اللَّهِ] ثلات مرات في القرآن كل منها بيان وذكرى وإنذار للذين كفروا ، قال تعالى [أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( )، وقال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، وقال تعالى [سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
السادس عشر : قانون آيات القرآن عنوان الوحدة والألفة بين المسلمين وهو الأصل في قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).

ضروب من خطوات الشيطان
المراد من اتباع خطوات الشيطان وجوه منها :
الأول : محاكاة الشيطان في قبيح فعله .
الثاني : توالي فعل المعصية ، واحدة بعد أخرى ، وكل واحدة منها خطوة تتعقب الأخرى .
الثالث : المناجاة بالمعصية .
والمراد من إتباع خطوات الشيطان المنهي عنه أمور :
الأول : الإمتناع عن طاعة الله ، فحينما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم امتنع إبليس عن السجود استكباراً مع أن الأمر الإلهي موجه له شخصياً كما في قوله تعالى [مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ]( ).
الثاني : تزيين الفاحشة والمعصية للإنسان ، قال تعالى [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ) .
(قال ابن عباس وابن الزبير وابن يسار والسدي : أغار كرز بن جابر القرشي على سرح المدينة حتّى بلغ الصفراء فبلغ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فركب في أثره فسبقه كرز فرجع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأقام سنة.
وكان أبو سفيان أقبل من الشام في عير لقريش فيها عمرو بن العاص وعمرو بن هشام ومخرمة بن نوفل الزهري في أربعين راكباً من كبار قريش وفيها تجارة عظيمة وهي اللطيمة .
حتّى إذا كان قريباً من بدر بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلّة الجنود فقال : هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعلّ الله عزّ وجلّ ينفلكموها فخرجوا لا يُريدون إلاّ أبا سفيان والركب لا يرونها إلاّ غنيمة لهم وخفّ بعضهم وثقل بعض.
وذلك أنّهم كانوا لم يظنّوا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُلقي حرباً فلمّا سمع أبو سفيان بمسير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكّة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم ويخبرهم أن محمداً قد عرض لعيرهم وأصحابه.
فخرج ضمضم سريعاً إلى مكّة وخرج الشيطان معه في صورة سراقة بن خعشم فأتى مكّة فقال : إنّ محمداً وأصحابه قد عرضوا لعيركم فلا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم .
فغضب أهل مكّة وانتدبوا وتنادوا لا يتخلف عنا أحد إلاّ هدمنا داره واستبحناه .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أصحابه حتّى بلغ وادياً يقال له : وفران ، فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم .
فخرج رسول الله عليه السلام حتّى إذا كانوا بالروحاء أخذ عيناً للقوم فأخبره بهم وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً عيناً له من جهينة حليفاً للأنصار يدعى ابن الاريقط فأتاه بخبر القوم .
وسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزل جبرئيل فقال : إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إمّا العير وإمّا قريش( ).
والمختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج في كتيبة استطلاع ولم ينو القتال .
والظاهر أن جبرئيل نزل بالبشارة بالنصر وفق السبر والتقسيم .
الثالث : الإغراء بالمعصية : وتهوينها ، ليظن الإنسان أن ارتكابها أمر سهل ويسير ، ومنه إغواء الإنسان في مقدمات المعصية كالزنا للوقوع فيها .
وليس للشيطان سلطان بالقيام بأمر الإنسان مباشرة بفعل السيئة ، وترك الحسنة ، ولكنه يقوم بتزيين الأولى ، والإفتتان والإنشغال عن الثانية ، وإذا أراد الإنسان إخراج الصدقة واعانة المحتاج ، زيّن له الإمساك وأنه سيحتاج يوماً للمال الذي سيتصدق به ، وأن هذا المحتاج يمكن أن يأتي من يسد حاجته ، أو أنه ليس محتاجاً بالأصل .
الرابع : التسويف : يشغل الشيطان والنفس الشهوية الإنسان عن سبل التوبة ، فليس من سبب لتعجيل التوبة ، والإلحاح في طلبها ، وإذا أراد الإنسان فعل الخير وصلة الرحم رغبّه بالإرجاء والتأجيل .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان واختبار ومن ضروب الإمتحان في المقام طرو أسباب الإمتناع عن العمل الصالح أو المسارعة فيه وهل هذا الإمتناع من اتباع خطوات الشيطان ، أم لابد من وجود مصداق لذات الفعل بعمل الشيطان كي يكون عمل الإنسان اتباعاً لخطواته ، الجواب هو الأول ، لأن هذا الإمتناع أمر وجودي ، وقد ندب الله عز وجل الناس إلى المبادرة في فعل الخير ، وأسباب الصلاح ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ] ( ).
الخامس : التسويل : إذ يبعث الشيطان الإنسان على الإسترخاء ، بأن يجعل أمامه أسباباً تحول دون مبادرته إلى العمل ، واستثمار الفرص في فعل الخير ، كما يقرّبه من ركوب العظيم من الذنوب ، لذا ترى الإنسان إذا أفاق من فعل المعصية يصيبه الندم ، ولا يعلم كيف لجأ إلى تلك المعصية أو الظلم والتعدي ، ويتمنى لو اتخذ الصبر جلباباً في تلك اللحظة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ]( ).
وتبين الآية أعلاه كيفية نفاذ الشيطان إلى فعل طائفة من الناس بميل أفرادها إلى الذين كفروا وجحدوا بالتنزيل ، ولولا هذا التواطئ لتعذر على الشيطان الوصول إليهم ، وهذا التعليل من إعجاز القرآن ، وفيه دعوة للناس جميعاً بعدم تلقي القرآن بالنفرة والسخط ، إذ يلزم تلقيه بالتدبر وهو الذي تقوم عليه لغة الحوار وحال العولمة وتلاقح الأفكار وتقارب البلدان في هذا الزمان ، وهو دعوة للمسلمين وغيرهم بترك العنف والإرهاب .
لقد وعدوا الذين كفروا بطاعتهم في بعض أفعالهم بدليل حرف السين في قوله تعالى [سَنُطِيعُكُمْ] فنفذ اليهم الشيطان وجرهم إلى غاياته الخبيثة ، فكيف بالذين ركبوا جادة الكفر .
فلابد أن الشيطان حال دونهم ودون حبّ التنزيل والميل إليه ، قال تعالى [هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ]( ).
والأفاك أي الكذاب الذي يفتري الإفك ، ويدّعي ما ليس عنده .
وفي قوله تعالى [وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ]( )، ورد عن ابن عباس قال : المغيرة بن مخزوم( ).
ولكن الآية وردت بقانون من صيغ الإنذار والوعيد ولغة التعدد والجمع مما يدل على عدم إنحصارها بشخص واحد ، بلحاظ القانون الذي أسسناه في هذا السٍفر وهو أن لغة الجمع في القرآن خاصة بالله عز وجل .
ومما يسوله الشيطان للإنسان البطش بالخصم والظلم للعامة ، والإرهاب والتفجير وسفك الدماء .
فنزل القرآن لعصمة الناس من تسويل الشيطان ولتكون كل آية من القرآن حرزاً وواقية من تسويل الشيطان للقارئ والسامع إذ يهرب الشيطان عندما يسمع القرآن بمعنى أن التسويف والتسويل وتزيين الباطل أمور تغيب عن الوجود الذهني للإنسان ببركة هذه التلاوة ، وهو من الإعجاز في قوله تعالى [وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً]( ).
أي رتلوا القرآن ليكون برزخاً وحاجزاً دون تشتت الفكر وحب لذات الدنيا والميل إلى الذين يكرهون التنزيل لأنه يأمرهم بالفرائض العبادية ، وينهاهم عن المعاصي وإرتكاب المعاصي .
السادس : الغضب : وهو من موارد استحواذ الشيطان على بعض الجوارح ، إذ يضعف سلطان العقل لحظة الغضب ، فلا يكون الرجحان للفعل السوي ، ويبتعد الصبر عن الإنسان ، والغضب أحد مداخل الشيطان ، إذ يغلو دم القلب ، ويتغير اللون ، وترتعد الأطراف ، وتسرع وتيرة الكلام وتتسابق الى اللسان كلمات الشتم والسب ، ويغيب الترتيب السوي في الأقوال والأفعال .
وقد يجعل الشيطان الغضب يرجع على صاحبه ، فيمزق ثوبه ، ويلطم وجهه ، ويشتم والديه ، ويتلفظ بما فيه جحود بالثوابت العقائدية أو الإجتماعية .
وقد جاء القرآن بآيات تتضمن وجوب كظم الغيظ ، وحبس النفس حال الغضب ومنه إجتماع مقدماته ، ويمكن إحصاء الآيات القرآنية التي تتضمن ذم الشيطان من جهات :
الأولى : الآيات التي تذكر الشيطان .
الثانية : عمل الشيطان في الأرض .
الثالثة : سبل غواية الشيطان للإنسان .
الرابعة : لزوم الوقاية والحذر من الشيطان .
الخامسة : الآيات التي ذكرت إبليس بالاسم وعددها إحدى عشرة آية ، وأكثرها في امتناع إبليس عن السجود لآدم ، كما ورد قوله تعالى [فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ]( )، لبيان أمور :
أولاً : النسبة بين الشيطان وإبليس العموم والخصوص المطلق ، بدليل قوله تعالى [وَجُنُودُ إِبْلِيسَ] ومنها [شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ]( ).
ثانياً : سوء عاقبة الذين يتبعون خطوات الشيطان ، والوعيد بما ينتظرهم من العذاب الأليم .
ثالثاً : حجب الشفاعة عن جنود إبليس من الإنس والجن إلا أن يشاء الله.
رابعاً : اتباع خطوات الشيطان.
قانون خطوات الشيطان فتنة
من إعجاز القرآن ورود النهي عن إتباع خطوات الشيطان بعد نداء الإيمان مباشرة ليس بينهما أمر أو نهي أو خبر ، إذ ورد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
ومن اللطف الإلهي تحذير القرآن من إغواء وحبائل الشيطان ، والنفس الأمارة بالسوء .
ليكون من وجوه تقدير آية البحث :
الأول : لا تتبعوا خطوات الشيطان ابليس في استكباره وامتناعه طاعة لله .
الثاني : لا تتبعوا ابليس في جداله بالباطل في دفاعه عن معصيته .
كما ورد في التنزيل إذ خاطبه الله [قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ] ( ) .
لقد حصرت الآية علة امتناع إبليس عن السجود بأحد أمرين ، أما الإستكبار أو العلو لإرادة الإستفهام الإنكاري ، فليس لإبليس أن يتكبر بغير حق ، كما أنه لا يستحق العلو عن السجود لآدم طاعة لله .
ولعل معاني لفظ [الْعَالِينَ] صنف من الملائكة منقطعين إلى التسبيح والقيام بوظائف عبادية في السموات ، ولم يتوجه لهم الأمر بالسجود لآدم.
فصحيح أن قوله تعالى [أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ] لإفادة التوبيخ لإبليس وإقامة الحجة عليه ، إلا أنه لابد من وجود مصداق خارجي لكلام الله عز وجل ، ووجود عالين حقيقة ، ويحتمل وجوهاًً :
الأول : هناك ملائكة لم يتوجه لهم الأمر بالسجود لآدم في تلك الساعة.
الثاني : المراد العموم في سجود الملائكة لآدم كما في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ] ( ) ولا ينتقل إلى التفصيل إلا مع وجود البينة والدليل .
الثالث : إختصاص السجود لآدم بملائكة الأرض ، وتقدير قوله تعالى [فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ] ( ) أي ملائكة الأرض .
الرابع : إرادة جيش من الخلق سابق كانوا يسمون العالين ، فلم يؤمروا عند خلق آدم بالسجود لآدم لأن زمان خلقه متأخر عن زمانهم ، والظاهر هو الأول أعلاه .
ومن إعجاز القرآن ان الإستفهام الإنكاري من الله عز وجل إلى إبليس مناسبة وفرصة للإستدلال والإعتذار من قبل إبليس ، لبيان أن الدخول في السلم يغني عن الإعتذار عن التعدي والظلم والقتل .
فيكون من معاني قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ…] ( ) اتخذوا السلم والصلح والموادعة منهاجاً، ولا تمتنعوا عن طاعة الله عز وجل سواء في العقيدة أو العبادة أو المعاملات والأحكام .
وهل في إخبار الله عز وجل للملائكة بجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) دعوة وأمر لهم لإعانة الناس في صرف فتنة الشيطان ، ومنعهم من اتباع خطواته.
الجواب نعم ، ومنه نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معركة بدر ، وأحد ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
خطوات الشيطان
الخطوة هي المسافة التي بين القدمين عند المشي ، ولم يرد لفظ خطوة في القرآن ، إنما ورد لفظ [خُطُوَاتِ] خمس مرات في القرآن ، وكلها بخصوص الشيطان ، منها مرتان في آية واحدة[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
ومن إعجاز القرآن مجئ النهي عن إتباع خطوات الشيطان للناس جميعاً بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) لبيان أن النبي محمداً يجاهد في سبيل إصلاح الناس ، وليسود السلم في المجتمعات ، ويكون الجامع المشترك بين الناس هو العصمة من إتباع خطوات الشيطان ، وتدعو الآية أعلاه الناس جميعاً إلى التنزه عن الفحشاء والقبائح، ليكون هذا التنزه مقدمة وسبباً للسلم المجتمعي ، والإحتراز من الإغواء والفتن .
وهل إفشاء السلام من الإمتناع عن إتباع خطوات الشيطان ، الجواب نعم من وجوه :
الأول : السلام نوع ذكر وتذكير بالله عز وجل ووجوب طاعته ، فمن الأسماء الحسنى لله عز وجل اسم (السلام) .
الثاني : تطرد المبادرة إلى السلام الكدورة والحنق وأسباب الغيظ .
الثالث : أداء السلام بقصد التحية شاهد على الإيمان ، وهو من مصاديق الدعوة إلى الخير في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
ويدل قوله تعالى [لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ] على معرفة الناس لخطوات الشيطان ، فلا يكون النهي إلا على أمر معلوم وقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومنه معرفة خطوات الشيطان.
الغايات الحميدة للنهي عن اتباع خطوات الشيطان
من فضل الله عز وجل على الناس أنه جعل آدم يرى معصية ابليس لله عز وجل وبسبب السجود له ثم أغوى ابليس آدم وحواء للأكل من الشجرة التي نهاهما الله عز وجل عنها ليجتمع أمران :
الأول : معصية ابليس لله عز وجل مع وجوب طاعته له في السجود لآدم .
الثاني : جعل ابليس وحواء يخالفان أمر الله ونهيه عن الأكل من الشجرة ، وقد ورد لفظ (الشجرة) في القرآن ثماني عشرة مرة ست منها بخصوص قصة آدم وإغواء إبليس له وهي :
الأولى : [وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( ).
الثانية : [وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( ).
الثالثة : [فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ]( ).
الرابعة : [فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الخامسة : [فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى]( ).
وفي هذا التعدد والكثرة دعوة للناس للإحتراز من حبائل الشيطان ، ومن الإعجاز في المقام مجئ النهي الصريح عن اتباع خطواته بقوله تعالى [وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
وعرًف النهي في الإصطلاح بأنه الكف عن فعل ولكن تعريفه أعم إذ يشمل الإمتناع عن الفعل أصلاً ، وهو نقيض الأمر ويتلقي الأمر والنهي في القرآن بأنه يأتي على جهة الإستعلاء ، ومن العالي إلى الداني ، ومن الرب إلى المربوبين ، من المعبود إلى العابدين ، لذا حينما أظهر المسلمون الإيمان نزل نداء الإيمان ومعه الأمر والنهي وبيان قانون عداوة ابليس لهم في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
وفي التقيد والإمتثال للأمر والنهي من عند الله أجر وثواب عظيم ، وفي مخالفته ومعصيته إثم وضرر ، لذا فمن الغايات الحميدة للنهي عن اتباع خطوات الشيطان استدامة الحياة الدنيا ، وعمارة الأرض بأفراد الفرائض العبادية .
