المقدمة
الحمد لله الذي جعل خزائن الأرض لا تنفد أبداً ، ويدل قوله تعالى [يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ]( )على بقاء الخزائن في الأرض إلى يوم القيامة لبيان المنزلة الرفيعة للإنسان عند الله عز وجل ، وتفضله بجعله [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) ليتنعم بهذه الخزائن ، ويشكر الله عز وجل على هذه النعم .
ومن مصاديق هذا الشكر تعاهد سنن السلم والوئام بين الأفراد والجماعات والطوائف والشعوب .
ومن الإعجاز في لفظ شعوب الذي ورد ذكره في القرآن شيوعه في هذا الزمان ، وكـأنه من سور الموجبة الكلية ، فكل فرد ينتمي إلى شعب مخصوص ، ليكون من إعجاز القرآن ذكر الشعوب ولزوم التوادد بين أفرادها ، قال تعالى [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ) مع بيان أن هذا التقسيم هو بآية من عند الله عز وجل .
وعلة تعدد التقسيم هو التعارف واللطف والسلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , مع الإختلاف في الإنتساب والميول والمذاهب ، لبيان مسألة وهي أن التعارف والتوادد سبب لإظهار الحق ودحض الباطل من غير أن تصل النوبة إلى الإقتتال والحروب.
وتتقوم خلافة الإنسان في الأرض بالسلم وتعاهده ، وهو عهد من عند الله عز وجل للناس ، ويتجلى بآيات من القرآن منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ) .
وقانون وجوب عبادة الله على كل إنسان ذكراً أو أنثى ، فلابد أن يتقيد الناس بمبادئ وأحكام السلم فمن العبادة التنزه عن الظلم والتعدي ، قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ] ( ).
ترى ماذا لو لم يتقيد الناس بآداب وسنن السلم وسلّم التعارف ، يتجلى الجواب بالكوارث والمصائب التي تصاحب المعارك بالإضافة إلى قانون وهو تبدد مكاسب الحرب والقتال مع تقادم الأيام ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( )بالإضافة إلى ما يترتب على الحروب من القتل وسفك الدماء ، وإتلاف الأموال , ثم الوقوف بين يدي الله عز جل للحساب يوم القيامة ، إلا معارك الأنبياء فان نفعها باق إلى يوم القيامة , فانها دفاعية محضة .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثباته وأصحابه على منهاج الإيمان مع لمعان سيوف المشركين في معركة بدر ، ومعركة أحد ، ومعركة الخندق وغيرها .
وسيأتي بيان بأن مجموع قتلى المسلمين والمشركين واليهود طيلة مدة ثلاث وعشرين سنة فترة النبوة هو (515) فقط ، فاز الشهداء بتثبيت سنن التوحيد في الأرض بدمائهم ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
ولا يعني السلم والدعوة إليه التفريط بالحقوق ، لذا قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالدفاع عن بيضة الإسلام ، ليكون هذا الدفاع دعوة بالسلاح والصبر إلى السلم مع العزم على الكف عن القتال حالما يكف العدو عنه , قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] ( ).
مع إظهار الإستعداد للدفاع ، ليكون هذا الإستعداد سبباً في صرف ضروب وأفراد من القتال والمعارك ، ويتجلى بقوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ).
ولم ترد مادة (رهب) في القرآن إلا بالخشية والخوف من الله إلا في الآية أعلاه ، وهي منافية للإرهاب وحرب عليه ، لبيان أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خالية من الإرهاب ، وتتنزه عنه إلى يوم القيامة بلحاظ بقاء القرآن سالماً من التحريف في سوره وكلماته ومعانيه ودلالته ، ليكون من تقدير قوله تعالى [تُرْهِبُونَ بِهِ] على وجوه :
الأول : ترهبون به الذين كفروا ، ليكفوا أيديهم عنكم .
الثاني : ترهبون به عدو الله وعدوكم ، لينقطعوا عن الإرهاب .
الثالث : ترهبون به من غير أن تقاتلوا .
الرابع : ترهبون به عدو الله وعدوكم فلا يهجمون عليكم .
الخامس : ترهبون به عدو الله وعدوكم فيعم السلام الأرض .
السادس : ترهبون به عدو الله وعدوكم فيلجأون إلى الصلح والسلم ، وهل منه صلح الحديبية ، إذا صار المسلمون في حال كثرة ومنعة ، فاضطرت قريش لعقد صلح الحديبية , الجواب نعم ، ومن بنوده الإمتناع عن القتال عشر سنين .
وجاء هذا الجزء من التفسير وهو السادس عشر بعد المائتين ببعض الفصول الخاصة بهذا الصلح والذي نزل فيه قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا] ( ).
الحمد لله حمداً كثيراً إقراراً , ورجاء استدامة نعمه وتواليها وزيادتها ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
الحمد لله الذي جعل النقم والبلاء تدفع مع الحمد وصلى الله على محمد وآله الذين أذهب الله عز وجل عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
الحمد لله الذي جعل الدنيا دار الحمد والشكر له سبحانه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (الحمد رأس الشكر ، فما شكر الله عبد لا يحمده) ( ).
وهل تذكر النعم الناس بوجوب شكر الله تعالى ، الجواب نعم، وهو من اللطف الإلهي بتقريب الناس إلى سبل الهداية والإيمان .
الحمد لله الذي جعل كل آية من القرآن خزينة تستخرج منها الدرر والآلئ من حين نزولها والى يوم القيامة من غير أن ينفذ عطاؤها تتقرب للناس وان ابتعدوا عنها .
وكل آية دستور للحياة وضياء ينير دروب ومسالك الهدى الى النشأة الآخرة .
وقد تفضل الله على كل مسلم ومسلمة بالنطق كل يوم سبع عشرة مرة [ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) وفي حال خشوع وخضوع بين يدي الله الصلاة اليومية العينية الواجبة .
وهذا اعظم تشريف من الله للناس فلا غرابة ان يخاطبهم الله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
ولا تختص خزائن القرآن بمضامين الآيات على نحو الإستقلال بل ان الجمع بين كل آية قرآنية وأخرى هو خزينة آخرى تستنبط منها القوانين والمعارف وقد تجلى هذا القانون باجزاء من تفسيرنا اذ صدرت بعض الأجزاء بالصلة بين آية وآية آخرى مجاورة أو بين شطرين من آيتين .
ويذكر ويكرر قول وهو عدد غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ست وعشرون أو ثمان وعشرون حتى أنهم يعدون معركة الخندق غزوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه وأصحابه كانوا في حال دفاع محض .
واضطروا إلى حفر خندق حول المدينة ، كما أن القرآن يخبر بقدوم الأحزاب للمدينة للقتال وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن فضل الله تضمن هذا السِفر المبارك أجزاء متعددة في كل من قانون :
الأول : (لم يغز النبي ص أحدا) وقد صدرت بخصوصه اثنان وعشرون جزءً في آية علمية على خلاف ما نقله المؤرخون وتوارثته الأجيال، وليس من حصر لمنافعه العقائدية والإجتماعية والأخلاقية , وكل جزء منه آية علمية بالحجة والبرهان .
ويتعلق هذا الجزء المبارك في ذات القانون والحمد لله ، وأقوم بالكتابة والتأليف والمراجعة والتصحيح بأجزاء التفسير بمفردي والحمد لله ، وكذا كتبي الفقهية والأصولية.
ونطبع أكثر أجزاءه المتتالية بمشقة على نفقتنا الخاصة وهو من افضل موارد الخمس والزكاة وهو مبرئ للذمة.
الثاني : قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) وهو علم بكر ومدرسة قرآنية مستحدثة , ولعله لم يخطر على الوجود الذهني , وهو مناسب لهذا الزمان .
وقد صدرت منه تسعة أجزاء وهي (184-185-188-195-198-199-203-210-211).
الثالث : قانون (آيات الدفاع سلام دائم) وقد صدر منه (الجزء الثاني والأربعين بعد المائة) و(الجزء الواحد بعد المائتين) .
الرابع : قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة) وفيه رد مستحدث على أقوال المفسرين وكتّاب السيرة بأن آية السيف نسخت 124 آية من القرآن ، وهو خلاف الحق وخلاف قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وتأكد السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إمام السلام ، وقد صدرت الأجزاء (206-207-208-214-215) بخصوص هذا القانون .
الحمد الذي جعل الإنسان خليفة في الأرض قال سبحانه [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فأبى الله إلا أن يقترن ويصاحب كلامه الخليفة كي يكون منهاجاً ونبراساً ودستورا ، وليس في القرآن لفظ سيف ، إنما وردت آيات الأحكام ، والأوامر والنواهي .
قال تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ] ( ) الحمد لله المشافي الذي أذهب الداء ، وصرف الجائحة بآية ولطف من عند الله عز وجل ، وجعلنا في حال التعافي .
الحمد لله مفرج الهم وصارف الغم ، ودافع السقم والأوجاع، قال تعالى [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي …] ( ) .
يا كاشف الهم ، يا مزيح الكرب ، يا مجيب دعوة المضطرين ، اللهم البسنا لباس الصحة والعافية عاجلاً قال تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
اللهم لا منجأ ولا ملجأ منك إلا إليك .
اللهم إني أسالك بعظيم لطفك وباسمائك الحسنى ومغفرتك الرحمة والمغفرة ، وصرف البلاء والداء عن المؤمنين والناس جميعاً ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الحمد لله الذي جعل صدور كل جزء من معالم الإيمان في تفسير القرآن دعوة قرآنية ملحة للمؤمنين والمؤمنات لتقليد المرجع الشيخ صالح الطائي ، سواء في العراق الحبيب أو في الخليج أو أوربا وغيرها ، وفيه البركة والأجر والثواب .
علماً بأن رسالته العملية (الحجة) خمسة أجزاء مسجلة في دار الوثائق والكتب ببغداد برقم 345 لسنة 2001 ، أي قبل عشرين سنة وهي معروضة على الموقع (www.marjaiaa.com) مع كتبه الأصولية والفقهية .
وقد صدر بلطف من الله عز وجل هذا الجزء من تفسيرنا للقرآن وهو الجزء السادس عشر بعد المائتين في قانون ( لم يغز النبي (ص) أحداً) .
[قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ].
حرر في 29جمادى الآخرة 1442
12/2/2021
قانون خروج النبي (ص) للطائف دعوة سلام
كان أوان نزول سورة يوسف عام الحزن ، وهو العام العاشر للبعثة النبوية إذ توفى أبو طالب بعد خروج بني هاشم من الشعب بستة أشهر .
وقيل توفى في شهر رمضان قبل وفاة خديجة ، وعن الواقدي : توفيت خديجة قبل أبى طالب بخمس وثلاثين ليلة وقيل غير ذلك فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الاذى ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبى طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا .
فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيته والتراب على رأسه فقامت إليه احدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهى تبكي ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لا تبكي يا بنية فان الله مانع أباك ويقول بين ذلك ما نالت منى قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب( ).
ولما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ازدياد أذى قريش له بعد وفاة أبي طالب خرج إلى الطائف ، وقد سبق في السنة الخامسة للبعثة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشطر من الصحابة المؤمنين بالهجرة إلى الحبشة ، وكانت غاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الخروج إلى الطائف على وجوه :
الأول : الدعوة إلى الله ، وبيان أحكام الإسلام .
الثاني : تجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية .
الثالث : دعوة قريش للكف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : إنه مقدمة للهجرة إلى المدينة .
الخامس : الشكوى العملية إلى الله عز وجل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : مواساة أهل البيت والصحابة لما يلاقونه من الأذى .
السابع : دعوة الناس خارج مكة للإسلام .
الثامن : بيان قانون وهو أن الأرض ملك لله عز وجل يهاجر فيها النبي والمؤمنون تعاهداً لدينهم.
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج أما هذه المرة فقد خرج بنفسه من مكة مهاجراً إلى الطائف التي تبعد عن مكة نحو (75)كم وتحيط بها الجبال من كل الجهات ، وترتفع عن سطح البحر نحو 1700كم ، فكانت مصيفاً لقريش ، وفيها زراعات الأعناب والفواكه ، وقصور لقريش ومن بساتينها آنذاك وأكثرها لقريش :
الأول : بستان شريقي .
الثاني : بستان الوهط .
الثالث : بستان عداس .
وفي قول (أبي طالب بن عبد المطلب: نحن بنينا طائفاً حصيناً قالوا: يعني الطائف التي بالغور من القرى والطائف هو وادي وج َ وهو بلاد ثقيف بينها وبين مكةَ اثنا عشر فرسخاً) ( ).
وسميت الطائف للحائط الذي بنوه حولها لتحصينها (قال أمية بن أبي الصلت :
نحن بَنينا طائِفاً حَصِينا …. يُقلرِعُ الأبطالَ عن بَنينا) ( ).
وفي قوله تعالى [وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ] ( ) (عن محمد بن مسلم الطائفي قال : بلغني أنه لما دعا إبراهيم للحرم { وارزق أهله من الثمرات }( ) نقل الله الطائف من فلسطين .
وأخرج ابن أبي حاتم والأزرقي عن الزهري قال : إن الله نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم عليه السلام)( ).
وتسكن قبيلة ثقيف الطائف ، وكانوا على ملة الكفر ، ولهم بيت للأوثان يقومون بتعظيمه ، وأشهر وأظهر أصنامهم اللات ، قال تعالى [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى]( )، وكباقي القبائل العربية فقد علمت ثقيف ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته ، ولكنها لم تظهر استجابة لدعوته بسبب صلاتهم التجارية والمالية والإجتماعية مع قريش .
وفي قوله [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ]( )، قال ابن عباس : يعرفون يوم القيامة بذلك ، لا يستطيعون القيام إلا كما يقوم المتخبط المنخنق [ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ] ( ) وكذبوا على الله [ و أحل الله البيع وحرم الربا ] ( ).
ومن عاد لأكل الربا [ فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون].
وفي قوله [ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا . . ] ( )، الآية . قال : بلغنا أن هذه الآية نزلت في بني عمرو بن عوف من ثقيف ، وبني المغيرة من بني مخزوم ، كان بنو المغيرة يربون لثقيف .
فلما أظهر الله رسوله على مكة ووضع يومئذ الربا كله ، كان أهل الطائف قد صالحوا على أن لهم رباهم وما كان عليهم من ربا فهو موضوع .
وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر صحيفتهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ، أن لا يأكلوا الربا ولا يؤكلوه .
فأتى بنو عمرو بن عمير ببني المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة عاملاً من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال بنو المغيرة : ما جعلنا أشقى الناس بالربا ووضع عن الناس غيرنا .
فقال بنو عمرو بن عمير : صولحنا على أن لنا ربانا .
فكتب عتاب بن أسيد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت هذه الآية [فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب]( ) ( ).
وفي قوله يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، ورد عن عطاء قال : كانت ثقيف تداين بني المغيرة في الجاهلية ، فإذا حل الأجل قالوا : نزيدكم وتؤخرون عنا . فنزلت [لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة]( ).
وأختلف فيمن صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه الى الطائف على وجوه :
الأول : رافق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة ، عن ابن سعد( ).
الثاني : صاحب الإمام علي عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف بمفرده .
وكان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف في شهر شوال من السنة العاشرة للنبوة .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجهاده في سبيل الله أنه ذهب إلى الطائف ، وعاد منها إلى مكة ماشياً على قدميه ، وكان كلما مرّ على قرية أو قبيلة في طريقه أخبرهم عن نبوته ، ودعاهم إلى الإسلام .
لقد قطع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسافة بين مكة والطائف سيراً على قدميه جهاداً في سبيل الله ، بينما استأجر ناقة له في طريق هجرته إلى المدينة لبعد الشقة .
وأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الطائف عشرة أيام يدعو أهلها إلى التوحيد ويسألهم العون له كنبي ، فلم يطلب منهم أن يقاتلوا معه ، إنما دعاهم إلى عبادة الله وحده ، ونبذ الأصنام ومفاهيم الشرك ومنع قريش من إيذائه وقتله ، وقام باخبارهم بأنه رسول الله إليهم وللناس جميعاً ، فوجد منهم أموراً :
الأول : الإستهزاء .
الثاني : التكذيب .
الثالث : الإعراض .
الرابع : إغراء السفهاء والصبيان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فحينما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف توجه إلى بعض ساداتها وأشرافها ، ومنهم أخوة ثلاثة أبناء عمرو بن عمير بن عوف وهم :
الأول : عبد ياليل .
الثاني : مسعود .
الثالث : حبيب .
وسئل ابن عباس عن قوله تعالى [لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ]( )، قال : يعني بالقريتين مكة والطائف ، والعظيم الوليد بن المغيرة القرشي وحبيب بن عمير الثقفي( ).
أي أن أحد هؤلاء الأخوة ينظر إليه على أنه مؤهل للوحي والنبوة ، ومع هذا توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لدعوتهم للإسلام وفي رواية المراد من الرجلين :
الأول : الوليد بن المغيرة من أهل مكة .
الثاني : مسعود بن عمرو الثقفي ، المذكور أعلاه وهو أخو حبيب بن عمرو .
وكان أحدهم متزوجاً امرأة من قريش من بني جمح فتقرب إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمصاهرة ، وجلس إليهم وحدثهم بما جاء به وهو القرآن ، ومعجزات النبوة ، وسألهم منع قريش من الوصول إليه ، وكان متعارفاً عند العرب اللجوء والإستجارة واعطاء الأمن ، فلو قال أحدهم أنا جار لمحمد سلم من أذى قريش ، ولكن هؤلاء الأخوة صدّوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجفاء ، من وجوه :
الأول : قال أحدهم انه يمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك ، أي أنه ينكر وينفي نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : قال الثاني : أما وجد الله أحداً يرسله غيرك .
الثالث : قال الثالث : (وَاَللّهِ لَا أُكَلّمُك أَبَدًا . لَئِنْ كُنْت رَسُولًا مِنْ اللّهِ كَمَا تَقُولُ لَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدّ عَلَيْك الْكَلَامَ وَلَئِنْ كُنْت تَكْذِبُ عَلَى اللّهِ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلّمَك) ( ).
وتبين كتب التأريخ ذهاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء الأخوة الثلاثة على نحو التعيين ، كما عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه على أشراف ثقيف ، يذهب إلى بيوتهم ومنتدياتهم ويدعوهم للإسلام .
ولم يتدبروا في وجوب عبادة الله ، إنما كان همّهم تعاهد الصلات المالية والإجتماعية مع قريش ، وطلب ودهم ، وخشية غضبهم ، وهو من وجوه تسمية مكة (أم القرى ) ولكن قريشاً سخرت هذا الفضل العظيم وجوارهم للبيت الحرام لمحاربة النبوة والتنزيل .
وستبقى الهجرة القصيرة إلى الطائف شاهداً على إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم السلم ، وإجتنابه الصدام مع الكفار ، وهو صاحب الحجة والبرهان ، قال تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
(عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي -ولا أقوله فخرًا: بعثت إلى الناس كافة: الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئا)( ).
قانون خلود نداء التشريف بالإيمان
لو دخل الناس كلهم الإسلام فهل كان خطاب التشريف أعلاه يتغير إلى (يا أيها الناس) الجواب لا، لأن معانيه أعم من الإنحصار بالإشارة وتعيين الذين صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فالمراد منه أمور:
الأول : الشهادة من الله للمسلمين بالإيمان.
الثاني : الثناء على المسلمين لايمانهم.
الثالث : دعوة المسلمين للثبات على الإسلام.
الرابع : بيان حقيقة وهي أن التكاليف تأتي للناس بصفة الإيمان، ويجب عليهم أن يتلبسوا بالإيمان كي تتوجه لهم خطابات التكليف ، وما فيها من التشريف والإكرام.
الخامس : إنه بشارة الثواب العظيم يوم القيامة، قال تعالى[وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
السادس : هناك قاعدة في علم الأصول وهي إذا تغير الموضوع تبدل الحكم، فالناس حينما يدخلون الإسلام يأتي خطاب التكليف بصفة الإيمان بلحاظ أن التكاليف فرع الخلق لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) وهي رحمة عامة متجددة بها، وأن القرآن يخاطب أرباب العقول الذين إختاروا الإيمان.
السابع : الأمر بتقوى الله إكرام وتشريف، وفضل من الله عز وجل إدّخره لأهل الإيمان، قال تعالى[قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
ومن إعجاز القرآن مجئ الآية بنداء التشريف ويتعقبه الأمر ثم النهي أو العكس بأن يأتي النهي ثم الأمر ، وكل فرد منهما دعوة لمنهج الإيمان والسلم المجتمعي ، والتنزه عن الظلم .
وتأتي الآية القرآنية باجتماع الأمر والنهي ، والأمر بتقوى الله والخشية منه لبيان بلوغ المسلمين مرتبة من الفقاهة ، وأخبرت الآيات عن الملك المطلق لله عز وجل [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) لتكون مدداً وعوناً للإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية، بما تتضمنه من الإخبار عن الشمول والعموم في ملك الله عز وجل.
فلم ولن يخرج شيء عن ملكه أبداً، ومن ملكه تلك الأموال والأضعاف المضاعفة التي نهى الله المسلمين عن جمعها بواسطة الربا، وهذا النهي لا يتعلق بذات الأموال بل بكيفية إقتنائها وجمعها، أي يمكن جمعها بأسباب وطرق شرعية عديدة كالتجارة والصناعة والبيع والشراء والإستئجار والعمل، قال تعالى[وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ]( ).
وعن ابن عباس في الآية أعلاه يسافرون للتجارة وطلب الأرباح ( ) ، ويملي نداء الإيمان وما فيه من معاني التشريف والشهادة من الله عز وجل للمسلمين بالصلاح إختيارهم الكسب الحلال والإمتناع عن المال السحت والحرام ، ليكون هذا الإختيار مقدمة لتثبيت السلم في الأرض .
قانون الإقرار بالعبودية لله أمر فطري
الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل والتسليم بأن المشيئة في الدنيا والآخرة له سبحانه نعمة عظمى ، وفيه مسائل:
الأولى : إنه زاجر عن المعاصي ، وهو سبب للإستحياء من الله عز وجل ، وحينما سأل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جبرئيل عن الإحسان (فأخبرني عن الإحسان؟
قال : أن تعبد الله كأنّك تراه،
فإن لم تكن تراه فإنّه يراك) ( ).
الثانية : إنه باعث على الإيمان وفعل الصالحات.
الثالثة : هو سبيل مبارك لدعوة الناس للإسلام، والتقيد بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الله عز وجل.
الرابعة : فيه حجة باستدامة عبادة الله في الأرض ، وهي مادة دوام الحياة الدنيا ، وإرجاء الساعة بفضل من الله عز وجل .
ومن خصائص الحياة الدنيا قرب الثواب من المؤمنين، قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( )، وهذا القرب على وجوه :
الأول : ينوي المسلم العمل الصالح فيتبادر إلى ذهنه الأجر والثواب.
الثاني : يبتغي المسلم الثواب وإكتناز الصالحات فيقوم بفعل الصالحات.
الثالث : يستحضر المسلمون عالم الآخرة وما فيه من الثواب فيتسابقون في فعل الصالحات، قال تعالى[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ]( ).
الرابع : مبادرة المسلمين لأفراد الطاعة، وحرصهم على الإبتعاد عن المعاصي، لأن قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا) ورد بصيغة الفعل الماضي مما يدل على ثبات وإستدامة الإيمان ، وترشح منافعه على عالم الأفعال بأسباب الهداية، فلا غرابة أن يكون من أحكام الإسلام حرمة الإرتداد سواء الفطري أو الملي( ).
الرابع : يدرك المسلم العقاب المترتب على الحرام ، فتنفر نفسه منه، ويسعى في الكسب الحلال، فينال الثواب من جهات:
الأولى : إستحضار ذكر الله، والسعي لمرضاته في المعاملات والتجارات.
الثانية : إجتناب الفعل الحرام.
الثالثة : المبادرة إلى الحلال والأمر المباح.
ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، قانون وهو الإقرار بالربوبية لله عز وجل أمر فطري يولد عليه الإنسان ، ولا يغادره وإن فعل المعاصي لغشاوة عرضية طارئة ، أو غواية حاضرة ، ليبقى القانون أعلاه دعوة متجددة للرجوع إلى الفطرة السليمة ، وترغيب بالتوبة والإنابة والتدبر بما شهدت به العقول ، وتلّح على استحضاره الشواهد والآيات الكونية من وجوب عبادة الله عز وجل وحده ، قال تعالى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ) .
ولم يرد لفظ فطرة في القرآن إلا في الآية أعلاه ، ومن فضل الله قانون موافقة أحكام القرآن للفطرة .
ولابد من الملازمة بين أمور :
الأول : الإقرار بالربوبية لله عز وجل .
الثاني : قانون الإطلاق في ربوبية الله عز وجل لكل الخلائق ، وليس في الوجود إلا خالق أحاط بكل شئ علماً وهو الله ، وخلائق منقادة لله عز وجل ، لذا يتلو كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم في الصلاة قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) وشهادة المسلمين هذه بعموم ربوبية الله عز وجل للخلائق من وظائف المؤمنين ، ورفعهم للواء التوحيد في الأرض،والدعوة إلى السلم فرع منه .
الثالث : قانون التسليم بالعبودية التامة لله عز وجل ، والتبرأ من الشرك، ومن مصاديق هذا التسليم صلاة الجماعة خمس مرات في اليوم ، والندب إليها .
ومن الفقهاء من قال بوجوب صلاة الجماعة على المكلفين في حال الحضر والسفر ، مع القدرة عليها ، ومما استدل عليه قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] ( ) وأن الأمر يقتضي الوجوب ، ويمكن أن يناقش هذا القول ، ويجب على الناس جميعاً الإقرار بالعبودية لله عز وجل ، وهذا الإقرار سور الموجبة الكلية الحاجب عن الإقتتال وسفك الدماء وعن إخافة المجتمعات .
قانون بعثة النبي (ص) استئصال للقتال
لقد كان العرب قبل البعثة النبوية يتقاتلون فيما بينهم كقبائل وعشائر ، وإن لم يكن قتال مع الغير ، يقتتل أفراد القبيلة بعضهم مع بعض ، كما كان الأوس والخزرج في مدينة يثرب يتقاتلون فيما بينهم ، ويصطف يهود المدينة كل مع الذين تحالفوا معهم ، ففي معركة بُعاث التي وقعت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخمس سنوات حالف الخزرج أشجع وجهينة ، وحالفوا بنو قينقاع من اليهود .
وحالف الأوس مزينة ، وحالفوا بني قريظة وبني النضير من اليهود .
وكان أشد اليهود قوة يومئذ بني قريظة كما كانوا يمتهنون صناعة الأسلحة ، ومع هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، انقطع الإقتتال بين الأوس والخزرج ليرى يهود المدينة معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتكون مادة ووسيلة لدعوتهم للإسلام ، ثم سمعوا والناس قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته في حجة الوداع (لا ترجعوا بعدي كفاراً ..) .
(عن زيد بن أسلم قال : لما نزلت [قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا]( )الآية .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف .
فقالوا : ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله .
قال : نعم .
فقال بعض الناس : لا يكون هذا أبداً ، فأنزل الله { انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ، وكذب به قومك وهو الحق }( ) إلى قوله { وسوف تعلمون })( ).
ترى ما هي هذا الكفر الذي يقصده النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب يحتمل وجوهاً :
الأول : إنه كفر النعمة .
الثاني : لغة التشبيه بالإتصاف بخصال الكفار .
الثالث : إنه كفر جحود .
الرابع : كفر معصية .
والإجماع على أن هذا الكفر ليس من الكفر الأكبر الذي يخرج السلم عن الملة ، إنما هو كفر أصغر ، لا يخرج الذين يتقاتلون عن الإيمان ، ويدل عليه قوله [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا] ( ) إذ بقيت صفة الإيمان لهم بقوله تعالى [مِنْ الْمُؤْمِنِينَ] .
وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله (لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَإِنَّهُ كُفْرٌ) ( ).
لقد جعل الله عز وجل بعثة الأنبياء رحمة لأهل زمان النبي والذين من بعدهم لتتداخل معاني الرحمة والأثر الحسن لبعثة الأنبياء مع تقادم الزمان ، فكانت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمة الرسالات ، وفيها تثبيت لسنن السلم في الأرض ، وبين الرحمة التي جاء بها الأنبياء ، وبين السلم عموم وخصوص مطلق .
فبعد أن كان العرب يتقاتلون لعشرين سنة أو أكثر بسبب ناقة أو قتل شخص واحد ، صار المسلمون يمتنعون عن القتال خشية من الله عز وجل ، وإجتناباً للقصاص ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) فكانت رسالته نشراً لألوية السلم إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق تجدد الخطاب الإلهي للمسلمين في كل يوم [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
ومن معاني هذا التجديد اليومي تلاوة كل مسلم ومسلمة هذه الآية في الصلاة اليومية وخارجها .
ومن الإعجاز في نبوة محمد أنها حرب على القتال سواء كان غزواً أم غيلة أم غدراً ، لقد سادت ببعثته مفاهيم العدل ، وصار الناس يحترزون من الظلم والتعدي ومنهم رؤساء القبائل إذ كانت الحمية القبلية غالبة على الناس ، وهي من مصاديق نعت ما قبل الإسلام بالجاهلية لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين والناس ببعثتة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا نقول أنه لا يلتفت إلى قلة المعارك والقتلى من مدة نبوته لكثرة المنافع ، بل لأن هذه المعارك يتحمل المسؤولية فيها الكفار الوثنيين ، ومن عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تنزهه عن طلب الغزو والقتال في ترغيب للناس بالهدى والإيمان.
قانون اقتران الأمر الإلهي بالمدد
من إعجاز القرآن أن يأتي الأمر الإلهي مقترناً بأسباب المدد والعون للإمتثال له، ومنها إخبار آيات القرآن عن رمي الكفار المعتدين في معركة بدر وأحد بالكبت والصرع , قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، وفيه مسائل:
الأولى : جعل الكفار عاجزين عن التعدي على الإسلام.
الثانية : التخلية بين المسلمين والتقوى.
الثالثة : تحلي المسلمين بسنن التقوى .
الرابعة : إتخاذ المسلمين التقوى بلغة للدنيا والآخرة.
الخامسة: جعل التقوى ملكة متوارثة عند أهل الإيمان .
فان قلت كيف تكون متوارثة بلحاظ المقام وكبت الكفار قضية في واقعة.
والجواب إن منافع وآثار كبت الكفار يوم أحد باقية إلى يوم القيامة وهي رحمة وفضل من الله عز وجل على كل مسلم ومسلمة، ومن عمومات قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
وهل الحجة هنا خاصة بالكفار ، الجواب لا، بل هي شاملة للمسلمين والمسلمات بلزوم التقيد بأمره والدفاع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن لوجود المقتضي وفقد المانع.
وليس من مانع يحول دون التلبس بالتقوى بالعصمة والتنزه من مفاهيم الكفر ، وقد يضطر المؤمن للتعامل بالحرام تقية من الكفار ، وهو فرد نادر ومقيد بحالات مخصوصة قال تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ]( )، وفي أشد الأحوال ترى من المتعارف الإبتعاد عن المعاملات الحرام طاعة لله، من غير أن يثير الأمر غضب الحكام وأهل الملل الأخرى ، وهو من إعجاز القرآن الغيري ، وقانون الأسرار الملكوتية للفرائض والعبادات ، وفضل الله بالصلة بينه وبين كل فرد من الناس ، ومن أسرار خلقة الإنسان التباين في بصمة الأصابع والعين والأذن ، فهل كل رحمة من الله وصلة بينه وبين أي إنسان تختلف عن الصلة بينه تعالى وبين غيره من الناس ، وهل تختص هذه الغيرية بذات البلد أو الطبقة أو الجيل الواحد ، أم أنها مطلقة الجواب هو الثاني ، فكما تختلف البصمات بين الناس وإن تباعدت البطون فكذا بالنسبة لرحمة الله على العباد ، فكل فرد أنعم الله عز وجل عليهم بمصاديق وأفراد غير متناهية من الرحمة وهو من عمومات خطاب الله عز وجل للإنسان يوم القيامة [لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا( ).
وتلك آية في بديع صنع الله وأسباب تهيئة مقدمات الطاعة مما لا يلتفت إليه إلا مع التدبر والتحليل العقلي، ومعرفة مفهوم الأوامر والنواهي، وهو من عمومات قوله تعالى [وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ).
ومن إعجاز القرآن ميل الناس بالفطرة إلى السلم ، ونفرة نفوسهم من الحرب والقتال ، لذا فحينما نزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، فانه موافق للفطرة ، ويجد قبولاً عند عامة الناس إلا الذين اتخذوا الكفر والإستكبار منهاجاً ، وهو الذي أشارت إليه الآية أعلاه بصفة (خطوات الشيطان) بلحاظ أن إمتناع إبليس عن السجود لآدم إنما هو بسبب استكباره كما في قوله تعالى [أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ]( ).
وهل أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لقتال الجواب نعم ، وموضوع هذا الأمر هو :
الأول : الدفاع عن النبوة والتنزيل ، لأن المشركين أرادوا وعلى نحو الإلزام أحد أمرين :
أولاً : ترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة إلى الله وتعطيل النبوة ، والإمتناع عن تبليغ آيات القرآن والله عز وجل بقول [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
ثانياً : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان قلت قد عرضوا بينهم بهذا الخصوص خيارات تدل على طغيان وغرور كفار قريش ليقابل بلطف إلهي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين باخبارهم بصيغة الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، إذ كانت قريش تتدارس صيغ وسبل الإضرار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتخلص منه ، ويدل تأريخ النبوة على قتل المشركين لعدد من الأنبياء ، لقد اجتمعت قريش في دار الندوة للتباحث في البطش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه تخييرية :
الأول : حبس وتوثيق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكيفية التي يريدون والجهة التي يلقى فيها الأذى أو القتل ليكون هذا الإخراج مقدمة لقتل النبي محمد ليكون تقدير الآية : ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ليقتلوك.
وعن ابن عباس في الآية أعلاه (أن قريشاً تآمروا في دار الندوة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال عمرو بن هشام : قيدوه واحبسوه في بيت نتربص به ريب المنون .
وقال أبو البختري : أخرجوه عنكم على بعير مطرود تستريحوا منه ومن أذاه لكم . قال أبو جهل : ما هذا برأي ولكن اقتلوه وليجتمع عليه من كل قبيلة رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فترضى حينئذ بنو هاشم بالدية . فأوحى الله عز وجل بذلك إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فخرج إلى الغار)( ).
فأمر الله عز وجل رسوله الكريم بمغادرة مكة والهجرة في طريق وإلى جهة يختارها الله عز وجل وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ]( ).
وقيل (معنى يثبتوك أي يخرجوك ).
قانون الدنيا دار الطمأنينة
تتجلى في آيات القرآن وما فيها من الأوامر والنواهي حقيقة وهي أن الدنيا (دار الطمأنينة) وليس من فرد وجماعة وأمة إلا ويصيبهم من هذه النعمة قسط وهو من عمومات قوله تعالى [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ]( ).
وقد فاز المسلمون بالنصيب الأوفر، إذ ينهلون من مصاديقها التي تتجلى في القرآن بصيغة الأمر والنهي، والبشارة والإنذار .
وفيه دعوة للكسب الحلال الذي هو من أسباب الأمن واستدامة السلم، وفيه وجوه :
الأول : الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، وهو لا يتعارض مع كونها دار الطمأنينة، لأن أي توفيق وإمتثال لأمر أو نهي طمأنينة وغبطة.
الثاني : تلقي المؤمن المدد من الله عز وجل لأداء الوظائف الشرعية، ومنها بيان منافع المأمور به، وأضرار الفرد المنهي عنه، وهذا البيان أعم من أن ينحصر بذات الفعل بل يشمل الموضوع والحكم.
الثالث : ليس من حصر لأبواب الرزق الكريم، ومنه ما يأتي بالسعي والكسب، ومنه ما يكون إبتداء وفضلاً من الله عز وجل، قال سبحانه [إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ] ( ).
الرابع : من مصاديق الطمأنينة الإيمان والهداية والإمتثال لأوامر الله، وهو رزق كريم ونعمة دنيوية وأخروية.
الخامس : الدنيا مزرعة للآخرة، وحسن العاقبة هو الأهم والأولى في حياة الناس، وأيامهم في الحياة الدنيا، قال تعالى [قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]( ).
أكرم الله عز وجل المسلمين ، وهذا الإكرام عام وشامل للميادين المختلفة، ومنها كيفية الكسب، وصيغ الرزق وهو من عمومات قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( ).
ولو دار أمر الطمأنينة بين جمع الأموال بالطريق المنهي عنه ، وبين طاعة الله مع الزهد ، فانها تكون في طاعة الله وعليه العقل والنقل، قال تعالى [وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
ومن رحمة الله عز وجل النهي عن السرقة والغصب والحرام والظلم في الكسب ، وما فيه من الأذى والأسى.
وتلك آية في تفضيل وإكرام المسلمين، فإن قلت إن النهي عن الربا مثلاً منع من جمع الأموال الكثيرة، فلا يدل على التفضيل خصوصاً وأن غير المسلمين يكسب الأموال بالربا ويأكل الأضعاف المضاعفة بهذا الكسب، والجواب من وجوه:
الأول : من التفضيل إختيار الأفعال بأمر ونهي من الله عز وجل.
الثاني : ما من شيء نهى الله عنه إلا وفيه أضرار ، ظاهرة وخفية.
وهو من عمومات قوله تعالى[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( )،لأن الله تفضل وأطلع المسلمين والناس جميعاً على شطر من تلك الأضرار، وجاءت السنة لبيانها، وجاء توالي الوقائع توكيد لها.
الثالث : الترغيب بالقرض والدين ، وما فيه من الأجر والثواب وتنشيط التجارة ، وهو من أسباب نشر المودة والرفق بين الناس ، ليكون برزخاً دون أسباب الحرب والقتال.
الرابع : إن الله عز وجل [هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] ( )، وهو الذي رزق المسلمين الأموال التي يستطيعون معها الكسب بالقرض والتجارة .
لقد ورد قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَي مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ) ( ).
ومن معاني ومنافع حرمة الربا وعمومات المنع من الإبتلاء الذاتي في الأموال والأنفس ، والإرباك والغضاضة التي تترشح عنه ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
ذهاب النبي (ص) إلى بني النضير
قيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلقى كتاباً من عامر بن الطفيل مع قتله ثمانية وثلاثين من الصحابة ، يقول فيه للنبي : أنك قتلت رجلين لهما منك جوار وعهد ، فابعث بديتهما .
فلم يقل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابعث بدية أصحابي وابعث لك دية الاثنين ، إنما انطلق إلى قباء ثم مال إلى بني النضير ليستعين بهم في ديتهما لأن لهما جواراً وعهداً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان معه عدد من المهاجرين والأنصار .
لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحافظ على الجوار والعهد والميثاق حتى مع العدو ومع شدة المصيبة ، وأن نقض صلح الحديبية كان من قبل المشركين .
ترى لماذا ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني النضير.
الجواب كان بينهم وبين بني عامر حلف وعقد ، وكان مقدار الديتين مائتي ناقة ، وليس عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا العدد إذ كان يقسم ما يأتيه على أصحابه في ذات اليوم ، ويقضي دينه .
فلما جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني النضير وسألهم الإستعانة بدينهما (قَالُوا نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ نُعِينُك عَلَى مَا أَحْبَبْت ، مِمّا اسْتَعَنْت بِنَا عَلَيْهِ ثُمّ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ فَقَالُوا : إنّكُمْ لَنْ تَجِدُوا الرّجُلَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ هَذِهِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ قَاعِدٌ فَمَنْ رَجُلٌ يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فَيُلْقِي عَلَيْهِ صَخْرَةً فَيُرِيحُنَا مِنْهُ.
فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ عَمْرُو بْنُ جَحّاشِ بْنِ كَعْبٍ ، أَحَدَهُمْ فَقَالَ أَنَا لِذَلِكَ فَصَعِدَ لِيُلْقِيَ عَلَيْهِ صَخْرَةً كَمَا قَالَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيّ عليه السلام)( ).
فنزل جبرئيل بالخبر من السماء ، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم راجعاً إلى المدينة على عجل ، وبقي عدد من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بني النضير لا يعلمون بالأمر حتى إذا استبطأوه رأوا رجلاً أقبل من المدينة فسألوه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : رأيته دخل المدينة فالتحقوا به فأخبرهم الخبر ، وأنهم أرادوا الغدر به ، وأمر بالمسير اليهم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وهو أعمى وحاصرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة ليال ، ونزل تحريم الخمر وتحصنوا منه في الحصون المنيعة فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع النخيل وتحريقه وكانوا يحبونها ، فنادوه : يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد ، وتعيب الذي يصنعه ، فما بال قطع النخيل وتحريقه .
واستعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قطع النخيل (أبا ليلى المازني، وعبد الله بن سلام، وكان أبو ليلى يقطع العجوة.
وكان عبد الله بن سلام يقطع اللون فقيل لهما في ذلك، فقال أبو ليلى: كانت العجوة أحرق لهم، وقال عبد الله بن سلام: قد عرفت أن الله سيغنمه أموالهم( ).
وعبد الله بن سلام بن الحارث أبو يوسف من ذرية يوسف عليه السلام حليف القوافل من الخزرج ، وكان من بني قينقاع ، ويقال كان اسمه الحصين فبدل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وكانت العجوة خيرا لهم، فلما قطعت العجوة شق النساء الجيوب، وضربن الخدود، ودعون بالويل، فجعل سلام بن مشكم يقول: يا حيي( )، العذق خير من العجوة،، يغرس فلا يطعم ثلاثين سنة يقطع .
فأرسل حيي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا محمد ، إنك كنت تنهى عن الفساد فلم تقطع النخل ، ووجد بعض المسلمين في أنفسهم من قولهم، وخشوا أن يكون فسادا، فقال بعضهم: لا تقطعوا، وقال بعضهم: بل نقطعه لنغيظهم بذلك.
وأرسل حيي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نحن نعطيك الذي سألت ونخرج من بلادك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا أقبله اليوم، ولكن اخرجوا منها، ولكم ما حملت الابل إلا الحلقة)( ).
وسبب تحصنهم أن رهطاً من بني عوف من الخزرج بعثوا اليهم أن تحصنوا منهم :
الأول : عبد الله بن أبي بن سلول .
الثاني : وديعة بن مالك بن أبي قوقل .
الثالث : سويد .
الرابع : داعس .
قالوا لهم : اثبتوا وتمنعوا فانا لن نسلمكم (ان قوتلتم قاتلنا معكم وان أخرجتم خرجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا وقذف الله في قلوبهم الرعب)( ).
وقال ابن حجر العسقلاني : أسلم عبد الله بن سلام أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقيل: تأخر إسلامه إلى سنة ثمان.
قال قيس بن الربيع عن عاصم عن الشعبي قال: أسلم عبد الله بن سلام قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعامين أخرجه ابن البرقي وهذا مرسل وقيس ضعيف( ).
ويدل خبر بني النضير على أن عبد الله بن سلام كان قد اسلم قبل السنة الرابعة وله أحاديث في اسلامه وأخبار يرويها عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وبذا يتجلى فساد وفتنة من نوع آخر للمنافقين ، يظهر بالتحريض على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ثم التخلي عن الذين يحرضونهم ، ترى لو لم يعد المنافقون بني النضير نصرتهم هل تحصنوا واستمروا بالتحصن بالحصون ، المختار لا .
ونزل قوله تعالى [أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ] ( ) وفي مسألة بني قينقاع الذين نقضوا شروط النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم ، إذ جاءت زوجة أحد الأنصار إلى سوق بني قينقاع (فجلست عند صائغ في حلي لها، فجاء رجلٌ من يهود قينقاع فجلس من ورائها ولا تشعر، فخل درعها إلى ظهرها بشوكة، فلما قامت المرأة بدت عورتها فضحكوا منها. فقام إليه رجلٌ من المسلمين فاتبعه فقتله .
فاجتمعت بنو قينقاع، وتحايشوا فقتلوا الرجل، ونبذوا العهد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وحاربوا، وتحصنوا في حصنهم .
فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فحاصرهم، فكانوا أول من سار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، وأجلى يهود قينقاع، وكانوا أول يهود حاربت.
فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة، قال: لما نزلت هذه الآية: ” وإما تخافن من قومٍ خيانةً فانبذ إليهم على سواءٍ إن الله لا يحب الخائنين ” ، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بهذه الآية) ( ).
فحاصرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حصنهم خمس عشرة ليلة ، ونزلوا على حكمه (فأمر بهم فربطوا. قال: فكانوا يكتفون كتافاً. قالوا: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم على كتافهم المنذر بن قدامة السالمي. قال: فمر بهم ابن أبي وقال: حلوهم .
فقال المنذر : أتحلون قوماً ربطهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم .
والله لا يحلهم رجلٌ إلا ضربت عنقه.
فوثب ابن أبي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، فأدخل يده في جنب درع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم من خلفه فقال: يا محمد، أحسن في موالي ، فأقبل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم غضبان، متغير الوجه، فقال: ويلك، أرسلني ، فقال : لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربع مائة دارع وثلثمائة حاسر، منعوني يوم الحدائق ويوم بعاث من الأحمر والأسود، تريد أن تحصدهم في غداةٍ واحدة يا محمد ، إني امروءٌ أخشى الدوائر .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: خلوهم) ( ).
ويدل تعيين شخص من الصحابة هو المنذر بن قدامة على كثافتهم على قلة عددهم ، ومع هذا أطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم سراحهم ، وفك رباطهم ، وفيه شاهد على المبالغة بالإكثار من أرقام المحبوسين .