وتقدير قوله تعالى [وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ] بلحاظ الغايات الحميدة له على وجوه :
الأول : ولا تتبعوا خطوات الشيطان فانه يأمركم بالسوء والفحشاء [وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الثاني : ولا تتبعوا خطوات الشيطان لقبحها الذاتي .
الثالث : ولا تتبعوا خطوات الشيطان فانه عدو لله ولكم .
الرابع : ولا تتبعوا خطوات الشيطان فانه يقود أصحابه وجنده إلى النار.
الخامس : ولا تتبعوا خطوات الشيطان لما فيها من الإثم.
السادس : ليقل بعضكم لبعض : لا تتبعوا خطوات الشيطان ، ولو ارتكب الذي ينهى الناس عن اتباع خطوات الشيطان معصية وذنباً ، فهل يمحى ثوابه عن نهيه للناس هذا لما في هذه المعصية عن بطلان الأعمال ، أم يبقى ثوابه .
المختار هو الثاني وهو من الشواهد على موضوعية الميزان يوم القيامة ورجحان كفة الصالحات أو العكس .
السابع : ولا تتبعوا خطوات الشيطان فانها ضد للإيمان ، ولا تجتمع معه.
الثامن : ولا تتبعوا الشيطان في المعاملات والأحكام .
التاسع : اتبعوا نهج الأنبياء ولا تتبعوا خطوات الشيطان.
العاشر : ولا تتبعوا خطوات الشيطان ومن لا يتبعها يحببه الله .
الحادي عشر : ولا تتبعوا خطوات الشيطان ففيها الحسرة والندامة .
الثاني عشر : ولا تتبعوا خطوات الشيطان فانه لكم عدو مبين .
الثالث عشر : ولا تتبعوا خطوات الشيطان فانه يدعو إلى الكفر والضلالة.
قانون الإستعاذة طرد للعنف
لقد أكد القرآن والسنة النبوية على وجوب الإستعاذة وأنها سبيل للوقاية من الغضب وأضراره وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، وقانون الخلافة في الأرض ، لأن الإستعاذة لجوء إلى الله عز وجل وفزع إليه سبحانه من كيد الشيطان ومن النفس الأمارة بالسوء ، و(عن سليمان بن صرد قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد غضب أحدهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
فقال الرجل أمجنون تراني ، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( ).
ولابد لعلماء النفس من الدراسة والتحقيق فيما جاء به القرآن والسنة بخصوص الغضب من جهات :
الأولى : أسباب الغضب .
الثانية : ماهية الغضب .
الثالثة : أضرار الغضب في النشأتين .
الرابعة : القبح الذاتي للغضب .
الخامسة : الصلة بين الغضب وإغواء الشيطان.
السادسة : الوقاية من الغضب .
و(عن أبي الأسود، عن أبي ذَرّ قال: كان يسقي على حوض له، فجاء قوم قالوا أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه فقال رجل: أنا. فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه .
وكان أبو ذر قائما فجلس، ثم اضطجع، فقيل له: يا أبا ذر، لم جلست ثم اضطجعت ، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فإن ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلا فَلْيَضْطَجِعْ)( ).
وعن ابن عباس مرفوعاً : إذا غضب أحدكم فليسكت.
السابعة : الأجر والثواب عند حبس الغضب وكظم الغيظ .
ومن معاني الإستعاذة الإلتجاء والإعتصام ، وهي في الإصطلاح لجوء واستغاثة بالله عز وجل ، فلما نهى الله عز وجل عن اتباع خطوات الشيطان فتح للناس باب الإستعاذة ، ورغّب به ، ومعناها : اللهم أعذِني من الشيطان الرجيم .
وأختلف في وجوب أو استحباب الإستعاذة عند قراءة القرآن لقوله تعالى [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ] ( ) والمشهور والمختار أنها مستحبة ، ويؤتى بالإستعاذة جهراً وإخفاتاً .
لقد جعل الله عز وجل الإستعاذة واقية من القتل والإرهاب وسفك الدماء ، إنها سلاح المؤمن الذي يقهر به النفس الغضبية ، والتي تأخذ بيده إلى استحضار آيات القرآن، لذا يكون من معاني قوله تعالى [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ] ( ) أن الإستعاذة عند التلاوة تنفع المسلم عند الغضب والسخط ، فتصرفه عن الشر ومداخل غواية الشيطان .
بحث عرفاني
من الإعجاز في القرآن أن تتقدم آية الملك المطلق لله آيات الأحكام والنواهي ، فتخبر آية قرآنية عن عائدية ملك السماوات والأرض لله عز وجل، ثم تأتي آية بالثناء على المسلمين لأنهم آمنوا بملك الله عز وجل لكل شئ، واعترفوا بالربوبية المطلقة له، وأنهم عبيد داخرون له ، وامتنعوا عن الإنصات لإغواء الشيطان كما في قوله تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
ترى لماذا تقدمت آية الفضل والرحمة على النهي عن اتباع الشيطان ، فيه مسائل :
الأولى : لزوم إمتثال المسلمين للنهي، وتقيدهم بالإبتعاد عن مسالك الضلالة .
الثانية : بشارة الرزق الكريم للمسلمين من الله عز وجل.
الثالثة : بشارة العوض والبدل ونزول المدد والخير من السماء والأرض.
الرابعة : ندب المسلمين للدعاء وسؤال الأمن والسعة والرزق مما في السماوات والأرض، وكلها من الله سبحانه .
الخامسة : التحذير من المعصية والإخبار بأنها عديمة النفع، لأن كل ما في السموات والأرض ملك لله عز وجل .
السادسة : ترغيب المسلمين بالإمتناع والعصمة عن المعاصي .
السابعة : التنزه عن الفواحش شكر لله عز وجل، ويتلو المسلمون كل يوم قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] وفي الحديث (الحمد رأس الشكر)( ) ويمكن تقسيم الحمد إلى أقسام( )، منها :
الأول : الحمد القولي وهو الثناء باللسان.
الثاني : الحمد الفعلي وهو أداء الواجبات والفرائض كالصلاة والصوم قال تعالى[وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا]( ).
ومن مصاديق الخير الإمتناع عن الباطل عزماً ونية وبقصد القربة إلى الله.
ويبين النهي عن المنكر والقبائح حقيقة وهي أن ملك الله للسموات والأرض ليس مجرداً، بل هو ملك تصرف وفعل، وجميع الأشياء حاضرة عند الله، منقادة لأمره وأبتلى الإنسان بأمور:
الأول : الإختيار في الحياة الدنيا دون الآخرة التي لا خيار للإنسان فيها.
الثاني : البيان والفصل والتمييز بين الحق والباطل.
الثالث : مجئ القرآن والسنة بالأوامر والنواهي، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
ويأتي توكيد ملك الله للسموات والأرض في القرآن لإقامة الحجة على الإنسان بأنه يدرك لزوم طاعة الله عز وجل.
إن إمتناع المسلمين عن سفك الدماء فعل ينبئ عن تعظيمهم لله الذي له ملك السموات والأرض، وإقرارهم باحسانه وتطلعهم إلى رزق كريم منه خال من الظلم الذي يتصف به عدوان كفار قريش موضوعاً وحكماً.
ويدرك الناس بالوجدان والعرف أن المسلمين يؤدون الفرائض طاعة لله عز وجل وشكراً له على إحسانه وإنعامه، وظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مشركي قريش , وهذا الأداء أمر يثقل الميزان.
وهل من صلة بين شكر النعم الإلهية على اللسان وبين أداء الفرائض طاعة لله الجواب نعم، فهما مجتمعين ومتفرقين شكر لله عز وجل , وتسليم له بالربوبية المطلقة باللسان والجنان والأركان ، قال تعالى [وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ]( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أتحبون أيها الناس أن تجتهدوا في الدعاء ، قالوا : نعم . قال : قولوا : اللهم اعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك( ).
إن الإمتناع عن الربا مرآة للتقوى، ومصداق من مصاديق الشكر الفعلي لله عز وجل وهو من مصاديق الشوق إلى المعشوق، وإمتلاء النفس بحب ذكره ، والشعور باللذة الإيمانية بطاعة الله عز وجل، وإدراك أن أخذ الربا برزخ دون القرب من رحمته، قال تعالى[زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا]( ).
وقد فاز المسلمون برؤية الأشياء بعين الرضا والخضوع لله عز وجل، ليكون فيصلاً في التمييز بين أفرادها بلحاظ الخير والشر، والطاعة والمعصية، ولآية البحث والعمل بمضامينها موضوعية في بلوغ المسلمين مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فالمؤمنون أئمة الهدى في تنزيه الأسواق من آفة الغش والربا وأسباب الضرر التي تلحق النفوس والأسواق لو شاع الفساد.
لقد نفخ الله عز وجل في آدم من روحه ليجعل نفوس الناس تنجذب إليه، وتغرق في جمال وجلال صفاته، وتسيح في مضامين آياته، متدبرة خاشعة، وتنفر من القبائح ورأسها المعصية.
فجاء النهي عن العدوان للإقبال الصادق على عبادة الله والإحتراز من الغفلة والجهالة، وللوقاية من الهلكات، وسوء العاقبة.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أن الله تعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا) ( ).
ليبقى إماماً للناس في منازل العبودية والخضوع لله عز وجل ويقودهم في سبل العمل بمضامين وأحكام كل آية من آيات القرآن البالغة ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية ، ومنها آيات السلم والموادعة.
إذ أفلح المسلمون بالإنقياد لما فيها من وجوب التنزه عن الحرام طاعة لله.
وهذا التنزه من مصاديق الصراط في قوله تعالى الذي يتلوه كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم الواحد [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، وهو سبيل هداية وصلاح للناس، وتخفيف عنهم، ودعوة لهم لإدراك السمو الأخلاقي والعقائدي الذي يلازم الإيمان.
و(عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا ذر ألا أدلك على أفضل العبادة ، وأخفها على البدن ، وأثقلها في الميزان ، وأهونها على اللسان ، قلت : بلى ، فذاك أبي وأمي قال : عليك بطول الصمت ، وحسن الخلق ، فإنك لست بعامل بمثلهما.
وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا الدرداء ألا أنبئك بأمرين خفيفةٍ مؤنتُهما عظيم أجرُهما ، لم تلق الله عز وجل بمثلهما ، طول الصمت ، وحسن الخلق)( ).
قانون النهي عن الغضب في السنة النبوية
وقد جاءت السنة النبوية بتفسير الآيات التي تنهى عن الغضب وبالتحذير من الغضب ، وأخبرت عن أضراره ، كما ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم النفع والثواب في حبس الغضب ، وفيه قوله تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ) .
(قال ابن عباس : أمر الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنّه وليّ حميم)( ).
وعن حفظ بن غياث : قال أبو عبد الله عليه السلام: يا حفص إن من صبر صبر قليلا، وإن من جزع جزع قليلا، ثم قال: عليك بالصبر في جميع امورك، فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وآله وأمره بالصبر والرفق فقال: ” واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ” وقال: ” ادفع بالتي هي أحسن السيئة فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ” فصبر رسول الله صلى الله عليه وآله حتى قابلوه بالعظام ورموه بها، فضاق صدره فأنزل الله: ” ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ” ثم كذبوه ورموه فحزن ذلك فأنزل الله: قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون( ).
والآية أعلاه من آيات الموادعة والتقية ، ويدل بيان وتفسير ابن عباس والإمام الصادق عليه السلام على أنها غير منسوخة .
وعن معاذ بن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحوَّر شاء( ).
وكم من سفك الدماء والمعارك والحروب ما كان سببها الغضب والإنفعال .
ولا ينحصر طرو حال الغضب بالكفار ، فهو عام قد يدخل المؤمن ويستحوذ على جوانحه فجاء القرآن والسنة بالتوقي منه ، وفرض الله عز وجل الصلوات اليومية الخمسة للجوء إلى الله ساعة أدائها إذ ينتفي معه الغضب طوعاً وقهراً ، بلحاظ إقرار الإنسان بذلهِ وعبوديته لله عز وجل.
ومن الإعجاز في الصلاة وجوب مقدمتها بالوضوء والطهارة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وقال تعالى [وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ]( )، لتنمية ملكة العفو والصبر وكتم الحنق وإطفاء الغضب (وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني ، قال : لا تغضب ، قال : زدني ، قال : لا تغضب .
قال : زدني : قال : لا تغضب ومن جاهد هذا العارض من نفسه حتى غلبه فقد كفي هماً عظيماً في دنياه وآخرته)( ).
وقد تقدم ذكر خبر طويل في نيل ذي الكفل مرتبته بالصبر ، وقهر إبليس بالإمساك عن الغضب و(عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : قلت : يا رسول الله أخبرني بوصية قصيرة فألزمها قال : لا تغضب يا معاوية بن حيدة، ان الغضب ليفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل .
وأخرج الحكيم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الغضب ميسم من نار جهنم يضعه الله على نياط أحدهم . ألا ترى أنه إذا غضب احمرت عيناه ، واربَدَّ وجهه ، وانتفخت أوداجه .
وأخرج البيهقي عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم . ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه ، وحمرة عينيه؟ فمن حس من ذلك شيئاً فإن كان قائماً فليقعد ، وان كان قاعداً فليضطجع.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ كظمها رجل ، أو جرعة صبر عند مصيبة . وما قطرة أحب إلى الله من قطرة دمع من خشية الله أو قطرة دم في سبيل الله)( ).
وقد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الملازمة بين حسن الخلق وبين الإمتناع عن الغضب والنجاة من سخط الله باجتناب الغضب لما في الغضب من الخروج عن النظام والإنضباط في القول والفعل ونفاذ الشيطان حينئذ .
لقد كانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة للقرآن ، ليكون منع ونهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الغضب زجر عن إنخرام مقدمات وقواعد السلم .
قانون الزكاة مودة وسلم
من مصاديق صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرض الزكاة على الأغنياء خشية من تمردهم وتحريض أبنائهم واتباعهم ، والزكاة فعل ومصداق جلي للتكافل والتضامن ، ودعوة للسلم .
ترى كيف تكون الزكاة سلماً ، الجواب من جهات :
الأولى : الزكاة سبيل للتراحم بين الناس ، (عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة ، وآخر ما يبقى الصلاة ، وأول ما يحاسب به الصلاة ، يقول الله : انظروا في صلاة عبدي ، فإن كانت تامة كتبت تامة ، وإن كانت ناقصة قال : انظروا هل له من تطوّع.
فإن وجد له تطوّع تمت الفريضة من التطوّع ، ثم يقول : هل زكاته تامة.
فإن وجدت زكاته تامة كتبت تامة ، وإن كانت ناقصة قال : انظروا هل له صدقة.
فإن كانت له صدقة تمت زكاته من الصدقة) ( ).
الثانية : الزكاة نوع مفاعلة بين طرفين أو أكثر ، الذي يقوم باخراج الزكاة من ماله ، والذي يتلقى الزكاة سواء كان فقيراً أو عاملاً على الزكاة أو غريماً أو الذي انقطعت به السبل .
الثالثة : في الزكاة إيثار وتضحية طاعة لله عز وجل ، وهو باعث للسلم المجتمعي ، وطارد للغضاضة ، ومانع من الكراهية بين طبقات المجتمع ، بلحاظ التباين في الرزق من جهة السعة والقلة ، قال تعالى [وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ] ( ) .