ومع عداوة عبد الله بن أبي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فانه استجاب لطلبه وأطلقهم مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد قتالاً وبطشاً ، وتارة ينزل الأسرى في دار نسيبة بنت الحارث ، والتي كانت تخرج في الكتائب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتداوي الجرحى (وقيل نسيبة بنت كعب قال : أحمد بن زهير : سمعت يحيى بن معين وأحمد بن حنبل يقولان : أم عطية الأنصارية نسيبة بنت كعب
قال أبو عمر : في هذا نظر لأن نسيبة بنت كعب أم عمارة
تعد أم عطية في أهل البصرة كانت من كبار نساء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وكانت تغزو كثيرا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمرض المرضى وتداوي الجرحى وشهدت غسل ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحكت ذلك فأتقنت حديثها أصل في غسل الميت وكان جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت ولها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث روى عنها أنس بن مالك ومحمد بن سيرين وحفصة بنت سيرين) ( ).
ولا يمكن ان تستوعب دار نسيبة أعداداً كبيرة من الأسرى ، إنما هم أفراد .
لقد أرسل إليهم راس النفاق (أَنْ لَا تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ فَإِنّ مَعِي أَلْفَيْنِ يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ حِصْنَكُمْ فَيَمُوتُونَ دُونَكُمْ وَتَنْصُرُكُمْ قُرَيْظَةُ وَحُلَفَاؤُكُمْ مِنْ غَطَفَانَ ، وَطَمَعَ رَئِيسُهُمْ حَيّ بْنُ أَخْطَبَ فِيمَا قَالَ لَهُ وَبَعَثَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَقُولُ إنّا لَا نَخْرُجُ مِنْ دِيَارِنَا ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك ، فَكَبّرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَأَصْحَابُهُ وَنَهَضُوا إلَيْهِ وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَحْمِلُ اللّوَاءَ) ( ).
ولم يتوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني النضير من رأس إنما بعث لهم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره ، بسبب قصدهم قتله غيلة .
حصار بني النضير
أختلف في حصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني النضير على أقوال :
الأول : خمسة عشر يوماً .
الثاني : ست ليال ، عن ابن إسحاق ( ).
الثالث : قريباً من عشرين ليلة .
الرابع : ثلاث وعشرون ليلة .
الخامس : خمسة وعشرون يوماً حتى أجلاهم ، ونزلت سورة الحشر بخصوص كتيبة بني النضير .
وبعد الحصار وحرق النخيل رضي بنو النضير بالنزول على شروط النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان أكثرهم ممانعة حيي بن أخطب الذي أصبحت ابنته صفية أم المؤمنين وفي ذات الواقعة ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا] ( ) (وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لصفية بنت حيي: لو رأيتني وأنا أشد الرحل لخالك بحرى بن عمرو وأجليه منها) ( ).
وألح سلام بن مشكم بالقبول بشروط النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن تشتد هذه الشروط وتسبى الذرية ، وتقتل المقاتلة فرضي بأن يخرجوا بما حملت الإبل إلا الحلقة أي السلاح وضبطت فيما بعد فوجدت على وجوه :
الأول : خمسون درعاً .
الثاني : خمسون بيضة .
الثالث : ثلاثمائة واربعون سيفاً .
وكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى [مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ).
وقال بنو النضير لنا ديون على الناس إلى آجال لم تحل بعد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تعجلوا وضعوا ، أي قربوا المدة وانقصوا من تلك الديون .
فمثلاً (كان لابي رافع سلام بن أبي الحقيق على أسيد بن حضير عشرون ومائة دينار إلى سنة، فصالحه على أخذ رأس ماله ثمانين دينارا، وأبطل ما فضل.)( ).
وأظهر بنو النضير تجلداً وصبراً عند المغادرة ، وحملوا الذراري والنساء على الإبل في الهوادج ولبست النساء الديباج والحرير والخز الخضر والحمر وحلي الذهب والفضة .
ومروا على الجبلية وعلى الجسر ثم المصلى ثم شقوا سوق المدينة ، ولم يتعرض لهم أحد .
لقد خرجوا ومعهم الدفوف والمزامير ، والقيان الجواري يعزفن خلفهم تجلداً ، وصاروا يمرون قطاراً بعد قطار إلى ستمائة بعير حيث اصطف لهم الناس ينظرون وحزن عليهم المنافقون حزناً شديداً ، وهم كانوا السبب في إستدراجهم وإضلالهم .
فنزل أكثرهم بخيبر منهم حيي بن أحطب ، وسلام بن أبي الحقيق ، وكنانة بن صويراء فدان لهم أهلها وذهبت طائفة منهم إلى الشام .
وقد تبين دراسة وقراءة لتأريخ العداء للنبوة ومحاربتها حقيقة ، وهي أن افراداً معدودين وراء كل هذه المعارك وأظهرهم في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
الأول: أبو جهل .
الثاني : أبو لهب الذي نزل ذمه بالاسم في القرآن ، قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ *فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ] ( ).
الثالث : أبو سفيان .
الرابع : حيي بن أحطب .
وتسمى سورة الحشر (سورة بني النضير ) (ورواه البخاري من حديث أبي عَوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟
قال: قُل: سورة النَّضير) ( ).
وقوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ] ( ) يعني بني النضير من ديارهم التي كانت قريباً من يثرب .
وهل المراد نعتهم بالكفر والجحود ، الجواب لا ، للتقييد ، إنما المراد بالكفر هنا ستر نقض العهد الذي عقدوه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإعانتهم الأحزاب لإستئصال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
(قال ابن إسحاق : كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أُحد ، وكان فتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان) ( ).
لقد كانت فتنة بني النضير شديدة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأنهم مجاورون لهم ، وبينهم عقد وأحلاف ، ولعلها بسبب شخص واحد وهو حيي بن أخطب .
وهل وجّه رؤساء ووجهاء اليهود اللوم لحيي بن أخطب ، الجواب نعم ، وعلى نحو الموجبة الجزئية ، وكان بعض علمائهم يخبره بذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة ،وأنه على منهاج موسى عليه السلام.
ولكن عندما وصل حيي بن أخطب إلى خيبر أعطوه السيادة والرياسة كما قيل ، وكان هذا خطأ فادحاً أضر بالجميع ، إذ كان حيي بن أخطب في بدايات قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة قد ذهب هو وأخوه أبو ياسر إلى مكة لتحريض قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أن الرؤساء منهم ومن غطفان ألحوا عليه وطلبوا مساعدته ومساعدة يهود المدينة بواسطته ، وقد طاف على قبائل اليهود ومنهم من صدّه وحذره .
قراءة في معركة أحد
ومن مصاديق اللطف الإلهي وتقريب المسلمين وغيرهم لمنازل الإيمان إصابة الكفار بالبلاء والكبت والوهن، ومنه ما يأتي بسبب تعديهم وهجومهم على المسلمين وثغورهم ، كما في قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، التي تضمنت أموراً :
الأول : هلاك طائفة من الكفار ، في معركة أحد بعد أن قطعوا نحو أربعمائة وخمسين كيلو متر لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثاني : إنسحاب وهزيمة وخزي من بقي من جيش الكفار.
ليكون من الإعجاز في السنة الدفاعية إنسحاب جيش المشركين في نفس اليوم الذي ابتدأت به معركة أحد مع أنهم استعدوا لها لمدة سنة كاملة .
وفيه دعوة للمسلمين والمشركين والناس جميعاً ، أما المسلمون فانهم أدركوا مدد ولطف الله بهم ليثبتوا في منازل الإيمان قال تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( )، وأما المشركون فقد أصابتهم الخيبة والخسران .
وتجلت لعامة الناس حقيقة وهي عجز الذين كفروا عن منع تنامي الإيمان والهداية العامة ، لذا ذكرت سورة النصر الناس عامة ودخولهم الإسلام قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
وهل من موضوعية لمعركة أحد ونتائجها في تحقيق صلح الحديبية ، الجواب نعم.
الثالث : إنقلاب الكفار بخيبة وذل ، كما في قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )، إذ أن إنقلاب وإنسحاب الجيش على وجوه:
الأول : ما يخص العدو، وحاله في المعركة.
الثاني : ما يتعلق بالجيش وشؤون المقاتلين.
الثالث : يتعلق بالمعركة ومقدماتها وماهيتها، ويمكن جمعها في الوجوه الآتية :
الأول : الكيد بالعدو، وإستدراجه.
الثاني : إنهاك واستدراج العدو، وجعله يصاب بالغرور ويتقدم مزهواً ، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ).
الثالث : العزم على مفاجئة العدو بخدعة والإنقضاض عليه بسرعة.
الرابع : إنتظار المدد والعون.
الخامس : كسب الوقت، وتأخير المواجهة إلى الزمان والمكان المناسبين.
السادس : طرو الإنكسار وحلول اليأس في نفوس المقاتلين، والتدبر في أحوال المعركة وتدارك الأخطاء.
السابع : معرفة النقص في الجيش والخطط، وتفقد أفراده ، وتعيين قيادات مناسبة محل الذين قتلوا أو أسروا أو عجزوا عن مواصلة القتال ، وتدارك الثغرات وهي على شعب :
الأولى : ثغرات ظاهرة.
الثانية : ثغرات مستحدثة بلحاظ قوة العدو وطبيعة المعركة وأرضها.
الثالثة : ثغرات خفية.
الرابعة : الثغرات التي تنكشف عند القتال ، قال تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ) ( ).
الثامن : مداواة الجرحى.
التاسع : تأمين طرق المؤونة والسلاح.
العاشر: بعث الهمة والنشاط في نفوس المقاتلين.
الحادي عشر : إعادة تدريب الجنود بتدارك الخلل في صيغ القتال، ومعرفة أماكن الضعف والقصور عند العدو.
الثاني عشر : التشاور والتدارس في أمور القتال وخططه.
الثالث عشر : أخذ زمام المبادرة.
الرابع عشر : جمع المتفرق من الجنود والجرحى ، وتأمين مؤنهم، وتزويدهم بالسلاح الكافي، والإنتفاع الأمثل منهم .
وبعث المجاهدين لذكر الله وخصال التقوى ، بالأسناد (عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما من ثلاثة في قرية وبلد ولا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية)( ).
الخامس عشر : الإنسحاب إلى قيادة وجيش للعودة مرة أخرى للقتال وقد جاء القرآن والسنة والفتوى بذم الفرار من الزحف إلا الذي يرجع إلى فئة , قال تعالى[وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
ولم يرد لفظ [إِلَى فِئَةٍ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وفيه دلالة على جواز إستثناء الذي يفر من ساحة المعركة لغرض الرجوع إلى قيادة وجماعة متحدة تنوي العودة إلى القتال في سبيل الله، فهذا الإستثناء خاص بالمؤمنين، دون غيرهم، إذ أن عودة الجندي إلى قيادة ظالمة يعني التمادي في الظلم والغي.
السادس عشر : الإنسحاب عن هزيمة وخيبة وإنكسار أمام قوة وبطش العدو المهاجم.
السابع عشر : الرجوع عن الهجوم بعد العجز عن الفتح، ومطاردة المدافعين للمهاجمين، وتلك المطاردة محفوفة بالمخاطر على المدافعين.
ومن الآيات وعظيم قدرة الله في أعمال الناس تجلي البراهين التي تقود إلى الصلاح والأمن ، وتبعث الرغبة في النفوس بالسلم خيبة وانكسار جيوش المشركين من غير سبب أو علة ظاهرة ، فقد استعدوا لكل معركة دخلوها وأحرزوا أسباب الغلبة من جهات :
الأولى : كثرة العدد ، وكانوا أكثر من ثلاثة أضعاف عدد جيش المسلمين في كل معركة .
الثانية : التدريب والتمرين على الرمي المبارزة والمطاردة .
الثالثة : كثرة السيوف والدروع والخوذ وجودتها .
الرابعة : سوق الأنعام وحمل السويق والأطعمة معهم .
الخامسة : إخراج النساء معهم وكذا الجواري اللاتي يضربن الدفوف لبعث الهمّة في النفوس .
السادسة : تقدم فرسان وشجعان قريش الصفوف وخروجهم إلى المبارزة بين الصفين ، كما في خروج عتبة بن ربيعة وأخيه وابنه ، وطلبهم المبارزة في معركة بدر .
وكما في خروج حملة اللواء من بني عبد الدار تباعاً في معركة أحد ، ليكون هلاكهم في المعركة دعوة للسلم من وسط الميدان .
ومن مصاديق احتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) حينما تساءلوا عن علة وأسباب خلافة الإنسان ، وهو يفسد في الأرض ، ويقتل وينهب ، كما في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
إن الله عز وجل يجعل الكافرين يرون قبح الفساد وسوء عاقبة الكفر ، وتفضل الله عز وجل بالعون والمدد ليستأصل الكفر والفساد ويسود الأمن ، ليكون تقدير قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة فقد أهلك الله رؤساء الكفر.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تفسدوا ولا تسفكوا الدماء .
الثالث : يا أيها الناس ادخلوا في السلم والإسلام ، فقد رأيتم سوء عاقبة الذين أصروا على القتال من منازل الكفر والجحود .
بنو قريظة
وفي معركة الخندق وعندما زحفت الأحزاب وأحاطت بالمدينة أغلق بنو قريظة حصنهم دونهم للدلالة على امتناعهم عن نصرتهم لأن عندهم عهداً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويخشون عاقبة مثل عاقبة بني النضير في إخراجهم من ديارهم .
وكان كعب بن أسد القرظي صاحب عقدهم وعهدهم ، وهو حليف الأوس ، فجاءه حيى بن أخطب من بني النضير ، ولكن كعباً أغلق باب حصنه دون حيى ، فاستأذن عليه بصفته رئيس بني النضير له شأن ومنزلة عندهم ،فأبى كعب (أن يفتح له، فناداه: ويحك يا كعب افتح لى.
قال : ويحك يا حيى ، إنك امرؤ مشئوم ، وإنى قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا.
قال : ويحك افتح لى أكلمك.
قال : ما أنا بفاعل.
قال : والله إن أغلقت دوني إلا خوفا على جشيشتك أن آكل معك منها فأحفظ الرجل ففتح له، فقال: ويحك يا كعب ! جئتك بعز الدهر وببحر طام ( ).
قال : وما ذاك .
قال : جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجتمع الاسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمي إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدونى على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه.
فقال كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام( ) قد هراق ماؤه يرعد ويبرق وليس فيه شئ، ويحك يا حيى فدعني وما أنا عليه، فإنى لم أر من محمد إلا وفاء وصدقا.
وقد تكلم عمرو بن سعد القرظى، فأحسن فيما ذكره موسى بن عقبة، ذكرهم ميثاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعهده ومعاقدتهم إياه على نصره، وقال: إذا لم تنصروه فاتركوه وعدوه.
قال ابن إسحاق: فلم يزل حيى بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمع له، يعنى في نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي محاربته مع الاحزاب، على أن أعطاه حيي عهد الله وميثاقه لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك.
فنقض كعب بن أسد العهد وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال موسى بن عقبة: وأمر كعب بن أسد وبنو قريظة حيي بن أخطب أن يأخذ لهم من قريش وغطفان رهائن تكون عندهم لئلا ينالهم ضيم إن هم رجعوا ولم يناجزوا محمدا، قالوا: وتكون الرهائن تسعين رجلا من أشرافهم.
فنازلهم حيى على ذلك.
فعند ذلك نقضوا العهد ومزقوا الصحيفة التى كان فيها العقد إلا بنى سعنة، أسد وأسيد وثعلبة، فإنهم خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) ( ).
ونقض هذا العهد أمر طارئ محزن مصيبة اضافية أخرى حلت بالمسلمين ، ولكن النبي حينما انتهى إليه الخبر تصرف بحكمة وهدوه وأراد اقامة الحجة عليهم ، فبعث إلى بني قريظة :
الأول : سعد بن معاذ ، وهو يومئذ سيد الأوس .
الثاني : سعد بن عبادة ، وهو يومئذ سيد الخزرج .
الثالث : عبد الله بن رواحة .
الرابع : خوات بني جبير .
(قال: انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم فتنظروا أحق ما بلغنا عنهم، فإن كان حقا فالحنوا لى لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد المسلمين وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس) ( ).
فأتوهم وفتحوا لهم ، ودخلوا معهم ودعوهم إلى الموادعة ، وتجديد الحلف الذي بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فقالوا : الآن وقد كسر جناحنا وأخرجهم أي بني النضير ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم ظنوا أن قدوم الأحزاب لاستئصال النبي وأصحابه ، كما قطع به حيي بن أخطب.
فجعل سعد بن عبادة يشاتمهم .
فقال له سعد بن معاذ ، إنما والله ما جئنا لهذا ، ولما بيننا أكبر من المشاتمة إنه نقض عهد وموادعة ،ودخول في حرب بغير حق .
ثم خاطبهم سعد بن معاذ وذكرهم بالحلف الذي بينهم وأنه يحبهم ولا يريد لهم الأذى ، قال ولكني خائف عليكم مثل يوم بني النضير أو أمر منه.
وكان بنو النضير وبنو قريظة حلفاء الأوس ، وبنو قينقاع حلفاء الخزرج.
لذا فان سعد بن معاذ أشار إليهم بأنه لا يستطيع الوفاء لهم إذا نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فعلموا ما يريد ورضوا به وتحدوه بكلام قبيح .
وفي رواية ابن إسحاق أن سعد بن معاذ هو الذي شاتمهم وشاتموه ، وكان رجل فيه حدة ( ).
لقد أقنعهم حيي بن أخطب بأن الأحزاب لا يرجعون من حصار المدينة إلا بعد أن يقتلوا النبي محمداً وطائفة من أصحابه ، وأنهم لا يحتاجون بعد اليوم سعد بن معاذ ، وقد يكون هو الآخر مقتولاً في المعركة ، لأنه من خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لذا أغلظوا عليه وشتموه ، وهو من مصاديق [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ) إذ فتنتهم كثرة رجال وأسلحة قريش .
وتبين هذه الواقعة كيف أن المشركين يجمعون بين أمور :
الأول : تجهيز الجيوش .
الثاني : توجه عشرة آلاف رجل إلى معركة الأحزاب والإحاطة بالمدينة.
الثالث : المناجاة باستئصال أهل الإيمان .
ولم يرد لفظ (الخندق ) في القرآن ، ومع هذا يسمي كتاب السيرة هذه المعركة غزوة الخندق ، وتنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي أنه هو الغازي ، إنما كان وأصحابه في حال دفاع محض، ويمكن استقراء المواعظ والعبر من آيات القرآن الخاصة بهذه المعركة ، وكيف أنها شاهد على قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) .
قانون التكاليف حجة
لقد أمر الله الناس بعبادته وأقام الحجة عليهم، وهيئ لهم أسباب ومقدمات العبادة، ولكن الكفار أصروا على الجحود، ومنهم من سعى في صد المسلمين عن أداء وظائهم العبادية ، قال تعالى [وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ]( ).
فتفضل الله عز وجل ودفع الكفار عن منازل الصد والمنع، وجعلهم عاجزين عن هيئة وحال البرزخية بين المسلمين وعباداتهم فجاء قوله تعالى بخصوص إنسحاب المشركين من معركة أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، شاهداً على صيرورة الكفار أذلاء لا يستطيعون إكراه المسلمين على الإرتداد .
وتدل آيات وجوب الصلاة والفرائض الأخرى ومنها قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ) على عجز الكفار عن منع المسلمين من العمل بأحكامها من وجوه:
الأول : توجه الخطاب من الله عز وجل إلى المسلمين بقوله تعالى(يا أيها الذين آمنوا) للتكليف والعمل بمضامين الآية الكريمة.
الثاني : بيان قانون وهو عدم وجود برزخ بين المسلمين وعبادتهم لله عز وجل .
الثالث : حب الله عز وجل للمؤمنين بهدايتهم للإيمان وإصلاحهم لأداء الفرائض العبادية .
الرابع : مجيء آيات القرآن بالنهي عن الموانع الذاتية للتقوى ، والذي يدل بالدلالة التضمنية على تقيد المسلمين بأداء الفرائض ، من وجوه:
الأول : ثناء الله عز وجل على المسلمين في ذات الآية بنعتهم بصفة الإيمان.
الثاني : مجيء الشهادة من الله عز وجل للمسلمين بنداء التشريف [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]ومن الإعجاز تعقب الأمر بدخول الجميع في السلم لهذا الأمر لبيان الملازمة بين الإيمان وبذل الوسع لدخول السلم ، واتخاذ التقوى والصبر سلاحاً لتحقيق وإستدامة السلم المجتمعي ونبذ العنف .
الثالث : طاعة المسلمين لله ورسوله في العبادات والمعاملات ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ]( ).
الرابع : إمتثال المسلمين للأوامر الإلهية بأداء الصلاة ودفع الزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت الحرام، وهي فرائض متقدمة زماناً على صلح الحديبية ، مع إختلاف للفقهاء في تأريخ فرض حج بيت الله الحرام .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار امتحان واختبار ، فأمر الناس بالفرائض العبادية ، ونهاهم عن المعاصي والسيئات ، وحبّب اليهم الإيمان وهو من اللطف الإلهي ، وكذا بعث النفرة في نفوسهم من الشرك ومفاهيم الضلالة.
فمن فضل الله عز وجل قانون الملازمة بين اللطف والحجة إذ ييسر الله عز وجل للعباد الإمتثال ويهديهم إلى سبل النجاة .
ومن اللطف الإلهي ما يجب على المسلم والمسلمة من التضرع سبع عشرة مرة في اليوم بتلاوة [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) ، ومن الصراط المستقيم السعي في تحقيق السلم بدليل ورود قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
وهل الشفاعة والبذل والوساطة من أجل الصلح وتحقيق السلم من مصاديق الدخول في الآية أعلاه ، الجواب نعم ، وهذا المعنى مستحدث في تفسير الآية ، ليكون من معاني [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ] وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا اسعوا لتحقيق السلم .
الثاني : اجتهدوا في طلب وتحصيل السلم .
الثالث : قانون السلم حسن ذاتاً فادخلوا فيه .
الرابع : إن الله عز وجل جعل الحياة الدنيا دار السلم فبادروا إليه .
الخامس : إدخلوا في السلم ومن لا يدخل فيه يلقى الأذى والضرر .
السادس : قانون السلم مقدمة للإيمان ، ورشحة من رشحاته من غير أن يلزم الدور بينهما .
السابع : اشفعوا من أجل تحقيق السلم .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (أحبُّ الناسِ إلى الله أنفعُهم للناس وأحبُّ الأعمالِ إلى الله سُرُورٌ تُدْخِلُه على مسلم أو تَكْشِفُ عنه كُرْبَةً أو تَقْضِى عنه دَيْناً أو تَطْرُدُ عنه جُوعاً ولأَنْ أمشيَ مع أخي المسلمِ في حاجةٍ أحبُّ إِلَىَّ من أن أعتكفَ فى هذا المسجدِ شهرًا ومن كفَّ غضبَه سترَ اللهُ عورتَه ومن كَظَمَ غَيْظَه ولو شاء أن يُمْضِيَه أَمْضاه ملأ اللهُ قلبَه رِضًا يومَ القيامةِ.
ومن مشى مع أخيه المسلمِ فى حاجةٍ حتى تتهيأَ له أثبتَ اللهُ قدمَه يومَ تَزِلُّ الأقدامُ وإنَّ سُوءَ الخُلُق لَيُفْسِد العملَ كما يُفْسِدُ الخلُّ العسلَ) ( ).
وكان فرض الصلاة في مكة قبل الهجرة النبوية المباركة.
أما الصوم والزكاة فكان فرضهما في السنة الثانية للهجرة.
ويواظب المسلمون على أداء مناسك الحج، وهي سابقة تشريعاً وأداء لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى في خطاب لإبراهيم عليه السلام [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ) .
وورد في أسباب نزول قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا]( )، عن الإمام محمد الباقر : إن الوليد بن المغيرة كان يربي( )، في الجاهلية، وقد بقي له بقايا على ثقيف فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلم فنزلت الآية) ( )، وكان إسلام خالد بن الوليد بعد صلح الحديبية، والذي تم في شهر ذي القعدة السنة السادسة للهجرة النبوية الشريفة.
ومن الآيات في المقام أن خالد بن الوليد ونحوه صاروا بعد اسلامهم من قادة سرايا المسلمين ، ونالوا من الغنائم المال الكثير، وأصبح لهم عطاء مستمر من بيت المال.
وفيه درس وعبرة لعموم المسلمين والناس في التدبر والعمل بمضامين الآيات، وهو سبيل لترغيب الناس جميعاً في دخول الإسلام ، وإظهار ما يدل على المندوحة والسعة عند المسلمين والذي نالوه بالإيمان وطاعة لله .
كما في جواز لبس الحرير في ميدان المعركة إستثناء من حرمة لبسه للدلالة على الغنى الذي يتنعم به المسلمون، وإختيارهم الدفاع وطلبهم الشهادة حتى مع هذا الغنى لتوكيد صدق إيمانهم وبلوغهم مراتب اليقين بالإيمان وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الإعجاز الغيبي في السنة النبوية
قال تعالى [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ]( ).
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً رسولاً إلى الناس جميعاً ، فايده وعضده بوسائل وأسباب ملكوتية لا يقدر عليها إلا الله سبحانه منها :
الأول : الوحي ومصاحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] ( )أي ما تركك وشأنك بجعل أيدي المشركين تصلك ، فان قلت قد أصابت الجراحات النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، وكسرت أسنانه الأمامية ، والجواب إنه بعين الله ، وفيه حجة على الذين كفروا ، وهو بداية لزوال سلطانهم .
ولا أبغضك منذ أحبك واختارك للرسالة ، ولم يرد كل من لفظ [وَدَّعَكَ]ولفظ [قَلى] في القرآن إلا في هذه الآية .
ونقترح تأليف كتاب خاص في كل من :
الأول : الكلمات التي وردت مرة واحدة .
الثاني : الكلمات التي وردت مرتين في القرآن.
الثالث : الكلمات التي وردت ثلاث مرات في القرآن.
الرابع : الكلمة التي وردت مرتين أو ثلاثة أو أربعة في آية واحدة كما في لفظ أنهار بقوله تعالى [مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ]( ).
الخامس : دلالات هذا التكرار المتحد .
السادس : بيان مختصر لمعنى كل كلمة منها ودلالة إنفرادها.
وليس من كتاب إلى الآن يجمع هذه الكلمات وموضوعية السنة النبوية في تفسيرها وتأويلها .
والوحي نعمة تفضل الله عز وجل بها على الأنبياء من قبل أيضاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
الثاني : نزول آيات القرآن وقد انفرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلقيها بنعمة من الله ، لتبقى ثروة عظمى بيد المسلمين والأجيال المتعاقبة من الناس .
الثالث : ملكة الصبر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، وتحملهم الأذى ، قال تعالى وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.
الرابع : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام الأولى لأنها دفاع محض ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
ومن الإعجاز الغيبي في السنة النبوية وجوه منها :
الأول : إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن حدث شخصي قريب ، ولابد لهذا الإخبار من منافع خاصة وعامة ، وعن الإمام علي عليه السلام (بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا والزبير والمقداد ، فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ، فائتوني به ، فخرجنا حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا : أخرجي الكتاب .
قالت : ما معي كتاب .
قلنا : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب ، فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما هذا يا حاطب.
قال : لا تعجل عليّ يا رسول الله ، إني كنت امرأ ملصقاً من قريش ، ولم أكن من أنفسها ، وكان من معك من المهاجرين لهم : قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يداً يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : صدق)( ).
وعن سهل قال (التقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركون في بعض مغازيه فاقتتلوا، فمال كل قوم إلى عسكرهم، وفي المسلمين رجل لا يدع من المشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها فضربها بسيفه، فقيل: يا رسول الله ما أجزا منا أحد ما أجزأ فلان.
قال: إنه من أهل النار.
فقالوا: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار .
فقال رجل من القوم: لاتبعنه فإذا أسرع وأبطأ كنت معه، حتى جرح فاستعجل الموت فوضع نصاب سيفه بالارض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه.
فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله.
قال: وما ذاك .
فأخبره فقال : إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه من أهل النار، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وإنه من أهل الجنة)( ) .
الثاني : ما يتعلق بمستقبل الأيام والحوادث والوقائع .
الثالث : ما يخص الأيام الخوالي وأخبار الأمم السالفة ، وقصص الأنبياء السابقين .
الرابع : بيان أهوال يوم الحساب ، وفيه دعوة للتقوى ،والسلم المجتمعي، وسيادة الرأفة والرحمة بين الناس للفوز برحمة الله عز وجل .
وعن (جرير بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لا يرحم الله من لا يرحم الناس) ( ).
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ) ( ).
قانون المدار على عموم اللفظ
أسباب النزول يتعلق علم بالحوادث والوقائع التي تكون سبباً وطريقاً محضاً ومناسبة وقرينة حالية على نزول الآية بحيث أن تجريد الآية من أسباب نزولها لا ينقص من دلالاتها ومعانيها، وكثرة موارد الإنتفاع منها لأن الآية القرآنية تأتي على نحو العام الإستغراقي الأزماني الذي يسري على أفراد الزمان الطولية وإلى يوم القيامة.
والمدار في أحكام ودلالات الآية القرآنية على عموم اللفظ وليس سبب النزول وحده، وسواء جاء سبب النزول متحداً أو متعدداً فهو على وجوه:
الأول : أنه ضياء يكشف أسراراً من مضامين الآية القرآنية.
الثاني : العلم بسبب النزول جذب للقلوب والأسماع ، وكون موضوع الآية أعم من أسباب نزولها لا يعني إهمال علم أسباب النزول وما فيه من النكات العلمية وتثبيت منطوق ومفهوم وتأويل الآية.
الثالث : إنه مادة لتثبيت ألفاظ ومفاهيم الآية القرآنية في الوجود الذهني.
الرابع : إنه سبب لإستحضار الآية وأحكامها عند تجدد ذات السبب في الواقع العملي.
وهذا التجدد من الإعجاز الغيري للقرآن والأدلة على صدق نزوله من عند الله عز وجل، ومنها محق الباطل, والمحق والمحو الذي يلحق أهله في الدنيا، ليكون هذا المحق أمارة على العذاب الأليم الذي ينتظرهم إلا من أدركته التوبة لذا جاء القرآن بالبشارة بقوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
وهل تشمل التوبة الذي أصابته الفاقة ونزلت به الخسارة من الكسب الحرام بحيث أنه كان يصر على الغش ونحوه عندما كان غنياً، ولكن لما نزل به الفقر وذهبت ثروته لجأ إلى التوبة .
الجواب، نعم فالله عز وجل رؤوف رحيم، وهو الذي فتح باب التوبة للناس جميعاً، ورغّبهم بها، وحثهم عليها وعلى العمل الصالح، وهذا المقام ليس من مصاديق قوله تعالى[وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ]( ).
للتباين الموضوعي بين الإصابة بحال الفقر وبين حلول أوان الموت، ومن يصير فقيراً قد يكون غنياً، والتوبة من الطرق المباركة لنيل مراتب الغنى وكذا إجتناب أكل المال بالباطل .
وتحتمل التقوى وأثرها في سبل المغفرة وجوهاً:
الأول : التقوى طريق لنيل المغفرة، ونزول شآبيب الرحمة.
الثاني : إستقلال موضوع التقوى عن المغفرة، إذ أن طريق المغفرة الإستغفار.
الثالث : حاجة التقوى إلى ضميمة معها كالإستغفار.
الرابع : المغفرة فضل من الله عز وجل ليس لفعل العبد فيه موضوعية.
والصحيح هو الأول والرابع وقد يظن بالتعارض بينهما، ولكنها شبهة بدوية تزول بأدنى تأمل لتعدد سبل المغفرة والعفو، بفضل الله .
وكل فرد منها من مصاديق قوله تعالى [أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( )، الذي ليس له حد من جهة الكثرة في محو الذنوب والذي ينالهم العفو والمغفرة .
فالتقوى مفتاح المغفرة، لذا أمر الله عز وجل المسلمين بتقوى الله ليفوزوا بالمغفرة والرحمة من عند الله، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
وهل دخول الإسلام من تقوى الله، الجواب نعم، ليكون هذا الدخول سبباً لنيل المغفرة ونزول الرحمة الإلهية على المسلم ومن حوله فضلاً من الله عز وجل.
ولم يترك الله الناس وشأنهم يتلمسون سبل الهداية بتوظيف العقل والحواس، بل أنعم عليهم بالأنبياء والكتب السماوية لتكون وسائط جذب مباركة لرحمة الله، ونيل العفو والمغفرة منه تعالى، وتفضل وجعل المغفرة والرحمة يدنوان من العبد ويصيران قريبين منه من غير وسائط أرضية أو سماوية، بشرية أو ملكوتية ومع الوسائط ، لسعة فضل الله ، قال تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
فليس بين الناس ورحمة الله من برزخ، ولا يستلزم الفوز بالرحمة الإستعانة بالوسائط المباركة مع سموها وشرفها، وفي التنزيل[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ).
ومن مصاديق الإستعانة السعي للمغفرة والرحمة والفلاح، ليكون من رحمة الله في المقام تعدد مصاديق الرحمة، وكثرة سبلها، ومنها الأوامر والنواهي، وكل فرد منها رحمة مخصوصة ، ومناسبة كريمة لبلوغ المسلمين مراتب الفلاح والتوفيق.
وتلك آية في بديع الخلق والحجة على الناس في كثرة مصاديق الرحمة ، وترغيبهم بالنهل منها، فكل حادثة وواقعة تدعو إلى رحمة الله ، وإن لم تكن هناك وقائع حاضرة فإن الآيات الكونية بدائع خلق الإنسان تدعو بإلحاح للجوء إلى رحمة الله، قال سبحانه [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
من معاني حرف (أو)
ومن معاني (أو) :
الأول : الإبهام كما في قوله تعالى [وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
الثاني : التخيير ، قال تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ]( ).
الثالث : الترديد بين أمرين في الوقوع ، وهو أعم من التخيير ومن أمثلته قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ….] ( ) والترديد بين قتل أو موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الفراش .
الرابع : التعدد ، ومنه قوله تعالى [وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا..] ( ) إذ يقول المنافقون عن الصحابة إذا خرجوا في الأرض طلباً للتجارة أو في السرايا وقتلوا ، أنهم لو بقوا في المدينة ولم يخرجوا منها لما تعرضوا للقتل ، ومنه قوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( ).
وقيل (أو) هنا للإباحة ، وهذا الوجه والوجه الثالث أعلاه ، إضافة منّا لأقسام ووجوه حرف (أو ).
الخامس : حرف عطف لمطلق الجمع ، فهو كالواو .
السادس : حرف عطف بمعنى إلى أن ، كما في قوله تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ] ( ) أي إلى أن يتوب عليهم .
السادس : الشك كقولك عند الإستهلال ، رأيت الهلال أو كوكب الزهرة ، والتي تسمى نجمة المساء ، وهذا الشك مبطل للشهادة ، نعم تتحقق معه رؤية الهلال ، ومصداق قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ).
السابع : التخيير خاصة عند ورود المتعدد من الأمر أو الأمر والنهي أو الإباحة .
الثامن : الإباحة في طرفي (أو) في المعطوف والمعطوف عليه .
التاسع : حرف عطف يراد منه التفصيل ، كما في قوله تعالى [وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى…] ( ).
ولا يعني هذا التقسيم استقلال كل معنى بحرف (أو) حينما يأتي في الآية القرآنية أو الجملة ، فقد تجتمع عدة وجوه ومعان منها في لفظ واحد ، ليكون من معاني [أَوْ يَكْبِتَهُمْ] وجوه منها التعدد ومطلق الجمع في هلاك طائفة من الذين كفروا ونزول الكبت والحزن وشدة الغيظ .
ترى لماذا لم تقل الآية (ويكبتهم ) الجواب إرادة تعدد الوقائع التي يلقى فيها المشركون القتل والكبت .
فحتى إذا لم يقع قتال وقتل كما في معركة بدر وأحد ، فان المشركين في حال حنق وغيظ وكبت وهم عند أهليهم إذ يرون دخول الناس الإسلام ، وتوالي نزول الآيات ، ولبيان مسألة وهي أن المشركين في حال كبت وحزن وخزي قبل أن يخرجوا إلى معركة أحد ، واثناء المعركة وبعد إنقضائها وانسحابهم إلى مكة ، وحينما عادوا إلى مكة من معركة بدر حرّموا النياحة والبكاء على قتلاهم السبعين في بدر ، وعلى الأسرى السبعين حتى يأخذوا بثأرهم ، وهذا التحريم من الكبت العام الذي دخل كل بيت من بيوت مكة.
وذكرت الآية قطع طرف واحد من المشركين بقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا] والمراد طائفة وجماعة ، وهل كان المشركون أطرافاً أو طرفين قطع وأهلك الله أحدهما .
الجواب هو الأول ، ويدل عليه تعدد قبائل الذين قتلوا منهم ، وهو (24) قتيلاً كما عن ابن إسحاق الذي ذكر اسمائهم ( ).
وقال عروة تسعة عشر ، وقيل : ستة عشر رجلاً .
وفي معركة أحد (لم يؤسر من المشركين سوى أبى عزة الجمحى، وقد كان في الاسارى يوم بدر، فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا فدية واشترط عليه الا يقاتله، فلما أسر يوم أحد قال: يا محمد امنن على لبناتي، وأعاهد ألا أقاتلك.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أدعك تمسح عارضيك بمكة وتقول: خدعت محمدا مرتين) ( ).
ولا تختص أطراف الذين كفروا بالذين انسحبوا من معركة أحد بل يشمل كل الذين كفروا آنذاك حتى الذي لم يشارك في القتال ، ولم يحض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وليكون قطع الطرف هذا مقدمة لصلح الحديبية ، ورضا كفار قريش ومن والاهم به ، فقد صاروا كالطير الذي قصّ جناحه ، وعجزوا بسبب ظلمهم وغزوهم المدينة عن مواصلة قوافل التجارة بين مكة والشام ، ومكة واليمن وغيره .
قانون التقوى تدفع الضرر
من منافع التقوى في المعاملات على ميادين القتال أمور:
الأول : إنها واقية من تعدي الكفار على المسلمين.
الثاني : إنها سبب لبعث الفزع والخوف في قلوب الكفار ، ليكون من معاني قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، حنق وفزع الذين كفروا بسبب تقوى وورع المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
الثالث : التقوى أمن من كيد ومكر الكفار في حال الحرب والسلم، قال تعالى[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] ( ).
الرابع : التقوى سبب لوقوع الوهن والضعف والنقص في صفوف الكفار لأنها طريق لجذب الناس للإسلام، ودخول أي فرد للإسلام يسبب الضعف في جبهة الكفر والضلالة ، وهل من التقوى صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معارك الإسلام الأولى الدفاعية ، الجواب نعم ، إذ أدرك الناس جميعاً أن المشركين هم الغزاة.
الخامس : التقوى وسيلة لبلوغ المسلمين مراتب الرفعة والعز.
السادس : يتخذ المسلمون التقوى بلغة لتحقيق الغايات الحميدة.
السابع : الملازمة بين التقوى والقوة والمنعة ، قال تعالى[وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]( ).
الثامن : لقد أنزل الله عز وجل الملائكة لنصرة المسلمين يوم بدر وأحد والخندق وحنين، ثم جاءت آيات الأحكام لتتجلى حقيقة وهي أن هذا النزول رحمة للناس جميعاً، ووسيلة سماوية مباركة لصلاح أهل الأرض، وتنزه الناس في المعاملات من أكل المال بالباطل ، وهذا التنزه من مصاديق السلم المجتمعي .
و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس إنه ليس من شيء يقربكم من الجنة ويبعدكم من النار إلا قد أمرتكم به ، وإنه ليس شيء يقربكم من النار ويبعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه ، وأن الروح الأمين نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله واجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعاصي الله ، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته)( ).
فان قلت لم يمنع قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، الربا في المعاملات، وهو موجود في كل زمان، والجواب من جهات :
الأولى : جاء الخطاب في الآية للمسلمين والمسلمات، ويدل بالدلالة الإلتزامية على وجود الربا في المجتمعات وأنه معروف باسمه ومسماه.
الثانية : إمتناع المسلمين عن الربا دعوة للناس للتدبر في أضراره الظاهرة والخفية.
الثالثة : إجتناب المسلمين الربا طاعة لله عز وجل توكيد للدعوة إلى الله، وتذكير بعالم الآخرة وباب لنيل الرحمة والفوز بالفلاح ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الرابعة : موضوع الربا من أفراد الصراع بين الخير والشر، وتتجلى في هذه الآية معاني إنتصار الإيمان وزحزحة الشر عن ميادين الحجة والبرهان.
الخامسة : للمسلمين مجتمعاتهم وأسواقهم، وهم على صلة مع أهل الكتاب وغيرهم في العقود والمعاملات والتبادل التجاري، وفي لزوم إمتناع المسلمين عن الربا أخذاً وإعطاءً مسائل :
الأولى : تنزيه الأسواق.
الثانية : إنه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
الثالثة : فيه شاهد للآثار غير المتناهية لأضرار الربا.
الرابعة : إنه وسيلة للعصمة من المنكر، والزجر عنه.
الخامسة : إنه مصداق للهداية، وأسباب التقوى، قال تعالى بخصوص القرآن[ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
التاسع : لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وإختبار، وتفضل بتقريب الناس إلى منازل الفلاح، بآيات الفرائض وآيات الأحكام والسنن ، وفيه أمور :
الأول : بعث الأمن والسكينة في نفوس المسلمين ، ومن خصائص الخليفة في الأرض أن يرزقه الله الطمأنينة ، قال تعالى [جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن خصائص التنزيل أن كل آية توقظ البصيرة ، وتبعث على العمل الصالح وتكون حصانة من الاكتئاب والإنقياد للهموم وهول المصائب.
و(عن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “اللهم، إني أعوذ بك من العجز والكَسَل والهرم، والجُبن والبخل وعذاب القبر. اللهم، آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم، إني أعوذ بك من قَلْب لا يخشع، ومن نَفْس لا تشبع، وعِلْم لا ينفع، ودعوة لا يستجاب لها”. قال زيد: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمناهن ونحن نعلمكوهن)( ).
الثاني : دعوة المسلمين للشكر لله على نعمة الفلاح.
الثالث : ترغيب الناس بدخول الإسلام، وتجلي حقيقة وهي أن الإسلام خير محض ونفع دائم.
ليكون من معاني قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، ومن مصاديق السلم العهد والميثاق ووجوب تعاهد المسلمين للأمن والسلم في العالم والإمتناع عن الإرهاب .
قانون المدد خير محض
من مصاديق المدد أمور :
الأول : إجتماع البشارة مع الإيمان .
الثاني : مجئ البشارة للمؤمنين خاصة .
الثالث : معها يأتي الأمر بالواجبات ، والنهي عن السيئات.
الرابع : انتفاع الناس جميعاً من البشارة والمدد الإلهي .
فان قلت قد اختص الله عز وجل المسلمين بالبشارة بالنصر على الغزاة المشركين لقوله تعالى [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( ) .
ولم يرد لفظ (بشرى لكم) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، ولماذا جاء النهي عن الربا بعد البشارة بأربع آيات [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
ولم تبق البشارة وحدها من غير تكليف باجتناب الربح الزائد في معاملة مخصوصة، والجواب من وجوه:
الأول : جاء النهي في طول البشارة، وفيه تثبيت لمضامينها، وإمتداد لموضوعها.
الثاني : إنه جزء عملي لإستدامة منافع البشارة بالتقيد بالأوامر والنواهي.
الثالث : جعل الله الحياة الدنيا (دار التكليف) وفاز المسلمون بتوجه التكاليف لهم بلغة الإكرام والتشريف التي يدل عليها قوله تعالى في أول الآية أعلاه [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ومنه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الرابع : البشارة والخطاب العام بصفة الإيمان مدد وعون لإمتثال المسلمين للنهي عن المعاملات الباطلة وعن الظلم والتعدي .
ومع توالي فضل الله عز وجل على المسلمين يأتي التحذير والإنذار والزجر العام عن التعدي ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
والآية أعلاه من سورة المائدة وهي آخر سور القرآن نزولاً ، لبيان وجوب شكر المسلمين لله عز وجل ببناء مفاهيم الإيمان والسلم ونشر الأمن.
فمن معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، أن هذه الخلافة أمانة وعهد ، ومنها تعاهد النبوة وأحكام التنزيل ، وعدم محاربة الأنبياء ، خاصة وأن النبي يأتي بالمعجزة التي تؤكد صدق نبوته ، وإذ جاء الأنبياء بالمعجزات الحسية كسفينة نوح ، وعصا صالح ، وعصا موسى عليه السلام ، فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالمعجزة الحسية والعقلية.
ومن خصائص المسلمين تعضيد البشارة بالمناجاة فيما بينهم للتعفف والتنزه عن الباطل.
وتلك آية في باب التكاليف فان الله عز وجل يجعلها مقرونة بأسباب العون والرشاد والهداية.
الخامس : اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، فكما تكون بشارة المدد الملكوتي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فهي بشارة للناس جميعاً ، وفيها استئصال لمفاهيم الكفر وقطع لسلطان كفار قريش.
بحث أصولي
يرد إصطلاح الشبهة الحكمية ويطلق على الشكوك التي تقع في موارد الأصول العملية، أو الأحكام الظاهرية ويقع الشك في الشبهة الحكمية عند أمور:
الأول : غياب النص.
الثاني : إجمال النص وعدم بيانه.
الثالث : تعارض النصوص، بأن يأتي نصان أو أكثر يظهر نوع تعارض بينهما.
فإذا شك المكلف في وجوب السواك ، أو عدمه فإنه من الشبهة الحكمية في باب البراءة، ولو شك في طهارة العصير العنبي بعد الغليان فيكون من الشبهة الحكمية في باب الطهارة.
(فقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي: عليك بالسواك عند كل وضوء)، ولكنه محمول على الإستحباب إجماعاً (لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء ) ( ).
والأصل فيه قاعدة الطهارة ولابد من الحكم التكليفي بخصوص الشبهة الحكمية من الفحص والسؤال والتفقه لعدم جواز الإقتحام في الشبهات الحكمية .
ويصح الرجوع إلى الأصل العملي كأصالة البراءة أو أصالة الطهارة ولو كانت الشبهة في المعاملة التي يشك أنها حرام ، وقيل يحكم بالفساد لأصالة عدم النقل والإنتقال وأن قوله تعالى[أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]( )، غير شامل للمقام .
ولكن لو جرى العقد فيحكم بصحة العقد لأصالة الصحة إلا أن يتبين الخلاف، وينكشف البطلان، ولكنه ملحق بالتجرئ، ومنهم من جعل الشك في المعاملة الربوية من الشبهة الموضوعية، والحكم فيها أخف من الحكمية.
والشبهة الموضوعية هي الشك المتعلق بالموضوع الخارجي، والإشتباه في الأمور الخارجية للموضوع مما ليس له صلة بالشريعة.
كما لو شك في مائع هل هو خل أم خمر، فيرجع فيه إلى أهل الخبرة لمعرفته، والإجماع على عدم لزوم السؤال والفحص في الشبهة الموضوعية، ويحكم بصحة العقد إلا إذا ظهر الخلاف.
إن إستحضار حرمة الغش والتدليس في المعاملات والأسواق تنمية للقدرات العقلية عند المسلمين ، ومناسبة لجعلهم أكثر فطنة وإلتفاتاً إلى أمور الدين والدنيا ، لذا نالوا منزلة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، ومن خصائص النبوة والحاجة إليها صيرورة المؤمنين في كل زمان على حيطة دائمة من الحرام في المعاملات، ليكون مقدمة للحذر من المعاملات الفاسدة مطلقاً، وسبباً للحرص على إجتناب أكل أموال الناس بالباطل.
و(عن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عُجرَة : أعاذك الله من إمارة السفهاء ، قال : وما إمارة السفهاء ، قال : أمراء يكونون من بعدي، لا يهتدون بهداي، ولا يستَنّونَ بسنتي، فمن صَدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يَردُون على حوضي. ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يُعِنهم على ظلمهم، فأولئك مني وأنا منهم، وسيردون على حوضي. يا كعب بن عُجرَة، الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، والصلاة قربان ،أو قال : برهان ،يا كعبَ بنَ عجرَة، إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سُحْت، النار أولى به. يا كعب، الناس غَاديان، فمبتاعُ نفسَه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها)( ).
قانون [ كُتِبَ عَلَيْكُمْ]سلام متجدد
من إعجاز القرآن مجئ الأمر والغرض فيه بعنوان ليتلقى المسلمون الصيغة الخبرية للأمر بالإمتثال لإفادة لفظ [كُتِبَ عَلَيْكُمْ] القطع والحتم ، ولابد من الوقوع والتحقق ، ومنه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
(وقال ابن جريج قلت لعطاء : قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ}( ) أواجب الغزو على الناس من أجلها أو كتب على أولئك حينئذ .
وأجرى بعضهم الآية على ظاهرها فقال : الغزو فرض واجب على المسلمين كلّهم إلى قيام الساعة)( ).
وقول عطاء وتأويله للآية ليس بحجة على المسلمين ، ولم يرد هذا المعنى من التفسير عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنها تدل على وجوب الغزو .
ولا يفيد ظاهر الآية وجوب الغزو على المسلمين كلهم إلى يوم القيامة.
ويدل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ( ) على بطلان القول بهذا الوجوب ، إذ أن السلم نقيض الغزو ، وعدم دلالة ظاهر آية القتال إخبارها على أن المسلمين يكرهون القتال ، ولا يوجب الله عز وجل على كل المسلمين ما فيه كراهة وشدة وأذى عليهم .
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاث من أصل الإيمان : الكفّ عمّن قال : لا إله إلاّ الله ما لم يره بذنب، ولا يخرجه من الاسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أُمتي الدّجال لا يبطنه ضنّ ولا شك، والإيمان بالأقدار)( ).
والمراد من الجهاد في الحديث أعم من القتال والغزو ، ومن الجهاد أداء الفرائض ، والسعي في مرضاة الله.
وقد ورد قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] ( )وليس فيه كره ، إنما هو خير محض بدليل قوله تعالى [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ] ( ).
وورد لفظ [كُتِبَ عَلَيْكُمْ] خمس مرات في القرآن ، ومن إعجاز نظم القرآن أنها جميعاً في سورة واحدة هي سورة البقرة ، والآيات هي حسب ترتيب المصحف :
الأولى :قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
الثانية : قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( ).
الثالثة : قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الرابعة : قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الخامسة : قال تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ]( ).
تسمية سورة البقرة (كتب عليكم)
هل يمكن تسمية سورة البقرة بسورة [كُتِبَ عَلَيْكُمْ] الجواب إنه ملحق بالإجتهاد في مقابل النص ، فقد ورد النص عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتسميتها بسورة البقرة ، ومنه ما ورد عن (عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته يقول: ” تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة ” .
قال: ثم سكت ساعة، ثم قال: ” تعلموا سورة البقرة، وآل عمران، فإنهما الزهراوان، يُظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو فرْقان من طير صَوافّ، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟
فيقول: ما أعرفك. فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة.
فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين، لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟
فيقال: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال: اقرأ واصعد في دَرَج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هَذًّا كان أو ترتيلا) ( ).
و(الزهراوان: المنيران، والغياية: ما أظلك من فوقك.
والفِرْقُ: القطعة من الشيء، والصواف: المصطفة المتضامة. والبطلة السحرة، ومعنى ” لا تستطيعها : أي: لا يمكنهم حفظها، وقيل: لا تستطيع النفوذ في قارئها، والله أعلم.) ( ).
وقد يقال لا يدل تعدد الاسم على أنه من الإجتهاد في مقابل النص ، إنما لبيان تعدد المعاني وكأنه ملحق بقاعدة دلالة زيادة المبنى على زيادة المعنى بزيادة وزن أو حرف في الفعل للتشديد أو الضبط والتأكيد والمبالغة .
لبيان الصلة والعلاقة العقلية بين اللفظ والمعنى ، ولا تنخرم هذه القاعدة ببعض الأفراد والنوادر اللغوية في البناء وعلم الصرف ، ولكن منافع تسمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسورة أكثر من أن تحصى ، ومنها أنها عون على معرفة السورة وحفظ بعض آياتها ، وتعاهد ترتيب المصحف ، ومنع الإختلاف في الاسم .
كما في قوله تعالى [وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ] ( ) فمعنى غلّقت أي أحكمت إغلاق الأبواب من أجل عدم هروبه ، وفيه أمارة على أن يوسف كان ممتنعا عن الفاحشة ، وأدركت حقيقة وهي إن راودته فانه يفر ويهرب منها .
وهل يمكن القطع بتنزه يوسف عليه السلام عن الهّم بالفاحشة بقوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] ( ) بقوله تعالى [وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ] الجواب نعم .
فلو كانت مطمئنة له في مراودتها ورضاه بها لما اضطرت لغلق الأبواب باحكام .
وهل تدل عصمة يوسف عليه السلام عن الفاحشة من السلم ، الجواب نعم ، بلحاظ كبرى كلية وهي أن فعل الفاحشة فتنة للذات والغير .
لبيان قانون وهو إمتناع الأنبياء عن مقدمات الفتنة ، ليكون من باب الأولوية حرصهم على إجتناب مقدمات القتال والحرب .
وقال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ) ومن قصص الأنبياء تحملهم الأذى في سبيل الله ، وإختيارهم الصبر والتحمل ، فان قلت هل من تباين موضوعي بين سيرة الأنبياء وآيات القتال في القرآن ، لأن مدار التكليف للمسلمين على ما ورد في القرآن ، وليس على سيرة الأنبياء ، والجواب ليس من تباين في المقام ، فقد قاتل عدد من الأنبياء دفاعاً منهم موسى عليه السلام وداود والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
وإن قيل إنما غلقت الأبواب خشية الداخل من الخارج ، وهو قول صحيح ولا يتعارض مع خشيتها من إمتناع يوسف ولإرادتها بعث الطمأنينة في نفس يوسف وإزالة الخوف والرهبة من نفسه ، ولم تعلم أن الله عز وجل قد عصمه من الفاحشة ، ومطلق المعاصي ، وأن ذات الفاحشة منصرفة عنه لقوله تعالى [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ] ( ).
قانون خزي مشركي قريش دعوة للسلم
جاء إنقلاب وهزيمة قريش في معركة بدر وأحد بحالة ظاهرة من الخزي ومتعقبة لهلاك طائفة منهم.
فإن قيل هناك تباين في كيفية إنتهاء معركة بدر وأحد، إذ كانت الهزيمة جلية ظاهرة على الكفار يوم بدر، بخلاف أحد.
والجواب هذا صحيح فالهزيمة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب عديدة وأن هزيمة الكفار يوم بدر كانت أشد إلا أن إنسحاب قريش يوم أحد لا يقل عنه في مفاهيم الهزيمة من وجوه :
الأول: إضطرار الكفار إلى الإنسحاب من المعركة يوم أحد، وإبتداؤهم بالإنسحاب (قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ نَادَى أَبُو سُفْيَانَ : إنّهُ قَدْ كَانَ فِي قَتْلَاكُمْ مُثُلٌ وَاَللّهِ مَا رَضِيت ، وَمَا سَخِطْت ، وَمَا نَهَيْتُ وَمَا أَمَرْت .
وَلَمّا انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ نَادَى : إنّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْقَابِلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِرَجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ قُلْ نَعَمْ هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدٌ) ( ).
الثاني: إنسحاب قريش من معركة أحد توكيد لعجزهم عن مواجهة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وعلى فرض أن قريشاً أخذت على حين غفلة يوم بدر، فإنها يوم أحد جاءت بخيلها وخيلائها.
الثالث: كثرة جيش قريش يوم أحد، إذ جاءوا بثلاثة أضعاف عددهم يوم بدر.
وفي إنقلاب الكفار خائبين وجوه :
الأول: الإنقلاب والهزيمة نتيجة لهلاك عدد من رؤساء الكفر.
الثاني: الملازمة بين هلاك طائفة من رؤساء الكفر وهزيمة الباقين.
فإن قلت لا دليل على الملازمة.
وربما قُتل قائد الجيش وعدد من زعمائه، فأخذ الراية بعض المقاتلين وثبت الجنود في المعركة وفيه شواهد كثيرة في تأريخ الجيوش الإسلامية.
والجواب إنه قياس مع الفارق لأن المسلمين يقاتلون دفاعاً في سبيل الله ويتوكلون عليه سبحانه، ويعشقون الشهادة ، أما الكفار فإن الفزع والخوف يملأ قلوبهم، ويدركون إنعدام الرشد في الغاية من قتالهم ، قال تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ]( ).
الثالث: عدم وجود صلة وترابط بين هلاك فريق وطائفة من الكفار بقوله تعالى[لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ] ( ) وبين هزيمة الباقين خائبين مندحرين.
الرابع: هلاك طائفة من الكفار المعتدين مقدمة لهزيمة وإنقلاب الباقين بخيبة.
وكل الوجوه أعلاه صحيحة بإستثناء الوجه الثالث، وفيها آية من اللطف والفضل الإلهي على عموم المسلمين في الأجيال المتعاقبة والناس جميعاً ، وحجة عليهم في لزوم التقيد بالنواهي التي نزلت من السماء ، ومنها حرمة الظلم والتعدي ، قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ).
قانون صرف شرور المشركين
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وصرف عنهم أعداءهم، ووعد النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالإنتقام من الكفار الذين لم يتداركوا أمرهم بالتوبة،وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، بتقريب أن عزة المؤمنين تأتي بفضل الله لهم بالذات وأسباب المنعة والقوة لعموم المسلمين، وبالعرض بما يصيب الكفار من الضعف والوهن.
فقد يبقى المسلمون بذات المرتبة من القوة ولكنهم في الواقع يصبحون أكثر قوة من الأمس بسبب ما يلحق الكفار من الوهن، وهو من مصاديق آية السياق وقوله تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ]( ).
إذ يتفضل الله عز وجل ويجعل الكفار عاجزين عن التعدي على المسلمين وثغورهم، ويترشح عنه ضعف قدرتهم على الجدال والإحتجاج والمغالطة، والتخلف عن تحريض الناس على الإسلام والمسلمين، وهو من مصاديق الخزي الذي يلحق الكفار ومقدمة للنصر عليهم، قال تعالى[فَأَذَاقَهُمْ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
وقد يكون فعل منهي عنه أمراً شائعاً بين الناس بحيث يشق ويصعب على المسلمين الإمتناع عن المعاملة معهم بالصيغ السائدة، كما في تعاطي قريش وثقيف الربا ، فجاء قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) ليخبر بأن الله عز وجل حينما نهى المسلمين عن الربا فإنه سبحانه يزيل الموانع التي تحول دون تقيدهم بالنهي.
ليكون تنزه المسلمين عن الربا تام العلة بوجود المقتضي وفقد المانع، فالمقتضي هو الآية أعلاه ، وما فيها من النهي الذي يفيد الحرمة، والدلالة على الإثم لمن أتى الربا وأخذ الربح الزائد على القرض.
وفي التباين بين حال الكفار من الهلاك والكبت والخسارة، وبين حال المسلمين من العز وعلو الكعب معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشاهد على صدق نبوته، إنه باب جديد من الإعجاز على وجوه:
الأول : حال المسلمين وإنتقالهم على نحو دفعي من الضعف والفقر إلى القوة والغنى.
الثاني : حال الكفار، وما أصابهم من الذل والهوان بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقيامهم بتجهيز الجيوش عليه وعلى أهل بيته وأصحابه.
ويتجلى الأمر في مفهوم قوله تعالى[لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )، إذ أن نصر الله للمسلمين ليس قضية عين، وموضوعاً في واقعة خاصاً بواقعة بدر، فآثاره متجددة ونسبة النصر في المعركة إلى الله عز وجل من عمومات قوله تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ]، وهو من المقدمات العقلية لإجتناب المسلمين للظلم طاعة لله عز وجل.
الثالث : إلتفات الناس عامة إلى معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتناقل الركبان لها، ودخول أحاديثها إلى الخدور فلا غرابة أن تجد بعض العوائل تدخل الإسلام قبل رب الأسرة.
وصحيح أن الأمر يتعلق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه ليس من عمومات قوله تعالى[لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ] ( )، وفيه وجوه :
الأول : ذات المعجزات وإلتفات الناس إليها وتسليمهم بصدقها ودلالتها على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من فضل الله ورحمة الله ، وعمومات قوله تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] ( ).
الثاني : ليس من تعارض بين كون الآية من عند الله، وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله، وقيامه بالتبليغ خير قيام، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] ( ).
الثالث : في الوجه الثالث أعلاه بيان لجزء من الأثر الحسن المترتب على معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من اللطف الإلهي بتقريب الناس لمنازل الإيمان ، ووسيلة مباركة لتثبيت المعجزات في الوجود الذهني.
الرابع : إنه معجزة إضافية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يأتي بالمعجزة العقلية والحسية، ولكن الأثر المترتب على كل منهما، وعليهما معاً مجتمعين متصل، ومما يتصف به سرعة إنتشاره بين الناس وظهور الإستجابة وأمارات التصديق منهم، الأمر الذي يكون مناسبة لحث المسلمين على التقيد بالوظائف العبادية، ومنها أمور:
الأول : وجوب طاعة لله عز وجل في السراء والضراء ، وهل تصرف هذه الطاعة شرور المشركين ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز واللطف الإلهي في حياة وأنماط سلوك الناس ، قال تعالى [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ]( ).
الثاني : تطهير الأموال ، قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثالث : تزكية النفس بالصلاح والتقوى.
الرابع : التنزه عن الباطل، وهذا التنزه من فضل الله عز وجل على المسلمين.
الخامس : بيان حقائق وهي:
الأولى : دخول الناس الإسلام نعمة من الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وغيرهم، قال تعالى[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] ( ).
الثانية : دعوة المســـــلمين للتوكل على الله عز وجل الذي هداهم للإيمـان، والذي بيده مقـاليد الأمور، وحثهم على إجتناب الظلم لأن الله عز وجل منع منه، وهو سبحانه الذي يرزق المسلمين رزقاً مباركاً خالياً من الضرر والإضرار بالنفس والناس .
الثالثة : إن الله عز وجل يثّبت المسلمين في منازل الإيمان، وهو من مصاديق قوله تعالى[لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ] ( ) .
ليكون النفي في الآية أعلاه وعداً كريماً من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببقاء المسلمين على شريعته في حياته، وبعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى بلحاظ أن مضامين ودلالات الآية القرآنية باقية إلى يوم القيامة، ومنه تمسكهم وعملهم بأحكام آيات القرآن .
قانون التقوى فقاهة
جاءت آيات القرآن عوناً للمسلمين للتفقه في الدين ، والتقيد بتقوى الله، لما فيها من النفع العظيم ، وهي سبيل العفو ، والفوز بالمغفرة ،والله هو الذي يغفر الذنوب ، قال تعالى[وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ]( ).
وفي الآية أعلاه أمور:
الأول: الزجر عن الغلو بالأنبياء، لحصر مغفرة ذنوب العباد جميعاً بالله عز وجل ، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعده الأمة [لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا]( ).
الثاني: في الآية دليل على صـــدق نزول القـــرآن من عند الله عز وجل.
الثالث: البعث على العمل بمضامين آيات التنزيل ، والأمر بتقوى الله والخشية منه.
الرابع : الترغيب بالتقوى وتعاهد سننها ، قال تعالى [يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ] ( ).
ومن يرجو أحداً يتقيه رجاء نواله، ومن يخاف عقاب من هو أعلى منه يخشاه ويجتنب ما يكره.
فجـــاءت الآيات بوجــــوب تحلي النــاس جميعاً بالتقوى ، والخشية من الله عز وجل لتشمل التقوى السلطان والرعية، والسيد والعبد، والرئيس والمرؤوس، والمتبوع والتابع، ورب العمل والعاملين عنده ليكون عموم التقوى هذا سبباً لنشر معاني المودة بين الناس، وواقية من الغرور والإستكبار ، وهو سور الموجبة الكلية العقائدي الذي يفيد شمول الناس كلهم ، والمراد من الكلية في الإصطلاح هنا إرادة الجميع من جهة الكم في مقابل الجزئية ، والموجبة خاصة بالكيف في مقابل السالبة ، ومن ألفاظ هذا السور :
الأول : كل .
الثاني : جميع .
الثالث : كافة .
الرابع : عامة .
الخامس : قاطبة .
ووردت الثلاث الأولى أعلاه في القرآن منها لفظ [كَافَّةً] إذ وردت خمس مرات في القرآن منها مرتان في قوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ) .
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ) أن قتال المسلمين دفاع وضرورة وحاجة عندما يجتمع المشركون على قتالهم كما في معركة بدر وأحد والخندق ، وأن الأصل هو السلم ونبذ الحرب والقتال .
وقال الطبرسي (أصل الاتقاء في اللغة الحجز بين الشيئين يقال اتقى السيف بالترس و يقال اتقوا الغريم بحقه)( )، ولكن معناه أعم فيشمل إتقاء الذات من الغير .
والبرزخ بين شيئين يفيد التعدد، والمغايرة، وفيه ثلاثة أطراف:
الأول : ما يتقى منه.
الثاني : البرزخ والواقية.
الثالث : ما يوقى ويصان, (واتقوا الله)( ) .
وقد يكون موضوع التقية من طرفين :
الأول : المتقي.
الثاني : المتقى منه، إذ يخشى الإنسان ربّ العالمين ، ويجتنب معصيته ، ترى ما هي النسبة بين التقوى والسلم ، المختار أنها نسبة العموم والخصوص المطلق ، وأن السلم فرع وجزء من التقوى ، ويكون السلم من مصاديق قوله تعالى [إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
والتقوى مرتبة سامية ، وفقاهة في الدين ، وواقية من إتباع خطوات الشيطان، ومن غلبة النفس الغضبية والشهوية .
ويقال (وتَوَقَّى واتَّقى بمعنى وقد توَقَّيْتُ واتَّقَيْتُ الشيء وتَقَيْتُه أَتَّقِيه وأَتْقِيه تُقًى وتَقِيَّةً وتِقاء حَذِرْتُه الأَخيرة عن اللحياني والاسم التَّقْوى)( ).
وهل يمكن القول بوجود برزخ وطرف ثالث في قوله تعالى(واتقوا الله) وهو عقل الإنسان ومرتبة الإيمان اللتان تزجران المسلم عن الفساد .
الجواب لا، لأنه من التكلف، والتفصيل الذي لا أصل له، بلحاظ أن العقل جزء من الإنسان وأن التكاليف وردت للإنسان متحداً عقلاً ونفساً وجوانح وجوارح، وهو من عمومات قوله تعالى[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
ويأتي الثواب للإنسان روحاً وبدناً ، وكذا بالنسبة للعقاب ، قال تعالى [كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا]( )، لقد جعل الله عز وجل القرآن مدرسة الفقاهة ، ووسيلة التعلم وكسب المعارف .
وتدل آيات القرآن على إنتفاء البرزخ والوسط بين المغفرة والعذاب يوم القيامة ، وأن الإنسان إما إلى النعيم الدائم في الجنة أو العذاب الأليم في النار .
ولا يعلم ما يصرف من الفساد والإقتتال بالتقوى إلا الله عز وجل سواء إتصاف الطرفين كالمتبايعين بالتقوى والخشية من الله عز وجل أو أحدهما .
أو مبادرة طرف ثالث غيرهما ، والذي يكون من جهات :
الأولى : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثانية : الشفاعة عند أحد الطرفين ، قال تعالى [مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا] ( ).
الثالثة : النصح والإرشاد للتحلي بالتقوى والخشية من الله .
الرابعة : التبرع والبذل لفك الخصومة .
الخامسة : سعي المحسنين في مسالك الخير والصلح بين الناس وبذل الوسع في الوعظ والإرشاد ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به ) .
فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث : إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه)( ).
كم عمر النبي محمد (ص)
لقد كان منهاج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التوجه إلى البيت الحرام بعد الهجرة على جهات متعاقبة :
الأولى : لقد توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وألف وأربعمائة من أصحابه في شهر ذي القعدة من السنة السادسة لأداء العمرة ، فمنعتهم قريش من دخول مكة ، وكان صلح الحديبية ، لينزل قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) لبيان قانون وهو أن الصلح مع المشركين من السلم ، وقانون : في الصلح فتح .
فان قلت ليس كل صلح فتح ، والجواب هذا صحيح ، ولكنه صلح النبوة ومعجزاتها مع المشركين ، وفيه تثبيت لمبادئ الإيمان وفضح لمفاهيم الشرك ، وخزي للذين كفروا ، وهو من عمومات قوله تعالى [لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ] ( ).
الثانية : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة في شهر ذي القعدة من السنة السابعة ، وتسمى على وجوه :
الأول : عمرة القضاء لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أحصروا في صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة ، ولم يستطيعوا أداء العمرة ، وتم الصلح على أن يعودوا في العام التالي للعمرة .
الثاني : عمرة القصاص( ) : لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه اقتصوا من المشركين ، وجاءوا إلى البيت معتمرين ، ولعمومات قوله تعالى [وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ] ( ).
الثالث : عمرة المقاضاة : لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاضى بها قريشاً .
الرابع : العمرة التي صده عنها المشركون عن البيت من الحديبية عن أنس ( ).
الثالثة : دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فتح مكة في اليوم العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة بعد أن نقضت قريش بنود صلح الحديبية ، إذ رفدت قريش بالسلاح حلفاءهم من بني بكر على قبيلة خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقاتل رجال من قريش مع بني الديل من كنانة ليلاً مستخفين .
ذكر ابن سعد منهم كلاً من :
أولاً : صفوان بن أمية .
ثانياً : حويطب بن عبد العزى .
ثالثاً : مكرز بن حفص بن الأخيف ( ).
فتقهقرت خزاعة إلى الحرم التجاءّ ، ورجاء صرف القتال ، فقال بنو بكر لرئيسهم (يَا نَوْفَلُ إنّا قَدْ دَخَلْنَا الْحَرَمَ ، إلَهَكَ إلَهَكَ فَقَالَ كَلِمَةً عَظِيمَةً لَا إلَهَ لَهُ الْيَوْمَ يَا بَنِي بَكْرٍ أَصِيبُوا ثَأْرَكُمْ فَلَعَمْرِي إنّكُمْ لَتَسْرِقُونَ فِي الْحَرَمِ) ( ).
وكلامه لا يخلو من مغالطة ، فالسرقة شخصية ، وهي أدنى بمراتب من القتال داخل الحرم عن ظلم وتعد .
فخرجت خزاعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشكوا له الأمر، وسقوط القتلى ، فكان فتح مكة رحمة بالناس وتنزيهاً للبيت الحرام،وإعادة لهيبته .
وليس في فتح مكة عمرة ، لذا قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي لفتح مكة خطيباً بحضور عشرة آلاف من أصحابه وأهل مكة (فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجّدَهُ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ يَا أَيّهَا النّاسُ إنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يَحِلّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا أَوْ يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ .
فَقُولُوا : إنّ اللّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنّمَا حَلّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ فَلْيُبَلّغْ الشّاهِدُ الْغَائِبَ) ( ).
لقد منعت قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من دخول مكة في صلح الحديبية ، وعند عمرة القضاء خرجوا من مكة حين دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتغيب أكثر رجالاتها عن مكة مدة الأيام الثلاثة التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة بانفة واستكبار من كفار قريش ، أما في فتح مكة فقد حضروا خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودخلوا الإسلام.
وفي المقام مسألتان :
الأولى : هل كانت قريش تعلم بتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مدينة يثرب على نحو الخصوص بلحاظ تكرار بيعة العقبة ، وإظهار بعض الخزرج لقريش تصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لابد من دراسة واستقراء الأخبار في المقام ، والأرجح أنه كانوا يعلمون هذا لسبق هجرة عدد من الصحابة إلى يثرب قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم (أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي اسمه عبد الله بن عبد الأسد. وأمه برة بنت عبد المطلب بن هاشم) ( ) وهو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأولاد عمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فأحد عشر رجلاً وثلاث بنات عرفن، أما الرجال:
أولاً : عامر بن البيضاء بن كريز بن ربيعة بن عبد شمس،.
ثانياً : عبد الله وزهير ابنا عاتكة بن أبي أمية المخزومي.
ثالثاً: أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي.
رابعاً : عبد الله وعبيد الله والبصير الملقب أبا أحمد – بنو أميمة بنت عبد المطلب من جحش بن رئاب.
خامساً : طليب بن أروى من عمير بن وهب المخزومي،.
سادساً : الزبير السائب .
سابعاً : عبد الكعبة بنو صفية من العوام بن خويلد، كلهم أسلموا وثبتوا على الإسلام إلا عبيد الله بن جحش، كما تقدم؛ فإنه ارتد وتنصر بالحبشة ومات بها) .
وأراد أبو سلمة أخذ زوجته وولده سلمة معه فمناته قريش .
الثانية : هل تدرك قريش انتشار الإسلام بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
قانون قطع طرف الكفار
فصحيح أن الحديبية تبعد عن المسجد الحرام نحو (24) كم وعن حدود الحرم المجاورة لها نحو (2)كم وهناك جبال ومرتفعات بينهما إلا أن أصوات التلبية تحملها وفود وجنود قريش ، ووفد الحاج والركبان الذين يمرون على الحديبية ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) بالإضافة إلى قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بارسال عثمان رسولاً إلى أهل مكة ، ولم يدخلها إلا بالتكبير والتهليل ولعله من أسباب اشاعة نبأ قتله.
وبُني مسجد في منطقة الحديبية وإن طمست معالمه في هذا الزمان ، وبني قريباً منه حديثاً مسجد يسمى مسجد الشميسي ، ويزوره المعتمرون وبعض الحجاج ظناً منهم أنه مسجد الحديبية ، ولا مانع من هذا الظن لأنه قريب من ذات الموضع ، وللتبرك ، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الألف والأربعمائة كانوا منتشرين في الموضع والمحل .
نسبة قتل الكفار إلى الله عز وجل بقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا] ( ) وتقدير الآية : ليقطع الله طرفاً ، بلحاظ أن الله عز وجل هو الذي أنزل الملائكة لنصرة النبي وأصحابه ، ولذكر الله في الآية السابقة لها وأنه هو الفاعل للنصر والبشارة ، وهي قوله تعالى [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( ) لبيان أن من مصاديق النصر من عند الله هلاك طائفة من فرسان الذين كفروا في ميدان المعركة .
بيان قانون وهو جزاء عدوان وغزو وهجوم الذين كفروا من قريش وحلفائهم على المدينة هلاك عدد من رجالهم ، إذ فقدوا في معركة أحد اثنين وعشرين فارساً .
وهل في قوله [لِيَقْطَعَ طَرَفًا] ( ) إنذار بهلاك طرف آخر أو أكثر إن كررت قريش عدوانها ، الجواب نعم ، والله عز وجل رؤوف رحيم ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) عقد صلح الحديبية بعد ثلاث سنوات من معركة أحد .
ولا يعلم ما فيه من حقن الدماء إلا الله عز وجل ، وهل هذا الحقن من مصاديق الفتح في قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في مضامين الآية القرآنية ، إذ أن الأصل في الفتح وقف القتال واندحار الطرف الآخر ، ليكون من معاني قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) البشارة بالفتح ، ولم تمر سنتان على صلح الحديبية حتى تم فتح مكة ، ودخل أغلب الكفار الإسلام .
كبت وحزن وشدة غيظ الذين كفروا لفشلهم وعدم تحقيقهم أي غاية من الغايات التي جمعوا الجيوش فيها لمعركة أحد .
آيات ذكرت معركة الخندق
يتضمن القرآن بيان جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من المهاجرين والأنصار بالدفاع عن بيضة الإسلام ، وكل واقعة في المقام من مصاديق قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) الذي اختص به هذا الجزء ، كما وردت بخصوصه الأجزاء :
الأول : الجزء الرابع والستون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والستون بعد المائة .
الثالث: الجزء السادس والستون بعد المائة .
الرابع : الجزء الثامن والستون بعد المائة .
الخامس : الجزء التاسع والستون بعد المائة .
السادس :الجزء السبعون بعد المائة .
السابع :الجزء الواحد والسبعون بعد المائة .
الثامن :الجزء الثاني والسبعون بعد المائة .
التاسع :الجزء الرابع والسبعون بعد المائة .
العاشر :الجزء السادس والسبعون بعد المائة .
الحادي عشر :الجزء السابع والسبعون بعد المائة .
الثاني عشر :الجزء الثامن والسبعون بعد المائة .
الثالث عشر :الجزء الثمانون بعد المائة .
الرابع عشر :الجزء الواحد والثمانون بعد المائة .
الخامس عشر :الجزء الثاني والثمانون بعد المائة .
السادس عشر :الجزء الثالث والثمانون بعد المائة
السابع عشر :الجزء السابع والثمانون بعد المائة .
الثامن عشر : الجزء الثالث والتسعون بعد المائة .
التاسع عشر :الجزء الرابع والتسعون بعد المائة .
العشرون : الجزء السادس والتسعون بعد المائة.
الواحد والعشرون : الجزء الرابع بعد المائتين .
الثاني والعشرون : الجزء الثاني عشر بعد المائتين .
ومن الآيات التي ذكرت مجئ الأحزاب ومعركة الخندق .
الأولى : قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا]( ).
الثانية : قال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ]( ).
الثالثة : قال تعالى [هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا]( ).
الرابعة : قال تعالى [وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا]( ).
الخامسة : قال تعالى [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا]( ).
السادسة : قال تعالى [وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا]( ).
السابعة : قال تعالى [وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً]( ).
الثامنة : قال تعالى [قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
التاسعة : قال تعالى [قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنْ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا]( ).
العاشرة : قال تعالى [قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
الحادية عشرة : قال تعالى [أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا]( ).
الثانية عشرة : قال تعالى [يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
الثالثة عشرة : قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]( ).
الرابعة عشرة : قال تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا]( ).
الخامسة عشرة : قال تعالى [مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً]( ).
السادسة عشرة : قال تعالى [لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
السابعة عشرة : قال تعالى [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا]( ).
فاجعة بئر معونة
في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة وبعد معركة أحد بخمسة أشهر كانت كتيبة بني النضير ، كما عن ابن إسحاق( ) .
(وقال البخاري قال الزهري عن عروة كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أحد.
قال موسى بن عقبة وكانوا قد دسوا إلى قريش في قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحضوهم على القتال ودلوهم على العورة)( ).
وسبب هذه الكتيبة أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعث المنذر بن عمرو في سبعين راكباً للتبليغ وليس للحرب والقتال.
وفي رواية ابن إسحاق أن عددهم أربعون وفي رواية عن أنس أن عددهم سبعون ، قال ابن سعد : أخبرنا عفان بن مسلم قال: أخبرنا حماد بن سلمة قال: أخبرنا ثابت عن أنس بن مالك قال: جاء ناس إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة.
فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القراء فيهم خالي حرام، كانوا يقرؤون القرآن ويتدارسون بالليل ويتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه بالمسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة والفقراء .
فبعثهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا، قال وأتى رجل حراما خال أنس من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه فقال حرام: فزت ورب الكعبة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإخوانه: إن إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا( ).
وكانوا من قراء القرآن خرجوا للتبليغ ، ومنهم :
الأول : المنذر بن عمرو أحد بني ساعدة( )، وهو أميرهم.
الثاني : الحارث بن الصمة .
الثالث : حرام بن ملحان أخو أم سليم، وهو خال أنس بن مالك
الرابع : عروة بن أسماء بن الصلت السلمي .
الخامس : نافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي .
السادس : عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق( )
والمختار أن عدد قتلى بئر معونة (37) من الصحابة( )، ومنهم كعب بن زيد أخو بني النجار لم يقتل إذ ترك بين القتلى ، وفيه رمق ، فارتث أي وقع وبه جراح ، فعاش إلى أن قتل يوم الخندق .
فنزلوا في بئر معونة موضع بين أرض بني عامر وحرة بني سليم ، وهي إلى حرة بني سليم أقرب ، فلما نزلوا بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عامر بن الطفيل فلم ينظر إلى الكتاب ، ولكنه أشار إلى أحد أصحابه فعدا على الصحابي حرام فقتله.
(واسم ملحان مالك بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار وأمه مليكة بنت مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار. شهد بدرا وأحدا وبئر معونة وقتل يومئذ شهيدا في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرا من الهجرة، وليس له عقب)( )، وحرام خال الصحابي أنس بن مالك ، ثم أحاطوا بالمسلمين السبعين وقتلوهم إلا ثلاثة ، منهم إثنان كانا في سرح القوم ، وهما:
الأول : عمرو بن أمية الضمري .
الثاني : رجل من الأنصار من بني عمرو بن عوف .
إذ شاهدا الطير تحوم على معسكر أصحابهما فاقبلا فاذا القوم مضرجين بدمائهم ، فأبى الأنصاري إلا أن يقاتل الذين قتلوا أصحابه ، فقاتل القوم حتى قتل ، وأخذوا عمرو بن أمية أسيراً .
فسألوه عن قبيلته فأخبرهم أنه من مضر فاطلقه عامر بن الطفيل بعد أن جزّ ناصيته واعتقه عن رقبة كانت على أمه ، ولو فرّ من الأصل حينما علم بقتل أصحابه لما تعرض لهذا الموقف ونجى باعجوبة .
ولكن صاحبه الأنصاري أبى إلا أن يقاتل ، وهل يجب شرعاً أن يبقى معه، الجواب لا .
فتوجه عمرو بن أمية إلى المدينة ، وفي الطريق نزل في موضع اسمه القرقرة وأقبل رجلان من بني عامر فنزلا معه في ظل كان فيه ، وكان مع العامريين عقد أمان وجوار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن عمرو بن أمية لم يعلم به ، فلما ناما عدا عليهما فقتلهما ثاراً لأصحابه.
وكان عمرو بن أمية قد شهد بدراً ومعركة أحد ولكن مع المشركين ، وكان أول مشهد له بعد دخوله الإسلام هو بئر معونة ، وبعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما بعد بكتاب إلى النجاشي.
فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبره القصة كاملة ، ومع شدة مصيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتل أصحابه السبعين في بئر معونة توقف عند القتيلين ، وقال لأدينهما أي أدفع ديتهما لأنه قتل خطأ ، ولم ينتظر حتى قدوم بني عامر يطلبون الدية ، وهم لا يأتون ولا يطلبون الدية لأن قتلهما جزء من ثأر ، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يحكم بالعدل والإنصاف حتى لعدوه ، وانما إرسل أصحابه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحاح من أبي البراء ملاعب الأسنة ، وقال أنه جار لهم .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم (هذا عمل أبى براء قد كنت لهذا كارها متخوفا فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه اخفار عامر إياه وما أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسببه) ( ).
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُحَرّضُ بَنِي أَبِي بَرَاءٍ عَلَى عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ :
بَنِي أُمّ الْبَنِينَ أَلَمْ يَرْعَكُمْ … وَأَنْتُمْ مِنْ ذَوَائِبِ أَهْلِ نَجِدْ
تَهَكّمْ عَامِرٌ بِأَبِي بَرَاءٍ … لِيُخْفِرَهُ وَمَا خَطَأٌ كَعَمْدِ
أَلَا أَبْلِغْ رَبِيعَةَ ذَا الْمَسَاعِي … فَمَا أَحْدَثْت فِي الْحَدَثَانِ بَعْدِي
أَبُوك أَبُو الْحُرُوبِ أَبُو بَرَاءٍ … وَخَالُك مَاجِدٌ حَكَمُ بْنُ سَعْدِ( ).
فَحَمَلَ رَبِيعَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ مَالِكٍ عَلَى عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ ، فَطَعَنَهُ بِالرّمْحِ فَوَقَعَ فِي فَخِذِهِ فَأَشْوَاهُ وَوَقَعَ عَنْ فَرَسِهِ فَقَالَ هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ ، إنْ أَمُتْ فَدَمِي لِعَمّي ، فَلَا يُتْبَعَنّ بِهِ وَإِنْ أَعِشْ فَسَأَرَى رَأْيِي فِيمَا أُتِيَ إلَيّ( ).
ترى لماذا أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للتبليغ وهل كان هذا الإرسال بالوحي أم الإجتهاد ، وهل كان يعلم أنهم سيقتلون ، الجواب من وجوه :
الأول : أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه إلى أهل نجد بناء على عهد وجوار والحاح من أبي براء عامر بن مالك وكان يلقب ملاعب الأسنة ، وهو سيد بني عامر بن صعصعة ، وكان إذا ركب فرسه وصل ابهاما قدميه إلى الأرض لطوله ، ولقب ملاعب الأسنة أمارة على الشجاعة والمداومة على الفروسية .
وبعث ملاعب الأسنة في يوم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأله الدواء من وجع بطن بن أخ له فبعث إليه عكة عسل فسقاه فبرىء( ).
وأول من لقبه ملاعب الأسنة درار بن عمرو القيسي ولقبه الرويم وذلك في يوم السوبان وهو من أيام العرب أغارت بنو عامر على بني تميم وضبة ورئيس ضبة حسان بن وبرة .
فأسره يزيد بن الصعق عامر بن مالك فشد على درار بن عمرو القيسي .
فقال لولده أغنه عني فطعنه فتحول عن سرجه إلى جنب الدابة ثم لحقه .
فقال لابنه الآخر أغنه عني ففعل مثل ذلك فقال درار ما هذا إلا ملاعب الأسنة فغلبت عليه( ).
فلزمه هذا الاسم ، وقدم أبي البراء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبوك في السنة التاسعة للهجرة فعرض عليه الإسلام فامتنع ، ثم اهدى الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي : إنا لا نقبل هدية مشرك( )، وتوفى أبو البراء في موضع يسمى الفورة من ديار بني عامر.
الثاني : كان هذا الإرسال بالوحي ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، وليس اجتهاداً.
الثالث : المختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم حين بعثهم بأنهم يقتلون ، وفي التنزيل [قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
ولم يختص قتل سبعين من المسلمين في واقعة بئر معونة إنما تكرر الأمر كما عن أبي سعيد الخدري من جهات :
الأولى : قتل سبعين من الصحابة في معركة أحد .
الثانية : يوم بئر معونة ، كما تقدم .
الثالثة : يوم اليمامة .
الرابعة : يوم جسر أبي عبيد .
وعن أنس في حديث : ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قتلى ما وجد على قتلى بئر معونة ، وكان أنس يقول أنزل الله قرآنا قرأناه حتى نسخ بلغوا قومنا انا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه( ).
قانون الرؤيا الصادقة فرع النبوة
لقد جعل الله الرؤيا رحمة ولطفاً منه تعالى على الناس وبخصوص الرؤيا فان النسبة بين الناس والأنبياء هو العموم والخصوص المطلق وهل هو من عمومات قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ) .
الجواب نعم ، فرؤيا الأنبياء شعبة من الوحي إلى جانب الرؤيا الصادقة التي يشترك فيها النبي وغيره من الناس ، ولا تختص هذه الرؤيا بالصالحين ، فقد تأتي الرؤيا الصادقة للفاسق والفاجر ، ومن وجوهها كل من :
الأولى : رؤيا البشارة .
الثانية : رؤيا الإنذار .
الثالثة : الرؤيا المحبوبة .
وعن أم كند الكعبية قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ذهبت النبوّة وبقيت المبشرات .
وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب ، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً ، ورؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ، والرؤيا ثلاث . فالرؤيا الصالحة بشرى من الله ، والرؤيا تحزيناً( ) من الشيطان ، والرؤيا مما يحدث بها الرجل نفسه .
وإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم وليتفل ولا يحدث به الناس ، وأحب القيد في النوم وأكره الغل ، القيد ثبات في الدين . ولفظ ابن ماجة : فإذا رأى أحدكم رؤيا تعجبه فليقصها إن شاء ، وإن رأى شيئاً يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم يصلي( ).
وعن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها ، وإذا رآى غيره مما يكره فإنما هي من الشيطان ، فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره( ).
وفي قوله تعالى [لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( )، روي (عن عبادة بن الصامت قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى لهم البشرى في الحياة الدنيا قال : هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له)( ).
وحينما أخبر الله عز وجل الملائكة عند خلق آدم بأنه [جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فانه سبحانه أبى إلا أن تصاحب هذا الخليفة البشارة والإنذار ، والهداية إلى الرشاد والفلاح ، ومنه الرؤيا الصالحة ومن الآيات في المقام أن الرؤيا لا تطلب بذاتها فقط إنما تكون مناسبة للدعاء من جهات :
الأولى : تثبيت وتنجز رؤيا البشارة ، فليس من ملازمة بين الرؤيا وتحقق مصداقها الخارجي إلا أن تكون شعبة من الوحي ، وهو أمر ينفرد به الأنبياء وبالدعاء يقرب الله البعيد ، وييسر العسير فقد يتم هذا التحقق بلطف وفضل من الله على عامة الناس.
الثانية : صرف رؤيا الإنذار ودفع اضرارها والمنع من تحقق مصداقها ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، الجواب نعم .
وأول ما بدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بعثته الرؤيا الصالحة فكان كثير الرؤيا ، ولا يرى رؤيا إلا تنجز مصداقها ، وتحققت أفرادها ، لبيان رسالة وهي أن هذه الرؤيا فرع الوحي ومقدمة له ، وفيه تسليم واصلاح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنبوة والرسالة ، إذ أن أمر الوحي والتنزيل عظيم ، فيخفف الله عز وجل عن رسوله ، قال تعالى [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
والرؤيا من عالم الغيب ، وتكشف حقيقة ، بأنها لطف من عند الله على العباد جميعاً ، فلا يختص بالإنتفاع من الرؤيا صاحبها وحده ، إنما يكون النفع أعم ، نعم قد تكون الرؤيا أضغاث أحلام ، كما وورد في موضوع رؤيا ملك مصر أيام النبي يوسف عليه السلام وعجز الناس عن تأويلها.
كما ورد لفظ [أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ]( )، مرة أخرى في القرآن بقوله تعالى [بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ]( )، لرمي الكفار الوحي للأنبياء بأنه من الرؤيا والأحلام والأباطيل التي لا أصل لها ، ولا تدل على الوحي والنبوة .
وهل الإضراب بالحرف (بل) أعلاه انتقالي أم إبطالي ، المختار هو الأول والمراد من الإضراب الإنتقالي هو الإنتقال من غرض قبل الحرف (بل) الى غرض آخر جديد بعده .
مع إبقاء الحكم السابق على حاله وعدم الغاء أو إزاحة المعنى السابق ، كما في قوله تعالى [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى]( )، ومنه [بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ]( ).
أما الإضراب الإبطالي فهو العدول من موضوع إلى آخر مع ابطال الموضوع الأول ، كما في قوله تعالى [وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ]( ).
ومن بديع صنع الله عز وجل في الإنسان اشتراك الناس جميعاً من جهة الرؤيا بأمور :
الأولى : الرؤيا الصالحة ، وهذه الرؤيا من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فكل انسان ذكراً أو انثى لابد أن يرى رؤيا صالحة من غير ملازمة بين الإيمان والرؤيا الصالحة مع اختلاف في الكم والكيف والإتعاظ من الرؤيا .