ليكون هذا التفضيل نوع إمتحان للفاضل والمفضول ، وتكون الزكاة طوق نجاة لكل منهما .
وأداء الزكاة خير محض ، من وجوه :
الأول : إنه حرب على الشح ، والبخل .
الثاني : الزكاة سبب للألفة بين الناس .
الثالث : في الزكاة سدّ لجانب من حاجة الفقير ، فلا تؤدي الزكاة إلى إغنائه .
الرابع : الزكاة مناسبة للشكر لله عز وجل من أطراف الزكاة وغيرهم ، لتكون معاني نماء المال بالزكاة من مصاديق قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ) وتقدير الآية : لئن شكرتم باخراج الزكاة والصدقة لأزيدنكم).
ولا تختص الزيادة في المقام بموضوع الشكر والإمتثال لله عز وجل ، كزكاة المال ، إنما تشمل الزيادة في الأعمار والجاه والسلامة من الأدران ، وهي نوع طريق للفلاح ، لذا سميت زكاة الفطر بزكاة الأبدان ، قال تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى] ( ).
الخامس : الزكاة إقرار بفضل الله وهدايته الناس إلى سواء السبيل .
السادس : في الزكاة تعاهد للمصالح العامة والبناء والإعمار .
السابع : الزكاة عنوان الإيمان .
الثامن : ذات الإيمان بالزكاة ووجوبها سلام متجدد ، ويمتنع المؤمن عن الظلم والتعدي .
التاسع : أداء الزكاة شاهد على الخشية من يوم الحساب .
وتقديم الواقية من أهوال يوم القيامة ، ليفتدي عامة الناس بالغني حينما يرفع لواء السلم ، ويبذل المال في سبيل الله ، ولم يجعل الدنيا كل همه ، فمن أسباب الإقتتال والحروب حب الدنيا ، والتنافس عليها ، بينما دعا الله عز وجل للتنافس في فعل الصالحات ، قال تعالى [خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ]( )، أي المبادرة إلى فعل الخيرات والفوز بالثواب ، والتباهي والإكثار من الصالحات ، والإنفاق في سبيل الله والصدقة سراً وعلانية ، والإمتناع عن الظلم والإرهاب ، وإرادة التفاخر بالصبر والعفو والكرم وعمل الصالحات ، قال تعالى [لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ]( ).
قانون اسم العفو سلام
من إعجاز القرآن إقتران اسم العفو مع اسم الغفور في القرآن ، وكل منهما اسم من أسماء الله الحسنى ، وقد وردا متلازمين في آيتين :
الأولى :قوله تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ] ( ) .
ترى لماذا يعفو الله عز وجل عن الناس .
الجواب الأصل هو عدم ورود مثل هذه السؤال لقوله تعالى [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ) وهل يمكن صياغة السؤال من منازل الرق والعبودية لله عز وجل .
الجواب نعم ، فهو سبحانه يعفو لأنه هو العفو .
وهل يترك الله عز وجل الناس يفعلون المعاصي كي يعفو عنهم .
الجواب لا ، ولكن الحياة الدنيا دار امتحان وإختبار، والإنسان مخير في عمله مع أن الإيمان وفعل الصالحات هو الأقرب إليه ،ويدعوه عقله إليهما ، ترى ما هي النسبة بين تفضل الله عز وجل بالعفو، وبين السلم والسلام .
الجواب من شعبتين :
الأولى : عفو الله عز وجل عن الناس .
الثانية : العفو والمسامحة بين الناس .
أم الشعبة الأولى فان الله عز وجل يعفو عن الناس لينشغل الإنسان بنفسه ويمتنع عن الإضرار بغيره .
كما أن حال السلم مناسبة للترغيب بالتوبة والفوز بالعفو من عند الله سبحانه .
وأما الشعبة الثانية فان العفو بين الناس ذاته سلم وموادعة ، ومانع من الكدورة والغضاضة .
لقد أحب الله عز وجل الناس إذ أكرمهم بالخلافة في الأرض وفي التنزيل [وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ]( )، ومن حبه لهم عفوه عنهم ، وتفضله بالتجاوز عن ذنوبهم .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الفرائض والتكاليف العبادية ، وهو من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض ، فليس الخليفة آمرآ متصرفاً ، إنما هو عبد وأمين ممتثل مستجيب لأمر الله عز وجل ، ويتنعم بخيرات الأرض وسعة الرزق ، وهو من الشكر العاجل من الله عز وجل للناس على طاعته وعبادته.
ومن مصاديق ومعاني الفريضة أنها بذاتها سلم وأمن لذات الذي يؤديها ،ولغيره من الناس ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن .
ويدل عليه قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ] ( ).
والنسبة بين الصلاة وذكر الله في الآية أعلاه هو الخصوص والعموم المطلق ، فالمراد من ذكر الله في الآية مطلق الفرائض والتسبيح واستحضار ذكر الله، وكل فريضة تؤدى بقصد القربة إلى الله عز وجل ، إلى جانب الذكر والتسبيح والتهليل .
ومن معاني ذكر الله أنه طريق للتوبة والإنابة ، وسبيل لنشر لواء السلم ، وكفاية الذاكر لله شرور الأعداء ، وهروب الشيطان منه وعجزه عن فتنته .
وهل في قوله تعالى [وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ] ( ) وعد من الله عز وجل ، الجواب نعم ، وهذا الوعد في الدنيا والآخرة ، وفيه قهر للشدائد وجلب للمنافع ، ودفع للأضرار والمفاسد .
ومن الإعجاز في القرآن تعدد الأسماء الحسنى في قوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( ) إذ وردت عشرة من الأسماء الحسنى لله في هذه الآية ، وتكرار اسم الجلالة لبيان أنه أم الأسماء الحسنى .
ومن الأسماء والكلمات التي وردت فيها لم ترد في آية أخرى :
الأول :المؤمن .
الثاني : المهيمن.
الثالث : الجبار .
الرابع : المتكبر .
وقد وردت في الآية السابقة لها ذكر خمسة من الأسماء الحسنى ، وستة في الآية التي بعدها التي هي آخر سورة الحشر ، لبيان قانون وهو أن هذه السورة سورة الأسماء الحسنى ، وفيها دعوة إلى ذكر الله والرأفة ونبذ الإرهاب .
قانون التقوى طريق للمغفرة
تحتمل التقوى وأثرها في سبل المغفرة وجوهاً:
الأول : التقوى طريق لنيل المغفرة، ونزول شآبيب الرحمة.
الثاني : إستقلال موضوع التقوى عن المغفرة، إذ أن طريق المغفرة الإستغفار.
الثالث : حاجة التقوى إلى ضميمة معها كالإستغفار.
الرابع : المغفرة فضل من الله عز وجل ليس لفعل العبد فيه موضوعية.
والصحيح هو الأول والرابع وقد يظن بالتعارض بينهما، ولكنها شبهة بدوية تزول بأدنى تأمل لتعدد سبل المغفرة والعفو، بفضل الله .
وكل فرد منها من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] الذي ليس له حد من جهة الكثرة في محو الذنوب والذين ينالهم العفو والمغفرة .
فالتقوى مفتاح المغفرة، لذا أمر الله عز وجل المسلمين بتقوى الله ليفوزوا بالمغفرة والرحمة من عند الله، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
وهل دخول الإسلام من تقوى الله، الجواب نعم، ليكون دخول الإسلام سبباً لنيل المغفرة ونزول الرحمة الإلهية على المسلم ، ومن حوله ، فضلاً من الله عز وجل.
فإن قلت إذا كان دخول الإسلام من التقوى فلماذا يأمر الله المسلمين بالتقوى كما في آية البحث.
والجواب تحتمل التقوى وجهين:
الأول: إنها من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة متساوية، تكون مطلوبة من الناس جميعاً في قوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ].
الثاني: إنها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
والصحيح هو الثاني فإن التقوى على مراتب متعددة بلحاظ الموضوع والحكم، والتقوى باب للإرتقاء في سلّم الخشية من الله، وسبل اليقين، وكما أنها سبيل إلى المغفرة والرحمة، فإن كلاً من المغفرة والرحمة سبيل لبلوغ منازل التقوى واليقين بالسعي في مرضاة الله، وإظهار معاني حبه والتفاني في طاعته والإخلاص في سنن الإيمان بما يجعل الدنيا حديقة ذات بهجة يفوح منها عطر الهدى، وتتجلى فيها معاني الصلاح والرشاد.
وفي التنزيل[هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ]( )، أي أن الله أهل أن يحذر من بطشه وعقابه، وأهل أن يسعى الناس لنيل مغفرته، ولا يدركون المغفرة إلا عند الله ، وليس من حصر لطرق كسبها والفوز بها من جهات :
الأولى : ترغيب الله عز وجل الناس بالتوبة والمغفرة ، وتفضله بالأمر بالتوبة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثانية : تقريب الله عز وجل الناس لسبل التوبة .
الثالثة : تلقين الله عز وجل الناس صيغ التوبة .
الرابعة : قبول الله عز وجل لأي طريقة في الندامة والتوبة والإستغفار .
ولا تنفع الندامة في الآخرة لقوله تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
و(عن عبد الله بن مَعقِل قال: دخلت مع أبي عَلى عبد الله بن مسعود فقال: أنت سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الندم توبة ، قال: نعم. وقال مَرَة : نعم سمعته يقول : الندم توبة) ( ).
الخامسة : المغفرة إبتداء من عند الله عز وجل على العباد .
السادسة : صيرورة الإبتلاء طريقاً للإستغفار والإنابة ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
لما تفضل الله عز وجل وخلق الناس لطاعته وعبادته فإنه سبحانه لم يتركهم وشأنهم يتلمسون سبل الهداية بتوظيف العقل والحواس، بل أنعم عليهم بالأنبياء والكتب السماوية لتكون وسائط جذب مباركة لرحمة الله، ونيل العفو والمغفرة منه تعالى، وتفضل وجعل المغفرة والرحمة يدنوان من العبد ويصيران قريبين منه من غير وسائط أرضية أو سماوية، بشرية أو ملكوتية، قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
فليس بين الناس ورحمة الله من برزخ، ولا يستلزم الفوز بالرحمة الإستعانة بالوسائط المباركة مع سموها وشرفها، وفي التنزيل[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ).
ومن مصاديق الإستعانة السعي للمغفرة والرحمة والفلاح، ليكون من رحمة الله في المقام تعدد مصاديق الرحمة، وكثرة سبلها، ومنها الأوامر والنواهي، وكل فرد منها رحمة مخصوصة ، ومناسبة كريمة لبلوغ المسلمين مراتب الفلاح والتوفيق.
وتلك آية في بديع الخلق والحجة على الناس في كثرة مصاديق الرحمة، وترغيبهم بالنهل منها، فكل حادثة وواقعة تدعو إلى رحمة الله، وإن لم تكن هناك وقائع حاضرة فإن الآيات الكونية وذات الإنسان تدعو بإلحاح للجوء إلى رحمة الله، قال سبحانه[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
ومن التقوى وسبل المغفرة اختيار السلم سنة ومنهاجاً ، فيكون من تقدير قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) أي ادخلوا في السلم لأنه من التقوى ، ادخلوا في السلم لأنه سبيل المغفرة ، ادخلوا في السلم لأنه سبب لكسب ملكة التقوى .

بحث كلامي
لقد جعل الله السكينة ملازمة للإيمان، وبينها وبين الكفر تضاد وتناف، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( )، وفيه مسائل :
الأولى : إنه من مقدمات وصيغ بعث السكينة في نفوس المسلمين.
الثانية : فيه حث للمسلمين على الشكر لله عز وجل لأن قوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا) شهادة على حسن سمت المسلمين.
الثالثة : يخاطب الله عز وجل المسلمين بصفة الإيمان لعلمه بإمتلاء صدورهم بالإيمان، وخلوها من الشك والريب بالتنزيل والنبوة.
فإن قلت من المسلمين من لم يدخل الإيمان قلبه ، قال تعالى[قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
والجواب من وجوه :
الأول : تدل الآية أعلاه على ضعف إيمان الأعراب في الجملة , وأنه أمر متزلزل غير مستقر، وأن الإيمان قد يدخل قلوبهم على نحو تدريجي ودفعي.
الثاني : لو تنزلنا وقلنا ببقاء حال ضعف الإيمان عندهم فإنهم قلة من بين كثرة وتكاثر عدد المسلمين، ولا يكون الحكم على القليل النادر.
الثالث : تؤكد الآية أعلاه على بعث الأعراب لمنازل الإيمان ، والتفقه في الدين .
الرابع : جاءت آيات من القرآن بمدح شطر من الأعراب، قال تعالى[وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ]( ).
الخامس : نزول آيات القرآن سبب لإيمان الناس وزيادة هذا الإيمان ، وتقيدهم بأحكام إجتناب الفتنة ، وهو شعبة من الإيمان، إذ أن توالي نزول آيات الأحكام وإمتثال المسلمين لمضامينها إرتقاء في مراتب الهدى والإيمان، وهو من إعجاز قوله تعالى[وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] لدلالته على أنهم سائرون نحوه بضياء القرآن وهدى النبوة، والسعي للفلاح والفوز والبقاء.
السادس : تدل الآية أعلاه من سورة الحجرات[قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا] على أن الله عز وجل [عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ) وفيها تنبيه لهؤلاء الأعراب من المسلمين بأن الله عز وجل يعلم ما في قلوبهم , ويجب عليهم أن يخلصوا الإيمان، ويصدروا عن القرآن والسنة، ومن أسباب إخلاصهم الإيمان بلحاظ أمور:
الأول : إدراك موضوعية الحب والبغض في باب العقائد.
الثاني : الإحتراز من حب الكفار، قال تعالى[وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ]( ).
الثالث : وجوب التصديق بالتنزيل مطلقاً، منه حث عامة الناس على الإيمان، ونبذ النفاق وأهله.
الرابع : معرفة بغض الكفار للمسلمين، وشدة عداوتهم للإسلام.
الخامس : ترديد وتلاوة المسلمين لقوله تعالى(قل موتوا بغيظكم).
السادس : معرفة قانون من الإرادة التكوينية ،وعظيم قدرة الله ، وهو أن الله عز وجل[يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى]( ).
السابع : إستحضار ذكر الله لأن الله عز وجل يعلم ما يخطر على بال الإنسان مسلماً كان أو غير مسلم، ذكراً أو أنثى.
الثامن : توجه الأعراب والمسلمين عموماً لله عز وجل بالشكر والثناء لأنه سبحانه يخاطبهم بصفة الإيمان.
التاسع : أداء الأعراب الصلاة والوظائف العبادية الأخرى وإدراكهم لوجوبها العيني على كل مكلف منهم.
العاشر : إجتناب الأعراب المعاصي، وسعيهم للتفقه في الدين لتعيين خصائص المعاملات المحرمة، وهو في مفهومه باعث عن معرفة العقود الجائزة والمعاملات الصحيحة.
الحادي عشر : العفة والتنزه عن الطمع في المال الكثير إذا كان محرماً.
الثاني عشر : الدخول في السلم ، وتعاهد الأمن والأخلاق الحميدة.
الثالث عشر : إقتباس هؤلاء الأفراد من الأعراب صيغ التقوى بلحاظ أمور :
الأول : آيات القرآن وما فيها من الحث على التقوى وصيغها ومصاديقها.