الثانية : الرؤيا مما يحدث الإنسان نفسه في المنام ويخطر على الوجود الذهني في حال اليقظة فيرتسم في عالم التصور فاذا نام الإنسان برز عالم المثال والخيال ، لذا قد يرى الإنسان نفسه في المنام وهو يقوم ببعض الأفعال ، أو يرى الأموات الذين إذا أخبروا عن شئ فهو صدق لأنهم من عالم الخلود ، لتكون رؤياهم وأخبارهم من الصلة بين أهل الدنيا وأهل الآخرة ، وتذكيراً للناس بتقوى الله فمن كان اليوم من أهل الدنيا يكون غداً من أهل الآخرة.
الثالثة : رؤيا السوء والحزن من الشيطان بالوسوسة ليحزن الإنسان وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا]( )، وتسمى أيضاً الحلم
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الرّؤْيَا الصّالِحَةُ مِنْ اللّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشّيْطَانِ ، فَمَنْ رَأَى رُؤْيَا يَكْرَهُ مِنْهَا شَيْئًا ، فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا ، وَلْيَتَعَوّذْ بِاَللّهِ مِنْ الشّيْطَانِ فَإِنّهَا لَا تَضُرّهُ وَلَا يُخْبِرْ بِهَا أَحَدًا .
وَإِنْ رَأَى رُؤْيَا حَسَنَةً فَلْيَسْتَبْشِرْ وَلَا يُخْبِرْ بِهَا إلّا مَنْ يُحِبّ و َأَمَرَ مَنْ رَأَى مَا يَكْرَهُهُ أَنْ يَتَحَوّلَ عَنْ جَنْبِهِ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلّيَ فَأَمَرَهُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ أَنْ يَنْفُثَ عَنْ يَسَارِهِ وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاَللّهِ مِنْ الشّيْطَانِ وَأَنْ لَا يُخْبِرَ بِهَا أَحَدًا .
وَأَنْ يَتَحَوّلَ عَنْ جَنْبِهِ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَقُومَ يُصَلّي ، وَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَضُرّهُ الرّؤْيَا الْمَكْرُوهَةُ بَلْ هَذَا يَدْفَعُ شَرّهَا .
وَقَالَ الرّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبّرْ ، فَإِذَا عُبّرَتْ وَقَعَتْ وَلَا يَقُصّهَا إلّا عَلَى وَادّ أَوْ ذِي رَأْي ( ).
وهل رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدخول المسجد الحرام من الرؤيا الصادقة ، الجواب نعم ، ومن وجوه :
الأول : انها رؤيا صادقة .
الثاني : الرؤيا من الله عز وجل لقوله تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( )، وتتضمن الآية أعلاه صدق تنجز وتحقق الرؤيا في عام القضاء لبيان قانون وهو يجوز أن يبطأ تحقق البشارة والفرج بحكمة من عند الله.
الثالث : إنها من الوحي.
الرابع : انها رؤيا بشارة .
الخامس : إنها حق وصدق .
وكما قام يوسف عليه السلام بتأويل رؤيا الملك ، فان رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعظم أثراً ونفعاً لأنها ذكرت في القرآن من جهات:
الأولى : رؤيا خاتم النبيين نفسه فلم تأت الرؤيا لغير النبي ، إنما كانت للنبي رؤيا وتأويلاً .
الثانية : من الإعجاز في المقام مجئ خبر الرؤيا في القرآن .
الثالثة : مخاطبة الآية للمسلمين والمسلمات [لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ) .
وهل المراد ذات الدخول في عمرة القضاء أم أنه عام وشامل لجميع السنين اللاحقة ، المختار هو الثاني ، فلا يختص موضوع الآية بعمرة القضاء إنما يشمل بيان تحقق فتح مكة ، واستدامة حج المسلمين والمسلمات للبيت الحرام إلى يوم القيامة.
فمن إعجاز القرآن بقاء وتجدد أحكامه .
وهل تدل وتخبر الآية أعلاه على فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ، أم يجوز القطع والفصل موضوعاً بين عمرة القضاء وبين فتح مكة ، المختار هو الأول .
وتقدير الآية لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله كل عام ، ويدل عليه قوله تعالى في الآية نفسها [لاَ تَخَافُونَ] إذ أن عمرة القضاء لا تخلو من خوف وخشية من كفار قريش ، وإجهازهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وإرادة بعض الماكرين والسفهاء منهم القيام باغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأنه وأصحابه ليس معهم سلاح كاف .
وتقدير الآية : لا تخافون في كل عام .
لقد تضمنت الآية أعلاه الإخبار بانقطاع الخوف والفزع الذي يسببه كفار قريش ، وظلمهم للبيت الحرام والمسلمين والناس جميعاً.
ولو دار الأمر بين بين الإطلاق والتقييد في دخول المسجد الحرام ، فالأصل هو الإطلاق .
إذ تخاطب الآية أعلاه المسلمين في كل يوم من أيام الحياة الدنيا وإلى يوم القيامة بأن الله قد تفضل عليكم وجعلكم تدخلون المسجد الحرام معتمرين وحجاجاً .
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يتوجهون إلى البيت الحرام قبلة في صلاتهم خمس مرات في اليوم ، أما الآية أعلاه فتخبر عن قانون من الإرادة التكوينية من وجوه :
الأول : قانون انقطاع ولاية الكفار على البيت الحرام .
الثاني : قانون إكرام الله للمسجد الحرام ، وعقوبة من يتعدى عليه وعلى عماره (عن ابن عباس: أن قُرَيشًا منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام، فأنزل الله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ }( ))( ).
الثالث : قانون السلم والأمن من عند الله عز وجل ، وهو الذي يهبه لعموم المسلمين والمسلمات لأن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى ، فلم ينحصر موضوع الآية بعمرة القضاء بل يشمل التابعين وتابعي التابعين إلى يوم القيامة ، وتخاطب الآية المسلمين هذا اليوم وكل يوم وتبشرهم بدخول المسجد الحرام بأمن .
ومن إعجاز القرآن ذكره للنفع العام للرؤيا ، كما في رؤيا ملك مصر ، وفي التنزيل [إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ]( )، ولابد من بيان لمنافع هذه الرؤيا لأنها أكثر من أن تحصى .
وتحتمل رؤيا الملك مصر من جهة السعة والضيق الزماني وجوهاً :
الأول : اختصاص منافع هذه الرؤيا لسنة الوقوع .
الثاني : إنحصار منافع رؤيا ملك مصر بأوانها ومدة الخمس عشرة سنة للرؤيا حسب تأويل يوسف عليه السلام [قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ]( )، لولا بركة وتوثيق القرآن .
ومن الإعجاز في المقام أن منافع الرؤيا بتأويل النبي يوسف عليه السلام لها ، لذا فان رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( )، مع الفارق إذ أن رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحي ومن خصائص الوحي عدن الكتمان أو الإخفاء.
الثالث : بيان فضل الله عز وجل في نجاة يوسف عليه السلام من السجن .
الرابع : الإنتفاع من رؤيا الملك وتأويل يوسف عليه السلام لها إلى يومنا هذا .
والمختار هو الأخير ، وهو من إعجاز القرآن ، وتوثيقه لهذه الرؤيا ، لبيان قانون وهو أن القرآن يوثق ما تنتفع منه الأجيال المتعاقبة.
سورة يوسف مكية وعدد آياتها (111) آية نزلت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، ونزلت بعد سورة هود.
في الطريق إلى الحديبية
بعد أن أحرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ذي الحليفة توجهوا نحو مكة وتساق أمامهم البُدن مقلّدة للدلالة على أنهم يريدون العمرة في شهر حرام وكانت معه أم المؤمنين أم سلمة.
وهل كانت أم سلمة وحدها امرأة مع هذا الجيش أم هناك نسوة أخريات معها.
الجواب هو الثاني ، ويسمى ذا الحليفة هذه الأيام ميقات الشجرة ، ويسمى آبار علي.
وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عيناً له من خزاعة يأتيه بخبر قريش في الطريق ، وكان المسلمون في الطريق يهللون ويلبون (لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك).
لينقل الناس أهل القرى الذين في الطريق والركبان إلى قريش أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عُماراً ولا يريدون قتالاً.
ولما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى غدير اِلأشطاط جاء العين الذي بعثه ، وأخبره (إن قريشا جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الاحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك)( ).
وقيل إنما لقي بشر بن سفيان الكعبي النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فقال يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذى طوى يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم وقد قدموها إلى كراع الغميم)( ).
وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما بلغه خروج قريش قال (أشيروا أيها الناس على، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله قد قطع عينا من المشركين وإلا تركناهم محروبين.
قال أبو بكر : يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه.
قال: امضوا على اسم الله)( ).
ولم يقترح النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإغارة على عيال وذراري قريش أو غيرهم إذ أنه خرج معتمراً يسوق الهدي أمامه ، وليس عنده ولا عند أصحابه أسلحة ودروع وخوذ ، ولا خيل يجولون بها وسط الميدان ، ولا يستطيعون الإنسحاب بسرعة إلى المدينة ، فيلحق بهم المشركون ، ويتخذونها ذريعة لتهييج القبائل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، كيف أنهم خرجوا بقصد العمرة ومالوا على الذراري والعوائل ، ثم أنه لم يصدر من قريش ما يدل على الحرب والقتال إنما هي الأخبار بالتهيئ والحيطة .
والمختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستشر أصحابه بالإغارة على بيوت قريش ومن والاهم وهو في طريقه إلى العمرة ، لقد كانوا مشغولين بالتهليل والتلبية ولا يعلم مذاقها وأثرها في النفوس إلا الله عز وجل.
وحينما جاء بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة ، وكانوا ناصحين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال بديل (إنّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيّ قَدْ جَمَعُوا لَك الْأَحَابِيشَ وَجَمَعُوا لَك جُمُوعًا وَهُمْ مُقَاتِلُوك وَصَادّوك عَنْ الْبَيْتِ وَمَانِعُوك وَاسْتَشَارَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ وَقَالَ أَتَرَوْنَ أَنْ نَمِيلَ إلَى ذَرَارِيّ هَؤُلَاءِ الّذِينَ أَعَانُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَحْرُوبِينَ وَإِنْ يَجِيئُوا تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللّهُ أَمْ تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمّ الْبَيْتَ فَمَنْ صَدّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ إنّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ وَلِمَ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنْ مَنْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ قَاتَلْنَاهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَرُوحُوا إذًا فَرَاحُوا حَتّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطّرِيقِ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ” إنّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتّى إذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ وَسَارَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ حَتّى إذَا كَانَ بِالثّنِيّةِ الّتِي يَهْبِطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فَقَالَ النّاسُ حَلْ حَلْ فَأَلَحّتْ .
فَقَالُوا : خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ.
فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ ثُمّ قَالَ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطّةً يُعَظّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللّه إلّا أَعْطَيْتُهُمْ إيّاهَا ثُمّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ بِهِ فَعَدَلَ حَتّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءُ إنّمَا يَتَبَرّضُهُ النّاسُ تَبَرّضًا فَلَمْ يُلْبِثْهُ النّاسُ أَنْ نَزَحُوهُ فَشَكَوْا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ الْعَطَشَ فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ قَالَ فَوَاَللّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرّيّ حَتّى صَدَرُوا عَنْهُ .
وَفَزِعَتْ قُرَيْشٌ لِنُزُولِهِ عَلَيْهِمْ فَأَحَبّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَدَعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ لِيَبْعَثَهُ إلَيْهِمْ.
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ لَيْسَ لِي بِمَكّةَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ يَغْضَبُ لِي إنْ أُوذِيت فَأَرْسِلْ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ فَإِنّ عَشِيرَتَهُ بِهَا وَإِنّهُ مُبَلّغٌ مَا أَرَدْت فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ فَأَرْسَلَهُ إلَى قُرَيْشٍ وَقَالَ أَخْبِرْهُمْ أَنّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالٍ وَإِنّمَا جِئْنَا عُمّارًا وَادْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ رِجَالًا بِمَكّةَ مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءً مُؤْمِنَاتٍ فَيَدْخُلَ عَلَيْهِمْ وَيُبَشّرُهُمْ بِالْفَتْحِ وَيُخْبِرَهُمْ أَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ مُظْهِرٌ دِينَهُ بِمَكّةَ حَتّى لَا يُسْتَخْفَى فِيهَا بِالْإِيمَانِ فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ فَمَرّ عَلَى قُرَيْشٍ بِبَلْدَحَ .
فَقَالُوا : أَيْنَ تُرِيدُ ، فَقَالَ أَدْعُوكُمْ إلَى اللّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ وَأُخْبِرُكُمْ أَنّا لِمَ نَأْتِ لِقِتَالٍ وَإِنّمَا جِئْنَا عُمّارًا .
فَقَالُوا : قَدْ سَمِعْنَا مَا تَقُولُ فَانْفُذْ لِحَاجَتِك وَقَامَ إلَيْهِ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَرَحّبَ بِهِ وَأَسْرَجَ فَرَسَهُ فَحَمَلَ عُثْمَانَ عَلَى الْفَرَسِ وَأَجَارَهُ وَأَرْدَفَهُ أَبَانُ حَتّى جَاءَ مَكّةَ وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ عُثْمَانُ ؟
خَلَصَ عُثْمَانُ قَبْلَنَا إلَى الْبَيْتِ وَطَافَ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَا أَظُنّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ وَنَحْنُ مَحْصُورُونَ ” فَقَالُوا : وَمَا يَمْنَعُهُ يَا رَسُولَ اللّهِ وَقَدْ خَلَصَ ؟
قَالَ ” ذَاكَ ظَنّي بِهِ أَلّا يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ حَتَى نَطُوفَ مَعَهُ وَاخْتَلَطَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمُشْرِكِينَ فِي أَمْرِ الصّلْحِ فَرَمَى رَجُلٌ مِنْ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ رَجُلًا مِنْ الْفَرِيقِ الْآخَرِ وَكَانَتْ مَعْرَكَةً وَتَرَامَوْا بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ وَصَاحَ الْفَرِيقَانِ كِلَاهُمَا وَارْتَهَنَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ بِمَنْ فِيهِمْ .
وَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَنّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ فَدَعَا إلَى الْبَيْعَةِ فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَهُوَ تَحْتَ الشّجَرَةِ فَبَايَعُوهُ عَلَى أَلّا يَفِرّوا فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِيَدِ نَفْسِهِ وَقَالَ هَذِهِ عَنْ عُثْمَان وَلَمّا تَمّتْ الْبَيْعَةُ رَجَعَ عُثْمَانُ فَقَالَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ اشْتَفَيْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللّهِ مِنْ الطّوَافِ بِالْبَيْتِ فَقَالَ بِئْسَ مَا ظَنَنْتُمْ بِي وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ مَكَثْتُ بِهَا سَنَةً وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مُقِيمٌ بِالْحُدَيْبِيَةِ مَا طُفْتُ بِهَا حَتّى يَطُوفَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَلَقَدْ دَعَتْنِي قُرَيْشٌ إلَى الطّوَافِ بِالْبَيْتِ فَأَبَيْت فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ كَانَ أَعْلَمَنَا بِاَللّهِ وَأَحْسَنَنَا ظَنّا وَكَانَ عُمَرُ آخِذًا بِيَدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِلْبَيْعَةِ تَحْتَ الشّجَرَةِ فَبَايَعَهُ الْمُسْلِمُونَ كُلّهُمْ إلّا الْجَدّ بْنَ قَيْسٍ وَكَانَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ آخِذًا بِغُصْنِهَا يَرْفَعُهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَكَانَ أَوّلَ مَنْ بَايَعَهُ أَبُو سِنَانٍ الْأَسَدِيّ وَبَايَعَهُ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ ثَلَاثَ مَرّاتٍ فِي أَوّلِ النّاسِ وَأَوْسَطِهِمْ وَآخِرِهِمْ .
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيّ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ فَقَالَ إنّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ وَهُمْ مُقَاتِلُوك وَصَادّوك عَنْ الْبَيْتِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إنّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنْ جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ وَإِنّ قُرَيْشًا قَدْ نَهَكَتْهُمْ الْحَرْبُ وَأَضَرّتْ بِهِمْ فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتهمْ وَيُخَلّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النّاسِ وَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النّاسُ فَعَلُوا وَإِلّا فَقَدْ جَمّوا وَإِنْ هُمْ أَبَوْا إلّا الْقِتَالَ فَوَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي أَوْ لَيُنْفِذَنّ اللّهُ أَمْرَه)( ).
وهل انحصر موضوع الموادعة بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى العمرة ، وإلا لما عقد صلح الحديبية ، وكان فتحاً كما وصفه الله عز وجل ، الجواب لا ، فالله عز وجل واسع كريم ، إذ كان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى العمرة بالوحي ، ولا تستعصي على الله مسألة ، نعم هذا الخروج وما تعقبه من صلح الحديبية معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والمراد من العوذ المطافيل أي النساء والصبيان لبيان أنهم مستعدون للإقامة في الفصل بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبيت الحرام وإن استلزم الأمر مدة الأشهر الحرم ذي القعدة وذي الحجة ومحرم .
وهل تم قول بديل هذ بمحضر من الصحابة أم هو أمر خاص بينه وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب هو الأول ، لذا رواه الصحابة ولم يستشر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالرجوع إلى المدينة أو القتال ، إنما كان منهاجاً جلياً واضحاً وهو أداء العمرة ، وأنه مستعد لعقد معاهدة وموادعة مع قريش .
وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم باخبار أصحابه بأن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة( )، وكان عدد الفرسان المشركين الذين مائتين ، وهل إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي أم جاءت به العيون والركبان ، الجواب لامانع من الجمع بينهما .
واجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم باجتناب ملاقاة خيل قريش ، فقال : من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم فيها ، لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلوغ الحرم أو أقرب موضع منه من غير احتكاك مع خيل قريش أو قيامهم بمنع تقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
عندئد قال رجل (من أسلم قال أنا يا رسول الله قال فسلك بهم طريقا وعرا أجذل بين شعاب فلما خرجوا منه وقد شق ذلك على المسلمين وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس قولوا نستغفر الله ونتوب إليه)( ).
أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحمل طريق وعرة ، والسير في مسلك أطول من الجادة العامة دفعاً للقاء مع المشركين .
لقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالسير في طريق يخرجهم قريباً من الحديبية ، فقال : اسلكوا ذات البين بين ظهري الحمض ، ليخرجوا على ثنية المرار .
ومعنى الثنية الطريق بين الجبلين ، والمُرار بضم الميم شجر يتصف بكونه مراً وتسمى في هذا الزمان (منطقة الكريمي ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد مرّ عليها في طريق هجرته وصاحبه إلى المدينة ، والتقى فيها راعياً حلب لهم اللبن وشربوا منه .
قلة ماء الحديبية
بعد أن أظهر وأعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عزمه الرضا بأية خطة وشرط لقريش فيه تعظيم حرمات الله زجر ناقته فوثبت ، وسار بأصحابه ليصير عندهم علم بأنه لن يصل إلى مكة ولن يسعى لدخولها حتى وصل إلى أقصى الحديبية بمجاورة الحرم نزل عن ناقته فنزل المهاجرون والأنصار ومن صاحبهم من أهل القرى من حول المدينة ، واتفق أن كان الموضع الذي نزلوا فيه قليل الماء ، إذ نزلوا (على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا فلم يلبثه الناس حتى نزحوه) ( ).
والثمد : الماء القليل يبقى في الأرض ، والماء الذي يظهر في الشتاء ، ويذهب في الصيف ، لذا يدل ظاهر الحديث على أن سير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كان في فصل الشتاء .
لقد كانت قلة الماء في موضع الحديبية مصيبة وفتنة تنذر بالضرر الفادح ، وتجعل المسلمين يضطرون للزحف نحو مكة دفعاً للموت عطشاً إذ سرعان ما نضب الماء الثمد بعد أن نزحه المسلمون .
ولم يكن عدد الصحابة في الموضع قليلاً ، فقد كانوا ألفاً وأربعمائة ، وفي رواية ألف وخمسمائة ، وكل من الروايتين عن جابر بن عبد الله الأنصاري .
وكان المسلمون يحتاجون الماء لكل من :
الأول : الشرب وهو الأهم .
الثاني : الوضوء .
الثالث : غسل الجنابة لمن يحتلم .
الرابع : طهي الطعام .
الخامس : غسل الأبدان والملابس .
السادس : شرب البهائم والحيوانات .
وباستثناء الوجه الأول والأخير أعلاه يمكن الإنتقال إلى بديل كما في اللجوء إلى الطهارة الترابية والتيمم عند فقد الماء ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ولكن الشرب ضرورة لإستدامة الحياة اليومية ، فتوجه الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشكوا إليه نزح الماء ، خاصة وأن إقامتهم قد تطول في الحديبية ، عندئذ انتزع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سهماً من كنانته وأعطاهم إياه ، وأمرهم أن يغرسوه فيما تبقى من الماء الثمد القليل ففعلوا ، فصار يسيل وكأنه عين تنبع فأخذوا حاجتهم .
رسل قريش إلى الحديبية
لقد اعتادت قريش على تجهيز الجيوش وغزو المدينة ، ومحاربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، كما في معركة بدر وأحد والخندق، أو غزو أطراف المدينة يثرب .
كما في إغارة كرز بن جابر الفهري ونفر من المشركين على سرح المدينة ، وخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلفه إلى أن بلغ وادياً يسمى (سفوان ) في ناحية بدر (واستعمل على المدينة زيد بن حارثة) ( )، ولم يلق قتالاً ، وعاد إلى المدينة .
وسميت غزوة بدر الأولى في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة .
أي قبل معركة بدر ، ومن المؤرخين من يجعلها في شهر جمادى الآخرة، من ذات السنة وبعد كتيبة العشيرة.
ويدل قيام كرز بن جابر ومن معه من المشركين على الإغارة على سرح وأنعام أهل المدينة من المسلمين واليهود وغيرهم على إصرار المشركين على القتال ، وإحتمال قيام معركة بدر الكبرى .
كما بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسلاً إلى قريش.
وقد أسلم كرز وحسن إسلامه واستشهد في فتح مكة إذ شذ هو وخُنيس بن خالد بن ربيعة عن الجيش فسلكا طريقاً آخر فقتلهما المشركون( ).
(وَأُصِيبَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ نَحْوُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ثُمّ انْهَزَمُوا)( ).
وبخصوص فتح مكة قال الواقدي (وأقبل الزبير بن العوام بمن معه من المسلمين حتى انتهى بهم إلى الحجون، فغرز الراية عند منزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم يقتل من المسلمين أحدٌ إلا رجلان من أصحابه، أخطآ طريقه فسلكا غيرها فقتلا؛ كرز بن جابر الفهري، فقام عليه خالد الأشقر وهو جد حزام بن خالد حتى قتل، وكان الذي قتل خالداً ابن أبي الجذع الجمحي) ( ).
وكما في كتيبة السويق والتي تسمى غزوة السويق بعد أن أغار أبو سفيان ومعه مائتا فارس من المشركين على أطراف المدينة ، وقتلوا أنصارياً وحليفاً للأنصار كانا يعملان في أرض لهما ، وقاموا بقطع فسائل ونخيل ، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلفهم بذات العدد وهو مائتان ، ففروا وألقوا سويقاً كثيراً ليسهل عليهم الفرار .
فجاء المسلمون بالسويق ، أما في السنة السادسة للهجرة فقد اختلف الأمر ، ولكن لم يقع العكس ، فلم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشركين ، إنما خرج هو وألف وأربعمائة من أصحابه نحو مكة لا هّم عندهم إلا أداء العمرة ، وكانوا في الطريق مشغولين بالتلبية ، وهل كانوا في حال احتراز من المشركين وغدرهم .
الجواب نعم ، وفيه شاهد آخر بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يغزو وأنه يريد صرف الأذى ، وإجتناب المواجهة واللقاء مع المشركين ، وكان قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) بخصوص معركة بدر وأحد بداية ونهاية لهذا اللقاء ، ويكون مقدمة ليكون الطرفان جمعاً واحداً بلباس الإيمان يوم تم فتح مكة .
فان قلت قد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (حين أجلي عنه الأحزاب الآن نغزوهم ولا يغزونا نسير إليهم)( ).
والجواب قد تحقق مصداق هذا القول من وجوه :
الأول : بيان إمكان تحقق غزو المسلمين للمشركين ، وعالم الإمكان أعم من عالم الوقوع .
الثاني : من الإعجاز في السنة النبوية شرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لسنخية هذا الغزو بقوله (نسير إليهم ) والنسبة بين المسير وبين الغزو عموم وخصوص مطلق ، فالمسير أعم ، لبيان قانون وهو بالمسير وحده يكون الفتح .
الثالث : تجلى هذا الغزو بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في السنة السادسة لأداء مناسك العمرة ، ولنعم الغزو إذ كان غزو تلبية وتكبير وتهليل ، ليس فيه سلاح .
الرابع : عقد صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووفد قريش .
الخامس : نزول قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) لبيان أن نتيجة السير هو عقد الصلح ، ومعنى ومضمون هذا الصلح هو فتح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبداية دخول الناس جماعات وأفواجاً في الإسلام .
ولو أجريت إحصائية لتبين أن كثرة الذين دخلوا في الإسلام ما بين صلح الحديبية وفتح مكة سبب لتعجيل فتحها .
وهل كانت هذه الكثرة سبباً لإثارة غيظ المشركين ، وقيامهم باعانة حلفائهم بني بكر ضد خزاعة حلفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، ولعل هذه المسألة تُذكر هنا لأول مرة في التأريخ ، مما يستلزم التحقيق ، قال تعالى [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ) .
لقد بلغ قريشاً توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة فارسلوا العيون والطلائع والخيل ليتأكدوا عن ماهية هذا التوجه ، وهل هو من أجل العمرة أو القتال .
وهو في شهر حرام وهو شهر ذي القعدة .
وجاءتهم العيون بأنهم عمار ، وأن البُدن تسير أمامهم ، وبعثت قريش الوفود على نحو متعاقب وهم :
الأول : بُدَيل بن ورقاء الخُزاعي ومعه نفر من خزاعة الذين كانوا قد التقوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلموا بطريقه وقصده ، وبُدَيل هذا لم تطلب منه قريش الوساطة ، ولكنه سخّر نفسه لهذه الوظيفة ، فذهب إلى قريش وأخبرهم بمقالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه وأصحابه لم يأتوا لقتال أحد ، إنما جاءوا معتمرين ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد جعل مدة صلح بين الطرفين .
فأنصت رجال قريش لقول بُدَيل ، ولم تكن خزاعة قد دخلت في حلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ، ولكنها في الأصل على حلف مع بني هاشم .
لقد توجه بُدَيل باللوم إلى قريش ، وقال لهم : (يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد، وإن محمدا لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت.
فاتهموهم وجبهوهم وقالوا: وإن جاء ولا يريد قتالا، فوالله لا يدخلها علينا عنوة ولا تحدث بذلك عنا العرب) ( ).
الثاني : لم تعتمد قريش قول بُدَيل وأتهموه وأصحابه وأرسلت موفداً منها فبعثوا مِكرَزَ بن حَفص العامري (فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مُقْبِلًا قَالَ هَذَا رَجُلٌ غَادِر) ( ).
وكانت قريش قد بعثته على خمسين فارساً وأمروهم أن يطوفوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عسى أن يصيبوا منهم غرة ويأخذوا واحداً أو أكثر من الصحابة ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر أصحابه بالحراسة والتناوب فيها .
وأتفق أن كان محمد بن مسلمة على الحرس فأخذ عدداً منهم ، وفرّ مِكرَزَ ومن بقي معه ، ليتبين مصداق لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن مِكرَزَاً هذا رجل غادر ، وعلمت قريش بالأمر ، فهجم جماعة منهم ، وتراموا بالنبل والحجارة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وقُتل أحد الصحابة وهو ابن زنيم وأطلع الثنية من الحديبية فرماه المشركون فقتلوه .
ومع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعت مكرز بن حفص بأنه رجل غادر حينما رآه مقبلاً ، إلا أنه جلس معه ، وبيّن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغرض من مجيئهم ،وهو أداء مناسك العمرة ، ولا يريد قتالاً مع قريش ، فرجع مكرز إلى قريش وأخبرهم.
الثالث : بعثت قريش الحليس بن علقمة أحد بني الحارث (وكان يومئذ سيد الأحابيش فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه.
فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إعظاما لما رأى فقال لهم ذلك فقالوا له اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك فغضب الحليس عند ذلك وقال يا معشر القوم والله ما على هذا حالفناكم وما على هذا عاقدناكم أيصد عن بيت الله من جاء معظما له والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد فقالوا له كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به)( ).
الرابع : قال عروة بن مسعود الثقفي لقريش : (يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذ جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس، وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي.
قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم) ( ) أراد عروة بيان مسألة وهي أنه يختلف عن بُديل الخزاعي الذي اتهموه بالتحُرب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فخرج عروة من مكة حتى وصل الحديبية ، وجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنه بدأ حديثه بتوجيه ما يشبه اللوم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع التهديد إذ قال (يَا مُحَمّدُ أَجَمَعْتَ أَوْشَابَ النّاسِ ثُمّ جِئْتَ بِهِمْ إلَى بَيْضَتِك لِتَفُضّهَا بِهِمْ إنّهَا قُرَيْشٌ قَدْ خَرَجَتْ مَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ .
قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النّمُورِ يُعَاهِدُونَ اللّهَ لَا تَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَدًا . وَاَيْمُ اللّهِ لِكَأَنّي بِهَؤُلَاءِ قَدْ انْكَشَفُوا عَنْك غَدًا) ( ).
فرده الصحابة بشدة ، وقد جرت معركة بدر وأحد والخندق ، ولم يتخل عنه أصحابه .
وكان عروة عندما يتكلم يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان المغيرة بن شعبة واقفاً على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابساً الحديد غير مكشوف الوجه أو الرأس ، فجعل يقرع يد عروة إذا لمس لحية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقول له (اُكْفُفْ يَدَك عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَبْلَ أَنْ لَا تَصِلَ إلَيْك) ( ).
وشكى منه عروة وقال : ما أفظك وأغلظك ، ثم قال : من هذا يا محمد .
قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : ابن أخيك المغيرة بن شعبة (قَالَ أَيْ غُدَرُ وَهَلْ غَسَلْتُ سَوْأَتَك إلّا بِالْأَمْسِ) ( ).
وكان عروة بن مسعود يلاحظ أنه إذا توضأ ابتدروا وضوءه ،ولا يسقط من شعره شئ إلا أخذوه ، فرجع إلى قريش ليقول لهم إني قد جئت كسرى ملك فارس وقيصر ملك الروم ، والنجاشي في سلطانه ، وأني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه.
وقال (وَلَقَدْ رَأَيْتُ قَوْمًا لَا يُسْلِمُونَهُ لِشَيْءِ أَبَدًا ، فَرَوْا رَأْيَكُمْ)( ).
بدأ عروة كلامه بالعتاب واللوم وأنتهى بالثناء وإنذار قريش ، وهو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
صحابة دخلوا مكة
وكان عدد من الصحابة ساروا متخفين من الحديبية ودخلوا مكة ، وقيل دخلوها بأمان عثمان ، فلما علمت بهم قريش أخذوهم وهم :
الأول : كرز بن جابر الفهري.
الثاني: عبد الله بن سهيل بن عمرو بن عبد شمس.
الثالث : عبد الله بن حذافة السهمي.
الرابع : أبو الروم بن عمير العبدري .
الخامس : عياش بن أبي ربيعة .
السادس : هشام ابن العاص بن وائل .
السابع : أبو حاطب بن عمرو من عبد شمس .
الثامن : عمير بن وهب الجمحي .
التاسع : حاطب بن أبي بلتعة .
العاشر : عبد الله بن أبي أمية.) ( ).
وقيل أن المسلمين أسروا اثني عشر فارساً أيضاً .
الخامس : لما أخذ المسلمون عدداً من المشركين بعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومِكرَزَ بن حَفص ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سهيلاً تفاءل بالاسم والشخص وقال (سهل أمركم) ( ).
وهل قول النبي هذا من التفاءل بالأسماء وحده ، أم أنه بالوحي أيضاً ، الجواب هو الثاني بالإضافة إلى إسلام أولاد وإخوة سهيل قبل الحديبية ، وفيه بشارة وإخبار عن إنفراج .
ومن الآيات أن سهيلاً هذا بدأ كلامه بما يشبه الإعتذار ، إذ قال (يا محمد إن الذي كان من حبس اصحابك وما كان من قتال من قاتلك لم يكن من راى ذوي رأينا بل كنا له كارهين حين بلغنا، ولم نعلم به، وكان من سفهائنا، فابعث الينا باصحابنا الذين اسرت اول مرة، والذين أسرت آخر مرة) ( ) .
فلم يمانع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأنه لم يأت ليأسر جماعة من قريش ،ولكنهم هم الذين اعتدوا فاشترط النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ترسل قريش أصحابه الذين دخلوا مكة مع الفارق بين الطرفين ، فهؤلاء الصحابة لم يقاتلوا ، ولم يقصدوا الغدر ، إنما دخلوا إلى أهليهم ولرؤية البيت الحرام ، وقضاء بعض الحوائج ، فقال سهيل وأصحابه : انصفتنا .
فبعثوا الشييم بن عبد مناف التميمي أن اطلقوا عثمان والعشرة الذي تقدم ذكرهم ، وقيل جاء الخبر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن عثمان قد قتل ، وأتى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منازل بني مازن بن النجار ، إذ كانوا في ناحية من الحديبية وهم بطن من الخزرج ، وهم أخوال عبد المطلب بن هاشم.
ومن أشهر الصحابة أبو أيوب الأنصاري الخزرجي الأنصاري الذي نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في داره عند أول وصوله إلى المدينة في الهجرة المباركة ، فحينما بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على باب أبي أيوب بعد أن أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها مأمورة (فبركت الناقة على باب أبي أيوب فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدفوف وهن يقلن نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار.
واخرج البيهقي عن عائشة قالت لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة جعل النساء والصبيان يقلن طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع ) ( ).
ومنهم أسعد بن زرارة الخزرجي الأنصاري نقيب بني النجار ، ومنهم حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،ومنهم أنس بن مالك الذي يرجع نسبه إلى عدي بن النجار.
قانون نعمة الحديبية
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار النعم إذ تترى النعم من وجوه :
الأول : النعمة الفردية والخاصة التي تأتي للشخص مثل العافية ومنها ما ينتفع منها غيره أيضاً .
الثاني : النعمة التي تأتي للأسرة .
الثالث : النعمة التي تأتي لأهل القرية والبلد .
الرابع : النعمة العامة التي ينهل منها كل إنسان ، ومنها نعمة المطر والخصب ، وازدهار التجارات ، ومنها نعمة السلم والأمن .
الخامس : النعمة التي تتغشى الأجيال ، ومنها نعمة النبوة والتنزيل فيبعث الله عز وجل نبياً بين قومه ، ولكن النفع يعم الناس وان كانت رسالته إلى خصوص قومه ، وهذا العموم من مصاديق قوله تعالى [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا] ( ).
ويحتمل صلح الحديبية وجوهاً :
الأول : إنه بشارة .
الثاني : إنه إنذار .
الثالث : إختلاف موضوع صلح الحديبية عن البشارة والإنذار .
الرابع : إنه حجة على الناس .
وباستثناء الوجه الثالث أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق هذا الصلح ، والمراد من لفظ (الناس) في الآية أعلاه العموم الإستغراقي ، فقد تفضل الله عز وجل بايصال رسالة وجوب عبادته إلى الناس جميعاً ، فلا يقول أحد يوم القيامة لم يأتنا رسول ، ولم نعلم بتنزيل من الله أو معجزات النبوة .
(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين) ( ).
لقد كان صلح الحديبية رحمة وسكينه ، وهو من مصاديق تسميته من عند الله بالفتح المبين ، إذ قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، ومن معاني المبين تعدد الوجوه والمواضيع والأحكام التي يتضمنها هذا الصلح من جهات :
الأول : أوان عقد هذا الصلح .
الثاني : مكان الصلح وأنه على مشارف مكة .
الثالث : دلالات صلح الحديبية .
الرابع : المسائل المستقرأة من صلح الحديبية .
الخامس : قانون التخفيف عن الناس بصلح الحديبية .
ومن وجوه تقدير قوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( )، في الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجوه :
الأول : صلحك يا رسول مع المشركين خير لك وللمسلمين .
الثاني : صلحك يا رسول الله مع المشركين خير لعامة الناس .
الثالث : يا أيها النبي لا تتردد في الصلح ولا تجعل شروطاً عسيرة فان الصلح خير وإن كان فيه تنازل .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لقد صالح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المشركين بأمر من عند الله ، فهذا الصلح من عمومات قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الخامس : يا أيها النبي الصلح خير ، وفيه إظهار لمعجزاتك .
السادس : يا أيها النبي الصلح خير في الدعوة والتبليغ .
وهل نزل قوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) قبل صلح الحديبية أو بعده .
وصلح الحديبية معلوم في زمانه وأنه في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة النبوية الشريفة .
والمختار نزول هذه الآية قبل صلح الحديبية.
ولم ينحصر الإستدلال على استحباب صلح الحديبية بالآية أعلاه ، بل هناك آيات عديدة تدل عليه ، وذات سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة في المقام ، فما دام اختار الصلح مع المشركين فلابد أنه الأحسن والأفضل .
وذكرت أسباب لنزول الآية أعلاه منها :
الأول : (وأخرج ابن سعد وأبو داود والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندنا ، وكان يطوف علينا يومياً من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها ، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت ، وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله يومي هو لعائشة .
فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت عائشة : فأنزل الله في ذلك { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً . . . }( ) الآية ) ( )وذكر أن الحديث ضعيف سنداً .
الثاني : (عن رافع بن خديج . أنه كانت تحته امرأة قد خلا من سنها ، فتزوج عليها شابة فآثرها عليها ، فأبت الأولى أن تقر ، فطلقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسير قال : إن شئت راجعتك وصبرت على الأثرة ، وإن شئت تركتك .
قالت : بل راجعني .
فراجعها فلم تصبر على الأثرة ، فطلقها أخرى وآثر عليها الشابة ، فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله أنزل فيه { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً . . . }( ) الآية)( ).
نزلت الآية بسبب رافع بن خديج وخولة بنت محمد بن مسلمة ، وذلك أنه خلا من سنها فتزوج عليها شابة ، فآثر الشابة فلم تصبر هي فطلقها طلقة ثم تراجعا ، فعاد فآثر الشابة فلم تصبر هي فطلقها أخرى ، فلما بقي من العدة يسير قال لها : إن شئت راجعتك وصبرت على الاثرة ، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك ، قالت : بل راجعني وأصبر ، فراجعها فآثر الشابة فلم تصبر ، فقال : إنما هي واحدة ، فإما أن تقري على ما ترين من الإثرة ، وإلا طلقتك ، فقرت فهذا هو الصلح الذي أنزل الله فيه {وإن امرأة خافت} الآية( ).
الثالث (عن عائشة قالت : نزلت هذه الآية {والصلح خير} في رجل كانت تحته امرأة قد طالت صحبتها وولدت منه أولاداً ، فأراد أن يستبدل بها ، فراضته على أن يقيم عندها ولا يقيم لها)( ).
الرابع : عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا ” قال: هي المرأة تكون عند الرجل فيكرهها فيقول: إني اريد أن اطلقك فتقول: لا تفعل فاني أكره أن يشمت بي ولكن انظر ليلتي فاصنع ما شئت، وما كان
من سوى ذلك فهو لك فدعني على حالي، فهو قوله: ” فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير ” وهو هذا الصلح) ( ).
الخامس :نزلت الآية بسبب أبي السنابل بن بعكك وامرأته .
السادس : عن علي بن أبي طالب انه سئل عن هذه الآية فقال : هو الرجل عنده امرأتان ، فتكون إحداهما قد عجزت أو تكون دميمة فيريد فراقها ، فتصالحه على أن يكون عندها ليلة وعند الأخرى ليالي ولا يفارقها ، فما طابت به نفسها فلا بأس به ، فإن رجعت سوَّى بينهما( ).
السابع : أخرج ابن ماجة عن عائشة نزلت هذه الآية {والصلح خير} في رجل كانت تحته امرأة قد طالت صحبتها وولدت منه أولاداً ، فأراد أن يستبدل بها ، فراضته على أن يقيم عندها ولا يقيم لها( ).
ويدعو القرآن إلى الصلح ويبين حسنه الذاتي وهناك آيات متعددة تدعو إلى الصلح منها قوله تعالى [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]( )، وقوله تعالى [وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( )، و(عن أبي الدرداء ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ألا أخبركم ، بأفضل من درجة الصيام ، والقيام ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : إصلاح ذات البين ، وفساد ذات البين هي الحالقة)( ).
وقد وردت آيات عديدة في الصلح منها ما يدل على بعث المسلمين للسعي في الصلح بين الناس مطلقاً ، قال تعالى [وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وذكرت الآية أعلاه لفظ الناس لندب المسلمين لإشاعة فلسفة الصلح في كافة أقطار الأرض ، سواء بين الأفراد أو الجماعات أو الدول من غير أن ينظر المسلمون إلى مسألة احتمال الصلح بين فئات مختلفة يكون ضاراً بالمسلمين من الجهة العسكرية أو التجارية أو الإقتصادية أو الإجتماعية .
وقدمت الآية أعلاه التقوى على الإصلاح بين الناس لبيان أن الصلح نوع حكم وشبه قضاء ، فيجب ألا يكون فيه ميل على جهة دون أخرى ،فهذا الميل خلاف التقوى ، ويكون سبباً للضغائن ، واحتمال الفتنة حتى مع الذي قام بالصلح .
ووردت الآيات بالصلح بين الزوجين ، والصلح بين المسلمين ، كما يدل قوله تعالى [وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) على لزوم إجتناب أسباب الفرقة ومقدمات الشقاق بين المسلمين .
أولاد سهيل من المهاجرين الأوائل
كان سهيل قد أسر يوم بدر ، وكان أولاد سهيل وبعض إخوته قد دخلوا الإسلام ، ومنهم من هاجر إلى الحبشة من وجوه :
الأول : هاجر عبد الله بن سهيل إلى الحبشة ثم رجع إلى مكة فقيده أبوه ، وسعى أبوه لفتنته فأظهر الرجوع عن الإسلام إي الإرتداد ، ولكن قلبه مطمئن بالإيمان ، وأخرجه أبوه معه إلى معركة بدر .
ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التحق عبد الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وشهد المشاهد كلها .
بينما أُسر أبوه في بدر ، وكان عبد الله هذا أحد الشهود على صلح الحديبية ، وهو أسن من أبي جندل .
ولم يحتج على أسر أبيه يوم بدر ، ولكنه طلب له الأمان يوم فتح مكة ، إذ (أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله أبي تؤمنه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : ” نعم هو آمن بأمان الله فليظهر .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن حوله : ” من رأى سهيل بن عمرو فلا يشد إليه النظر . فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف وما مثل سهيل جهل الإسلام .
ولقد رأى ما كان يوضع فيه أنه لم يكن بنافعه ” فخرج عبد الله إلى أبيه فأخبره مقالة رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فقال سهيل : كان والله برا صغيرا وكبيرا . واستشهد عبد الله بن سهيل بن عمرو يوم اليمامة سنة اثنتي عشرة وهو ابن ثمان وثلاثين سنة) ( ).
الثاني : سهلة بنت سهيل هاجرت إلى الحبشة مع زوجها أبي حذيفة عتبة بن ربيعة فولدت هناك محمد بن حذيفة ، وأستشهد أبو حذيفة في اليمامة والتي وقعت سنة(11) للهجرة وتوافق سنة (631) ميلادية وعمره (53) سنة للهجرة ، وهي إحدى معارك وحروب الردة .
وسهلة (هي زوجة عبد الرحمن بن عوف، خلف عليها بعد أبي حذيفة، وولدت لأبي حذيفة : محمد بن أبي حذيفة، وولدت لعبد الله بن الأسود من بني مالك : سليط بن عبد الله بن الأسود، وولدت لشماخ بن سعيد: بكير بن شماخ، وولدت لعبد الرحمن: سالم بن عبد الرحمن بن عوف) ( ) وهي التي رويت عنها الرخصة في رضاع الكبير ، ولا أصل له ، وهو معارض للكتاب والسنة .
الثالث : أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو زوجة أبي سمرة بن أبي رهم العامري ، ولم يذكرها ابن إسحاق .
الرابع : أبو جندل بن سهيل قد حبسه وقيده سهيل بن عمرو بالسلاسل لإسلامه وقصته معروفة في صلح الحديبية .
الخامس : حاطب بن عمرو أخو سهيل بن عمرو (وأسلم حاطب بن عمرو قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم دار الأرقم وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين جميعا في رواية ابن إسحاق والواقدي
وروى الواقدي عن سليط بن مسلم العامري عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه قال أول من قدم أرض الحبشة حاطب بن عمرو بن عبد شمس في الهجرة الأولى) ( ).
السادس : سليط بن عمرو بن عبد شمس العامري أخو سهيل بن عمرو ،وكان من المهاجرين الأولين ممن هاجر الهجرتين ، ومن المؤرخين من ذكره فيمن شهد بدراً .
وفي السنة السابعة للهجرة بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى هوذة بن علي الحنفي في اليمامة ، وأستشهد سنة أربع عشرة للهجرة .
السابع : السكران بن عمرو أخو سهيل ، أسلم قديماً هو وزوجته سودة بنت زمعة ، وهي بنت عمه وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية ، ولما قدما مكة مات السكران ، وقيل مات في الحبشة( ) ، والأولى أصح ، وولدت له ابناً اسمه عبد الرحمن ، قتل في حرب جلولاء.
وبعد موت خديجة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة العاشرة للبعثة النبوية تزوج النبي سودة بنت زمعة ، ومع هذا فانها لم تحتمل رؤية سهيل بن عمرو في أسرى بدر مقيداً بالسلاسل (عن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، وقدم بالأسرى حين قدم بهم، وسودة بنت زمعة عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ، وذلك قبل أن يضرب الحجاب.
قالت سودة: فأتينا فقيل لنا: هؤلاء الأسرى قد أتي بهم.
فخرجت إلى بيتي ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فيه، وإذا أبو يزيد مجموعةٌ يداه إلى عنقه في ناحية البيت، فوالله إن ملكت حين رأيته مجموعةً يداه إلى عنقه أن قلت: أبا يزيد، أعطيتم بأيديكم! ألا متم كراماً؟
فوالله ما راعني إلا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم من البيت: يا سودة أعلى الله وعلى رسوله؟
فقلت: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق نبياً ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعةً يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت)( ) ولم ينزل بعد قوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا]( )، ولم تعلم أن الله عز وجل سيمنّ على سهيل بالتوبة وحسن إسلامه .
لقد أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة شهر رمضان وشوال بعد كتيبة بني المصطلق التي وقعت في شهر شعبان من السنة السادسة للهجرة ، إذ بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن بني المصطلق يعدون العدة للإغارة على المدينة ، وقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووجدهم وهم غارون فاستولى على أنعامهم وسبي نساءهم ، ثم تزوج جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار فاعتق واعيد جميع السبايا.
وخرج في ذي القعدة معتمراً لا يريد قتالاً ولا حرباً .
قال ابن إسحاق (واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادى من الاعراب وهو يخشى من قريش الذى صنعوا أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت فأبطأ عليه كثير من الاعراب) ( ).
ولكن الغايات الحميدة لإستنفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم القبائل وأهل البوادي ممن حول المدينة لايعلمها إلا الله عز وجل ، منها :
الأولى : بيان عز الإسلام .
الثانية : رجاء الثواب لمن خرج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : إشعار العرب بابتداء زمن السلم بأداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه العمرة .
الرابعة : إخبار قريش بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قادم لأداء العمرة .
الخامسة : إقامة الحجة ، لا يقول بعضهم : لو دعيت إلى صلح الحديبية، وبيعة الرضوان لأجبت ، وإرادة الإطلاق في قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
السادسة : إيصال رسالة إلى قريش أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد العمرة وليس القتال .
قانون سهل أمركم
مع أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية قال (لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله، إلا أعطيتهم إياها) ( ) إلا أنه ألحّ بزيارة البيت الحرام في تلك السنة ، لأن منعه وأصحابه من دخوله ليس من حرمات الله.
وهو من الإعجاز في السنة النبوية بتقييد رضا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشروط بما فيه تعظيم شعائر الله ، ولكن سهيل بن عمرو رئيس وفد قريش أبى دخولهم مكة ،وقال (وَاَللّهِ لَا تَتَحَدّثُ الْعَرَبُ أَنّا أُخِذْنَا ضَغْطَةً وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ) ( ) والمراد من ضغطة أي قهراً وعنوة .
وقد أسلم سهيل فيما بعد وحسن إسلامه .
لقد استبشر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقدوم سهيل بن عمرو ، وكان يتفاءل بالأسماء ، فقال : قد سهل لكم أمركم من أمركم ، وهل المراد من سهولة الأمر خصوص صلح الحديبية أم هو أعم موضوعاً زماناً ومكاناً ، الجواب هو الثاني .
وعندما وصل سهيل قال : هات أكتب بيننا وبينكم كتاباً .
فدعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام ليكتب الكتاب .
لقد امتنع سهيل بن عمرو عن دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة في السنة السادسة ، ليتم في السنة الثامنة فتح مكة ليس للنبي وأصحابه وحدهم بل لأجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، ويدل امتناع سهيل عن دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة على سقوط ولاية كفار قريش الظاهرة على البيت الحرام ، ليكون هذا الإمتناع حجة عليهم ، وسبباً في تعجيل فتح مكة ، لوجود المقتضي وفقد المانع .
وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) .
ومن الشروط يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في قابل أي في السنة السابعة للهجرة ، ولم تشترط قريش خصوص ذات العدد مع النبي أو أقل أو أكثر ،ولكنهم اشترطوا أمرين :
أولاً : بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة ثلاثة أيام فقط ، وأن قريشاً سيخلون مكة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فيها .
ثانياً : لا يدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة إلا بسلاح المسافر (وَلَا يَدْخُلُهَا إلّا بِجُلْبَانِ( ) السّلَاحِ) ( ).
ترى لماذا اشترطت قريش هذا الشرط ، الجواب من جهات :
الأولى : العمرة نسك وعبادة ،وليس فيها إظهار كثيف للسلاح.
الثانية : لا يكون دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه دخول غلبة وقهر لقريش بقوة السلاح .
الثالثة : منع إجهار مسلمي مكة باسلامهم ، وتحريضهم الصحابة على كفار قريش وفتح مكة .
وإذ كان عدد الصحابة الذين مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ألف وأربعمائة ، فيحتمل وجوهاً :
الأول : أفراد ورجال قريش الذين في مكة أكثر من عدد الصحابة الذين حضروا مكة .
الثاني : نسبة التساوي بين الفريقين .
الثالث : الصحابة الذين حضروا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للعمرة أكثر من عدد رجال قريش .
والمختار هو الثالث أعلاه بدليل أن قريشاً حينما خرجوا إلى بدر كان عددهم بين التسعمائة إلى الألف مع أنهم ألزموا كل واحد بالخروج ، ومن لم يخرج أرسل بديلاً .
بالإضافة إلى خروج الشباب المسلم الذين في مكة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وعدد هؤلاء الشباب ليس قليلاً ذكوراً وأناثاً ، وهم في إزدياد مطرد ، وقد كان بعض رجالات قريش قد حبس ابنه وقيده بالسلاسل خشية التحاقه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهجرته إلى المدينة ، ومع كل مرة يهاجر فيها فرد أو جماعة إلى المدينة يقل عدد سكان مكة وتضعف شوكتهم ، وهناك مسائل :
الأولى : هل كان من أسباب إرجاء زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للبيت الحرام في صلح الحديبية خشية قريش من استيلاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على مكة .
الثانية : هل كان بمقدور النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الإستيلاء على مكة .
الثالثة : هل كان في نية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الإستيلاء على مكة .
الرابعة : هل يحتمل نزول الوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة بالإستيلاء عليها ، وكسر الأصنام التي كانت في البيت الحرام .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم ، وان كانوا قد افرغوا مكة له في السنة التالية ، ولكن لابد من طرق إحتراز اتخذتها قريش لأن الدخول في عمرة القضاء تم بعد صلح الحديبية ، وقد جاءت شروط صلح الحديبية للإشارة لمنع هذا الإستيلاء.
ولم تكن قريش مستعدة للأمر ، فان قلت إذن كيف رضيت قريش أن يدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة في العام التالي ، الجواب قد أخذت قريش وحلفاؤها الخطط والإستعداد لمثل هذا الإحتمال ومنه اشتراط سهيل بن عمرو على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يأتوا بسلاح معهم .
وأما بالنسبة للمسألة الثانية فالجواب نعم ، ولكنه لم يدخلها عنوة لأن الله عز وجل لم يأذن له ، ولتقيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشروط الصلح ، و(عَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِىِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ َالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا)( ).
فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قادرين على فتح مكة أيام العمرة خاصة وأن قريشاً لن تسخر الكثير ، إذا تم الفتح كما حدث في السنة الثامنة وإذ كان همهم طلب الصفح من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد بادر إلى العفو عنهم إذ قال كلمته الخالدة.
إذهبوا فانتم الطلقاء( )، والتي قد لا تجدها في كتب التأريخ في غير هذا الموضع .
وخاطب بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ألد أعدائه الذين آذوه وأهل بيته وأصحابه.
(ولما دخل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، مكة كانت عليه عمامة سوداء، فوقف على باب الكعبة وقال: لا إله إلا الله وحده، وصدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل دم أو مأثرة أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحج.
ثم قال: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ، قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخٍ كريم.
قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فعفا عنهم، وكان الله قد أمكنه منهم، وكانوا له فيئاً، فلذلك سمى أهل مكة الطلقاء)( ).
أما المسألة الثالثة فالجواب كلا ، فلم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يرومون فتح مكة والإستيلاء عليها ،لا في صلح الحديبية ، ولا في عمرة القضاء ، قال تعالى [لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ]( ).
أما المسألة الرابعة فالمختار نعم ، فان الوحي ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأوامر والنواهي ، وفي التنزيل في الثناء على الله عز وجل [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( )، وملك السموات والأرض كله لله عز وجل وحده وهو الذي أبى إلا نصر رسله ، ولو نزل الوحي بفتح مكة في صلح الحديبية أو عمرة القضاء لنزل الملائكة مدداً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولجعل الله عز وجل المشركين عاجزين عن التصدي والقتال المستمر ، وهذا العجز من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
شروط صلح الحديبية
قد يقال بنود( ) الصلح ، ويدل هذا الصلح بذاته وشروطه على رفع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للواء السلم ، واتصافه بالصبر والتقوى مع الناس ومنهم المشركون .
ومن معاني قوله تعالى [الصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) فضل الله بتهيئة مقدمات وأسباب الصلح سواء كان في القضايا الشخصية أو الدولية، ولما كان صلح الحديبية بين رسول الله وبين المشركين فان الله عز وجل قربه إلى الناس ، وقربهم إليه ، ولم يخطر على بال قريش أنهم يمضون صلحاً مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد كانت وسيلتهم دائماً السيف والقتال ، وإرادة سفك الدماء .
فحينما يلتقي الجمعان يتنافس عدد من رجالهم للمبارزة ، وتكون عاقبتهم القتل والهلاك ، ومع هذا لم يتعظ الذين من بعدهم ، ففي معركة بدر برز ثلاثة من رجالاتهم ، وطلبوا المبارزة ، وأصروا عليها وهم :
الأول :عتبة بن ربيعة .
الثاني : شيبة بن ربيعة .
الثالث : الوليد بن شيبة .
وسرعان ما قتلوا في الميدان، إذ قتلهم الإمام علي عليه السلام وحمزة وعبيدة بن الحارث الذي جرح في المعركة ومات في الصفراء في طريقه إلى المدينة .
وفي معركة أحد والتي وقعت بعدها بثلاثة عشر شهراً برز أصحاب اللواء من بني عبد الدار فقُتلوا كلهم ، وفي معركة الخندق أصر عمرو بن ود العامري على المبارزة وهو فارس قريش فقتله الإمام علي عليه السلام ، وقال تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ) لبيان قانون وهو أن المبارزة الفردية لا يصدق عليها أنها قتال عام .
ومن القتال قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) بخصوص معركة بدر ومعركة أحد ثم خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية بعد معركة الخندق بنحو ثلاثة عشر شهراً أيضاً على القول بأنها وقعت في السنة الخامسة للهجرة وليس الرابعة .
ولا يمكن أن يتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ديار المشركين والبلدة التي يقطنون ، ولا استجابة الف وأربعمائة من الصحابة له إلا بالوحي والتسليم بأن ما يختاره ويأمر به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أمر الله عز وجل ، قال تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ] ( ).
وهل أدركت قريش وكفارها هذا القانون وموضوعية لغة الوحي في قول وفعل ونداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنفير ، هل أدركت قريش أنه لم يتوجه إلى العمرة ويعرض نفسه وأصحابه إلى الخطر والضر إلا بالوحي ، المختار نعم ،وهو من مقدمات صلح الحديبية .
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك .
قلنا : يا رسول الله تخاف علينا وقد آمنا بك .
فقال : إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يقول به هكذا) ( ).
ولم تكن قريش سهلة في الصلح وشروطه إنما كان وفدهم مستعداً لتعطيل أو إبطال الصلح ، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أظهرعزمه على قبول شروط قريش ، وتنازل لهم لأنه يعلم أن [َالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) .
وتدرك قريش هذا القانون العام لأنهم على دراية بأخبار الممالك وقصص الماضين ، والوقائع والمعارك والأشعار التي نظمت بخصوصها ، والتي تبين تفاصيل وشواهد منها حاضرة في الوجود الذهني ، ويتوارثون ترجمة للرجال والرؤساء الشجعان .
ولو لم ترض قريش بالصلح في الحديبية ماذا يقع ، فيه وجوه :
الأول : القتال وسفك الدماء .
الثاني : بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الحديبية لحين انقضاء موسم الحج .
الثالث : دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الحرم المكي في أيام الحج ، خاصة وأن الحديبية تقع في أطراف الحرم وتبعد عن المسجد الحرام نحو (24)كم ، ووجود مسلمين ومسلمات في مكة وفي وفود الحاج ، أي بأمكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الزحف ليلاً لدخول مكة.
وعلى فرض المشي على ضعاف الصحابة والذين ليس عندهم رواحل ، فتقطع نحو ستة كيلو متر في الساعة ، أي إن ساروا من الحديبية فيقطعون المسافة في نحو أربع ساعات .
وعلى فرض تحقق هذا الأمر ، فهل هو من القتال المحرم في الشهر الحرام ، إذ كانوا في شهر ذي القعدة ، وقد قال الله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ).
الجواب إنه ليس من القتال المحرم ، إنما إرادة الدخول إلى البيت الحرام لأداء العمرة .
الرابع : رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة بعد والمنع من العمرة .
أما الأول فلعله من الممتنع لجهات :
الأولى : احتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) عندما شكوا فساد الإنسان في الأرض وسفك الدماء ، ومن مصاديق هذا الإحتجاج عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من القتال في الحديبية .
الثانية : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية هو وأصحابه من غير أسلحة ودروع وخوذ من الوحي ، وقال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
الثالثة : مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الحديبية في شهر حرام وهو ذو القعدة ، ولن تبقى إلا أيام معدودة على مناسك الحج ، وتخشى قريش الفتنة العامة ، ولحوق العار بهم لصدّهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وقتالهم له .
الرابعة : تجلي مصداق للقانون الذي ذكره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حرمة مكة ،(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض والشمس والقمر ، ووضع هذين الاخشبين فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا يلتقط لقطتها إلا من عرفها .
قال العباس : إلا إلإِذخر فإنه لقينهم وبيوتهم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إلا الإِذخر) ( ).
الخامسة : حال الإنهاك والإجهاد والإعياء التي صارت عليها قريش بسبب توالي المعارك ضد النبوة والتنزيل ، وعدم خروجهم بالنفع من أي واحدة منها ، فحتى معركة أحد التي لم ينهزم فيها جيش المشركين فقد أخبر الله عز وجل عن خسارتهم ، ويدل عليه قوله تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ وفيه مسائل :
الأولى : إخبار الآية عن قتل عدد من رجالات الكفار ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ).
فان قلت هل تختص الآية أعلاه بمعركة بدر وبقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برمي الحصى وذرات الرمل في وجوه جيش المشركين.
الجواب لا ، إنما موضوع النزول ، أما معاني ومصاديق الآية فهي أعم فتشمل معارك الإسلام الأخرى ، وقيام أهل البيت والصحابة بالرمي والمبارزة .
بالإضافة إلى تعدد أسباب نزول هذه الآية من وجوه :
أولاً : نزلت الآية في معركة بدر (عن مكحول قال : لما كرَّ علي وحمزة على شيبة بن ربيعة ، غضب المشركون وقالوا : اثنان بواحد.
فاشتعل القتال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم إنك أمرتني بالقتال ووعدتني النصر ولا خلف لوعدك ، وأخذ قبضة من حصى فرمى بها في وجوههم فانهزموا بإذن الله تعالى ، فذلك قوله {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}( ))( ).
ثانياً : نزلت في معركة أحد (عن سعيد بن المسيب قال : لما كان يوم أحد أخذ أبي بن خلف يركض فرسه حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، واعترض رجال من المسلمين لأبي بن خلف ليقتلوه.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استأخروا فاستأخروا ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حربته في يده ، فرمى بها أبي بن خلف وكسر ضلعاً من أضلاعه .
فرجع أبي بن خلف إلى أصحابه ثقيلاً فاحتملوه حين ولوا قافلين ، فطفقوا يقولون : لا بأس ، فقال أبي حين قالوا له ذلك : والله لو كانت بالناس لقتلتهم ، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله .
فانطلق به أصحابه ينعشونه حتى مات ببعض الطريق فدفنوه ، قال ابن المسيب: وفي ذلك أنزل الله تعالى {وما رميت إذ رميت}( ) الآية) ( ).
(عن عبد العزيز بن (جبير) أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر دعا بقوس فأُتي بقوس طويلة فقال : جيئوني بغيرها،
فجاءوا بقوس كبداء فرمى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتّى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه فأنزل الله تعالى : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}( ) فهذا سبب نزول الآية) ( ).
والمختار أنها نزلت في بدر ، ولا مانع من تكرار موضوعها .
لم ترض قريش بالجلوس للمفاوضات والصلح بادئ الأمر في صلح الحديبية ، إذ كانت تبعث الوفد بعد الوفد ، وكان خيالتهم برئاسة خالد بن الوليد يهددون لإقتحام مجمع المسلمين في الحديبية ، والذي لا يصدق عليه اسم معسكر لأن الصحابة في لباس العمرة ، وليس معهم أسلحة ، وهم مشغولون بالتكبير والتهليل والتلبية .
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة في موسم الحج ينادي في أسواق مكة وفي عرفة ومنى (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) وأبو لهب وبعض قريش يسخرون منه ، ويرمونه بالجنون .
(عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا : أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِمَكّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ مِنْ أَوّلِ نُبُوّتِهِ مُسْتَخْفِيًا .
ثُمّ أَعْلَنَ فِي الرّابِعَةِ فَدَعَا النّاسَ إلَى الْإِسْلَامِ عَشْرَ سِنِينَ يُوَافِي الْمَوْسِمَ كُلّ عَامٍ يَتّبِعُ الْحَاجّ فِي مَنَازِلِهِمْ وَفِي الْمَوَاسِمِ بِعُكَاظٍ وَمَجَنّةَ وَذِي الْمَجَاز ِ يَدْعُوهُمْ إلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ حَتّى يُبَلّغْ رِسَالَاتِ رَبّهِ وَلَهُمْ الْجَنّةُ.
فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَلَا يُجِيبُهُ حَتّى إنّهُ لَيَسْأَلُ عَنْ الْقَبَائِلِ وَمَنَازِلِهَا قَبِيلَةً قَبِيلَةً وَيَقُولُ يَا أَيّهَا النّاسُ .
قُولُوا : لَا إلَهَ إلَا اللّهُ تُفْلِحُوا وَتَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَبَ وَتَذِلّ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ فَإِذَا آمَنْتُمْ كُنْتُمْ مُلُوكًا فِي الْجَنّةِ.
وَأَبُو لَهَب ٍوَرَاءَهُ يَقُولُ لَا تُطِيعُوهُ فَإِنّهُ صَابِئٌ كَذّابٌ فَيَرُدّونَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَقْبَحَ الرّدّ وَيُؤْذُونَهُ وَيَقُولُونَ أُسْرَتُك وَعَشِيرَتُكَ أَعْلَمُ بِكَ حَيْثُ لَمْ يَتّبِعُوك وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ وَيَقُولُ اللّهُمّ لَوْ شِئْتَ لَمْ يَكُونُوا هَكَذَا) ( ).
ليهاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وهل انقطع نداء التوحيد في موسم الحج بغيابه وهجرته ، الجواب لا ، إذ بقيت طائفة من المسلمين تردد ذات النداء وتتصل بالقبائل .
وما أن مرت ست سنوات على هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة حتى جاء ومعه ألف وأربعمائة كلهم يقولون لا إله إلا الله ، قد بلغوا درجة الفلاح والنجاح والظفر ، وهل كانت أصواتهم وتلبيتهم عندما كانوا في الحديبية تصل إلى مكة ، الجواب نعم .
فهل بنود وشروط صلح الحديبية من الكلي المتواطئ ، وأنها على مرتبة واحدة من حيث القوة والأثر ، أم أنها من الكلي المشكك وأن بعضها أقوى من بعض وأكثر أثراً .
المختار هو الثاني .
والمتواطئ هو الكلي الذي يتحقق معناه على أفراده بالسوية مثل الإنسان ، فالمتواطئ لفظ واحد يصدق على كثيرين , بينما المشكك مأخوذ من الشك للتفاوت بين أفراده من جهة الكثرة والقلة ، والقوة والضعف مثل نور السراج ، وبياض الثلج .
قانون وجوه الفتح في الحديبية
بعد أن تم صلح الحديبية قفل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو وأصحابه راجعين إلى المدينة ، لم يدخلوا مكة لأداء العمرة ، إنما نحروا الهدي وحلقوا في الحديبية ومن الصحابة .
فحينما علم الصحابة قبل الخروج إلى الحديبية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رآى رؤيا بدخولهم البيت الحرام تبادر إلى الأذهان أن الدخول إلى مكة يكون في تلك السنة ، قال تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
وعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلح والوئام فلا تغير خيول قريش ولا غطفان ولا ثقيف على المدينة بعدئذ ، لبيان أن السلام هو الأهم .
ومن أسماء الله عز وجل الحسنى السلام ، وفي التنزيل [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ).
ومن خصائص الحياة الدنيا حاجة الناس إلى السلام والأمن سواء بالنسبة للأفراد أو القبائل أو الأمم ، لذا قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ) .
وتدل لام التعليل في لتعارفوا على أن القتال ضد للتعارف وسنخية الدنيا ، وهذا التعارف مقيد بوجوب التقوى والخشية من الله ، وهل سعي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لصلح الحديبية من التقوى ، الجواب نعم .
ومن التقوى رضا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشروط قريش ، لبيان مصداق لقوانين :
الأول : قانون لم يغز النبي (ص) أحداً .
الثاني : قانون يدفع النبي أسباب ومقدمات القتال ، قال تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ).
الثالث : قانون أولوية الصلح ، ونبذ القتال .
الرابع : قانون الرفق بالكفار عند اصابتهم بالوهن فحينما علمت قريش بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم متوجه إلى الحديبية لأداء العمرة خرجت خيلهم برئاسة خالد بن الوليد ، وقدموها الى كراع الغميم ، فصبر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال : يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الْحَرْبُ ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلّوْا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ ، فَإِنْ هُمْ أَصَابُونِي كَانَ الّذِي أَرَادُوا .
وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللّهُ عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَافِرِينَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوّةٌ فَمَا تَظُنّ قُرَيْشٌ .
فَوَاَللّهِ لَا أَزَالُ أُجَاهِدُ عَلَى الّذِي بَعَثَنِي اللّهُ بِهِ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السّالِفَةُ ثُمّ قَالَ مَنْ رَجُلٌ يَخْرَجُ بِنَا عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِهِمْ الّتِي هُمْ بِهَا( ).
لقد اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم له ولاصحابه طريقاً وعراً وطويلاً وفيه مرتفعات ، وبذلوا الجهد والمشقة إلى أن خرجوا إلى أرض سهلة منبسطة.
الخامس : قانون موضوعية الرؤيا في السنة النبوية الشريفة ، ومن الإعجاز توثيق القرآن لهذه الرؤيا وبقاء موضوعها إلى يوم القيامة .
وأختلف في المراد بالفتح القريب على وجوه :
الأول : المراد من الفتح فتح مكة ، وهو مشهور علماء الإسلام.
الثاني : فتح المدائن والقصور .
الثالث : فتح خيبر .
(عن ابن عباس قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئاً ، ركعتين ) ( ).
آية ببدر بلحاظ الصلح
لم يكن نعت صلح الحديبية بأنه فتح مبين إلا بعد تحقق نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معارك الدفاع الأولى ، ومنها معركة بدر ، قال تعالى وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
ويمكن تقدير الآية على وجوه :
الأول : ولقد نصركم الله ببدر ليتم صلح الحديبية إذ أنهكت المعارك قريشاً ، ومن والاهم .
الثاني : ولقد نصركم الله ببدر ، مقدمة لعقد صلح الحديبية .
الثالث : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فسرتم إلى الحديبية ألفاً وأربعمائة وأنتم أعزة وذو منعة .
الرابع : فاتقوا الله وأرضوا بصلح الحديبية .
الخامس : فاتقوا الله بعد صلح الحديبية بالدعوة إلى الله .
السادس : لعلكم تشكرون الله على صيرورة معركة بدر مقدمة ونوع طريق لصلح الحديبية .
السابع : لعلكم تشكرون الله على صلح الحديبية .
الثامن : ولقد نصركم الله ببدر وسيفتح لكم في الحديبية .
التاسع : ولقد نصركم الله ببدر ومقاليد الأمور كلها بيده تعالى.
العاشر : ولقد نصركم الله ببدر فأصبروا وأدفعوا المشركين حتى يتم الصلح .
وسيأتي كل من :
الأول : قانون الصلة بين البعثة النبوية وصلح الحديبية .
الثاني : الصلة بين هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصلح الحديبية .
الثالث : موضوعية معركة بدر في صلح الحديبية .
الرابع : أثر ومنافع دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة أحد في تحقيق صلح الحديبية .
الخامس : قانون معركة الخندق مقدمة لصلح الحديبية .
وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم حين وقوع معركة بدر أنها ستكون نوع طريق لصلح الحديبية أو لا ، المختار هو الأول .
ولم يتم صلح الحديبية وأبى رجال قريش دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة وأداء العمرة في تلك السنة ، وهي السادسة للهجرة ، وألحّ عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليرضوا بدخوله وأصحابه دون جدوى فوافق على إرجاء هذا الدخول للعام التالي .
ليكون باباً للسخط على قريش ، وتعجيل فتح مكة ، لبيان أن الحاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على سهيل بن عمرو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فمن مصاديق الرحمة حينما جاء الفتح زاد شأن وتغشاهم العز بالإسلام وسيادة أحكامه ، لبيان قانون وهو ليس من متضرر من فتح مكة ، وهو من الشواهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً .
قانون صلح الحديبية إجتثاث للإرهاب
لقد أرسل الله عز جل أربعة وعشرين ألف ومائة ألف نبي إلى الناس من أيام آدم عليه السلام الذي كان نبياً رسولاً ، لتختم النبوة برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
لإنذار الناس من الكفر وما يترشح عنه من الأفعال المذمومة التي تجلب على أهلها وغيرهم الضرر ، مع البشارة للصالحين والتائبين بنيل رضوان الله والأجر والثواب الجزيل في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وهل نفعت بعثة الأنبياء الأجيال المتعاقبة ، الجواب نعم ، وكان نفعها عظيماً ، وهي ضرورة من ضرورات الحياة الدنيا ، لذا تفضل الله عز وجل بأمور :
الأول : بعثة الأنبياء .
الثاني : كثرة عدد الأنبياء .
الثالث : مصاحبة المعجزة والآيات للنبي والتي تدعو الناس للتصديق برسالته .
الرابع : وجود اتباع وأنصار لكل نبي من الأنبياء .
ويتصف أصحاب الأنبياء بالصلاح ، والمدد من عند الله للهداية ، وصرف البلاء وقد فاز أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصال حميدة ، ونزل القرآن بالثناء عليهم ، وكانوا على قسمين :
الأول : المهاجرون ، وهم الذين دخلوا الإسلام وهاجروا إلى المدينة المنورة قبل وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها وهل هجرة الصحابة إلى المدينة معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشهد الله عز وجل لهم بأن أخرجوا كرهاً عن مكة وعن أموالهم وعن قراهم ، طلباً لمرضاة الله ، قال تعالى [لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ]( )، وقد وثقت أخبار السنة النبوية وقائع الهجرة وأغلب أسماء المهاجرين ، ومن الآيات أن هجرتهم لم تكن خالية من الأذى بل يبدأ هذا الأذى من حين مغادرة المسلم مكة إذ تطاردهم قريش لمنعهم ومحاولة قتلهم ، ثم اصطفوا للقتال في معركة بدر وأحد والخندق وفي كل مرة كان المشركون هم الغزاة .
الثاني : الأنصار : وهو أهل يثرب الذين نصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم محمداً وينتمون إلى قبيلة الأوس والخزرج ، فصارت لهم المناقب والمآثر الخالدة .
والآوس والخزرج أخوان ابنا (حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، لقبهم به رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لما هاجر إليهم ومنعوه ونصروه، وأم الأوس والخزرج قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد، ولذلك يقال لهم أبناء قيلة.
وإنما لقب ثعلبة العنقاء لطول عنقه، ولقب عمرو مزيقياء لأنه كان يمزق عنه كل يوم حله لئلا يلبسها أحد بعده، ولقب عامر ماء السماء لسماحته وبذلك كأنه ناب مناب المطر، وقيل لشرفه، ولقب امرؤ القيس البطريق لأنه أول من استعان به بنو إسرائيل من العرب بعد بلقيس، فبطرقه رحبعم ابن سليمان بن داود، عليه السلام، فقيل له البطريق، وكانت مساكن الأزد بمأرب من اليمن إلى أن أخبر الكهان عمرو بن عامر مزيقياء أن سيل العرم يخرب بلادهم ويغرق أكثر أهلها عقوبةً لهم بتكذيبهم رسل الله تعالى إليهم. فلما علم ذلك عمرو باع ما له من مال وعقار وسار عن مأرب هو ومن تبعه، ثم تفرقوا في البلاد فسكن كل بطن ناحية اختاروها، فسكنت خزاعة الحجاز، وسكنت غسان الشام.
ولما سار ثعلبة بن عمرو بن عامر فيمن معه اجتازوا بالمدينة، وكانت تسمى يثرب، فتخلف بها الأوس والخزرج ابنا حارثة فيمن معهما، وكان فيها قرىً وأسواق وبها قبائل من اليهود من بني إسرائيل وغيرهم، منهم قريظة والنضير وبنو قينقاع وبنو ماسلة وزعورا وغيرهم، وقد بنوا لهم حصوناً يجتمعون بها إذا خافوا. فنزل عليهم الأوس والخزرع فابتنوا المساكن والحصون، إلا أن الغلبة والحكم لليهود إلى أن كان من الفطيون ومالك ابن العجلان ، فعادت الغلبة للأوس والخزرج، ولم يزالوا على حال اتفاق واجتماع إلى أن حدث بينهم حرب سمير)( ).
وأصل تسمية الآوس والخزرج انهما طائران من سباع الطير يتصفان بالبأس والنجدة .
وقيل لقبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأنصار .
إنما هذه التسمية من الله ، وفي القرآن وشهد لهم بأنهم سابقون في الإيمان كيلا يدخل معهم غيرهم في هذا العنوان والشرف العظيم ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
وكان عدد أفراد قبيلة الخزرج ثلاثة أضعاف قبيلة الآوس ، ومع أنهما ابناء عمومة فبينهم خصومة ومعارك متقطعة منها حرب سمير ، حرب بعاث التي كانت قبل بيعة العقبة بنحو سنتين ، وقبل هجره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخمس سنوات.
قانون صلح الحديبية فتح
قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا]( )، نزلت هذه الآية في صلح الحديبية إذ جعله الله عز وجل فتحاً ، وفتحاً مبيناً ، وفيه دعوة لتلمس منافع ذات الصلح .
(عن مجمع بن جارية الأنصاري قال : شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إلى كُراع الغميم( ) إذا الناس يوجفون الأباعر فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس؟
قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فخرجنا مع الناس نوجف ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على راحلته على كراع الغميم فاجتمع الناس عليه ، فقرأ عليهم {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} فقال رجل : يا رسول الله : أو فتح هو .
قال : والذي نفس محمد بيده إنه لفتح) ( ).
وفي رواية لما نزل بهذه الآية جبرئيل قال (يهنيك يا رسول الله فلما هناه جبريل هناه المسلمون) ( ).
لقد دخل في الإسلام بعد صلح الحديبية إلى حين فتح مكة عدد من الناس أكثر من الذين دخلوه مدة تسع عشرة سنة التي سبقته من الدعوة قبل الهجرة وبعدها .
وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة في صلح الحديبية ومعه ألف وأربعمائة من الصحابة ، وخرج في فتح مكة بعده بأقل من سنتين ومعه عشرة آلاف .
وذكر أنه هبط على النبي في صلح الحديبية (ثَمَانُونَ مُتَسَلّحُونَ يُرِيدُونَ غِرّتَهُ فَأَسَرَهُمْ ثُمّ مَنّ عَلَيْهِمْ) ( ).
هل كان منع النبي (ص) من دخول مكة سبباً لتعجيل فتحها
لقد أحاطت اللطائف الربانية بالنبي وأصحابه في الحديبية إلى أن تم عقد الصلح ، ولم يذكر في التنزيل بعنوان الصلح ، إنما ورد نعته بأنه فتح ، وهو من إعجاز القرآن ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) .
وكان أول شروط قريش في صلح الحديبية هو رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في عامهم هذا ، ومجيؤهم في قابل أي في السنة السابعة للهجرة , وهل يدل بالدلالة التضمنية على إرادة حصر وتعيين وقت العودة من قابل في نفس الشهر وهو ذو القعدة ، المختار نعم ، وكانت عمرة القضاء في شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة .
لقد كان صلح الحديبية فتحاً في ذاته ، وما ترتب عليه من النفع العظيم ، ولم تضع الحرب أوزارها ، ولم تلجأ قريش للصلح إلى بعد أن أنهكها القتال دون أي ثمرة أو كسب لهم ، وهل قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )مقدمة لصلح الحديبية ، الجواب نعم ، إذ نزلت الآية أعلاه في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة عندما أشرف ثلاثة آلاف مقاتل من قريش وحلفائها ، ورجال القبائل الذين جمعوهم ، فابتلاهم الله عز وجل بالإنسحاب الإضطراري والتقهقر إلى مكة مخلفين خلفهم (24) قتيلاً.
وكانت غايتهم الكبرى قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقف نزول آيات القرآن التي تفضح عبادة الأوثان ، وتخزي قريشاً لإصرارهم على الكفر والجحود .
مخاطر الطريق إلى الحديبية
لقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأذى وتهددته الأخطار في طريق الهجرة إلى المدينة ، واضطر للإختفاء في غار ثور ، قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
ولم يغادر مكة إلا بعد أن نوى كفار قريش قتله في ليلة المغادرة والتي تسمى ليلة الفراش لأن الإمام علي عليه السلام نام في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتورية على المشركين ، ومنعهم من ملاحقته إلى أن يقطع مسافة ، وإن كان خرج مشياً على الأقدامفي البداية وإلى غار ثور .
بينما خرجت الخيل لطلبه في الجهات المختلفة حالما علموا بمغادرته مكة ، وجعلت قريش قيمة دية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للذي يأتي به حياً أو ميتاً ، وتدرك الخيل الذي يمشي على رجليه أو الذي يركب الناقة ، إذ تقطع الناقة 7-10 كم في الساعة ، بينما يقطع الحصان 40-50 كم في الساعة ، فتستطيع أن تدرك الإبل خاصة مع طول المسافة بين مكة والمدينة وهي نحو (450) كم .
وقد تم فعلاً إدراك سراقة بفرسه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الطريق ، وهو يريد أن يأخذه فكفاه الله شره ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
وكان الأنصار قد اشترطوا على النبي الذب عنه عندما يصل إليهم ، أي أنهم لا يتحملون أعباء ما يتعرض له في الطريق ، ولا يأتون إلى مكة ويخرجونه منها عنوة على قريش ، وما فيه من أسباب الفتنة ، ولم يصل إلى المدينة إلا بالمعجزة ، وقد تقدم البيان والتفصيل ، وعندما وصل إليها أصدق الأوس والخزرج وعدهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ودافعوا عنه ، قال تعالى [مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] ( ).
وخاض الأنصار والمهاجرون الحروب والمعارك إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضد قريش وقبائل المشركين ، ولا يمكن أن يتحملوا أعباء القتال إلا بفضل ومدد من عند الله عز وجل في النفوس والجوارح وتجلي المعجزات التي تبعثهم على التفاني في الدفاع عن النبوة والتنزيل .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضل الله في التخفيف عنه وعن أصحابه بعد سني القتال بأن خرجوا إلى أداء العمرة مع أن هذا التخفيف استقبله عدد من الصحابة وكثير من الأعراب بالخوف والحزن وخشية إجهاز قريش عليهم ، وهم موتورون من معركة بدر وأحد والخندق.
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خروج ألف وأربعمائة من الصحابة معه إلى الحديبية ، فهذا العدد الكبير وتلقيهم دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بناء على رؤيا رآها معجزة حسية تشهد بتصديق الصحابة لنبوته .
فلما وصلوا إلى ميقات ذي الحليفة والذي يبعد عن المدينة (14)كم قلّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهدي وأشعره .
وساق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمامه سبعين بدنة ، وقيل كان عدد أهل الحديبية سبعمائة لأن كل بدنة عن عشرة ، ولكن هناك مسألتان :
الأولى : من الصحابة من نحر بدنة ساقها ، ولعله عنه وغيره ، مثل طلحة بن عبيد الله ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعثمان بن عفان( ) .
الثانية : ورد عن جابر بن عبد الله أنه قال : ومن لم يضح يومئذ أكثر ممن ضحى ، إنما كان عدد الصحابة يومئذ ألفاً وأربعمائة.
وشرد جمل أبي جهل من الهدي والذي غنمه قلّد وأشعر فالأصل أن لا يتعرض له أحد فمر من الحديبية حتى انتهى إلى دار أبي جهل بمكة .
وكان العرب إذ رأوا البدنة أو الشاة قد قلّدت لا يتعرضون لها ، ومع هذا أراد سفهاء مكة حبسه إذ خرج في أثره (عمرو بن عنمة بن عدي الانصاري، فابى سفهاء مكة أن يعطوه حتى امرهم سهيل بن عمرو بدفعه إليه، قيل: ودفعوا فيه عدة نياق، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لولا أن سميناه في الهدي فعلنا) ( ).
(والبَدَنَةُ: ناقَةٌ أو بَقَرَةٌ تُهْدى إلى مَكةَ، والجَميعُ البُدْن) ( ).
ومعنى التقليد في إصطلاح الحج هو أن يعمل إلى حبل من وبر أو شعر ، ثم يربطه في رقبة الهدي كعلامة على أنه مهدى للحرم ، فلا يتعرض له أحد ولا يسرق ولا يستولى عليه .
وقد يقلّد الهدي بنعلين أو بالأدم والجلود .
أما إشعار الهدى فهو شق أحد جنبي سنام البدنة حتى يسيل دمها .
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطي إخباراً جلياً لقريش وغيرهم بأنه وأصحابه عمار للبيت ، وقد قال الله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
الطريق إلى خيبر
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصطحب معه دليلاً عند السفر والكتائب ، كما كان يبعث العيون ، وأفراداً للإستطلاع.
لقد سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر عبر جبل عِصر وبني فيها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مسجداً ( ).
ثم وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصهباء وتبعد عن خيبر بريداً ، فنزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصلى والمسلمون صلاة العصر .
(عن سويد بن النعمان، أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام خيبر، حتى إذا كانوا بالصهباء، وهي من أدنى خيبر، نزل فصلا العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت الا بالسويق، فأمر به فثرى، فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكلنا، ثم قام إلى المغرب، فمضمض فمضمضنا، ثم صلا ولم يتوضأ) ( ).
والسويق طعام من دقيق الحنطة أو الشعير .
والصهباء بين المدينة وتيماء التي هي لقبيلة طي ، وفيها حصن منيع يسمى الأبلق الفرد ، ويضرب به المثل في المنعة يقطنه في أيام الجاهلية السموأل بن عاديا الأزدي ، وهو شاعر جاهلي حكيم ، و(السموأل بن عاديا ، وهو ينسب إلى غسان، فيقول بعضهم إنه يهودي من سبط يهوذا)( ).
وكان ينتقل بين حصن الأبلق ومدينة خيبر ، وقيل الأبلق من بناء النبي سليمان عليه السلام .
وعُرف عن السموأل الوفاء وحفظ الوديعة ، فقد بلغ الحارث بن أبي شمر الغساني أن السموأل يحتفظ بودائع لأمرئ القيس من السلاح والكراع ، فبعث إليه رجلاً من أهل بيته اسمه الحارث بن مالك فلما دنا هو وأصحابه من الحصن أغلق السموأل الحصن ، وسأله : ما الذي جاء بك.
قال : جئت لتدفع إلي كراع وأمانة أمرئ القيس التي عندك .
فأبى عليه السموأل وأتفق أن ابناً للسموأل كان يومئذ خارج الحصن يقتنص ويتصيد ، فلما رجع استوقفه الحارث وقبض عليه ، ثم هدد السموأل قائلاً (إن لم تعطني ما سألتك قتلت أبنك هذا)( ).
فأبى عليه السموأل ، فقتل ابنه ، ولم يسلم الوديعة ، فقالت العرب في باب الأمثال ، أوفى من السموأل وفيه يقول أعشى قيس :
كن كالسموأل إذ طاف الهمام به … في جحفل كهزيع الليل جرار
بالأبلق الفرد من تيماء منزله … حصن حصين وجار غير غدار
خيره خطتي خسف فقال له … مهما تقولن فإني سامع دار
فقال ثكل وغدر أنت بينهما … فاختر وما فيهما حظ لمختار
فشك غير طويل ثم قال له … اقتل أسيرك إني مانع جاري) ( ).
قانون نتائج كتائب النبي (ص)
لقد كانت النبي صلى الله عليه وآله وسلم تتقوم بالصبر والتحمل ودفع شرور غزوات المشركين ، لتكون نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها معجزة حسية متجددة له ، تدل على العناية والحفظ من الله عز وجل له .
وهل فيه شاهد على صدق نبوته ، الجواب نعم ، فلابد من المصاديق والمنافع التي تبينها هذه المعجزة.
ومن الآيات قرب القتل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ..]( )ورد عن الربيع قال (ذلك يوم أحد حين أصابهم ما أصابهم من القتل والقرح ، وتداعوا نبي الله .
قالوا : قد قتل .
وقال أناس منهم : لو كان نبياً ما قتل .
وقال أناس من علية أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قاتلوا على ما قتل عليه نبيكم حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به ، وذكر لنا أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتخبَّط في دمه فقال : يا فلان أشعرت أن محمداً قد قتل؟
فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم . فأنزل الله { وما محمد إلا رسول الله قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم }( ) يقول : ارتددتم كفاراً بعد إيمانكم) ( ).
وفي الخبر أعلاه مسائل :
الأولى : الربيع هو الربيع بن خثيم تابعي ، سمع وأخذ القراءة عن عبد الله بن مسعود .
الثانية : في ذكر الآية أعلاه خطأ من الناسخ ، فالآية هي (إلا رسول قد خلت).
الثالث : المراد من الإنقلاب هنا أعم من الكفر ، فيكون إنقلاب نقصان ، وتتضمن الآية الإنذار والإخبار عن ردة بعض القبائل .
ومن أهم نتائج وثمار كتائب النبي هي :
الأولى : إعلاء كلمة التوحيد .
الثانية : هداية الناس للإيمان .
الثالثة : تجلي خصائص النبوة ، وفوز الناس بمعاصرة معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن فضل الله عز وجل استدامة هذه النعمة ببقاء آيات القرآن سالمة من التحريف والتبديل والتغيير .
الرابعة : قانون قبح الكفر وإزاحة واستئصال مفاهيم الكفر .
الخامسة : بيان قانون وهو نصر المسلمين مع قلة عددهم في مواجهة وملاقاة جيوش الذين كفروا .
السادسة : إقامة الفرائض العبادية من قبل المؤمنين من غير خوف أو وجل من الطواغيت .
ولو لم يبعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويهاجر إلى المدينة ، ويتم فتح مكة ، فهل يبقى يهود بني قريظة وقينقاع والنضير على ملة اليهودية بأمن ، وهل يبقى نصارى نجران على دينهم أم يكون هناك أذى وإضرار بهم من قبل المشركين ، الجواب هو الثاني ، إذ يتمادى الكفار في طغيانهم وسلطانهم فلا يرضون بمخالفتهم .
وورد بخصوص أصحاب الأخدود وجوه متعددة تدل على صبرهم في ذات الله ، منها ما أخرجه عبد بن حميد عن الإمام علي عليه السلام (قال : كان المجوس أهل كتاب ، وكانوا مستمسكين بكتابهم ، وكانت الخمر قد أحلت لهم ، فتناول منها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله ، فتناول أخته أو ابنته فوقع عليها ، فلما ذهب عنه السكر ندم ، وقال لها : ويحك ما هذا الذي أتيت .
وما المخرج منه .
قالت : المخرج منه أن تخطب الناس فتقول أيها الناس إن الله قد أحل لكم نكاح الأخوات والبنات ، فإذا ذهب ذا في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته ، فقام خطيباً فقال : يا أيها الناس إن الله أحل لكم نكاح الأخوات أو البنات ، فقال الناس جماعتهم : معاذ الله أن نؤمن بهذا أو نقر به ، أو جاءنا به نبي ، أو نزل علينا في كتاب ، فرجع إلى صاحبته فقال : ويحك إن الناس قد أبوا عليّ ذلك .
قالت : إذا أبوا عليك ذلك فابسط فيهم السوط ، فبسط فيهم السوط ، فأبوا أن يقروا ، فرجع إليها فقال : قد بسطت فيهم السوط فأبوا أن يقروا .
قالت : فجرد فيهم السيف ، فجرد فيهم السيف ، فأبوا أن يقروا .
قالت : خدّ لهم الأخدود ، ثم أوقد فيه النيران فمن تابعك فخلّ عنه . فخدَّ لهم أخدوداً وأوقد فيه النيران ، وعرض أهل مملكته على ذلك ، فمن أبى قذفه في النار ، ومن لم يأب خلّى عنه ، فأنزل الله فيهم { قتل أصحاب الأخدود }( ) إلى قوله : { ولهم عذاب الحريق }( ) ) ( ).
السابعة : قانون كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حب الله للناس جميعاً ففيها أسباب الهداية والرشاد والتنزل عن الضلالة والفسوق .
الثامنة : أبى الله عز وجل إلا أن تسود مصاديق علة خلقه للناس ، فبعث الأنبياء لدعوة الناس لعبادته ، وهذه البعثة من لطف الله بهم ، وتقريبهم إلى الإيمان بصيغ الإختيار ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] ( ).
التاسعة : قانون استدامة الحياة الدنيا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فلو استمر الكفر وعبادة الأوثان فان الله ينتقم من الكافرين ، وهو [غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ).
فتفضل سبحانه ، وقطع دابر الكفر ، ومن الآيات حدوث هذا القطع بأيدي الكافرين أنفسهم بالهجوم على المدينة المنورة وغزوها لقتل رسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فكانت كتائب وسرايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة دفاع محض.
ومن الآيات وقوع أكثرها بعد قيام مشركي قريش بغزو المدينة ، وأطرافها وقتالهم المسلمين مع المدد والنصرة من بعض القبائل ، لبيان قانون وهو إن لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتائب لتفريق المشركين فانهم يتآزرون في حرب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وفيه شاهد على قانون كتائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للأمس واليوم والغد من وجوه :
الأول : تأديب الذين نصروا قريشاً في قتالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : زجر المشركين عن مهاجمة المدينة .
الثالث : دعوة الناس للإيمان ، وهجران عبادة الأوثان ، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل)( ).
الرابع : قد يبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن قبائل تعد العدة للهجوم عل المدينة ، فيتوجه إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتفريقهم ، كما في كتيبة بني المصطلق الذين قاموا بجمع الجيوش للإغارة على المدينة ، وكان رئيسهم الحارث بن أبي ضرار فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعدادهم الجيوش ، فأرسل بريدة بن الحصيب الأسلمي ليتأكد من الخبر وبريدة ليس من المهاجرين ولا الأنصار لذا بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كي لا يكتشف بنو المصطلق أمره .
وكان بريدة يسكن الغميم ، فمر به وبقومه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طريق هجرته فاسلم ، ومعه نحو ثمانين بيتاً .
(وأقام في موضعه حتى مضت بدر وأحد ثم قدم بعد ذلك وقيل: أسلم بعد منصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بدر وسكن البصرة لما فتحت)( ).
لقد توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شهر شعبان من السنة السادسة للهجرة إلى بني المصطلق ، وهم غارون ، أي وهم غافلون وسبي النساء والصبيان منهم ، ثم أطلقوا جميعاً.
وتزوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جويرية ابنة رئيسهم ليصبحوا أصهار النبي ، وفي رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الكتيبة ، قال رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ]( ).
وعن زيد بن أرقم ونزول هذه الآية عند خروجهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكتيبة إذ قال : وكان معنا ناس من الأعراب ، فكنا نبتدر الماء.
وكان الأعراب( ) يسبقونا إليه ، فيسبق الأعرابي أصحابه ، فيملأ الحوض ، ويجعل حوله حجارة ، ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه ، فأتى من الأنصار أعرابياً فأرخى زمام ناقته لتشرب ، فأبى أن يدعه ، فانتزع حجراً فغاض الماء ، فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه ، فأتى عبدالله بن أبيّ رأس المنافقين فأخبره ، وكان من أصحابه فغضب ، وقال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفض من حوله يعني الأعراب ، وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام.
وقال عبد الله لأصحابه : إذا انفضوا من عند محمد فائتوا محمداً بالطعام فليأكل هو ومن عنده ، ثم قال لأصحابه : إذا رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل ، قال زيد : وأنا ردف عمي ، فسمعت ، وكنا أخواله عبد الله فأخبرت عمي ، فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه رسول الله ، فحلف وجحد فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني ، فجاء إلى عمي فقال : ما أردت إلى أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذبك المسلمون ، فوقع عليّ من الهم ما لم يقع على أحد قط ، فبينما أنا أسير ، وقد خففت برأسي من الهم.
إذ آتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي ، فما كان يسرني أن لي بها الخلد أو الدنيا ، ثم إن أبا بكر لحقني فقال : ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت : ما قال لي شيئاً إلا أنه عَرَكَ أذني وضحك في وجهي ، فقال : ابشر ثم لحقني عمر ، فقلت له مثل قولي لأبي بكر ، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم [إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ]( )، حتى بلغ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ.
العاشرة : من الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها مدرسة الصبر في سبيل الله ، لم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا إلا وقد نمت ملكة الصبر عند المسلمين والمسلمات ، وصارت سلاحاً شخصياً وعاماً بأيديهم.
ومن خصائص هذا السلاح عدم الإضرار بالطرف الآخر ، إنما هو خير محض ، ونعمة متجددة.
فان قلت كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يحملون السيوف ويقاتلون ، والجواب هذا صحيح إلا أنه قتال من أجل منع القتال ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
وقد تقدم البيان والتفصيل بخصوص هذه الآية الكريمة ، وأن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه دفاع محض عند قتال المشركين لهم ، مع تقييد قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأنه في سبيل الله ، وليس من أجل دنيا ومصلحة خاصة .
وجمعت الآية بين الأمر والنهي إذ نهت عن الإبتداء ، ثم أكدت الزجر عنه بما يبعث على النفرة منه بأن الله لا يحب المعتدين .
وجاءت الآية بصيغة الجمع لبيان وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين المسلمين في إجتناب الإعتداء والتعدي .
الحادية عشرة : فوز عدد من الصحابة بالشهادة في سبيل الله ، وفيه الأجر والثواب العظيم ، ونيلهم الحياة الأبدية في النعيم ، قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] ( ) وفيه بعث للفزع والخوف في قلوب المشركين الذين يصرون على عبادة الأوثان .
وقد يتبادر إلى الذهن كثرة قتلى المسلمين والكفار في معارك النبوة ، ولكن الأعداد قليلة .
وقد تقدمت في هذا السِفر احصائية في قتلى الفريقين من بداية البعثة النبوية ومعارك الإسلام على نحو التفصيل في جدول ومنهاج بيناه في الجزء الرابع والستين بعد المائة من هذا السِفر ، وفيه (ويكون مجموع القتلى من حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وله وسلم وهو في سن الأربعين وفي سنة 610م إلى إنتقاله إلى الرفيق الأعلى في السنة العاشرة للهجرة كالآتي:
الأول : عدد الشهداء من المسلمين هو: 234
الثاني : عدد القتلى من المشركين هو: 212
الثالث : عدد القتلى من اليهود هو: 69
ويكون المجموع الكلي في ثلاث وعشرين سنة هو : 515 خمسمائة وخمسة عشر من المسلمين والمشركين واليهود ) ( ).
وهذه القلة من الشواهد على قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً).
المسير إلى خيبر
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في طريقهم إلى خيبر يسيرون في الليل ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة خيبر : من كان مضعفاً أو مصعباً فليرجع .
يقال رجل مضعف : أي ضعيف الدابة .
والمصعب : هو الجمل الذي لم يركب ولم يمسسه حبل ، ويقال: واصعبنا حملنا فتركناه .
ونادى بلال بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا ، وكان رجل على جمل صعب لم يرجع عن الجيش فمر على سواد في الليل فنفر به فصرعه .
فجاؤوا به إلى رسول الله جثة هامدة ، قال : ما شأن صاحبكم، فاخبروه أنه كان على بعير مصعب .
فالتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بلال ، وقال له قد أذنت في الناس ، من كان مضعفاً أو مصعباً فليرجع ؟
قال نعم ، فأبى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يصلي عليه .
ثم أمر بلالاً أن ينادي في الصحابة .
الجنة لا تحل لعاص ثلاث مرات( ) .
لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليال مقمرة ليهتدي بنوره المسلمون ، وأبصر رجلاً يسير أمامه عليه شئ يبرق في القمر وعليه خوذة .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الذي يسير أمامنا.
قيل : أبو عبس بن جبير .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أدركوه ، فادركوه ، وحبسوه لحين وصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخشي أبو عبس أن يكون قرآن نزل بخصوصه ، ويبقى يذكر بقصور أو تقصير.
قال أبوعبس (حتى لحقني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما لك تقدم الناس لا تسير معهم .
قلت: يا رسول الله، إن ناقتي نجيبة.
قال: فأين الشقيقة التي كسوتك .
فقلت: بعتها بثمانية دراهم، فتزودت بدرهمين تمراً، وتركت لأهلي نفقةً درهمين، واشتريت بردةً بأربعة دراهم.
فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: أنت والله يا أبا عبس وأصحابك من الفقراء!
والذي نفسي بيده لئن سلمتم وعشتم قليلاً ليكثرن زادكم، وليكثرن ما تتركون لأهليكم، ولتكثرن دراهمكم وعبيدكم، وما ذاك بخيرٍ لكم!
قال أبو عبس: فكان والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
وقال الواقدي (فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ فَسَلَكَ ثَنِيّةَ الْوَدَاعِ ، ثُمّ أَخَذَ عَلَى الزّغَابَةَ ثُمّ عَلَى نَقْمَى ، ثُمّ سَلَكَ الْمُسْتَنَاخَ ثُمّ كَبَسَ الْوَطِيحَ ، وَمَعَهُمْ دَلِيلَانِ مِنْ أَشْجَعَ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا حَسِيلُ بْنُ خَارِجَةَ وَالْآخَرُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ نُعَيْمٍ خَرَجَ عَلَى عَصْرٍ وَبِهِ مَسْجِدٌ ثُمّ عَلَى الصّهْبَاءِ) ( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه يوجه الأدلاء ويدلهم على الطريق الأنسب حتى في الجادة والإتجاء الذي لم يطرقه سابقاً .
إذ قال للدليل حسيل : أمض أمامنا حتى تأخذ بنا صدور الأودية ، حتى تأتي خيبر من بينها وبين الشام .
أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفصل بين أهل خيبر وحلفائهم من غطفان ، ومنع كثرة سفك الدماء ، فأوصلهم حسيل إلى مفترق طرق ، وكلها تؤدي إلى خيبر .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سمّّ لي هذه الطرق ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتفاءل بالأسماء ، ويكره الطيرة فقال حسيل :طريق يقال له حزن ، وطريق يقال له شاش ، وطريق يقال له حاطب ( ).
فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يسلكها ، قال حسيل ، لم يبق إلا طريق واحد يقال له : مرحب فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اسلكها .
وكان فارس خيبر اسمه مرحب أيضاً .
فسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في طريق مرحب ، وتخيير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الطرق الأربعة شاهد على أن أهل خيبر لم يتخذوا المتاريس ، أو يخرجوا الطلائع التي تحول دون وصول الجيوش لمحاربتهم لوجوه :
الأول : مباغتة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأهل خيبر ، وقيل حينما بلغهم احتمال خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم قاموا يخرجون كل يوم عشرة آلاف مقاتل ضعفاً ثم يقولون محمد يغزونا هيهات هيهات ( ).
ولا دليل عليه ، وكذا بالنسبة لكثرة عددهم .
وحينا كان يهود المدينة يخوفون المسلمين من كثرة وقوة يهود خيبر حينما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتجهز لحرب خيبر ، لم يذكروا أنهم عشرة آلاف ، إنما يقولون أنهم ألف دارع مع أن المراد من هذا الرقم المبالغة .
وكانوا يقولون (ما أمنع والله خيبر منكم ، لو رأيتم خيبر وحصونها ورجالها لرجعتم قبل أن تصلوا إليهم ، حصون شامخات في ذرى الجبال، والماء فيها واتن ، إن بخيبر لألف دارع، ما كانت أسدٌ وغطفان يمتنعون من العرب قاطبةً إلا بهم، فأنتم تطيقون خيبر( ).
فجعلوا يوحون بذلك إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قد وعدها الله نبيه أن يغنمه إياها. فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم، فعمى الله عليهم مخرجه إلا بالظن حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بساحاتهم ليلاً) ( ).
الثاني : عجز أهل خيبر عن نشر الطلائع .
الثالث : ارتكاز أهل خيبر على ما عندهم من الحصون والقلاع وكثرة الرجال والمؤن والمنعة .
الرابع : عدم قدرة أهل خيبر على مواصلة القتال والمبارزة المكشوفة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وإن كانت بعض الأخبار تصل باحتمال مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، لما بينهم وبين غطفان من الحلف.
ولما أشرف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على خيبر ، قال لأصحابه قفوا ، فوقفوا وانتظروا ماذا سيفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتوجه إلى الدعاء ، لبيان أنه وسيلة النصر والغلبة ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الحق في مسيره فقال (اللّهُمّ رَبّ السّمَاوَاتِ السّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ وَرَبّ الْأَرَضِينَ السّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ وَرَبّ الشّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ فَإِنّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَشَرّ أَهْلِهَا وَشَرّ مَا فِيهَا أَقْدِمُوا بِسْمِ اللّهِ ) ( ).
وعن صهيب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يرى قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها هذا الدعاء( ).
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينمي ملكة اللجوء إلى الدعاء عند المسلمين ، قال تعالى [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ] ( )ولبيان مسألة وهي أن تم الفتح فانما يتم بالدعاء والإستجابة له ، وليس بالقتال .
ووصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المنزلة وهي سوق لخيبر فعرس وأستراح بها ساعة من الليل ، والظاهر أنها من آخر الليل .
والعرس : الراحة (والتَّعريس: نزول القوم في السّفر من آخر الليل، ثم يقعون وقعة ثم يرتحلون. قال زهير:
وعرّسوا ساعةً في كُثْبِ أَسْنُمَةٍ … ومنهم بالقَسُوميّات مُعْتَرك)( ).
وكان أهل خيبر (لا يظنون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغزوهم لمنعتهم وحصونهم وسلاحهم وعددهم)( ).
وعدم الظن هذا صحيح ، إلا أن علته ليست على ما ذكر مؤرخو السيرة ، إنما يعلمون قانوناً في سنن النبوة وهو أن الأنبياء يصبرون ولا يغزون ، وأن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جلية في الدفاع ورد الأذى وعدم مطاردة الذي يفر وينهزم ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا وصل إلى موضع ليلاً يبقى بمنأى لا يباغت القوم ، وينتظر هل يسمع أذاناً فيمسك عنهم .
وعن أنس قال (صلينا الصبح عند خيبر بغلس، فلم نسمع أذانا، فلما أصبح ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وركب معه المسلمون وأنا رديف أبي طلحة، فاجرى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فانحسر عن فخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاني لارى بياض فخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن قدمي لتمس قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
وأصبح النبي عند أسوار خيبر ، ولما فتحوا أبواب الحصون كعادتهم ليخرجوا ومعهم المساحي والمكاتل وآلات العمل ، فلما نظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وحينما أحس يهود خيبر بمسير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم تباحثوا في الأمر شأن أي قوم يتعرضون إلى هجوم وشيك ، فكانوا على قولين :
الأول : العسكرة خارج الحصون ، والقتال خارج الحصون ، وبه قال الحارث أبو زينب اليهودي ، وقال فاني قد رأيت من سار إليه من الحصون لم يكن لهم بقاء بعد أن حاصروهم حتى نزلوا على حكمه ، ومنهم من سبي ، ومنهم من قتل صبراً .
الثاني : الثبات في الحصون واحتجوا بأنها حصون منيعة في ذرى الجبال.
وأختاروا القول الثاني ، مما يدل على خوفهم وذعرهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعدم صحة القول بكثرة عددهم وأنهم بالآلاف .
وهو من مصاديق ما ورد (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي .
بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود ، وإنما كان النبي يبعث إلى قومه ، ونصرت بالرعب يرعب مني عدوّي على مسيرة شهر ، وأطعمت المغنم ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، وأعطيت الشفاعة ، فادخرتها لأمتي إلى يوم القيامة ، وهي إن شاء الله نائلة من لا يشرك بالله شيئاً) ( ) .
ويحتمل ركوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ على وجوه:
الأول : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (على حمار مخطوم برسن من ليف، وتحته إكاف من ليف) ( ).
الثاني : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فرس ، إذ ذكر أنه جرى في زقاق خيبر حتى انحسر الأزار .
الثالث : التناوب مرة يركب حماراً ، وأخرى يركب فرساً .
والمختار هو الأخير .
وكما حدث في معركة بدر وقع في معركة خيبر من جهة الإستشارة ، فقد جاء الحبُاب بن المنذر بن الجموح (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْك، إنّك نَزَلْت مَنْزِلَك هَذَا، فَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرٍ أَمَرْت بِهِ فَلَا نَتَكَلّمُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الرّأْيُ تَكَلّمْنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: “بَلْ هُوَ الرّأْيُ) ( ).
وهل يدل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إنه الرأي) على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد يتكلم بغير الوحي كما هو الظاهر .
على فرض صحة الخبر ، المختار لا ، إنما هو الرأي الذي يصدر عن إذن من الوحي .
وقال الحُباب (يَا رَسُولَ اللّهِ دَنَوْت مِنْ الْحِصْنِ وَنَزَلْت بَيْنَ ظُهْرَيْ النّخْلِ وَالنّزّ1 مَعَ أَنّ أَهْلَ النّطَاةِ لِي بِهِمْ مَعْرِفَةٌ لَيْسَ قَوْمٌ أَبْعَدَ مَدَى مِنْهُمْ وَلَا أَعْدَلَ مِنْهُمْ وَهُمْ مُرْتَفِعُونَ عَلَيْنَا، وَهُوَ أَسْرَعُ لِانْحِطَاطِ نَبْلُهُمْ مَعَ أَنّي لَا آمَنُ مِنْ بَيَاتِهِمْ يَدْخُلُونَ فِي خَمْرِ النّخْلِ تَحَوّلْ يَا رَسُولَ اللّهِ إلَى مَوْضِعٍ بَرِئَ مِنْ النّزّ وَمِنْ الْوَبَاءِ نَجْعَلْ الْحَرّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ حَتّى لَا يَنَالَنَا نَبْلُهُمْ) ( ).
ثم نادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم محمد بن مسلمة وقال له أنظر لنا منزلنا بعيداً من حصونهم للإبتعاد عن نبالهم وسهامهم ، ولا مكان التراجع في الأرض الواسعة عند اشتداد الرمي ، فطاف محمد بن مسلمة حتى انتهى إلى وادي الرجيع ، وهو قريب من خيبر فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرجع إلا في الليل .
فقال : وجدت لك منزلاً .
ولم يسأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صفات المنزل ، وهو من الإعجاز في السنة النبوية ، وثقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتدبير أصحابه ، ولأن عدم السؤال هذا أمر وجودي وهو من الوحي .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بركة الله .
ولما خرج أهل خيبر من الحصون للعمل ورأو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه (قَالُوا : مُحَمّدٌ وَاَللّهِ مُحَمّدٌ وَالْخَمِيسُ ثُمّ رَجَعُوا هَارِبِينَ إلَى حُصُونِهِمْ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ اللّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ ثم تلا قوله تعالى إنّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ) ( ).
ثم جاء الحباب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وقال : لو تحولت يا رسول الله ، فقال : إذا امسينا إن شاء الله تحولنا .
وجعل أهل خيبر يكثرون رمي النبال والسهام لإرهاب المسلمين ، وبعثهم على التراجع والإنسحاب ، وما يسمى بخطة الحمامة .
ولكن المسلمين لم يتراجعوا بسبب النبل الذي صار ينزل عليهم كالمطر، إنما أخذوا يتجنبون النبل حتى يسقط في الأرض فيلتقطونه ثم يردونه عليهم.
وفرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرايات ، ولم تكن قبلها إلا الألوية ، وكان اللواء ابيض (قال ابن إسحاق، ومحمد بن عمر، وابن سعد: وفرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرايات، ولم تكن الرايات إلا يوم خيبر، وإنما كانت الالوية.
وكانت راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوداء من برد لعائشة تدعى العقاب، ولواؤه أبيض، دفعه الى علي بن أبي طالب عليه السلام ودفع راية الى الحباب بن المنذر، وراية إلى سعد بن عبادة، وكان شعارهم ” يا منصور أمت) ( ).
ودفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه ، وذكرّهم بأيام الله ودعاهم للصبر والتحمل .
وكانت الوقائع التي حدثت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويهود المدينة على وجوه :
الأول : كتيبة بني قينقاع في شهر شوال من السنة الثانية للهجرة ، وقيل بعد معركة بدر بستة أشهر ( ).
الثاني : كتيبة بني النضير في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة( )، أي بعد معركة أحد .
الثالث : كتيبة قريظة في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة بعد الخندق .
الرابع : كتيبة خيبر في شهر محرم من السنة السابعة للهجرة بعدصلح الحديبية بنحو عشرين ليلة (قال ابن اسحق وأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد رجوعه من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم وخرج في بقية منه غازيا إلى خيبر ولم يبق من السنة السادسة من الهجرة إلا شهر وأيام)( ).
حصون خيبر
تبعد خيبر عن المدينة المنورة نحو (153) كم من جهة شمال المدينة المنورة ، وهي من أرض العرب ، وحرة تقع بين السهول الممتدة من المدينة ، وسبب وعلة تسمية (خيبر ) أن رجلاً من العماليق العرب (نزَل بها وهُو خَيْبَرُ بن قانِيَة بن عَبِيل بن مهلان بن إِرَم بن عَبِيل وهو أَخُو عَاد) ( ).
ولا تنحصر معالم (خيبر ) بالحصون انما تشمل مزارع ونخلاً كثيراً .
ويقع حصن القموص على جبل ، وهو حصن خيبر الأعظم (وأول حد خيبر الدومة ثم تصير إلى خيبر وحصونها) ( ).
ومن أكبر وأمنع هذه الحصون في مناطق :
الأولى : منطقة النطاة ، ويقع فيها :
الأول : حصن ناعم ، وهو أول حصن فتحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قال ابن إسحاق: كان أول حصون خيبر فتحا حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقيت عليه رحى منه فقتلته) ( ).
الثاني : حصن الصعب بن معاذ (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم إنك قد علمت حالهم وأنهم ليست لهم قوة وليس بيدي ما أعطيهم إياه ، فافتح عليهم أعظم حصن بها غنى أكثره طعاما وودكا فغدا الناس ففتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ وما بخيبر حصن أكثر طعاما وودكا منه) ( ).
الثالث : حصن قلعة الزبير (قال الواقدي: لما تحولت اليهود من حصن ناعم وحصن الصعب بن معاذ إلى قلعة الزبير حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود يقال له عزال فقال: يا أبا القاسم تؤمنني على أن أدلك على ما تستريح به من أهل النطاة وتخرج إلى أهل الشق، فإن أهل الشق قد هلكوا رعبا منك ؟
قال: فأمنه رسول الله على أهله وماله فقال له اليهودي: إنك لو أقمت شهرا تحاصرهم ما بالوا بك، إن لهم تحت الارض دبولا يخرجون بالليل فيشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم.) ( ) .
الثانية : منطقة الشق ، ويقع فيها كل من الحصون :
الأول : حصن أبي .
الثاني: حصن النزار .
الثالثة : منطقة الكتيبة : وتقع فيها كل من الحصون :
الأول : حصن القموص ، وكان حصن ابني أبي الحقيق من بني النضير ، والقموص من أسماء الأسد .
الثاني : حصن الوطيح .
الثالث : حصن السلالم .
وأول حصن فتح هو حصن ناعم ، واستشهد فيه محمود بن مسلمة الأنصاري وجرح خمسون من المسلمين قامت نساء بني غفار بتمريضهم وعلاجهم .
وتتصف حصون خيبر بشدة التحصين ، وليس من السهل فتح الواحد منها ، وقد جعلوا النساء والأطفال في حصن ، والذخيرة من الطعام في حصن آخر بينما يدافع المقاتلون على الأبراج والقلاع ، ويخرج الأبطال يقاتلون المسلمين خارج الحصن .
ثم تم فتح حصن القموص وبه أسرت أم المؤمنين صفية بنت حي بن أخطب .
وشهد محمود بن مسلمة معركة أحد والخندق وخيبر ، والقيت عليه رحى فاصابت رأسه ، وتكسرت الخوذة وسقطت جلدة جبينه على وجهه فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرد الجلدة ، وعادت كما كانت ، وعصبها رسول الله بثوبه ، وبقي ثلاثة أيام ومات ، وقال رسول الله : له أجر شهيدين( ).
واختلف فيمن قتل محمود بن مسلمة على وجوه :
الأول : القى مرحب رحى على محمود بن مسلمة .
الثاني : القيت رحى عليه من غير معرفة وتعيين للذي رماها .
الثالث : رماها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق .
والأرجح الأخير لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : غداً يقتل قاتل أخيك( ).
إذ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدفع كنانة إلى محمد بن مسلمة أن يقتله .
وفي إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل شخص واحد في اليوم التالي من الحصار والقتال شاهد على قلة القتلى من يهود خيبر .
والمختار أن عدد قتلى اليهود في حصار ومعركة خيبر هو ثلاثون( ).
وكان حصن الوطيح والسلالم آخر حصنين يتم فتحهما إذ انتهت أهل خيبر لها ، وخرج مرحب من حصنهم قد جمع سلاحه (يَرْتَجِزُ وَهُوَ يَقُولُ :
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي مَرْحَبْ … شَاكِي السّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرّبْ
أَطْعَنُ أَحْيَانًا وَحِينًا أَضْرِبْ … إذَا اللّيُوثُ أَقْبَلَتْ تَحَرّبْ
إنّ حِمَايَ لِلْحِمَى لَا يُقَرّبْ
وَهُوَ يَقُولُ مَنْ يُبَارِزُ ، فَأَجَابَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، فَقَالَ :
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي كَعْبُ … مُفَرّجُ الْغَمّى جَرِيءٌ صُلْبُ
إذْ شَبّتْ الْحَرْبُ تَلَتْهَا الْحَرْبُ … مَعِي حُسَامٌ كَالْعَقِيقِ عَضْبُ
نَطَؤُكُمْ حَتّى يَذِلّ الصّعْبُ … نُعْطِي الْجَزَاءَ أَوْ يَفِيءَ النّهْبُ
بِكَفّ مَاضٍ لَيْسَ فِيهِ عَتْبُ)( ).
وخرج ياسر أخو مرحب وزعم هشام بن عروة أن الزبير خرج له (فَقَالَتْ أُمّهُ صَفِيّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ : يَقْتُلُ ابْنِي يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ بَلْ ابْنُك يَقْتُلُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ فَخَرَجَ الزّبَيْرُ فَالْتَقَيَا ، فَقَتَلَهُ الزّبَيْرُ)( ).
وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر برايته إلى بعض حصون خيبر فقاتل ورجع ولم يكن فتح وقد جهد ، ثم بعث للغد عمر بن الخطاب فقاتل ورجع ولم يكن فتح وقد جهد .
وعن سهل بن سعد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر : لا عطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، يأخذها عنوة ، فاستبشر الصحابة لدلالة كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تحقق الفتح في اليوم التالي .
فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلهم يرجو أن يعطاها قال : أين علي بن أبي طالب قالوا : هو يشتكى عينيه.
قال : فأرسلوا اليه ، فأتى به فبصق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عينيه فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع .
وعن سلمة بن الأكرع أن الإمام علي عليه السلام هو الذي قتل مرحباً.
إذ(خَرَجَ مَرْحَبٌ وَهُوَ يَقُولُ :
أَنَا الّذِي سَمّتْنِي أُمّي مَرْحَبُ
شَاكِي السّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرّبُ
إذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهّبُ
فَبَرَزَ إلَيْهِ عَلِيّ وَهُوَ يَقُولُ أَنَا الّذِي سَمّتْنِي أُمّي حَيْدَرَهْ كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ
أُوفِيهِمُ بِالصّاعِ كَيْلَ السّنْدَرَهْ
فَضَرَبَ مَرْحَبًا فَفَلَقَ هَامَتَهُ وَكَانَ الْفَتْحُ . وَلَمّا دَنَا عَلِيّ مِنْ حُصُونِهِمْ اطّلَعَ يَهُودِيّ مِنْ رَأْسِ الْحِصْنِ فَقَالَ مَنْ أَنْتَ ؟
فَقَالَ أَنَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ . فَقَالَ الْيَهُودِيّ عَلَوْتُمْ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى . هَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ هُوَ الّذِي قَتَلَ مَرْحَبًا( ).
وكان علي عليه السلام قبل أن يخرج إلى خيبر عنده رمد شديد كاد معه لا يبصر ، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر ، قال له : لا ، أنا اتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج قال بريدة وجاء علي عليه السلام وأناخ قريباً ، وهو رمد قد عصب عينيه بشق برد قطري .
قال بريدة : فما أصبح رسول صلى الله عليه وآله وسلم صلى الله عليه وآله وسلم الغداة ثم دعا باللواء ، وقام قائماً ، فوعظ الناس ، ثم قال : أين علي ، قالوا : يشتكي عينيه ، قال : فارسلوا إليه ، قال سلمة : فجئت أقوده.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما لك ، قال : رمدت حتى لا أبصر ما قدامي .
وعن الإمام علي عليه السلام قال : فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسي عند حجره ثم بزق في ألية يده فدلك بها عيني ، فبرأ ولم يعد به وجع ، وما وجعته عيناه إلى أن انتقل شهيداً إلى جوار ربه ، ودعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاه الراية .
وقال علي عليه السلام : يارسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال : انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى وحق رسوله.
(فو الله لان يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم)( ).
لقد خرج الإمام علي عليه السلام بالراية هرولة فركزها تحت الحصن ، فاطلع أحدهم من رأس الحصن فقال : من أنت .
قال : علي .
قال : غلبتم والذي أنزل التوراة على موسى .
ويدل هذا الخبر على حقيقة وهي علمهم عندهم بفتح الله على يد رجل اسمه علي ، فلم يرجع حتى فتح الله تعالى على يديه .
قال أبو نعيم : فيه دلالة على أن فتح علي لحصنهم مقدم في كتبهم بتوجيه من الله وجهه إليهم، ويكون فتح الله تعالى على يديه( ).
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : أول من خرج من حصون خيبر مبارزاً الحارث أخو مرحب فقتله علي عليه السلام ورجع أصحاب الحارث إلى الحصن وبرز عامر وكان رجلاً جسيماً طويلاً ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رأه : أترونه خمسة أذرع ، وهو يدعو إلى البراز .
وكان عامر يدعو إلى البراز ، يخطر بسيفه ، وعليه درعان مقنع في الحديد يصيح: من يبارز؟
فأحجم الناس عنه، فبرز إليه عليٌّ فضربه ضرباتٍ، كل ذلك لا يصنع شيئاً، حتى ضرب ساقيه فبرك، ثم ذفف عليه فأخذ سلاحه( ).
وذكر أن هؤلاء قتلوا في حصن ناعم وأوصى محمود بن مسلمة أخاه محمد بن مسلمة : يا أخي، بنات أخيك لا يتبعن الأفياء ؛ يسألن الناس. فيقول محمد بن مسلمة: لو لم تترك مالاً لكان لي مال. ومحمود كان أكثرهما مالاً( )، ولم ينزل يومئذ فرائض البنات .
وفي اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من رجل يبشر محمود بن مسلمة أن الله قد أنزل فرائض البنات ، وأن محمد بن مسلمة قد قتل قاتله فخرج جعال بن سراقة إليه فاخبره فسر بذلك وأمره أن يقرئ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السلام منه ، ومات من يومه .
وقال محمد بن مسلمة : يارسول الله اقطع لي عند قبر أخي ، قال : لك حضر الفرس فان عملت فلك حضر فرسين ( ).
ومحمد بن مسلمة من بني حارثة من الآوس ، الذي توفى سنة (46) للهجرة ، واشتد القتال خاصة عند حصن الصعب بن معاذ ، وفتح الله الحصن ، فوجد به الطعام الكثير جداً ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كلوا واعلفوا الدواب والخيل ، ولا تأخذوا معكم ووجدوا آنية نحاسية وفخارية في الحصن كان أهله يأكلون بها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : اغسلوها واطبخوا وكلوا فيها واشربوا. وقال: أسخنوا فيها الماء ثم اطبخوا بعد، وكلوا واشربوا( ).
ووجدوا الكثير من الغنم والبقر والحمُر ، وآلات الحرب ودبابات ، وكانوا قد تجهزوا لحصار يدوم زماناً .
ووجدوا براميل كبيرة من الخمر لا يمكن حملها فكسروها وسالت الخمر على أرض الحصن وشرب منها رجل من المسلمين كان مدمناً للخمر ولم يقو على النظر اليها فعلم به الصحابة فاخذوه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمر الناس أن يضربوه على رأسه بنعالهم ، وقد ضرب مرات قبل ذلك .
وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحراسات عند الحصون المفتوحة ، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتوجه إلى حصن قلعة الزبير وكان قد بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن حياً من بني سعد بن بكر بها يريدون أن يمدوا أهل خيبر فخرج إليهم الإمام علي عليه السلام في مائة رجل .
وكان يسير الليل ويكمن النهار ، فأصاب عيناً لهم فأقر له بأنهم بعثوه إلى خيبر وعرضوا عليهم نصرتهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر.
وفي سنة سبع من الهجرة بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشير بن سعد الأنصاري إلى فدك ومعه ثلاثون رجلاً ، وأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسير إلى بني مرة فساروا فلما انتهوا إلى فدك وجدوهم في بواديهم ورآوا نعمهم وشياههم ترعى في البوادي فاستاقوها ، وذهبوا وأدركها أربابها ، وغلبوا عليها بعد أن تراموا مع سرية بشير بالنبال وقتل أصحاب بشير ورجعوا بشير جريحاً بسهامهم وبشير بن سعد شهد بدراً مع أخيه سماك بن سعد وهو والد النعمان بن بشير .
وكان بشير بن سعد قد شهد العقبة الثانية معركة بدر ومعركة أحد .
وخرج الصريخ في الليل ينادي بني مرة (فباتوا يرامونهم بالنبل حتى فنيت نبل أصحاب بشير، واصبحوا فحمل المريون عليهم فأصابوا اصحاب بشير وولى منهم من ولى، وقاتل بشير قتالا شديدا حتى ارتث، وضرب كعبه فقيل قد مات، ورجعوا بن عمهم وشائهم، وكان أول من قدم بخبر السرية ومصابها علبة بن زيد الحارثي.
واستمر بشير بن سعد في القتلى فلما أمسى تحامل حتى انتهى الى فدك فأقام عند يهود بها أياما حتى ارتفع من الجرا ح ثم رجع الى المدينة)( ).
وقتل بشير يوم عين تمر مع خالد بن الوليد في السنة الثانية عشرة للهجرة بعد انصرافه من اليمامة.
وهل فتحت خيبر صلحاً أم عنوة ، وصحيح أنه جرى قتال ، ولكن لم يقع القتل عند كل حصون خيبر ، فمنها ما تم صلحاً ، وكذا بالنسبة إلى فدك لم يقع فيها قتال .
وعن عمر بن الخطاب في قوله تعالى [وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ] ( )، قال الزهري: قال عمر: هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، قُرى (عربية: فَدَك وكذا)( ).
و(قال : لما نزلت هذه الآية {وآت ذي القربى حقه} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها فدك .
وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس قال : لما نزلت {وآت ذي القربى حقه} أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فدكا)( ).
ومنهم من قال نصف خيبر صلح ونصفها عنوة ، كحديث بشير بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسم خيبر نصفين نصفاً له ، ونصفاً للمسلمين .
وعن الزهري عن ابن المسيب : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افتتح بعض خيبر عنوةً.
ومشاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر لأصحابه لإعطاء الأشعريين ليس نزولاً عن حق الصحابة إنما لعمومات قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]( ).
بعد قتل اليهود (30) من يهود خيبر أما عدد قتلى المسلمين فكان ستة عشر .
كتيبة خيبر
لقد مكث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة بعد العودة من صلح الحديبية عشرين ليلة ، ليتوجه إلى خيبر التي تبعد عن المدينة المنورة نحو 153 كم ، (فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة مرجعه من الحديبية، ذا الحجة وبعض المحرم، ثم خرج في بقية من المحرم غازياً إلى خيبر) ( ) والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصل إلى خيبر بعد إنقضاء شهر محرم الحرام لبعد المسافة بين المدينة وخيبر .
ولم يكن بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويهود خيبر صلح أو معاهدة أو عقد ، كما أنهم لم يظهروا العداء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته .
ولكن ظهر العداء بعد أن نزح إليها شطر من بني النضير بأحمالهم على ستمائة بعير ، ومن رجالات بني النضير الذين وصلوا إلى خيبر :
الأول : حيي بن أخطب .
الثاني : سلام بن أبي الحقيق .
الثالث : كنانة بن ربيع .
الرابع : أسير بن رزام الذي أمروه بعد فضل سلام من أبي الحقيق فجمع غطفان وغيرهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجه عبدالله بن رواحة في ثلاثة نفر في شهر رمضان سرا فسأل عن خبره وغرته فأخبر بذلك.
فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فانتدب له ثلاثون رجلا فبعث عليهم عبدالله بن رواحة فقدموا على أسير فقالوا نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له، قال نعم ولى منكم مثل ذلك.
فقالوا نعم، فقلنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا اليك لتخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن اليك فطمع في ذلك فخرج وخرج معه ثلاثون رجلا من اليهود مع كل رجل رديف من المسلمين حتى إذا كنا بقرقرة تبار ندم أسير فقال عبدالله بن أنيس الجهنى وكان في السرية وأهوى بيده إلى سيفى ففطنت له ودفعت بعيرى وقلت غدرا أي عدو الله.
فعل ذلك مرتين فنزلت فسقت بالقوم حتى انفرد لى أسير فضربته بالسيف فأندرت عامة فخذه وساقه وسقط عن بعيره)( ).
وهل تفرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليهود خيبر من مصاديق لفظ خير في قوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) بلحاظ عموم هذا اللفظ .
المختار لا، فان إطلاقات هذا القانون تشمل أهل خيبر أيضاً بالصلح معهم ، ومن باب الأولوية ، خاصة وأن اليهود أهل كتاب ، بينما مشركو قريش كفار قد عقد معهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلح ، ولكن أهل خيبر تم تحريضهم على الحرب على النبي ، وإعانة المشركين ، بينما الأصل هو إعانتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ضد المشركين ، وبأمكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج إليهم حتى مع عدم وقوع صلح الحديبية .
ومن أسباب كتيبة خيبر :
الأول : قيام أهل خيبر باثارة الفتنة بعد وصول بني النضير إليهم.
الثاني : تحريض بني قريظة على نقض العهد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : ذكر أن أهل خيبر هم الذين أمدوا الأحزاب في معركة الخندق.
الرابع : إعانة أهل خيبر لغطفان في قتالهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : تهيئ أهل خيبر للقتال ، والإغارة على المدينة بمعونة غطفان .
السادس : الدسائس والتحريض بين المنافقين وأهل خيبر .
السابع : قيام بعضهم بمحاولة إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : سعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإستتباب الأمن في الجزيرة بعد صلح الحديبية ، وخروج المسلمين للتجارة ونحوها بسلام وأمن.
وفي قوله تعالى [وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا] ( ).
عن الإمام علي عليه السلام (وابن عباس قالا في قوله تعالى {وعدكم الله مغانم كثيرة}( ) فتوح من لدن خيبر {تأخذونها} تلونها وتغنمون ما فيها {فعجل لكم} من ذلك خيبر {وكف أيدي الناس} قريشاً {عنكم} بالصلح يوم الحديبية {ولتكون آية للمؤمنين} شاهداً على ما بعدها ودليلاً على إنجازها) ( ).
وتدل معركة الأحزاب وقدوم عشرة آلاف رجل من أنحاء الجزيرة واحاطتهم بالمدينة في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة على أن أعداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام أعم من قريش خصوصاً وأن عدد رجال قريش أقل من هذا العدد بكثير ، حتى أنهم حين خرجوا إلى معركة أحد ثأراً لما أصابهم من الخسارة والذل في معركة بدر استأجروا ألفين من رجال القبائل ليبلغ عددهم ثلاثة آلاف فقط ، فلابد أن العشرة آلاف رجل من المشركين في معركة الأحزاب جاءوا من قبائل شتى ، ومنهم من أهل نجد وغطفان ، ليكون من الإعجاز تسمية تلك المعركة بمعركة الأحزاب .
وقد ورد لفظ الأحزاب (11) مرة في القرآن ، منها ثلاثة بخصوص معركة الخندق وهي :
الأولى : قال تعالى [وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
الثانية : قال تعالى [يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا] ( ).
الثالثة : قال تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا]( ).
وفيه شاهد على أن معركة الخندق ليست غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إنما هي غزوة للمشركين لإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، بدليل أنه حفر خندقاً حول المدينة ،وبقيت جيوش الأحزاب تحيط بها نحو عشرين ليلة ، واستطاع بعض فرسان المشركين عبور الخندق وطلبوا المبارزة .
وألحّ عمرو بن ود العامري فارس قريش على المبارزة ، فبرز له الإمام علي عليه السلام فقتله ، ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
وبلحاظ قانون هذا الجزء من التفسير وهو (لم يغز النبي (ص) أحداً) هناك مسائل منها :
الأول : تأكيد القانون أعلاه بالشواهد والتأريخ .
الثانية : كره المسلمين للقتال وتفضل الله بصرفه عنهم .
الثالثة : حاجة المسلمين إلى صرف القتال عنهم لقلة عددهم أزاء كثرة جيوش المشركين .
الرابعة : لم يرد لفظ [وَكَفَى اللَّهُ] ( ) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، لبيان نصرة الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ساعة العسرة وشدة الحرج .
الخامسة : دلالة الآية على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع ، إذ ابتدأت بقوله تعالى [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا] ( )وتدل كلمة الرد على أنهم هم الغزاة .
السادسة : إخبار الآية على عدم مصاحبة الغيظ والحنق للمشركين قبل قدومهم إلى المعركة ، وإنهاء حصارهم للمدينة وبعد عودتهم ورجوعهم إلى بلدانهم .
السابعة : قطعت الآية بأن المشركين لم يكسبوا أي نفع لهم من معركة الأحزاب لقوله تعالى [لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا].
وهل كسب المشركون [خَيْرًا] من صلح الحديبية ، الجواب نعم فان قوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( )مطلق شامل للمسلمين وغيرهم ، وكان صلح الحديبية سبباً لوقف القتال ، ولدخول عدد من رؤساء قريش الإسلام .
الثامنة : بيان فضل الله عز وجل بقتل الإمام علي عليه السلام للباغي عمرو بن ود العامري .
وأخرج عن ابن مسعود (أنه كان يقرأ هذا الحرف { وكفى الله المؤمنين القتال }( ) بعلي بن أبي طالب) ( ).
لقد كان صلح الحديبية خيراً لأهل زمانه وللأجيال التي بعدهم وفيه ترغيب بالصلح بين الناس ، خاصة وأن الله عز وجل [هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( )، وهو القادر على الخلف والعوض لما قد يفقده ويتنازل عنه الإنسان والطائفة في الصلح .
لقد أحب الله عز وجل العباد وجعلهم خلفاء من الأرض ، فقرّبهم من الصلح ، وأشار عليهم بأنه خير محض .
لقد كانت كتيبة خيبر من أجل الصلح وسيادته في الصلات بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والطوائف ، ومن الإعجاز انتهاء كتيبة خيبر بالصلح والتوافق بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل خيبر بخصوص عمارة أرض خيبر ، والعناية بنخيلها ، ولكن بعد أن امتنع شطر من أهلها على النزول على شروط النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى خيبر وجعل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري ، وأعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يخرج معه إلا أصحاب الشجرة الذين حضروا صلح الحديبية لمنع المنافقين والذين تخلفوا عن الخروج إلى المدينة خوفاً وفرقاً من كفار قريش .
ولم يكن هذا المنع باجتهاد من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو بوحي من السنة إنما كان قرآناً ، إذ قال تعالى [سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
وقيل لم يمنعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الخروج ولكن قال لهم (لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، فأما الغنيمة فلا)( ).
والأصح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منعهم من الخروج معه ، وهو ظاهر الآية الكريمة ويدل عليه أن عدد المسلمين إلى خيبر مقارب إلى عددهم في صلح الحديبية.
ومن معاني [يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ]( )، أي يغيروا وعد الله عز وجل إلى أهل الحديبية بمغانم كثيرة خاصة لهم دون غيرهم ، ولا يختص قصد التبديل ولا الغنائم بواقعة خيبر .
فمن خصائص وعد الله بالخير أنه قانون متصل ومتجدد ولا ينقطع ، وذكر أن رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول عندما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى خيبر كتب إلى يهود خيبر يحذرهم ويحضهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويخبرهم عن قلة عدد أصحابه .
وكتب بعض رؤساء اليهود الذين نزحوا الى خيبر من المدينة ومنهم كنانة بن أبي الحقيق وهو من بني النضير ، وكان زوجاً لصفية بنت حي بن أخطب التي صارت أم المؤمنين ، وهو شاعر جاهلي إلى غطفان يستنصرونهم ويطلبون منهم المدد لأنهم كانوا حلفاءهم .
وأعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الراية إلى الإمام علي عليه السلام وكانت بيضاء وشق على يهود المدينة الموادعين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خروجه إلى خيبر لعلمهم بأن الله يهلك خيبر وتوجهوا إلى الصحابة الذين لهم عليهم ديون فطالبوهم بها وألحوا بهذه المطالبة وكأنها إشارة إلى عدم عودتهم سالمين من ملاقاة أهل خيبر لكثرة عددهم ومنعة حصونهم ، ومراسهم في القتال .
وكان لأبي الشحم وهو من بني ظفر من اليهود عند عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي خمسة دراهم في شعير أخذه لأهله ، فلزمه وطالبه بالدَين قبل أن يغادر إلى خيبر ، فقال له عبد الله : أجلني لحين عودتي ، فاقضين لأن الله وعد النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مغانم ، وكان عبد الله هذا ممن شهد صلح الحديبية .
(فقال أبو الشحم حسداً وبغياً : تحسب أن قتال خيبر مثل ما تلقونه من الأعراب فيها والتوراة عشرة آلاف مقاتل) ( ) .
فقال عبد الله بن أبي حدرد : اتخوفنا بعدونا وأنت في ذمتنا وجوارنا والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما قاله أبو الشحم ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال أبو الشحم : يا أبا القاسم هذا قد ظلمني وحبسني حقي وأخذ طعامي .
وعندما سمع من الإثنين : المدعي والمدعى عليه ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أعطه حقه .
وكان عند عبد الله ثوبان فباع أحدهما بثلاثة دراهم وطلب درهمين ، فدفع له دينه ، فاعطاه سلمة بن أسلم ثوباً آخر ، فخرج مع المسلمين بثوبين.
ويأتي ذكر أبي شحم هذا في خبر وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كانت له درع من حديد مرهونة عند أبي شحم .
وهل من صلة بين معركة الخندق وكتيبة خيبر ، الجواب نعم ، إذ أن عدداً من رؤساء بني النضير ساهموا في تحريض الأحزاب ، قال ابن إسحاق (وَكَانَ الّذِينَ حَزّبُوا الْأَحْزَابَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ وَبَنِيّ قُرَيْظَةَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ ، وَسَلَامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ أَبُو رَافِعٍ وَالرّبِيعُ بْنُ الرّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَأَبُو عَمّارٍ وَوَحْوَحُ بْنُ عَامِرٍ وَهَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ .
فَأَمّا وَحْوَحُ وَأَبُو عَمّارٍ وَهَوْذَةُ فَمِنْ بَنِي وَائِلٍ وَكَانَ سَائِرهمْ مِنْ بَنِي النّضِيرِ .
فَلَمّا قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا : هَؤُلَاءِ أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ الْأَوّلِ فَسَلُوهُمْ دِينُكُمْ خَيْرٌ أَمْ دِينُ مُحَمّدٍ .
فَسَأَلُوهُمْ فَقَالُوا : بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ وَأَنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُ وَمِمّنْ اتّبَعَهُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ( ).
وكان صلح الحديبية خاصاً بقريش ، ولم يكن شاملاً لقبائل العرب وفيه أمارة على الخشية منها خصوصاً غطفان التي كانت في حلف مع يهود خيبر، كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخشى من هوازن وثقيف وإن كان بعد المسافة بينهم وبين المدينة يخفف مرتبة الخطر والضرر ، فكان توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر لقطع دابر الفتنة ، ومنع القبائل من الإغارة على المدينة ، وزجر الناس عن تحريضهم على إغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعبث بالأمن العام .
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصلح الحديبية نشر السلم المجتمعي ، وهو لا يتحقق إلا بكف أيدي القبائل وحلفائهم عن المدينة، وقال تعالى [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا] ( ).
والمراد من الآية أعلاه صلح الحديبية ،وإجتناب القتال يومئذ .
(عن أنس قال : طلع قوم وهم ثمانون رجلاً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل التنعيم عند صلاة الصبح ليأخذوه ، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وخلى سبيلهم .
فأنزل الله تعالى [وَهُوَ الذى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم]( )، {بِبَطْنِ مَكَّةَ} يعني : بوسط مكة { مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} يعني: سلطكم عليهم {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} بحرب بعضكم بعضاً)( ).
ولم يرد لفظ [بَطْنِ مَكَّةَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، ومن إعجاز القرآن أن صلح الحديبية قيدّ الأيدي ، ومنع من القتال بخصوص مكة وأطرافها ، مما يدل على بقاء الأماكن والبقاع والقبائل البعيدة عنها تحمل تهديداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر لإيقاف هذا التهديد ، ولتأديب الذين أعانوا المشركين على قتاله في معركة الخندق وغيرها .
لقد أكثر المنافقون وغيرهم تهويل الأخطار عند المسير إلى خيبر ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ) .
لم يكن اليهود كأهل ملة مطلوبين في كتيبة خيبر بدليل وجود طائفة منهم آنذاك في المدينة ، ومنهم أبو الشحم الذي تقدم ذكره ، وكانوا يخيفون المسلمين من شدة بأس يهود خيبر ، فلم يردوا عليهم إلا بالصبر والحلم ، وإظهار التوكل على الله .
وهل قوله تعالى الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُخاص بكتيبة حمراء الأسد التي حدثت بعد يوم واحد من معركة أحد ، أم أنها أعم .
الجواب هو الثاني ، وفيه قيام بعضهم بتخويف المسلمين من كتيبة خيبر، وكذا بالنسبة لفتح مكة ، وكتيبة تبوك ، والسرايا التي بعثها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون أسباب نزول الآية أعلاه درساً وموعظة وضياءّ ينير سبل الدفاع عن النبوة والتنزيل ، إذ ورد في أسباب نزولها (عن ابن عباس قال : استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عيراً واردة المدينة ببضاعة لهم ، وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبال فقال : إن لكم عليّ رضاكم إن أنتم رددتم عني محمداً ومن معه ، إن أنتم وجدتموه في طلبي أخبرتموه أني قد جمعت له جموعاً كثيرة .
فاستقبلت العير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له: يا محمد إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعاً كثيرة ، وأنه مقبل إلى المدينة ، وإن شئت أن ترجع فافعل .
فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقيناً { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} فأنزل الله [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا]( ) الآية) ( ).
وأثناء مسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر قال لعامر بن الأكوع (وَاَللّهِ لَوْلَا اللّهُ مَا اهْتَدَيْنَا … وَلَا تَصَدّقْنَا وَلَا صَلّيْنَا
إنّا إذَا قَوْمٌ بَغَوْا عَلَيْنَا … وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا … وَثَبّتْ الْأَقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَرْحَمُك اللّهُ) ( ).
وقد استشهد الأكوع هذا في خيبر بأن رجع سيفه عليه ، وهو يقاتل فجرحه جرحاً بليغاً .
وشك عدد من المسلمين في صدق شهادته لأنه قُتل بسلاحه ، ولم يقتل بسلاح العدو، فذهب ابن أخيه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسأله هل مات عمي شهيداً ، وأخبره بما قال عدد من الصحابة ( فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ شَكّوا فِيهِ وَقَالُوا : إنّمَا قَتَلَهُ سِلَاحُهُ حَتّى سَأَلَ ابْنُ أَخِيهِ سَلَمَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النّاسِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إنّهُ لَشَهِيدٌ وَصَلّى عَلَيْهِ فَصَلّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ) ( ).
من أسباب هذه الكتيبة وجوه :
الأول : شارك أهل خيبر في تحريض الأحزاب ضد المسلمين .
الثاني : تحريض بني قريظة على الغدر .
الثالث : الإتصال مع المنافقين .
الرابع : الحلف مع غطفان والأعراب ضد النبوة والتنزيل .
الخامس : تهيئ أهل خيبر للقتال .
السادس : وضع خطة لإغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعلى فرض أجتماع مثل هذه الأسباب فقد ترشح بعضها بعد جلاء بني النضير إلى خيبر .
دراسة مقارنة بين كتيبة حمراء الأسد وخيبر
تكون النسبة بينهما العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق من وجوه :
الأول : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، بينما خرج إلى خيبر في بدايات السنة السابعة للهجرة .
الثاني : وقعت كتيبة حمراء الأسد بعد معركة أحد ، فقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في اليوم التالي لمعركة أحد ، بينما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر بعد العودة إلى المدينة من صلح الحديبية .
الثالث : كان عدد الأصحاب الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد مائتين ونيفاً أغلبهم طالتهم الجراحات ، بينما خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر ومعه ألف وأربعمائة ، وقيل أكثر مدججين بالسلاح .
الرابع : في كل من حمراء الأسد وخيبر اشترط النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يخرج معهم إلا من خرج في الكتيبة السابقة ، وبخصوص حمراء الأسد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال فقال عبد الله بن أبي أنا راكب معك .
فقال لا فاستجابوا لله ولرسوله على الذي بهم من البلاء فانطلقوا فقال الله في كتابه الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) ( ).
ولم يأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن أبي بالخروج معه لأنه حرضّ الأنصار في الطريق إلى معركة أحد على الرجوع إلى المدينة ، وأخذ يقول (مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ) ( ) .
فانخزل معه ثلاثمائة من جيش المسلمين ، وهم ثلث الجيش مع حاجة النبوة والتنزيل يومئذ إلى الفرد الواحد ، ولم يعلموا أن الله عز وجل بارك بالصحابة الذين حضروا معركة أحد ، إذ هبط الملائكة لنصرتهم ، لتكون تلك الحال قريبة من اختلاط آدم وحواء مع الملائكة في الجنة .
وهل يكون هؤلاء الملائكة شفعاء لهم يوم القيامة ، الجواب نعم ، لذا فان الذين انسحبوا من الشوط من وسط الطريق إلى معركة أحد بتحريض من عند عبد الله بن أبي حرموا من نعمة وصحبة ونصرة الملائكة يوم معركة أحد .
وهل في قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ) تعريض بعبد الله بن أبي والمنافقين وعامة الذين إنسحبوا من وسط الطريق إلى أحد ، ولم يحضروا تلك المعركة ، الجواب نعم.
ومن الإعجاز في المقام ورود الآية بصيغة الخطاب ، ومنها [إِنْ تَصْبِرُوا] ومن معانيه جهات :
الأولى : الخروج لملاقاة الغزاة المشركين الذين صاروا على مشارف المدينة .
الثانية : وإن تصبروا فلا ترجعوا وتنخزلوا مع رأس النفاق من وسط الطريق إلى معركة أحد ، وتتقوا الله فلا تلتفتوا إلى تحريض رأس النفاق الذي انخزل مع ثلاثمائة فرجعوا إلى المدينة حينئذ ، وكانت فتنة كبرى تستلزم من المؤمنين الجمع بين الصبر والتقوى لينتظرهم المدد الملكوتي والعون النازل من السماء .
لبيان قانون من الإرادة التكوينية ، وهو بالجمع بين الصبر والتقوى يأتي المدد العاجل من عند الله ، سواء كان هذا المدد ظاهراً أو خفياً ، ويدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثالثة : وإن تصبروا في ميدان القتال ، ولا تفروا ولا تنهزموا أمام المشركين يأتي النصر.
الرابعة : الخطاب إلى الرماة المسلمين بالصبر في مواضعهم وتقوى الله بطاعته وطاعة رسوله الذي أمرهم بعدم مغادرتها ، وكان عددهم خمسين وأميرهم عبد الله بن جبير .
وعن (البراء بن عازب قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد، وكانوا خمسين رجلا، عبد الله بن جبير، قال: ووضعهم موضعا وقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
قال: فهزموهم، قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن.
فقال أصحاب عبدالله بن جبير: الغنيمة، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنظرون ؟
قال عبدالله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة.
فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين، فذلك الذى يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير اثنى عشر رجلا) ( ).
وتبين الآية أعلاه نزول الملائكة يوم أحد مما يدل على تحقق الصبر من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، فقد صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يغادر ميدان المعركة ، ويدل عليه قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( ) وهو وحده أمة كما كان يقاتل بين يديه الإمام علي عليه السلام ، وعدد من الصحابة.
وهل يشمل الصبر الشهداء ، الجواب نعم ، فالجود بالنفس أسمى مراتب الصبر ، وقد استشهد سبعون من الصحابة ليتحقق شرط الصبر والتقوى ، وتنزل الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الخامس : كان سبب كتيبة حمراء الأسد عزم جيش المشركين الذين غادروا ميدان معركة أحد على العودة للإغارة على المدينة ، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصدهم ومنعهم من دخول المدينة ، ليتجلى قانون وهو دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المسلمين والمنافقين واليهود وعامة أهل المدينة وممتلكاتهم وأعراضهم.
أما سبب كتيبة خيبر فهو تحريض ساكنيها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولم يكن هذا التحريض من أهل خيبر أنفسهم ، إنما هو من رؤساء بني النضير الذين نزحوا إليهم ، وكان في أنفسهم شئ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بسبب هذا النزوح ، ومغادرتهم المدينة، مع أن أهل خيبر استقبلوهم ، ووفروا لهم حاجاتهم .
السادس : ليس بين معركة أحد والخروج إلى حمراء الأسد إلا سواد ليلة ، قضاها الصحابة في علاج الجراحات وفي حراسة المدينة وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أما بالنسبة للخروج إلى خيبر فقد كان المسلمون في آمن بعد صلح الحديبية .
السابع : لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد دفعاً لشرور كفار قريش ومن والاهم ، أما خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر فهو عن موعدة من الله عز وجل له وهو في الحديبية ، قال تعالى [وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا] ( ).
الثامن : كان عدد الخيل قليلاً عند الخروج إلى حمراء الأسد ، أما عند الخروج إلى خيبر فقد كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مائتا فرس ، ليكون هذا العدد مائة ضعف لعددها في معركة بدر .
التاسع : استعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة ابن أم مكتوم عند خروجه إلى حمراء الأسد( ) ، أما عند خروجه إلى خيبر وفيمن استخلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة في خروجه إلى خيبر ذكرت أقوال :
الأول : سباع بن عرفطة الغفاري( )، و(عن نفر من بني غفار قالوا: إن أبا هريرة قدم المدينة وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري .
قال أبو هريرة: فوجدناه في صلاة الصبح، فقرأ في الركعة الأولى [كهيعص] وقرأ في الثانية [ويل للمطففين].
فأقول في صلاتي : ويل لأبي فلان له مكيالان، إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص.
قال : فلما فرغنا من صلاتنا أتينا سباع بن عرفطة فزودنا شيئاً حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد فتح خيبر، فكلم المسلمين فأشركونا في سهمانهم) ( ) .
الثاني : نميلة بن عبد الله الليثي ( ).
الثالث : أبو ذر الغفاري .
والمشهور والمختار هو الأول أعلاه ، خاصة وأن اسمه ورد في قدوم وفد بني دوس عليه .
(فلما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة، فمرض فجزع فأخذ مشاقص فقطع بها براجمه ، فشخبت يداه فما رقأ الدم حتى مات.
فرآه الطفيل بن عمرو في منامه في هيئة حسنة، ورآه مغطيا يديه، فقال له: ما صنع ربك ؟
فقال: غفر لى بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: فما لى أراك مغطيا يديك .
قال: قيل لى لن يصلح منك ما أفسدت .
قال: فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم وليديه فاغفر)( ).
وهذا من الإعجاز في السنة النبوية بأن يجمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين تأويل الرؤيا والدعاء لصاحبها ، وهو ميت لأنه من المهاجرين .
والمشاقص جمع مشقص وهو سهم فيه نصل عريض والبراجم مفاصل الأصابع .
وظاهر الحديث أنه لم يقصد الإنتحار وقتل نفسه ، إنما كان في حال جزع ، فتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء له بالمغفرة ، وفي الحديث شاهد على أن المغفرة قد تحجب عن بعض أعضاء البدن ، وفيه دعوة للمؤمنين والمؤمنات بالدعاء لأعضائهم أيضاً خاصة البطن والفرج واليد والرجل .
وموضوع هذا الحديث شخص من الأمم السابقة أقدم على قتل نفسه ، كما عن جندب قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات، فقال الله عز وجل عبدي بادرنى بنفسه فحرمت عليه الجنة) ( ) .
العاشر : أخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معه إلى الحديبية (أم سلمة زوجته) ( ).
الحادي عشر : خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الحديبية بعد رؤيا رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا] ( ) أما خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر فكان بأمر من جبرئيل .
الثاني عشر : في الطريق إلى خيبر حرّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحوم الحمر الأهلية .
الثالث عشر : خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية في شهر حرام ، وهو شهر ذي القعدة ، وأختلف في خروجه إلى خيبر على وجوه :
أولا ً : في شهر محرم من السنة السابعة ، وبه قال ابن إسحاق( )، وعلى فرض هذا القول فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصل إلى خيبر بعد شهر محرم .
ثانياً : آخر السنة السادسة للهجرة ،عن الزهري( ) .
ثالثاً : في شهر صفر من السنة السابعة ، قاله الواقدي .
رابعاً : في شهر ربيع الأول من السنة السابعة .
خامساً : في شهر جمادى الأولى من السنة السابعة للهجرة .
سادساً : في شهر محرم من السنة السادسة للهجرة ، أي قبل صلح الحديبية بعشرة شهور.
وعن مالك بن أنس أن فتح خيبر في سنة ست ، وقان ابن حزم أنه في سنة ست بلا شك ، ومراده أن أول السنة الهجرية من شهر ربيع الأول الذي قدم فيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مهاجراً ، ولكنه خلاف المشهور ، والذي أصبح سائداً ، وهو إبتداء السنة من شهر محرم الحرام ، لأنه أول شهور السنة العربية ، وإن كانت هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعده بشهرين .
الرابع عشر : حينما قفل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خيبر بدا لهم جبل أحد (فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه) ( ).
الخامس عشر : توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الحديبية لأداء العمرة ، أما التوجه إلى خيبر فكان بسبب تحريضهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس عشر : كان الدليل إلى الحديبية هو حمزة بن عمرو الأسلمي ،وعمرو بن عبد نهم الأسلمي (قالوا: فلما أمسى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تيامنوا في هذا العصل ، فإن عيون قريش بمر الظهران أو بضجنان، فأيكم يعرف ثنية ذات الحنظل ؟
فقال بريدة بن الحصيب الأسلمي: أنا يا رسول الله عالمٌ بها.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اسلك أمامنا، فاخذ به بريدة في العصل قبل جبال سراوع قبل المغرب، فسار قليلاً تنكبه الحجارة وتعلقه الشجر، وحار حتى كأنه لم يعرفها قط.
قال: فوالله إن كنت لأسلكها في الجمعة مراراً.
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتوجه قال : اركب فركبت فقال صلى الله عليه وآله وسلم: من رجل يدلنا على طريق ذات الحنظل؟
فنزل حمزة بن عمرو الأسلمي فقال: أنا يا رسول الله أدلك.
فسار قليلاً ثم سقط في خمر الشجر، فلا يدري أين يتوجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اركب.
ثم قال: من رجل يدلنا على طريق ذات الحنظل؟
فنزل عمرو بن عبد نهم الأسلمي فقال: أنا يا رسول الله أدلك.
فقال: انطلق أمامنا.
فانطلق عمرو أمامهم حتى نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الثنية فقال: هذه ثنية ذات الحنظل .
فقال عمرو: نعم يا رسول الله.
فلما وقف على رأسها تحدر به.
قال عمرو: والله إن كان ليهمني نفسي وجدي، إنما كانت مثل الشراك، فاتسعت لي حتى برزت وكانت محدة لاحبة .
ولقد كان النفر يسيرون تلك الليلة جميعاً معطفين من سعتها يتحدثون، وأضاءت تلك الليلة حتى كأنا في قمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فو الذي نفسي بيده، ما مثل هذه الثنية الليلة إلا مثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل: ” وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطةٌ) ( ) أما في المسير إلى خيبر فقد دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم دليلين :
الأول : حُسَيل بن نورة الأشجعي .
الثاني : خيار بن عبد الله بن نعيم الأشجعي .
ويمكن تنظيم جدول خاص بأسماء أدلاء الطريق للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والأدلاء في الكتائب والسرايا مطلقاً ، فمثلاً كان دليله في طريق الهجرة إلى المدينة هو عبد الله بن أريقط الليثي ثم الديلي ، ولم يكن يومئذ مسلماً ، ومع هذا استأمنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وكان ماهراً خريتاً( )) ( ) ماهراً في هدايته ومعرفته بالطرق المتعددة التي توصل إلى المدينة يثرب ، فسار بهم على طريق السواحل .
وعندما أوصلهم عاد إلى مكة وأخبر بعض المسلمين عن وصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، فخرج عدد منهم وأختلف في اسلام عبد الله بن اريقط فيما بعد.
وقال ابن حجر (ولم أر من ذكره في الصحابة إلا الذهبي في التجريد وقد جزم عبد الغني المقدسي في السيرة له بأنه لم يعرف له إسلاما وتبعه النووي في تهذيب الأسماء) ( ).
السابع عشر : قد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الحديبية يريدون العمرة ، أما بالنسبة إلى خيبر فكانوا يريدون كف الأذى والشر ، ليكون هذا الخروج من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) بتقريب أنه من مصاديق صرف الضرر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، والوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج إلى ديار الذين يهددون بغزو المدينة ، والذين يمدون المشركين بالمادة والسلاح ، وهل الإقراض من أجل القتال من هذا المدد أم أن القدر المتيقن منه .
الثامن عشر : عندما أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التوجه إلى الحديبية بنية أداء العمرة أعلن الأمر في المدينة وبعث إلى القبائل والأعراب الذين حولها وأهل البوادي ومنهم جهينة ومزينة ، فتخلفوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خشية إجهاز قريش عليهم لأنهم يقصدونهم في عقر دارهم ،ونزل قوله تعالى [ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا *بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا] ( ) وذكر في الذين تخلفوا :
الأولى : أعراب جهينة .
الثانية : مُزَينة .
الثالثة : غِفار .
الرابعة : سلم .
الخامسة : أشجع .
السادسة : الديل .
أن المراد شطر وطائفة منهم لغة التبعيض في قوله تعالى [مِنْ الأَعْرَابِ].
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم امتثاله لأمر الله والخروج نحو الحديبية والعمرة حتى مع عزوف وامتناع كثير من الناس ، قال تعالى [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً]( ).
و(عن مجاهد في قوله {سيقول لك المخلفون من الأعراب}( ) قال : أعراب المدينة جهينة ومزينة استنفرهم لخروجه إلى مكة ، فقالوا : نذهب معه إلى قوم جاؤوه فقتلوا أصحابه فنقاتلهم في ديارهم ، فاعتلوا له بالشغل) ( ).
التاسع عشر : لقد توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة إلى أداء العمرة في مكة التي تبعد (450 ) كم عن المدينة ، ولكن المشركين منعوه وصدّوه عند أطراف الحرم في الحديبية .
أما في كتيبة خيبر فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع مسافة نحو (153 ) كم .
العشرون : عندما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية هو وأصحابه لم يكن عندهم من سلاح إلا سلاح الراكب وسيوف في أغمادها وأكثرها صغيرة .
الحادي والعشرون : وقعت كتيبة خيبر بعد صلح الحديبية لبيان مصداق تفضل الله عز وجل بوصف هذا الصلح بالفتح المبين بقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) لبيان أن تعدد معاني ووجوه الفتح المترشحة عن هذا الصلح سلباً وأيجاباً ، وطرداً وعكساً .
الثاني والعشرون : من العلماء من اطلق اسم غزوة على صلح الحديبية، وعلى كتيبة خيبر ، والمختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغزهم ، إنما ذهب إلى مكة لأداء العمرة ، أما خيبر فقد ذهب لهم لكثرة الفتن التي صدرت منهم وإعانتهم غطفان ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد نزوح بني النضير لهم .
الثالث والعشرون : في الطريق إلى صلح الحديبية أحرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حالموا وصلوا إلى ذي الحليفة الذي يبعد عن المسجد النبوي نحو (14) كم والذي يسمى أيضاً مسجد الشجرة ،وبيار علي ، ليقطعوا أكثر من أربعمائة كيلو متر وهم في حال إحرام في دلالة على أنهم لا يريدون قتالاً خاصة وأن الشهر كان ذا القعدة ، وهو من الأشهر الحرم ، بينما سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى خيبر بالأسلحة والدروع ، وهو مستعدون للقتال .
الرابع والعشرون : توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة في صلح الحديبية وأكثر سكانها آنذاك من المشركين ، وفيها مسلمون يخفون أسلامهم ، أما في خيبر فان أكثر سكانها من اليهود ، ومعهم من العرب أيضاً .
الخامس والعشرون : لقد أنتهى الخروج إلى الحديبية بصلح وبنود واضحة ، أما في خيبر فمن القلاع والحصون ما تم صلح أهلها مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنها ما وقع معهم قتال.
السادس والعشرون : ذكر (أَنّ أَرْضَ خَيْبَرَ سُمّيَتْ بِاسْمِ رَجُلٍ مِنْ الْعَمَالِيقِ . نَزَلَهَا وَهُوَ خَيْبَرُ بْنُ قَانِيَةَ بْنِ مَهْلَايِلَ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْوَطِيحِ ، وَهُوَ مِنْ حُصُونِهَا أَنّهُ سُمّيَ بِالْوَطِيحِ بْنِ مَازِنٍ رَجُلٌ مِنْ ثَمُودَ وَلَفْظُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَطْحِ وَهُوَ مَا تَعَلّقَ بِالْأَظَافِرِ وَمَخَالِبِ الطّيْرِ مِنْ الطّينِ) ( ).
السابع والعشرون : الحديبية أبعد عن المدينة من خيبر .
عمرة القضاء
في شهر ذي القعدة من السنة السادسة ابرم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقداً مع كفار مكة هو (صلح الحديبية) الذي يدل على أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسالة سلام وأمن وأنه لم يقاتل إلا عن ضرورة واضطرار .
لقد انطوت صفحة القتال ، وساد الأمن في ربوع الجزيرة ببركة آيات القرآن فقد صار الناس يدخلون الإسلام افواجاً ، وعجزت قريش عن صدهم ، ثم أن بعض رؤساء قريش أنفسهم دخلوا الإسلام مع أنه ليس من السهولة بمكان أن يقر القريب والحاسد والعدو المحارب بالنبوة والمعجزة .
وفي صلح الحديبية امتنع ممثل قريش سهيل بن عمرو في البداية عن أمرين :
الأول : كتابة بسم الله الرحمن الرحيم فحينما سمعها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر الإمام علياً عليه السلام أن يكتبها ، قال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن اكتب باسمك اللهم ، فرضي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتابتها .
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم اضفاء القدسية والبركة على المعاهدة والصلح بذكر الله ، والإطمئنان لذكره وهو الشاهد والرقيب ، إنها وسيلة لدعوة مشركي قريش للتوبة ولبيان أضرار الأصنام ، ونصبها في البيت الحرام.
الثاني : ثم أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي أن يكتب (هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدٌ رَسُولَ اللّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو ، فَقَالَ سُهَيْلٌ لَوْ شَهِدْت أَنّك رَسُولُ اللّهِ لَمْ أُقَاتِلْك ، وَلَكِنْ اُكْتُبْ اسْمَك وَاسْمَ أَبِيك ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ اُكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو اصْطَلَحَا عَلَى)( ).
لبيان ذكر طرفي التعاقد ، ومنع اللبس والترديد فلابد من ذكر أسماء أعضاء الوفود عند عقد معاهدة :
الأول : وضع الحرب عن الناس عشر سنين .
الثاني : يأمن الناس في هذه السنوات العشر ويكف بعضهم عن بعض .
وهل المراد القتال بين المسلمين والمشركين أم عموم القبائل والخصومات ، المختار هو الثاني ، وهو من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ يفيد الألف واللام في الناس الجنس ، ومن الشواهد أنه لم يقع قتال باستثناء نقض بني بكر وقتالهم لخزاعة بعد سنتين .
لقد أراد الله عز وجل بهذا الصلح التخفيف عن الناس ، ورفع أشد المفسدة من القتال وسفك الدماء ، بالوئام .
الثالث : من جاء الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بغير اذن وليه أو ابيه يرده النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم ، أما من جاء قريشاً ممن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يردونه عليه .
وهل فيه غبن وعدم انصاف ، الجواب نعم ، ولكن صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتضحية بالقضية الشخصية من أجل المصلحة العامة ودرء الفتنة عظيم ، قال تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ] ( ).
الرابع : بين الطرفين عيبة مكفوفة ، أي صدور سليمة وامتناع عن الثأر والمؤاخذة على ما تقدم من القتال في معارك الإسلام الأولى ، وقتل قريش للمسلمين والمسلمات غيلة وغدراً ومنهم سمية بنت الحارث خياط أم عمار بن ياسر.
قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة ، وهل هذا القتل إنذار للنبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بمكر قريش لإرادة قتله الجواب نعم.
لبيان مصداق لإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن قريشاً أضعفتها الحروب ، إذ توالت كل من معركة بدر ، وأحد ، والخندق تباعاً وباختيارهم وسوء قصدهم ، وانفقوا أموالهم في الصدّ عن سبيل الله ، وسخروا إبل التجارة للحرب على النبوة والتنزيل ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
ومن معاني عيبة مكفوفة غلق صفحة الماضي وما فيها من العداوات والإقتتال والثأر ، إذ أن العقد يجبّها ، فيجعل القلوب مشدودة على إرادة الصلاح .
والعيبة هي الوعاء الذي توضع فيه الثياب والمتاع ، ومكفوفة أي مشدودة لإرادة الموادعة وبدأ صفحة السلم ، والتنزه عن الخداع والغدر ليكون هذا الشرط تحذيراً لكفار قريش من الغدر الذي قد يكون سبباً لنقض الصلح خاصة وقد صاروا في حال ضعف ووهن .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي فَضَرَبَ الْعَيْبَةَ مَثَلًا لِمَوْضِعِ السّرّ ، وَمَا يُعْتَدّ بِهِ مِنْ وُدّهِمْ . وَالْكَرِشُ وِعَاءٌ يُصْنَعُ مِنْ كَرِشِ الْبَعِيرِ يُجْعَلُ فِيهِ مَا يُطْبَخُ مِنْ اللّحْمِ( ).
الخامس : لا إسلال ولا إغلال ، والإسلال : السرقة الخفية( ).
يقال في بني فلان سلّة : إذا كانوا يسرقون .
وقيل والرشوة ، والإسلال : سل السيف .
والإغلال : الغش .
وفي التنزيل [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ) ( )، وهذه البنود للتوثيق وتعاهد الإتفاق والصلح وهل فيه شاهد على فزع ووهن قريش الجواب نعم ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
السادس : من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه لبيان الوهن الضعف الذي لحق قريشاً ، وصيرورتهم عاجزين عن منع الناس من دخول الإسلام ، ومن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، نعم لا يدل هذا البند من الإتفاق على إرادة موضوع دخول الناس الإسلام على نحو الحصر، إنما يخص العهود والأحلاف بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقبائل ، ولكنه يدل بالدلالة التضمنية على حق الناس في دخول الإسلام جماعات وأفراداً ويدل على أن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عهداً وعداً وأنه يستطيع الذبّ عمن يدخل في عهده وحلفه .
وذكر الإتفاق (عقد قريش وعهدهم) لبيان أن سهيل بن عمرو يتحدث باسم قريش ، وأن قريشاً هم الذين كانوا يقاتلون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وتواثبت خزاعة في عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعهده ودخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم .
السابع : أن يرجع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عامه هذا ، ولا يدخل على قريش مكة ، وإذا كان في عام قابل دخلها هو وأصحابه ، وقالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (فأقمت بها ثلاث معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها)( ).
الثامن : قالت قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : نقاضيك على أن تنحر الهدي مكانه وتحلق وترجع ، حتى إذا كان العام المقبل نخلي لك مكة ثلاثة أيام( ).
فيرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ذلك العام دون أن يدخلوا مكة ويؤدوا العمرة ، على أن يقضوا العمرة في العام المقبل، والتي سميت عمرة القضاء .
ولم يقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الرجوع من رأس إنما الح على وفد قريش بدخوله إلى مكة خاصة وأنه ليس لهم سلطان أو ولاية على البيت الحرام ، قال تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
التاسع : مدة إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة في عام قابل ثلاثة أيام فقط ، ويغادرون بعدها ، فرضي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشرط .
العاشر : لا يدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة بسلاح إلا السيف ، فلا يأتون بالدروع والخوذ والرماح والنبال.
الحادي عشر : إن خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة في العام القادم بعد انقضاء الأيام الثلاثة لا يأخذ معه أحداً من أهل مكة .
وتحتمل بنود الصلح من حيث الأهمية والترتيب وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي بين هذه البنود .
الثاني : بعض البنود أهم من بعضها الآخر .
الثالث : وجود بند وشرط هو الأهم .
والمختار هو الثالث إذ أن إيقاف الحرب ووضع القتال عن الناس عشر سنين ، مع أمن الناس فيه هو الأهم ، وهل هو من أسرار تسمية صلح الحديبية فتحاً بقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، الجواب نعم .
قانون تجلي نسيم التقوى في كل آية من القرآن
يطل علينا في كل آية من القرآن موضوع للتقوى ولزوم التحلي بها ، لأنها مصداق العبادة والتسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، وعن رجل من بني سليط قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يظلمه ، التقوى ههنا التقوى ههنا وأومأ بيده إلى صدره( )، وهو الذي يتجلى من وجوه :
الأول : منطوق الآية القرآنية.
الثاني : مفهوم الآية القرآنية ، سواء مفهوم موافقة أو مخالفة بخصوص حكم غير المذكور ، ومن مفهوم الموافقة النطق بالإشارة لإرادة التذمر مما يدل على حرمة إظهار الإزدراء من الوالدين أو الضرب والتعدي على الوالدين ، لإلتقائهما في النهي والحرمة ليشمل حال الفعل ، ويسمى مفهوم الموافقة هذا فحوى الخطاب ، ولحن الخطاب .
أما مفهوم المخالفة فيسمى دليل الخطاب ، وهو على أقسام ، ويجوز تخصيص العام في مفهوم الموافقة ، وأختلف جواز التخصيص بمفهوم المخالفة بلحاظ تعدد القيود في ذات الحكم ، ومن أنواع مفهوم المخالفة :
الأول : مفهوم الصفة .
الثاني : مفهوم الشرط .
الثالث : مفهوم الغاية .
الرابع : مفهوم العدد .
الخامس : مفهوم الحصر .
السادس : مفهوم العلة .
وأختلف في حجية مفهوم المخالفة على قولين :
الأول : حجية مفهوم المخالفة ، وهو المشهور ، فهو ثابت لغة ، ومن أساليب وصيغ العربية .
الثاني : عدم حجية مفهوم المخالفة .
الثالث : التفصيل ثبوت حجية بعض مفهوم المخالفة دون البعض الأخر .
وقد تكون القيود الواردة في النص الشرعي أو اللغوي أو القانوني مذكورة لغرض ومصلحة وقصد غير بيان الحكم ، فلابد من الإستقراء .
الثالث : الأحكام التي تتضمنها الآية القرآنية.
الرابع : دلالات الآية قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا]( ).
الخامس : الغايات السامية والمقاصد الشرعية من الآية .
السادس : إقتباس المواعظ ، واستنباط القوانين من الآية القرآنية.
السابع : استقراء المسائل والأحكام من الصلة والجمع بين آيتين من القرآن وهل يشترط اتحاد موضوع الآيتين في المقام مثل الآيات الخاصة بالصلاة أو الآيات الخاصة بالصبر ، الجواب لا ، مما يدل على قانون وهو استظهار المقاصد والأحكام من الصلة بين كل آيتين من القرآن ، لتفتح أبواب غير متناهية من العلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا]( ).
يحتمل هذا الموضوع وجوهاً :
الأول : إنه من الموضوع الواحد والمتحد.
الثاني : إنه من المتعدد والجمع.
الثالث : موضوع التقوى في كل آية توليدي، إذ تتفرع عنه موضوعات ومصاديق للتقوى ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن ، وذخائر علومه غير المتناهية .
والصحيح هو الثاني والثالث، ليكون القرآن (كتاب التقوى) والإمام في أسباب ووجوه الخشية من الله عز وجل ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]( ).
ومن مصاديق التقوى في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] أمور:
الأول : التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول من الله عز وجل .
وهل يشمل هذا الخطاب التشريفي الأعراب الذين ورد ذكرهم بقوله تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
الجواب نعم يدخلون في الخطاب لأنه لا ينحصر بالمؤمنين بل يشمل المسلمين جميعاً ممن نطق بالشهادتين ذكراً كان أو أنثى، وسيداً أو عبداً، وحضرياً أو من البدو والأعراب .
الثاني : نداء التشريف [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وما فيه من الشهادة للمؤمنين بالإيمان دعوة لتعاهد مفاهيم التقوى بالقول والعمل ، قال تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]( ).
الثالث : المبادرة إلى الإستغفار ، والإكثار منه ، وعدم الإصرار على المعصية .
الرابع : العدل والإنصاف ، والتحلي بالعفو والصفح ، قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ).
والتقوى هي الإحتراز واختيار سبل النجاة في النشأتين ، وهي على شعبتين :
الأولى : طاعة أوامر الله عز وجل واتيان الفرائض ، والمسارعة في الخيرات ، وهل الخشية من الله من التقوى أم أنها كيفية نفسانية والقدر المتيقن من التقوى هو القول والعمل الجواب هو الأول ، وهذه التقوى أصل وملكة تقصم الجوارح من إرتكاب الإثم ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ] ( ).
الثانية : الامتناع عما نهى الله عز وجل عنه .
قانون موضوعية التقوى
التعدد في صيغ الأمر بالتقوى والحث عليها دليل على موضوعيتها في حياة المسلمين، ، وتنفع في الموارد الخاصة والعامة مما يدل على لزوم مصاحبة التقوى للمسلمين في النهار والليل، وفي الأسواق حيث ينشط الشيطان ، لتكون التقوى على وجوه :
الأول : التقوى والخشية من الله عصمة من وسوسة الشيطان .
الثاني : إنها باعث للخيبة في نفوس الكفار .
الثالث : التقوى سلاح في أمور الدين والدنيا ، قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ) ( ).
ويكون تقيد المسلم بالأوامر والنواهي الإلهية موعظة وتذكرة.
وقال تعالى [ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ).
الآية خطاب وأمر من عند الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول ويخبر المسلمين والمسلمات بالحلم والصفح عن الذين كفروا ، وهل هذا الإخبار من الأمر بالأمر ، الجواب نعم .
وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا اغفروا للذين لا يرجون أيام الله .
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ [أَيَّامِ اللَّهِ] مرتين في القرآن ، إذ وردت الثانية بخصوص موسى عليه السلام قال تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ] ( ) .
والمراد من أيام الله على وجوه :
الأول : نعم الله .
الثاني : آيات احتجاج موسى ، وخروج بني إسرائيل من مصر، وغرق فرعون وقومه ونزول المن والسلوى على بني إسرائيل في البيداء والتيه ، فكل نعمة هي من أيام الله عز وجل للمؤمنين ، وأيام الله على الكافرين .
وهل من أيام الله التي يذكر موسى عليه السلام قومه بني إسرائيل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بها.
الجواب نعم ، لتكون آية أيام الله أعلاه شبيهة ببشارة عيسى عليه السلام بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ).
إذ يدل الجمع بين آيتين [أَيَّامِ اللَّهِ] أن التذكير بالوقائع والأحداث في الزمن الماضي ، وما سيكون في المستقبل ، وجاءت صيغة الجمع لبيان مسائل:
الأولى : كثرة النعم من الله ، والشواهد على عظيم فضله وإحسانه .
الثانية : لزوم تكرار التذكير بآيات الله وعظيم فضله على المؤمنين .
الثالثة : المبادرة العامة إلى الشكر لله على النعم ، وأسباب النجاة من القوم الظالمين .
(وأخرج ابن مردويه من طريق عبدالله بن سلمة ، عن علي عليه السلام أو الزبير قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطبنا فيذكرنا بأيام الله حتى نعرف ذلك في وجهه ، كأنما يذكر قوماً يصبحهم الأمر غدوة أو عشية ، وكان إذا كان حديث عهد بجبريل عليه السلام ، لم يتبسم ضاحكاً حتى يرتفع عنه ) ( ) .
ومن معاني الجمع بين الآيتين تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أهلك الله عز جل أعداء موسى بالبحر فرعون وجيشه ، بينما تاب الكثير من قوم النبي ودخلوا الإسلام .
ولابد من مقاصد سامية للتذكير بأيام الله ، وهذه المقاصد عامة وخاصة، ففيها تثبيت للأقدام في منازل الهدى والإيمان ، وفيها بعث لمصابرة الكفار ، ودعوة للدفاع عن بيضة الإسلام ، وفي موسى عليه السلام ورد قوله تعالى [قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ]( ).
وأستدل على شرط التنافي بين الناسخ والمنسوخ بآية البحث ، وكيف أنها منسوخة بقوله تعالى [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ] ( ) ثم تحريضهم على القتال ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ).
ثم استئصال المشركين في آية السيف بقوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) .
ولكن ليس من تناف بين آية البحث وآيات الدفاع ، إنما يخرج بالتخصيص الذي يعتدون على المسلمين ، ويسعون لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويقومون بغزو المدينة أو يعدون العدة لهذا الغزو ، ومع هذا يبقى حكم المغفرة والعفو عنهم حال إنقطاع تعديهم وعدوانهم ، بل هو دعوة لهم للإنقطاع عن التعدي على الحرمات وعن غزوهم للنبي وأصحابه علناً أو مباغتة .
وهل الأمر الإلهي لموسى بالتذكير بأيام الله قبل دخول الأرض المقدسة أم بعده ، المختار هو الأول ، ليكون هذا التذكير عوناً ومدداً لهم في دخولها ، فمن إعجاز الأوامر الإلهية للأنبياء إعانة المؤمنين على الإمتثال ، وزجر الناس عن محاربة الأنبياء .
ويبين قوله تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ) فيصلاً بين المسلمين والكفار ، وهو رجاء المسلمين فضل الله وواسع رحمته ، وظهور دولة الهدى والإيمان ، أما الذين كفروا فيظنون قصر أيام الإسلام ، وعجز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن مواجهة دولة وقوة قريش ، وأن محاولاتهم لقتله قريبة منه ومتكررة ، وذات رؤساء الكفر من قريش ممن لا يرجون أيام الله ، ويبذلون الأموال ويسعون في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأمر الله عز وجل نبيه بتنمية ملكة العفو عند المسلمين حتى مع أعدائهم .
قانون لزوم الحيطة من المنافقين
من معاني قوله تعالى [وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ]( ) أمور :
الأول : لا تنصتوا للمنافقين ، ولا تحاكوا فعلهم في الصد عن سبيل الله، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا]( ).
الثاني : لا تتبعوا خطوات الذين كفروا في الإقامة على الجحود.
الثالث : لا تتبعوا النفس الأمارة بالسوء .
وهل قوله تعالى [وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً] ( ) من آيات السلم ، الجواب نعم .
ويحتمل [وَدَعْ أَذَاهُمْ] معنيين :
الأول : أعرض واصفح عن إيذائهم لك وللمؤمنين .
الثاني : أي اصبر على أذاهم ولا تعاقبهم .
وتدل السنة النبوية على المعنيين معاً .
وذكر أن هذه الآية نسختها آية السيف( ) ، وقيل نسختها آية القتال( ) .
وقال الكلبي (كف عن أذاهم وقتالهم وهذا قبل أن يؤمر بالقتال)( ).
ولكن الآية جمعت بين الكافرين والمنافقين ، ولم يقاتل أو يقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين مع تمكنه منهم ، وكانوا على نحو الأفراد مع كثرتهم ، مما يدل على أن الآية غير منسوخة .
لقد اختار الذين كفروا والمنافقون إتباع خطوات الشيطان وسعوا إلى الإضرار بالنبوة والتنزيل ، فنزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ) لبيان لزوم الجمع بين أمرين:
الأول : تعاهد السلم ونشر الأمن .
الثاني : عدم محاكاة الذين كفروا والمنافقين باتباعهم خطوات الشيطان .
وفي قوله تعالى [وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ]( ) قال مقاتل يريد بالكافرين من أهل مكة أبا سفيان ، وعكرمة( ) وأبا الأعور .
وبالمنافقين من أهل المدينة عبد الله بن أُبي ، وعبد الله بن سعد وطعمة بن أبيرق اجتمعوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا يا محمد: اذكر أن لآلهتنا شفاعة) ( ).
وكان عبد الله بن أبي رأس المنافقين يحضر صلاة الجماعة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويخرج معه في الكتائب .
وطعمة بن ابيرق بن عمرو الأنصاري (شهد المشاهد كلها إلا بدراً وساق من طريق خالد بن معدان عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أمشي قدامه فسأله رجل ما فضل من جامع أهله محتسباً قال: ” غفر الله لهما البتة ” استدركه يحيى بن مندة على جده وإسناده ضعيف قاله أبو موسى وقد تكلم في إيمان طعمة) ( ).
وقد ذكر القرآن حضور المنافقين الصلاة اليومية مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
ومع حضورهم الصلاة تحذر الآية من طاعتهم ، وهل تمنع من مشاورتهم ، الجواب لا ، لعمومات قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
وهل تدل الآية في مفهومها على قيام المنافقين بالصيام والزكاة ، والتقيد بأحكام الشريعة ، الجواب لا دليل عليه ، خاصة وأن الآية تنعتهم بأنهم يخادعون الله ، وجزاء الصيام من الله عز وجل وحده، فلا يعلم به إلا هو سبحانه لأن آنات النهار الإرتباطية متعددة وقد يخلو الإنسان مع نفسه ، فلا يعلم بصدق صيامه إلا الله ، وفيه مكرمة للصائمين لذا تفضل الله عز وجل وجعل باباً من أبواب الجنة خاصاً لدخول الصائمين و(عن سهل بن سعد . أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : للجنة ثمانية أبواب ، فيها باب يسمى الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة ، لا يدخل معهم أحد غيرهم يقال : أين الصائمون ، فيدخلون منه ، فإذا دخل آخرهم أغلق ، فلم يدخل منه أحد زاد ابن خزيمة ، ومن دخل منه شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً)( ).
ومعنى يتكلم في إيمانه أي ضعيف الإيمان ، ويدل الجمع بين كونه صحابياً حضر مشاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين ضعف إيمانه على أنه لم يدع لشفاعة الآلهة وليس مشركاً .
ويفسر القرآن بعضه بعضاً ، إذ نزلت الآية بحضّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الصبر ، ومنه تلقي الأذى من المشركين والمنافقين بالحلم والصبر والعفو ، وفيه تثبيت لسنن السلم في الأرض، وبقاء آياته ضياءً وهدىً.
قانون الحسن الذاتي للتوبة
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الفوز بالتوبة والمغفرة، فحببها إلى نفوسهم، وهداهم إلى سبلها، وجعلهم يتخذونها موضوعاً للمناجاة فيما بينهم، ويدخل طلب المغفرة والسعي في مسالك التوبة في مصاديق التقوى والخشية من الله، وعمومات قوله تعالى (اتقوا الله).
وقد نزل القرآن بالحث على التوبة النصوح التامة والخالية من الغش مع العزم على هجران الذنوب ، ومن خلط العمل الصالح بالسيئة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( )ومن مصاديق قوله تعالى في خلق الإنسان [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ] ( ) ميل النفوس إلى التوبة والتلذذ بها .
لقد أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالإحتجاج على الكفار والمنافقين بالقرآن باقامة الحجة عليهم ، وبيان ما فيه من المواعظ والزواجر وقصص الأمم السابقة ونزول العذاب بالذين كفروا ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
لبيان تعدد وجوه ومراتب الجهاد وميادينه ، وحال المسلم فيه وورد الخطاب في الآية الى النبي محمد ، ويلحق به المؤمنون في ملاقاة كفار قريش بالحجة والبرهان .
وهل في هذه الملاقاة صرف للملاقاة بالسيف .
الجواب نعم، فلا يعلم ما صرف من القتال بين المسلمين والمشركين بآيات القرآن إلا الله عز وجل.
ومن الإعجاز في السنة القولية والفعلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ندبه للتوبة ، وحثه المسلمين والناس للجوء إليها ، ومن الآيات أنه ينتقم ولا يبطش ولا يحاسب الذي يأتيه تائباً ، وإن كان آذاه وحاربه وقتل من المسلمين ، ليعلم الناس صدق نبوته ، وأنه يأخذ بأيدي الناس إلى بر الأمان والسلام ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو عتاة الكفار إلى الإسلام ، ويبعث رسائل إلى رؤسائهم يرغبّهم بالإيمان مع ذكر خصالهم بالحسن .
(عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي بن حرب قاتل حمزة يدعوه إلى الإِسلام ، فأرسل إليه : يا محمد كيف تدعوني وأنت تزعم أن من قتل ، أو أشرك ، أو زنى ، { يلقَ أثاماً } { يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً }( ) وأنا صنعت ذلك فهل تجد لي من رخصة؟
فأنزل الله { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً }( ) فقال وحشي : هذا شرط شديد { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً } فلعلي لا أقدر على هذا . فأنزل الله { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }( ) فقال وحشي : هذا أرى بعد مشيئة فلا يدري يغفر لي أم لا فهل غير هذا؟
فأنزل الله { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم . . . } الآية قال وحشي : هذا فهم . فأسلم ، فقال الناس : يا رسول الله : إنا أصبنا ما أصاب وحشي قال : بلى للمسلمين عامة .
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال : لما أسلم وحشي أنزل الله { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق }( ) قال وحشي وأصحابه : فنحن قد ارتكبنا هذا كله . فأنزل الله { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم . . . } الآية .
وأخرج محمد بن نصر في كتاب الصلاة عن وحشي قال : لما كان في أمر حمزة ما كان ألقى الله خوف محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قلبي خرجت هارباً أكمن النهار ، وأسير الليل ، حتى صرت إلى أقاويل حمير ، فنزلت فيهم ، فاقمت حتى أتاني رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوني إلى الإِسلام؟
قال : تؤمن بالله ، ورسوله ، وتترك الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله ، وشرب الخمر ، والزنا ، والفواحش كلها ، وتستحم من الجنابة ، وتصلي الخمس . قال : إن الله قد أنزل هذه الآية { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، فصافحني وكناني بأبي حرب) ( ).
وقد جاءت آيات كثيرة من القرآن في الندب إلى التوبة والمبادرة إليها وإظهار الندم على فعل المعصية ، والإقلاع عنها ، والعزم على الإمتناع المستديم والتنزه عنها .
ويمكن الإستدلال بجهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إرشاد الناس إلى التوبة على قانون [(لم يغز النبي (ص) أحداً) الإستدلال بالبرهان الإني أي التوصل من الأثر على المؤثر ، فمثلاً يدل ضوء النهار على وجود الشمس ، فلم يرضى المشركون ورؤساء قريش بدعوة النبي الناس إلى التوبة ، وتلاوة آيات التوبة والإستغفار في موسم الحج ، فارادوا قتله ثم جهزوا الجيوش لقتاله وحربه ، فهم الغزاة لأنهم حاربوا أبهى ما في الحياة وهي نعمة التوبة ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
آداب تحقيق القضاء
في النبوي : من أبتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في نظره وإشارته ومقعده ، ، ولا يرفعن صوته على أحدهما ما لا يرفع على الآخر .
عن محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه ، عن الحسن بن محبوب ، عن عمرو بن أبي المقدام ، عن أبيه عن سلمة بن كهيل قال : سمعت علياً عليه السلام يقول لشريح : أنظر إلى أهل المعك( ) والمطل( ) ودفع حقوق الناس من أهل المقدرة واليسار ، ممن يدلي بأموال الناس إلى الحكام ، فخذ للناس بحقوقهم منهم ، وبع فيها العقار والديار، وإرادة اسم الجنس من العقار بدليل لفظ الديار، وينظرالإمام إلى الأموال الثابتة وغير المنقولة .
فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : مطل المسلم الموسر ظلم للمسلم ، ومن لم يكن له عقار ولا دار ولا مال فلا سبيل عليه ، في إشارة إلى عدم سجن المعسر ، لعمومات قوله تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] ( ) ، وأعلم أنه لا يحمل الناس على الحق إلا من ورّعهم عن الباطل ، ثم واسي بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك، حتى يطمع قريبك من حيفك( ) .
ولا ييأس عدوك من عدلك ، وأثبت في القضاء .
وأعلم أن المسلمين عدول بعضهم على بعض إلا مجلود في حد لم يتب منه ، أو معروف بشهادة زور ، أو ظنين ، وإياك والتضجر والـتأذي في مجلس القضاء الذي أوجب الله فيه الأجر ، ويحسن فيه الذخر لمن قضي بالحق ، وأعلم أن الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالاً أو أحلّ حراماً ، وأجعل لمن أدعى شهوداً غيباً أحداً بينهما ، فان أحضرهم أخذت له حقه ، وإن لم يحضرهم أوجبت عليه القضية ، وأياك أن تنفذ قضية في قصاص أو حد من حدود الله أو حق من حقوق المسلمين ، حتى تعرض ذلك عليّ إن شاء الله ، ولا تقعد في مجلس قضاء حتى تطعم( ) .
وروى الصدوق في الفقيه باسناده عن الحسن بن محبوب نحوه ، إلا أنه ترك ذكر الصلح .
وقيل بضعف سند الرواية مع وجود إبن محبوب في طريقها ، وهو ثقة ، ويدل ذيلها على إرادة الإستحباب والإجتهاد في العدالة بصغريات مقدمات الحكم لأنها إنصاف ، وتنمية لملكة العدالة ونوع طريق للحكم بالحق ، وسلمة بن كهيل أبو يحيى الحضرمي من تابعي دخل على زيد بن أرقم وعبد الله بن عمر ثقة روى مائتين وخمسين حديثاً ، وقال أبو حاتم : ثقة متقن ، وقال أحمد بن حنبل : كان متقناً للحديث ، وقال يعقوب بن شيبة : ثقة ثبت على تشيعه .
قال الصفدي (سلمة بن كهيل، أبو يحيى الحضرمي، ثُمَّ التنعي بالتاء ثالثة الحروف والنون والعين المهملة، وتنعة بطن من حضرموت وقيل: بل قرية. من علماء الكوفة الأثباتِ عَلَى تشيُّعٍ كَانَ فِيهِ. حدّث عن أبيه وجندب بن عبد الله وأبي جحيفة وأبي الطفيل وأبي وائل وغيرهم. وروى عنه منصور والأعمش وشعبة والثوري وابنه يحيى بن سلمة وغيرهم. وتوفيّ سنة إحدى وعشرين ومائة، وروى لَهُ الجماعة.
وقال أبو حاتم: ثقة متقن.
والنسائي: ثقة ثبت.
ومات يوم عاشوراء قيل سنة اثنتين وعشرين.
قال: رأيت رأس الحسين عَلَى القنا وهو يقول: فسّيكفيكهم الله وهو السميع العليم.) ( ).
ومعنى الخبر أن الله عز وجل ينتقم من قتلة الحسين على كثرتهم، ويكفي المؤمنين شرورهم ، وتمام الآية هو [فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ).
وهو غير سلمة بن كُهيل مذموم بتري قاله ابن داود 1/241 .
البترية دعوا إلى ولاية علي عليه السلام وجمعوا بينها وبين ولاية أبي بكر وعمر ويثبتون لهما الإمامة ، ويبغضون عثمان وطلحة والزبير وعائشة ، ويقولون بالخروج مع بطون ولد علي بن أبي طالب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويقولون بالإمامة بشرطين :
الأول : ولد علي بن أبي طالب .
الثاني : الخروج .
ومنهم من قال أن سلمة بن كهيل هو واحد ، وليس من أصحاب الإمام علي عليه السلام وأخباره مرفوعة للإمام ، ولكن البرقي جعل سلمة بن كهيل في أصحاب علي عليه السلام وهو بعيد ، فقد ذكر أن سلمة ولد سنة أربعين للهجرة ، وهي ذات السنة التي استشهد بها الإمام علي عليه السلام .
(وعن سلمة قال: سمعت جندب ولم أسمع أحداً يقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا جندب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ” من سمع سمّع الله به ” وحدث الأعمش عن سلمة بن كهيل قال: رأيت رأس الحسين بن علي عليه السلام على القنا وهو يقول: ” فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ” وقال: إن كل راو لهذا الحديث قال لمن رواه له: الله إنك سمعته من فلان؟
قال: الله، إني سمعته منه، إلى الأعمش.
قال الأعمش: فقلت لسلمة بن كهيل: الله، إنك سمعته منه؟
قال: الله، إني سمعته منه بباب الفراديس بدمشق لا مُثّل لي ولا شُبّه لي وهو يقول: ” فسيكفيكم الله وهو السميع العليم ” .
ولد سلمة سنة أربعين. ومات سنة إحدى وعشرين ومئة يوم عاشوراء. وقيل: ولد سنة سبع وأربعين، قبل قتل الحسين بن علي بثلاث عشرة سنة) ( ).
(عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان قاض في بني إسرائيل وكان يقضي بالحق فيهم، فلما حضرته الوفاة قال لامرأته: إذا مت فاغسليني وكفنيني وغطي وجهي، وضعيني على سريري، فإنك لاترين سوءا إن شاء الله تعالى، فلما مات فعلت ما كان أمرها به ثم مكثت بعد ذلك حينا ثم إنها كشفت عن وجهه فإذا دودة تقرض من منخره، ففزعت من ذلك، فلما كان بالليل أتاها في منامها – يعني رأته في النوم – فقال لها: فزعت
مما رأيت ؟
قالت: أجل، قال: والله ما هو إلا في أخيك، وذلك أنه أتاني ومعه خصم له،فلما جلسا قلت: اللهم اجعل الحق له، فلما اختصما كان الحق له ففرحت فأصابني ما رأيت لموضع هواي مع موافقة الحق له.) ( ).
قراءة في علم الرجال
تحتمل النسبة بين علم الرجال وعلم الجرح والتعديل وفق علم المنطق وجوهاً :
الأول : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : علم الرجال أعم من علم الجرح والتعديل .
الثانية : علم الجرح والتعديل أعم من علم الرجال .
الثاني : التساوي وأن علم الرجال هو نفسه علم الجرح والتعديل .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الرابع : نسبة التباين والإختلاف وهو بعيد .
والمختار هو الثاني أي التساوي ، إذ أن موضوع هذا العلم هو ترجمة وسيرة وبيان خصال وأحوال رواة الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة والصحابة ، بما يجعل روايتهم مقبولة مع استقامتهم وعدالتهم وضبطهم وهو معنى التعديل ، أو ترد روايتهم مع القول بالجرح والقدح في سيرة أو ضبط بعض الرواة وما يخرج وثاقتهم ، ويأخذ الحديث بضعاف رجال سلسلة الحديث.
بحث كلامي في النبوة والسلم المجتمعي
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار الآيات والبراهين الدالة على الوحدانية، ورزق المسلمين الإتعاظ بها ليكونوا أسوة للناس، ومع هذا تجد الكفار يكرهونهم ولا يحبونهم، قال تعالى[هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ) بينما يتصف المسلمون بخصائص هي خير ونفع محض للناس ومنها:
الأول: المبادرة للتصديق بالمعجزات والدلائل الباهرة التي تؤكد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : تعاهد المسلمين الصلاة وذكر الله ، قال تعالى [وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي]( ).
الثالث : إتصاف المسلمين بالتقوى والخشية من الله، وإجتهادهم في عبادة الله وعمارة الأرض بذكره بسنن التقوى والإستغفار .
وما في هذه العمارة من أسباب لإستدامة الحياة، ودفع الآفات المهلكة عن الناس ، قال تعالى [وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ]( ).
الرابع : خروج المسلمين للناس ، والجواب من وجوه :
الأول : ليس من مقتض لكره الكفار للمسلمين، وفيه حجة أخرى على الكفار، وهو سبب لنزول العذاب بهم.
الثاني : المانع من حب الكفار للمسلمين إنما هو بسبب البرزخ الذاتي عند الكفار، وهو الإصرار على الكفر، والإقامة على المعاصي.
الثالث : تخلف الكفار عن التدبر في الآيات الكونية ومعجزات الأنبياء، قال تعالى[وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ).
الرابع : لهث الكفار وراء الدنيا وزينتها، وعدم إصغائهم للإنذارات وصوت العقل، إذ جعل الله عز وجل العقل رسولاً ذاتياً عند الإنسان يلح عليه بالإيمان، ويدعوه للتسليم بالعبودية لله عز وجل.
وهل العقل من عمومات قوله تعالى[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ]( )، الجواب أن العقل جزء من خلق الإنسان ، فهو آلة التمييز بين الأشياء، وموضع الفهم والإستجابة ، وهو لا يتعارض مع ما ورد (عن الإمام الباقر عليه السلام قال : لما خلق الله العقل أستنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى وإياك أعاقب، وإياك أثيب)( )،
بلحاظ دلالة الحديث على إستقلال العقل بصفة خاصة وشأن في عالم الإنشاء والخلق .
وأخرج ابن عساكر عن سليمان بن يسار قال : كتب عمر بن الخطاب إلى كعب الأحبار أن اختر لي المنازل .
فكتب إليه يا أمير المؤمنين إنه بلغنا أن الأشياء اجتمعت .
فقال السخاء : أريد اليمن .
فقال حسن الخلق : أنا معك .
وقال الجفاء : أريد الحجاز .
فقال الفقر : أنا معك .
قال البأس : أريد الشام .
فقال السيف : أنا معك .
وقال العلم : أريد العراق .
فقال العقل : أنا معك .
وقال الغنى : أريد مصر .
فقال الذل : أنا معك .
فاختر لنفسك يا أمير المؤمنين ، فلما ورد الكتاب على عمر قال: العراق إذن ، فالعراق إذن( ).
والعقل نعمة ، وحجة في أهلية الإنسان للخلافة وترتب الجزاء على فعله ثواباً أو عقاباً ويتصف بأمور :
الأول : إنه مدار التكليف.
الثاني : وظيفة العقل تلقي الخطاب بالأوامر والنواهي.
الثالث : التمييز بين الحق والباطل.
الرابع : العقل جوهر قائم بذاته، ومفارق في فعله، مجرد عن المادة ومحله الرأس.
وقيل أنه قوة في القلب تقتضي التمييز.
وهذا الوصف له كونه رشحة مباركة من نفخ الروح ومادة الحياة في الإنسان.
وقال بعض الفلاسفة أن العقل مادة وطبيعة.
ومن صدق إيمان المسلمين خلو قلوبهم من الغل، وفيه أمور:
الأول : إنه باب لفوز المؤمنين بالفلاح والبقاء ، ومن إعجاز القرآن أن أول آية نزلت منه هي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( ) وتعني القراءة التدبر والتفقه والتعلم والتدارس .
الثاني : إنه باعث للإنشغال بذكر الله، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الثالث : فيه دعوة للناس لجني الصالحات بحسن السمت وإجتناب الظلم ، فهو قبيح ذاتاً وأثراً وأشده قبحاً الشرك ، قال تعالى [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] ( ).
الرابع : إنه شاهد على بلوغ المسلمين مرتبة[خَيْرَ أُمَّةٍ] ( ).
الخامس : في باب الفقه العقل شرط التكليف .
ويحتمل حكم العقل خصوص حال السلم والحرب وجوهاً:
الأول : يدرك العقل بالحسن الذاتي للسلم .
الثاني : يطمع العقل بالحرب والقتال وتحقيق الغايات بواسطته .
الثالث : لا دخل للعقل في مسألة الحرب والسلم .
والصحيح هو الأول ، فمن فضل الله عز وجل على الناس أن جعل العقل داعية للسلم ، وبرزخاً دون الحرب الإقتتال .
والوحي مرتبة أسمى من العقل لأنها صلة الخلافة بين الله عز وجل والناس، وهل يحتاج الناس النبوة لجذبهم لعبادة الله أم تكون الكفاية بالآيات الكونية ، والفطرة ، الجواب هو الأول .
لذا بعث الله عز وجل الأنبياء لمنع الإقتتال والزجر عن الإرهاب ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يظهر الصبر على إيذاء الكفار له ، ولم يمل إلى الغل أو الغدر ، وهل امتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الغزو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) الجواب نعم .
مما يملي على المسلمين والمسلمات إتباع نهجه المبارك في تحقيق السلم المجتمعي في أرجاء الأرض .
قانون [يَسْأَلُونَكَ] سلم
لقد ورد لفظ (يسألونك) في القرآن خمس عشرة مرة ، كلها في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان مسألة وهي إنحصار السؤال وطلب العلم والفقاهة بالكتاب والسنة النبوية .
ووردت ستة منها في آيات متجاورة من سورة البقرة وهي :
الأولى : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
السادسة : [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( ).
فمن إعجاز القرآن ورود (يَسْأَلُونَكَ) سبع مرات في سورة البقرة تتعلق كلها بالأحكام الشرعية.
ويدل قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ) على أن المسلمين دخلوا الإسلام وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنطق بالشهادتين وإرادة التفقه في الدين والعمل بأحكام الشريعة ، وليس في البيعة قتال وغزو وهجوم إلا إحتمال الدفاع في الأشهر الحل من السنة .
لذا بينت الآية أعلاه بأن سنخية القتال في الشهر الحرام عند صدور ظلم وتعد من المشركين من وجوه :
الأول : الصدّ عن سبيل الله .
الثاني : الكفر بالله عز وجل ،والإشراك به سبحانه لقوله تعالى [وَكُفْرٌ بِهِ].
الثالث : الإساءة إلى حرمة البيت الحرام ، مما يدل على أن الله عز وجل لا يرضى بتعطيل البيت الحرام ونصب الأصنام فيه .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنشغال المسلمين والمسلمات بتلاوة القرآن والتدبر في المضامين القدسية للآية القرآنية ، وبسؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور الدين والدنيا .
ومع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتلقى غزوات المشركين نحو المدينة ، فانه يجيب الناس عن اسئلتهم ، وهذه الأجوبة شعبة من الوحي ، وكان يحذر من الفتنة ، ومن معجزاته أنه لا يحذر من الفتنة القريبة بل من الفتن التي تبعد الناس عن ذكر الله في آخر الزمان ، وتقرب النفخ في الصور ، وبخصوص حديث حذيفة ، قال اليشكري (أَقْبَلْنَا مَعَ أَبِي مُوسَى قَافِلِينَ وَغَلَتْ الدَّوَابُّ بِالْكُوفَةِ فَاسْتَأْذَنْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي أَبَا مُوسَى فَأَذِنَ لَنَا فَقَدِمْنَا الْكُوفَةَ بَاكِرًا مِنْ النَّهَارِ فَقُلْتُ لِصَاحِبِي إِنِّي دَاخِلٌ الْمَسْجِدَ فَإِذَا قَامَتْ السُّوقُ خَرَجْتُ إِلَيْكَ .
قَالَ فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا فِيهِ حَلْقَةٌ كَأَنَّمَا قُطِعَتْ رُءُوسُهُمْ يَسْتَمِعُونَ إِلَى حَدِيثِ رَجُلٍ قَالَ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَامَ إِلَى جَنْبِي قَالَ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالَ أَبَصْرِيٌّ أَنْتَ قَالَ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ قَدْ عَرَفْتُ لَوْ كُنْتَ كُوفِيًّا لَمْ تَسْأَلْ عَنْ هَذَا هَذَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ وَأَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ وَعَرَفْتُ أَنَّ الْخَيْرَ لَنْ يَسْبِقَنِي قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ قَالَ يَا حُذَيْفَةُ تَعَلَّمْ كِتَابَ اللَّهِ وَاتَّبِعْ مَا فِيهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبَعْدَ هَذَا الشَّرِّ خَيْرٌ قَالَ هُدْنَةٌ عَلَى دَخَنٍ وَجَمَاعَةٌ عَلَى أَقْذَاءٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْهُدْنَةُ عَلَى دَخَنٍ مَا هِيَ قَالَ لَا تَرْجِعُ قُلُوبُ أَقْوَامٍ عَلَى الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ قَالَ فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ صَمَّاءُ عَلَيْهَا دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ النَّارِ وَأَنْتَ أَنْ تَمُوتَ يَا حُذَيْفَةُ وَأَنْتَ عَاضٌّ عَلَى جِذْلٍ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَتَّبِعَ أَحَدًا مِنْهُمْ) ( ).
آيات قرآنية في الندب والحض على التوبة
الأولى : قوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( ).
الثانية : قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا* وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا]( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا]( ).
السادسة : قوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
السابعة : قوله تعالى [فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثامنة : قوله تعالى [أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
التاسعة : قوله تعالى [وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
العاشرة : قوله تعالى [وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الحادية عشرة : قوله تعالى [ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثانية عشرة : قوله تعالى [وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( ).
الثالثة عشرة : قوله تعالى [التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابعة عشرة : قوله تعالى [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( ).
الخامسة عشرة : قوله تعالى [وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ]( ).
السادسة عشرة : قوله تعالى [وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزيِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ]( ).
السابعة عشرة : قوله تعالى [ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثامنة عشرة : قوله تعالى [إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئًا]( ).
التاسعة عشرة : قوله تعالى [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
العشرون : قوله تعالى [إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا* وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا]( ).
الحادية والعشرون : قوله تعالى [فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ]( ).
الثانية والعشرون : قوله تعالى [غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ]( ).
الثالثة والعشرون : قوله تعالى [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ]( ).
الرابعة والعشرون : قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ]( ).
الخامسة والعشرون : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
السادسة والعشرون : قوله تعالى [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
عدة ملايين من العلوم في باب واحد من التفسير
الحمد لله الذي جعل كلمات القرآن تحيط باللامتناهي من الوقائع والأحداث , وعلومه تتجدد في كل زمان على نحو ذاتي وعرضي، وفيه شاهد حاضر على إعجازه، ومن الذاتي إستخراج الذخائر العلمية من كلمات القرآن وقراءة الصلة بين آياته وكأنها كنز يدعو العلماء والباحثين للغوص في خزائنها، ومنها علم (سياق الآيات) الذي أسسته في تفسيري (معالم الإيمان) ويتناول تفسيرنا صلة الآية محل البحث مع الآيات المجاورة لها مما تقدم عليها وما سبقها وفي بحثنا الخارج في التفسير على فضلاء الحوزة العلمية في النجف الأشرف ، طرحنا مشروع المعنى الأعم لعلم سياق الآيات وهو على قسمين:
الأول : يتم البحث في صلة الآية القرآنية أثناء تفسيرها بآيات القرآن كلها , فاذا كان التفسير يختص مثلاً بآية[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، يتم البحث بصلتها بكل آية من آيات القرآن ، آية بعد آية , فيكون مجموع أفراد هذا العلم هو:
6236 x 6235= 460, 881 ,38÷2=19,440,730
وتتجلى في كل علم من هذه العلوم إشراقات قرآنية تنير دروب السالكين، وتكون مناسبة للإرتقاء والتوفيق في أمور الدين والدنيا ودوام وحدة المسلمين، وتعاهد كلمات وآيات القرآن والمنع من تحريفه. ونقوم في الفقه باستحضار النصوص المتعلقة بالموضوع وان كانت في باب آخر، كما لو أستدل على مسألة في الصلاة ومقدماتها من باب المواريث , ونحن في علوم القرآن والإستدلال به بحاجة إلى الجمع بين الآيات تفسيراً وتأويلاًً.
الثاني: الصلة الموضوعية للآية القرآنية بآيات متعددة من القرآن يكون الجامع بينها موضوع أو حكم مخصوص، وهذا الباب ليس له حصر أو تعيين بل هو مناسبة للإستنباط وتأسيس للعلوم من القرآن ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
ويحتاج هذا المشروع العلمي إلى بذل الدول الإسلامية والعلماء الوسع في تحصيله مجتمعين ومتفرقين وأن تنشأ مؤسسات أبحاث وتخصص جامعي وتؤلف رسائل لهذا الغرض المبارك، وهو لا يتم في قرن أو قرنين من الزمان مثلاً، وهو قابل للتوسعة والزيادة العلمية، من جهات :
الأولى : التفصيل والبيان الإضافي في صلة الآية مع الآيات الأخرى خصوصاً وان الآية يكون صدرها في شئ, ووسطها في شئ , وخاتمتها في شئ وموضوع آخر أي تتعدد وجوه الصلة بين كل آيتين.
وتستنبط المسائل من الجمع بين كل آيتين من آيات القرآن سواء إتحد أو تعدد الموضوع من إعجاز القرآن ، واستدامة استخراج الدرر واللآلئ العلمية من آياته والجمع بينها وانتفاع المسلمين والناس جميعاً منه وهو من الشواهد المتجددة في كل زمان على نزول القرآن من عند الله .
ويتضمن الجمع بين آيات القرآن إفاضات وفرائد ولطائف ، وهو على وجوه :
الأول : الجمع التفسيري .
الثاني : الجمع الموضوعي : أي لآيات التي تخص موضوع معين مثل آيات الصيام وآيات العلم .
الثالث : الجمع الحكمي : التي تتعلق بحكم مخصوص .
الرابع : الجمع الترتيبي : بأن ترتب الآيات بمنهجية لتبين خلو آيات القرآن من التعارض .
الخامس : الجمع الإستنباطي ، لإرادة استنباط حكم شرعي من الجمع بين آيتين ، كما ورد (عن أبي حرب بن الأسود الديلي عن أبيه قال رفع إلى عمر امرأة ولدت لستة اشهر فأراد عمر أن يرجمها فجاءت أختها إلى علي بن ابي طالب فقالت إن عمر يرجم أختي فأنشدك الله إن كنت تعلم أن لها عذرا لما أخبرتني به فقال علي إن لها عذرا فكبرت تكبيرة سمعها عمر من عنده فانطلقت إلى عمر فقالت إن عليا زعم أن لأختي عذرا فأرسل عمر إلى علي ما عذرها قال إن الله عز و جل يقول والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين وقال وحمله وفصاله ثلاثون شهرا فالحمل ستة أشهر والفصل اربعة وعشرون شهرا قال فخلى عمر سبيلها قال ثم إنها ولدت بعد ذلك لستة أشهر)( ).
إما مشروع الجمع بين كل آيتين من القرآن الذي نقترحه فانه عام يشمل الجمع مثلاً بين آية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وبين كل آية من القرآن ثم الجمع بين آية الرحمة الرحيم وكل آية من آيات القرآن إلى آخر آية من القرآن وهي [مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ]( )، ثم الجمع بين آية [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( )، وكل آية من آيات القرآن واستقراء المسائل والعلوم منها ، فمن خصائص هذا الجمع تجلي علوم مستحدثة في كل جمع .
الثانية : ملاك وقواعد الجمع بين الآيات بخصوص سياق ونظم الآيات.
الثالثة : الصلة بين الآيات المحكمات والمتشابهات كل في بابه وموضوعه وما هو أعم , وإستقراء قواعد جديدة في باب المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول والتلاوة وغيرها، ونلفت النظر إلى سر من أسرار القرآن أنه كما نزل نجوماً مدة نبوة صاحب الكمالات الإنسانية صلى الله عليه وآله وسلم فان تفسيره وإظهار لآلئه ودرره يأتي نجوماً وعلى مراتب , ومنبسطاً ومتجدداً كماً وكيفاً أيام الحياة الدنيا إلى يوم القيامة وهو من مصاديق إتصاف القرآن بالبركة والفيض , وأهلية المسلمين بفضل من الله لمقامات وسنن التقوى والفلاح .
وذكر القاضي ابن العربي في كتاب (قانـون التأويل) ان علوم القرآن سبعة وسبعون الف واربعمائة وخمسون علماً، على عدد كلم القرآن، مضروبة في اربعة ) ويفسـر ضربه في أربعـة لما ورد بان لكـل كلمة في القرآن ظاهراُ وباطناً وحداً ومطلعاً، وجاء بياننا هذا للدلالة على اللامتناهي في علوم باب واحد من أبواب تفسير وتأويل القرآن ، وإضعاف مضاعفة للرقم أعلاه .
اللهم بارك لنا في مدرسة (سياق الآيات) ونسألك المدد والعون لإستظهار علوم القرآن والإنتفاع الأمثل منه.
بين عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها
الحمد لله الذي جعل شريعة الإسلام ذات أحكام متكاملة في باب النكاح والطلاق ، والصلات داخل الأسرة الواحدة ، وقوانين الميراث بما يمنع من الإختلاف والغبن ، كما أنذر القرآن من الإعراض عن هذه الأحكام والقوانين بحسن معاملة الزوجة ، وأن الزواج عقد مبارك وصلة حقوق وواجبات متبادلة ، قال تعالى [وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ) .
وتضمن القرآن وجوب البّر بالوالدين ، وقرنه بطاعة الله ، والرفق بالعيال وإعانتهم في سبل الهداية والصلاح ، منها قوله تعالى [وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا]( ) .
ولم يرد لفظ التراث في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وآيات الأخلاق الحميدة في القرآن شاهد على أن الإسلام دين الرحمة والمودة ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وجاء القرآن بذكر كل من عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والتي تسمى أرملة وعلى نحو الضبط والدقة وثابت لمنع التغيير والإجتهاد ، وهذه الدقة من الشواهد على سلامة القرآن من التحريف والزيادة والنقيصة إلى يوم القيامة.
ولو أجرينا احصائية أيهما أكثر المطلقات أم الأرامل في مدة زمنية محصورة كالسنة أو الخمس سنوات .
الجواب ليس من نسبة ثابتة حسب الزمان والبلد والضابطة التي تحكم الصلة بين الزوجين في استدامة عقد الزوجية أو إنخرامه وانقطاعه .
والظاهر أن الأكثر في هذا الزمان هو الطلاق ، وفي أيام الحروب والقتال والأوبئة تختلف النسبة واستدامة الحياة الزوجية هو الأكثر والأعم وكأن حالات الطلاق من المستثنى القليل فمن معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، نسأل الله عز وجل القلة والنقص في طرفي الطلاق والترمل، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
وتحتمل النسبة بين عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها وفق المقايسة بين الكليين في علم المنطق وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي بأن تتحد العدتان في جميع الأفراد .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو إجتماع العدتين في الخصائص ، وتنفرد إحداهما في أفراد منها وهو على شعبتين :
الأولى : عدة الوفاة أعم من عدة الطلاق .
الثانية : عدة الطلاق أعم من عدة الوفاة .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، أي تلتقي العدتان في بعض الأفراد ، وتنفرد كل واحدة منهما بخصائص وشروط خاصة بها .
الرابع : نسبة التباين بأن تختلف العدتان في جميع الخصائص .
والصحيح هو الوجه الثالث أعلاه ، فهناك مادة للإلتقاء والإجتماع بين العدتين ، وأخرى للإفتراق بينهما ، وأما مادة الإجتماع فمن وجوه :
الأول : كل واحدة منهما ورد ذكرها في القرآن على نحو متعدد.
ومن الآيات التي ذكر فيها الطلاق :
الأول : قال تعالى [وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
الثاني : قال تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ] ( ).
الثالث : قال تعالى[الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ] ( ).
الرابع : قال تعالى [فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ]( ).
الخامس : قال تعالى [فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ] ( ).
السادس : قال تعالى [وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ]( ).
السابع : قال تعالى [وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا] ( ).
الثامن : قال تعالى [عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا] ( ).
التاسع : قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ]( ).
العاشر : ورود قوله تعالى [وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ] ( ).
وأختلف في المتوفى عنها زوجها هل تنقضي عدتها بوضع الحمل وهو مشهور علماء الإسلام ، وتشملها أحكام الآية أعلاه من سورة الطلاق، وتكون هذه الآية مخصصة لقوله تعالى [وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا]( )، أم أنها تعتد بأبعد الأجلين ، وهو المختار ، وفيه نصوص عن أئمة أهل البيت عليهم السلام .
وذكرت عدة الوفاة في القرآن بآيات :
الأولى : قال تعالى [وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] ( ).
الثانية : قال تعالى [وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
الثاني : ورود أحكام كل من عدة الطلاق ، وعدة الوفاة في السنة النبوية الشريفة .
الثالث : المكث في البيت مدة العدة الرجعية ، والمتوفى عنها زوجها على اختلاف في المتوفى عنها زوجها .
الرابع : لا يجوز نكاح الحامل مدة الحمل سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها .
وعدة الحامل المتوفى عنها زوجها على قولين :
الأول : إنتهاء العدة بوضع الحمل لإطلاق قوله تعالى [وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ] ( ) فهي كالمطلقة بانتهاء العدة بوضع الحمل ، وادعى ابن قُدامة وابن المنذر الإجماع عليه ، واشترط بالحمل الذي يوضع بأن تبّين فيه خلقّ الإنسان وإن كان سقطاً .
وقيل عدة المتوفى عنها زوجها بوضع الحمل حتى لو وضعت بعد موت زوجها بلحظة وقبل غسله وتكفينه انقضت عدتها وحلت في الحال للأزواج ، ونسب هذا القول إلى الإمام مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد .
ووردت الرواية عن الإمام علي عليه السلام وابن عباس في كتب السير بأن عدتها أبعد الأجلين .
(وأخرج مالك وعبد الرزاق والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من طريق حميد بن نافع عن زينب بنت أبي سلمة . أنها أخبرته هذه الأحاديث الثلاثة .
قالت زينب : دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان بن حرب ، فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فأدهنت به جارية ، ثم مست به بطنها .
ثم قالت : والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً.
وقالت زينب : دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها عبد الله فمسحت منه ، ثم قالت : والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا .
وقالت زينب : سمعت أمي أم سلمة تقول : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن ابنتي توفي عنها زوجها ، وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ، مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول : لا ، ثم قال : إنما هي أربعة أشهر وعشر ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة عند رأس الحول قال حميد: فقلت لزينب : وما ترمي بالبعرة عند رأس الحول؟
فقالت زينب : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ولبست شَرَّ ثيابها ، ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر بها سنة ، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر فتقتض به ، فقلما تقتض بشيء إلا مات ، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ، ثم تراجع بعد ذلك ما شاءت من طيب أو غيره) ( ).
وأستدل على إنتهاء عدة الحامل المتوفى عنها زوجها بوضع حملها ولو بعد لحظة من وفاته بحديث (سبيعة الأسلمية أنها توفي زوجها ، فوضعت بعد وفاته بخمس وعشرين ليلة.
فتهيأت فقال لها أبو السنابل بن بعكك : قد أسرعت ، اعتدي آخر الأجلين أربعة أشهر وعشراً ، قالت : فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخبرته فقال : إن وجدت زوجاً صالحاً فتزوجي)( ).
أبو السنابل بن بعكك بن الحجاج بن الحارث بن السباق بن عبد الدار ، واسمه عمرو ، وقيل : حبة اسلم يوم فتح مكة ، وهو من المؤلفة قلوبهم ، وكان شاعراً وقيل : (سكن الكوفة) ( ) ، والمختار أنه مات بمكة.
وسأل عبد الله بن عتبة سبيعة بنت الحارث (عما أفتاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته أنها كانت عند سعد بن خولة ، فتوفي عنها في حجة الوداع وكان بدرياً ، فوضعت حملها قبل أن تمضي أربعة أشهر وعشر من وفاته ، فتلقاها أبو السنابل بن بعكك حين تعلت من نفاسها وقد اكتحلت وتزينت فقال : لعلك تريدين النكاح ، إنها أربعة أشهر وعشراً من وفاة زوجك .
قالت : فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له ، وذكرت له ، ما قال أبو السنابل ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اربعي بنفسك فقد حل أجلك إذا وضعت حملك) ( ).
وإذا كان الحداد على الزوج المتوفى أربعة أشهر وشهرا ، كيف تكتحل وتتزين وتريد النكاح أثناء المدة ، وكيف تنكح رجلاً آخر إذا ولدت بعد لحظة من وفاة الزوج ، إنما زيدت عدة الوفاة وصارت بالأشهر والأيام ، وهي شاملة للمدخول بها وغيرها ، وفرقت الأحاديث النبوية بين الحداد على الزوج مدة أربعة أشهر وعشراً ، وبين غيره إذ لا يزيد عن ثلاثة أيام ، والصغيرة والكبيرة ، والحرة والأمة ، للتغليظ وإكرام الميت إلى جانب المنع من اختلاط المياه .
الثاني : عدة المتوفى عنها زوجها الحامل أربعة أشهر وعشرة أيام ، فلا يجوز أن تنكح زوجاً إلا بعد انقضاء هذه المدة وإن وضعت حملها بعد أسبوع أو شهر أو شهرين .
أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
الأول : ورود اسم سورة باسم (سورة الطلاق) .
الثاني : كثرة الآيات التي وردت فيها مادة الطلاق ، والتفصيل في أحكام الطلاق لأنه أكثر ابتلاء من جهة الموضوع وتعدد الأطراف فيه ، وما يترتب عليه ، ولإمكان رجوع الزوج بالتي طلّقها .
الثالث : يقع الطلاق بالإختيار ، قال تعالى [وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا]( )، بينما تكون وفاة الزوج سبباً للفراق القهري بينه وبين زوجته.
والنكاح ملائم لفطرة الإنسان ، قال تعالى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا]( ).
والفطرة هي أصل الميول والغرائز التي يتصف بها الإنسان من غير أثر مستحدث للبيت والتربية .
ومن الإعجاز في خلق الإنسان وعمارته الأرض أن آدم لم يهبط إلى الأرض إلا وحواء معه ، وبعد أن شاركته اللبث الرغيد في الجنة ، والإفتتان باغواء ابليس بالأكل من الشجرة التي نهاهما الله عز وجل عنها .
وقوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) ورد بخصوص الصلح بين الزوجين ، وبذل الزوجة وتنازلها عن بعض حقوقها ، وكذا بالنسبة للزوج من أجل إستدامة الزوجية ، وما دام [الصُّلْحُ خَيْرٌ] فان كل عاقل لبيب يطلبه ، ويرضى به ، وقد رضي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو الإمام في سبل الخير ، كما في صلح الحديبية ، وقد جاء الجزء الرابع عشر بعد المائتين من تفسيرنا للقرآن بخصوصه .
الرابع : عدة المطلقة بخصوص المدخول بها ، أما عدة الوفاة فتشمل كلاً من الصغيرة والآيس ،والمدخول بها وغير المدخول بها ، والحرة والأمة على اختلاف في الأمة وهي المملوكة هل تكون عدتها شهرين وخمسة أيام وهو المختار( ) أم عدة كاملة أربعة أشهر وعشرة أيام .
وتكون العدة على غير الدخول بها لأن لها ميراثاً ، فلا يشترط في الميراث الدخول لعمومات قوله تعالى [وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ] ( ) .
الخامس : عدة المطلقة من حين وقوع الطلاق ، فاذا طلقها زوجها ولم تعلم إلى أن مضت ثلاثة قروء أي حيضات ثم جاءها خبر الطلاق ، فقد خرجت من العدة .
أما عدة الوفاة من حين بلغ المرأة خبر الوفاة ، فاذا مات الزوج ولم تعلم الزوجة إلا بعد مرور أربعة أشهر مثلاً فانها تبدأ بالعدة من حين بلوغ الخبر وهو المروي عن الإمام علي عليه السلام وبه قال قتادة والحسن البصري إذ أن العدة حق لله والزوج وهو ثابت لا يسقط إلا بالإمتثال والآداء .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : إذا طلق الرجل امرأته ثم مات عنها قبل أن تنقضي عدتها ورثته وعليها العدة أربعة أشهر وعشرة أيام، فان طلقها وهي حبلى ثم مات عنها ورثته واعتدت بأبعد الاجلين، إن وضعت ما في بطنها قبل أن تمضي أربعة أشهر وعشرة أيام لم تنقض عدتها حتى تنقضي أربعة أشهر وعشرة أيام فان مضى أربعة أشهر وعشرة أيام ولم تضع ما في بطنها لم تنقض عدتها حتى تضع ما في بطنها( ).
ومشهور علماء الإسلام وهو أن عدة الوفاة مثل عدة الطلاق تبدأ من حين وفاة الزوج ، وليس من أوان وصول نبأ الوفاة للزوجة.
فلو مات الزوج ولم تعلم الزوجة إلا بعد مرور أربعة أشهر وعشر فقد خرجت من العده .
السادس : الطلاق على أقسام ، منه الطلاق الرجعي والبائن ، وطلاق الخلع ، وطلاق المبارأة .
ومنه ما يحق للزوج الرجوع في العدة كما في الطلاق الرجعي ،وطلاق الخُلع إن رجعت الزوجة بالبذل مدة العدة .
ومنه ما يصح العقد من جديد بعد تمام العدة ، ومنه لا يصح إلا بعد أن تنكح زوجاً آخر ، ومنه ما يكون التحريم مؤبداً .
أما عدة الوفاة فهي بسيطة ليست مركبة .
السابع : يجب الإحداد على جميع الزوجات عند وفاة الزوج ، وان كانت صغيرة أو آيساً ، مسلمة كانت أو من أهل الكتاب .
وقال أبو حنيفة بعدم إحداد الكتابية على زوجها المسلم ، وكذا في رواية أشهب عن مالك مع تقيدها بالعدة .
من مادة الإفتراق في العدة .
عدة المطلقة ثلاثة قروء أي حيضات , قال تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( )، أما عدة المتوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشراً.
الثامن : وردت النصوص بكراهية الطلاق (عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أبغض الحلال إلى الله عز وجل ، الطلاق .
وأخرج البزار عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تطلق النساء إلا عن ريبة ، إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات) ( ).
والحديث الأول أعلاه مستفيض وشائع عند كل جيل من المسلمين ، وهو من الإعجاز في نفاذ سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المجتمعات وحضورها عند الخصومة والخلاف .
أما بالنسبة للوفاة فهي مصيبة تحل بالأسرة ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل القرآن غذاءً وزاداً في الدنيا والآخرة ، وبخصوص صيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم صيام الوصال ، وهو من مختصاته كان يقول (إنّى أبيت يطعمني ربّي ويسقيني. يدلّ عليه حديث السقاء في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام يقرأ {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}( ) فرمى بقربته، فأتاه آت في منامه بقدح من شراب الجنّة فسقاه.
قال أنس : فعاش بعد ذلك نيّفاً وعشرين سنة لم يأكل ولم يشرب على شهوته) ( ).
أي أن هذا السقّاء يأكل ويشرب ، ولكن من غير شهوة وطلب للزاد ، فقد كفاه الله عز وجل هذه المؤونة .
التاسع : الطلاق بيد الزوج ، أما الوفاة فهي أمر قهري قد يصيب الزوج أو الزوجة وهل أحكام الطلاق في الكتاب والسنة من الشواهد على قانون التضاد بين القرآن والإرهاب الجواب نعم ، لما تبعثه من مفاهيم الصلاح والعفة السكينة في النفوس وسيادة سنن العدل والإنصاف بين الناس .
لقد هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة إجتناباً للقتال ولتنزل عليه آيات القرآن وأحكام الزوجية ، ودم الحيض ، والميراث ، وبيان حرمة الزنا .