الثاني : حسن سمت عموم المسلمين والمسلمات وإتخاذهم التقوى طريقاً ومنهاجاً ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) صيرورة طائفة من المسلمين أسوة حسنة في عمل الصالحات وسبل الرشاد ، لتقتدي بهم عوائلهم وجيرانهم ، والناس جميعاً ، فلابد من أستجابة للدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصة وأنها وردت في القرآن .
ومن وجوه تقدير الآية :
الأول : ولتكن منكم يدعون إلى الخير فيستجيب لهم الناس بعمل الخير.
الثاني : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، فيزداد عدد أفراد هذه الأمة.
الثالث : ولتكن منكم أمة يدعون إلى السلم بلحاظ أن النسبة بين الخير والسلم هو العموم والخصوص المطلق ، فالسلم أحد أفراد الخير .
وهل يدل هذا المعنى على وجوب الدعوة إلى السلم ، الجواب نعم ، لبيان أن هذه الدعوة من الخير .
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لدعوة السلم ، ويدل عليه قوله تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( ).
الثالث : التلبس بأداء الفرائض العبادية وما فيها من معاني الصبر.
الرابع : التدبر بحقيقة كنه الحياة الدنيا.
قانون (آيات الخطاب التشريفي)
ورد لفظ (يا أيها الذين آمنوا) تسعاً وثمانين مرة في القرآن ، وكل فرد منها مدرسة قرآنية مصاحبة للمسلمين في أيام الحياة الدنيا وآلة ومدرسة ينهلون منها المواعظ والعبر، ويتخذونها نبراساً وضياءً، وحرزاً من السيئات وما تؤدي إليه من الهلكات.
ومن الآيات في هذا النداء التشريفي أنه أعم في موضوعه وحكمه ولا يختص بمورد الآية، ليكون كل نداء منها تعضيداً ووزيراً لنداءات أخرى مثله، ونداءات على الضد في جهة الخطاب أي تلك التي تتوجه إلى الكفار بصيغة الجملة الإنشائية والخبرية.
ومن إعجاز القرآن أنه مع كثرة النداء للمسلمين(يا أيها) فإنه لم يرد للكفار إلا مرة واحدة وفي عالم الآخرة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ]( ).
ويأتي هذا النداء للكفار عند دخولهم النار، وجاء في القرآن ليكون على وجوه:
الأول : إنه حجة على الكفار.
الثاني : فيه دعوة للتنزه من الكفر.
الثالث : إنه من الشواهد على كون القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الرابع : بعث المسلمين لحث الكفار على هجران منازل الكفر قبل أن يكونوا في أشد حال من جهات:
الأولى : العذاب الأليم في النار.
الثانية : عدم الإذن لهم بالإعتذار، وهناك فرق بين سماع الإعتذار وعدم قبوله ، وبين غلق بابه وعدم الإنصات له فجاءت الآية بالثاني، فهم لا يستحقون الإستماع إلى إعتذارهم.
الثالثة : الخلود في العذاب وعدم الإذن بالإعتذار إذ إستغرقوا أيامهم في الحياة الدنيا دون الإنتفاع من واحد من التسعة والثمانين نداء التي جاءت للمسلمين (يا أيها الذين آمنوا) وكأنهم إدخروا لأنفسهم خطاب التبكيت والتوبيخ وهم في النار.
وجاءت ستة وعشرون خطاباً بالنهي والمنع كما في آية البحث[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا]، ومنها ما جاء بصيغة الإنذار والتنبيه والتحذير وصيغة الجملة الشرطية كما في قوله تعالى[إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
وجاءت أكثر نداءات الخطاب التشريفي بصيغة الأمر والبعث للفعل الأكيد، ومنها قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]( ).
وجاءت الآية أعلاه بصيغة الإطلاق الشاملة لجميع العقود، ولزوم الوفاء بها، ومنها تعاهد مواثيق الصلح والموادعة .
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه إنفرد بالمعجزة العقلية وهي القرآن، وشارك الأنبياء السابقين بالمعجزة الحسية، لتكون دعوة الناس للتصديق بنبوته مركبة ومتعددة.
لتتصف نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمور مباركة هي :
الأول : التعدد في سنخية المعجزة .
الثاني : الدعوة في الكتاب الخالد وهو القرآن للتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأخذ بما جاء به .
الثالث : وجوب إتباعه ونصرته والقتال تحت لوائه .
الرابع : تجدد الخطاب الوجوبي للناس باتباعه وإلى يوم القيامة , وإقتران طاعته بطاعة الله ، قال تعالى وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
الخامس : تجدد نهي المسلمين عن السيئات ، قال تعالى[ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ]( ).
قانون من التقوى الإستجابة لدعوة السلم
لقد نزل القرآن بوجوب التآزر والتعاون بين المسلمين في سبل التقوى، قال تعالى[وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ]( ).
وفي الآية أعلاه إعجاز بلزوم العمل بمضامين التقوى فلا تكفي المناجاة والتوصية بالتقوى، فلابد من تجلي معاني التقوى على اللسان والجوارح والأركان لتكون المناجاة على شعب:
الأولى : إنها وسيلة ومقدمة للتقوى.
الثانية : إنها من مصاديق المناجاة بالتقوى.
الثالثة : من أفراد التقوى بالذات والأثر.
ومن سنن التقوى السعي للفلاح والبقاء ومراتب العز والتوفيق، وإدراك عدم بلوغها إلا باتخاذ الإيمان بلغة.
ومن خصائص العلم أنه طريق وبلغة لنيل مراتب السمو والرفعة والعز.
لقد تفضل الله عز وجل وجعل الحياة الدنيا ذات بهجة ونضارة يدركها الإنسان ومن قبل وصوله سن البلوغ لتكون حجة عليه في لزوم التقيد بآداب علة الخلق، قال سبحانه[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، لتكون هذه البهجة والنضارة على وجوه :
الأول : ترغيب الناس بالعبادة وطاعة الله لحاجتهم وذراريهم لإستدامة الخلق والحياة التي قيدت بالعبادة.
وهل ينتفع من مضى من الآباء من هذه الإستدامة.
الجواب نعم لما في صلاح الأبناء من الثواب والرحمة للآباء وإن علوا.
الثاني : إنتفاع الناس من حال السلم والموادعة .
الثالث : إزدهار الأسواق ، وكثرة التجارات والزراعات ، وقلة الإنفاق على السلاح ومستلزمات القتال .
ومن معاني الإستجابة لدعوة السلم توقي الإعتداء والإضرار بالغير ، فمن تقوى الله الإمتناع عن الظلم والعدوان ، وإجتناب الإرهاب والتكفير .
قانون الدفاع يوم بدر دعوة للسلم المجتمعي
لقد كانت معركة بدر دفاعاً محضاً من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار , وقد خرج إلى المعركة وليس معه سيف , مما يدل على إنه لا يقصد القتال إنما الإستطلاع والتبليغ العملي وليس من قائد يخرج إلى المعركة ليس معه سلاح .
وهل للمسلمين فضل يوم بدر، الجواب نعم، من وجوه:
الأول : آمن المسلمون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : قيام المسلمين بالخروج المتكرر من المدينة إستطلاعاً وتبليغاً ودفاعاً وجهاداً في سبيل الله عز وجل.
الثالث : مواجهة الكفار مع كثرة عدد الكفار ومؤونهم.
الرابع: إظهار المسلمين الإخلاص في طاعة الله ورسوله.
فجاءهم النصر من عند الله مع ضعفهم وقلة أسلحتهم، ليكون هذا النصر فلاحاً وبقاءً، ومقدمة للفلاح والبقاء.
فان قلت كيف يكون النصر مقدمة لشيء، وذات الشيء نفسه وهو من تحصيل ما هو حاصل.
والجواب ليس من تعارض في المقام ، ولكن أثر النصر متعدد في موضوعه وحكمه، وهو أمر ظاهر للوجدان إذ تنفتح أبواب عديدة من النصر، ويظهر نفعه في الميادين المختلفة بالإضافة إلى تعاقب المنافع، وتعدد مصاديقه وإستحداث أفراد منه ، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
وهل كان العرب في الجزيرة يتوقعون حدوث معركة بدر بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين المختار نعم ، لتجلي التضاد بين الطرفين ، في العقيدة والسيرة والشأن والأحكام والأخلاق ، وإجهار كفار قريش بالتهديد والتخويف والوعيد للمؤمنين .
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما هو ثورة واصلاح تام للمجتمع وبناء عقائدي وأخلاقي يتحقق معه السلم المجتمعي وتستأصل العادات المذمومة ، وأسباب النهب والغزو ، وعبادة الأصنام مع إزاحة لرئاسة المشركين عن المجتمعات .
فجند كفار قريش كل قواهم لمعركة بدر ثم أحد فلحقتهم الخزي بالهزيمة ، وسادت مبادئ الحق والعدل والسلم .
بحث منطقي
يترشح التصديق بالبرهان عن مقدماته ، ومنها البديهيات التي تستقرأ من العقل ولا تستلزم البرهان وتسمى المقدمة الواجب قبولها ليستنتج منها البرهان ولا تحتاج البديهية إلى البرهان لأنها بذاتها صحيحة ، ومن البديهيات مجئ الأنبياء بالسلم والأمن للمجتمعات ، ولا يدب القتل وسفك الدماء والرعب وفقدان النظام إلا بغلبة مفاهيم الكفر، والتجرأ والتعدي على الحقوق ، لذا أخبر الله عز وجل عن صفة الأنبياء بكونهم [مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
وقد قسمت البديهيات إلى أقسام هي:
الأول : الأوليات : وهي أعلى مراتب البديهية، ويكاد ينطبق عليها ذات التعريف، فمجرد تصور الموضوع أو المحمول يكفي لحكم الذهن بنسبة أحدهما إلى الآخر سواء في مقام الإثبات أو النفي، نعم من الأوليات ما يكون خفياً ويحصل فيه التباس أو شبهة بدوية عند بعض الناس ، فيستلزم الكشف وإزالة هذا اللبس.
الثاني : المحسوسات وهي القضايا التي تدرك بواسطة الحواس، فتراها آلة البصر، أو تسمعها آلة السمع، وقيل بالحس الباطن، وما يدرك بالوجدان كالعلم بالخوف والألم واللذة ونحوها وتتجلى من جهات:
الأولى : مقدمات وأسباب الوجدانيات.
الثانية : ذات الوجدانيات.
الثالثة : آثارها ونتائجها.
وجاء القرآن لتنمية ملكة الوجدانيات ، وتقومها بأحكام الحلال والحرام وسبل الإمتثال لأمر الله عز وجل، وتجعل تلاوة أو سماع آية البشارة أو الإنذار من الوجدانيات، وتصير كأنها من المحسوسات ، وتفزع نفس المؤمن من مقدماتها وأسباب دخولها.
لتكون واقية من النار فتتعاضد الحواس مع العقل في النفرة من سفك الدماء البطش الإرهاب ، وفيه نوع تخفيف ورحمة بالمسلمين، وحجة على الناس جميعاً بلحاظ أن العقل حجة على الناس وآلة التمييز بين الخير والشر.
الثالث : الخلقيات: وهي السجايا الحسنة وتسمى الآراء المحمودة مما يتفق عليه العقلاء مما يلائم الفطرة والخلق الإنساني كالحكم بحسن العدل والكرم ، وقبح الظلم والبخل، ولا يتنجز العدل والكرم بقضية عين بل يستلزم تكرار ذات الفعل الحسن بما يدل على الملكة ليكون علة وموضوع الشهرة فيه هو الخلق كداع للبعث للفعل.
ومن بديع خلق الإنسان أن الخلقيات الحسنة ممدوحة عند الناس جميعاً حتى من الذين يفتقرون إليها، فالبخيل يثني على الكريم، والجبان يمدح الشجاع، وإدراك الأخلاق الحميدة من الفطرة وعمومات قوله تعالى[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
ويسمى الإحساس بها بالعقل المستقيم ، والحس السليم والقلب.
وفي هذا الزمان يطلق عليه في علم الأخلاق ووفق المتعارف(الضمير) ليكون في ذات النفس الإنسانية حب ورضا على فعل الحسنة، وندم على إرتكاب المعصية ، قال تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ]( ).
وليس من إنسان إلا ويلوم نفسه يوم القيامة فإذا كان فعل الصالحات قال: هلا إزددت ، وإن فعل سوءً قال يا ليتني لم أفعل ، وهو المروي عن ابن عباس.
والظاهر إرادة الإطلاق في الآية القرآنية وأن المقصود هو لوم الإنسان نفسه في الدنيا والآخرة، ليكون لومه في الدنيا حجة عليه إن كان فاسقاً يعمل السيئات، أما إذا كان في الدنيا يلوم نفسه على عدم الزيادة في سبل الخير والصلاح فإن هذا اللوم باب للثواب وهو من عمومات قوله تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا]( ).
وقد يجد المؤمن لومه لنفسه على عدم الزيادة يجده عند الله عز وجل بمضاعفة للحسنات، وفيه حرز من النار، وبينونة مؤبدة بينه وبين الكفر والضلالة والنفاق .
ومن بديع صنع الله عز وجل في خلافة الإنسان في الأرض أن السعي في السلم والصلح لا يجلب الندم أو الحسرة ، وإنما حال الإصرار على القتال والهجوم والغزو هو الذي يسبب الندم والحسرة ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )، أن الغالب في المعركة والمستولي على الدولة والشأن لا يلبث أن يدب إليه الضعف والوهن ولو بعد عقود من السنين ليأتي غيره إلا مبادئ التوحيد فانها باقية في الأرض ، ويسخر الله عز وجل لها حفظة وجنوداً ودعاة إلى الله [بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
قانون التحلي بالتقوى أمن وسكينة
من بديع صنع الله في الإنسان أن تتحلى جماعة أو أمة بمفاهيم التقوى فتكون بالنسبة إلى غيرها على وجوه:
الأول : إنها حجة على الناس في لزوم طاعة الله ، وعن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون ، يقولون : نحن متوكلون ، ثم يقدمون فيسألون الناس ، فأنزل الله[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان ناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة يقولون : نحج بيت الله ولا يطعمنا .
فقال الله {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى} ما يكف وجوهكم عن الناس .
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر قال : كانوا إذا أحرموا ومعهم أزوادهم رموا بها واستأنفوا زاداً آخر ، فأنزل الله {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى} فنهوا عن ذلك ، وأمروا أن يتزوّدوا الكعك والدقيق والسويق ( ).
الثاني : فيه دليل على محبوبية التقوى ، والخشية من الله عز وجل وكم من جناية أو قتل أو حرب تم دفعها بسبب تقيد الأطراف أو بعضها بالتقوى ، والخشية من الله عز وجل .
الثالث : إدراك العقول لحقيقة وهي أن التقوى أمر حسن ذاتاً، وهو باب لميل النفوس لأهل الإيمان وواقية من كثير من الأذى وهو من عمومات قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، بتقريب أن تحلي المسلمين بالتقوى يصرف عنهم الكثير من أذى الأعداء، ويجعل نفوس الكفار مملوءة بالفزع والخوف منهم والهيبة لهم.
الرابع : توكيد قانون ثابت في الأرض وهو أن المتقين يعملون بالأوامر والنواهي الإلهية خشية من الله، ولا يتعدونها إلى غيرها، إنها سر الله في الأرض.
وتدل الآية على أن الدنيا (دار التقوى) لتوارثها بين أجيال الموحدين إلى يوم القيامة، وتتزاحم الأفكار، وتتصارع الملل، وتنقرض فئات وأطراف منها فما أن يعلو كعب إحداها إلا وتبدأ بالإنحسار ، إلا ملة التوحيد وسنن التقوى فإنها باقية بالإختيار والتوارث.
وتكون الأمة التي تتقي الله في علو ورفعة على نحو متصل ودائم بفضل ومدد من الله، قال تعالى [وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ] ( ).
لبيان قانون وهو طلب السلم والسعي إليه سبب للرفعة ، ومنسأة في الأجل سواء كان مدة عمر الشخص أو أجل وإنخرام الحكومات والدول ، والشواهد عليه كثيرة ، فكم من دولة دخلت الحرب فصار هذا الدخول سبباً لانقراضها وزوال سلطانها ومنهم كفار قريش وثقيف.
قانون التخفيف في الميدان
من خصائص الحياة الدنيا أنها دار التخفيف ، وهذا التخفيف من اللطف الإلهي العام ، وليس من حصر له من جهة الكم والكيف والموضوع والحكم ، وهل هو على مرتبة واحدة .
الجواب لا ، فالتخفيف عن أهل الإيمان والتقوى أكثر .
وفي تقوى المسلمين مسائل:
الأولى : إنها حجة على الكفار.
الثانية : تحلي المسلمين بالتقوى ترغيب للناس جميعاً بالإسلام.
الثالثة : التقوى زاجر للكفار عن التعدي على المسلمين.
الرابعة : تقوى المسلمين حث لأتباع الظالمين بالتخلي عنهم وعدم إتباعهم ونصرتهم في الهجوم على المسلمين وثغورهم، لذا ورد التفصيل في الآية بقوله تعالى [أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ] بلحاظ أن من مصاديق هذا الترديد بين التوبة والعذاب أن الأتباع والمستضعفين يكفون عن نصرة رؤساء الكفر والضلالة، ويدخلون الإسلام قبل أن يحل بهم العذاب في الآخرة، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ] ( ).
الخامسة : تقوى المسلمين شاهد على إستغناء المسلمين عما في أيدي الكفار، وفيه بعث لليأس في نفوس الكفار من إرتداد المسلمين، قال تعالى [الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي]( )، وهذا اليأس من ثمرات صلاح المسلمين وتقيدهم في أحكام العبادات والمعاملات .
ومن مصاديق الخشية من الله في الآية أعلاه إجتناب أكل المال بالباطل ليكون غلقاً لباب من أبواب الفساد ، ودعوة للسلم المجتمعي ، فلا ينحصر هذا السلم بالإمتناع عن القتال ، إنما يشمل قانون العدل والإنصاف والنزاهة والسماحة .
السادسة : من تقوى المسلمين التنزه عن الحرام طاعة لله عز وجل، وفيه ترغيب للكفار بالتوبة، ودعوة لهم لترك ما ظهر منه وما بطن ، ومن الكفار من إكتوى بنار المعاصي والموبقات ، وخسر رأس ماله، وباع داره وطلّق زوجته، وسخّر نفسه للعمل أجيراً بسبب الإسراف والغرور ومسالك الباطل .
فيدرك بالعقل والوجدان أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق ورحمة للناس وحرب على الظالمين.
السابعة : تفيد دعوة القرآن للسلم ، والعموم والإطلاق في هذه الدعوة التخفيف عن المسلمين ، وطرد الخوف والفزع من نفوسهم ، والإشارة إلى عدم إلحاق الكفار الضرر بالمسلمين إذا ما تحلوا بأمور :
الأول : تعاهد التقوى.
الثاني : الإمتثال للأوامر الإلهية.
الثالث : إجتناب أكل المال بالباطل.
لتكون هناك ملازمة بين التقوى والسكينة ، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا] ( ).
قانون الثناء على العبّاد
جاءت آيات القرآن بالثناء على المسلمين لقيامهم بوظائفهم العبادية، قال تعالى[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( )، فيقوم المسلم الفقير وغير الغني بالنهي عن المنكر والزجر عنه فيكتب له الثواب، وينال المغفرة فضلاً منه سبحانه، وهل يحسبه الله عز وجل عنده تنزهاً عن فعله وإن تعذرت مقدماته .
الجواب نعم ، لموضوعية النية وقصد القربة إلى الله وهو سبحانه[ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
وجاءت آيات القرآن بالأمر بتقوى الله والخشية منه في السر والعلانية، ليكون كل منهما سبيلاً لنيل المغفرة، وتركها سبباً لنزول العذاب.
لقد جعل الله الحياة الدنيا (دار النجاة) من العذاب الأليم والنار التي أعدها الله عز وجل للكافرين ، وتفضل سبحانه وهدى الناس إلى طرق الهداية وسبل النجاة بالتقوى وإتيان الطاعات ، والإبتعاد عن السيئات ، وحبب الله عز وجل التقوى بإخبار القرآن عن كون المغفرة والعذاب بيده سبحانه.
وجاءت الآيات بذكر صفات الذين يفوزون بالمغفرة من الله، وهذه الصفات تتعلق بعالم الأفعال وإختيار التقوى ملكة وملاكاً للأقوال والأفعال، قال سبحانه[فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) ، وقد ورد لفظ [الْعِبَادِ ] بكسر العين سبع مرات في القرآن منها قوله تعالى [وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ] ( ) وقوله تعالى [وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] ( ).
ولم يرد لفظ (العُباد ) بضم العين أو (الزُهاد) في القرآن ، وفيه تخفيف عن الناس ، ودعوة لعدم التشديد على النفس في العبادات والمناسك ، إذ يرضى الله عز وجل بالقليل ويعطي عليه الكثير في النشأتين ، فيصدق على الذي يؤدي الصلوات اليومية الخمس ويؤدي الزكاة عند إجتماع الشرائط ، ويصوم شهر رمضان ويحج البيت عند الإستطاعة فهو من العُباد .
إنقضاء عام كورونا
قال تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ] ( ).
من أسرار أداة الشرط الآية أعلاه موضوعية الوقاية واللقاح من من الأوبئة والأمراض ، وجاءت الواو في (فهو) للوعد من عند الله عز وجل بعدم وجود فترة بين الداء والشفاء منه ، لتدل لغة الشرط في الآية بالدلالة الإلتزامية على أن الوقاية من الأمراض أعظم وأكبر من العلاج .
ولبيان قانون وهو أن حال الصحة والعافية أكثر وأعم في توالي الأيام والسنين ، وفيه دعوة للشكر لله عز وجل على نعمة العافية والشفاء من المرض ، ومن مصاديق الشكر لله في المقام الدعوة إلى السلم ، والسعي في سبله ، وبذل الوسع والبذل في تنجزه .
وفي ذات الوقت الذي أصدرنا أجزاء متعددة في نفي قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالغزو وبالدليل والبرهان ابتلي الناس بغزو وباء كورونا لتتحد الجهود ، وتبذل الأموال لدفعه ورفعه والوقاية منه .
وتتوالى هذه الأيام أنباء اللقاحات المتعددة لإستباحة الطب والعلم لجائحة كورونا .
والجائحة لغة هي الشدة التي تحتاج المال في سنة أو فترة ، وتأتي بمعنى (المصيبة العظيمة)( ).
ويقال : جاحة الله يجوحه جوحاً إذا استأصله ومنه اشتقاق الجائحة( ) وجاح الله ماله أي أهلكه بالجائحة .
ويتوقع انتاج بعض مصانع الأدوية ثلاثة مليارات لقاح في عام 2021 اكثرها غير ربحي , وقد تم تصنيع اللقاح في كل من أمريكا وروسيا والصين وبريطانيا والمانيا وسيصنع في دول أخرى ونسأل الله عز وجل أن يكون بكفاءة عالية لقد ابتدأ زمان القضاء على هذه الجائحة .
وعادة ما يستغرق صنع اللقاح عشرات السنين ولكنه بخصوص هذا الوباء لم يستغرق إلا بضعة شهور ، لتظافر جهود الأنظمة السياسية والصحية والمالية في آية لم يشهد لها العالم مثيلاً من قبل ، وفيه دعوة للقضاء على الأوبئة والأمراض المزمنة ، وإيجاد منهجية علمية للوقاية والعلاج لأي داء مستحدث حال ظهوره ، وهو من عمومات قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) والنسبة بين موضوع ومضمون الآية أعلاه والآية في أول البحث هو العموم والخصوص المطلق ، فالكفاية من الله عز وجل أعم وأوسع ، خاصة وأن اللقاح وحده لا يقضي على المرض .
إذ تجلى فضل الله في اختزال وضغط الوقت في جائحة كورونا لبضعة شهور وفيه وجوه :
الأول : نتقدم بالشكر لكل الأطباء والعاملين والسياسيين الذين شاركوا في هذا الإنجاز .
الثاني : إقامة الحجة بلزوم اكتشاف وعلاج للأوبئة والأمراض المستعصية مثل السرطان على نحو الخصوص الذي يرى كل إنسان أنه معرض للإصابة به والإيدز فيلزم الجهاد لدفع شبح الخوف هذا .
الثالث : المبادرة لجلب اللقاح بطرق تمنع من الغش والتزوير فيه .
الرابع : عقد إجتماع دولي عام لكيفية إيصال اللقاحات إلى البلدان الفقيرة والقيام بتلقيح الأفراد منه ، ومنه التعاون والتآلف والتحالف العالمي من أجل تسريع إتاحة اللقاحات (كوفاكس ).
الخامس : نقترح جواز صحي لأغراض السفر والمعاملات يتضمن التلقيح ونوع اللقاح عند الضرورة .
السادس : فتح باب التبرع بهذا القصد ، والحسن الذاتي للصدقة المستحبة .
السابع : تولي الأجهزة الحكومية الطبية التلقيح على نحو الحصر في كثير من الدول.
الثامن : هذه الأيام أيام البشارة بعودة الحياة الطبيعية إلى الأرض , مما يستلزم الشكر العام من الناس لله عز وجل بالتقوى وحسن الخلق ، ونبذ الحروب والإقتتال ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
وهل يحتمل أن الإبتلاء بداء كورونا صرف حروباً واقتتالاً بين بعض الجماعات أو الطوائف أو الدول ، المختار نعم .
التاسع : يجب الشراء والتعاقد مع الشركات الأم , وعدم اللجوء إلى الطرق الملتوية من أجل الحصول على نسبة ربح على حساب صحة الناس , مما يستلزم المراقبة والإشراف من السلطة التنفيذية والتشريعية والصحافة والضمائر الحيّة ، وهل جائحة كورونا محنة عامة ومن مصاديق المصيبة في قوله تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ) الجواب نعم.
العاشر : كورونا برزخ دون الإلحاد ، وتصحيح لمسار العولمة .
يبحث الناس عن وقاية من كورونا وهي ذاتها واقية من شرور الكفر والضلالة وما يجلبه من القحط والحرب والفتن واستحواذ النفس الغضبية على الناس وإلقاء اليأس بينهم .
إن الإكتشاف المتعدد للقاحات بهذه المدة القصيرة يملي على المنظمة الدولية للأمم المتحدة اختيار يوم عيد عالمي اسمه يوم الوقاية من الأوبئة أو نحوه.
الحادي عشر : جوائز دولية بخصوص اكتشاف اللقاح .
الثاني عشر : دراسات ماجستير ودكتوراه بخصوص الجائحة من جهات:
الأول : الطب .
الثاني : الإقتصاد وتعطيل الأعمال والاضرار .
الثالث : الأضرار الخاصة للشركات وعالم الأعمال ، ومنها دراسة عن شركات الطيران والأرباح والخسارة والتغلب عليها ، ومواصلة الدراسات الحثيثة لتحسين اللقاحات ، وضمان خلوها من الأعراض الجانبية.
والتعاون الدولي ، وتبادل الخبرات في التدارك والإرتقاء والسعي لإيجاد لقاح لكل الأوبئة الطارئة ، ليكون هذا اللقاح العام من مصاديق فاء التعقيب في قوله تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ] ( ).
الرابع : الإجتماع وعلم النفس , والصلات بين الناس ، وحال الألفة عند المحنة والشدة .
الخامس : القانون والتشريعات .
السادس : التضحية زمن الكورونا خاصة من الجيش الأبيض ، فبعد أن كان لفظ الجيش ينصرف إلى العسكر صار الناس يألفون هذا النعت للأطباء والعاملين بالحقل الصحي كمفهوم دفاعي .
السابع : التنظيمات الدولية والجائحة .
الثامن : السياسة وأثر الجائحة فيها .
التاسع : الأخلاق .
العاشر : الأحكام الفقهية بخصوص الجائحة والوقاية واللقاح والعلاج , وعن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع وأنتم فيه فلا تخرجوا فراراً منه) ( ).
الحادي عشر : الغبطة والسعادة بين الناس باكتشاف اللقاح ، ولو أجريت احصائية عالمية عن الخبر الذي اعتنى به أكثر الناس في هذا الزمان لكان داء كورونا ، إذ التفت إليه بفزع الغني والفقير ، والرجل والمرأة .
ومن خصائص التكاليف العبادية أنها تأتي عامة للناس كما في فرض الصلاة لتكون واقية من الوباء ومقدماته .
الثاني عشر : دراسة واقع الجرائم في الجائحة .
الثالث عشر : الحياة الأسرية والإقامة القهرية في البيوت ونسبة كل من :
الأولى : عقود النكاح .
الثانية : المواليد .
الثالثة : حالات الطلاق ، مع المقارنة لها بالسنوات السابقة , وأثر الجائحة فيها .
الرابع عشر : دراسات بخصوص أفعال الخير والتبرعات والإحسان أيام الجائحة وهو من عمومات قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
الخامس عشر : الدراسة ومراحلها ومستواها أيام الجائحة , وحال المؤسسات الدراسية والعلمية .
السادس عشر : التعليم عن بعد أيام الجائحة .
السابع عشر : العمل الوظيفي من البيت أيام كورونا ومدى المنافع والأضرار .
الثامن عشر : أثر ونفع وسائل الإتصال الحديث في إجتناب كثير من أضرار كورونا .
التاسع عشر : المواعظ والعبر من جائحة كورونا ، ومنه استحضار الناس لموت الفجأة وقربه ، وعن الإمام الرضا عليه السلام قال (كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون)( ) .
العشرون : المنظمات الخيرية الداعمة ، وموارد جواز صرف الزكاة بهذا الخصوص عند إجتماع صفة الفقر والمرض ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ) كما يمكن أن يكون الإنفاق العام في هذه المؤسسات من سهم في سبيل الله .
الحادي والعشرون : جوائز الأمم المتحدة وتعضيدها .
الثاني والعشرون : دعوة شركة الأدوية فايزر أو شركة بيونتيك لتصنيع اللقاح في العراق بإشراف مباشر من شركتهم , سواء في البصرة أو في معمل الأدوية في سامراء .
الثالث والعشرون : أثر كورونا على الملاعب وحضور الجماهير أو عدمه.
الرابع والعشرون : تنشيط الأدب والقصة والرواية والشعر عن كورونا .
الخامس والعشرون : البناء النفسي للمجتمعات في زمن كورونا ، وصيرورة هذا الوباء من الماضي ، وخلال سنة 2020 دون قادم الأيام إن شاء الله .
وسيندهش الناس كيف أصابهم الفزع وطغى عليهم الخوف وتعطلت الحياة اليومية وغابت الإبتسامة بسبب الكائن المجهري الصغير والذي يداهم نسبة كبيرة من سكان الأرض دفعة.
السادس والعشرون : أثر كورونا على الدول الغنية وعلى الدول الفقيرة والصلة بينها .
السابع والعشرون : كيف استقبلت شعوب الأرض كورونا وكيف تودع ضراوته.
الثامن والعشرون : هل الدعاية والتخويف من كورونا أكبر من حجم الوباء أم أنها ضرورية للإحتراز منه , المختار هو الثاني .
التاسع والعشرون : منافع طرق الوقاية الرسمية في محاصرة الوباء ومنع صيرورته جائحة عالمية .
الثلاثون : موضوعية الدعاء في صرف شرور كورونا عن الذات والغير ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) .
وهل يختص دعاء المؤمن للنجاة والشفاء من هذا الداء بنفسه أم يشمل المؤمنين أم الناس جميعاً ، المختار هو الأخير لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
الحادي والثلاثون : الثورة العلمية والطبية باكتشاف لقاح وعلاج لكورونا ببضعة شهور ، وملاك الثقة بين المؤسسات العلمية المصنعة للقاح ، وبين عموم أهل الأرض ، ولا عبرة بالقليل النادر .
الثاني والثلاثون : التعاون الدولي المبارك في دفع اضرار كورونا وتحقق ثماره باكتشاف سريع للقاح لهذا الداء .
نسأل الله تعالى أن يكون عام 2021 الذي بدأ هذه الأيام خير ، وبركة على المسلمين وأهل الأرض جميعاً .
الثالث والثلاثون : وجوب بيان منظمة الصحة العالمية رأيها في كل لقاح خاصة الذي يستعمل خارج بلد المنشأ والتصنيع وتبارك الجهود الكريمة في إيجاد كل من :
الأول : لقاح فايزر بيونتيك (Pfizer Bionic Vaccine).
الثاني : لقاح موديرنا (Moderna vaccine).
الثالث : لقاح اكسفورد (Oxford Vaccine).
الرابع : اللقاح الروسي ، سبوتنيك V (Sputnik Vaccine).
الخامس : اللقاح الصيني ، كورونافاك (Coronavac Vaccine).
إلى جانب ما يتم الإعلان عنه من مؤسسات علمية رصينة في انحاء العالم بما ينمي ملكة البحث العلمي .
الرابع والثلاثون : أدعو علماء الطب والأبدان إلى إيجاد لقاح يصلح لكافة الفيروسات المستحدثة بحيث يتم التطعيم حالما يظهر واحد منها , أو أنه يستلزم تغييراً بسيطاً في تركيبته .
الخامس والعشرون : الثناء للشركات المصنعة للقاح التي لم تقصد الربح , ولم تعرض سعراً له يتناسب ومخاطره , كما أشكر كل الجهات التي تبرعت لصناعة اللقاح والإختبارات ونحوها .
[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ).
إن تعاون الدول والمؤسسات العالمية في وجه الجائحة شاهد على الحاجة إلى السلم العالمي ، ودعوة لمنع سباق التسلح بضوابط ثابتة ومناسبة للإلتقاء العام للمجتمعات بروابط المودة والرحمة والتراحم فيما بينهم.
قانون عمل المسلمين بالآية القرآنية
من فضل الله عز وجل وأسرار حفظه للقرآن وعمومات قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) والأمر منه تعالى بوجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن خمس مرات في اليوم وبحال الخشوع والخضوع بالوقوف بين يدي الله عز وجل في الصلاة .
هذا الوقوف الذي جعل رؤساء الشرك في مكة يزدادون حنقاً وغيظاً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويهمون بقتله لما في آيات القرآن من الدعوة إلى التوحيد ، وذم ما كانوا عليه وآباؤهم من عبادة الأوثان ، وفي التنزيل [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ] ( ).
وكل ما بين الدفتين هو قرآن ، وكون الآية منسوخة لا يرفع رسمها ، ولكن هذا لا يعني الملازمة بين رسم الآية في المصحف وبين العمل بها ، فاذا ثبت النسخ ينتقل للعمل بالآية والحكم الناسخ والبديل ، ولكن هذا الرسم حرز ، وهل يمكن تأسيس قانون : وهو كل آية في المصحف يجب العمل بها إلا ما ثبت نسخه ، الجواب نعم .
ولا ينخرم هذا القانون بنسخ عدد من الآيات خاصة مع الإختلاف وعدم ثبوت نسخ أكثر الآيات التي قيل أنها منسوخة ، فقد قالوا أن آية السيف [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية من القرآن .
والمختار لم يثبت هذا النسخ لإنحصار موضوع آية السيف في أوان وسنة نزولها ،ولإستمرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم العمل بآيات الصلح والعفو والصفح حتى بعد نزول هذه الآية ، وإلى حين مغادرته الحياة الدنيا إلى الرفيق الأعلى .
لقد جعل الله عز وجل آيات التنزيل ضياءً ومنهاجاً ، وما من آية تنزل من السماء إلا ويسخر الله عز وجل قوماً للعمل بها ، ومن الإعجاز في المقام عدم إنقطاع العمل بآيات القرآن إلى يوم القيامة ومنه دعوة القرآن للسلم ونبذ العنف والإرهاب .
قانون موضوعية النبوة والتنزيل في خلافة الإنسان
وتقدير قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في احتجاج الله على الملائكة على جهات :
الأولى : يعلم الله ببعثة الأنبياء وما فيها من سبل الهداية .
الثانية : قانون لا يعلم جهاد الأنبياء في إصلاح الناس واستجابة شطر منهم لهذا السعي المبارك إلا الله تعالى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
الثالثة : قانون كل نبي هو خليفة في الأرض .
الرابعة : قانون مصاحبة التنزيل للخليفة وعموم الناس في الأرض ، ليشكر الملائكة الله عز وجل عندما يرون القرآن سالماً من التحريف ، والزيادة والنقيصة في كل يوم من أيام الحياة الدنيا .
ويحتمل قول الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) بخصوص القرآن وجوهاً :
أولاً : سلامة القرآن من التحريف لأن متعلق فساد الإنسان هو فعل المعصية في الأرض ، والقتل بغير حق .
ثانياً : تحريف القرآن من الفساد والذي ذكرته الملائكة ، وأن قول الله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) هو تأكيد لتفضل الله بسلامة القرآن لقوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
ثالثاً : ليس من صلة بين قوله تعالى [يُفْسِدُ فِيهَا] ( ) وبين موضوع حفظ آيات القرآن، ومراد الملائكة لغة العموم ، وإن إرتكز إلى شواهد أطلعهم الله عليها .
والمختار هو أولاً أعلاه ، فلم تحتج الملائكة على أصل الخلافة إنما احتجوا على وجود أناس يفسدون في الأرض ، وليس على أصل الخلافة مما يدل على تسليمهم بأمر الله بجعل [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ولكن الإحتجاج على أمر عرضي مصاحب لهذه الخلافة ، فتوسل الملائكة لتنزيه الأرض وخلافتها وسكانها منه ، فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ومن علم الله عز وجل في المقام أمور :
الأول : رجحان المغفرة عن كل من يفسد في الأرض ، ومن يسفك الدماء .
الثاني : فتح الله عز وجل باب التوبة لكل معصية وكبيرة أو صغيرة من الذنوب ،وهل يعفو الله عز وجل عمن يشرك بالله ثم يتوب ، أم جاء قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا] ( ) مطلقاً حتى بالنسبة لمن أدركته التوبة ، الجواب هو الأول ، وهو من فضل الله عز وجل على الناس ، فحينما علمت الملائكة بفضل الله بفتح باب العفو للناس جميعاً استبشرت وأدركت عجزها عن الإحاطة بعلم الله عز وجل ، قال تعالى [عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا]( ).
الثالث : ترغيب الناس بالتوبة ، وجعل نفوسهم تميل إليها ، وهل هذا الجعل على نحو القضية الشخصية ، الجواب لا ، إنما هو مصاحب لخلق الإنسان ، وهو من رشحات قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ) .
فمن معاني هذا النفخ جعل فطرة الناس هي الميل للتوبة والإنابة ، وبما تتقوم الحياة الدنيا ، وتستمر البهجة فيها ، فهذا الميل حصن من استحواذ الغواية على النفس ، وبرزخ دون المسارعة في اتباع خطوات الشيطان ، وترتب وتراكم الآثام على بني آدم .
الرابع : تقريب ذات التوبة إلى الناس ، وعدم وجود برزخ أو ثمة مسافة بينهما ، فتراها تلح على الناس تذّكرهم وتدعوهم ، إذ أن ذات التوبة أمر وجودي يستجيب لله عز وجل ، وهل تشفق كل من التوبة والمعصية على الإنسان لقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) الجواب نعم ، لذا تدنو منه الأولى ، وتبتعد عنه الثانية ، ومن العصمة امتناع المعصية .
ومن مصاديق قانون النبي خليفة ، بقاء وتوارث سنن الأنبياء في الأرض إلى يوم القيامة ،وهو من الشواهد على حفظ القرآن وعدم طرو الزيادة أو النقيصة عليه.
وتفضل الله بحفظ السنة النبوية القولية والفعلية واجتهد العلماء في حفظ وتوثيق الحديث ، والعناية بعلم الرجال والتعديل والجرح لرواة الحديث والسنة النبوية مطلقاً ، لتكون آية في نشر السلم والأمن وآداب الموادعة .
التباين الزماني بين رؤيا وآية[لَتَدْخُلُنَّ]
لقد أمر الله عز وجل المسلمين والمسلمات بالأخذ بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بأوامر التنزيل ، وإجتناب نواهيه ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وهل الرؤيا التي يراها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما أتى به للمسلمين ويجب العمل بها ، الجواب نعم ، بخصوص الرؤيا التي هي شعبة من الوحي ، وبين الرسول والنبي في المقام عموم وخصوص مطلق ، فالرسول يرى رؤيا الوحي في المنام ويرى الملك يوحي إليه ، أما النبي فانه يرى رؤيا الوحي في المنام ، ولكنه لا يرى الملك .
ومن الإعجاز في إصلاح الأنبياء للنبوة أن النبي يفصل ويميز بين رؤيا الوحي ، والرؤيا الصادقة ذات التأويل ورؤيا أضغاث الأحلام.
وبين عامة الناس والأنبياء بخصوص الرؤيا عموم وخصوص مطلق ، إذ يرى كل إنسان رؤيا صادقة ويرى أضغاث أحلام ، ومنهم الأنبياء ولكن الأنبياء يمتازون بأمور :
الأول : رؤيا الوحي .
الثاني : الفصل والتمييز بين رؤيا الوحي والرؤيا التي من غير الوحي ، وإن كانت رؤيا صادقة ، فليس كل رؤيا صادقة للنبي هي رؤيا وحي ، نعم رؤيا الوحي صادقة ومن اليقين .
وليس من ملازمة بين الرؤيا الصادقة وبين تحقق مصداقها الواقعي ، فقد تكون الرؤيا الصادقة رؤيا إنذار ، فيدعو الإنسان ويتصدق فيمحو الله عز وجل مصداق الإنذار.
أو تأتي رؤيا الإنذار ثم يمحو الله مصداقها ويحول دون تنجزها بفضل ولطف وإحسان منه تعالى، وهو من عمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( )، فلا يتعلق المحو في المقام على الدعاء والصدقة ونحوها ، إذ قد يتم إبتداء من عند الله عز وجل ، وقد ينسى المؤمن رؤيا الإنذار ، ولا يدعو بخصوصها ، ولكن الله عز وجل لا ينساها ، وهو الذي يتفضل بمحو موضوعها وصرف مصداقها .
الثالث : تضمن رؤيا الوحي الأمر والنهي ، وتقيد النبي بمضامينها كما في رؤيا إبراهيم عليه السلام [قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ] ( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الرؤيا كانت مدداً له في نبوته ، إذ كانت رؤيا البشارة بنبوته تزور القريب والبعيد ، ومن بديع صنع الله عز وجل في خلق الإنسان موضوعية الرؤيا عند أهل كل زمان ، حتى إذا بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم استحضر الناس تلك الرؤى وبادروا إلى التصديق برسالته ، ومنهم من كانت الرؤيا سبباً لإمتناعه عن إيذائه ومحاربته .
(عن عمرو ابن مرة الجهنى قال : خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية فرأيت في المنام وأنا بمكة نورا ساطعا من الكعبة حتى وصل إلى جبال يثرب أشعر جهينة فسمعت صوتا في النور وهو يقول :
انقشعت الظلماء
وسطع الضياء
وبعث خاتم الأنبياء
ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة وأبيض المدائن فسمعت صوتا في النور وهو يقول :
ظهر الإسلام
وكسرت الأصنام
ووصلت الأرحام
فانتبهت فزعا وقلت لقومي : والله ليحدثن في هذا الحي من قريش حدث . وأخبرتهم بما رأيت فلما انتهينا إلى بلادنا جاءنا أن رجلا يقال له : أحمد قد بعث فأتيته فأخبرته ما رأيت.
فقال : يا عمرو بن مرة أنا النبي المرسل إلى العباد كافة أدعوهم إلى الإسلام وآمرهم بحقن الدماء وصلة الأرحام وعبادة الله ورفض الأصنام وحج البيت وصيام شهر رمضان من اثنى عشر شهرا فمن أجاب فله الجنة ومن عصى فله النار فآمن بالله يا عمرو يؤمنك الله من هول جهنم .
قلت : أشهد أن لا آله إلا الله وأنك رسول الله وآمنت بكل ما جئت به بحلال وحرام وأن أرغم ذلك كثيرا من الأقوام . ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به وكان لنا صنم وكان أبي سادنا له فقمت إليه فكسرته ثم لحقت بالنبي صلى الله عليه و سلم وأنا أقول :
شهدت بأن الله حق وإنني . . . لآلهة الأحجار أول تارك
وشمرت عن ساقي الإزار مهاجرا … إليك أجوب الفوز بعد الدكادك
لأصحب خير الناس نفسا ووالدا… رسول مليك الناس فوق الحبائك
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : مرحبا بك يا عمرو بن مرة .
فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ابعثني إلى قومي لعل الله أن يمن بي عليهم كما من بك علي . فبعثني عليهم فقال : عليك بالرفق والقول السديد ولا تكن فظا ولا متكبرا ولا حسودا ، فأتيت قومي.
فقلت : يا بني رفاعة يا معاشر جهينة إني رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم إليكم أدعوكم إلى الجنة وأحذركم النار وآمركم بحقن الدماء وصلة الأرحام وعبادة الله ورفض الأصنام وحج البيت وصيام شهر رمضان شهر من اثني عشر شهرا فمن أجاب فله الجنة ومن عصى فله النار.
يا معشر جهينة إن الله عز و جل جعلكم خيار من أنتم منه وبغض إليكم في جاهليتكم ما حبب إلى غيركم من أنهم كانوا يجمعون بين الأختين ويخلف الرجل منهم على امرأة أبيه والغزاة في الشهر الحرام فأجيبوا هذا النبي المرسل من بني لؤي بن غالب تنالوا شرف الدنيا وكرامة الآخرة وسارعوا في ذلك يكن لكم فضيلة عند الله .
فأجابوه إلا رجلا واحدا قال : يا عمرو بن مرة – أمر الله عليك – تأمرنا أن نرفض آلهتنا ونفرق جماعتنا ونخالف دين آبائنا إلى ما يدعو إليه هذا القرشي من أهل تهامة ، لا ولا حبا ولا كرامة . ثم أنشأ الخبيث يقول :
إن ابن مرة قد أتى بمقالة . . . ليست مقالة من يريد صلاحا
إني لأحسب قوله وفعاله . . . يوما وإن طال الزمان رياحا
أيسفه الأشياخ ممن قد مضى . . . من رام ذاك فلا أصاب فلاحا
فقال عمرو بن مرة : الكاذب مني ومنك أمر الله فمه وأبكم لسانه وأكمه عينيه وأسقط أسنانه . قال عمرو بن مرة : فوالله ما مات حتى سقط فوه وكان لا يجد طعم الطعام وعمي وخرس فخرج عمرو بن مرة ومن تبعه من قومه حتى أتوا النبي صلى الله عليه و سلم فرحب بهم وحباهم وكتب لهم كتابا هذه نسخته :
بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله جل وعز على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم كتاب صادق وحق ناطق لعمرو بن مرة الجهني لجهينة بن زيدان لكم بطون الأرض وسهولها وتلاع الأودية وظهورها ترعون نباته وتشربون صافية على أن تقروا بالخمس وتصلوا صلاة الخمس وفي التيعة( ) والصريمة( ) شاتان إذا اجتمعتا وإن تفرقتا فشاة شاة ليس على أهل المثيرة صدقة وشهد على نبينا ومن حضرنا من المسلمين بكتاب قيس بن شماس فذلك حين يقول عمرو بن مرة الجهني :
ألم تر أن الله أظهر دينه . . . وبين برهان القرآن لعامر
كتاب من الرحمن يجعلنا معا . . . وأخلافنا في كل باد وحاضر
إلى خير من يمشي على الأرض كلها . . . وأفضلها عند اعتكار الضرائر
أطعنا رسول الله لما تقطعت . . . بطون الأعادي بالظباء الخواطر
فنحن قبيل قد بني المجد حولنا . . . إذا اختليت في الحرب هام الأكابر
بنو الحرب نفريها بأيد طويلة . . . وبيض تلألأ في أكف المغاور
ومن حوله الأنصار يحموا أميرهم . . . بسمر العوالي والسيوف البواتر
إذا الحرب دارت عند كل عظيمة… ودارت رحاها بالليوث الهواصر
تبلج منه اللون وازدان وجهه . . . كمثل ضياء البدر بين الزواهر
وذكر ياسر بن سويد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجهه في خيل أو سرية وامرأته حامل فولدت له مولودا فحملته أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : يا رسول الله قد ولد هذا المولود وأبوه في الخيل فسمه . فأخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمر يده عليه وقال:
اللهم أكثر رجالهم وأقل أياماهم ولا تحوجهم ولا تر أحدا منهم خصاصة فقال : سميه مسرعا فقد أسرع في الإسلام)( ).
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أتاه ملك في النوم فقال له لتدخلن المسجد الحرام الآية فأخبر الناس برؤياه ذلك فظنوا أن ذلك يكون في ذلك العام فلما صده المشركون عن العمرة عام الحديبية قال المنافقون أين الرؤيا ووقع في نفوس المسلمين شئ من ذلك فأنزل الله تعالى لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق)( ).
أي أنها رؤيا وحي ولابد أن يتحقق مصداقها خاصة وأن صلح الحديبية تضمن أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه العمرة في العام التالي وهو السابع للهجرة ، ليكون من معاني الآية أعلاه أن هذا البند من العقد سينفذ .
و(عن عطاء قال : خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم معتمراً في ذي القعدة معه المهاجرون والأنصار حتى أتى الحديبية ، فخرجت إليه قريش ، فردوه عن البيت حتى كان بينهم كلام وتنازع حتى كاد يكون بينهم قتال.
فبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وعدتهم ألف وخمسمائة تحت الشجرة ، وذلك يوم بيعة الرضوان ، فقاضاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقالت قريش : نقاضيك على أن تنحر الهدي مكانه وتحلق وترجع ، حتى إذا كان العام المقبل نخلي لك مكة ثلاثة أيام ، ففعل ، فخرجوا إلى عكاظ فأقاموا فيها ثلاثة أيام واشترطوا عليه أن لا يدخلها بسلاح إلا بالسيف ، ولا يخرج بأحد من أهل مكة إن خرج معه ، فنحر الهدي مكانه وحلق ورجع حتى إذا كان في قابل من تلك الأيام دخل مكة ، وجاء بالبدن معه ، وجاء الناس معه.
فدخل المسجد الحرام فأنزل الله عليه [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ]( )، وأنزل عليه الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ( ).
قانون التقوى حلم تحقق
لقد سادت مفاهيم الكفر الجزيرة العربية وتمزقت القبائل العربية ، وكثر القتل بينهم ، وأصاب أرضهم الجدب والجفاف ، لتجتمع أسباب متعددة لنزحهم ، فأبى الله أن يرحمهم ببركة البيت الحرام ، ويبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإصلاحهم ، فجاء بسنن التقوى .
(وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده ، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله) ( ).
ومن التقوى ومصاديق الإحسان الدخول في السلم ، والسعي لتحقيقه وإزاحة العقبات التي تحول دونه ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ] ( ).
والناس أزاء تقوى المسلمين على مشارب، ويحتمل وجوهاً:
الأول : ترك المسلمين وشأنهم بلحاظ أن التقوى ليس فيما ضرر على الناس.
الثاني : تعضيد المسلمين في خشيتهم وتقواهم من الله سبحانه .
الثالث : محاربة المسلمين لأنهم يتقون الله.
الرابع : الكراهية والحسد للمسلمين لأنهم يتحلون برداء التقوى، وهذه الكراهية تكون ظاهرة وخفية.
وجاء قوله تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ] ( ) للإخبار عن الكراهية المذكورة في الوجه الأخير أعلاه.
وقد لا يلتفت شطر من المسلمين لمصاديق تلك الكراهية ، ويعرضون عمن يقوم بإنذاره من المسلمين من كيد الكفار، ولزوم عدم الطمأنينة لهم ، قال تعالى [كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ] ( ).
فجاءت الآية أعلاه لتكون على وجوه:
الأول : إنها إنذار سماوي خالد ومتجدد.
الثاني : تنبيه وتحذير المسلمين جميعاً وهم في المساجد والبيوت والأسواق.
الثالث : إنها عون للمسلمين في تقواهم وسبب لزيادة إيمانهم.
الرابع : فيها دعوة للحيطة والحذر، وطرد للغفلة.
ومن إعجاز القرآن الغيري وجود أمة تتعاهد القرآن وتذب عنه، وتؤكد بالبرهان والدليل صدق نزول كل آية من القرآن ، ولحال السلم موضوعية في تجلي إعجازه الذاتي والغيري ، ويكون من معاني [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ادخلوا في السلم كافة لتتدبروا والناس إعجاز القرآن ، وفيه زيادة هدىً .
ليكون من مصاديق خروجهم بلباس التقوى تعاهد تلاوة وختم القرآن، والدفاع عنه، وحث الناس على التصديق به بالبرهان العقلي، وتأتي الوقائع لتؤكد صدق هذا النزول، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
قانون اقتران الإيمان بالعمل
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الإمتحان والإختبار ، ومنه الإيمان بالكتاب كله وجاء القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ومنه فوز المسلمين بهذه المنزلة العظيمة من الإيمان بالتصديق بالكتب السابقة، والكتاب الذي أنزله الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويتصف إيمان المسلمين بخصوصية وهي إقترانه بالعمل بمضامين الكتاب من غير ملل أو كلل، فمن معاني قوله تعالى [وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ]( )، الثناء على المسلمين بأنهم لا يقومون بإختيار العمل بشطر من آيات القرآن ويتركون بعضها الآخر بل يعملون بكل آية من القرآن قال تعالى في ذم طائفة من أهل الملل السابقة [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ]( )، وفيه بيان لحاجة الناس للعمل بالكتاب كله ، لأن الإيمان ببعض الكتاب وترك بعضه يحتمل مع تقادم الأجيال والأحقاب وجوهاً :
الأول : بقاء ذات النسبة بين الذي يؤمن به الناس والذي يكفرون به للمنع من التحريف الإضافي.
الثاني : إزدياد المواضيع والآيات التي يكفرون بها بحسب المصالح الخاصة والميل إلى الدنيا وزينتها.
الثالث : رجوع الناس إلى أصل التنزيل، وحدوث النقص في عدد ومضامين الآيات والأحكام التي يكفر بها الناس.
والصحيح هو الثاني فان أصل الكفر بشطر من الآيات دون الأخرى جاء نتيجة إتباع الأهواء والمصالح الخاصة كما في موضوع نسخ بعض الأحكام ، وتبديلها عند بعض الأمم السابقة.
فجعل الله عز وجل المسلمين يتعاهدون حروف وكلمات وآيات وأحكام القرآن في آية لم تشهدها الأرض بأن تكون أمة تتصف بأمور:
الأول : التنزه والعصمة من تحريف الكتاب السماوي.
الثاني : العمل بمضامين آيات التنزيل على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي.
الثالث : الإيمان والتسليم بجميع الكتب التي أنزلها الله تعالى على الأنبياء.
الرابع : استحضار التنزيل في الوجود الذهني عند القول والعمل ، ورجاء الأجر والثواب واكتناز الحسنات ، قال تعالى [وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه]( ).
قانون توارث الإيمان
من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) توارث المؤمنين الإيمان بالكتاب كله جيلاً بعد جيل، فقوله تعالى [وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ] إنحلالي موجه لأجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق الفلاح التي فاز بها المسلمون بالذات والعرض ، فينال المسلم الفلاح من وجوه :
الأول : إيمان آبائه بالكتاب كله ولا يضر بهذه القاعدة إنقطاعها بخصوص الصحابة الأوائل، لأنهم نالوا مراتب الشرف بإختيار الإيمان كله في زمن فترة وتفريط من أهل مكة ومن حولها، قال تعالى[قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ]( ).
الثاني : الإيمان الشخصي بأن يؤمن المسلم بالتنزيل مطلقاً.
الثالث : السكينة والطمأنينة بإيمان الأبناء بنزول القرآن والكتب السماوية السابقة.
وإذ ذكرت الآية [تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ..] ( ) التباين بين المسلمين وبين مشركي قريش في موضوع الحب والبغض ، فإنها ذكرت إيمان المسلمين(بالكتاب كله) ولم تذكر حال المشركين بخصوصه وهو ظاهر من موضوع الحب والبغض الذي ذكرته الآية، وكيف أنهم يعضّون الأنامل على المسلمين من الغيظ، والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على عدم تصديقهم بنزول القرآن ، قال تعالى [وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ]( ).
ويتضمن القرآن الثناء على المسلمين لصيغة الجمع الإستغراقي في الخطاب والأمر والنهي ، والشهادة لهم بالإيمان بالتنزيل مطلقاً .
وفيه بشارة بعدم تخلف طائفة أو فرقة أو جماعة من المسلمين عن التصديق بالقرآن والتوراة والإنجيل، وان الأذى الذي يلقاه المسلمون من طائفة من الناس وإصرارها على الجحود بنزول القرآن لم يدفع المسلمين إلى تكذيب التوراة والإنجيل، أو إتخاذ التحريف ذريعة للجحود بها .
فقد جاءت آيات القرآن والبعثة النبوية بالإخبار عن إيمان وتصديق المسلمين كافة بنزول التوراة والإنجيل والكتب السماوية الأخرى وعموم الوحي لعدم التباين في سنخية النزول ، قال تعالى [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ) .
وإذ يعتذر الكفار ببقائهم على نهج آبائهم كما ورد في التنزيل[ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ]( ).
فان المسلمين يتصفون بالإيمان بالكتاب كله، كما تأتي الشهادة من الله للمسلمين جميعاً الموجود منهم والمعدوم بالإيمان بالكتاب مطلقاً، مما نزل على الأنبياء وفيه دلالة على ثبوت الإيمان عندهم , قال تعالى [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
ومن مصاديقه حرمة الشرك التي جاء بها القرآن والكتب السماوية السابقة .

العفو يوم الفتح من التقوى
لقد كانت معارك الإسلام الأولى دفاعية كمعركة بدر وأحد والخندق وضرورة من أجل البقاء وحفظ النفوس والتنزيل ومعجزات والنبوة ، وفي صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة نزل قوله تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، بشارة ووعداً ومناسبة لشكر المسلمين لله عز وحل .
وتجلى هذا الشكر في خطبة الفتح التي ألقاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند باب الكعبة ونسبته النصر فيها إلى الله عز وجل، وكذا هزيمة الكفار والمشركين.
خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكة(في عشرة آلاف من المسلمين)( )، ودخلت جحافل المسلمين مكة من جهات متعددة، ولم تقو قريش على القتال يومئذ إلا أن المسلمين كانوا في حيطة وحذر، مما بعث الرعب والفزع في قلوب المشركين .
ونزلت الآية أعلاه بخصوص صلح الحديبية، وهو متقدم زماناً على فتح مكة وليس فيه قتال شديد أيضاً بل كان ترام بالسهام والحجارة.
عقبة عقد الصلح والهدنة مع المشركين وعن (مجمِّع بن جارية الأنصاري، وكان أحد القرّاء الذين قرءوا القرآن ، قال : شهدنا الحديبية مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم، فلما انصرفنا عنها، إذا الناس يهزّون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما للناس ، قالوا : أوحي إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ]( ).
فقال رجل : أوَفتح هو يا رسول الله.
قال : نَعَمْ ، والَذِّي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَتْحٌ .
لقد تم فتح مكة في اليوم العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة النبوية الشريفة ، وجاء الفتح بعد عدة غزوات من قريش على المدينة ، ومحاولات لقتله وإغتياله وسقوط شهداء كثيرين من الصحابة ، وظنت قريش أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سيثأرون منهم ، وكان معه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار ، ومن الصعب السيطرة عليهم لولا التقوى ، ويدل تقيدهم بأوامرالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم استباحة مكة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإمتثال المسلمين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
وقد عفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المشركين يومئذ ، وهذا العفو من الشواهد على نبوته وأنه رجل سلام .
و(عطاء عن ابن عباس قال : أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعضادتي الباب يوم فتح مكّة وقد لاذ الناس بالبيت .
وقال : الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثمّ قال : ما تظنون .
قالوا : نظنّ خيراً .
أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت .
قال : وأنا أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم) ( ).
لقد كان يوم فتح مكة يوم شكر لله عز وجل وبداية عهد جديد يبنى به صرح الإيمان ، لقد أجتمع إبراهيم وإسماعيل على رفع قواعد البيت الحرام ، ودعوة الناس للحج ، قال تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
ويوم البعث رفع لقواعد الإيمان ، وطرد لمفاهيم الشرك من النفوس ، وتنزيه للأرض من الكفر والجحود ، وكان العفو فيه من التقوى ، ومقدمة وتأسيس للتقوى في العبادات والمعاملات .
قانون التضاد بين الإيمان والضرر
نزل القرآن بالإخبار عن عدم إضرار الكفار بالمسلمين ، وعجزهم عن منع نفاذ الإيمان إلى القلوب ، قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، فان جاء أذى للمسلمين من الكفار يتحلى المسلمون بالصبر والتقوى ويدركون معهما أن الله عز وجل يثيبهم على هذا الأذى، وأنه سبحانه يمنع من إستدامة الأذى .
ومن مصاديق الآية أعلاه الوعد من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ببقاء أذى الكفار لهم بمرتبة أدنى ، وفيه ترغيب لهم بالسلم وتعاهده والإمتناع عن الإرهاب ومحاولة استئصال كفار قريش ومن والاهم ، وهل تدل الآية أعلاه على أن آية السيف [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) محدودة في زمانها ومكانها ، الجواب نعم ، إذ ينحسر أذى المشركين ويدخل أكثرهم الإسلام ، ويلاحق الذل والكبت والخزي الأفراد الذين يصرون على الكفر.
وفي قوله تعالى [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]( ).
وورد عن الحسن البصري (لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابشروا فقد جاءكم اليسر لن يغلب عُسْرٌ يُسرَين)( ).
وعن ابن مسعود قال : والذي نفسي بيده ، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه ، إنّه لن يغلب عسرٌ يسرين( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه الإشارة إلى عدم إستمرار وتعدد مصاديق الأذى، لأن القليل من الأذى إذا كان مستمراً قد يكون ضرراً.
فان قلت إذا كان في الأذى والضرر الذي يلقاه المسلمون من الكفار أجر وثواب فلماذا لا يستمر هذا الأذى، ويبقى المسلمون في حال ضعف وإستضعاف.
والجواب من وجوه :
الأول : يأتي الثواب للمسلمين في حال الأذى ، وحال العز والمنعة، والله هو الذي وعد المؤمنين بالنصر ، قال تعالى[وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني : حال الضعف أمر عرضي طارئ وغير مستديم، والله عز وجل [لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الثالث : يأتي النصر والعز للمسلمين حتى في حال الضعف، كما في واقعة بدر إذ تفضل الله عز وجل وأمدّ المسلمين بالملائكة، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الرابع : لقد جعل الله الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، ومنه نيل المسلمين مرتبة الإيمان بالصبر والتقوى وتحمل الأذى.
الخامس : بيان التباين بين المسلمين وأعدائهم، فالمسلمون يتحلون بالصبر والتقوى، أما كفار قريش فانهم على أقسام:
الأول : الذين يتعظون من إتصاف المسلمين بالصبر والتقوى طاعة لله عز وجل فيدخلون الإسلام، ويفوزون بمرتبة التوبة.
الثاني : الذين يصابون بالجزع والفزع والوهن.
الثالث : الذين يهلكون على الضلالة والكفر، قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) ( ).
لقد جعل الله عز وجل مقاليد الأمور بيده ، وما من شئ إلا هو مستجيب لإرادته ، ومنها الخير والشر ، والنفع والضرر ، ليدفع الله عز وجل ذات ضرر الذين كفروا عن أهل الإيمان ، وكان المشركون يحشدون الجيوش لغزو مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
أقسام ولاية الله عز وجل
تعددت الأقوال في المراد من أولياء الله، ومنها:
الأول : أولياء الله هم الذين تولى الله سبحانه هداهم( ).
الثاني : هم المتحابون في الله (إن أولياء الله هم قوم يتحابون في الله وتجعل لهم يوم القيامة منابر من نور وتنير وجوههم ، فهم في عرصة القيامة لا يخافون ولا يحزنون)( ).
الثالث : هم الذين جمعوا بين الإيمان والخشية من الله ، وهم[الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ]( ).
الرابع: الذين أدوا فرائض الله وأخذوا بسنن رسول الله وتورعوا عن محارم الله و زهدوا في عاجل هذه الدنيا و رغبوا فيما عند الله و اكتسبوا الطيب من رزق الله لمعايشهم لا يريدون به التفاخر و التكاثر ثم أنفقوه فيما يلزمهم من حقوق واجبة فأولئك الذين يبارك الله لهم فيما اكتسبوا و يثابون على ما قدموا منه لآخرتهم و هو المروي عن علي بن الحسين عليه السلام)( ).
وفيه بيان لموضوعية التعفف عن التكاثر بالأموال من غير إخراج الحق الشرعي، وفيه توكيد لمنافع الإجمال في الطلب بتقييد الإكتساب بأمور ثلاثة:
الأول: إنه كسب طيب أي من الحلال.
الثاني: إنه من رزق الله مما يستلزم الشكر لله.
الثالث: إنه الكسب للمعايش والمؤونة.
ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أطلق اسم التجار وأصبح شائعاً ومتعارفاً ليكون الاسم نوع بركة إلى جانب المسمى.
قال قيس من عروة الغفاري : كنّا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة نُسمّي أنفسنا السماسرة فسمّانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باسم هو أحسن من إسمنا فقال : يا معشر التجّار) ( ) .
ويمكن إنشاء قانون معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الأسماء باختياره الاسم الحسن وثبات هذا الإختيار .
ولله عز وجل الولاية العامة على الخلائق , وكلها تحت حكمه وسلطانه , وهو الذي يتولى تدبير شؤونها مجتمعة ومتفرقة ، وهو سبحانه ولي المؤمنين يصلحهم ويهديهم ويصرف عنهم الشرور وهو من مصاديق قوله تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
وتتعدد ولاية الله عز وجل للناس ، وهي مجتمعة ومتفرقة دعوة للسلم ، ونبذ القتال ، وزجر عن سفك الدماء ، وهي على أقسام :
الأول : الولاية العامة : إذ يتولى الله عز وجل شؤون الناس ، ويدبر مصالحهم ، ويهديهم لسبل الرشاد ، ويقربهم بلطفه من الإيمان ، ويدفع عنهم الضرر حيث يشاء ، قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ] ( ).
الثاني : ولاية الله عز وجل للأنبياء بالوحي والتنزيل ، ودفع ضرر المشركين عنهم ، ومن أسباب إيمان كثير من المشركين إدراكهم أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ينجو بحصن وواقية من عند الله عز وجل ، وأن الله عز وجل ناصره ومظهره برسالته وأحكامه ليسود السلم الجزيرة .
الثالث : الولاية للمؤمنين : لقد أخبر القرآن عن ولاية الله للمؤمنين ، وأن هذه الولاية حفظ وعز لهم ، وتتغشى الحياة الدنيا والآخرة ، قال تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
وتحضر ولاية الله للمؤمنين في حال الرخاء والشدة ، وفي معركة أحد نزل قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
الرابع : الولاية الفردية للمؤمن بأن يتولى الله عز وجل شؤونه وييسر له أموره ، ويحفظه من الزلل والهلكة ، قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ] ( ) و(عن ابن عباس في قوله { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه }( ) قال : هذه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة) ( ).
وموضوع الآية أعم ، و(عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في قوله: ” يحفظونه من أمر الله ” قال: بأمر الله، ثم قال: ما من عبد إلا ومعه ملكان يحفظانه فإذا جاء الامر من عند الله خليا بينه وبين أمر الله شى : قال في هذه الآية: ” له معقبات من بين يديه ، قال : هن المقدمات المؤخرات المعقبات الباقيات الصالحات) ( ).
الغايات الحميدة للدخول في السلم
لقد أخبر الله عز وجل عن علة خلق الناس والجن ، وهي عبادته ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) وليس من حصر لضروب عبادة وطاعة الله ، وهي متجددة ومتصلة إلى يوم القيامة ، ومنها أداء الصلاة خمس مرات في اليوم .
ومن أسرار عبادة الناس لله عز وجل أن كل فرد منها نعمة ورحمة وتتفرع عنه وجوه متعددة من العبادة وسنن التقوى ، وله غايات حميدة في باب الصلاح والإستقامة والأجر والثواب .
ومن إعجاز القرآن قانون كل أمر ونهي في القرآن له غايات حميدة متجددة إلى يوم القيامة ، سواء الأوامر العامة للناس كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، أو الخاصة بالمسلمين أو أهل الكتاب .
ومن إعجاز إجتماع الأمر والنهي في آية واحدة التداخل الموضوعي بينهما ، فبخصوص الآية أعلاه فان السعي في الكسب الحلال برزخ دون اتباع خطوات الشيطان ، وسبب للتبصرة في قبح فعل السيئات .
ويمكن تقدير آية [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] بحسب اللحاظ منها تقدير نداء الإيمان وما فيه من الإكرام ، ومنه وجوه منها :
الأول : يا أيها الذين آمنوا طوبى لكم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا تعاهدوا الإيمان .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا اشكروا الله على نعمة الهداية ، ومنها قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]وفيه وجوه منها :
الأول : ادخلوا في السلم خير لكم .
الثاني : ادخلوا في السلم لحسنه الذاتي .
الثالث : ادخلوا في السلم لوجوب هذا الدخول على المؤمنين .
الرابع : ادخلوا في السلم للملازمة بينه وبين الإيمان .
الخامس : ادخلوا في السلم فهو أطول لأعماركم وأدوم لذكركم لله (عَنْ عُبَيْدِ بْنِ خَالِدٍ السُّلَمِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ
آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ قُتِلَ أَحَدُهُمَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَاتَ الْآخَرُ فَصَلَّوْا عَلَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مَا قُلْتُمْ قَالَ قُلْنَا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ اللَّهُمَّ أَلْحِقْهُ بِصَاحِبِهِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَأَيْنَ صَلَاتُهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ وَأَيْنَ صِيَامُهُ أَوْ عَمَلُهُ بَعْدَ عَمَلِهِ مَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) ( ).
الثامن : ادخلوا في السلم كافة لأن الله عز وجل بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين .
التاسع : ادخلوا في السلم لأن القتال كره لكم ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ).
العاشر : ادخلوا في السلم كافة فهو منهاج الأنبياء .
الحادي عشر : ادخلوا في السلم يحببكم الله .
الثاني عشر : ادخلوا في السلم ولا تدخلوا في الحرب والقتال .
الثالث عشر : ادخلوا في السلم ، وفيه دعوة للناس جميعاً لدخوله .
الرابع عشر : ادخلوا في السلم لتتجلى المعجزات النبوية للناس .
الخامس عشر : ادخلوا في السلم لأنه من شرائط الإيمان .
السادس عشر : ادخلوا في السلم فقد أخزى الله الكافرين ، وفي التنزيل [وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ] ( ).
السابع عشر : يا أيها الذين آمنوا ليدخل كل واحد ، وجماعة وطائفة منكم في السلم .
الثامن عشر : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في الصلح ، وقد تفضل الله عز وجل بتسمية صلح الحديبية فتحاً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
التاسع عشر : ادخلوا في المسالمة والموادعة ، ودفع مقدمات القتال .
العشرون : ادخلوا في شريعة الإسلام ، وتقيدوا بأحكامه .
الحادي والعشرون : ادخلوا في طاعة الله جميعاً ، وأدوا الفرائض العبادية .
الثاني والعشرون : ادخلوا في السلم كافة من غير استثناء لأفراد أو جماعات .
الثالث والعشرون : يا أيها الذين آمنوا مع انتشاركم في أرجاء الأرض ادخلوا في السلم كافة ليعم السلام العالم كله .
الرابع والعشرون : يا أيها الذين آمنوا ليوصي بعضكم بعضاً ادخلوا في السلم كافة .
الخامس والعشرون : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا أنتم وأهليكم والناس كافة في السلم.
السادس والعشرون : يا أيها الذين آمنوا أذيبوا وأزيحوا العقبات التي تحول دون الدخول العام في السلم.
السابع والعشرون : ادخلوا في السلم كافة ولو ببذل المال والإنفاق ، وهل تشمل آية الصدقات هذا الباب ، الجواب نعم .
بحث أصولي
تتجلى في الجمع بين آيات القرآن معاني الرحمة الإلهية بالمسلمين خاصة، والناس عامة، سواء في الخطابات الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، أو الخطابات الموجهة للناس عامة، وفي آيات الأحكام وآيات الأخبار وقصص الماضين ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
ومن مصاديق الحسن في قصص القرآن أمور:
الأول: معاني الرحمة الإلهية بالمسلمين في تلك القصص.
الثاني: أسباب الرحمة والفضل الإلهي على الأنبياء والأمم السابقة، وإمهال الكافرين.
الثالث: تفقه المسلمين في أمور الدين والدنيا، والإحاطة بأحوال الأمم السابقة.
الرابع: إعتبار وإتعاظ المسلمين من قصص الأنبياء، وأهل الملل والنحل، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
الخامس: إقتباس الدروس من معارك الإسلام الأولى، وإستصحاب قرب المدد الإلهي وأسباب النصر في كل زمان.
وهل يستلزم الإتعاظ الإستصحاب في ذات مضامين القصة القرآنية وتجددها في أذهان المسلمين ، الجواب لا ، والإستصحاب لغة مأخوذ من المصاحبة كما تقول : استصحبت القرآن في سفري (واسْتَصْحَبَ الرجُلَ دَعاه إِلى الصُّحْبة وكل ما لازم شيئاً فقد إستصحبه) ( ).
وهو في الإصطلاح الحكم ببقاء وإستدامة موضوع أو حكم شُكّ في بقائه، كما لو كان هناك يقين في أمر وفي الزمان اللاحق حصل شك في بقاء ذات اليقين، فيحكم ببقائه مثلاً لم تثبت رؤية الهلال في ليلة الشك فيحكم بتمام العدة ، لأن الشهر القمري يحتمل أن يكون تسعة وعشرين يوماً ، وذلك عند رؤية هلال الشهر اللاحق ، أو يكون ثلاثين يوماً عند تمام العدة .
وأهم أطراف الإستصحاب أمور هي:
الأول: اليقين: وهو القطع بالموضوع أو الحكم، عقلاً أو وجداناً.
الثاني: الشك والمراد ما يتخلف عن مراتب اليقين، سواء كان ظناً معتبراً أو غير معتبر .
أو الشك وفق الإصطلاح المنطقي وهو ما تساوى طرفاه.
الثالث: إتحاد المتعلق، وشرط وحدة الموضوع والحكم الذي يجمع بين اليقين السابق، والشك اللاحق كما لو كان اليقين بأن زيداً حي يوم الجمعة ثم شككنا يوم السبت هل بقي حياً أو لا، فنستصحب حياته.
الرابع: الإتصال الزماني، وعدم وجود فترة وقطع بين أوان اليقين والشك.
واختلف العلماء في حجة الإستصحاب، وقال المالكية والحنابلة واكثر الشافعية بأنه حجة شرعية ، كما حكاه ابن الحاجب فيحكم ببقاء الحكم الذي كان ثابتاً في الماضي مع عدم قيام دليل آخر برفعه أو تغييره.
وبه قال المفيد والعلامة الحلي والغزالي والمزني .
وقال اكثر الحنفية أن الإستصحاب حجة واقعة لا حجة مثبتة، واستدل المثبتون بالسيرة العقلائية.
وهو أصل عملي.
وهل نستصحب ذات الحال التي كانت أيام الأنبياء، للإنتفاع الأمثل من قصص الأنبياء، وإتخاذها نبراساً ومدرسة في أبواب الحلال والحرام، وعواقب الأمور، ورجاء الفلاح .
الجواب نعم , ومنها الإستدلال على نشر لواء السلم ، وتثبيت أحكام الشريعة في أفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل .
ومن مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إختصاص شريعته بفردي الحاضر والمستقبل ، أما الزمن السابق لبعثته فيشترك فيها الأنبياء السابقون جميعاً، وهو أيضاً من تفضيل المسلمين الموحدين من الملل السابقة , قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا]( )، ومن وجوه التفضيل في المقام إختصاص المسلمين بأمور:
الأول: تعاهد آيات التنزيل التي تتضمن الحلال والحرام.
الثاني: تلاوة آيات القرآن والتدبر في معانيها.
الثالث : توارث المسلمين إجتناب الحرام، والتنزه عنه طاعة لله عز وجل.
الرابع : حفظ السنة النبوية ، وما فيها من أحكام وأمور ، قال تعالى [مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
الخامس : مناجاة المسلمين فيما بينهم ، وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن إعجاز القرآن ملائمة تلك القصص لكل الأزمنة، وهو من البركة المذكورة في وصف القرآن في قوله تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ]( ).
لقد جاءت آيات المدد الملكوتي ليستصحب المسلمون أسباب النصر ويدركون قربها منهم فيحرصون على التقيد بأحكام الشريعة وإجتناب عموم ما نهى الله عز وجل عنه رجاء إستصحاب الظفر بالأعداء، ونيل مراتب الفلاح .
فالمؤمنون يستصحبون الأمور المباركة ، ويتخذونها بلغة لنيل المراتب العالية من الفلاح والرفعة والعز.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn