معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 217

المقــدمـــة
الحمد لله الذي جعل كل آية من القرآن حجة وبرهاناً , وخزينة تُقتبس المسائل وتُستنبط منها القوانين ، وكذا الجمع بين كل آيتين ، ويمكن تقسيم آيات القرآن تقسيماً استقرائياً على وجوه مباركة منها:
الأولى : سنن التوحيد .
الثانية : آيات الأحكام .
الثالثة : تجليات الغيب .
الرابعة : آيات المواعظ والقصص .
الخامسة : آيات العفو والصفح .
السادسة : آيات الدفاع وحاجة النبي (ص) وأصحابه إليه.
السابعة : آيات السلم والصلح والتنزه عن الإرهاب.
و قِيلَ يَا رَسُولَ الله ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، قَالَ : إِنِّى لَمْ أُبْعَثْ لَعَّاناً وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً.
ليدل وفق مفهوم الموافقة وقياس الأولوية على أن النبي محمداً (ص) لم يطلب القتال ولم يغز ، وهو الذي تدل عليه وقائع السنة النبوية، وتجلى في ثنايا وأجزاء هذا التفسير.
ويبين النهي عن الإعتداء في قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، قانوناً وهو ترتب العصمة من الإعتداء على المجاهد في سبيل الله والمنتصر مطلقاً ، إذ تصاحب الانتصار دائماً مندوحة للظلم والتعدي ، فزجر الله عز وجل المؤمنين عنه ، ليكون النصر خالصاً لوجه الله ، ودعوة للمهزوم للإيمان ، لا سيما وأن هذا النصر من عند الله عز وجل ، وستأتي شذرات من بيانه في قوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( )، وقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) .
إذ تبين الآية أعلاه من سورة التوبة أعلاه نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعصمته من القتل عندما عزمت قريش على اشتراك بيوتات مكة في قتله وضياع دمه بينهم واضطرار بني هاشم للقبول بالدية فكان من نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن أمره بالهجرة في ذات الليلة وأمن له الطريق لحين الوصول إلى المدينة مع أن قريشاً بعثت في طلبه ، وجعلت مائة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً .
أما الآية أعلاه من سورة آل عمران فتتضمن الإخبار بنصر الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر وهو نصر للمسلمين في كل زمان وإليهم يعود الضمير (كم) في نصركم وقد تقدم في تفسير الآية بأن المخاطبين في الآية (نصركم الله) هم جميع المسلمين.
ويسبب الإعتداء والعدوان الكدورة والأحقاد والرغبة في الإنتقام ، وتحّين الفرص للإجهاز على المنتصر المعتدي ، وكان انتصار النبي وأصحابه على المشركين برزخاً دون هذا الإنتقام لوجوه :
الأول : صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وادراك الناس ولو على نحو التدريج والتتابع بلزوم الإيمان ونبذ عبادة الأوثان .
الثاني : مجئ نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله، مما يدل على إمتناع النفوس عن الحقد والغيظ على هذا النصر ، لأنه من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : التسليم بأن المشركين هم الغزاة ، فلما قتُل سبعون منهم في معركة بدر ، ودخل اخوانهم وأولادهم الإسلام كانوا يعلمون أن المشركين يقاتلون على الباطل ، وأنهم أصروا على القتال ، وصار همّ الناس هو الإستعداد للآخرة .
وحينما أخبر الله الملائكة أن الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، رقوا ورأفوا به ومالوا إليه ، وبادروا إلى الدعاء له ، لعلمهم بأن الله عز وجل [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) فقد تضرعوا إلى الله بأن يتبع الناس الأنبياء ، ويعم الصلاح الأرض ، ويمتنع الناس عن الحروب وسفك الدماء .
وهل في جواب الله عز وجل للملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) نوع استجابة للملائكة في هذا السؤال والتضرع ، ولو على نحو الموجبة الجزئية ، المختار نعم .
وعلى فرض ما نختاره بأن قول الملائكة هذا دعاء ورحمة بالناس وليس احتجاجاً أو سوالاً إنكارياً فهل يشمله قول الله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) أم أن الآية أعلاه خاصة بالمؤمنين وعمار الأرض ، المختار هو الأول ، فلابد أن الله عز وجل يستجيب لدعاء الملائكة ، إذ أنهم منقطعون للعبادة ، قال تعالى [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ] ( ).
و(قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء -وهو بدمشق-فقال : ما أقدمك أيْ أخي.
قال : حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال أما قدمت لتجارة .
قال : لا. قال: أما قدمت لحاجة .
قال: لا .
قال: أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث .
قال: نعم.
قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “من سلك طريقا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإنه ليستغفر للعالم مَنْ في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء.
وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب. إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر) ( ).
وتبين آيات القرآن قانوناً من الإرادة التكوينية وهو من رحمة الله بالناس سبق خلق آدم بأمور :
الأول : إطلاع وعلم الملائكة بفضل الله بخلق جنس لعمارة الأرض ، وهل يحتمل أن الله عز وجل أخبر الملائكة بخلق جنس آخر لعمارة كواكب أخرى ، سواء على نحو الخليفة أو غيره .
المختار نعم ، ولكن مسألة الفساد والقتل غير موجودة في تلك الأجناس من الخلائق لذا أظهر الملائكة دهشتهم .
وربما تبين رحلات الفضاء هل هناك مخلوقات حية في بعض الكواكب الأخرى مع عجزها ، وهل يحتمل وجود عمار لبعض الكواكب يمنعون وصول مركبات فضائية لها سواء بشبكة صاروخية ودروع أو غيرها .
الأقرب لا ، وقد تبين الإكتشافات العلمية في الفضاء هذه الحقيقة ، وفيه بيان لبديع صنع الله ، وعظيم مخلوقاته ، ودعوة للناس للإيمان ، ونبذ العنف ، وهجران الإرهاب ، وسفك الدماء.
وليس من دليل على إمكان وصول هذه المركبات لجميع الكواكب ، والمختار أن الإنسان مع إرتقائه في علوم الفضاء يعجز عن الوصول إلى كل الكواكب ، وقال تعالى [يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ] ( ) ولم يرد لفظ [إِلاَّ بِسُلْطَانٍ] إلا في الآية أعلاه .
وورد تفسير ومعنى هذه الآية أنها للتعجيز والوعيد من الله عز وجل بأن الإنس والجن لا يستطيعون الهرب من قضاء الله ، ولا يستطيعون الخروج عن ملكوته .
ولا مانع من شموله للإكتشافات العلمية وسياحة الإنسان في الكواكب ، لبيان إعجاز القرآن ، وإخباره عن المغيبات والوقائع إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
والمختار أن المراد من [إِلاَّ بِسُلْطَانٍ] أي بالتقوى والإيمان والعمل الصالح ، ويفسر القرآن بعضه بعضاً ، قال تعالى [وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا] ( ).
(عن قتادة { لا تنفذون إلا بسلطان }( ) قال : إلا بملكة من الله .
وأخرج ابن أبي الدنيا في هواتف الجان عن واثلة بن الأسقع قال : كان سبب إسلام الحجاج بن علاط أنه خرج في ركب من قومه إلى مكة.
فلما جنّ عليه الليل استوحش فقام يحرس أصحابه ويقول : أعيذ نفسي وأعيذ أصحابي من كل جني بهذا النقب حتى أن أعود سالماً وركبي ، فسمع قائلاً يقول { يا معشر الجن والإِنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان } فلما قدم مكة أخبر بذلك قريشاً فقالوا له : إن هذا فيما يزعم محمد أنه أنزل عليه) ( ).
وقد جاءت آيات أخرى بهذا المعنى منها قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، وفي الجمع بين الآيتين أعلاه مسائل :
الأولى : قتال المسلمين في معركة بدر خالص لوجه الله .
الثانية : ترشح نصر المؤمنين عن قتالهم المشركين .
الثالثة : زجر المشركين عن تكرار التعدي .
الرابعة : مضامين آية (ببدر) إنذار للمشركين من غزو المدينة في معركة أحد ، والخندق ، وهل الآيات القرآنية التي تخص معركة أحد تخويف وإنذار للمشركين من غزو المدينة في معركة الخندق ، الجواب نعم ، كما سيأتي في قانون مستقل في الجزء التالي.
وقد صدرت مائتان وستة عشر جزءاً من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً والحمد لله .
وأقوم بتأليف ومراجعة وتصحيح أجزاء التفسير المتتالية ولحين صدورها بمفردي بلطف من الله عز وجل, وكذا بالنسبة لكتبي الفقهية والأصولية والكلامية.
الحمد لله الذي جعل خزائن القرآن لآلئ ودرراً غير متناهية لتتجلى شآبيب منه بهذا السِفر المبارك لأول مرة في تأريخ الإسلام بلطائف ملكوتية ومعارف نبوية تدل على أن آيات السلم أصول باهرة في كل زمان وقواعد منجزة لزمان العولمة وما بعده من سعة الآفاق بما يدل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حامل لواء السلام الأوفى ، واتخذ من السلم والصلح سلَّما ومعراجاً لبناء صرح الإيمان وتثبيت السلمِ المجتمعي الى يوم القيامة وباصوله الحكيمة وقواعده الباهرة ، وهذا الجزء من تفسيرنا ( معالم الإيمان في تفسير القرآن ) هو السابع عشر بعد المائتين , وخاص بقانون(آيات الدفاع سلام دائم).
ولابد من إحصاء آيات الدفاع ، وتشمل كلاً من :
الأولى : آيات القتال ، ومن الشواهد على أن النبي محمدا (لم يغز أحداً ) أن هذه الآيات مقيدة بأن تكون (في سبيل الله ) وأن تكون خاصة بمن يقاتل المسلمين ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
الثانية : آيات الدفاع منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا] ( ) ومنها قوله تعالى [وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا] ( ).
الثالثة : آيات الأمان العام والخاص منها قوله تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] ( ) فان قلت قد ورد قوله تعالى [قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ] ( ).
والجواب يستلزم ورود الضمير [هُمْ] في [قَاتِلُوهُمْ] الرجوع إلى الآية أو الآيات السابقة لمعرفة الجهة التي يشير إليها هذا الضمير ، وهي [وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
لقد جعل الله القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومنها الوقائع التي صاحبت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقتال الذي بينه وبين المشركين ليتجلى قانون وهو أن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان دفاعاً محضاً ، وأن آيات القرآن التي نزلت بخصوص هذا القتال والدفاع هي سلام ودعوة للسلم والأمن إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق العنوان الذي اختص به هذا الجزء وهل فيه اجتماع الضدين بلحاظ أن الدفاع قتال ، وهو ضد السلم والجواب ليس من تضاد، إذ أن المشركين هم الذين يزحفون بالجيوش العظيمة وعند التقاء الجمعين يصرون على القتال ، كما تجلى في معركة بدر ومعركة أحد ، والخندق ، وحنين ، ومن إعجاز القرآن نزول آيات بخصوص كل معركة منها .
وهل يختص موضوع هذه الآيات بخصوص ذات المعركة الجواب لا ، من وجوه :
الأول : من خصائص الآية القرآنية أنها قد تنزل في موضوع خاص ولكنها أعم من جهة الدلالة والغايات والمقاصد .
الثاني : المدار على عموم اللفظ وليس سبب أو موضوع النزول.
الثالث : كل آية قرآنية من آيات الدفاع مدرسة في إصلاح المجتمعات ، والتأديب العام .
الرابع : إقامة الحجة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأجيال المتعاقبة ، إذ تدل هذه الآيات على قانون وهو : لم يأت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف .
إنما شهر المشركون بوجهه السيوف ، وأرادوا قتله في فراشه ، فأمره الله عز وجل بالهجرة إلى المدينة في ذات الليلة التي اتفقوا على الإجهاز عليه لبيان أنه رسول الصبر والسلام.
الحمد لله الذي جعل كلامه مصاحباً للإنسان من بداية عمارته الأرض ، وهذه الصحبة من مصاديق قوله تعالى [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) إذ نزل الوحي على آدم والأنبياء من بعده ، وكان الوحي في أثره واستدامة وجوده على وجوه :
الأول : توارث المؤمنين الوحي ، ومنه مبادئ التوحيد وأصول الدين ، وهذا التوارث من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
الثاني : فوات من ضروب الوحي .
الثالث : طرو التحريف على الوحي .
ثم تفضل الله عز وجل وأنزل الصحف على شيث ثم على إبراهيم ، وأكرم الله موسى عليه السلام بأن أنزل عليه التوراة ، ثم أنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام ، ثم تفضل وأنزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] ( ) لينقطع التحريف في التنزيل إلى يوم القيامة ، وهو من فضل الله عز وجل ومصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ] ( ) فاذا أراد لكلامه أن يستديم في ملكه من غير تحريف فلا راد لأمره ومشيئته ، وهو من الشواهد على حب الله عز وجل للناس ، وعظيم لطفه بهم بتقريبهم إلى مقامات الإيمان ، وإقامة الحجة عليهم بحضور كلامه بين ظهرانيهم ، إذ يتضمن القرآن الأحكام من جهات :
الأولى : أحكام التوحيد .
الثانية : سنن الشريعة .
الثالثة : الفرائض العبادية .
الرابعة : معارك الإسلام الدفاعية ،وقيام المشركين بغزو المدينة على نحو متكرر .
الخامسة : قصص الأنبياء ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ).
لماذا آيات القتال ، الجواب كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مضطرين للدفاع بوجه المشركين من إخوانهم وآبائهم وعشائرهم ، فلذا جاء التأكيد على القتال والدفاع ومنه قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ).
رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق .
ربّ أشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي .
يارؤوف يا رحيم
يارؤوف يا رحيم
استغفر الله العظيم ذا الجلال والإكرام الذي لا إله إلا هو ، وأتوب إليه ، وأسأله العصمة من كل معصية وذنب ، وصلى الله على رسوله الكريم وعلى آله الطيبين الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
لقد جعل الله عز وجل الإيمان حياة في الدنيا والآخرة ، ليكون موضوع آيات الدفاع هو تعاهد الإيمان وتوارثه في الأرض .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يغادر الدنيا إلا وقد صار توارث الإيمان حقيقة وقانوناً ثابتاً ، وهو الذي يتجلى في كل زمان .
وتنطق كل آية من آيات الدفاع بقانون من وجوه :
الأول : إضطرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتال .
الثاني : الإذن من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالدفاع ، فلولا هذا الإذن لقتل كثير من المسلمين صبراً رغبة بالشهادة وتنزهاً عن سفك الدماء .
الثالث : آيات الدفاع رحمة للناس جميعاً فقد دافع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن أنفسهم والتنزيل لتنهل الأجيال المتعاقبة من مشكاة النبوة وإلى يوم القيامة .
الرابع : يتألف القرآن من (6236) آية أما آيات القتال فهي آيات معدودة لبيان أن القرآن كتاب المبادئ والأحكام الشرعية ولبيان أن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفاع وحاجة ومقدمة لتثبيت أحكام الشريعة إلى يوم القيامة .

حرر في 29 رجب 1442
14/3/2021

قانون تلاوة المسلمين كل يوم لآيات السلم شاهد على عدم نسخها
لقد نزل القرآن بكل من :
الأولى : آيات الأحكام .
الثانية : آيات الصبر .
الثالثة : آيات الدفاع .
الرابعة : آيات الأخلاق .
الخامسة : آيات الصلح .
السادسة : المهادنة والعفو .
وهي باقية إلى يوم القيامة من جهات:
الأولى : نص ومنطوق هذه الآيات .
الثانية : حكم آيات السلم هذه .
الثالثة : العمل بآيات السلم .
الرابعة : تفقه المسلمين في الدين ، وميلهم إلى السلم وتعاضد أهل الكتاب والناس معهم .
وفيه حجة وبيان للوجه المشرق لرسالة الأنبياء ، ومصداق من قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الخامسة : دلاية آيات السلم ، وهي على وجهين :
الأول : المعنى الثابت في كل زمان من جهة اللغة والمضمون .
الثاني : ما يلائم كل زمان بما يكون حجة على الناس في صدق نزول القرآن من عند الله ، وبراءته والنبوة من القتال والإرهاب ، وصيغ الإنتقام والبطش ، نعم قد دافع الأنبياء عن مبادئ التوحيد وعن أنفسهم .
ومن فضل الله وجود أمة وصحابة مخلصين لكل نبي ممن يقاتل دفاعاً ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
السادسة : تلاوة المسلمين لآيات السلم كل يوم في الصلاة شاهد على عدم نسخها ، للتدبر الطوعي والقهري في معانيها ودلالتها ، لبيان معجزة للقرآن وهي سواء قيل نسخت الآية أو لم تنسخ فان تلاوة المسلمين كل يوم للآية القرآنية شاهد عملي متجدد على ادراك الناس في كل جيل لمضامينها القدسية ، والعمل بها ، والتسليم بعدم نسخها ، ليبقى موضوع النسخ في ثنايا الكتب .
ولو دار الأمر بين ذكر كثير من النسخ في بطون الكتب , وبين العمل به فالصحيح هو الأول لعدم ثبوت أكثره وهو منقول عن أفراد من التابعين أو تابعي التابعين , مع قولنا والعلماء بنفي وعدم ثبوت كثير من افراده مع الإقرار بوجود النسخ في القرآن في الجملة ، فيقرأ المسلم في الصلاة قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) فيدرك الحسن الذاتي للسلم , وحرمة الإرهاب شرعاً إلى جانب زجر العقل عنه .
(وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله { ادخلوا في السلم } قال : يعني أهل الكتاب ، و { كافة } : جميعاً .
وأخرج ابي أبي حاتم عن ابن عباس قال : السلم الطاعة ، وكافة يقول : جميعاً .) ( ).
ولكن الآية إبتدأت بالخطاب التشريفي للذين آمنوا مما يدل على أن المراد المسلمون والمسلمات إلى يوم القيامة ، مع نهيهم عن إتباع خطوات الشيطان وإغوائه ، وأسباب بث روح العداء والفرقة والشقاق .
نعم وردت آيات كثيرة بخصوص معارك الدفاع من جهات :
الأولى : أسباب نزول الآيات .
الثانية : موضوع الآيات .
الثالثة : التوثيق السماوي للوقائع والأحداث .
الرابعة : بيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في سبيل الله .
الخامسة : العبرة والموعظة .
السادسة : إنذار المشركين من تكرار الهجوم وغزو المدينة وإدراكهم لقانون وهو سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل حتى يتم نزول آيات القرآن كلها .
و(عن ابن عباس، في قوله [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( )، قال: ذاك حين نَعَى لَه نفسه يقول: إذا [ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا]( )، يعني إسلام الناس، يقول : فذاك حين حضر أجلك [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ).
وعن أبي السائب وسعيد بن يحيى الأموي ، قالا ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُكثر أن يقول قبل أن يموت : سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك ، قالت : فقلت : يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك قد أحدثتها تقولها ، قال : قد جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] إلى آخر السورة)( ).
السابعة : تحذير المسلمين من شرور ومكر وغزوالذين كفروا ، فليس من تعارض بين إنذار الذين كفروا من تكرار غزو المدينة ، وبين بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال حيطة وحذر ، خاصة وأن المشركين لم يتعظوا من معركة بدر أو معركة أحد إذ جاء عشرة آلاف منهم في معركة الخندق .
وتبين آيات القرآن حقيقة ، وهي أن معارك الإسلام الأولى دفاعية محضة ، وأنها تأسيس لصروح السلام إلى يوم القيامة ، وهو الذي تجلى في واقع وحال الجزيرة والبلاد الإسلامية ، وقد صاحب تلك المعارك نزول آيات الأحكام والسنن ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه حجة على الذين يحاربون النبوة والتنزيل ، وهو من معاني تسمية القوم بالجاهلية .
وأيهما أشد عبادة الأصنام والتزلف إليها أم محاربة النبوة والتنزيل ، والمعجزات الحسية والعقلية التي تترى على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
المختار هو الثاني ، وإن كان فرع الأول .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو ازدياد وتنامي عدد المسلمين كل يوم وكل اسبوع ، ليصاب المشركون بالنقص ، وفي الجملة كلما يدخل شخص الإسلام وينطق بالشهادتين يقل وينقص عدد المشركين.
ولما بلغ هرقل شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيادة الإسلام في الجزيرة واتباع الناس (فأرسل إلى صاحب العرب الذي بالشام في ملكه يأمره أن يبعث اليه برجال من العرب يسألهم عنه فأرسل اليه ثلاثين رجلا منهم أبو سفيان ابن حرب فدخلوا عليه في كنيسة إيلياء التي في جوفها فقال هرقل ارسلت اليكم لتخبروني عن هذا الذي بمكة ما أمره قالوا ساحر كذاب وليس بنبي) ( ).
وكان هرقل على دين النصرانية ، ويتصف بالبصيرة والحكمة ، فلم يتعجل بالأمر .
وأراد البيان والتفصيل ، فقال اخبروني عن أعلمكم به وأقربكم منه .
وسأل هرقل عن الغدر لإداركه لقانون وهو التضاد بين النبوة والغدر .
وهل تضمنت اسئلة هرقل ما يدل على صفات نبي آخر زمان ، الجواب نعم .

فاشاروا إلى أبي سفيان وقال : هذا ابن عمه وقد قاتله .
فأجلس ابا سفيان وأجلسهم خلفه ليكونوا شهوداً ، وقيل (أمر بهم فاخرجوا عنه ثم أجلس أبا سفيان فاستخبره) ( ).
والأول أصح وأقرب خاصة وأنهم أظهروا العلم بحال ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وسأل هرقل أبا سفيان عدة أسئلة تتصف بالتحري والدقة ، ومنها : من يتبعه منكم هل يرجع إليكم منهم أحد ؟
قال: لا.
قال هرقل: هل يغدر إذا عاهد ؟
قال: لا إلا أن يغدر مدته هذه) ( ).
أي ما بعد صلح الحديبية ، لبيان حقيقة وهي أن قريشاً صاروا في حال ضعف ووهن ، ويخشون نقض النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلح وعجزهم عن الرد ، ومع هذا هم الذين نقضوه بقتالهم سراً إلى جانب بني بكر ضد خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن ابن عباس أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوهم وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقال أبو سفيان فقلت أنا أقربهم به نسبا .
فقال أدنوه مني وقربوا أصحابه فأجعلوهم عند ظهره ثم قال لترجمانه قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه فو الله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه .
ثم كان أول ما سألني عنه أن قال كيف نسبه فيكم قلت هو فينا ذو نسب) ( ).
ولما نفى أبو سفيان إرتداد الذين أسلموا أدرك هرقل صدق نبوته ، إذ أن مصاحبة الذين اسلموا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تكشف لهم مع تقادم الأيام هل هو نبي حقاً أم لا .
وبعد صلح الحديبية أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكتب والرسائل إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام ، فأرسل دِحية الكلبي إلى هرقل واستقبله واستمع له .
قريش وبيعة العقبة
لقد بايع الأنصار من الخزرج والأوس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيعة العقبة في موسم الحج ، وتعهدوا بنصرته إن وصل إليهم .
وهل علمت قريش ورؤساء الكفر منهم خاصة بهذه البيعة ، وما فيها من الوعد ، الجواب نعم ، ففزعوا وخافوا من إنتشار الإسلام وقوة شوكته ، فبادروا إلى الإجتماع في دار الندوة للتشاور والمكر، وحضر الإجتماع كل من الرؤساء :
الأول : عتبة بن ربيعة بن عبد شمس( ) .
الثاني : شيبة بن ربيعة بن عبد شمس .
الثالث : أبو جهل عمرو بن هشام .
الرابع : النضر بن الحارث .
الخامس : زمعة بن الأسود بن المطلب .
السادس : منبه بن الحجاج.
السابع : نبيه بن الحجاج .
الثامن : أمية بن خلف .
التاسع : أبو البختري العاصي بن هشام، وهو ابن عم زمعة بن الأسود .
العاشر : أبوسفيان ، صخر بن حرب .
وباستثناء أبي سفيان الذي لم يحضر معركة بدر لأنه كان صاحب القافلة التي صارت سبباً لهذه المعركة فان جميع الذين حضروا الإجتماع والتشاور أعلاه قتلوا في معركة بدر . وهل هو من مصاديق قوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ ..] ( ) الجواب نعم .
كما قتل فيها حنظلة بن أبي سفيان ، وقتل مع زمعة بن الأسود ابنه الحارث بن زمعة وأخوه عقيل بن الأسود ، كما قتل مع عتبة بن ربيعة ولده الوليد بن عتبة .
لقد طرح رؤساء قريش في اجتماعهم في دار الندوة عدة أراء ويجري الإعتراض عليها لأنها غير مجدية بسبب وجود طائفة من المسلمين في مكة واستعدادهم للذب عنه ونصرته ، إلى أن أشار عليهم أبو جهل بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخطة خبيثة محكمة إذ قال :
(لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره : إني أرى أن نأخذ واحداً من كل بطن من قريش غلاماً وسبطاً ثمّ يعطى كل رجل منهم سيفاً صارماً ثمّ يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمّه في القبائل كلّها،
ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلّها , وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدّي قريش ديته واسترحنا) ( ).
ولم يكن أبو جهل من مشيخة قريش ولكنه كان ذا رأي وقول مسموع عندهم ، فأخذوا بقوله هذا وتفرقوا عليه ، فأتى جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره بما عزموا عليه ، وما بيتوه من اشتراك بيوتات قريش في قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه .
ثم أمره جبرئيل بالهجرة من ليلته ، وهذا هذا الأمر من النصرة التي ذكرتها آية البحث [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ] ( ) وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام أن ينام في فراشه.
وهل قوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ…] من آيات الدفاع التي هي سلام دائم ، الجواب نعم ، فهي دفاع من الله عز وجل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن تسلّ السيوف وأبهى وأحسن دفاع هو دفاع الله عز وجل ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] ( ).
وأمره أن يؤدي الودائع التي كانت عنده إلى أهلها ، إذ كان الناس يطمئنون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صدقه وأمانته.
وحينما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان النفر الذين تم اختيارهم لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضربه بالسيوف ضربة رجل واحد على الباب ينتظرون شآبيب الفجر ليهجموا عليه ، فأخذ عند خروجه قبضة من تراب ونثرها على رؤوسهم ، وهو يقرأ [إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ] ( ) .
وكان هؤلاء النفر من المشركين يرصدون عليا وهو نائم في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويظنون أنه النبي محمد نفسه حتى إذا بدأت تباشير الصباح ثاروا عليه بحماس ، فنهض من فراشه مع إعلانه الإستغراب من مجيئهم ، وهذا النهوض ضرورة كيلا يقومون بقتله ، فقالوا له : أي صاحبك: قال لا أدري .
حصار بني هاشم إرهاب
لقد زاولت قريش أشد الأذى على النبي محمد صلى وأهل بيته وأصحابه ، أما النبي فقد أرادوا منه ترك إعلان نبوته والدعوة إلى الله وطعنوا في القرآن وفي شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم [وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ]( )، ليفضحهم الله بأنهم يسلمون بنزول القرآن على النبي محمد حسب الآية أعلاه ، ثم عادوا وقالوا [وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلاَ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا]( ).
وأما أهل البيت فلانهم تعاهدوا الذب عنه ، وكان الإمام في هذا الذب عمه أبو طالب .
فلاقوا أشد الأذى بالحصار الإقتصادي ، والإرهاب ، والتجويع لثلاث سنوات .
ولم ينحصر سعي أبي طالب بحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما آوى إليه عدداً من الصحابة ، ودافع عنهم ، فمثلاً استجار أبو سلمة بأبي طالب فمشى (إليه رجال من بني مخزوم فقالوا له : يا أبا طالب هذا منعت منا ابن أخيك محمدا فمالك ولصاحبنا تمنعه منا.
قال : إنه استجار بي و هو ابن أختي وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي .
فقام أبو لهب فقال : يا معشر قريش والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه والله لتنتهن أو لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد .
قالوا : بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة وكان لهم وليا وناصرا على رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فأبقوا إلى ذلك .
فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال أبو طالب يحرض أبا لهب على نصرته و نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
وَإِنّ امْرَأً أَبُو عُتَيْبَةَ عَمّهُ … لَفِي رَوْضَةٍ مَا إنْ يُسَامُ الْمَظَالِمَا
أَقُولُ لَهُ وَأَيْنَ مِنْهُ نَصِيحَتِي … أَبَا مُعْتِبٍ ثَبّتْ سَوَادَك قَائِمًا
وَلَا تَقْبَلَنّ الدّهْرَ مَا عِشْتَ حظّةً … تُسَبّ بِهَا إمّا هَبَطْت الْمَوَاسِمَا
وَوَلّ سَبِيلَ الْعَجْزِ غَيْرَك مِنْهُمْ … فَإِنّك لَمْ تُخْلَقْ عَلَى الْعَجْزِ لَازِمَا
وَحَارِبْ فَإِنّ الْحَرْبَ نُصْفٌ وَلَنْ تَرَى.. أَخَا الْحَرْبِ يُعْطَى الْخَسْفَ حَتّى يُسَالَمَا
وَكَيْفَ وَلَمْ يَجْنُوا عَلَيْك عَظِيمَةً … وَلَمْ يَخْذُلُوك غَانِمًا أَوْ مُغَارِمَا
جَزَى اللّهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا … وَتَيْمًا وَمَخْزُومًا عُقُوقًا وَمَأْثَمَا
بِتَفْرِيقِهِمْ مِنْ بَعْدِ وُدّ وَأُلْفَةٍ … جَمَاعَتَنَا كَيْمَا يَنَالُوا الْمَحَارِمَا
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللّهِ نُبْزَى مُحَمّدًا … وَلَمّا تَرَوْا يَوْمًا لَدَى الشّعْبِ قَائِمَا( ).
ويدل هذا الحصار على الضبط والنظام في مجتمعات قريش ، وأنهم ليسوا في عهد الجاهلية ، إنما تتعلق الجاهلية بالإصرار على عبادة الأوثان .
وهل فرضت قريش الحصار من رأس ، الجواب لا ، إنما ساروا عدة مرات إلى أبي طالب يطلبون منه أن يكف النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم عن شتم آبائهم ، وهو لم يشتمهم ، ولكنه ذم عبادة الأوثان ، وقد فارقوا الدنيا عليها ، كما أنهم طلبوا من أبي طالب أن يمتنع عن حماية ونصرة النبي محمد صلى فأبى .
ثم رأت قريش اجتماع بني هاشم وبني المطلب مؤمنهم وكافرهم على الذب عن النبي محمد صلى ومنع وصول قريش إليه ، ففرضت قريش حصاراً على بني هاشم ، وهذا الحصار ليس إجمالياً أو أنه قائم على الإعتزال وفي السكن والأرض وحده ، إنما كان شديدا , ومقيداً بشرائط أجمعت عليها قريش مما يدل على الضبط الإجتماعي والعمل المنظم آنذاك ، إذ اتفقوا على حصار بني هاشم من جهات :
الأولى : عدم مجالسة بني هاشم ، فمثلاً من عادة قريش الجلوس في البيت الحرام ، وتبادل الحديث فيه ، ويعني عدم مجالسة بني هاشم أنه اذا جاء واحد منهم لجماعة قريش طردوه أو تركوا المكان وغادروه .
الثانية : عدم دخول بيوت بني هاشم ، سواء على نحو الزيارة أو الضيافة ، مما يدل على تعطيل الصلات الإجتماعية معهم .
الجواب وهل يشمل هذا الحكم النساء أم أنه خاص بالرجال من قريش ، هو الأول ، خاصة وأن المسألة عقائدية ، وكانت نساء قريش تعمل في التجارة والمضاربة .
ويدل حصار بني هاشم على ملاقاة خديجة أم المؤمنين ونساء وصبيان بني هاشم الأذى الشديد ، ولو كانت النساء مستثناة من الحصار لجلبن الزاد لهم بالفطرة وصلة القربى ، وكان صبيان بني هاشم يتقاسمون التمرة الواحدة .
وَفِي الصّحِيحِ أَنّهُمْ جَهِدُوا حَتّى كَانُوا يَأْكُلُونَ الْخَبَطَ وَوَرَقَ السّمَرِ حَتّى إنّ أَحَدَهُمْ لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشّاةُ وَكَانَ فِيهِمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ . رُوِيَ أَنّهُ قَالَ لَقَدْ جُعْت ، حَتّى إنّي وَطِئْت ذَاتَ لَيْلَةٍ عَلَى شَيْءٍ رَطْبٍ فَوَضَعْته فِي فَمِي وَبَلَعْته ، وَمَا أَدْرِي مَا هُوَ إلَى الْآنَ( ).
الثالثة : الإمتناع عن مبايعة بني هاشم ، فلا أحد يشتري منهم ، وإذا أرادوا الشراء ليس من بائع لهم ، فلو جاء أحد بني هاشم من الشِعب وأراد شراء طعام يومه لعياله فان قريشاً تمتنع عن بيعه مع أنه يحمل ماله معه ، ولو أعطى ضعف السعر ، وقد يأتي صاحب جلب وطعام من خارج مكة لبيعه في مكة فيأتيه الهاشمي ويدفع له ثمناً فيرضى به ، فتبادر قريش باعطائه ضعف هذا الثمن أو نحوه ، فيمتنع عن بيع الهاشمي ، وعندما ينصرف لا يدفعون له حتى الثمن الذي دفعه الهاشمي .
الرابعة : عدم مناكحة بني هاشم فلا أحد يتزوج منهم ، وأن خطبوا لا يزوجون ، وهل كانت قريش تعلم بالأمراض الوراثية من زواج الأقارب الأقرب ، نعم ولو على نحو الإجمال .
الخامسة : عدم قبول صلح مع بني هاشم ، واشترطت قريش لوقف هذا الحصار تسليم بني هاشم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقريش ، ليقتلوه أو يسجنوه ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ) الجواب نعم , والحصار أشد من مضامين هذه الآية
وذهب الحسن البصري إلى معنى إرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( )، وقال قتادة (ذكر لنا أن قريشاً خلوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة إلى الصباح يكلمونه ويخيرونه ويسودونه ويقارنونه وكان في قولهم أن قالوا : إنك تأتي بشيء لايأتي به أحد من الناس وأنت سيدنا فإبن سيدنا فما زالوا يكلمونه حتّى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون ثمّ عصمه الله تعالى من ذلك وأنزل هذه الآية [وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً]( ).
وعن مجاهد : مدح آلهتهم وذكرها ففرحوا. ابن (جموح) : أتوه وقالوا له : أئت آلهتنا فأمسها فذلك قوله {شيئا قَلِيلا} ) ( ).
وشِعب بكسر الشين حي من أحياء مكة قريب من جبل الصفا ، وتقع مكتبة مكة العامة الآن فيه التي هي بيت مولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويكون بمحاذاة جبل أبي قبيس .
وأصل الشِعب هو ما انفرج من الأرض بين جبلين ، وكانت منازل قريش كل عشيرة في موضع مخصوص وابتدأ الحصار في السنة السابعة للبعثة النبوية واستمر نحو ثلاث سنين .
السادسة : تكون قريش يداً واحدة على محمد وأصحابه ، لبيان قانون وهو حصار بني هاشم فرع محاربة النبوة والتنزيل ، وأن قريشاً مستعدة لإبادة المؤمنين .
ولقد كان صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدة الحصار ، وتحمله الأذى في جنب الله من الشواهد على أنه لا يريد القتال ، ولا يحتاج إليه من جهات :
الأولى : كل آية قرآنية سلاح ودعوة للهدى والإيمان .
الثانية : توالي المعجزات الحسية على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل وبعد الهجرة ، ومنها قبل الهجرة آية انشقاق القمر ، قال تعالى [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ] ( ).
(عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا الجبل بينهما.) ( ).
الثالثة : موافقة دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للحق والصدق ، فكان يجتهد بالنداء بكلمة التوحيد .
قانون تكليم الله لآدم دعوة للناس للتآخي
لقد أكرم الله عز وجل آدم أبا البشر فخلقه وحواء في الجنة ، وهو إكرام للجنس البشري إلى يوم القيامة ، وشاهد على حسن الشأن والمنزلة التينالها الإنسان في عالم الخلق .
ولم ينقطع هذا الإكرام فهو متجدد في موضوعه بحسب الزمان والحال ، قال تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ).
وهل يمكن القول بقانون أن كل من يسكن الجنة يكلمه الله ، الجواب يستلزم الأمر وصيغة العموم الدليل .
وهل يمكن الإستدلال بحديث الله عز وجل لأهل الجنة على القانون أعلاه لوحدة الموضوع من السكن في الجنة ، أم لا يصح لعدم القول بالإستصحاب القهقري ، والتبيان النسبي في الموضوع ، فاقامة آدم وحواء في الجنة غير الإقامة الدائمة والخلد ثواباً وجزاء .
المختار هو الثاني .
(عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة . فيقولون : لبيك يا ربنا وسعديك والخير في يديك . فيقول : هل رضيتم؟
فيقولون : ربنا ، وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحداً من خلقك؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟
قالوا : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟!
قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) ( ).
وفي قوله تعالى في أهل الجنة [لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ] ( ) ورد عن ابن عباس قال : فان الله يسلم عليهم .
ومن معاني تكليم الله عز وجل لآدم وحواء في الجنة إرادة شكر الناس لله على هذه النعمة ، والإقرار بوحدة السنخية ، والأخوة الإنسانية ، ونبذ القتال والحروب والإرهاب ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] ( ).
ونزل القرآن بالإخبار عن تكليم الله لآدم وحواء واصلاحهما للنزول إلى الأرض بصيغ الإكرام ، والأصل توارث الأبناء والشعوب الألفة وصيغ الرفق ، ونبذ العنف والإرهاب ، وفي كتاب للإمام علي عليه السلام في عهده لمالك الأشتر عندما ولاه على مصر وأعمالها (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فإنك فوقهم ووالي الامر عليك فوقك والله فوق من ولاك وقد استكفاك أمرهم
وابتلاك بهم) ( ).
من قوانين الحياة الدنيا حاجة الناس للنبوة ، حتى حواء التي عاشت برهة من الزمن في الجنة ، واستمعت إلى الملائكة فانها حين هبطت إلى الأرض إحتاجت إلى الواسطة بين الله وبينها ، فكان النبي آدم عليه السلام يأتيه الوحي من الله عز وجل .
وما أن يولد لآدم ولد حتى يجد النبي حاضراً ، وكذا بالنسبة لأحفاد آدم الذين ولدوا في أيام حياته ، أو بلغوا سن البلوغ .

قانون أداء الأمانات سلم
الإسلام هو التسليم والإنقياد لأوامر الله عز وجل ، فهودين الأمانة ومنها حفظ قوانين الخلافة في الأرض باشاعة الأمن والسلم ، قال تعالى [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً]( )، ومن الأمانة الإمتناع عن التعدي ، والتنزه عن الظلم.
وهل في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]( )، شاهد على قانون (آيات الدفاع سلام دائم) المختار نعم، فموضوع ومضمون القانون في القرآن أعم من آيات السلم والدفاع ، وتبين آيات القرآن والسنة النبوية قانوناً وهو الحاجة للدفاع عن حفظ عهد وأمانة التوحيد في الأرض التي هي أم الأمانات ، ومنبع الأخلاق الحميدة ، ويدل عليه قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
ومن أداء الأمانات تأديب الأبناء على أداء الفرائض العبادية وسنن التقوى والهدى , التي هي أعظم تركة يخلفها الإنسان لمن بعده من الأبناء ، قال تعالى [أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ] ( ) .
لقد كان دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حفظاً للأمانة ومقدمة لهذا الحفظ في الأجيال اللاحقة ، لقد سقط نحو (234) شهيداً ( )في مدة البعثة النبوية لتثبيت أمانة التوحيد في الأرض ، ولتبقى مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) جلية وثابتة في الأرض إلى يوم القيامة .
والأمانة على أقسام أهمها أمانة حق الله على الذات ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] ( ) .
وهل تدل صيغة الجمع في الآية أعلاه على ندب الأمة للأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، الجواب نعم .
وهو من عمومات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ).
وإلى جانب الأمانة في عبادة الله هناك حقوق للبشر منها حقوق الوالدين , وحقوق الجيران ، وحقوق البيع والمعاملات .
وهل من حقوق للصلات الإنسانية ، الجواب نعم وهي برزخ دون الإرهاب ، ودعوة لنبذ سفك الدماء .
(عن عطاء بن أبي رباح ، والحسن بن أبي الحسن ، وطاوس ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل يوم الفتح البيت ، فصلى فيه ركعتين ثم خرج ، وقد لبط بالناس حول الكعبة ، فأخذ بعضادتي الباب ، فقال : الحمد لله الذي صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ماذا تقولون وماذا تظنون ؟
قالوا : نقول خيرا ونظن خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، وقد قدرت فأسجح قال : فإني أقول كما قال أخي يوسف : ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ) ، ألا إن كل ربا كان في الجاهلية أو دم أو مال فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة ، وسقاية الحاج ، فإني قد أمضيتهما لأهلهما على ما كانتا عليه .
ألا إن الله سبحانه وتعالى قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها ، كلكم لآدم ، وآدم من تراب ، وأكرمكم عند الله أتقاكم) ( ).
لقد كان قتال المشركين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أشد أنواع الإرهاب من جهات :
الأولى : إصرار المشركين على القتال .
الثانية : توالي هجوم وغزو المشركين للمدينة على نحو متكرر كما في معركة أحد والخندق .
وهل معركة حنين من غزو المشركين للمدينة ، الجواب إنها ملحقة بهذا الغزو ، فصحيح أن هجوم المشركين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عند خروجهم من مكة بعد الفتح في شوال من السنة الثامنة للهجرة إلا أنهم قصدوا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
مع أن الأصل أن تمتنع القبائل عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح مكة ، وهو الذي يدل عليه تسمية مكة أم القرى كما في قوله تعالى [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] ( ).
وبلحاظ قانون هذا الجزء من التفسير ، وهو (آيات الدفاع سلام دائم ) يتجلى قانون وهو الأنبياء أئمة الناس في حفظ وتعاهد الأمانة ، وقد قاتلوا دونها ، ومنه قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) .
ليكون من معاني قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) وجوه :
الأول : كتب عليكم القتال عند تعدي وغزو وهجوم المشركين على المدينة.
الثاني : كتب عليكم القتال لتحفظوا أمانة التوحيد ،وعهد الإيمان .
الثالث : فرض عليكم القتال لقيام المشركين بغزو المدينة على نحو متكرر.
الرابع : يدل الجمع بين فرض القتال على المسلمين وهم كارهون له ، لا يرضون به ، على أن المشركين هم الذين يبدأون القتال ، وأن الصحابة لا يفرطون بسنن الإيمان ، وإن قتلوا ، فلا غرابة أن يأتي الوعد الكريم والبشارة بالنصر , ومنه الحاجة للإستعداد للدفاع كما يدل عليه قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ).
وسيأتي كل من :
الأول : قانون الصلة بين البعثة النبوية وصلح الحديبية .
الثاني : الصلة بين هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصلح الحديبية .
الثالث : موضوعية معركة بدر في صلح الحديبية .
الرابع : أثر ومنافع دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة أحد في تحقيق صلح الحديبية .
الخامس : قانون معركة الخندق مقدمة لصلح الحديبية . ( )
تجلي صبغة الدفاع
لقد أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال ، قال تعالى [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً] ( ).
وتدل هذه الآية على أن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دفاعي من وجوه :
الأول : الأمر المنفرد والخطاب من الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقاتل .
الثاني : تقييد القتال بأنه في سبيل الله .
الثالث : التخفيف عن النبي وإخبار الله عز وجل له بأنه يتحمل تكليف نفسه وحده ، وليس المعنى أنه إذا لم يخرج الصحابة للقتال فان النبي لا يؤاخذ ، إنما المعنى على وجوه :
الأول : إن الله عز وجل ثبّت الإيمان في قلوب الصحابة بحيث أنهم يقاتلون دفاعاً بالنداء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وحال سماعهم هجوم وغزو المشركين .
الثاني : نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفضله ومدده ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) وورد في الآية أعلاه (عن أبي إسحاق قال : قلت للبراء : الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ .
قال : لا ، إن الله بعث رسوله وقال { فقاتل في سبيل الله لا تكلَّف إلا نفسك }( ) إنما ذلك في النفقة) ( ).
الثالث : ارادة البشارة الدائمة بأن الله عز وجل يظهر رسوله في كل الأحوال ، وفي سبب النزول قال الثعلبي لما التقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وأبو سفيان بن حرب يوم أُحد وكان من هربهم ما كان،
ورجع أبو سفيان إلى مكة فواعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد قال الناس : اخرجوا إلى العدو.
فكرهوا ذلك كراهة شديدة أو بعضهم) ( ) .
والجواب على هذا القول أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر الموعد ومعه ألف وخمسمائة من الصحابة ، وهو عدد كثير ، إذ كان الذين حضروا معركة أحد سبعمائة من الصحابة أي أقل من نصف هذا العدد ، وكانت معركة أحد على مشارف المدينة ، بينما تبعد بدر عن المدينة المنورة نحو (150) كم وكان بين معركة أحد وبدر الموعد أقل من سنة .
الرابع : بيان قانون من الإرادة التكوينية وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يتحمل عن أمته ، إنما هو رحمة وسبيل هدى .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة) ( ).
الخامس : من إعجاز القرآن تفسير بعضه لبعض ، وهو من الشواهد على عدم التعارض فيه ، ومن مصاديق هذه الآية قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ) فالخطابات التكليفية موجهة إلى الناس جميعاً فان الأنبياء هم الأئمة في التكليف ، ويتجلى بحرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أداء الصلوات الخمس في أوقاتها ، وصيامه شهر رمضان ، وصبره وجهاده في سبيل الله سبحانه .
السادس : في الآية لطف بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومواساة له على جحود رؤساء الشرك بنبوته مع تجلي البراهين التي تدل على صدق نبوته ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ) .
وقال تعالى [وَمَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ).
وفيه دعوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم للصبر ، وعدم الدعوة للنفير والهجوم والغزو .
الرابع : قوله تعالى [حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ] أي حثهم ليستفادوا من الحث دون الأمر وان المراد القتال دفاعاً ، وهو الذي تجلى في قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) فمن حضر منهم جعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الموضع المناسب ، وقال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ).
(أخرج ابن سعد عن خالد بن معدان . أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : بعثت إلى الناس كافة ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى قريش ، فإن لم يستجيبوا لي فإلى بني هاشم ، فإن لم يستجيبوا لي فإليّ وحدي) ( ).
والتحريض لغة الحث (التَّحْرِيض في اللغة أَن تحُثَّ الإِنسان حَثّاً يعلم معه أَنه حارِضٌ إِنْ تَخَلَّف عنه) ( ).
والتحريض الترغيب والتأليب ، والبعث على فعل الشئ من جهات :
الأولى : بيان الحسن الذاتي للفعل كما في الحض على إكرام الضيف .
الثانية : جلب المصلحة في ذات الفعل .
الثالثة : مناسبة الفعل لطاعة الله عز وجل كما في الحضّ على بر الوالدين .
الرابعة : إرادة الأجر والثواب .
وقد ورد لفظ [حَرِّضْ] في القرآن مرتين إحداهما في آية البحث والأخرى ، بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ).
فهل يختص تحريض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين بخصوص القتال ، الجواب لا ، إنما معنى الآية أعم موضوعاً وأفراداً وزماناً، إذ يشمل التحريض على طاعة الله واتيان الفرائض العبادية ، وفعل الصالحات وإجتناب الحرام ، كما أنه لا يختص بالصحابة ، إنما يشمل التابعين وتابعي التابعين ، والمؤمنين في كل زمان ، وهو من الإعجاز في مجئ لفظ المؤمنين .
ومن الآيات في المقام توثيق وحفظ المسلمين لسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتصف الآية أعلاه المؤمنين في قتالهم بأنهم صابرون بقوله تعالى [إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ] ( ) ليكون من معاني الحضّ في الآية الدعوة إلى الصبر ، والترغيب فيه , وفي مقدمات القتال .
ومعنى صابرين أي غير غازين أو مهاجمين ، إنما هم في حال دفاع ودفع للذين كفروا ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) ومن خصائص الأنبياء تحريض الناس على سنن التقوى .
الخامس : بيان الآية لقانون وهو ان كف بأس وبطش وغزو المشركين بمشيئة ولطف من عند الله ، وأن الله عز وجل يصرف شرورهم ، ويبتليهم بما يجعلهم ينشغلون بأنفسهم ، وفي التنزيل [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
وهل صلح الحديبية من مصاديق قوله تعالى [عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً]( ) الجواب نعم .
كما أمر الله عز وجل المؤمنين بالقتال دفاعا ، وهذا القتال مقيد بأن يكون في سبيل الله بقوله تعالى [فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا] ( ).

عدم ارتداد الأصحاب مصداق النبوة
من خصائص الأنبياء عدم إرتداد أصحابهم , لأنهم يرون المعجزات تترى على يدي النبي .
ويدل عليه بالأولوية القطعية قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) .
فهم لم يكتفوا بالثبات على الإيمان إنما قاتلوا إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون شواهد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام ، ومنها :
الأولى : هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة وهذه الهجرة معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأنها في بدايات الدعوة وقبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
لقد سبق هجرة طائفة من الصحابة إلى الحبشة تلقيهم الأذى شديد من قريش ، فلم يرتدوا ، ولم يتخلوا عن الإسلام ، إنما اختاروا الهجرة ، وفيه معجزة غيرية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومجموع من هاجر إلى الحبشة ثلاثة وثمانون رجلاً وتسع عشرة امرأة( ).
الثانية : قتال المهاجرين والأنصار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : تحلي الأنصار وعوائلهم بالصبر على الأذى وسقوط الشهداء منهم والثبات في مقامات الإيمان ، والحرص على الذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : حال الصلاح والتقوى التي صار عليها المسلمون .
الصحابة الذين هاجروا إلى المدينة قبل النبي (ص)
ستبقى هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة شاهداً على رسالة السلام التي جاء بها وأنه لا يريد القتال ، لقد بعث النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وفيها البيت الحرام والأصل توارث سنن التوحيد وعبادة الله فيها ، ولكن غلبت عبادة الأصنام فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إلى عبادة الله.
وبعبادة قريش للأوثان سقطت ولايتهم على البيت الحرام لقانون وهو الملازمة بين ولاية البيت والإيمان قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينقض على قريش ولم يقم باغتيال بعض رؤسائهم إنما توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الهجرة ، وكانت على وجوه :
الأول : هجرة طائفة من الصحابة إلى الحبشة مع بعد الشقة ومخاطر الطريق ، وركوب البحر ، وكانت العرب تخشى ركوبه ، ولكن الصحابة قدموا الإيمان وطاعة الله ورسوله إذ قال لهم رسول الله صلى (لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فَإِنّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ . وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمّا أَنْتُمْ فِيهِ فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ وَفِرَارًا إلَى اللّهِ بِدِينِهِمْ . فَكَانَتْ أَوّلَ هِجْرَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ) ( ).
الثاني : هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف ، ليدعو أهلها إلى الإسلام ويخبرهم عن نبوته ، ويتلو عليهم آيات من القرآن ولكنهم صدّوه وآذوه فرجع إلى مكة .
قال ابن اسحاق : فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاذى ما لم تكن نالته منه في حياة عمه أبى طالب.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى( ).
وهل كان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف إنذاراً لثقيف ألا تقاتله في حنين بعد أن تدور الأيام ويتم فتح مكة ، الجواب نعم ، بلحاظ قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج إلى الطائف إلا بالوحي .
الثالث : هجرة نفر من الصحابة إلى المدينة (يثرب) قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها .
الرابع : توالي الهجرة إلى المدينة من مكة وغيرها , وهو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قانون توالي الوقائع بعد الهجرة معجزة للنبي محمد (ص)
تتعدد معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتتصف هذه المعجزات بأنها حسية وعقلية ويعضد بعضها بعضاً بما يجذب الناس إلى منازل الهدى ، ومن فضل الله عز وجل مجئ هذه المعجزات على التوالي من وجوه :
الأول : المعجزات قبل الهجرة النبوية .
الثاني : المعجزات في طريق الهجرة .
الثالث : المعجزات بعد الهجرة .
لقد أراد المشركون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه ليلة الهجرة ، إذ اجتمعت قريش في دار الندوة وتباحثوا في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فقال أبو جهل: والله إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه.
قالوا: وما هو يا أبا الحكم .
قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً جلداً نسيباً وسيطاً فيكم، ثم يُعطى كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدون إليه فيضربونه ضربة رَجلٍ واحدٍ ، فيقتلونه، فنستريح، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دَمُهُ في القبائل كلها، فلم يقدر بنو عبد منافٍ على حرب قومهم جميعاً، ورضوا منا بالعَقْل فعقلناه لهم.
فقال الشيخ النجدي : القول ما قال هذا الرجل، هذا الرأي لا أرى لكم غيره.
فتفرق القوم على ذلك وهم مجتمعون له، فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لا تبِتْ هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه.
فلمَا كانت العَتْمة، اجتمعوا على بابه ثم ترصَدوه متى ينام فيثبون عليه: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكانهم، قال لعلي بن أبي طالب عليه السلام ، ” نمْ على فراشي وتَسج بِبُرْدي الحضرمي الأخضر فَنَمْ فيه، فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم ” ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينام في بُرده ذلك إذا نام) ( ).
لقد وضعت قريش الجعل وقيمة دية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمن يأت به ، وهو في طريق الهجرة ، وخرجوا حوالي مكة يفتشون عنه
لقد تم فتح مكة لتبقى فاتحة أبوابها لوفد الحاج والمعتمرين إلى يوم القيامة.
تفريق الكفار القهري بين أبي سلمة وزوجه وابنه
وعن ام سلمة زوجة أبي سلمة والتي صارت فيما بعد أم المؤمنين تحدث (لَمّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الْخُرُوجَ إلَى الْمَدِينَةِ رَحّلَ إلَيّ بَعِيرَهُ ثُمّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ وَحَمَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ فِي حِجْرِي ، ثُمّ خَرَجَ بِي يَقُودُ بِي بَعِيرَهُ فَلَمّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ قَامُوا إلَيْهِ فَقَالُوا هَذِهِ نَفْسُك غَلَبْتنَا عَلَيْهَا ، أَرَأَيْت صَاحِبَتَك هَذِهِ .
عَلَامَ نَتْرُكُك تَسِيرُ بِهَا فِي الْبِلَادِ .
قَالَتْ فَنَزَعُوا خِطَامَ الْبَعِيرِ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذُونِي مِنْهُ) ( ) .
وجاء بنو عبد الأسد وهم رهط زوجها أبي سلمة ، فطالبوا بالولد وهو مسلمة ، وقالوا إت أخذتموها فاعيدوا لنا ولدنا .
فصار التجاذب في سلّمة وهو صغير فخلعت يده ، وأخذه بنو عبد الأسد ، وأرجعوا أم سلمة إليهم ، أي أن موضوع الهجرة فرق بين أفراد الأسرة الواحدة إلى ثلاث جهات ، ولكن على نحو الإكراه ، وليس الإمتناع الإختياري ، وكان أمراً شاقاً على أم سلمة المرأة المسلمة حينئذ ، أن تتخلف في مكة وتفقد ابنها ، وتبتعد عن زوجها ، لذا (قَالَتْ فَفَرّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَبَيْنَ ابْنِي . قَالَتْ فَكُنْت أَخْرُجُ كُلّ غَدَاةٍ فَأَجْلِسُ بِالْأَبْطُحِ فَمَا أَزَالُ أَبْكِي ، حَتّى أَمْسَى سَنَةً أَوْ قَرِيبًا) ( ).
وذات يوم مرّ بام سلمة رجل من بني عمها من بني المغيرة فرآى ما بها ، وحال الضعف والكآبة التي لحقت بها ، فصار إلى أبناء عمه فكلمهم وقال لهم (أَلَا تُخْرِجُونَ هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ فَرّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا قَالَتْ فَقَالُوا لِي : الْحَقِي بِزَوْجِك إنْ شِئْت) ( ).
فتهيأت أم سلمة للهجرة إلى المدينة ، ودفع لها بنو عبد الأسد ولدها ، فركبت بعيراً وجئ لها بولدها ورضعته في حجرها ، وهل كان معها أحد ، الجواب ، إنما هاجرت بمفردها إذ (قَالَتْ وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللّهِ) ( ) .
ولما وصلت إلى التنعيم ويبعد عن البيت الحرام نحو 7 كم التقت بعثمان بن طلحة بن عبد الدار ، وهو من الكفار فقال لها (إلَى أَيْنَ يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيّةَ؟
قَالَتْ فَقُلْت : أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ).
قال معك أحد ؟
أجابت : لا والله إلا الله وابني هذا .
فقال ( وَاَللّهِ مَا لَك مِنْ مَتْرَكٍ فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْبَعِيرِ فَانْطَلَقَ مَعِي يَهْوِي بِي ، فَوَاَللّهِ مَا صَحِبْت رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ قَطّ ، أَرَى أَنّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ كَانَ إذَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَنَاخَ بِي ، ثُمّ اسْتَأْخَرَ عَنّي ، حَتّى إذَا نَزَلْت اسْتَأْخَرَ بِبَعِيرِي ، فَحَطّ عَنْهُ ثُمّ قَيّدَهُ فِي الشّجَرَةِ ، ثُمّ تَنَحّى وَقَالَ ارْكَبِي . فَإِذَا رَكِبْت وَاسْتَوَيْتُ عَلَى بَعِيرِي أَتَى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ فَقَادَهُ حَتّى يَنْزِلَ بِي . فَلَمْ يَزَلْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِي حَتّى أَقْدَمَنِي الْمَدِينَةَ ، فَلَمّا نَظَرَ إلَى قَرْيَةِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بقُباءٍ قَالَ زَوْجُك فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ) ( ).
قانون استشارة النبي (ص) لأصحابه
كانت استشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل معركة أحد مصداقاً لقوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ( ).
أنه دعا أصحابه من الأنصار والمهاجرين وأخبرهم بأن المشركين صاروا قريبين من المدينة وأطلوا على جبل أحد ، وصاروا يرمون بالسهام من يخرج من الأنصار لزراعته أو للسفر ، وتكون استشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه على وجوه :
الأول : أن يبدي الصحابة آراءهم ابتداءًَ من غير سؤال منه ، فان قلت قد جاءت الآية بابتداء الإستشارة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ( ) .
والجواب تشمل هذه الوجوه عمومات الآية أعلاه إلى جانب قوله تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]( ) والمراد أن المسلمين لا ينفرد بعضهم برأي عند الملمات ، ومن مصاديق الآية أعلاه مشاورة النقباء من الأنصار فيما بينهم للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة رأيهم.
الثالث : نزول آيات من القرآن فيها موضوع الإستشارة .
(وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ، وقال عليه السلام : المستشار مؤتمن) ( ).
فذكرت الآيتان :
الأمر الأول : قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ( ).
الأمرالثاني : قوله تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]( ).
والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام في العمل بأحكام الآية والإمتثال لأمر الله .
ومن إعجاز القرآن ورود الآية الأولى أعلاه بصيغة الجملة الأمرية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
بينما وردت الآية الثانية وهي من سورة الشورى بصيغة الجملة الخبرية .
وسورة الشورى مكية (وهي ثلاث وخمسون آية،
وثمانمائة وستّ وستّون كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفاً) ( ) ورقم تسلسلها في سور القرآن هو (42) وعدد آياتها (53).
ووردت تسميتها سورة (حم عسق ) في رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
إذ ورد عن (أبي أُمامة الباهلي عن أُبي بن كعب،
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ سورة {حم. عسق} كان ممن تصلي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له) ( ).
وهل من موضوعية بتسمية هذه السورة بسورة الشورى في تثبيت مفاهيم الشورى بين المسلمين ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز من وجوه :
الأول : قانون دلائل تسمية سور القرآن .
الثاني : أسرار ومعاني تعدد الاسم للسورة القرآنية الواحدة .
الثالث : قانون موضوعية أسماء السور في الحياة اليومية للمسلمين ، ومن الإعجاز في المقام تلاوة كل مسلم ومسلمة سورة أو آيات من سورة من القرآن خمس مرات في اليوم ليستحضر طوعاً وانطباقاً اسم السورة .
وقد ابتدأت الآية بقوله تعالى [حم * عسق *كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ) لبيان ضرب من الإعجاز وهو أن الشورى لا تخرج عن الوحي ، ولابد أن يتم اختيار ما يوافق الوحي ، مما يبعث الرضا في قلوب الصحابة ، ويمنع من الإختلاف بينهم .
وقد يقال ربما وقع اختلاف بين الشورى والوحي ، والجواب المدار على الوحي .
ومن خصائص الشورى تعدد الأراء وتلاقح الأفكار ، وتجلى أفراد من البديهيات منها :
الأوليات وهي أوضح وأظهر البديهيات ، إذ تسالمت عليها العقول ، وهي حاضرة في الوجود الذهني ، مثل التضاد بين اللون الأبيض والأسود .
فيكفي في الأوليات تصور طرفيها ليقطع بالحكم ، وأن كان مردداً بين أمرين ، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بأن جيوش المشركين أشرفت على المدينة علموا أنه القتال والدفاع .
ومن الأوليات التي تدركها العقول أنهم جاءوا غزاة للقتال دفاعاً عن الأوثان ، وحرباً على النبوة والتنزيل .
فتأتي مشورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإستقراء رأي الصحابة من الأنصار والمهاجرين ، وليكون القطع والجزم بضرورة الدفاع عن كل من:
الأول : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : آيات القرآن التي نزلت قبل معركة أحد .
الثالث : آيات القرآن التي ستنزل بعد معركة أحد .
وتحتمل النسبة بين السور والآيات التي نزلت قبل معركة أحد ، والتي تنزل بعدها وجوهاً :
الأول : التساوي في الأهمية .
الثاني : الآيات والسور التي نزلت قبل معركة أحد أهم وأكثر ، لقضاء حاجات المسلمين العبادية .
الثالث : الآيات والسور التي ستنزل بعد معركة أحد هي الأهم في حياة المسلمين العبادية .
وصحيح أن كل سورة وآية من القرآن هي الأهم والمسلمون في حاجة إليها حتى يوم القيامة ، ولكن هذه الحاجة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
والمختار أن السور والآيات التي نزلت بعد معركة أحد هي الأكثر أهمية في صلاح المسلمين ، وهداية الناس , وتثبيت معالم الإيمان وبيان أحكام الشريعة في الأرض إلى يوم القيامة .
وفيه مسائل :
الأولى : دعوة المسلمين للقتال والدفاع في معركة أحد .
الثانية : موضوعية نصر المسلمين في معركة أحد ، سواء نشبت في ذات الموقع أو أنهم زحفوا إلى المدينة (وذلك أن المشركين نزلوا بأُحد على ما ذكر محمد بن إسحاق والسدي عن رجالهما يوم الأربعاء،
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنزولهم استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها واستشاره،
فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار : يا رسول الله.
أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم .
فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلاّ أصاب منّا .
ولا دخلها علينا إلاّ أصبنا منه .
فكيف وأنت فينا؟
فدعهم يا رسول الله؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس .
وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من وفوقهم .
فإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا.
فأُعجب رسول الله بهذا الرأي.
وقال بعض أصحابه : يا رسول الله أُخرج بنا إلى هذه الأكلب لا يرون إنا جبنّا عنهم وضعفنا.
فأتى النعمان بن مالك الأنصاري فقال : يا رسول الله لا تحرمني الجنة فوالذي بعثك بالحق لأدخلنّ الجنة.
فقال : بما؟
فقال : بأني أشهد أن لا اله إلاّ الله .
وأني لا أفر من الزحف،
قال : صدقت. فقتل يومئذ .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قد رأيت في منامي بقراً فأَوَّلتها خيراً .
ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأَوَّلتها هزيمة ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأَوَّلتها المدينة؛ فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا المدينة علينا قاتلناهم فيها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة (فيقاتل) في الأزقة فقال رجال من المسلمين ممن كان ذا سهم يوم بدر.
وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد : اخرج بنا إلى أعدائنا. فلم يزالوا برسول الله من حبهم للقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فلبس لامته فلما رأوه لبس السلاح ندموا وقالوا : بئسما صنعنا نشير على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والوحي يأتيه؟
فقاموا واعتذروا إليه وقالوا : اصنع ما رأيت.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم (إنه ليس لنبي) أن يلبس (لامته) أن يضعها حتى يقاتل.
وكان قد أقام المشركون بأُحد يوم الأربعاء والخميس،
فراح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد يوم الجمعة بعدما صلّى بأصحابه الجمعة،
وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار فصلّى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم خرج إليهم فأصبح بالشعب من أُحد يوم السبت النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة،
وكان من أمر حرب أُحد ما كان،
فذلك قوله : {وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين} ،
قرأ يحيى بن ثاب : (تبوي) المؤمنين خفيفة غير مهموزة من (أبوى يبوي) مثل (أروى يروي). وقرأ الباقون : مهموزة مشددة يقال : بوأت تبوئة .
وأبويتهم إبواء .
إذا أوطنتهم .
وتبوّأوا إذا تواطنوا .
قال الله تعالى {أن تبوّأا لقومكما بمصر بيوتاً} .
وقال {والذين تبوّأوا الدار والإيمان من قبلهم} .
والتشديد أفصح وأشهر.
وتصديقه قوله تعالى : {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بنى إسرائيل مُبَوَّأَ صِدْقٍ} .
وقال {لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًَا} .
وقرأ ابن مسعود : تبْوِئ للمؤمنين.)( ) .
الثالثة : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ليتوالى نزول آيات وسور القرآن عليه ، فقد أبى الله عز وجل إلا أن يختصه بنزول القرآن.

قانون الشورى قبل القتال
من خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند مقدمات القتال اللجوء إلى الشورى والإستشارة ، قال تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ] ( ).
وهذه الآية ومصاديقها وصيغة الإطلاق فيها معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان وجوه :
الأول : قانون عدم التعارض بين الوحي والمشورة .
الثاني : قانون موضوعية المشورة في الوحي .
الثالث : قانون المشورة جزء وشعبة من الوحي بدليل الآية أعلاه
الرابع : قانون اللطف الإلهي بمجئ الوحي بالحكم الواقعي .
الخامس : قانون إكرام الصحابة والشهادة لهم بعد خروج مشورتهم عن الوحي والتنزيل .
السادس :قانون ختم الأوامر والنواهي بالوحي ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى أعلاه [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( ) ومن معاني المشاورة استظهار الأداء واستخراج الخبرة .
وفي الطريق إلى معركة بدر ، وعندما اقترب جيش قريش وكان عددهم نحو تسعمائة وخمسين ، استشار النبي أصحابه في سنخية الفعل اللازم ، وهو بكل الأحوال لا يخرج عن الوحي وضوابطه المباركة من جهات :
الأولى : ذات الإستشارة .
الثانية : الإنصات للمشورة .
الثالثة : الأخذ بالإستشارة الموافقة للوحي .
إذ توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه فقال ، اشيروا عليّ أيها المسلمون يومئذ( ) .
لقد جاء سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعامة الصحابة الذين معه خاصة وأنه آخى بين المهاجرين والأنصار قبل معركة أحد ، فما يهم الأنصاري يعتني به المهاجر ، وكذا العكس .
وفي الشورى أمور :
الأول : بيان للرأي .
الثاني : تفعيل للفكر .
الثالث : إظهار للخبرة والتجربة .
الرابع : توخي المصلحة .
الخامس : إقامة الحجة.
ولا تنحصر الشورى بأيام النبوة ، إنما تشمل أيام الحياة الدنيا بالمشورة بين الحاكم والعلماء وعامة الشعب ، وكذا في العلوم ومستحدثات المسائل الإبتلائية ، قال تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]( ).
ومن إعجاز القرآن ورود سورة كاملة باسم سورة الشورى ، ومن آياتها قوله تعالى [وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ] ( ).
ومن خصائص الشورى أنها دعوة للصلح ، وحرب على الإرهاب , ومنع من التعدي والظلم .
إذ أن الشورى تتقوم بأحكام الشريعة ، وعدم الخروج عن الكتاب والسنة.
لقد نال المهاجرون والأنصار منزلة لم ينلها غيرهم من الناس في المقام من جهات :
الأولى : اختصاص المهاجرين والأنصار بمشورة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم .
الثانية : قانون مشورة الرسول لهم بأمر من عند الله ، وليس اجتهاداً من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : المشورة في طول الوحي ، وهي فرع عنه ، ولا تتعارض معه لقوله تعالى [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ] ( ).
واختتام الآية بصيغة الجمع للدلالة على وجوب إتباع الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يوحى إليه بعد المشورة .
فمن يأتي بمشورة ثم يتعارض معها أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعليه أن يتبع أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو بهذا يكون من المتوكلين الذين تذكرهم الآية .
وهل يأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشورة أصحابه ، الجواب نعم ، لذا فان قوله تعالى [فَإِذَا عَزَمْتَ] أي بما أبداه الصحابة، ولا يؤخذ من المشورة إلا ما يوافق الوحي ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
والعزم والعزيمة : التوجه لإمضاء أمر ، وعقد القلب على ابرامه ، وفي آدم ورد قوله تعالى [وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا] ( ) أي تعاهد وتقيد لما أُمر به ، والعزم والإرادة والهمّة على المحافظة والمواظبة عليه .
وهل يدل قوله تعالى [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] على بيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله سبحانه .
الجواب نعم ، ومن مصاديق وتقدير الآية أعلاه فاذا عزمت بالوحي فتوكل على الله ، ومنه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
والعزم الجد والمثابرة والمبرز الخارجي للعمل ، ومنه الصبر بلحاظ أنه أمر وجودي ، قال تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ] ( ) .
وعن (بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ : فِى كُلِّ إِبِلٍ سَائِمَةٍ ، فِى كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ ، لاَ تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا ، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِراً بِهَا فَلَهُ أَجْرُهَا ، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ إِبِلِهِ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ اللَّهِ) ( ).
وجد بهز بن حكيم هو الصحابي معاوية بن حيدة القشيري .
وفي حديث عنه قال (أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت يا رسول الله ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عدد الأنامل وطبق بين كفيه إحداهما على الأخرى ألا آتيك ولا آتي دينك فقد أتيتك امرأ لا أعقل شيئا إلا ما علمني الله وإني أسالك بوجه الله العظيم بم بعثك ربنا إلينا .
قال : ” بدين الإسلام.
قال وما دين الإسلام .
قال : أن تقول أسلمت وجهي لله وتخليت ، وتقم الصلاة وتؤتي الزكاة وكل مسلم على كل مسلم محرم أخوان نصيران لا يقبل الله ممن أشرك بعدما أسلم عملا حتى يفارق المشركين مالي أمسك بحجزكم عن النار ألا وأن ربي داعي وإنه سائلي هل بلغت عبادي ” .
فأقول ربّ قد بلغت ألا فليبلغ شاهدكم غائبكم ألا ثم إنكم تدعون مفدمة أفواهكم بالقدام ثم إن أول شيء ينبىء عن أحدكم لفخذه وكفه.
قال قلت يا رسول الله هذا ديننا .
قال : هذا دينك وأينما تحسن يكفك) ( ).
والمراد أنها (حَقٌّ مِنْ حُقوقِ الله وواجبٌ مِنْ واجباته) ( ).
وقد ورد لفظ [عَزْمِ الْأُمُورِ] ثلاث مرات في القرآن في الآيات :
الأولى : قال تعالى لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.
الثانية : قال تعالى [يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( ).
الثالثة : قال تعالى [وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( ).
ترى ما هي النسبة والصلة بين [فَإِذَا عَزَمْتَ] وبين [عَزْمِ الْأُمُورِ] ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالعزم أعم ، ويراد منه الجد والقطع ، وإرادة الفعل وصدق الإرادة ، ولم يرد لفظ [عَزَمْتَ] إلا في الآية أعلاه من سورة آل عمران , وهو خلاف الرخصة .
ولم يرد لفظ (عزمتم) لبيان نكتة وهي مصاحبة العزم للوحي ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعزم فيعمل المسلمون بما عزم عليه ، ولم يعزم إلا بما فيه رحمة للناس جميعاً ، ونشر الأمن والسلم المجتمعي ، وتدل عليه ذات آية [فَإِذَا عَزَمْتَ] إذ ابتدأت بقوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] ( ).
ويحتمل موضوع هذه الرحمة وجوهاً :
الأول : إرادة الصحابة من المهاجرين والأنصار .
الثاني : المقصود المسلمون والنصارى واليهود .
الثالث : المقصود الناس جميعاً .
والصحيح هو الأخير ، لذا وردت الآية مطلقة من غير تقييد للرحمة ، نعم من مصاديق هذه الرحمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لان لأصحابه ولغيرهم .
ولو دار الأمر في ضمير الغائب (هم) بين إرادة الصحابة أم المعنى الأعم ، فالمختار هو الثاني وتقدير الآية على وجوه :
الأول : فبما رحمة من الله لنت للصحابة .
الثاني : فبما رحمة من الله لنت لأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وعقدت معهم المواثيق والأحلاف .
الثالث : فبما رحمة من الله لنت للذين كفروا تتركهم وحالهم ، ولم تغزهم ولم تهجم عليهم .
الرابع : فبما رحمة من الله صبرت على الأذى من الذين كفروا ، ومن رحمة الله عز وجل في المقام أن هذا الأذى محدود لقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) وتقدير الآية : فبما رحمة من الله لن يضروكم إلا أذى.
الخامس : فبما رحمة من الله تستقبل الذين يدخلون الإسلام بالقبول والرضا ، وإن كان محاربين لك .
ومعنى [لِنْتَ لَهُمْ] أي قابلتهم بالسهولة واللطف والإنصات لاسئلتهم ، والأخذ بمشورتهم .
و(لان ) الشيء لينا وليانا سهل وانقاد فهو لين ولين ويقال لان لقومه وفي التنزيل العزيز [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ]( )، ويقال رجل لين الجانب.
(ألان) الشيء وألينه جعله لينا ويقال ألان للقوم جناحه أخذهم بالملاطفة
( لاينه ) ملاينة وليانا لان له ولاطفه وداهنه) ( ).
وورد لفظ [عَزَمُوا] في القرآن مرة واحدة هي قوله تعالى [وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) كما ورد لفظ [تَعْزِمُوا] بخصوص النكاح بقوله تعالى [وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ] ( ).
مقدمات معركة حنين
حينما جاء وفد خزاعة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الثامنة للهجرة وأخبروه بنقض قريش لشروط الصلح أعلن النفير بين أصحابه ، وسار إلى مكة وقيل ظن هوازن وثقيف وجشم أنه يريدهم فاجتمعوا وحشدوا الجيوش ، ولا أصل لهذا الظن ، وتدفعه الوقائع وتوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نحو مكة وتحقق فتح مكة دون قتال يذكر .
وحينما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة وبقي فيها نحو خمسة عشر يوماً لم ترجع هوازن وثقيف إلى الطائف ، ولم تتفرق جيوشهم إنما أصروا على نصب الكمائن لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفي الموضع الذي يريدون حيث امتلكوا زمام المباغتة والخدعة والغدر .
ومن الإعجاز في السنة النبوية قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعرض نفسه على وفود القبائل من حين بعثته ، ولنحو اثنتي عشرة سنة قبل الهجرة إلى المدينة يدعوهم إلى الإسلام ، ويسألهم إيواءه وحمايته من كفار قريش .
وهل كان لنزول آيات القرآن موضوعية في حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإيواء الأنصار له وللمهاجرين ، الجواب نعم ، إذ تنفذ الآية إلى شغاف القلوب ، وتبعث على الصبر والإجتهاد في طاعة الله .
وبسبب إصرار هوازن وثقيف على القتال وقعت معركة حنين ، ونزلت الآيات التي توثق هذه الواقعة بما يؤكد القانون الذي اختص به هذا الجزء من التفسير وهو (آيات الدفاع سلام دائم ) .
وتذكر كتب التأريخ أسباب المعارك ، وربما دخلت فيها مقدماتها ، وليس من سبب لمعركة حنين إلا إقامة ثقيف وهوازن على الكفر ، وخشيتهم بعد فتح مكة من دخول الإسلام وفرضه عليهم بعد دخول رجالات قريش في الإسلام ، والمشهور عنهم محاربتهم للنبي ، وتكذيب نبوته واستهزائهم بالتنزيل ، مع الإقامة على عبادة الأوثان .
ومن مقدمات معركة حنين فتح مكة وخشية ثقيف وهوازن أن يغزوهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه لم يغز بلدة أبداً ، وحتى آيات وسور القرآن التي نزلت عند الفتح تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يخطط لغزو الطائف ، إذ قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا*فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ).
إذ تبين الآية أن الناس هم الذين يدخلون الإسلام طوعاً من غير غزو أو هجوم على بلدة مخصوصة ، وكان سبب معركة حنين الحسد والغيظ الذي ملأ قلوب الكفار ، قال ابن حزم : فلما بلغ فتح مكة هوازن، جمعهم مالك بن عوف النصري، واجتمع إليه ثقيف، وقومه بنو نصر بن معاوية، وبنو جشم، وبنو سعد بن بكر، ويسير من بني هلال بن عامر، ولم يشهد من قيس عيلان غير هؤلاء ، وغاب عن ذلك عقيل وبشر ابنا كعب بن ربيعة بن عامر، وبنو كلاب بن ربيعة بن عامر، وسائر إخوتهم، فلم يحضرها من كعب وكلاب أحد يذكر .
وساق بنو جشم مع أنفسهم شيخهم وكبيرهم وسيدهم فيما خلا: دريد بن الصمة، وهو شيخ كبير لا ينتفع به، لكن يتيمن بمحضره ورأيه، وهو في هودج لضعف جسمه. وكان في ثقيف سيدان لهم، في الأحلاف: قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب، وفي بني مالك: ذو الخمار سبيع بن الحارث بن مالك، وأخوه: أحمر بن الحارث .
والرياسة في الجميع إلى مالك النصري، فحشدهم، وساق مع الكفار أموالهم وماشيتهم ونساءهم وأولادهم، ليحموا بذلك في القتال، فنزلوا بأوطاس( ).
إن خشية ثقيف وهوازن من غزو النبي لهم لا يدل على أنه يريد غزوهم ، ولم يرد في السنة النبوية ما يدل على هذا فحينما خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة لم يقل أن وجتنا التالية هي غزو الطائف.
كما لم يرد مثل هذا الأمر في أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسنته الفعلية ، إنما وردته أخبار بأن ثقيفاً هم الذي يريدون الغزو والهجوم على جيش المسلمين في طريق العودة الى المدينة لأن جحافل جيوشهم قد خرجت من الطائف ، ولو تنزلنا وقلنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد غزوهم فبامكانهم التحصن داخل مدينة الطائف باسوارها ، وبعد خسارة ثقيف وهوازن معركة حنين ووقوع كثير من رجالهم بين قتيل وأسير لجأوا إليها.
(واستحر القتل في بني مالك من ثقيف. فقتل منهم خاصة يومئذ سبعون رجلاً، في جملتهم رئيساهم: ذو الخمار، وأخوه عثمان، ابنا عبد الله بن ربيعة بن الحارث، ولم يقتل من الحلاف إلا رجلان، لأن سيدهم قارب بن الأسود لما رأى أول الهزيمة أسند رايته إلى شجرة( ) وفر بقومه.
وهرب مالك بن عوف النصري مع جماعة منهم، فدخل الطائف مع ثقيف، وانحازت طوائف مع هوازن إلى أوطاس. وتوجه بنو غيرة من الأحلاف من ثقيف إلى نخلة، فاتبعت طائفة من خيل المسلمين من توجه نحو نخلة)( ).
وحاصرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدة بضع وعشرين ليلة وقيل أقل من عشرين ، واستشهد على أسوار الطائف عدد من الصحابة .
ثم انسحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى الجعرانة فجاءه وفد هوازن مسلمين ، فخيرهم (رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عيالهم وأبنائهم وبين أموالهم، فاختاروا عيالهم وأبناءهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكلموا المسلمين في ذلك، ففعلوا.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم.
وقال المهاجرون والأنصار: أما ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وامتنع الأقرع بن حابس وعيينه بن حصن عن أن يردا عليهم ما وقع لهما من الفئ، وساعدهما قومهما.
وامتنع العباس بن مرداس السلمي، فطمع أن يساعده قومه بنو سليم، فأبوا وقالوا: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فرد عليهم صلى الله عليه وآله وسلم نساءهم وأبناءهم، وعوض من لم تطب نفسه بترك نصيبه أعواضاً رضوا بها.
وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف إنسان، منهم الشيماء أخت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة، وهي بنت الحارث بن عبد العزى، من بني سعد بن بكر بن هوازن، فأكرمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأعطاها وأحسن إليها، ورجعت إلى بلادها مختارة لذلك)( ).
تأكيد النبي (ص) على مشورة الصحابة
لقد استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في القتال يوم بدر مع أنه صار فرضاً دفاعياً ، فقد يقال كيف يستشير أصحابه على أمر يصر العدو فيه على القتال.
والجواب سبقت المشورة التقاء الصفين ، فحالما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخروج جيش قريش ، ووصلت إليه الأخبار عن سوء نية قريش إلى جانب استصحاب مقاصدهم الخبيثة وارادتهم قتله وقتل أصحابه ، أطلع أصحابه عن خروج جيش المشركين من مكة ، وعزمهم على القتال.
(وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ فَاسْتَشَارَ النّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ عن قُرَيْشٍ) ( )، فأحسن الصحابة القول خاصة المهاجرين ، وأظهروا الإستعداد للدفاع .
وقال المقداد بن عمرو وهو من المهاجرين كلمته الخالدة (يا رسول الله امض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرا ودعا له) ( ).
وبعد أن استمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما أظهره عدد من الصحابة من النصرة أعاد القول (أشيروا عليّ أيها الناس)فادرك الأنصار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريدهم بالذات .
لما جاء في بيعة العقبة من تقييد نصرتهم له بخصوص إذا وصل إلى ديارهم ، إذ قالوا له فاذا وصلت إليها فانت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا( )، فخشي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون نصرتهم له محصورة في المدينة ، مع أن ظاهر الإتفاق هو استصحاب نصرته بعد دخوله المدينة ، وبعد دخوله المدينة ، وقيام المشركين بارادة قتله ، ولو خارجها .
وفي إعادة وتأكيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المشورة شاهد على حسن توكله على الله ، وأنه سبحانه ناصره ، وأن دفاع الصحابة عنه خير لهم في النشأتين ، وهو الذي تجلى حال نشوب معركة بدر ، إذ إنهزم المشركون بخزي وذل ، وأستولى الصحابة على أموالهم ، ووقع سبعون منهم أسرى بيد الصحابة ليجعل بدلاً لكثير منهم (4000) درهم فضة في الجملة ، وحتى القتال انبرى لأكثره أهل البيت عليهم السلام ، ليس عن عجز وتراجع من الأنصار.
ولكن مشركي قريش أصروا على أن يبرز لقتالهم رجال من قريش ، وفي رواية من بني هاشم على نحو الحصر والتعيين ، مع تطوع شباب من الأنصار للمبارزة وخروجهم وسط الميدان لملاقاة عتبة بن ربيعة ، وأخيه شيبة وابنه الوليد .
لقد كانت مشاورة الأنصار عنواناً لتأييدهم للدفاع ، وهل كانت قريش تخشى اشتراك الأنصار في القتال ، الجواب نعم ، لأنهم يدخلون المعركة بصفة قبيلتي الأوس والخزرج ، وما لهم من أحلاف مع القبائل العربية الأخرى .
إلى جانب حلفائهم من اليهود ، إذ كانت بنو قينقاع مع الخزرج ، وبنو قريظة والنضير مع الأوس .
وكان عدد الأنصار في معركة بدر أكثر من ثلاثة أضعاف المهاجرين ، الذين نحو ثمانين رجلاً ، بينما عدد الأنصار مائتان وثلاثون من الصحابة ، وإذ كانت قبيلة المهاجرين هم قريش الذين يقابلونهم في ميدان المعركة فان الآلاف من الأوس والخزرج في المدينة لا يرضون بقتل أصحابهم في معركة بدر ، ولن يسكتوا عن قريش أبداً ، وهو من أسباب نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد عميت قريش عن نتائج المعركة ، إذ أنها ضرر .
لقد أدرك الأنصار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد سماع رأيهم ومشورتهم على نحو الخصوص ، لمنع تردد الأنصار في القتال ، أو حصول فتنة عند سقوط عدد منهم قتلى ، سواء الفتنة في ميدان المعركة أو عند العودة والرجوع إلى المدينة واللقاء في ميدان المعركة ، أو عند العودة والرجوع إلى المدينة واللقاء برجال الأوس والخزرج وعوائلهم ، ولبيان قانون وهو عدم حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدخول المعركة ، إذ أن الله عز وجل هو الذي يظهر دينه.
ولما رآى الأنصار عزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإستماع لرأيهم في دخول المعركة ، إذ أصرت عليها قريش على القتال ، أجاب سعد بن معاذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتأييد والنصرة .
قال سعد بن معاذ (والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال أجل قال فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة .
فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقول سعد)( ).
ويدل قوله (أن تلقى بنا عدونا غدا) على وقوع الإستشارة قبل يوم بدر سواء بيوم أو أكثر من يوم ، وأن الصحابة استعدوا للقاء، وأدركوا أن قريشاً لا تريد إلا القتال .
عندئذ أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بما يخفف عنهم وطأة لقاء العدو بما أنعم الله عز وجل عليه بالوحي ، إذ قال (سيروا على بركة الله وأبشروا فان الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم)( ).
وهذه الكلمة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفق (السبر والتقسيم) إذ أن القافلة قد اجتازت نحو مكة وأخبر بأن القتال سيقع وأن النصر سيكون حليفه ، وأصحابه مع قلة عددهم وأسلحتهم ومن الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس عنده سيف يومئذ لأنه رجل سلام ، ولا يسعى للقتال ، ومن يريده بسوء رماه الله عز وجل بالخزي والهوان .
إذ يدل ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمصارع القوم على أن الطائفة التي تكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هم جيش قريش ، وهل فيه إنذار لهم أم أنهم لا يعلمون بما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم به أصحابه .
المختار هو الأول ، فقد كانت الرسل تترى بين القوم ، وكان الركبان ينقلون أخبار كل فريق إلى الآخر ، ووصول الإنذار إلى جيش المشركين من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) للإطلاق في الآية أعلاه .
وهل زاد كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا وما فيه من بشارات الوحي من عزيمة الصحابة على ملاقاة المشركين ، الجواب نعم ، ومما يدل عليه ما قاله عمير بن وهب الجمحي ، وكان صاحب قداح( )، أي له شأن عند قريش ، والأصل أن يبقى في مكة ، ولا يأتي مع الجيش ، ولكنه جاء معهم وسعى بخبث لإيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وقال ابن عبد البر (عمير بن وهب بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، يكنى أبا أمية، كان له قدر وشرف في قريش وشهد بدراً كافراً)( ).
وكان ابنه وهب بن عمير معه في الجيش فوقع في الأسر فجاء أبوه عمير إلى المدينة وهو يريد اغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتحريض وترغيب من صفوان بن أمية الذي قتل أبوه ، وأخوه علي بن أمية في معركة بدر، وحينما دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة قال عمر بن الخطاب (هذا عمير بن وهب شيطان من شياطين قريش، ما جاء إلا ليفتك بك.
فقال : أرسله يا عمر ، فأرسله)( ).
ولكنه رآى من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع جعله يدخل الإسلام ، ويرجع إلى مكة مسلماً يجاهر باسلامه ويستعد لتحمل الأذى بسببه.
لتمر الأيام ويبعثه عمر مدداً في فتح مصر إذ بعث أربعة وهم :
الأول : الزبير بن العوام .
الثاني : عمير بن وهب الجمحي .
الثالث : خارجة بن حذافة .
الرابع : بسر بن أرطاة.
وقيل: المقداد موضع بسر ( ).
لقد طلبت قريش من عمير بن وهب أن يحصي عدد الصحابة الذين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبادر إلى الطواف حول الجيش وذهب بعيداً في الوادي لينظر في أمرين :
الأول : وجود كمين للمسلمين يمكن أن يلتف من الخلف على جيش المشركين .
الثاني : احتمال وجود مدد يأتي للمسلمين عند بدء القتال .
واطمئن بعدم وجود كمين أو مدد للمسلمين ولم يعلم أن المدد يأتيهم من السماء ، ولا يستطيع أهل الأرض حجبه كما أنه لا يُرى بالعين المجردة إلا أن يشاء الله ، نعم تظهر معالم وآثار المدد الملكوتي في ميدان المعركة ، وبخصوص معركة بدر قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، وهل سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الله عز وجل نزول الملائكة لنصرتهم ، أم أنهم لجأوا إلى الله عز وجل ، وفوضوا الأمر إلى الله ، يتجلى الجواب بمضامين دعاء رسول صلى الله عليه وآله وسلم في عشية وصبيحة يوم بدر ، ومنها :
الأول : اللهم أن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد( )، وفي رواية : لا تعبد بعدها في الأرض .
الثاني : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم نصرك ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط الرداء عن منكبيه ( )، ولم ينقطع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الدعاء يوم بدر حتى إنهزم المشركون.
الثالث : دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل سفر (عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمْ يُرِدْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَفَرًا قَطّ إلّا قَالَ حِينَ يَنْهَضُ مِنْ جُلُوسِهِ اللّهُمّ بِكَ انْتَشَرْتُ وَإِلَيْكَ تَوَجّهْتُ ، وَبِكَ اعْتَصَمْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكّلْتُ اللّهُمّ أَنْتَ ثِقَتِي ، وَأَنْتَ رَجَائِي ، اللّهُمّ اكْفِنِي مَا أَهَمّنِي وَمَا لَا أَهْتَمّ لَهُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنّي ، عَزّ جَارُكَ وَجَلّ ثَنَاؤُكَ وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ اللّهُمّ زَوّدْنِي التّقْوَى ، وَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي ، وَوَجّهْنِي لِلْخَيْرِ أَيْنَمَا تَوَجّهْتُ ثُمّ يَخْرَجُ)( ).
وفي معركة أحد عندما تفرق عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر أصحابه توجه الى الله بالدعاء فقال (اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان ” فنزل جبرئيل عليه السلام وقال: يا محمد لقد دعوت بدعاء إبراهيم حين القي في النار، ودعا به يونس حين صار في بطن الحوت)( ).
لبيان قانون وهو استجابة الله عز وجل أعظم وأكبر من موضوع الدعاء والمسألة ، ليكون تقدير قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، ادعوني استجب لكم بأكبر وأكثر وأعظم مما تسألون.
وحينما قدم عدي بن حاتم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واسلم سنة سبع للهجرة وقيل العاشرة أكرمه ودعاه لدخول الإسلام وبيّن له أسباب تردده في دخوله ، إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم :
(إِنِّي أَعْلَمُ مَا الَّذِي يَمْنَعُكَ مِنْ الْإِسْلَامِ تَقُولُ إِنَّمَا اتَّبَعَهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ وَمَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ وَقَدْ رَمَتْهُمْ الْعَرَبُ أَتَعْرِفُ الْحِيرَةَ قُلْتُ لَمْ أَرَهَا وَقَدْ سَمِعْتُ بِهَا قَالَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنْ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ)( ).
وهل في الحديث شاهد على عدم اشتراط المحرم في حج المرأة الجواب نعم ، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتح خزائن كسرى للمسلمين ، مما يدل على شمول الظعينة للبلاد البعيدة إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وَلَيَفْتَحَنَّ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ قَالَ قُلْتُ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ قَالَ نَعَمْ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ وَلَيُبْذَلَنَّ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ فَهَذِهِ الظَّعِينَةُ تَخْرُجُ مِنْ الْحِيرَةِ فَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارٍ وَلَقَدْ كُنْتُ فِيمَنْ فَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَهَا)( ).
وتدور الأيام ويسكن عدي بن حاتم الطائي مدينة الكوفة التي صارت الحيرة من نواحيها وتابعة لها إلى يومنا هذا ، لبيان موضوعية الإسلام في تغيير خارطة المدن ، وسكن عدي بن حاتم الكوفة وشهد مع الإمام علي عليه السلام واقعة الجمل ، وفقئت عينه يومئذ ، وشهد مع الإمام واقعة صفين والنهروان ومات بالكوفة سنة سبع وستين ، وقيل سنة تسع وستين وعمره مائة وعشرون سنة .
وقيل مات في قرقيسيا( ).
ومما يرويه عدي بن حاتم أنه قال : ما دخل وقت صلاةٍ قط إلا وأنا أشتاق إليها( ).
وقال : ما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا وسع لي أو تحرك لي وقد دخلت عليه يوماً في بيته وقد امتلأ من أصحابه فوسع لي حتى جلست إلى جنبه( ).
والظعينة : المرأة في الهودج على راحلة.
وقيل لا تكون المرأة ظعينة حتى تكون في الهودج ( ).
وبعد أن حال عمير بن وهب وطاف حول معسكر المسلمين رجع إلى قريش ، وكانوا يثقون بقوله فأخبرهم بأمور :
الأول : ليس من كمين أو عدد للمسلمين ، وفي هذا البيان شاهد على أن قريشاً تعلم فنون الحرب واسرار الخداع ، وأسباب الإحتراز فيها .
الثاني : أصحاب محمد نحو ثلاثمائة (إن زادوا زادوا قليلاً)( ).
الثالث : مع المسلمين سبعون بعيراً وفَرَسان.
ويبعث ظاهر هذا الإحصاء الطمأنينة في نفوس كفار قريش على تحقيق النصر للتباين الظاهر بين كثرتهم وقلة عدد المسلمين ، ولكن عميراً هذا استدرك وبيّن حقيقة أدركها بالرصد والملاحظة وهي عزم الصحابة على الدفاع ، وشوقهم الى الشهادة إذ نادى محذراً (يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليست لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، أما ترونهم خرسا لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي؟ والله ما أرى أن تقتل منهم رجلا حتى يقتل منا رجل، فإذا أصابوا منكم عددهم فما خير في العيش بعد ذلك، فروا رأيكم)( ).
أي أن المصيبة إذا نزلت بهم فانهم يستبسلون ، ويكثر القتل بين الفريقين ، وفي كلامه تعريض بقريش بأنهم لا يطيقون قتل جماعة منهم وأن الأولى لهم اجتناب القتال .
لبيان قانون من الإرادة التكوينية وهو مجئ الإنذار من فعل السيئة بصيغ متعددة من البرهان والحجة ، ويدل عليه قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ).
وسعد بن معاذ بن النعمان من الخزرج أسلم في المدينة بين بيعة (العقبة الأولى والثانية على يدي مصعب بن عمير وشهد بدرا وأحدا والخندق ورمى يوم الخندق بسهم فعاش شهرا ثم انتفض جرحه فمات منه) ( ).
والذي رماه مشرك اسمه حبان بن العرقة ، وهو يقول (خُذْهَا مِنّي وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ ؛ فَقَالَ لَهُ سَعْدُ عَرّقَ اللّهُ وَجْهَك فِي النّارِ اللّهُمّ إنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا ، فَإِنّهُ لَا قَوْمَ أَحَبّ إلَيّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ مِنْ قَوْمٍ آذَوْا رَسُولَك وَكَذّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ اللّهُمّ وَإِنْ كُنْت قَدْ وَضَعْت الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْعَلْهُ لِي شَهَادَةً) ( ).
وتدل كثرة وتكرار مشورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه على أنه لا يقصد الحرب ، ولا يريد القتال ، وأنه في حال دفاع محض ، وهذا الدفاع عنوان السلام الدائم .
لقد تمادى جيش المشركين في غيهم فحتى قبل بدء القتال كانوا يصوبون السهام والنبال الى المسلمين ، وقتلوا عدداً منهم والنبي صلى الله عليه وآله وسلم صابر محتسب منقطع إلى الدعاء ، قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ رُمِيَ مِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ بِسَهْمِ فَقُتِلَ فَكَانَ أَوّلَ قَتِيلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمّ رُمِيَ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ أَحَدُ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ ، وَهُوَ يَشْرَبُ مِنْ الْحَوْضِ بِسَهْمِ فَأَصَابَ نَحْرَهُ فَقُتِلَ( ).
قراءة في آية المشورة
لقد كان المهاجرون والأنصار يسمعون كلام رسول الله وطلبه الإستشارة مع غناه بالوحي ، وهذه الإستشارة من الوحي ، والتنزيل مجتمعين .
أما الوحي فهو ما يرد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ساعة الإستشارة وفي الميدان ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
وأما جهة التنزيل فمنه قوله تعالى فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
ويتجلى إجتماع الوحي والتنزيل في المقام في أول الآية أعلاه [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ..] ( ) فمن الرحمة الإلهية في المقام الوحي ، لبيان أن اللين الذي يتحلى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو بالوحي والتأديب ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) ( ).
ترى ما هي النسبة بين الفظاظة وغلظة القلب من جهة ، وبين الإستشارة ، الجواب هو التنافي فهذه المشورة مصداق لتنزه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الفظاظة ، وهذا التنزه من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) ، وفيه نكتة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبلغ مرتبة الخلق العظيم إلا بالوحي والتنزيل .
(رجلٌ فَظُّ: ذو فَظاظة، أي فيه غِلَظٌ في مَنطقِه وتَجَهُّمٌ والفَظَظُ خُشُونةٌ في الكلام) ( ).
ليكون تقدير آية المشورة أعلاه بلحاظ استشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه يوم معركة بدر على وجوه :
الأول: فبما رحمة من الله لنت لهم فشاورتهم في الأمر .
الثاني : فبما رحمة من الله استمعت لمشورة أصحابك .
الثالث : (لو) حرف إمتناع لإمتناع أي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يوماً فظاً أو غليظ القلب .
الرابع : الإنذار والتحذير لأمراء المسلمين من الفظاظة وغلظة القلب لأنها تؤدي إلى تفرق الأصحاب ، وغياب الأعوان عند الحاجة وساعة الشدة .
ويدل الجمع بين المشورة والعزم بقوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ]على موضوعية الوحي في إتخاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرار المناسب ، وهو الذي يتلقاه الصحابة بالرضا والإمتثال ، وتدل عليه الشواهد التأريخية المتعددة ، بعصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وسلامة السنة القولية والفعلية من الخطأ والزلل .
ترى لماذا تقدم العفو عن الصحابة والإستغفار لهم على مشورتهم ، الجواب من وجوه :
الأول : إرادة صدورالمشورة عن حكمة .
الثاني : قانون استغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة تنزيه لهم من النفاق .
الثالث : الشكر من الله عز وجل للصحابة بأن أمر رسوله يالإستغفار لهم .
وهل هذا الإستغفار من أسباب نصر المسلمين يوم معركة بدر ، الجواب نعم .
الرابع : إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة دعوة لهم للإجتهاد بالإستغفار ، وفيه تقريب للنصر .
الخامس : إرادة إخلاص النية ، وصدق العزيمة في الصبر في ميدان الدفاع عن النبوة والتنزيل .
السادس : بيان مسألة تأريخية وهي أن معركة بدر ليست غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما يتناقل ويتوارث المؤرخون ، وكتاب السيرة ، إنما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة إستطلاع مع تردد أخبار عن قافلة أبي سفيان ، وعندما علم بقدوم جيش لقريش أدرك أنهم يريدون القتال ، لكثرة أعداد جيش قريش ، فلو كان خروجهم لإنقاذ القافلة لخرج منهم مائة أو مائتان ، بينما تناجت قريش لثلاثة أيام بنفير عام ، ثم خروجوا بالأشعار ، والأهازيج ، ومعهم القيان يضربن الدفوف ، ويغنين ، وذكر أن معهم مائة فرس وسبعمائة بعير.
والمختار أكثر من هذا ، وليس منهم من كان راجلاً في قطع مسافة (300) كم بين مكة وبدر ، وكان عددهم بين تسعمائة وخمسين إلى ألف لأسباب :
الأول : حال السعة والغنى عند قريش .
الثاني : إنفاق بعض رجالات قريش على الذين خرجوا معه من ضعيفي الحال .
الثالث : قيام بعض الذين تخلفوا من كبار رجالات قريش بارسال بديل عنهم ، كما في أبي لهب .
الرابع : تولي الأغنياء عنهم إطعام الجيش ، وكانوا يذبحون في كل يوم بين تسعة الى عشرة من الأباعر.

قانون آيات الدفاع لماذا
لقد بدأت الدعوة الإسلإمية بالتبليغ والحجة والبرهان ، وتتقوم بأمر واحد وهو التوحيد ، وعبادة الله عز وجل ، وترك عبادة الأصنام ، ليس فيها قتال أو حرب او معارك ، ولكن المشركين واجهوا هذه الدعوة بالإستكبار والعناد والإضرار من جهات :
الأولى : إرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يكن عزمهم على قتله أمراً دفعياً ، بل كان على مراتب من الإنذار والتخويف والوعيد ، وتحذير عمه أبي طالب من حمايته ، ولكن عندما مات أبو طالب قرروا قتله في فراشه ، وليس من دم في رقبته ولم يعتد على أحد منهم ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
الثانية : مناجاة وتعاون رجال قريش على الإضرار ببني هاشم لأنهم تضامنوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعلنوا استعدادهم للذب عنه ، مؤمنهم وكافرهم باستثناء عمه أبو لهب بعد أن أطلعهم أبو طالب بعزم قريش على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فانخزلوا بالنبي في شعب أبي طالب ، وأنظم إليهم بنو المطلب بن عبد مناف ، وموضع شعب أبي طالب حيث تقع مكتبة مكة العامة في هذا الزمان قريباً من جبل الصفا .
فتحمله الأذى الشديد بسببه إذ فرضت عليهم قريش حصاراً إجتماعياً وإقتصادياً استمر لثلاث سنوات .
ومن أسباب هذا الحصار أمور :
الأول : رؤية قريش دخول الناس في الإسلام .
الثاني : توالي نزول آيات القرآن التي تذم عبادة الأصنام وما فيها من التعريض برجالات قريش وآبائهم منها [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ] ( ).
فلما عبدت طائفة من ذرية إبراهيم لأصنام بعث الله سبحانه النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لإستئصال عبادة الأوثان إلى يوم القيامة .
ومنها قال تعالى [وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ] ( ).
ومنها قوله تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ] ( ).
الثالث : اعلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعوته ، والعزم على عدم التوقف عن التبليغ ، لأنه رسول من عند الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ).
لقد رأت قريش دخول الشباب في الإسلام ، وجهرهم بأداء الصلاة ، وتلاوة القرآن ، ثم جاء عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي أمية بعد أن ردهم النجاشي خائبين ، لم يرض بتسليم المسلمين المهاجرين إلى الحبشة لهم ، وشهادته بصدق نبوة محمد فاجتمعت قريش بسخط ليكتبوا بينهم (كتاباً يتعاقدون فيه على أن لا ينكحوا بني هاشم وبني المطلب ولا ينكحوا إليهم ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم شيئاً.
فكتبوا بذلك صحيفةً وتعاهدوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً لذلك الأمر على أنفسهم، فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا.
وخرج من بني هاشم أبو لهب بن عبد المطلب إلى قريش، فلقي هنداً بنت عتبة فقال: كيف رأيت نصري اللات والعزى ؟
قالت: لقد أحسنت.
فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً حتى جهدوا لا يصل إلى أحد منهم شيء إلا سراً.
وذكروا أن أبا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد ومعه قمحٌ يريد به عمته خديجة، وهي عند رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في الشعب، فتعلق به وقال: والله لا تبرح حتى أفضحك.
فجاء أبو البختري بن هشام فقال: ما لك وله ؟
عنده طعام لعمته أفتمنعه أن يحمله إليها ؟
خل سبيله. فأبى أبو جهل، فنال منه. فضربه أبو البختري بلحى جملٍ فشجه ووطئه وطأً شديداً، وحمزة ينظر إليهم، وهم يكرهون أن يبلغ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك فيشمت بهم هو والمسلمون. ورسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يدعو الناس سراً وجهراً، والوحي متتابع إليه، فبقوا كذلك ثلاث سنين.
وقام في نقض الصحيفة نفر من قريش، وكان أحسنهم بلاء فيه هشام بن عمرو بن لحارث بن عمرو بن لؤي، وهو ابن أخي نضلة بن هشام بن عبد مناف لأمه، وكان يأتي بالبعير قد أوقره طعاماً ليلاً ويستقبل به الشعب ويخلع خطامه فيدخل الشعب.
فلما رأى ما هم فيه وطول المدة عليهم مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، أخي أم سلمة، وكان شديد الغيرة على النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمين، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث علمت ؟
أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم، يعني أبا جهل، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إيه ما أجابك أبداً.
فقال: فماذا أصنع ؟ وإنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لنقضتها. فقال: قد وجدت رجلاً.
قال: ومن هو ؟
قال: أنا.
قال زهير: ابغنا ثالثاً، فذهب إلى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقال له: أرضيت أن يهلك بطنان من بني عدي ابن عبد مناف وأنت شاهد ذلك موافق فيه ؟
أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعاً.
قال: ما أصنع ؟
إنما أنا رجل واحد.
قال: قد وجدت ثانياً.
قال: من هو ؟
قال: أنا.
قال: ابغنا ثالثاً.
قال: قد فعلت.
قال: من هو ؟
قال: زهير بن أبي أمية.
قال: ابغنا رابعاً. فذهب إلى أبي البختري بن هشام وقال له نحواً مما قال للمطعم، قال: وهل من أحد يعين على هذا ؟
قال: نعم.
قال: من هو ؟
قال: أنا وزهير والمطعم.
قال: ابغنا خامساً. فذهب إلى زمعة بن الأسود المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم، قال: وهل على هذا الأمر معين ؟ قال: نعم، وسمى له القوم، فاتعدوا خطم الحجون الذي بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة.
فقال زهير: أنا أبدأكم.
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم ؟
والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل: كذبت والله لا تشق.
قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا بها حين كتبت.
قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها.
قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غي ذلك.
وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك.
قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليلٍ وأبو طالب في ناحية المسجد.
فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا ما كان: باسمك اللهم، كانت تفتتح بها كتبها، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة، فشلت يده.
وقيل: كان سبب خروجهم من الشعب أن الصحيفة لما كتبت وعلقت بالكعبة اعتزل الناس بني هاشم وبني المطلب، وأقام رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو طالب ومن معهما بالشعب ثلاث سنين، فأرسل الله الأرضة وأكلت ما فيها من ظلم وقطيعة رحم وتركت ما فيها من أسماء الله تعالى، فجاء جبرائيل إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فأعلمه بذلك، فقال النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لعمه أبي طالب، وكان أبو طالب لا يشك في قوله، فخرج من الشعب إلى الحرم .
فاجتمع الملأ من قريش، وقال: إن ابن أخي أخبرني أن الله أرسل على صحيفتكم الأرضة فأكلت ما فيها من قطيعة رحمٍ وظلمٍ وتركت اسم الله تعالى، فأحضروها، فإن كان صادقاً علمتم أنكم ظالمون لنا قاطعون لأرحامنا، وإن كان كاذباً علمنا أنكم على حق وأنا على باطل.
فقاموا سراعاً وأحضروها، فوجدوا الأمر كما قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وقويت نفس أبي طالب واشتد صوته وقال: قد تبين لكم أنكم أولى بالظلم والقطيعة. فنكسوا رؤوسهم ثم قالوا: إنما تأتوننا بالسحر والبهتان، وقام أولئك النفر في نقضها كما ذكرنا؛ وقال أبو طالب في أمر الصحيفة وأكل الأرضة ما فيها من ظلم وقطيعة رحم أبياتاً منها:
وقد كان في أمر الصحيفة عبرةٌ … متى ما يخبّر غائب القوم يعجب
محا الله منهم كفرهم وعقوقهم … وما نقموا من ناطق الحقّ معرب
فأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً … ومن يختلق ما ليس بالحقّ يكذب
وعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه على العرب
توفى أبو طالب وخديجة قبل الهجرة بثلاث سنين وبعد خروجهم من الشعب، فتوفي أبو طالب في شوال أو في ذي القعدة وعمره بضع وثمانون سنة، وكانت خديجة ماتت قبله بخمسة وثلاثين يوماً، وقيل: كان بينهما خمسة وخمسون يوماً، وقيل: ثلاثة أيام، فعظمت المصيبة على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بهلاكهما، فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: (ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب) ( ).
أدعية إبراهيم في القرآن سلام وأمن
لقد تضمن القرآن أدعية النبي إبراهيم عليه السلام وفيه وجوه :
الأول : حضّ القرآن المؤمنين على الدعاء والمسألة .
الثاني : إكرام الله لإبراهيم في سماع دعائه وتوثيقه في القرآن الكتاب الباقي إلى يوم القيامة .
الثالث : بيان قانون وهو دعاء الأنبياء السابقين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الرابع : كل دعاء لإبراهيم في القرآن مدرسة لاستنباط المسائل والحكم.
الخامس : بيان قانون من الإرادة التكوينية وهي موضوعية الدعاء عند التلاوة وبعدها ، فقد نزل القرآن بادعية إبراهيم للإخبار عن حضورها في كل زمان إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار حاجة الناس إلى سلامة آيات القرآن من التحريف أو التبديل أو التغيير .
ليتلو المسلمون والمسلمات أدعية إبراهيم في الصلاة اليومية ويجعلها الله عز وجل بفضله تجديداً لذات الدعاء ، واستحداثاً لملايين المصاديق له .
ومن أدعية إبراهيم عليه السلام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن تسلسل الآيات الأولى والثانية حسب سور القرآن :
الأولى : قال تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ] ( ) .
الثانية : قال تعالى [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]( ).
الثالثة : قال تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
الرابعة : قال تعالى [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
لقد ذكر القرآن أدعية إبراهيم لبيان تقيد المسلمين بالسلام ، مع التنزه عن الشرك ، ويدل عليه قوله تعالى [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ] ( ).
وفي الآية أعلاه دعوة للمؤمنين لإجتناب مشركي قريش ، الذين أقاموا على الشرك وعبادة الأوثان لتكون هذه الآية تأديبا وإرشادا للمسلمين للتحلي بالصبر على الأذى ، وبعثا للهجرة إلى الحبشة والمدينة ، فهذه الهجرة إعراض عن مفاهيم الضلالة ، وملاقاة لعداوة وبغضاء قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالإعراض عنهم والإبتعاد عن الموطن الذي يقيمون فيه ، وهو مكة مع أن دعاء إبراهيم عليه السلام لأهل مكة بالرزق الكريم والثمرات .
لقد ورد في القرآن دعاء إبراهيم [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ] ( ) فكيف نشبت الحرب والقتال بين النبي والمشركين .
والجواب من مصاديق دعاء إبراهيم أعلاه سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل وهو في مكة .
ونزل الأمر الإلهي له بالهجرة إلى المدينة ، وهل من معاني قوله تعالى [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا] فتح مكة في العشرين من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة الموافق 10/1/360 م ، الجواب نعم لما في هذا الفتح من الأمن وشآبيب السلام .

عثمان بن طلحة
لقد بقى عثمان بن طلحة على كفره إلى ما بعد صلح الحديبية حيث أسلم في الهدنة وهاجر قبل الفتح مع خالد بن الوليد إلى المدينة المنورة ( ).
وهو من بني عبد الدار حملة لواء قريش عند القتال ، وقد نكبوا بخسارة فادحة يوم معركة أحد ، إذ اصروا على المبارزة والقتال ، وفيه شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع .
إذ تقدم أيو سعد بن أبي طلحة حامل لواء المشركين وخرج بين الصفين ثم نادى ([ أَنَا قَاصِمٌ ] مَنْ يُبَارِزُ بِرَازًا ، فَلَمْ يَخْرَجْ إلَيْهِ أَحَدٌ) ( ).
وهل عدم الخروج بسبب الوجل والخوف منه ، الجواب لا ، ولكنه حجة عليه وعلى المشركين لتأكيد قانون من جهات :
الأولى : قانون كره النبي وأصحابه للقتال .
الثانية : قانون إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن مقدمات سفك الدماء .
الثالثة : إقامة الحجة على المشركين ، خاصة وأن الإمام علي عليه السلام برز له وقتله .
الرابعة : إرادة الشهادة على التأريخ .
ولما لم يخرج إليه أحد لم يرجع إلى الصف ، ويترك الإصرار على المبارزة ، إنما تمادى في النداء ، وصار يعرّض بالصحابة ، ولعل أبا سعد بن أبي طلحة هو نفسه طلحة بن ابي طلحة .
ثم نادى أيو سعد بن أبي طلحة (يَا أَصْحَابَ مُحَمّدٍ زَعَمْتُمْ أَنّ قَتْلَاكُمْ فِي الْجَنّةِ وَأَنّ قَتْلَانَا فِي النّارِ كَذَبْتُمْ وَاَللّاتِي لَوْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ حَقّا لَخَرَجَ إلَيّ بَعْضُكُمْ فَخَرَجَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) ( ).
وصحيح أن الإمام علي عليه السلام قتله يومئذ ، ولكن تلك المبارزة لا تخلو من خطر شديد على الإمام علي عليه السلام لأن أبا سعد هذا من شجعان قريش ، ويتصف حملة اللواء عادة بالشجاعة والفروسية .
إذ اختلفا بضربتين فضربه الإمام علي عليه السلام فقتله ، ولم يجهز عليه ، ولم يأخذ سلبه من سيف ودرع ، وبيضة (خوذة) وملابس .
فقال (أفلا أجهزت عليه ؟
فقال: إنه استقبلني بعورته فعطفني عليه الرحم، وعرفت أن الله تعالى قد قتله) ( ).
ولا يعلم ما دخل إلى قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار من الغبطة والسعادة عند قتله إلا الله عز وجل ، إذ بادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى التكبير ، وكبر الصحابة وشدوا على المشركين يضربونهم حتى احتلفت صفوفهم ، لقد كانت بداية هزيمة جيش المشركين .
وقال الحجاج بن يملاط السّلمي في توثيق هذه الواقعة وقتل (طَلْحَةَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدّارِ صَاحِبِ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ :
لِلّهِ أَيّ مُذَبّبٍ عَنْ حُرْمَةٍ … أَعْنِي ابْنَ فَاطِمَةَ الْمُعَمّ الْمُخْوِلَا
سَبَقَتْ يَدَاكَ لَهُ بِعَاجِلِ طَعْنَةٍ … تَرَكَتْ طُلَيْحَةَ لِلْجَبِينِ مُجَدّلَا
وَشَدَدْتَ شَدّةَ بَاسِلٍ فَكَشَفْتهمْ … بِالْجَرّ إذْ يَهْوُونَ أَخْوَلَ أَخْوَلَا) ( ).
بحث أصولي
تأتي الألف واللام في الأمر للعهد أو الجنس ، ويجمع بينهما قوله تعالى [يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] ( ) فاللام في الأول للعهد ، وفي الثاني للجنس .
ويقال أجالوا الرأي والأمر ) ( ).
ويأتي لفظ الأمر على وجوه :
الأول : الطلب والتكليف سواء مع الإستعداد أو بدونه ومادة الأمر بهذا المعنى هو متعلق علم الأصول ، ويجمع الأمر في المقام على أوامر ، وهو ضد النهي ، ويدل قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( )، على عدم اشتراط العلو في الأمر ، فقد يصدر من الأدنى إلى الأعلى ، ولكن وفق القواعد .
الثاني : الأمر بمعنى الحال والكيفية ويجمع على أمور ، ومنه قوله تعالى [وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ] ( ) فمثلاً قد يلزم تنبيه الولد لوالده أو والدته في الأمر بمعروف أو نهي عن منكر ، فلابد أن لا يخرج عن عمومات قوله تعالى [فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ] ( ) ويجمع بين طاعة الله وإكرام الوالدين ، قال تعالى [وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ) .
الثالث : إرادة الإيجاد والتصرف والملكية بما ينفرد به الله (عن عبد العزيز الشامي عن أبيه وكانت له صحبة( ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه فقد كفر وحبط ما عمل : ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئاً فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه لقوله {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين})( ).
وهل كان الدفاع عن النبوة والتنزيل واجباً على الصحابة ، الجواب نعم , والمختار أن الوجوب عام ولكن ورد قوله تعالى [لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ]( )، وعندما هجم المشركون في معركة أحد والخندق صار قتال المسلمين عن النبوة وشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم ، وبلدتهم وعن شريعة التوحيد .
ومن الإعجاز في إختيار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدينة يثرب لهجرته إتصاف الأوس والخزرج بالدفاع عنها ضد من يريد اقتحامها .
قانون كل آية قرآنية تحد وإعجاز
الحمد لله الذي أنزل آيات القرآن وفيها التشريع وأحكام الحلال والحرام ، وأنظمة الحياة الإقتصادية والإجتماعية وتهذيب الأخلاق ، ونبذ القتال وسفك الدماء .
لقد كانت القبائل العربية ولا زالت تنشطر وتتفرع ، وكان هذا الإنشطار سبباً في الإقتتال بين تلك الفروع واستمرار القتال لسنوات متعددة ، فمن اشد حروب العرب حرب البسوس التي استمرت نحو أربعين سنة ، إذ نشبت بين فرعين من قبيلة بكر بن وائل بسبب قتل كليب لناقة ضيف امرأة اسمها البسوس .
وحرب الفجار بين قبيلة كنانة ومنها قريش ، وبين قبائل قيس عيلان ، ومنها هوازن وغطفان وسليم وثقيف ، وكانت بينهم أرحام ومصاهرات وجوار ، وتقيد بآداب الحرم ، والأشهر الحرم ، فقطعوها ، لذا سميت حرب الفجار ، واستمرت نحو عشر سنوات 43 ق. الهجرة إلى 33 ق . الهجرة .
وقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتتآلف هذه القبائل تحت لواء التوحيد ، فأبى رؤساء الشرك هذا العقد السماوي ، وجهزوا الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الإعجاز أن نزول آيات القرآن لم ينقطع ولم ينحصر بموضوع هذه الحروب ومعارك الإسلام ، لبيان أن كل آية قرآنية معجزة في مضامينها ، ودلالاتها ومناسبة وموضوع نزولها .
والمراد من إعجاز القرآن أنه معجز لغيره ، ولم يرد لفظ معجزة أو إعجاز في القرآن ، ولكن آيات القرآن تدل عليه ، ومنها :
الأولى : قوله تعالى [أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَ يُؤْمِنُونَ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [ وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( ).
الخامسة : قوله تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ) ونزلت هذه الآية في مكة قبل الهجرة .
السادسة : قوله تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ] ( ).
السابعة : قوله تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ] ( ).
الثامنة : قوله تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنْ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ]( ) لبيان الإحتجاج على ارتياب وشك الذين كفروا ، إذ ورد لفظ [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ] خمس مرات في القرآن ، وفي كل مرة بيان واحتجاج موضوعي يختلف عن الآخر ، ويدعو الناس إلى الهدى والإيمان ،وقد نزل القرآن بلغة (إياك أعني واسمعي يا جارة) فيتوجه بالتحدي والخطاب إلى مشركي قريش لينتفع منه عامة الناس مع اختلاف مداركهم ، فدخل البلغاء والرؤساء والعلماء وعامة الناس .
وقد ورد النداء العام للناس في القرآن [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] عشرين مرة منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ).
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : التكامل في التنزيل .
الثاني : تعدد ضروب وموضوع الإحتجاج على الذين كفروا في آيات القرآن.
الثالث : لم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا إلا بعد إلتقاء تكامل التنزيل مع تمام أحكام الشريعة ، قال تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
ابن قَمِئة يوم أحد
وهو عبد الله بن قَمِئة بفتح القاف وكسر الميم الليثي الكناني ، وهو من فرسان المشركين يوم معركة أحد ، إذ توجه وعليه درعان نحو الجهة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد تفرق أكثر الصحابة عنه ، وهو يصيح دلوني على محمد ، لا نجوت أن نجا ، وتوثق أم عمارة نسيبة بن كعب من مازن محاولة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه .
لقد أقبل ابن قَمِئة وهو رجل هذيل( ) مع أصحابه واللواء بيده نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورمى عبد الله بن قَمِئة رسول لله بحجر فكسر انفه ورباعيته ، وشجه في وجهه فانفله ، وهو يقول خذها وانا ابن قَمِئة .
ولم يكن ابن قَمِئة وحده الذي يقول : لا نجوت ان نجا محمد ، بل كان أبي بن خلف قد (حَلَفَ بِمَكّةَ أَنْ يَقْتُلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَقُتِلَ مُصْعَبٌ وَأَبْصَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ تَرْقُوَةَ أُبَيّ بْنِ خَلَفٍ مِنْ فُرْجَةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الدّرْعِ وَالْبَيْضَةِ فَطَعَنَهُ بِحَرْبَتِهِ فَوَقَعَ عَنْ فَرَسِهِ فَاحْتَمَلَهُ أَصْحَابُهُ وَهُوَ يَخُورُ خُوَارَ الثّوْرِ فَقَالُوا : مَا أَجْزَعَك ؟
إنّمَا هُوَ خَدْشٌ فَذَكَرَ لَهُمْ قَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى فَمَاتَ بِرَابِغٍ) ( ).
وعلا ابن قَمِئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف ، ولكن سيفه لم يمض لأن النبي كان يلبس درعين ، إلا أن ثقل السيف أثر في عاتقه فشكا منه شهراً ، ووقع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من شدة الضربة والجراحات في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر الراهب .
وهل كانت الملائكة حاضرة لصرف شرور ابن قَمِئة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنعه من الوصول إليه ، الجواب نعم ، لذا لما قتل ابن قَمِئة مصعب بن عمير أخذ اللواء ملك في صورة مصعب .
(عن أبي أمامة: أن ابن قمئة لما رمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: خذها وأنا ابن قمئة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” أقمأك الله “، فسلط الله تعالى عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة) ( ).
وحينما قتل ابن قَمِئة مصعب بن عمير حامل اللواء وهو يشبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ظن ابن قَمِئة أنه قتل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فصاح قتلت محمداً ، ولعل ظنه هذا بسبب ضربه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يلبس درعين ، وكان جيش المشركين قد جعل هذا القتل الغاية الأهم في هجومه ، فسرعان ما انتشر الخبر في صفوف جيوشهم ، وقيل ان ابليس الذي نادى .
وأشرف أبو سفيان بن حرب على جيش المسلمين ، ونادى (افي القوم محمد ثلاثاً) ( ) فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تجيبوه .
ثم نادى أبو سفيان عمر بن الخطاب قائلاً اقتلنا محمداً ؟
قال عمر : اللهم لا أي أنه يقسم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حي ، ثم أردف ، وأنه ليسمع كلامك الآن ، قال : أنت أصدق عندي من ابن قَمِئة وأبر( ) .
أي في إبطال قول ابن قَمِئة قتلت محمداً ، لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن ثلاثة آلاف من جيش المشركين موجودون في ميدان المعركة ، وتأكد لرؤسائهم سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل الذي هو من أهم غاياتهم الخبيثة التي جاءوا من أجلها .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينئذ مع عدد قليل من أصحابه نحو ثلاثين إذ عاد بعضهم ، ومع هذا لم يجهزوا عليه ، ولم يأت ابن قَمِئة ، ومن هو أشد منه للهجوم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرة أخرى ، إنما اكتفى أبو سفيان أن أطل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ونادى إن موعدكم بدر للعام القابل ، لبيان أنهم لم ينسوا ثأر بدر ، وأنهم يريدون الإنتقام في ذات الموضع .
(فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِرَجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ قُلْ نَعَمْ هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدٌ) ( ).
وفيه شاهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد القتال ، ولا يحدد موعداً للقاء مع المشركين ، ولكن حينما أعلنوا العزم على اللقاء وذكروا الزمان والمكان أجابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يثبت الإيمان في صدور المسلمين في ساعة الشدة تلك ، ولبعث الخوف والفزع في قلوب المشركين بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مستعدون للقاء والقتال في أي وقت.
وهل كان جواب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
لذا حينما حان الموعد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وانسحب جيش المشركين بعد سقوط سبعين شهيداً من المسلمين ، بينما كان النصر للمسلمين لولا ترك الرماة مواضعهم.
وحينما انسحب جيش المشركين لم يتركهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشأنهم ، إنما بعث خلفهم الإمام على عليه السلام وهو يقول له : أنظر ما يصنعون هل يركبون الإبل أم الخيل ، فان ركبوا الإبل فهم يريدون مكة ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وإن ركبوا لخيل فانهم يريدون الإغارة على المدينة ، ثم قال (وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنّ إلَيْهِمْ فِيهَا ، ثُمّ لَأُنَاجِزَنّهُمْ قَالَ عَلِيّ : فَخَرَجْت فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ فَجَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ وَوَجّهُوا إلَى مَكّةَ) ( ).
وقبل أن يحين الموعد الذي حدده أبو سفيان وفي شهر شعبان من السنة الرابعة خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر واستعمل على المدينة رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول( ) .
وكان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألف وخمسمائة من الصحابة ، وفيه شاهد على كثرة عدد الصحابة ، واستعدادهم للدفاع ، فبينما كان عددهم قبل أقل من سنة في معركة أحد سبعمائة صار عددهم اليوم ألف وخمسمائة ، ومن معانيه بيان لحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعد أبي سفيان على الجد واستعداده له ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
وتسمى هذه الكتيبة على وجوه :
الأول : غزوة بدر الآخرة للتمييز بينها وبين بدر الأولى ، ومعركة بدر.
الثاني : بدر الموعد لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يخرجوا إليها إلا بعد موعدة من أبي سفيان .
الثالث : بدر الصغرى .
واقام النبي في الموضع ثمانية أيام ينتظر قدوم أبي سفيان .
وإذا كان أبو سفيان قد جمع في السنة السابقة ثلاثة آلاف مقاتل فقد خرج معه إلى بدر الموعد ألفان ، وهو عدد كبير أيضاً ، ومع هذا فانهم خافوا وملأ صدورهم الرعب ، وكان عام جدب ، فرجعوا من مّر الظهران التي تبعد عن مكة نحو (50) كم ، ووادي مرّ الظهران طويل حيث تقع في هذا الزمان محافظة الجموح ، وسمي بعد القرن العاشر الهجري وادي فاطمة .
ورجوعهم من المعجزات الغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
ومنها نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد إذ صار الأعداء على بعد أمتار منه .
لقد كان المشركون يوم أحد يتوعدون النبي بالقتل ، ومن الذين قالوا (لا نجوت إن نجا محمد ) :
الأول : أبي بن خلف والذي قتل أخوه أمية في معركة بدر ، إذ (أَقْبَلَ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ عَدُوّ اللّهِ وَهُوَ مُقَنّعٌ فِي الْحَدِيدِ يَقُولُ لَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا مُحَمّدٌ وَكَانَ حَلَفَ بِمَكّةَ أَنْ يَقْتُلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ .
فَاسْتَقْبَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَقُتِلَ مُصْعَبٌ وَأَبْصَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ تَرْقُوَةَ أُبَيّ بْنِ خَلَفٍ مِنْ فُرْجَةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الدّرْعِ وَالْبَيْضَةِ فَطَعَنَهُ بِحَرْبَتِهِ فَوَقَعَ عَنْ فَرَسِهِ فَاحْتَمَلَهُ أَصْحَابُهُ وَهُوَ يَخُورُ خُوَارَ الثّوْرِ فَقَالُوا : مَا أَجْزَعَك.
إنّمَا هُوَ خَدْشٌ فَذَكَرَ لَهُمْ قَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى فَمَاتَ بِرَابِغٍ) ( ).
الثاني : ابن قَمِئة وهو أشدهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وحينما سئلت أم عمارة عن الجرح الأجوف الغائر على عاتقها : من أصابها (قَالَتْ ابْنُ قَمِئَةَ أَقْمَأَهُ اللّهُ لَمّا وَلّى النّاسُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَقْبَلَ يَقُولُ دُلّونِي عَلَى مُحَمّدٍ ، فَلَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا .
فَاعْتَرَضْتُ لَهُ أَنَا وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَأُنَاسٌ مِمّنْ ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ , فَضَرَبَنِي هَذِهِ الضّرْبَةَ , وَلَكِنْ فَلَقَدْ ضَرَبْته عَلَى ذَلِكَ ضَرْبَاتٍ , وَلَكِنّ عَدُوّ اللّهِ كَانَ عَلَيْهِ دِرْعَانِ) ( ).
ولقد أشرف ابن قَمِئة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضربه بالسيف .
الثالث : عبد الله بن شهاب الزهري (وَقَالَ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ : سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُ شَهِدْتُ أُحُدًا فَنَظَرْتُ إلَى النّبْلِ يَأْتِي مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَسَطُهَا كُلّ ذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْهُ وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ شِهَابٍ الزّهْرِيّ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ دُلّونِي عَلَى مُحَمّدٍ لَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى جَنْبِهِ مَا مَعَهُ أَحَدٌ ثُمّ جَاوَزَهُ فَعَاتَبَهُ فِي ذَلِكَ صَفْوَانُ فَقَالَ وَاَللّهِ مَا رَأَيْته أَحْلِفُ بِاَللّهِ إنّهُ مِنّا مَمْنُوعٌ فَخَرَجْنَا أَرْبَعَةً فَتَعَاهَدْنَا وَتَعَاقَدْنَا عَلَى قَتْلِهِ فَلَمْ نَخْلُصْ إلَى ذَلِكَ) ( ).
أي هناك جماعة تعاهدوا على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن أيديهم لم تصل إليه مع أنه انكشف عنه أصحابه ، فلا غرابة أن يصل الخبر إلى المدينة أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل فخرجوا رجالاً ونساءً إلى طريق أحد مع شدة مصيبتهم بالشهداء (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ.
قَالَ مَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِامْرَأَةِ مِنْ بَنِي دِينَارٍ ، وَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا وَأَبُوهَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِأُحُدِ فَلَمّا نُعُوا لَهَا.
قَالَتْ فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ؟
قَالُوا : خَيْرًا يَا أُمّ فُلَانٍ هُوَ بِحَمْدِ اللّهِ كَمَا تُحِبّينَ قَالَتْ أَرُونِيهِ حَتّى أَنْظُرَ إلَيْهِ قَالَ فَأُشِيرَ لَهَا إلَيْهِ حَتّى إذَا رَأَتْهُ .
قَالَتْ كُلّ مُصِيبَةٍ بَعْدَك جَلَلٌ تُرِيدُ صَغِيرَةً .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْجَلَلُ يَكُونُ مِنْ الْقَلِيلِ وَمِنْ الْكَثِيرِ وَهُوَ هَاهُنَا مِنْ الْقَلِيلِ .
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي الْجَلَلِ الْقَلِيلِ
لَقَتْلُ بَنِي أَسَدٍ رَبّهُمْ … أَلَا كُلّ شَيْءٍ سِوَاهُ جَلَلْ) ( ).
الصحابية أم عمارة
أم عمارة نسيبة بنت كعب من مازن من بني النجار ، وأمها الرباب بنت عبد الله من الخزرج ، وأخوها عبد الله بن كعب شهد بدراً مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وزوجها ابن عمها زيد بن عاصم بن عمرو ، فولدت له عبد الله وحبيباً ( )وهما من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم تزوجها غزية بن عمرو بن عطية من بني النجار أيضاً فولدت له تميماً وخوله( ).
وكانت أم عمارة من بين النسوة اللائي حضرن بيعة العقبة ، وقيل معها يومئذ زوجها زيد بن عاصم وابناها عبد الله وحبيب ، وحضروا معركة أحد وعنها قالت (شهدت عقد النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، والبيعة له ليلة العقبة وبايعت تلك الليلة مع القوم)( ).
ويحدث ضمرة بن سعيد المازني عن جدته وهو تابعي وثقه أحمد بن حنبل ، وذكره ابن حبان في الثقات.
وقد روى الحديث عن أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري( ) .
ويروي حديث عن جدة ضمرة هذا وأخرى عنها عن امرأة من الأنصار وأخرى عن السوداء :
الأولى : عن ابن الضمرة بن سعيد عن أهله( ) .
الثانية : (عن ابن ضمرة بن سعيد، عن جدته. عن امْرَأَة من نسائهم كانت صلت القبلتين مع النَّبِيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قالت: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال : اختَضِبي ، تتركُ إحداكُنَّ الخَضابَ حتى تكونَ يدها كيد الرجل ، قالت : فما تركت الخضاب، وإن كانت لتختضب وهي ابنة ثمانين سنة) ( ).
الثالثة : (عن ام عاصم عن السوداء قالت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لابايعه فقال انطلقي فاختضبي ثم تعالى أبايعك) ( ).
(وكان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته، وكانت قد شهدت أحداً تسقي الماء، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان! وكان يراها تقاتل يومئذٍ أشد القتال، وإنها لحاجزةٌ ثوبها على وسطها، حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً. فلما حضرتها الوفاة كنت فيمن غسلها، فعددت جراحها جرحاً جرحاً فوجدتها ثلاثة عشر جرحاً.
وكانت تقول: إني لأنظر إلى ابن قميئة وهو يضربها على عاتقها وكان أعظم جراحها، لقد داوته سنة ثم نادى منادي النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: إلى حمراء الأسد! فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم.
ولقد مكثنا ليلنا نكمد الجراح حتى أصبحنا، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم من الحمراء، ما وصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني يسأل عنها، فرجع إليه يخبره بسلامتها فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بذلك.) ( ).
(قالت أم عمارة: قد رأيتني وانكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فما بقي إلا نفير ما يتمون عشرة، وأنا وابناي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني لا ترس معي، فرأى رجلاً مولياً معه ترس .
فقال : يا صاحب الترس، ألق ترسك إلى من يقاتل ، فألقى ترسه فأخذته( ) فجعلت أترس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، لو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم، إن شاء الله .
فيقبل رجلٌ على فرسٍ فضربني، وترست له فلم يصنع سيفه شيئاً وولى، وأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره.
فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يصيح: يا ابن أم عمارة، أمك، أمك ، قالت: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب) ( ).
لقد جاهدت أم عمارة وزوجها وولديها يوم أحد في الذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسرة كاملة تفدي نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بينما في الطرف الآخر يخرج للمبارزة الأخوة من بني عبد الدار واحداً بعد الآخر ، فيقتلهم الإمام علي عليه السلام والصحابة مبارزة .
وقد حضرت نسوة من قريش معركة أحد للتحريض على القتال واثارة الهمم ، وما أن ابتدأت المعركة وصار النصر للنبي وأصحابه حتى هربن إلى الإبل للفرار .
وعن (البراء بن عازب قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد، وكانوا خمسين رجلا، عبدالله بن جبير، قال: ووضعهم موضعا وقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
قال: فهزموهم، قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن)( ).
نعم ورد أن بعضهن قد قاتلت يوم أحد.
(عن عبد الله بن زيد، قال: جرحت يومئذٍ جرحاً في عضدي اليسرى، ضربني رجلٌ كأنه الرقل ولم يعرج علي ومضى عني، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: اعصب جرحك.
فتقبل أمي إلي ومعها عصائب في حقويها قد أعدتها للجراح، فربطت جرحي والنبي صلى الله عليه وآله وسلّم واقفٌ ينظر، ثم قالت: انهض يا بني فضارب القوم.
فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة.؟
قالت: وأقبل الرجل الذي ضربني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: هذا ضارب ابنك.
قالت: فأعترض له فأضرب ساقه فبرك، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم تبسم حتى بدت نواجذه، ثم قال: استقدت يا أم عمارة! ثم أقبلنا إليه نعلوه بالسلاح حتى أتينا على نفسه.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الحمد لله الذي ظفرك وأقر عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك) ( ).
قتل حملة لواء المشركين في معركة أحد معجزة
والذين قتلوا من بني عبد الدار يوم أحد من حملة لواء المشركين هم :
الأول : أبو سعد بن أبي طلحة ، قتله الإمام علي عليه السلام .
الثاني : طلحة بن أبي طلحة العبدري ، وهو والد عثمان بن طلحة هذا الذي أوصل أم سلمة إلى المدينة ، وهل يدل هذا الإيصال على نماء بذور الإيمان عنده ، الجواب نعم .
الثالث : الحارث بن طلحة بن أبي طلحة رماه عاصم فقتله( ).
الرابع : كلاب بن طلحة بن أبي طلحة ، قتله الزبير .
وقال ابن الأثير أن كل حملة لواء المشركين يومئذ قتلهم الإمام علي عليه السلام .
الخامس : مسافع بن أبي طلحة العبدي رماه عاصم فقتله .
السادس : عثمان بن أبي طلحة ضربه حمزة بالسيف فقطع يده ، ثم حمل اللواء أبو سعد بن أبي طلحة ، فرماه سعد بن أبي وقاص فقتله ، وهو عم عثمان بن طلحة .
السابع : الجلاس بن طلحة قتله طلحة بن عبيد الله .
وقد دفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة مفاتيح الكعبة عثمان بن أبي طلحة هذا وابن عمه شيبة ، وأقرها عليه في الإسلام ، مثلما كانت بأيديهم في أيام الجاهلية .
(عن ابن عباس في قوله { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }( ) قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة دعا عثمان بن أبي طلحة ، فلما أتاه قال : أرني المفتاح .
فأتاه به ، فلما بسط يده إليه قدم العباس فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجعله لي مع السقاية . فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أرني المفتاح يا عثمان .
فبسط يده يعطيه ، فقال العباس مثل كلمته الأولى . فكف عثمان يده ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح .
فقال : بأمانة الله . فقام ففتح باب الكعبة ، فوجد في الكعبة تمثال إبراهيم معه قداح يستقسم بها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما للمشركين – قاتلهم الله – وما شأن إبراهيم وشأن القداح؟!
ثم دعا بجفنة فيها ماء ، فأخذ ماء فغمسه ثم غمس بها تلك التماثيل ، وأخرج مقام إبراهيم وكان في الكعبة ، ثم قال : يا أيها الناس هذه القبلة ، ثم خرج فطاف بالبيت ، ثم نزل عليه جبريل فيما ذكر لنا برد المفتاح ، فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه المفتاح ، ثم قال { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }( ) حتى فرغ من الآية) ( ) .
والظاهر وجود خلط أحياناً في التسمية بين عثمان بن طلحة ، وعمه عثمان بن أبي طلحة الذي قتل في معركة أحد بعد اصراره على القتال .
وحتى في الحديث أعلاه ذكر في بدايته أن النبي صلى دعا عثمان بن أبي طلحة بينما الأخير هو الصحيح .
لبيان مسألة وهي أن دخول الإسلام سبب للنجاة من القتل ، ومناسبة للفوز بالفضل من الله ، وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعطائه
مفتاح الكعبة ، بينما قُتل إخوته في معركة أحد
ومع قتل هؤلاء الأخوة فان عثمان لم يحقد على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يتربص الفرص للإنتقام والثأر منه ، وهو من المعجزات الغيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد على صدق نبوته بصلاح أصحابه .
الثامن : تم حمل اللواء الجلاس بن طلحة ، فقتله طلحة بن عبيد الله ، وقال ابن الأثير .
التاسع : ثم حمل اللواء أرطأة بن شرحبيل فقتله الإمام علي عليه السلام ( ).
العاشر : ثم حمل اللواء شرحبيل بن فارط فقتله بعض المسلمين.
الحادس عشر : ثم حمل اللواء صوّاب وهو غلام حبشي لبني عبد الدار ، وهو آخر من حمل اللواء ، وقاتل به حتى قطعت يداه ثم برك عليه ،فأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه ، ويقول : (اللهم هل أعزرت يقول: أعذرت فقال حسان بن ثابت في ذلك:
فخرتم باللواء وشر فخر … لواء حين رد إلى صؤاب
جعلتم فخركم فيه بعبد … وألأم من يطا عفر التراب
ظننتم والسفيه له ظنون … وما إن ذاك من أمر الصواب
بأن جلادنا يوم التقينا … بمكة بيعكم حمر العياب
أقر العين أن عصبت يداه … وما إن تعصبان على خضاب
قال ابن هشام: آخرها بيتاً يروى لأبي خراش الهذلي وأنشدنيه له خلف الأحمر:
أقر العين أن عصبت يداها … وما إن تعصبان على خضاب) ( ).
وقال ابن اثير(وكان الذي قتل أصحاب اللواء علي، قاله أبو رافع، قال: فلما قتلهم أبصر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، جماعة من المشركين، فقال لعلي: احمل عليهم، ففرقهم وقتل فيهم، ثم أبصر جماعةً أخرى فقال له: احمل عليهم، فحمل عليهم وفرقهم وقتل فيهم، فقال جبرائيل: يا رسول الله هذه المؤاساة ؟!
فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: إنه مني وأنا منه.
فقال جبرائيل: وأنا منكما.
قال: فسمعوا صوتاً: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتىً إلا علي)( ).
إن قتل أصحاب لواء المشركين يوم معركة أحد معجزة تأريخية متجددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على قانون هذا الجزء وهو أن آيات الدفاع سلام دائم .
لقد كان بنو عبد الدار ذوي شأن في قريش وعند القبائل العربية ، وإذا يفنى هذا البيت العريق في ساعة واحدة من النهار لأنه حارب النبوة والتنزيل ، وأراد قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتقوم امرأة بحمل لواء قريش ، بعد أن بقي صريعا , وهو من الخزي الذي لحقهم , وهذه المرأة ليست من قريش , وهي عمرة بنت علقمة من كنانة حلفاء قريش وزوجها غراب بن سفيان من كنانة أيضا .
ترى ما هي النسبة بين لفظ طرفاً في قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) وبين قتلى بني الدار يومئذ ، الجواب النسبة هي العموم والخصوص المطلق ، فالطرف أعم ، وفيه تبكيت لهم ، وإنذار وزجر عن محاربة النبي بأن الذوات التي لها شأن وهيبة إذا قاتلوا النبي يهلكون خاصة وأنهم سعوا في قتله يومئذ فاصابته الجراحات البليغة يوم معركة أحد ، ولا يكون لهم ذكر إلا بصيغ الذم ، وقد هدى الله ابناءهم للإيمان .

قانون وجوب الدفاع عن النبوة والتنزيل
تفضل الله وبعث الأنبياء متعاقبين ، وقد يكون أكثر من نبي في بلدة وزمان واحد لهداية الناس لسبل الإيمان والمودة ، ولكن الذين كفروا أبوا إلا محاربة الأنبياء ، فجاء هذا الجزء من التفسير لبيان قانون وهو حاجة النبي وأصحابه للدفاع ، وهذا الدفاع ليس عن أنفسهم وحدهم إنما هو دفاع عن كل من :
الأول : تأريخ النبوة والتنزيل .
الثاني : ذكر الله في الأرض ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثالث : المستضعفون أفراداً وجماعات .
الرابع : السلم المجتمعي .
الخامس : الأخلاق الحميدة .
السادس : شخص النبي أن الحفاظ على سلامته من مصاديق الرحمة العامة في علل بعثة الأنبياء , ومنه قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
فمن مفاهيم الآية أعلاه مسائل :
الأولى : تعاهدوا رحمة الله .
الثانية : ذبوا عن رحمة الله .
الثالثة : لا تفرطوا برحمة الله .
الرابعة : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من رحمة الله التي تذكرها الآية أعلاه .
الخامسة : بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سالماً في معارك الإسلام الأولى من الرحمة .
السادسة : قانون جهاد الصحابة عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الرحمة العامة للأجيال .
السابعة : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة حتى بالكفار الذي قاتلوه لعموم لفظ [لِلْعَالَمِينَ].
ولو دار الأمر بين التخصيص وعدمه ، فالأصل هو العدم ، ولم تمر السنوات حتى دخلت قريش في الإسلام .
وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأداء مناسك العمرة في السنة السادسة للهجرة ومعه ألف وخمسمائة من الصحابة ، فكان صلح الحديبية .
ثم جاءت عمرة القضاء في السنة السابعة للهجرة بذات العدد تقريباً ، وبعدها بسنة واحدة سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعشرة آلاف من الصحابة ، وكان فتح مكة أي إزاحة الأصنام والأوثان من البيت الحرام ومحو مفاهيم الكفر والضلالة .
(عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود معه ويقول : {جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}( ) {جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يُعيد}( ))( ).
والآية التي قبلها في نظم القرآن هي [وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا] ( ) وتتعلق بالهجرة إلى المدينة ، ثم فتح مكة ومن معاني [أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ] أي من مكة مهاجراً سالماً من شرور المشركين لتبليغ الرسالة و[أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ] أي من ذات البلدة التي خرجت منها ، لأدخل مكة بالحق والصدق ويجتمع الخروج والدخول في الحالتين بإتصافه بالصدق لبيان أن فتح مكة حق بالوحي من عند الله عز وجل .
وعن ابن عباس ({أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ} المدينة {وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ}( ) من مكة نزلت حين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة فروى أبو حمزة الثمالي عن جعفر بن محمّد عن محمّد بن المنكدر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين دخل الغار {رَّبِّ أَدْخِلْنِى} يعني الغار {مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى}( ) من الغار {مُخْرَجَ صِدْقٍ} إلى المدينة) ( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها مرآة للنبوات السابقة ، فجعل الله عز وجل وقائعها ثابتة وباقية إلى يوم القيامة بسلامة القرآن وآياته من التحريف والتبديل لتبعث السكينة في نفوس الأجيال المتعاقبة في اقتباس المسائل واستنباط الحكم والمواعظ ، وتشريع القوانين من كل من :
الأول : آيات القرآن .
الثاني : أسباب نزول آيات القرآن.
الثالث : توثيق آيات القرآن للوقائع والأحداث .
الرابع : تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن .
الخامس : قانون السنة النبوية بيان للقرآن ، ومنها السنة القولية والفعلية والتقريرية والسنة الدفاعية .
قانون السنة الدفاعية
السنة لغة الطريق والمنهج المتبع ، وقد ورد ذكر السنة في القرآن بآيات متعددة ، وهي على أقسام منها :
الأول : ذكر القرآن لسنة الأنبياء والصالحين كما في قوله تعالى [وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنْ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً *سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً] ( ).
وأضاف الله السنة إلى الرسل إكراماً لهم ولبيان اختصاص الموضوع بهم ، والمراد أمر الله في سلامة وحفظ الرسل وقيامهم بالتبليغ وإظهارهم سنن التنزيل بهلاك الذين يعادون الأنبياء .
الثاني : سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
الثالث : ثبات المؤمنين في مناهج الهدى والحق .
الرابع : طبائع الكفار ، وإصرارهم على الجحود ، قال تعالى [لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ] ( ).
الخامس : بطش الله عز وجل بالذين يقيم على الكفر ، قال تعالى [فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (غافر/84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أن استئصال الله للذين كفروا بسبب استفزاز النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد من [يَسْتَفِزُّونَكَ] ( ) وجوه :
الأول : مكر المشركين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإخراجه من مكة .
الثالث : تجاهر المشركين بالعداوة للنبي .
الرابع : المراد سعي قريش لإخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ، وهل يدخل فيه إرادة قتلهم له ليلة المبيت ونزول جبرئيل ، الجواب نعم .
وتتضمن الآية الوعد للنبي ، والوعيد للمشركين في الموضوع المتحد ، وهو سعيهم لإخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة فبعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة عاد إلى مكة معتمراً في السنة السابعة للهجرة ، ثم دخلها فاتحاً في السنة الثامنة للهجرة ، وهو مصداق لقوله تعالى [وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ) .
ومن الدلائل على حسن سنة الأنبياء والصالحين قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ) أي مناهج الأنبياء والأولياء وأهل الإيمان والتقوى وأركان الشرائع والمقاصد السامية ، كما في قوله تعالى [شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة وتفسيراً للقرآن ، ومن الإعجاز في المقام عدم وجود تعارض بين السنة النبوية مع آيات القرآن ، وعلة عدم التعارض هذا ان السنة النبوية شعبة من الوحي ، والأمر والإذن والنهي من عند الله عز وجل .
والنسبة بين السنة النبوية والحديث النبوي عموم وخصوص مطلق .
لذا فان السنة على أقسام :
الأول : السنة القولية ، وهي أحاديث وخطب وكلمات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء ما تعلق بحكم شرعي وأمر ونهي أم مطلقاً ، وهل تشمل السنة القولية المباحات .
الجواب نعم .
الثاني: السنة الفعلية ، وهي أفعال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : السنة التقريرية ، وهو ما أقره النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يحتج عليه أو ينهى عنه مع أنه يراه أو يسمعه.
الرابع : السنة الدفاعية ، وتعني دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كل من:
الأول : الرسالة والتنزيل .
الثاني : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه .
الثالث : أحكام الشريعة .
الرابع : أهل المدينة .
آيات في السلم
يمكن القول بأن القرآن كتاب السلم السماوي ، وليس من حصر لآيات السلم سواء في المنطوق أو المفهوم والدلالة ، وجاءت السنة النبوية لتأكيد صبغة السلم في آيات القرآن ،وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت سنن السلم في الأرض ، ومن آيات السلم :
الأولى : قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( ).
الثانية : قال تعالى [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
الثالثة : قال تعالى [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ]( ).
الرابعة : قال تعالى [وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الخامسة : قال تعالى [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
السادسة : قال تعالى [فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ]( ).
السابعة : قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الثامنة : قال تعالى [مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا] ( ).
التاسعة : قال تعالى [سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا] ( ).
العاشرة : قال تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً]( ).
الحادية عشرة : قال تعالى [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
الثانية عشرة : قال تعالى [وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ]( ).
الثالثة عشرة : قال تعالى [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الرابعة عشرة : قال تعالى [فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ]( ).
الخامسة عشرة : قال تعالى [كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] ( ).
نزع الخافض
قيل أن (أياماً) في قوله تعالى [أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ]( )، نصبت على نزع الخافض والمراد حذف حرف الجر .
والخافض هو حرف الجر ، لأنه يجر الاسم الذي بعده ، والخفض في اصطلاح الكوفيين ,والمراد هو نصب الاسم بعد الفعل الذي يتعدى إلى مفعوله بحرف جر وكن حرف الجر هذا محذوف .
وتقدير الآية [وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( ).
وذكرت ثلاثة لنزع الخافض وهي :
الأول : منع الإلتباس فلا يتوهم السامع غير المراد .
الثاني : ارتكاز الحذف على قرينة ترفع اللبس .
الثالث : قصد الإبهام .
والمختار أن هذا المبحث لا يخلو أحياناً من تكلف في كلمات القرآن ، فالأصل أن يحمل كلام القرآن على ظاهره .
واستدل على نزع الخافض أي حذف حرف الجر بآيات منها [وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( )، فكلمة (ملة) هنا منصوبة على حذف الخافض والتقدير : نقتدي بملة ابراهيم ، ولكن يمكن قراءة الآية بتقدير آخر على ظاهر الآية وهو : نتبع ملة إبراهيم حنيفاً فتكون (ملة) مفعول به لفعل محذوف تقديره (نتبع) وهو الأقرب وعليه عدد من النحويين.
أو إرادة المعنى الأعم من غير تقدير وهو الأصل أي أنتم ونحن نتبع ملة إبراهيم .
واستدل على نزع الخافض بقوله تعالى [وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( )، وقالوا ان الطلاق هنا منصوبة على نزع الخافض ، والتقدير : وان عزموا على الطلاق والخلاف نحوي صغروي.
لكن يمكن إعرابها كالآتي :
الواو : حرف عطف .
إن : حرف شرط جازم .
عزموا : فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط والمراد من الضم هنا على حرف الميم أي عزمُ ، والواو فاعل .
الطلاق : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحه الظاهرة على آخره .
إن تعاهد ظاهر الآية لغرض الإعراب والتأويل والتدبر أمر حسن ، وهو لا يمنع من تقدير نحوي أو غيره متحداً أو متعدداً ، وكل تقدير له معنى , وتستنبط منه المسائل ، وينتفع منه في علم التفسير .
وظائف متوارثة حول الكعبة
كانت بيوتات قريش تتقاسم وظائف الخدمة والولاية في مكة المكرمة ، وفيه بيان لشأنهم ، وتحمل لأعباء المسؤولية امام قبائل العرب ، وهو عنوان عز وفخر لهم لولا التلبس بالكفر ، ومن أهم هذه الوظائف العامة :
الأولى : الرفادة والسقاية ، وكانت لبني هاشم والسقاية جلود تملأ ماء وتوضع في فناء الكعبة لسقاية الحاج ، إذ يؤتى بالماء من آبار عذبة ، ومعنى الرفادة : الضيافة والكرم .
الثانية : الراية ، العقاب ، وهي عند بني أمية ، وتخرج وتنشر عند ارادة الحرب والقتال ، واذا اختاروا أحدهم دفعوها إليه ، وإلا فتبقى عند بني أمية وكانت عند أبي سفيان بن حرب.
الثالثة : السَّدانة و الحجابة للبيت الحرام ، وتعاهد مفتاح الكعبة ، وكان عند بني عبد الدار ، وهم حملة لواء المشركين يوم معركة أحد .
الرابعة : المشورة ، وهي في بني عبد الأسد رهط أم المؤمنين خديجة بنت خويلد .
الخامسة : دار الندوة التي بناها جدهم قصي وصارت بيد عبد الدار ، وكأنها ملحقة بمفتاح الكعبة ، ولعل تسمية عبد الدار من دار الندوة وتوليهم لشؤونها ، وينسب عدد من المؤرخين نيل قريش الشأن الرفيع وانجازات وتأسيس قواعد وضوابط إلى قصي بن كلاب جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار أن هذا الشأن لم ينل بجهد شخص واحد كقصي إنما تم بالتراكم والتوارث والتعاقب .
قال اليعقوبي (وكانت قريش كلها بالأبطح خلا بني محارب والحارث ابني فهر، ومن بني تيم بن غالب، وهو الأدرم، وبني عامر بن لؤي، فإنهم نزلوا الظواهر، ولما حاز قصي شرف مكة كلها، وقسمها بين قريش، واستقامت له الأمور، ونفى خزاعة، هدم البيت، ثم بناه بنياناً لم يبنه أحد من قبل ، وكان طول جدرانه تسع أذرع، فجعله ثماني عشرة ذراعاً، وسقفها بخشب الدوم وجريد النخل، وبنى دار الندوة.
وكان لا ينكح رجل من قريش، ولا يتشاورون في أمر، ولا يعقدون لواء بالحرب، ولا يعذرون غلاماً، إلا في دار الندوة ، وقيل كان أول من حفر بمكة بعد إسماعيل بن إبراهيم، فحفر العجول في أيام حياته، و بعد وفاته، ويقال إنها في دار أم هانىء بنت أبي طالب.
وكان قصي أول من سمي الدابة الفرس، وكانت له دابة يقال لها العقاب السوداء، وكان لقصي من الولد عبد مناف، وكان يدعى القمر، وهو السيد النهر، واسمه المغيرة، وعبد الدار وعبد العزى، وعبد قصي، ويقال إن قصياً قال: سميت اثنين بإلهي، وآخر بداري، وآخر بنفسي.
وقسم قصي بين ولده، فجعل السقاية والرئاسة لعبد مناف، والدار لعبد الدار، والرفادة لعبد العزى، وحافتي الوادي لعبد قصي) ( ).
وهم بطن من بطون قريش ، ونسبهم بنو أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب ، ومنهم :
الأول : خديجة أم المؤمنين .
الثاني : الزبير بن العوام الأسدي وابناءه .
الثالث : حزام بن خويلد .
الرابع : أبو البختري بن هاشم .
الخامس : زمعة بن الأسود وأولاده .
السادس : ورقة بن نوفل ، والذي (تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل) ( ).
وهو ابن عم خديجة ، ولما نزل الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورآى جبرئيل وهو يقول له : يا محمد أنت رسول الله ، رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خديجة وهو يقول : زملوني زملوني ، أي دثروني ، فانزل الله عز وجل [يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ *وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ]( ).
لبيان ابتداء الدعوة إلى الله بجد واجتهاد بالذكر والبشارة والإنذار والوعظ والحض على نبذ عبادة الأصنام ، وليس في سورة المدثر ونحوها ما يدل على طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتال والحرب وسفك الدماء ، مما يدل على أن معارك الإسلام الأولى إنما هي بجور وقصد من قبل كفار قريش .
(عن الزهري قال : أخبرني عروة عن عائشة أنها قالت : أوّل ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم،
فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح،
ثم حبّب (الله) إليه الخلاء.
فكان يأتي حراء فيتحنث فيه.
وهو التعبد (في) الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوده بمثلها.
حتى فجأه الحق.
وهو في غار حراء.
قال : فجاءه الملك وقال : اقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فقلت له : ما أنا بقارئ قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد،
ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ.
فأخذني فغطني الثانية.
حتى بلغ مني الجهد.
ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقار.
فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد.
ثم أرسلني فقال : اقرأ باسم ربّك الذي خلق.
حتى بلغ.
ما لم يعلم.
فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : زمّلوني زمّلوني.
فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال : يا خديجة مالي؟
وأخبرها الخبر وقال : قد خشيت عليّ؟
قالت له : كلاّ ابشر.
فوالله لا يحزنك الله.
إنك لتصل الرحم.
وتصدق الحديث.
وتحمل الكَلّ.
وتُقري الضيف.
وتعين على نوائب الحق.
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزي بن قصي.
وهو ابن عم خديجة.
وكان امرأً تنصّر في الجاهلية.
وكان يكتب الكتاب العربي.
وكان شيخاً كبيراً قد عمي.
فقالت خديجة : أي ابن عم اسمع من ابن أخيك.
فقال ورقة بن نوفل : يا بن أخي ما ترى؟
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما رأى .
فقال ورقة : هذا الناموس الذي أُنزل على موسى .
يا ليتني فيها جذع .
ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أومخرجي هم؟
فقال ورقة : نعم لم يأت رجل قط بما جئتَ به إلاّ عُوديَ وأُوذيَ،
وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً .
ثم لم ينشب ورقة ان توفي وفتر الوحي فترة،)( ).
وبنوعبد أسد من قريش غير قبيلة بني أسد القبيلة المضرية العدنانية التي تنسب إلى أسد بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار .
ومسكن أكثر أفرادها وعشائرها في هذا الزمان في العراق ، إذ هاجر إليه سنة19 للهجرة في سنة الرمادة وأسسوا الإمارة المزيدية التي حكمت في الحلة وما حولها نحو نصف قرن من الزمن ، وكان مسكنهم في الجاهلية نجد في القنفذة بوادي قنونا ثم غربي القصيم.
وشرقي جبلي طي : أجاً وسلمى ، إذ تجاورها قبائل طئ ، وغطفان ، وهوازن ، وكنانة ، ومن مياهها ، سميراء ، والرس ، والرسيس ، ومن جبالها ، القنة ، والقنان ، وأبان الأسود .
ووفد بنو أسد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دون أن يبعث لهم رسولاً ، وقد تفاخروا عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن العرب قاتلوا النبي صلى صلى الله عليه وآله وسلم حتى دخلوا الإسلام ، بينما هم لم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن ابن عباس قال : جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالوا يا رسول الله : أسلمنا وقاتلك العرب ولم نقاتلك ، فنزلت هذه الآية { يمنون عليك أن أسلموا }( ))( ).
ولا تخلو الآية في مفهومها من توثيق حقيقة وهي أن بني أسد لم يقاتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجهزوا عليه الجيوش ، وفيه ثناء عام عليهم .

عدد عمرات النبي
العمرة لغة قصد مكان عامر ، وجمعها عمرات كما تجمع على عُمَر ، وهي في الإصطلاح شعيرة ومنسك مخصوص يؤديه المسلم أو المسلمة على نحو التعبد ، وقد تَسمى الحج الأصغر ، وأركان العمرة هي :
الأول : الإحرام .
الثاني : الطواف .
الثالث : السعي بين الصفا والمروة .
الرابع : التقصير .
وقد اضفنا لها النية( )، وهي حاصلة بالعنوان الإرتكازي ،
أما أركان الحج فهي سبعة :
الأولى : النية.
الثانية : الإحرام.
الثالثة : الوقوف بعرفات.
الرابعة : الوقوف بالمشعر.
الخامسة : الطواف.
السادسة : السعي بين الصفا والمروة.
السابعة : التقصير أو الحلق.
أي أن النسبة بينهما بلحاظ الأركان فقط عموم وخصوص مطلق، فيزيد الحج عن العمرة بركنين هما الوقوف بعرفات والوقوف بالمشعر.
وقد ذكرت العمرة في آيات من القرآن :
الأولى : قوله تعالى [فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ] ( ).
ويلاحظ ذكر العمرة مقترنة مع الحج . وقد إعتمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع مرات , وهي :
العمرة الأولى : عمرة الحديبية ، وهي أول عمرة اعتمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة إلى المدينة .
ومن العلماء من يذكرها على أنها أول عمرة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً ، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعتمر حينما كان في مكة قبل الهجرة ، ولو دار الأمر بين احتمال أنه اعتمر هناك وبين أنه لم يعتمر فالأصل أنه اعتمر .
ووقعت عمرة الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، ولم يستطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ألف وأربعمائة من الصحابة الدخول إلى مكة يومئذ ، والطواف بالبيت الحرام لاصرار كفار قريش على منعهم فتحللوا من العمرة ، ونحروا الهدي وحلقوا في الحديبية ، التي هي في أطراف الحرم ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا حان وقت الصلاة يصلي داخل الحرم ولما تم الصلح بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووفد المشركين على أن يرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة في عامهم هذا
وقام النبي (إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، وكان الذي حلقه في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي، فلما رأى الناس أن رسول الله وسلم قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون)( ).
العمرة الثانية : عمرة القضاء ، وتمت في شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة حسب بنود صلح الحديبية ، فأحرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من ذي الحليفة ، وتعالت أصواتهم بالتلبية (لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، أن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ).
العمرة الثالثة : عمرة الجعرانة ، و(الجعرانة – بكســر الجيم والعين وتشــديد الراء، او – بكسر الجيم وسكون العين وتخفيف الراء، وهو موضع بين مكة والطائف , ويبعد عن البيت الحرام (16) كم) ( ).
والجعرانة أحد المواقيت واعتمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمرة الجعرانة في شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة بعد واقعة حنين .
وعن ابن عباس قال : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التى مع حجته( ).
وورد مثله عن أنس .
وقيل خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى العمرة ليلتين بقيتا من شوال بعد فتح مكة من السنة الثامنة للهجرة وأحرم (ولكن إنما أحرم بها في ذي القعدة) ( )، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعتمر إلا في شهر ذي القعدة .
وعمرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الجعرانة بعد أن غادر مكة في عام الفتح ، ووقعت معركة حنين ، وعاد إلى مكة معتمراً ، وهي في شهر ذي القعدة( ) من السنة الثامنة للهجرة ، وقيل في شوال ، والأول أصح .
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقديسه للبيت الحرام ، إذ رجع بعد فتح مكة بنحو شهرين، وأدى مناسك العمرة وفيه مسائل :
الأولى : تثبيت سيادة الإسلام على مكة .
الثانية : المنع من عودة سطوة المشركين .
الثالثة : تفقه الناس في الدين برؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يؤدي مناسك العمرة .
الرابعة : تجلي معجزات مستحدثة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن خصائص نبوته مصاحبة المعجزات له .
الخامسة : ضبط الأمن والسلم في مكة ، فكثيراً ما تقع أحداث وسفك دماء ونهب عند تغيير النظام ، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يقع بطش أو نهب عند فتح مكة ، وكان رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأداء مناسك العمرة لبعث السكينة في النفوس ، وزيادة إيمان أهل مكة ، خاصة وأن كثيراً منهم كانوا من المؤلفة قلوبهم ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
السادسة : زجر المشركين عن التعدي والظلم ، خاصة وأن فتح مكة لم يقطع الشرك تماماً في الجزيرة .
السابعة : التأكيد على وجوب تنزيه البيت الحرام من عبادة الأوثان .
الثامنة : حضور شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة بصيغة العبادة والتلبية والخشوع لله عز وجل ، وليس الأمرة والسلطنة .
العمرة الرابعة : وكانت مع حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع لأنه حج قارناً ، وأحرم لها في شهر ذي القعدة ، ولكنه لم يدخل مكة إلا وقد هلّ هلال شهر ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة .
وقبل أن يدخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة اغتسل ، ثم دخل المسجد وتوجه الى الله بالدعاء ثم بدء بالطواف.
مسائل في التلبية
من واجبات الاحرام: التلبيات الأربعة، فلا ينعقد الإحرام الا بها وهي على الاقوى:
(لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك)،
ويستحب ان يقول بعدها:
(ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، وهناك صور اخرى منها:
(لبيك اللهم لبيك، لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لبيك).
ما ورد من اضافة في الصحيح والمحمول على الاستحباب:
(لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إِنَّ الْحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ ، لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ دَاعِياً إِلَى دَارِ السَّلاَمِ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ غَفَّارَ الذُّنُوبِ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ أَهْلَ التَّلْبِيَةِ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ ذَا الْجَلاَلِ والإِكْرَامِ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ مَرْهُوباً ومَرْغُوباً إِلَيْكَ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ تُبْدِئُ وَالْمَعَادُ إِلَيْكَ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ كَشَّافَ الْكُرَبِ الْعِظَامِ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ عَبْدُكَ وابْنُ عبْدَيْكَ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ يَا كَرِيمُ لَبَّيْكَ).
ثم يقول:
(لَبَّيْكَ أَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِمُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وعُمْرَةٍ مَعاً لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ هَذِهِ عُمْرَةُ مُتْعَةٍ إِلَى الْحَجِّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ أَهْلَ التَّلْبِيَةِ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ تَلْبِيَةً تَمَامُهَا وبَلاَغُهَا عَلَيْكَ لَبَّيْكَ).
يجوز تنظيم طوق بشري على افراد الحملة ذكوراً او اناثاً وسيرهم باتجاه الطواف بشرط عدم الإضرار بحركة الطواف.
يؤتى بالتلبية على الوجه الصحيح غير الملحون مع مراعاة قواعد العربية مع التمكن ولو بالتلقين او الاعادة والتصحيح، ولا تجزي الترجمة مع التمكن، والاحوط استحباباً الجمع بين الاستنابة وبين اتيان المكلف نفسه بالملحون او الترجمة.
الاخرس يشير الى التلبية باصبعه مع تحريك لسانه، والأولى ان يجمع بينها وبين الاستنابة، ويلبى عن الصبي غير المميز وعن المغمى عليه.
في قوله (ان الحمد) يصح ان يقرأ بكسر الهمزة او فتحها، والأول أولى.
(لبيك) أي أنا مقيم على طاعتك، ويثنى على معنى التأكيد أي إلباباً لك بعد إلباب واقامة بعد اقامة، واستجابة وامتثالاً بعد امتثال، ولبيك مصدر منصوب بفعل مقدر أي ألب لك إلباباً بعد إلباب، كقولك حمداً لله، وشكراً لله، لذا ترى الحاج والمعتمر يشعر اثناء التلبية انه يجدد الاقرار بالعبودية وتعاهد مواثيق الانبياء، وفي الحديث: سُميت التلبية اجابة لأن موسى أجاب ربه وقال (لبيك).
لا ينعقد الاحرام الا بالتلبية سواء كان لعمرة التمتع او لعمرة مفردة او حج التمتع او حج الإفراد الا في حج القِران فيتخير بين التلبية وبين الاشعار والتقليد، لأن كلاً من الاشعار والتقليد يوجب الاحرام كما في الصحيح، والاحوط استحباباً ضم التلبية لهما لأنها الفرد المتيقن.
الاشعار من الشعار وهو العلامة، وهو ان يطعن البدنة في سنامها الأيمن حتى يظهر الدم ويعرف انه هدي، يقال أشعر البدنة: أعلمها، وتقليد البدن وغيرها من أنواع الهدي ان يجعل في عنقها علامة تعرف بانها هدي كنعل مشى فيه الى الصلاة او غيره، قال الشاعر:
حلفت برب مكة والمُصلى

واعناق الهدي مُقلَّداتٍ

لا تجب مقارنة التلبية لنية الاحرام فيجوز ان يؤخرها عن النية ولبس الثوبين على الاقوى ما دام في الميقات، والاحوط استحباباً المقارنة بينهما.
لا يحرم عليه محرمات الاحرام قبل التلبية وان نواه وشرع فيه ولبس الثوبين، وكأن التلبية بمنزلة تكبيرة الإحرام في الصلاة، فلو فعل شيئاً من محذورات الاحرام قبل التلبية لا يكون آثماً، وليس عليه كفارة، وكذا في الذي يحج حج القِران اذا لم يأت بالتلبية او الاشعار او التقليد.
اذا نسى التلبية وجب عليه العود الى الميقات لتداركها على الاقوى، وان لم يتمكن او مع الحرج أتى بها في مكان التذكر، والظاهر عدم ترتب الكفارة عليه.
الواجب من التلبية مرة واحدة، ويستحب الاكثار منها وتكرارها ما استطاع خصوصاً في دبر كل صلاة فريضة او نافلة، وعند صعود الآكام – جمع أكمة – أي التلال الصغيرة والمواضع المرتفعة عما حولها، او نزول الاهضام – جمع هضم – وهو المطمئن من الارض وبطن الوادي، للتأسي والثواب وتعظيم شعائر الله، وعند المنام واليقظة وعند الركوب والنزول.
في الخبر عن الإمام الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من لبى في احرامه سبعين مرة ايماناً واحتساباً، أشهد الله له ألف ألف ملك براءة من النار وبراءة من النفاق” وعنه صلى الله عليه وآله وسلم فريضة الحج التلبية.
يستحب للرجال الجهر بالتلبية والإتيان بها بصوت واحد دون النساء الا اذا علمت المرأة ان الأجنبي لا يسمعها ، وفي المرفوعة “لما أحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاه جبرئيل عليه السلام فقال: “مر اصحابك بالعج والثج”، فالعج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: نحر البدن، وقيل بوجوب الجهر بالتلبية للرجال.
يستحب الجهر بالتلبية لمن احرم عن طريق المدينة عند بلوغ البيداء وهي ارض مخصوصة بين مكة والمدينة تبعد عن ذي الحليفة ميلاً باتجاه مكة، ومن احرم من مكة يستحب له تاخير الجهر بها الى حين بلوغ الرقطاء وهو موضع دون الردم، والردم حاجز يمنع السيل عن البيت الحرام ويعبر عنه بالمدعي الى ان يشرف على الأبطح وهو مسيل مكة وفيه دقائق الحصى واوله عند منقطع الشعب بين وادي منى وآخره متصل بالمقبرة التي تسمى عند أهل مكة “المعلى”، أما من جاء عن طريق آخر فيؤخر الجهر حتى يمشي قليلاً( ).
وعندما أقترب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة لأداء عمرة القضاء خرج عدد من رؤساء الشرك إلى الجبال والتلال ، حنقاً وحسداً وامتناعاً عن رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يطوفون بالبيت ، بينما دخل السرور بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة إلى بيوت بين هاشم ، وعوائل المهاجرين والمسلمين والمسلمات الذين كانوا يخفون إسلامهم وهم في مكة لبيان أن عمرة القضاء هذه من مصاديق الفتح الذي وصف الله عز وجل به صلح الحديبية بقوله [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، ولم يرد لفظ (فتحنا لك) في القرآن إلا في هذه الآية المباركة ، وسميت السورة باسم سورة الفتح ومن آيات هذه السورة ما يخص عمرة القضاء كما في قوله تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
والمختار أن الآية أعلاه أعم من أن تختص بعمرة القضاء إنما هي بشارة لأجيال المسلمين المتعاقبة بازاحة عقبة استحواذ كفار قريش على ولاية البيت الحرام ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا في كل زمان انا فتحنا لك فتحاً قريبا.

علة نفير قريش لبدر
لقد خرجت قريش يوم بدرطلباً لسلامة قافلة أبي سفيان ، ولعلها سبب ظاهر والمراد الإجهاز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه, وخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يومئذ في كتيبة للاستطلاع ، وإعلان النبوة وإراءة القبائل سنخية الإسلام بأداء الصلاة خمس مرات في اليوم ، والتنزه عن المعاصي والسيئات ، ليلتقوا من غير ميعاد في بدر ، وينصر الله الإسلام ، ويهزم الكفر والضلالة .
ويقتضي قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) عدم ميل الناس في أي زمان حتى يومنا هذا لكفار قريش أو يأسف عليهم ، وقطع هذا الميل من مصاديق الآية أعلاه ، وعمومات العبادة ، وأسباب الخزي الذي لحق الذين حاربوا النبوة والتنزيل .
وورد قوله تعالى [لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً] ( ) مرتين في القرآن في آيتين متجاورتين وهما الآية 42 والآية 44 من سورة الأنفال ، مع إتحاد موضوع الآيتين ، وهو وقائع معركة بدر وفضل الله عز وجل على المسلمين في مقدمات المعركة .
ويحتمل الأمر في الآيتين وجوهاً :
الأول : إتحاد الأمر في الآيتين .
الثاني : التعدد في الأمر ، فالأمر في قوله تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ] ( ) يختلف عن الأمر في الآية المتقدمة .
الثالث : تعدد معنى الأمر في كل من الآيتين بلحاظ أنه اسم جنس .
والمختار هو الثالث ،إذ فتح الله بمعركة أحد سبل الهدى للناس ، وأزاح عقبة بالحاق الخزي بالرؤساء الذين كانوا يحاربون النبوة ، وهو معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يقدر عليها إلا الله عز وجل لإنعدام أسبابها المادية ، فقد اتخذ رؤساء قريش صيغ الإحتراز من الخسارة والهزيمة ، وكانوا على علم بعدد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقلتهم والنقص في أسلحتهم ، فأرادوا الإجهاز عليهم قبل ازدياد ومضاعفة عدد الصحابة ، ودخول الناس الإسلام ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) .
ومن مكر الله عز وجل إرجاع كيد المشركين إلى نحورهم ، وجعلهم يفرون وسط المعركة خائفين مذعورين ، وفيه نفع لهم ، فأغلب الذين إنهزموا من المشركين يوم بدر دخلوا الإسلام سواء قبل فتح مكة أو بعدها .
وفي الآيتين بيان لإمضاء مشيئة الله وفق قواعد الحكمة الإلهية في الأسباب والنتائج ، بما قدّر الله سبحانه من نصر الأنبياء ودحر الكفر ، قال تعالى [وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
من الحجة بمعركة بدر
هل يختص قوله تعالى [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ] ( ) بالذين حضروا معركة بدر من المشركين ، الجواب لا ، إنما موضوع الآية أعم ، لذا تفضل الله وسمّى معركة بدر في الآية السابقة [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( ) لما فيه من التمييز بين الحق والتنزيل ، ومصاحبة نصر الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ودحر أرباب الشرك ، ولحوق الذل والخز بأهله .
وتبين الآية أن واقعة بدر حجة من جهات :
الأولى : إنها حجة على الذين حضروا معركة بدر من المشركين.
الثانية : وقائع وخاتمة معركة بدر زاجر للمشركين عن إعادة التعدي وغزو المدينة مرة أخرى .
الثالثة : في وقائع معركة بدر وانتصار المسلمين فيها دعوة للناس لدخول الإسلام .
الرابعة : لقد كانت القبائل تخشى قريشاً فتمتنع عن تصديق ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأنعم الله عز وجل على الناس بمعركة بدر من وجوه :
الأول : المشركون هم المعتدون .
الثاني : حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على إجتناب القتال مع أن نصره وأصحابه مكتوب من عند الله لقوله تعالى [لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً] ( ) .
ولو لم ينتصر المسلمون في معركة بدر فهل من سبب ونوع طريق مستحدث يحقق ذات النتائج والغايات الحميدة ، الجواب نعم ، فلا تستعصي على الله مسألة .
الثالث : تجلي آيات المدد الملكوتي للمسلمين للناس يوم بدر ، وأستصحاب هذا المدد في معارك الإسلام اللاحقة .
الرابع : بعث الطمأنينة في نفوس الذين يدخلون الإسلام ، فلا يخشون الهزيمة والإنكسار .
وهل آية البحث[إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ]( )من آيات الدفاع التي يشملها القانون الذي اختص به هذا الجزء ، وهل تدل وتدعو إلى السلام الدائم ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : إضطرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقتال ، وهم كارهون له .
الثانية : اقتران النصر بقتال النبي لأنه دفاع محض ، ولأن الله عز وجل ينصر الرسل ، قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ( ).
الثالثة : لقد وقعت معركة بدر لتكون برزخاً دون القتال في الجزيرة ، سواء القتال بين القبائل أو القتال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين المشركين من جهة أخرى .
نعم لم ينزجر المشركون بمعجزات معركة بدر ، فجهزوا الجيوش لمعركة أحد ، ثم الخندق ، ليتم فتح مكة وينقطع دابر الكافرين .
وهل من موضوعية لمعركة بدر ونتائجها في فتح مكة ، الجواب نعم ، فقد ابتدأت علامات هذا الفتح من حين هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم معركة بدر ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ] ( ).
وتدل صيغة الفعل المضارع [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ] ( ) على قتل عدد من المشركين ، وموت عدد منهم على الكفر والجحود مع بلوغ دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبراهينها لهم ، وقيام الحجة عليهم .
وأختتمت آية البحث بثلاثة من الأسماء الحسنى هي :
الأول : اسم الجلالة (الله) .
الثاني :سميع .
الثالث : عليم .
لبيان أن الله عز وجل سمع دعاء واستغاثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر فنصرهم بالملائكة وبآية من عنده .
والإجماع على أن الملائكة قاتلوا يوم بدر ، وأختلف في قتالهم يوم أحد والخندق ، والأصل الإستصحاب أي القتال ، ومن الشواهد عليه قال ابن عباس (بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ إذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتُ الْفَارِسِ فَوْقَهُ يَقُولُ أَقْدِمْ حَيْزُومَ إذْ نَظَرَ إلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ مُسْتَلْقِيًا ، فَنَظَرَ إلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ وَشُقّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السّوْطِ فَاخْضَرّ ذَلِكَ أَجْمَعُ فَجَاءَ الْأَنْصَارِيّ فَحَدّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ صَدَقْتَ ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السّمَاءِ الثّالِثَةِ) ( ) ولابد أن ابن عباس سمع هذه الواقعة من أحد الصحابة من البدريين أو بالواسطة والأرجح الأول .
وكان عمر ابن عباس يوم بدر خمس سنين أي أنه ولد في السنة الثالثة قبل الهجرة النبوية ، ووقعت معركة بدر في السنة الثانية للهجرة ، وكان في مكة ، نعم كان ابن عباس فيما بعد يطلب العلم والحديث من الصحابة ، ويسمع الحديث والخبر من أكثر من واحد منهم، وربما سأل بالخبر الواحد ثلاثين من الصحابة .
وروى له نحو (660) حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان له مجلس في المسجد النبوي يعطي فيه الدروس والمواعظ ، وخصص يوماً للتفسير ، وآخر للفقه ، ويوماً للشعر وأيام العرب .
ولقد أسر أبوه العباس بن عبد المطلب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ، ولولا ثبوت هذا الخبر في السنة لم يتوقع أحد أن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسير عنده ، بينما عمه الآخر حمزة بن عبد المطلب يقاتل إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام علي عليه السلام في أول الصفوف.
ومن الإعجاز الغيري في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اذ كان أول المبارزين لقتال المشركين .
قال إبن إسحاق بخصوص نفير قريش إلى معركة بدر : فكانوا أي رجال قريش بين رجلين اما خارج واما باعث مكانه رجلا وأوعبت قريش فلم يتخلف من اشرافها احد الا ان ابا لهب بن عبد المطلب قد تخلف وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة وكان قد لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه أفلس بها فاستأجره بها على ان يجزي عنه بعثه فخرج عنه وتخلف أبو لهب)( ).
وحينما عزمت قريش الخروج إلى بدر خشيت من غزو بني بكر على مكة وتدل القرائن على أن قريشا خرجوا جميعاً بإستئناء قلة من الرجال والمشايخ الذين يعجزون عن الدفاع عن مكة أمام أي طارئ أو غزو .
ومنذ أن جاء ضمضم بن عمرو رسولاً من أبي سفيان إلى أهل مكة يستنفرهم لإنقاذ قافلته.
عاشت مكة أجواء النفير العام وكانوا يجتمعون في دار الندوة كل يوم وعندما أرادوا الخروج من مكة إلتفتوا إلى فراغ مكة من المقاتلين وخشيتهم عليها من أعدائهم ، فلو احتلها عدوهم قد تعجز قريش عن العودة إليها .
قال إبن إسحاق : ولما فرغوا من جهازهم وأجمعوا المسير ذكروا ما كان بينهم وبين بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا)( ).
لقد خشيت قريش من هجوم بني بكر لثأر وحرب بينهم وبين قريش وسببها :
أن رجلاَ من بني بكر قتل قرشياً وهو ولد لحفص بن الأخيف، فقام أخوه مكرز بن حفص بأخذ ثأره إذ قتل عامر بن يزيد بن عامر بن الملوح بلحاظ أنه هو الذي حرّض على قتل أخيه، وكان عامر وجيهاً في بني بكر، وعندما قتله مكرز بن حفص مثّل به، وخاض بسيفه في بطنه، وفي الليل قام بتعليقه بأستار الكعبة، مما أغاظ بني بكر، وزاد في الأحقاد.
قال إبن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: لما اجمعت قريش المسير ذكرت الذى كان بينها وبين بنى بكر، فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجى، وكان من أشراف بني كنانة، فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تكرهونه.
فخرجوا سراعا قلت: وهذا معنى قوله تعالى : ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط. وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم)( ).

سعي قريش للثأر والإنتقام ( كتيبة بدر الموعد )
لما هدد أبو سفيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم معركة أحد صارخاً (موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا . فقال محمد صلى الله عليه وآله وسلم : عسى . فانطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لموعده حتى نزل بدراً فوافوا السوق فابتاعوا ، فذلك قوله { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء }( ) وهي غزوة بدر الصغرى) ( ).
وفي خبر مجاهد أعلاه مسائل :
الأولى : المختار أن الآية أعلاه نزلت في حمراء الأسد وكذا الآية التي قبلها وهي قال تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( )، عندما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه متعقبين جيش المشركين الذي غادر معركة أحد عندما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم يريدون الرجوع إلى القتال والإغارة على المدينة .
وليس من مانع بتجدد مصاديق الآية أعلاه في واقعة بدر الصغرى وغيرها .
الثانية : سعي قريش المتجدد للثأر لأصحابهم يوم بدر ، فلم يكتفوا بقتل سبعين من الصحابة يوم معركة أحد .
الثالثة : تسمية خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر بالغزوة ، وهو لم يغز ولم يقاتل ، فليس من قرية أو بلدة دخلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ، إنما خرج ومعه (1500) من الصحابة في سرية إستطلاع وإقامة للصلاة في أفواه القرى .
بناء على موعدة أبي سفيان الذي لم يصل إلى بدر في ذات الموعد .
لقد سمع الجيشان وعيد أبي سفيان باللقاء في العام القادم ، إذ قال (موعدكم وإيانا بدر العام المقبل ) فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه أن يقولوا له نعم ، ونعم هذه من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
واستعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول ، مع أنه انخزل بثلث جيش المسلمين يوم معركة أحد ، وقيل إنما استخلف يوم بدر الموعد عبد الله بن رواحة.
ففي شهر شعبان من السنة الرابعة وقيل هي في شهر ذي القعدة من ذات السنة خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أتى بدراً الموضع الذي نصر الله فيه رسوله وأصحابه ، وأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ثماني ليالي بانتظار جيش المشركين ، ولكنهم لم يصلوا إلى بدر .
إذ خرج أبو سفيان ومعه (2000) فلما ساروا قليلاً بدا لهم الرجوع بذريعة أنها سنة جدب وعن (ابن عباس قال: إن الله قذف في قلب أبى سفيان الرعب يوم أحد بعد الذى كان منه، فرجع إلى مكة، وكانت وقعة أحد في شوال، وكان التجار يقدمون في ذى القعدة المدينة فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد) ( ).
أما أبو سفيان وجيش المشركين وعددهم ألفان فانهم خرجوا من مكة على الموعد الذي حددوه ، حتى نزلوا مجنة من ناحية الظهران فتناجوا بالرجوع ، ولم يبتعد الجيش عن مكة إلا مرحلة واحدة ، (قَالَ لَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ : إنّ الْعَامَ عَامُ جَدْبٍ وَقَدْ رَأَيْتُ أَنّي أَرْجِعُ بِكَمْ فَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ وَأَخْلَفُوا الْمَوْعِدَ فَسُمّيَتْ هَذِهِ بَدْرَ الْمَوْعِدِ وَتُسَمّى بَدْرَ الثّانِيَةِ )( ).
وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) ورجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة وأقام بها إلى تمام السنة الرابعة للهجرة ثم خرج إلى دومة الجندل في شهر ربيع الأول من السنة الخامسة للهجرة .
(واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة. وانصرف عليه السلام من طريقه قبل أن يبلغ دومة الجندل، ولم يلق حرباً)( ).
ومع هذا تسمى في كتب السيرة غزوة دومة الجندل ، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل إليها ، ولم يلق قتالاً .
لا سطوة لقريش
قال (عتبة بن ربيعة يوم بدر لاصحابه ألا ترونهم يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جثيا على الركب كأنهم حرس يتلمظون كما تتلمظ الحيات)( ). وفيه دعوة لأصحابه لإجتناب القتال .
وكان عتبة بن ربيعة وهو في مكة حينما سمع آيات من القرآن قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا قوم قد علمتم أني لم أترك شيئا إلا و قد علمته و قرأته و قلته و الله لقد سمعت قولا و الله ما سمعت مثله قط ما هو بالشعر ولا بالسحر و لا بالكهانة.
وقال النضر بن الحارث نحوه وفي حديث إسلام أبي ذر ووصفه لأخيه أنيس فقال : و الله ما سمعت بأشعر من أخي أنيس لقد ناقض اثني عشر شاعرا في الجاهلية أنا أحدهم و إنه انطلق إلى مكة و جاء إلى أبي ذر بخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
قلت( ) : فما يقول الناس .
قال : يقولون : شاعر : كاهن ساحر لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ولقد وضعته على أقراء الشعر فلم يلتئم وما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر وإنه لصادق وإنهم لكاذبون( ) لبيان إعجاز القرآن لفظاً وبلاغة ونظماً ودلالة .
لقد أخذت قريش العصبية وأبوا تصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم تكن قريش وحدها في الجزيرة سواء في الفروسية أو العلم أو الشأن والمكانة ، ولم تكن لها سطوة على القبائل والأشخاص لمنع الإقرار بنزول القرآن ، فهناك أهل اليمن ويثرب والطائف والقبائل والبوادي ، لذا تصدى الخزرج والأوس لإيواء ونصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
رؤساء من قريش سعوا وخططوا لقتل النبي (ص)
لقد حرص المشركون يوم أحد على تنفيذ الغاية الخبيثة التي جاءوا من أجلها وهي قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل كانت عندهم خطة وتدبير في كيفية قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يتوجه له جماعة ، أو يفصلونه عن أصحابه وحرسه الذين يحيطون به .
المختار نعم ، وكان عدوه جماعات منفصلة ، كل جماعة تسعى يوم أحد لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ] ( ) .
وهل يمكن القول : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية سلامته من القتل يوم معركة أحد ، الجواب نعم .
خاصة وأن قريشاً أهل خبرة في شؤون القتال ، وعندهم تأريخ المعارك بين كل من :
الأول : القبائل العربية فيما بينها , والقتال بينها وبين غير العرب .
الثاني : أخبار الأمم المجاورة كالدولة الرومانية , والدولة الفارسية .
الثالث : حوادث الإغتيال والغدر ، إذ كانت قريش تسعى في اغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة وبعدها .
ووثق التأريخ عدداً من هذه المحاولات ومشاركة بعض رؤساء قريش في تدبيرها مثل :
أولاً : أبو جهل واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي ، والذي قتل في معركة بدر وعمره (52) سنة.
ثانياً : أبو سفيان بن حرب (واسم أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصى بن كلاب) ( ).
ثالثاً : صفوان بن أمية بن خلف الجمحي ، إذ قُتل أبوه أمية بن خلف في معركة بدر كافراً وكذا أخوه علي ، وطعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمه أبي بن خلف بالحربة في معركة أحد طعنة فجرح جرحاً بليغاً ، فمات في جرحه قبل أن يصلوا إلى مكة عند إنسحابهم من معركة أحد خائبين .
وبعد معركة بدر حرّض صفوان بن أمية الجمحي عمير بن وهب وهو من بني جمح أيضاً على الذهاب إلى المدينة واغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر .
وأغراه بالمال وقضاء ديونه ، وضم بناته إلى عياله إذا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان ساخطاً لأن ابنه اسير عند المسلمين مع أن أسرى بدر لم يلقوا إلا اللطف وحسن المعاملة ، وكان عمير بن وهب هو الذي حرز ، وأحصى عدد المسلمين يوم معركة بدر ، أحد شياطين قريش ، وأدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوشحاً سيفه( ) وجلس عدد من الأنصار عند النبي للإحتراز .
وهل دخول هذا المشرك على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متوشحاً سيفه باذن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يريد قتله واغتياله معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب نعم ، وقد تقدم تفصيل لقائه بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أدرك صدق النبوة ، وأول ما ابتدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن قال أنعم صباحاً وهي تحية الجاهلية (فقال رسول الله: ” قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة ” قال: أما والله يا محمد إن كنت بها لحديث عهد.
قال: ” فما جاء بك يا عمير ؟
قال: جئت لهذا الاسير الذى في أيديكم فأحسنوا فيه.
قال: ” فما بال السيف في عنقك ؟
قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت شيئا !.
قال: اصدقني ما الذى جئت له ؟
قال: ما جئت إلا لذلك.
قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لو لا دين على وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك
” فقال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحى، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فو الله إنى لاعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذى هداني للإسلام وساقني هذا المساق) ( ).
وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخبار من الغيب جاء بالوحي ، وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما اذن لعمير بن وهب ان يدخل عليه بسلاحه يعلم أنه سيدخل الإسلام ، المختار نعم .
وفي تهديد أبي بن خلف المتكرر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهاً لوجه وقصد قتله يوم أحد شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً ولا يريد القتال .
إن ابياً هذا هو الذي أراد قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكثيراً ما كان يهدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة قبل الهجرة بأنه سيقتله .
وكان كلما لاقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول له (يا محمد إن عندي العود، أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه ! فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بل أنا اقتلك إن شاء الله) ( ).
ليكون تقدير كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنك تهجم علي وتريد قتلي فاقتلك دفاعاً.
لقد قطعت قريش وحلفاؤها نحو أربعمائة وخمسين كيلو متر من مكة إلى المدينة لحرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم توجه أبي بن خلف نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقتله ، وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بأن معركة أحد ستقع وأنه سيقتل أبي فيها ، الأرجح أن الله عز وجل تفضل واطلعه على الغيب بخصوصها .
مما يدل على صدق تخطيطهم قبل معركة أحد لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ يعلمون بأن في قتله ينقطع التنزيل ، ويضعف ضياء الإسلام ، وقد يتفرق الصحابة (فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد .
لا نجوت إن نجوت .
فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا.
قال: دعوه، فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ، فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض بها؛ ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مراراً ) ( ).
ترى لماذا توعده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لتماديه في التهديد والوعيد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما فيه استضعاف له ومحاولة لصد الناس عن دخول الإسلام .
عندئذ رد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه وتوعده ، ليكون في هذا الوعيد إخبار عن استحقاقه القتل لشدة إيذائه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .

من آيات معركة بدر
لقد ورد لفظ (بدر) مرة واحدة في القرآن في توثيق سماوي لمعركة بدر ، وغيرها من معارك الإسلام الأولى ، بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) .
ولم يرد لفظ (أُحد) في القرآن ، ولكن أسباب وموضوع النزول تدل على إرادة تلك المعارك ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة نزول آيات خاصة بكل من تلك المعارك .
ومن الآيات التي نزلت بخصوص معركة بدر
الآية الأولى : قوله تعالى [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
تتضمن الآية أعلاه بيان موضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر ، ويدل عليه الآية السابقة لها , والتي تخبر عن التقاء الجمعين بقوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
إذ ذكرت الآية أعلاه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي نزول القرآن عليه عند التقاء الصفين في أول معركة للإسلام .
ومع حال الشدة والحرج للصحابة يومئذ لأنهم قلة ليس عندهم سلاح كاف يواجهون جيشاً أكثر من ثلاثة أضعاف عددهم ، مدججين بالسلاح ومعهم مائة فرس, إلى جانب الإبل الكثيرة فان الصحابة مع ضعفهم يتلقون نزول الآية القرآنية بالشوق والتدبر والرضا والأمل .
وكانت كل آية تنزل من عند الله سلاحاً سماوياً ، ومقدمة لنزول الملائكة لنصرتهم .
وابتدأت الآية أعلاه بذكر الغنائم وأن خمسها لله والرسول وذي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل .
وهل نزلت الآية أعلاه قبل معركة بدر لتكون بشارة النصر في المعركة أم انها نزلت بعدها .
الجواب إنها نزلت بعد المعركة ، وتدل عليه صيغة الماضي [غَنِمْتُمْ]
ومنها [أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ] و(عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قتل قتيلاً فله كذا ، ومن جاء بأسير فله كذا . فجاء أبو اليسر بن عمرو الأنصاري بأسيرين ، فقال : يا رسول الله إنك قد وعدتنا .
فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله إنك إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك أن يأتوك من ورائك .
فتشاجروا فنزل القرآن {يسئلونك عن الأنفال}( ) وكان أصحاب عبد الله يقرأونها {يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فيما تشاجرتم به} فسلموا الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونزل القرآن [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ]( )، إلى آخر الآية)( ).
وقد تقدم قانون (كل آية فرقان) ( )، وهل نسخت الآية أعلاه قوله تعالى [قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، بأن يقسمها الله ورسوله بالوحي كيف يشاء ، أو يهب منها ، أم أن آية الأنفال أعلاه محكمة غير منسوخة مع اختلاف في معنى الفيء والغنيمة ، الجواب هو الثاني , وفي النسبة بين الفيء والغنيمة أقوال :
الأول : الغنيمة ما أصاب المسلمون عنوة بقتال ، أما الفيء فهو ما كان من صلح بغير قتال .
الثاني : إتحاد معنى الفيء والغنيمة .
الثالث : (قال الحسن بن صالح : سألت عطاء بن السائب عن الفي والغنيمة فقال : إذا ظهر المسلمون على المشركين على أرضهم فأخذوه عنوة فما أخذوا من مال ظهروا عليه فهو غنيمة. وأمّا الأرض فهو في سواد هذا الفيء)( ).
الرابع : مطلق ما يغنمه الإنسان مما يكسبه من التجارة أو الهبة أو الحرب.
وأختلف في [الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ]( ) في الآية على قولين :
الأول : يتامى ومساكين بنو هاشم .
الثاني : يتامى المسلمين الذين هلكوا والمساكين أهل الفاقة من المسلمين وابن السبيل المسافر المنقطع ،وهو المختار .
وقوله تعالى [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا]( )، خطاب موجه إلى أهل بدر يوم المعركة والمراد من العدوة وهي جانب وحافة الوادي والدنيا تأنيث الأدنى أي القريبة من جهة المدينة.
[وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى]( )، أي جيش المشركين في جانب الوادي الذي من جهة مكة ، وذكرت الآية قافلة أبي سفيان بصفة (الركب) أي العير والقافلة وأنه قريب من المسلمين وفي الساحل وتبعد نحو ثلاثة أميال ، قادمة من الشام متوجهة إلى مكة .
وهو من إعجاز القرآن بتعيين مواضع القوم ، والإخبار عن وقوع القتال، لإصرار المشركين على القتال وقد تم اللقاء بين الجيشين من غير اتفاق أو موعد ، لبيان مسألتين وهما :
الأولى : عدم سعي المسلمين للقتال ، وأنهم لم يخرجوا لملاقاة القوم .
الثانية : إصرار الذين كفروا على القتال .
ويحتمل قوله تعالى [لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ]( ) وجوهاً :
الأول : اختلاف الصحابة والمشركين في الميعاد ، إذا تواعدوا باللقاء للقتال في بدر .
الثاني : اختلاف الصحابة فيما بينهم للخشية من ملاقاة قريش وجنودها بخيلائها .
والمختار هو الأول ، لبيان مسألة وهي أن الله عز وجل جعل هذا اللقاء المفاجئ والعرضي سبباً لنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بينما كان الصحابة يترددون في اللقاء فشاء الله عز وجل أن يجمع بين الجيشين من غير اتفاق أو ميعاد.
وهل يحتمل إختلاف الصحابة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا ، فمن مصاديق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تسليم الصحابة بما ينزل عليه من عند الله عز وجل ، وهم يدركون أن الوحي مصاحب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن جندب البجلي قال : اشتكى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً فأتته امرأة فقالت : يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك لم تره قربك ليلتين أو ثلاثاً ، فأنزل الله { والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى } ( )) ( ).
[لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً]( )، أي ليتحقق نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهزيمة الكفار والمشركين بما كسبت أيديهم ، واصرارهم على محاربة النبوة والتنزيل .
وفي قوله تعالى [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ]( )، وجوه :
الأول : هلاك وقتل رؤساء وأقطاب من المشركين يوم بدر عن حجة .
الثاني : هلاك المشركين بالإقامة على الكفر فمن لم يقتل منهم في معركة بدر هو أيضاً هالك لأنه اختار الكفر .
ولم تشر الآية إلى القافلة من جهة العواقب لبيان موضوعية العقيدة في تحديد منهاج الحياة بنجاة أهل الإيمان وهلاك الذين كفروا.
ولا تعارض بين الوجهين لورود الآية بصيغة المضارع ولام التعليل والإخبار عن تحقق الهلاك بقوله تعالى [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ].
وتقدير الآية ليُقتل الكفار يوم بدر بعد قيام الحجة عليهم .
الثالث : إقامة الحجة على الذين بقوا على الكفر وأصروا عليه
ترى ما هي البينة التي تذكرها آية البحث على نحو متكرر بقوله تعالى [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ] ( )الجواب من وجوه :
الأول : المعجزات الحسية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : آيات القرآن النازلة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر فهو بينة ومعجزة .
الرابع : سقوط عدد من رؤساء قريش قتلى في معركة بدر بينة وحجة وزاجر عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فقتلهم حجة عليهم ، وهو حجة على الذين أقاموا على الكفر من بعدهم ، ليكون من معاني [لِيَهْلِكَ] وجوه :
الأول : من قتل يوم بدر .
الثاني : الذي سيقتل من المشركين يوم معركة أحد .
الثالث : الذي بقى على الكفر إلى أن غادر الدنيا ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] ( ).
الرابع : الإنذار للذين يولدون لآباء من الكفار ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ]( ).
ترى كيف كانت معركة بدر بالذات بينة وحجة ، الجواب من وجوه :
الأول : عزم المشركين على القتال على نحو الحتم ، فجاءتهم الخسارة لبيان قانون وهو لا يجلب الإصرار على قتال الأنبياء إلا الخسران العاجل .
الثاني : سرعة وقائع المعركة بما أدى إلى هزيمة المشركين .
الثالث : نصر المسلمين مع قلة عددهم ، والنقص الظاهر في أسلحتهم .
لقد كانت نتائج معركة بدر خزياً لقريش بين العرب ، ليدرك الناس أن هزيمة قريش خلاف حسابات الربح والخسارة في القتال ، قال تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ).
وموضوع الآية أعلاه جنود الملك طالوت من بني إسرائيل ومحاربتهم لجالوت والجبارين من قومه بعد أن انقطع نسل الأنبياء في بني إسرائيل ، وجرى فيهم حكم الملوك ، ومنهم من أذاق بني إسرائيل الأذى والجور ، ليظفر بهم أعداؤهم ويوغلوا في دمائهم ، وكان عند بني إسرائيل التابوت يقاتلون دونه ، كما في التنزيل [وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) .
وتعرض بنو إسرائيل للهزيمة في بعض حروبهم مع أهل غزة ،وملك لبنان ، وعسقلان ، ومات ملك بني إسرائيل كمداً لما لحقهم من الخسارة ، وقيل استمرت حالهم هذه أربعمائة سنة ، فضجوا بالدعاء وسألوا الله أن يبعث فيهم نبياً ، فبعث الله شمويل بن بالي ، وفي سفر القضاء :
(6: 3 و اذا زرع اسرائيل كان يصعد المديانيون و العمالقة و بنو المشرق يصعدون عليهم
6: 4 و ينزلون عليهم و يتلفون غلة الارض الى مجيئك الى غزة و لا يتركون لاسرائيل قوت الحياة و لا غنما و لا بقرا و لا حميرا
6: 5 لانهم كانوا يصعدون بمواشيهم و خيامهم و يجيئون كالجراد في الكثرة و ليس لهم و لجمالهم عدد و دخلوا الارض لكي يخربوها
6: 6 فذل اسرائيل جدا من قبل المديانيين و صرخ بنو اسرائيل الى الرب
6: 7 و كان لما صرخ بنو اسرائيل الى الرب بسبب المديانيين
6: 8 ان الرب ارسل رجلا نبيا الى بني اسرائيل فقال لهم هكذا قال الرب اله اسرائيل اني قد اصعدتكم من مصر و اخرجتكم من بيت العبودية
6: 9 و انقذتكم من يد المصريين و من يد جميع مضايقيكم و طردتهم من امامكم و اعطيتكم ارضهم
6: 10 و قلت لكم انا الرب الهكم لا تخافوا الهة الاموريين الذين انتم ساكنون ارضهم و لم تسمعوا لصوتي) ( ).
وتكشف الآية حقيقة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يخرجوا للقتال ، ولم يقصدوا لقاء المشركين ، وسلّ السيوف ، خاصة وأن معركة بدر هذه هي أول معركة للإسلام ، إنما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى السلام ، وينشد الأمن للناس .
ويأتي هذا الأمن بالتقاء الناس على الإقرار بالتوحيد ، قال تعالى [َانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً] ( )ولو تواعد المسلمون والمشركون على موعد لقاء القتال لتخلف المسلمون عنه ، كما في قوله تعالى [لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ] ( ).
وعلة هذا الإختلاف من جهات :
الأولى : خشية المسلمين من قريش ، وكثرتهم وهيبتهم وتسخيرهم الأموال الطائلة في القتال .
الثانية : كره المسلمين للقتال ، وقد دخلوا الإسلام رغبة بالأمن والسلام.
الثالثة : تحلي المسلمين بأخلاق القرآن التي تدعو إلى السلم والسلام ، وهل يدل قوله تعالى [لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ] ( ) على قانون وهو عدم نسخ آيات السلم والصلح ، المختار نعم ، وزمان معركة بدر سابق لأوان نزول الناسخ .
ومضمون الآية الكريمة هو أن الله عز وجل أعد لكم النصر والغلبة على المشركين مع قلتكم وضعفكم في مقابل كثرتهم ، فلو اختلفتم في الميعاد لم يتحقق هذا النصر والغلبة .
ولبيان مسألة وهي أن النصر في معركة بدر أعظم نفعاً من الإستيلاء على قافلة أبي سفيان من جهات :
الأولى : نزول آية [ببدر ] وبقاؤها تتلى من قبل المسلمين إلى يوم القيامة ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
الثانية : بيان معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) .
وعن (عبد الله بن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه وهم ثلثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة ، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم مد يده وجعل يهتف بربه : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض .
فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر ، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله تعالى { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين }( ))( ).
وجاءت الآية [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ] مع أن الأخبار وردت بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص ، فهل المراد من صيغة الجمع الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقدير الآية (وإذ تستغيث ربك) الجواب لا ، لقانون استحدثناه في هذا السِفر ، وهو إذا وردت صيغة الجمع في القرآن وإرادة المفرد فهي خاصة بالله عز وجل ، ومنها قوله تعالى [وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ] ( ) وقوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ] ( ).
فالمقصود من الآية [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ] دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، نعم كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم منقطعاً إلى الدعاء مواظباً عليه إلى أن أنهزم المشركون .
ولم يرد لفظ [العدوة ] في القرآن إلا في آية البحث ، وجاء فيها على نحو متكرر ، وهل يختص الأمر بالمعنى اللفظي أم أن هذا الإنفراد لهذا اللفظ بخصوص آية البحث له دلالات ، الجواب هو الثاني ، منها :
الأولى : وقائع معركة بدر لن تتكرر أبداً .
الثانية : لا ملازمة بين التقاء الجيشين في موضع واحد وبين نشوب المعركة فقد يلتقي جيشان ثم يفرق بينهما ولا يقع قتال ، ولكن المشركين تناجوا بالقتال .
الثالثة : تأكيد موضوع القتال .
وفي قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ] ( ) مسائل :
الأولى : الإخبار السماوي عن حال المسلمين عشية وصبيحة بدر ، بتوجههم إلى الله بالدعاء ، وهل هذا التوجه من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة ، من جهة الكم والكيف والتوسل ، أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة فيها .
المختار هو الثاني ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في الإنقطاع إلى الله عز وجل بالدعاء ، وفيه دعوة عملية للمسلمين للإجتهاد بالدعاء .
الثانية : بيان قانون وهو أن دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يسقط عن المسلمين الدعاء والمسألة ، لذا قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) وفي آية البحث مصداق عظيم لإستجابة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالثة : من الإعجاز في آية البحث ذكرها الإستغاثة ، وليس الدعاء .
والمختار أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، فكل استغاثة هي دعاء ، وليس العكس.
مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا في حال كرب شديد ، وأنهم أخلصوا الدعاء ، وفيه شاهد على إيمانهم وتسليمهم بأن النصر بيد الله عز وجل ، وهذا التسليم أمر طارئ على الجزيرة وأهلها ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : الآية شاهد على أن المسلمين لم يستعدوا للقتال ، ولم يكونوا طالبين له .
الخامسة : تدعو الآية إلى السلم والسلام ، ولم يتناجَ الصحابة باشهار السيوف ، وبالحمية ، إنما التجأوا إلى الله وهم في حال مسكنة وتضرع وذل ، وهل هذا الذل عند التوجه بالدعاء من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) المختار لا ، للتباين بين الذلتين .
وتدل الإستغاثة على الإستضعاف والفاقة والحاجة ، فلم يلجأ المسلمون للإستغاثة للغزو والهجوم ، إنما استغاثوا للدفاع وصرف شرور العدو ، ولإرادة السلام الدائم .
الآية الثانية : قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
لم يرد لفظ[تَنصُرُوهُ] في القرآن إلا في الآية أعلاه وظاهر نظم وسياق الآيات أن الضمير (الواو) عائد إلى عامة المسلمين والناس جميعاً بلحاظ أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عامة ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ).
والقدر المتيقن من الآية ذكر تخلف الناس عن نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة ، ليكون من معاني [إِلاَّ تَنصُرُوهُ] وجوه :
الأول : الذم والإنذار للذين عادوا وحاربوا النبي محمداً من كفار قريش حتى جعلوه بحاجة إلى النصرة , وأخرجوه من مكة قهراً ، بدل نصرتهم له وهو عشيرته , لذا توجه لهم اللوم والتوبيخ فقال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ] .
الثاني : تحذير المسلمين من عدو للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يريد البطش به .
الثالث : اللوم للذين امتنعوا عن نهي الكفار عن إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن سعيهم للمكر به .
الرابع : بيان حال الإستضعاف التي عليها المسلمون في مكة إذ يعجزون عن الذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، مع تواتر الأخبار في مكة أن قريشاً يريدون قتله أو سجنه ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
لذا فان الآية لا تتضمن اللوم للمسلمين والمسلمات الذين في مكة ، إنما تكشف عن ضعفهم وعجزهم ونصرة الله لهم ، بلحاظ قانون وهو نصرة الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما هي نصرة للإسلام والمسلمين , وتجلت بالأمر من الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة .
وتبين الآية حتمية نصر الأنبياء وأن تخلى عنهم الناس ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) ولم تقل الآية : أليس الله بكاف نبيه ، لإفادة العموم وأن الله يدفع عن المؤمنين وعامة الناس برحمة ولطف منه تعالى .
وذكرت الآية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة العبودية لله عز وجل ،ووردت آيات أخرى في ذات الموضوع بصفة النبوة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]( ) وقال تعالى [فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
وفي الآية وعد من الله عز وجل بظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه من المشركين , لأن الله عز وجل يريد إقامة دولة النبوة والحق والعدل ، وتنزيه الأرض من عبادة الأوثان ، وحينما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ليس معه جيش ولا أسلحة ، ولم يخرج معه نفر من المسلمين لحمايته والذب عنه ، إنما خرج ومعه أحد أصحابه كما تخبر عنه آية البحث كوثيقة سماوية إلى يوم القيامة .
(عن أبي بكر أنه قال : ما دخلني اشفاق من شيء ولا دخلني في الدين وحشة إلى أحد بعد ليلة الغار ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رأى اشفاقي عليه وعلى الدين ، قال لي هوّن عليك ، فإن الله قد قضى لهذا الأمر بالنصر والتمام) ( ).
الآية الثالثة : قال تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ).
هذه الآية الكريمة من الآيات التي تبين قانوناً وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد القتال في معركة بدر ، ولم يخرج هو وأصحابه للقتال وملاقاة جموع المشركين ، وهو الذي يعلم ببطش وهيبة قريش بين القبائل .
وسيأتي البيان والتفصيل في الجزء التالي وهو الثامن عشر بعد المائتين إن شاء الله .
الآية الرابعة : قال تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الآية الخامسة : قال تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ]( ).
الآية السادسة : قال تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ]( ) وعن (ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أصاب ما أصاب من بدر ورجع إلى المدينة ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال : يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشاً فقالوا : يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً ولا يعرفون القتال ، إنك والله لو ما قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، وأنك لم تلق مثلنا . فأنزل الله { قل للذين كفروا ستغلبون }( ) إلى قوله { لأولي الأبصار }( ))( ).
الآية السابعة : قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ]( ).
الآية الثامنة : قال تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ]( ).
الآية التاسعة : قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( ).
الآية العاشرة : قال تعالى [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الآية الحادية عشرة : قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الآية الثانية عشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) لبيان حقيقة وهي وقوع الأسرى بيد المسلمين في معركة بدر مع قلة عددهم .
الآية الثالثة عشرة : قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
قانون الآية القرآنية عون للنبوة
لما أراد الله عز وجل إظهار دينه جعل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتصف بخصال وصفات حميدة منها تلقي آيات القرآن التي أدرك العرب أنها لم تنزل من قبل ، ولا تنزل بعده ، وفيه دعوة لهم للإمتناع عن قتاله لأن الله عز وجل يحفظه ويجنبه القتل إلى أن يتم نزول آيات وسور القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) حتى على اختصاص الحفظ بذات آيات القرآن فمن معانيه تنزيله وحفظه في الأرض بواسطة تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له ، وتوارث المسلمين لهذه التلاوة , والعمل بمضامينها جيلاً بعد جيل إلى يوم القيامة .
ومن الشواهد اليومية على هذا الحفظ تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات وسور من القرآن سبع عشرة مرة في اليوم والليلة على نحو الوجوب العيني في الصلاة اليومية ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ).
وفيه الأجر والثواب ، ففي قراءة كل حرف من كلماته عشر حسنات.
وهل لقراءة القرآن في الصلاة وحال الخشوع فيها أجر إضافي أم ذات العشر حسنات سواء قرأ المسلم في الصلاة أو خارجها .
الجواب هو الأول ، ليضاعف الله عز وجل الأجر والثواب على كل حرف من القرآن ، وهو من عمومات الأضعاف في قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ) وإن كانت الآية أعلاه بخصوص الإنفاق ، ولكنها تدل على مضاعفة الأجر والثواب للسعي في سبيل الله ، ومنه التلاوة وما فيها من الإنفاق من الوقت والجهد في الصلاة .
لقد جاء الأنبياء السابقون بالمعجزات الحسية التي آمن معها طائفة من الناس بنبوتهم ، وانقطعت تلك المعجزات بمغادرتهم الحياة الدنيا لأنها لا تجري إلا على أيديهم .
كل نبي يختص بمعجزاته ، وهي حجة في زمانها والموضوع الذي يعتني به الناس آنذاك ، وبقي ذكرها وتوثيقها ، والشياع المفيد للإطمئنان على صدقها ، كما في سفينة نوح ، وعصا موسى ، ومعجزات عيسى عليه السلام ، كما ورد في التنزيل [وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ] ( ).
وقد تفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة آيات وسور القرآن ، وتحدى الناس بحفظها إذ أن هذا الحفظ معجزة مستقلة بذاتها ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) ولا يقدر على هذا الحفظ إلا الله عز وجل .
وفي كل زمان يدرك الناس هذه المعجزة بانبهار ، قال تعالى [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
لتكون آيات القرآن عوناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل زمان ، فقد غادر الحياة الدنيا ،ولكن معجزاته باقية إلى يوم القيامة ، قال تعالى [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ]( ) وقال تعالى [وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ]( ).
ومن الإعجاز في هذا الزمان دلالة آيات القرآن على أن الإسلام دين السلام والرحمة والعفو ،وهو الكافل لحقوق الإنسان ، وتؤكد آيات القرآن على حرمة سفك الدماء ، وتمنع من الإرهاب .
وقد وردت آيات الدفاع في القرآن ، وفيها ذكر للقتال ، ولكنه خاص بالدفاع وحال الإضطرار ، كما في قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
لتدل الآية وفقق مفهوم المخالفة أن الذين لا يقاتلونكم لا تقاتلوهم، وأن قتالكم يجب أن يكون خالصاً لوجه الله ، خالياً من التعدي والظلم والإضرار بالغير .
قانون القرآن قطعي الدلالة
من فضل الله عز وجل أن هذا السٍفر مدرسة في التفسير وشاهد على إعجاز القرآن ، وظاهرة علمية مستحدثة تملي على العلماء بذل الوسع في طلب العلم، وإستنباط المسائل والبراهين من الكتاب الذي جعله الله عز وجل [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ليكون سبباً للنماء في المال والولد عند المسلمين والبركة في عموم أرجاء الأرض ، وموضوعاً لعبادته وطاعته سبحانه.
وفيه مصداق من الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن وهو التقسيم الذي إستحدثناه في البحث الخارج الذي نلقيه على فضلاء الحوزة العلمية ومنذ سنتين بقيتا من القرن العشرين أي قبل اثنتين وعشرين سنة .
وتتصف آيات القرآن بأمرين :
الأول : قانون الثبوت القاطع .
الثاني : قانون الدلالة القطعية .
ومعنى الأول ثبوت لفظ وكلمات آيات القرآن بالرواية المتواترة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل الصحابة وأهل البيت ، ثم رواية التابعين .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على الصلاة جماعة خمس مرات في اليوم ليتلو آيات وسور القرآن في الصلاة ، فيسمعها المسلمون ، ويكون هذا السمع سبباً لحفظها وعرض ما حفظ في الصدور على ما كتب في كل من :
الأول : الرقاع : وهي القطع من الجلد أو القماش أو الورق.
الثاني : الأكتاف وعظام الحيوان وأضلاعها .
الثالث : العُسُب : وهو جريد النخل بعد اصلاحه .
الرابع : الأقتاب : وهي قطع الخشب التي توضع على البعير .
الخامس : اللخاف : وهي الحجارة .
وبالنسبة للحديث فافضل وأوثق طرقه هو المتواتر الذي يرويه جماعة عن جماعة لا يتواطئون على الكذب ، والتواتر على أقسام:
الأول : التواتر اللفظي .
الثاني : التواتر بالمعنى .
الثالث : التواتر باللفظ والمعنى .
أما بالنسبة للقرآن فان طرق حفظه متعددة منها :
الأول : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اليومية المتكررة لآيات وسور القرآن .
الثاني : قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في الصلاة اليومية وعلى المنبر، وبيانه لتفسيرها، وإستشهاده بها، وقراءة الصحابة له في مساجدهم وأسفارهم وسراياهم ، كما في قوله تعالى [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا]( ).
الثالث : كتابة الصحابة القرآن وآياته .
الرابع : دراسة جبرئيل القرآن مع النبي كل سنة مرة ، لتثبيت ألفاظه وآياته ، وعن ابن مسعود قال : كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في كل سنة مرة ، وأنه عارضه بالقرآن في آخر سنة مرتين ، فأخذته من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك العام( ).
الخامس : التواتر , طبقة عن طبقة , وجيلا عن جيل .
وحتى في مسألة القرء والإختلاف هل المراد الطهر أم الحيض فانه لا يضر في كون القرآن قطعي الدلالة ، ولكن الإختلاف في فهم اللفظ القرآني القطعي ومنشأ الإختلاف لغوي وليس في ذات النص القرآني .
والأحاديث ظنية الثبوت على قسمين :
الأول : الحديث ظني الثبوت قطعي الدلالة كخبر الآحاد الذي يفيد القطع في معناه ودلالته .
الثاني : ظني الثبوت وظني الدلالة ، كخبر الآحاد الذي مفهومه ظني .
وآيات الدفاع قطعية الدلالة ، وفيه دعوة للمسلمين للصبر في مواطن الدفاع ، وعدم الإصغاء إلى المنافقين ، ولا محاكاتهم في أعمالهم ، ومنها قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
فمن منافع آيات الدفاع وكونها قطعية الدلالة إعلان المهاجرين والأنصار عشية معركة بدر الدفاع عن النبوة والتنزيل ، ومنها مواصلة الصحابة السير مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد مع أن رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول إنخزل بنحو ثلث جيش المسلمين .
ليكون من إعجاز القرآن الغيري إدراك المسلمين لقانون وهو أن آياته قطعية الدلالة ، وفيه تخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن المسلمين، ومنع من اللبس والجهالة والغرر ، وبرزخ دون الضرر والإضرار بالذات والغير .
قانون دلالة القرآن قطعية
أي أن القرآن قطعي الدلالة في تفسيره وتأويله فلا يحتمل إلا معنى واحداً ، وهو الذي يسمى (النص) كما في قوله تعالى [لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ]( ).
وكما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) في وجوب مقدمة الطهارة للصلاة.
ومنه قوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ) .
وقد تحتمل الآية مع التفسير القطعي وجوهاً أخرى بحسب الصلة بينها وبين الآيات الأخرى ، وبيان السنة النبوية للآية القرآنية فهو من السعة والمندوحة في التأويل ، فتكون الآية القرآنية قطعية الدلالة .
ومن قطعي الدلالة في القرآن أسماء الله الحسنى وصفاته كما في قوله تعالى[الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى]( )، ومنه قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
وأما ظني الدلالة فهو الذي يحتمل أكثر من وجه ، وقد يرجع عند التحقيق الى قطعي الدلالة مثل قوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ]( )، فهل المراد من القرء هو الطهر أو الحيض ، وإن كان الإختلاف هنا لغوي وليس في دلالة الآية القرآنية.
وفي رسالتي العملية (الحجة) :
(مسألة 58) عدة المطلقة ثلاثة قروء اذا كانت تحيض كل شهر او اقل قليلاً او اكثر مما لا يصل الى ثلاثة اشهر بين كل حيض وآخر، هذا اذا لم تكن حاملاً.
(مسألة 59) المراد بالقرء الطهر الحاصل بين حيضتين ويكفي من الطهر الأول الذي يحتسب من العدة مسماه فلو طلقها ثم جاءها الحيض بعد دقيقة يعتبر طهراً، فاذا رأت بعده طهرين آخرين تتخللهما حيضة بينهما فان عدتها تنقضي برؤية الدم الثالث، فمثلاً لو قام بطلاقها في اليوم الأول من شهر شعبان، وبعد ساعة من الطلاق رأت دم الحيض واغتسلت من الحيض في اليوم الرابع منه، ثم جاءها الحيض مرة ثانية في اليوم الخامس عشر من شهر شعبان نفسه واغتسلت اليوم الثامن عشر منه، وجاءها الحيض في اليوم الأخير منه فتخرج من العدة حالما ترى دم الحيض وان لم يتم شهر كامل على طلاقها وهو خلاف المتعارف عند النساء في مدة الطهر التي غالباً ما تكون شهراً او اقل بيوم او يومين ولكننا جئنا به من باب المثال الممكن وللإلتفات والتدارك من الزوج بالرجوع اثناء العدة.
(مسألة 60) المدار في الشهور هي الشهور الهلالية، ولو وقع الطلاق في نصف الشهر فالأقوى انه لا يحتسب شهراً الا عند النصف من الشهر التالي( ).
وهل آيات السلم من قطعي الدلالة الجواب نعم ، منه قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، إذ أن لفظ (كافة) سور الموجبة الكلية ، فلا يستثنى مسلم من الدخول في السلم وتعاهد الأمن والتنزه عن الإرهاب .
والقول بأن القرآن قطعي الدلالة حاجة للناس ومنع من الإجتهاد في مقابل النص .
وقد يرد اصطلاح ظني الثبوت قطعي الدلالة ، وهو يختص في الحديث وليس القرآن ويراد منه خبر الآحاد مثلاً.
وقد يقال أن القرآن قطعي الثبوت ظني الدلالة وهذا القول شائع بين بعض أهل العلم، ولا أصل له ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عن الأئمة عليهم السلام أو الصحابة.
إنما الخلاف في المعنى والتفسير ، وفيه قولان :
القول الأول : معنى القرء هو الطهر ، وعليه الإمامية والشافعية والمالكية ورواية عن الحنابلة خاصة وأنه لايجوز الطلاق في الحيض قال تعالى [إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ]( ).
وحينما طلق ابن عمر زوجته وهي حائض ففي (حديث عبد الله بن عمر قال : طلقت امرأتي وهي حائض ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لعمر : مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلقها إن شاء ، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء)( ).
أي ليأتي الطلاق أن شاء في طهر لم يجامعها فيه .
وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام ، قال : القرء ما بين الحيضتين .
وعن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحجال ، عن ثعلبة ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : الاقراء هي الاطهار .
ورواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن يعقوب، وكذا كلّ ما قبله .
وعن علي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن اذينة ، عن زرارة ، قال : قلت لابي عبدالله عليه السلام : سمعت ربيعة الرأي يقول : من رأيي أن الاقراء التي سمى الله عزّ وجلّ في القرآن ، إنّما هو الطهر فيما بين الحيضتين ، فقال : كذب لم يقل برأيه ، ولكنّه إنّما بلغه عن علي عليه السلام ، فقلت : أكان علي عليه السلام يقول ذلك ، فقال : نعم ، إنّما القرء الطهر يقرؤ فيه الدم ، فيجمعه ، فاذا جاء المحيض دفعه( ).
القول الثاني : القرء هو الحيض ، وبه قال الحنابلة ورواية عن الحنابلة .
ومما استدل به ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (دعي الصلاة أيام اقرائك) ، أي أيام حيضك وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : فاذا جاء قرؤك فدعي الصلاة.

آيات معركة أحد إنذار وزجر للكفار لوقوع معركة الخندق
من خصائص القرآن أن كل آية منه رحمة من وجوه :
الأول : الآية القرآنية رحمة للمسلم والمسلمة .
الثاني : مجئ الآية القرآنية بالرحمة للمسلمين .
الثالث : الآية القرآنية رحمة للناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، لبيان كثرة وإفاضة مصاديق رحمة الله بتعدد أفرادها في ذات الآية الواحدة بافراد شخصية وزمانية غير متناهية تجدد كل يوم وإلى قيام الساعة .
لقد كانت آيات ووقائع معركة بدر إنذاراً للمشركين باجتناب غزو المدينة لبيان شاهد على التأريخ بأن آيات الدفاع سلام دائم ، إذ دافع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن النبوة والتنزيل بعد حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إجتناب القتال ، ولكن بعض رؤساء قريش أًصروا على القتال ، فلاقوا الهزيمة سواء في معركة بدر أو معركة أحد أو معركة الخندق .
وسيأتي قانون لقاء الذي يحارب النبوة والتنزيل الهزيمة والخزي ، قال تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ.
وقد تقدم البيان والوقائع والأحداث وكيف أنها مجتمعة ومتفرقة تدعو قريشاً للكف عن محاربة النبوة والتنزيل .
وتحلى الصحابة بالصبر وهم يرجون إجتناب القتال مع استعدادهم للدفاع فيتلقون السهام والنبال من غير رد ، إذ ينتظرون أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهم يعلمون أنه لا يبدأ قتالاً ، ويمكن تأسيس قانون وهو من علامات النبوة عدم ابتداء القتال ، إنما هو الإنذار والدعوة إلى الله .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يرصد ويراقب معسكر العدو ، ويرجو الإنفراج وعدم حدوث القتال ، وإن كان هذا الرجاء في معركة أحد أقل منه في معركة بدر ، والأصل هو العكس لوجوب إتعاظ كفار قريش من سوء عاقبة إصرارهم على القتال يومئذ ، فحينما (اصطف الناس يوم بدر قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره.
ورفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه فقال: ” يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الارض أبدا “.
فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب.
فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين.
وأقبل جبريل إلى إبليس فلما رآه، وكانت يده في يد رجل من المشركين، انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرا وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة أما زعمت أنك لنا جار ؟
قال: إنى أرى ما لا ترون، إنى أخاف الله والله شديد العقاب.
وذلك حين رأى الملائكة) ( ).
وسيأتي فصل خاص بآيات معركة أحد مع شرح موجز لكل منها ، وكيف أن كل آية حجة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأنهم كانوا في حال دفاع ، وهذا الدفاع نوع طريق لتحقيق السلام والأمن في الجزيرة ، ومن هذه الآيات :
الأولى : قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثانية : قال تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالثة : قال تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
الرابعة : قال تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
الخامسة : قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ] ( ).
قانون الإطلاق في مواعظ معركة أحد
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار التكاليف .
وهل أداء التكاليف من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) الجواب نعم لأنها عنوان الإخلاص في طاعة الله ومنهاج الثواب في الدنيا والآخرة ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
وجعل الله التكاليف واقية من الضرر في الدنيا ، ومن عذاب النار في الآخرة ، وتفضل الله عز وجل بابلاغ الناس بالتكاليف بواسطة أحد طريقين :
الأول : الأنبياء والرسل ، ومن الآيات في المقام أن أبا البشر آدم الذي أول من هبط إلى الأرض هو وحواء كان نبياً رسولاً (عن أبي ذر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المسجد فجلست.
فقال: “يا أبا ذر هل صليت؟
قلت: لا.
قال: “قم فصل”.
قال: فقمت فصليت ثم جلست.
فقال: “يا أبا ذر تَعَوَّذ بالله من شر شياطين الإنس والجن” .
قال: قلت: يا رسول الله أوللإنس شياطين؟
قال: “نعم”
قال: قلت: يا رسول الله الصلاة؟
قال: “خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر”.
قال: قلت: يا رسول الله فالصوم؟
قال: “فرض مُجْزِئ وعند الله مزيد” .
قلت: يا رسول الله فالصدقة؟
قال: “أضعاف مضاعفة”.
قلت: يا رسول الله فأيها أفضل؟
قال: “جهد من مقل أو سر إلى فقير” .
قلت: يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟
قال: “آدم” .
قلت: يا رسول الله ونبي كان؟
قال: “نعم نبي مُكلم”)( ) .
ومعنى (نبي مُكلم) أن الله عز وجل كلّم آدم قبلاً من غير واسطة الملائكة ، والله عز وجل يكلم من يشاء ، ويوحي لمن يشاء .
والوحي لغة هو الإيماء السريع والخفي ، وقيل يطلق على الإلهام الفطري ، ولكنه في القرآن إخبار وإلهام من عند الله عز وجل ، فالى جانب الأنبياء أوحى الله عز وجل إلى أم موسى ، قال تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ] ( ).
وقيل أن وحي الله إلى أم موسى وقع في المنام ، وأنه يدل على أنها ليست نبية ، ولا ملازمة بين الوحي في اليقظة وبين النبوة ، ويمكن القول أن بين الوحي باليقظة وبين النبوة عموما وخصوصا مطلقا .
فقد يوحي الله عز وجل إلى أنبيائه باليقظة ، وأحياناً بالمنام ، ولكنهم يدركون أن هذه الرؤيا من الله ، وقد يوحي الله لبعض الأئمة والأولياء باليقظة , ومنه التحديث ولكنه ليس وحي نبوة ، لبيان فضل الله عز وجل على الناس ، ومنه ما يكون مقدمة للنبوة ، وبعث النبي وإصلاح الناس لنبوته ، كما في قصة أم موسى ، قال تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ] ( ).
الثاني : الكتب السماوية النازلة من عند الله عز وجل ، فيغادر الرسول الأرض ، ولكن آيات الأحكام التي أنزلت عليه باقية قد عمل بها أصحابه قبل مغادرته الدنيا ، لتكون كنزاً وثروة وميراثاً .
الإعجاز في آيات معركة أحد
من إعجاز القرآن أن كل آية من آيات معركة أُحد على وجوه:
أولاً : إنها موعظة وحجة على الذين كفروا .
ثانياً : هي شاهد على صبر وجهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : كل آية من آيات معركة أحد دليل على قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً)
رابعاً : كل آية من آيات معركة بدر وأحد شاهد على قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب ) والذي صدرت بخصوصه الأجزاء (184-185-188-195-198-199-203-210-211) من هذا السِفر .
خامساً : كل آية من آيات معركة أحد من مصاديق قانون (آيات الدفاع سلام دائم) والذي صدر بخصوصه الجزء الثاني والأربعين بعد المائة والجزء الواحد بعد المائتين من هذا التفسير ، بالإضافة إلى هذا الجزء المبارك وهو السابع عشر بعد المائتين .
(عن قتادة ، ان رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصيبت يوم أحد ، أصابها عتبة بن أبي وقاص وشجه في وجهه ، فكان سالم مولى أبي حذيفة يغسل الدم والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : كيف يفلح قوم صنعوا هذا بنبيهم؟
فانزل الله { ليس لك من الأمر شيء }( ) الآية .
وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد : اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحرث بن هشام ، اللهم العن سهيل بن عمرو ، اللهم العن صفوان بن أمية .
فنزلت هذه الآية { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون }( ) فتيب عليهم كلهم) ( ) .
ويدل قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا في حياة يومية مستقرة ، يؤدون الصلوات اليومية الخمسة ، ويترقبون الوحي والتنزيل ، ويتدبرون في آيات الله ، ولكن باغتهم جيش المشركين فاشرفوا على المدينة لإرادة القتال ، مما يدل على أن معركة أحد هي غزو من قبل المشركين ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأهل بيته ، ومنهم يهود المدينة .
ومع هذا فان كتب السيرة والتأريخ تذكرها غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو مخالف للواقع , ولا يخلو من المغالطة .
لذا فقد صدر لنا ثلاث وعشرون جزء بخصوص قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) وهي كل من :
الأول : الجزء الرابع والستون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والستون بعد المائة .
الثالث: الجزء السادس والستون بعد المائة .
الرابع : الجزء الثامن والستون بعد المائة .
الخامس : الجزء التاسع والستون بعد المائة .
السادس :الجزء السبعون بعد المائة .
السابع :الجزء الواحد والسبعون بعد المائة .
الثامن :الجزء الثاني والسبعون بعد المائة .
التاسع :الجزء الرابع والسبعون بعد المائة .
العاشر :الجزء السادس والسبعون بعد المائة .
الحادي عشر :الجزء السابع والسبعون بعد المائة .
الثاني عشر :الجزء الثامن والسبعون بعد المائة .
الثالث عشر :الجزء الثمانون بعد المائة .
الرابع عشر :الجزء الواحد والثمانون بعد المائة .
الخامس عشر :الجزء الثاني والثمانون بعد المائة .
السادس عشر :الجزء الثالث والثمانون بعد المائة
السابع عشر :الجزء السابع والثمانون بعد المائة .
الثامن عشر : الجزء الثالث والتسعون بعد المائة .
التاسع عشر :الجزء الرابع والتسعون بعد المائة .
العشرون : الجزء السادس والتسعون بعد المائة.
الواحد والعشرون : الجزء الرابع بعد المائتين .
الثاني والعشرون : الجزء الثاني عشر بعد المائتين .
الثالث والعشرون : الجزء السادس عشر بعد المائتين .
من علامات النبوة عدم الفرار
لقد ثبت النبي محمد وسط الميدان يوم معركة أحد مع أن الذي معه من أصحابه بعدد أصابع اليدين .
وهل فيه أمارة على سلامته من القتل يوم معركة أحد بواقية من الله عز وجل , ولأن آيات وسور القرآن لم يكتمل نزولها ، الجواب نعم .
وهل هذا المعنى من البديهيات عند المؤمنين إذ يسلمون بها دون برهان ، الجواب نعم ، ومع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعرض لجراحات بالغة في معركة أحد إلا أن آيات القرآن أخبرت عن سلامته في المعركة ، إذ قال تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ( ) .
فمن معاني هذه الآية :
الأول : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم المعركة.
الثاني : بيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي عدم إنسحابه أو فراره من الميدان، وهل هو من الشواهد على نصرة الملائكة له بعد تحليه بالصبر في أحلك وأشد الأحوال ، الجواب نعم ، قال تعالى بخصوص معركة [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
الثالث : من معاني [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] ( ) أي حتى لو كان أحد الصحابة جريحاً فإنكم لا تقفون وتمدون له يد العون والمساعدة ، لذا اصطحب النبي معه عدداً من النسوة الصحابيات لعلاج الجرحى .
الرابع : عدم صيرورة جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم عائقاً دون دفاعه وجهاده وسط الميدان .
وعن أبي بكر يحدث عن معركة أحد قال (رأيت رجلا يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دونه -وأراه قال: حَميَّة فقال فقلت: كن طَلْحَةَ، حيث فاتني ما فاتني، فقلت: يكون رجلا من قومي أحب إلي، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه، وهو يخطف المشي خطفا لا أحفظه فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح .
فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وقد كسرت رَبَاعِيتُه وشُجّ في وجهه، وقد دخل في وَجْنَته حلقتان من حِلَق المِغْفَر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “عَليكُما صَاحِبَكُما”. يريد طلحة، وقد نزف، فلم نلتفت إلى قوله، قال: وذهبت لأن أنزع ذلك من وجهه.
فقال أبو عبيدة: أقسمت عليك بحقي لما تركتني. فتركته، فكره أن يتناولها بيده فيؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فَأزَمَّ عليها بِفِيهِ فاستخرج إحدى الحلقتين، ووقعت ثَنيَّته مع الحلقة، ذهبت لأصنع ما صنع .
فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني، قال: ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى، فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة، ، أحسن الناس هَتْما، فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار، فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورَمْيَة وضربة، وإذا قد قُطعَتْ إصبعه، فأصلحنا من شأنه) ( ).
وعن (عُمَر بن السائب حدثه: أنه بلغه أن مالكا أبا [أبي] سعيد الخُدْري لمَّا جرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد مَصّ الجرح حتى أنقاه ولاح أبيض، فقيل له: مُجَّه. فقال: لا والله لا أمجه أبدا.
ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظُرْ إلى هذا ” فاستشهد) ( ).
وقد نزل قوله تعالى [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] ( ).
لقد استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن أبي سلول رأس النفاق ولم يعرض عنه ، فقد استشاره في الخروج لمحاربة المشركين عندما نزلوا جبل أحد في أطراف المدينة خاصة وأنه من رؤساء الخزرج .
إذ دعاه واستشاره (فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار : يا رسول الله،
أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلاّ أصاب منّا، ولا دخلها علينا إلاّ أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟
فدعهم يا رسول الله؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من وفوقهم،
فإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا.
فأُعجب رسول الله بهذا الرأي ) ( ).
ولكن بعض الصحابة الحوا بالخروج إلى جبل أحد خاصة أولئك الذين فاتهم الحضور في معركة بدر ، وقيل أن عبد الله بن أبي قال (يا رسول الله اخرج بنا إلى هذه الأكلب) ( ).
والمختار هو الأول وأنه رغب بالبقاء بالمدينة ، ليكون عدم الأخذ بقوله من اسباب إنسحابه من وسط الطريق وتحريض قومه على الرجوع .
ولم يعلم أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتم إلا بالوحي ، وهو من مصاديق العزم في قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( ) .
وفي الطريق إلى أحد وعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر إن صبروا للدلالة على أن ترك الرماة مواضعهم خلاف الصبر .
فلما بلغوا الشوط وهو موضع بين المدينة وجبل أحد ، وفيه فسحة ومندوحة (انخزل عبد الله بن أُبيّ الخزرجي ثلث الناس فرجع في ثلاثمائة،
وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟
فتبعهم أبو جابر السلمي فقال : أُنشدكم الله في نبيكم وفي أنفسكم.
فقال عبد الله بن أُبي : لو نعلم قتالا لاتّبعناكم.
وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أُبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا،ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
وفي إستشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعموم الصحابة حجة على ابن أبي سلول وجماعة المنافقين ، ودعوة لهم للتوبة( ) ، ولأن موضوع غزو المشركين وصدّه يتعلق بأهل المدينة كلهم ، وفيه تأديب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بأنه في حال الإبتلاء العام والفتنة لابد من تجميد الخلافات والخصومات للإنتفاع الأمثل من الأراء والجهود ، ورجاء توبة المنافقين ولإقامة الحجة عليهم عند إنخزالهم من وسط الطريق إلى معركة أحد .
وهل من موضوعية لمشورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكبار رجال الأنصار في ثبات أكثر جيش المسلمين في فتنة عبد الله بن أبي بن أبي سلول وسط الطريق وتحريضه الأنصار على العودة عن الدفاع ، الجواب نعم ، لبيان تعدد منافع الإستشارة .
ترى لماذا لم تقل الآية الكريمة (وإذ غدوت من أهلك تستشير المؤمنين).
الجواب تبين الآية نتيجة الإستشارة باخبارها على الإتفاق على الخروج للقاء العدو عند جبل أحد ، وحتى الذين قالوا لن نخرج إنما نقاتلهم في المدينة ، فقد عاد المشركون بعد نحو سنتين ، وحاصروا المدينة ، في معركة الخندق لبيان أمور :
الأول : قانون شدة الأذى الذي جاء من المشركين .
الثاني : تعدد غزو المشركين للمدينة المنورة .
الثالث : ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مقامات الهدى والإيمان مع شدة الأذى .
القبائل التي حاربت النبي (ص)
لقد قام إبراهيم عليه السلام بتكسير أصنام قومه ، بعد امتناعهم عن الإستجابة لدعوته إلى التوحيد وعبادة الله الذي له ملك السموات والأرض ، بعد أن بيّن لهم قبح عبادة الأصنام والتزلف إليها ، وأن الإنسان أسمى وأكبر من القيام بعبادة ما ينحته بيده ، فاعتذروا بوراثتهم عبادة الأوثان عن آبائهم ، كما في قوله تعالى [قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ) .
ثم أقسم إبراهيم بحضرتهم ليكسر أصنامهم ، ليدركوا قانوناً وهو عجز هذه الآلهة عن الدفع عن نفسها ، إذ ورد في التنزيل [وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ] ( ).
ولم يتعرض لأشخاص المشركين ، فارادوا قتله وحرقه بالنار .
أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد وقعت معارك وحروب عديدة بينه وبين الكفار ، ولم تختص هذه الحروب بكفار مكة ، فقد غزت المدينة وقاتلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبائل متعددة سكنها وديارها خارج مكة منها :
الأولى : غطفان برئاسة عيينة بن حصن .
الثانية : بنو مرة برئاسة الحارث بن عوف .
الثالثة : بنو اشجع رئيسهم مسعود بن رخيلة( ) .
الرابعة : بنو سليم برئاسة سفيان بن عبد شمس .
الخامسة : بنو أسد برئاسة طليحة بن خويلد .
وهؤلاء اشتركوا في معركة الأحزاب ، وكانت الرئاسة بيد قريش ، وقيل كانت لأبي سفيان بن حرب ، وتولى قيادة الفرسان خالد بن الوليد ومعه عكرمة بن أبي جهل .
السادسة : هوازن برئاسة مالك بن عوف النصري ، وكان عمره يومئذ ثلاثين سنة ، إذ قاتلوا بضراوة ، وتعدو في معركة حنين ، والتي تسمى أحياناً غزوة هوازن ، لأن جيش هوازن يومئذ أكثر من ثقيف ، وبمعنى أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي غزا هوازن وليس بتام .
وقد أسلم مالك بن عوف فيما بعد ، ليكون إسلام هؤلاء القادة شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتخليهم طوعاً عن حال الإستكبار والعناد .
السابعة : ثقيف ، وكان يرأسهم قارب بن الأسود الذي أسلم فيما بعد، وذو الخمار ، وقال العباس بن مرداس في واقعة حنين (يذكر قارب بن الأسود وفراره من بني أبيه، وذا الخمار وحبسه قومه للموت: من الوافر:
ألا من مُبلِغ غَيلانَ عَني … وَسَوفَ إِخَالُ يَأْتِيهِ الخَبِيرُ
وَعُروَةَ إنمَا أُهدِي جَوَاباً … وقَولاً غَيرَ قَولِكُمَا يَسِيرُ
بِأن مُحَمدَاً عَبْد رَسُول … لِرَب لا يَضل ولا يَجُورُ
وَجَدْنَاهُ نَبِياً مِثْلَ مُوسى … فَكُلُّ فَتًى يُخَايِرُهُ مَخِيرُ
وَبِئْسَ الأمْرُ أمْرُ بني قَيس … بِوَج إِذْ تقُسمتِ الأُمُورُ
أضَاعُوا أمْرَهُمْ وَلِكُل قَوْمِ … أمِيرٌ وَالدوَائِرُ قَدْ تَدُورُ
فَجِئْنَا أُسْدَ غَابَاتِ إلَيْهِمْ … جُنُودُ الله ضَاحِيَةً تَسِيرُ
نَؤُمُّ الْجَمْعَ جَمعَ بني قَسيّ … عَلَى حَنَقٍ نَكَادُ لَهُ نَطِيرُ
وَأقْسِمُ لَوْ هُمُو مَكَثُوا لَسِرْنَا … إٍلَيْهِمْ بِالْجُنُودِ ولَمْ يَغُورُوا
فَكُنا أُسْدَ لِيةَ ثَم حَتَى … أبَحْنَاهَا وأُسْلمتِ النصُورُ
وَيَوم كَانَ قَبْلُ لَدَى حُنَيْنٍ … فَأقْلَعَ وَالدمَاءُ بِهِ تَمُورُ
مِنَ الأيامِ لَمْ تَسْمَعْ كَيَوْم … وَلَمْ يَسمعْ بِهِ قَوْمٌ ذُكُورُ
قَتَلنَا في الغُبَارِ بني حُطَيْطٍ … عَلَى رَايَاتِهَا وَالخَيْلُ زُورُ
وَلَمْ يَكُ ذُو الْخِمَارِ رَئيسَ قَوْمٍ … لَهُمْ عَقْل يُعَاتبُ أوْ نَكِيرُ
أقَامَ بِهِمْ عَلَى سَنَنِ الْمَنَايَا … وَقَدْ بَانَتْ لمبْصِرِهَا الأمُورُ
فَأفلَتَ مَن نَجَا مِنهُمْ جَرِيضاً … وَقُتِّلَ مِنهُمُ بَشَر كَثِيرُ
ولا يُغْنِي الأُمُور أخُو التَوَانِي … ولا الْغَلِقُ الصُّرَيرَةُ الْحَصُورُ
أحَانَهُمُ وَحَانَ وَمَملكُوهُ … أُمُورَهُمُ وَأفْلَتَتِ الصقُورُ
بَنُو عَوْفٍ تَمِيحُ بِهِم جِيَاد … أُهِينَ لهَا الْفَصَافِصُ وَالشَعِيرُ
فَلَوْلا قَاربْ وَبَنُو أبِيه … تُقُسمّتِ الْمَزَارعُ وَالْقُصُورُ
وَلكِن الريَاسَةَ عُممُوهَا … عَلَى يُمْنٍ أشَارَ بهِ الْمُشِيرُ
أطَاعُوا قَارِباً وَلَهُمْ جُدُود … وَأحْلام إلَى عِزَّ تَصيرُ
فَإِنْ يُهْدَوْا إِلَى الإسْلامِ يُلْفَوا … أُنُوفَ الناسِ مَا سَمَرَ السمِيرُ
وَإنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَهُمُ أذَان … بِحَرْبِ الله لَيْسَ لَهُمْ نَصِيرُ
كَمَا حَكَت بني سَعْدِ وَحَرْب … بِرهْطِ بني غَزِيةَ عَنْقَفِيرُ
كَأن بني مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكرٍ … إِلَى الإِسْلامِ صائِنَة تَخُورُ
فَقُلْنَا: أسْلِمُوا إِنا أخُوكُمْ … وَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الإِحَنِ الصدُورُ
كَأن الْقَومَ إذْ جَاءُوا إلَيْنَا … مِنَ الْبَغْضَاءِ بَعْدَ السلْمِ عُورُ) ( ).
الثامنة : بنو جشم ، وكان رئيسهم دريد بن الصمة الذي حضر معركة حنين ، وكان شيخاً كبيراً قد فقد بصره من الكبر .
التاسعة : قبائل سعد بن بكر .
العاشرة : ناس من بني هلال .
الحادية عشرة : قبائل من مضر .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن أفراد القبائل في انتقال مستمر من الشرك إلى الإيمان ، فليس من قبيلة إلا وتفاجئ كل يوم أو كل أسبوع بهجرة بعض شبابها إلى المدينة ودخول الإسلام ، ويشهد له حديث أصحاب الصفّة ، وكيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنى للمهاجرين الجدد عريشاً بجوار المسجد النبوي ، وكان عددهم يزداد وينقص ، إذ أن الصحابة من الأنصار يأخذون بعضهم إلى بيوتهم ومساكنهم .
وهل كان هذا الوفود المتعاقب من أسباب تعجيل رؤساء الكفر قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، المختار نعم ، فمن أهم أسباب محاربة الملوك والرؤساء للأنبياء خشيتهم على عروشهم وسلطانهم , كما في فرعون ومحاربته لموسى عليه السلام واضطهاده لبني إسرائيل ، ولو أنه آمن برسالة موسى عليه السلام لبقي في عرشه وسلطانه ، وقد كان قبله فرعون يوسف عليه السلام الذي بقي في عرشه في أشد جدب ومجاعة لأنه جعل يوسف وزيراً للخزانة والمالية ، كما ورد في التنزيل [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] ( ).
لقد كانت مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبيلة الأوس والخزرج من أهل يثرب ، كما كان عدد المهاجرين بازدياد ، وهم يبعثون رسائل وكتباً إلى أهليهم يبينون معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويذكرون بعض آيات القرآن ، ويدعونهم للمجئ واللحاق بهم ، وفيه خير الدنيا والآخرة .
كما كانت تأتيهم رسائل التهديد من قبل قريش ، والترغيب بالإرتداد عن الإسلام ، وقطع الهجرة ، مما يدل على جهاد المهاجرين في الصبر والثبات في مقامات الإيمان ، مع حال الفاقة التي عاشها أكثرهم في المدينة ، ولو في بدايات هجرته ، وقد سكن عدد كثير منهم في الصفّة العريش المجاور لمسجد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذي خصص للغرباء ، وقد يصل عددهم أحياناً إلى ثلاثمائة وتقدم قانون أصحاب الصفّة .
فاستشاط رؤساء قريش غضباً وسخطاً وصاروا يحشدون القبائل ، ولم يعلموا أن الله عز وجل يهدي قلوب الناس إلى الإيمان مع تقادم الأيام ، وتجلي المعجزات ، وهو من الشواهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم داعية للسلم وأنه لم يقم بغزو المدن والبلدان والقرى .

موضوع احتجاج الملائكة
حينما أخبر الله عز وجل الملائكة على جعل [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) احتجوا بأمرين :
الأول : فساد الإنسان في الأرض .
الثاني : سفك الدماء والقتل ، كما في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وهل اطلعت الملائكة على اصرار المشركين على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر ، وعلى تجهيزهم الجيوش لمعركة أحد ، ليكون القتل قريباً من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وذكروا هذا الإستفهام الإنكاري رجاء حماية ونصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، المختار نعم ، وتدل عليه خاتمة الآية [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ومن علم الله عز وجل أنه تعالى يأمر هؤلاء الملائكة للنزول إلى الأرض ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل من معركة بدر وأحد والخندق ، وأنه يخرج سالماً من القتل في كل منها مع أن هذا القتل عندئذ قريب منه .
إلى جانب محاولات الإغتيال سواء قبل الهجرة أو بعدها ليكون من معاني خاتمة الآية أعلاه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) مسائل :
الأولى : إكرام الله عز وجل للملائكة بتفضله باجابتهم في موضوع الخليفة في الأرض .
الثانية : دعوة الله للملائكة للإستعداد لنصرة الأنبياء .
الثالثة : بيان تثبيت مفاهيم التوحيد في الأرض ، وإن استلزم سفك الدماء والقتل .
الرابعة : أراد الله عز وجل إخبار الملائكة بأن من خصائص خلافة الإنسان في الأرض أمور :
الأول : الإمتحان والإختبار .
الثاني : الإبتلاء والإفتتان .
الثالث : التكاليف العبادية .
الرابع : الإختيار ، قال تعالى [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا]( ).
الخامس : انقطاع حياة الإنسان بالموت .
السادس : حشر الناس جميعاً للحساب ، وإكرام الملائكة لأهل الإيمان، وإشرافهم على عذاب الكافرين في النار .
لقد كان المشركون بعد معركة بدر يسعون للثأر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتله ، وكانوا وهم يستعدون لمعركة أحد يعلنون هذه الغاية الخبيثة ، ويبعثون بخصوصها رسائل التهديد والوعيد إلى المدينة إلى كل من :
الأول : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برسائل تهديد شفوية وتحريرية .
الثاني : المهاجرون , إذ يصلهم التهديد من أقاربهم وأصدقائهم ، وبعضهم ينقل ويرسل الأخبار لما يرى من عزم رجالات قريش ، وهم ذوو شأن وحزم .
الثالث : رسائل التهديد إلى الأنصار وعامة أهل المدينة ، وهو من أسباب نمو النفاق فيها ، لوجود صلات بين كثير من رجالات المدينة وبين قريش ، وإلى جانب هيبة قريش وتشعب مصالحها التجارية ، وحاجة الناس لعمارة وحج البيت الحرام ، لذا تمت بيعة العقبة في الخفاء خشية معرفة وعلم رجال قريش .
وذكر (أن داود عليه السلام كان يعاتب في كثرة البكاء ، فيقول : ذروني أبكي قبل يوم البكاء ، قبل تحريق العظام ، واشتعال اللحى ، وقبل أن يؤمر بي { ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون }( )) ( ).

بحث أصولي
يمكن تقسيم الواجب العيني إلى أقسام :
الأول : الواجب العيني مرة واحدة في العمر ، وقد لا يتحقق لطائفة , كما في الحج لإشتراط الإستطاعة فيه ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
الثاني : الواجب العيني اليومي المتكرر كما في الصلاة الواجبة .
الثالث : الواجب العيني السنوي ، كما في الصيام والزكاة والخمس مع تحقق الشرائط .
وأكثر هذه الواجبات الثلاثة بعد الصلاة من قبل المسلمين والمسلمات هو الصيام وهو من الإعجاز في ذكر فريضته في القرآن بصبغة الكتابة والفرض كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
ومن أقسام الواجب :
الأول : الواجب المعين وهو الذي يطلب الشارع من المكلف فعله بعينه مثل الصلاة اليومية , وصيام شهر رمضان .
الثاني : الواجب غير المعين ، وهو الذي لم يطلب الشارع إتيانه على نحو الخصوص ، ومنه أفراد الواجب التخييري ، كما في قوله تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
وينقسم الواجب بحسب اللحاظ إلى :
الأول : الواجب المؤقت بوقت مخصوص مثل أداء فريضة الصيام في شهر رمضان .
الثاني :الواجب المطلق من جهة التوقيت أي غير الموقت بوقت محدد .
كما ينقسم الواجب بلحاظ الكم والكيف إلى قسمين :
الأول : الواجب المحدد : مثل عدد ركعات كل صلاة ، ومثل صيام شهر رمضان على نحو الحصر ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ..] ( ) وقال تعالى [وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ..] ( ).
الثاني : الواجب غير المحدد ، وهو الذي لم يأت نص من القرآن أو السنة النبوية بتحديد مقداره وكمه , ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ويحتمل دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن التنزيل وأحكام الشريعة وجوهاً :
الأول : إنه من الواجب المحدد .
الثاني : إنه من الواجب غير المحدد .
الثالث : إنه من الوجهين أعلاه .
الرابع : إنه ليس واجباً .
والمختار هو الوجه الثالث أعلاه .
ومن الإعجاز في المقام أن منافع هذا الدفاع لا تنحصر بذات موضوعه، إنما هي تأسيس للسلم المجتمعي ، وإنشاء للسلام إلى يوم القيامة .
وكل آية من آيات الدفاع دليل على وجوبه ، وإمتثال الصحابة لأمر الله عز وجل في الدفاع شاهد على صدق إيمانهم ، وهذا الوجوب كفائي ، وليس عينياً ، فاذا قام به نفر من الصحابة سقط عن الباقين ، ويمكن الإستدلال بقوله تعالى [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً] ( ) .
قانون مصاحبة [الصُّلْحُ خَيْرٌ] للحياة الدنيا
الحمد لله الذي جعل كلامه [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وكل آية منه معجزة عقلية .
والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة ، المقرون بالتحدي ، السالم من المعارضة ، وقوله تعالى [الصُّلْحُ خَيْرٌ] إخبار عن نبذ العنف والإرهاب والإقتتال لأن الخير والفلاح لجميع أطراف الصلح وغيرهم .
وصحيح أن هذه الآية نزلت في موضوع الصلح بين الزوجين لقوله تعالى [وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( )، إلا أن موضوعها أعم للحسن الذاتي للصلح .
وهل كان أوان نزول هذه الآية قبل صلح الحديبية أم بعده، المختار أنها مقدمة لصلح الحديبية من وجوه:
الأول: بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسعي للصلح وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى] ( ).
الثاني : منع احتجاج الصحابة على الصلح ومع هذا فقد احتج وتساءل بعضهم ، وهم في الحديبية لينزل بعد الصلح وفي طريق العودة إلى المدينة قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا]( )، فتعم الغبطة والسعادة الصحابة .
الثالث : صلح الحديبية مع تأجيل العمرة سنة خير من الإقتتال.
وهل الصلح خير للمشركين أيضاً ، الجواب نعم و[خَيْرٌ] اسم تفضيل ورد بصيغة الإطلاق والعموم ، ومن إعجاز هذا الصلح أنه مصداق لقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
والمختار والمشهور تعلق هذه الآية بصلح الحديبية ، وليس بفتح مكة .
ولقد حارب كفار قريش النبوة في معركة بدر وأحد والخندق بينما رزقهم الله الإبل والقوافل فضلاً منه تعالى لأمور :
الأول : عمارة البيت .
الثاني : تعاهد كلمة التوحيد .
الثالث : نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : استجابة الله لدعاء إبراهيم الذي كان متعدداً :
الأول : ذرية إبراهيم عليه السلام .
الثاني : بلدة مكة والدعاء لها كما في قوله تعالى [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] ( ).
الثالث : الدعاء لأهل الإيمان ، وتثبيت سنن التوحيد في الأرض.
وقد هلك أبرهة مقدمة لبعثة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( ).
وبدل أن تتعاهد قريش ملة التوحيد التي جاء بها إبراهيم عليه السلام وتتطلع إلى رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنصرته نصبوا (360) صنماً في البيت الحرام ، وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه في اتفاق بين قبائلهم وعزمهم على قتله حتى لا تستطيع بنو هاشم قتل قاتله .
وينزل جبرئيل بالأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة الفورية إلى يثرب المدينة ليتغير وجه التأريخ إلى يوم القيامة باتجاه الهدى وبسط الأمن ،وتثبيت سنن الإيمان في الأرض ، ونزل قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
وعن ابن عباس في الآية أعلاه قال (تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق – يريدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال بعضهم : بل اقتلوه .
وقال بعضهم : بل أخرجوه .
فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك ، فبات علي عليه السلام على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون علياً عليه السلام يحسبونه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوه علياً عليه السلام رد الله مكرهم.
فقالوا : أين صاحبك هذا .
قال : لا أدري ، فاقتصوا أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال) ( ).
ولو اتجهوا للصلح مع النبي في أول بعثته لكان خيراً لهم ، وقال اتركوني والعرب ، وكان نداءه قولوا (لا إله إلا الله تفلحوا ).
وهل يشمل قوله تعالى [الصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) قصة هابيل وقابيل ولدي آدم أم أنه من الإستصحاب القهقري الذي لا يقول به أحد من الأصوليين .
الجواب هو الأول ولو تصالح ولدا آدم لما قتل أحدهما الآخر فكانت بداية سفك الدماء في الأرض .
لبيان مصداق يشمل أفراد الزمان الطولية بالحاجة لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) أي من المتقدمين والمتأخرين ، فيبقى قانون [الصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) يطل على أهل الأرض ويتضمن الدعوة لحقن الدماء ومنع الفتن ، ولتهذيب الأخلاق ، ونشر شآبيب الإحسان بين الناس ، قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
لتخاطب الآية الناس كل يوم : تصالحوا فان في الصلح خيراً، وهذا القانون شاهد على تنزه الإسلام من الإرهاب والقتل في الطرقات والمنتديات.
بين ناقة النبي وفيل أبرهة
حينما وصل النبي وأصحابه إلى الحديبية بركت ناقته القصواء ، فقالوا خلأت أي حرنت وبركت ، ولم تبرح مكانها من غير سبب أو علة .
ولما سمعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (مَا خَلَأَتْ وَمَا هُوَ لَهَا بِخُلُقٍ ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكّةَ . لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إلَى خُطّةٍ يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَةَ الرّحَمِ إلّا أَعْطَيْتُهُمْ إيّاهَا ثُمّ قَالَ لِلنّاسِ انْزِلُوا) ( ).
لبيان أنها بركت بأمر من عند الله عز وجل ، لمنع الفتنة والإقتتال .
فحبسها الله عز وجل في ذات الموضع ، كما حبس فيل أبرهة عن مكة .
أي أنها لم تحر وتبرك في مكانها , وتمتنع عن السير والتقدم نحو مكة من غير علة ، بل حرنت عن علة وسبب ، وأن الله عز وجل أراد لنا الإقامة في الحديبية مع الفارق بين موضوع فيل أبرهة ، وناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إنما الجامع المشترك هو إكرام البيت ، والمنع من سفك الدماء .
لبيان أن قريشاً كانوا مستعدين للقتال بينما جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من غير أسلحة ودروع ، فتفضل الله عز وجل .
وبيّن لرسوله وللصحابة لزوم الإقامة في الحديبية ، وهو سبحانه يتكفل الأمور ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
لقد حبس الله عز وجل فيل أبرهة الحبشي لينزجر جيش الحبشة، ويعودوا أدراجهم ، وكان العام الذي قدموا فيه يسمى عام الفيل، وفيه ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وكانت مع الجيش فيلة لهدم البيت الحرام ، فارسل الله عز وجل عليهم طيراً أبابيل ، والمراد من أبابيل أي جماعات كثيرة ومتفرقة مفردها إبالة مثل دينار ودنانير .
(عن ابن عباس قال : جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصفاح ، فأتاهم عبد المطلب فقال : إن هذا بيت لم يسلط عليه أحد .
قالوا : لا نرجع حتى نهدمه ، وكانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر فدعا الله الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سوداً عليها الطين ، فلما حاذت بهم صفت عليهم ثم رمتهم فما بقي منهم أحد إلا أصابته الحكة .
وكانوا لا يحك إنسان منهم جلده إلا تساقط جلده) ( ).
وعن ابن عباس : كانت تخرج عليهم من البحر .
ولم يرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يسفك دماً في الحرم ، ولا أن يؤثر موسم الحج ، وهو من مصاديق احتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) بعدما أخبرهم عن صيرورة الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وكانت حجة الملائكة أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، ليكون حبس ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاهداً على المنع من الفساد وسفك الدماء ، لدلالة حبسها على إقامة جيش المسلمين خارج الحرم ، وتبعد الحديبية عن حدود الحرم نحو (2) كم ، ولم يكن بروك الناقة في الحديبية ، إنما كان في ثنية المرار ، ليكون مقدمة لإقامتهم في الحديبية ، ومن معاني وتقدير قوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) وجوه :
الأول : خلأت الناقة لأن الصلح خير .
الثاني : توجهوا إلى الحديبية فسيكون الصلح خير .
الثالث : اصبروا في الحديبية فان الصلح خير .
الرابع : سيكون الحديبية محل التفاوض والصلح خير .
لقد أراد الله عز وجل إقامة الحجة على الذين كفروا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يدخلوا الحرم ، ولم يقصدوا إزعاج قريش ، وان لم يكونوا ولاة البيت الحرام .
وكان بروك ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة للتفقه في الدين ، إذ بيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه أسرار هذا البروك ، وهل فيه تذكير ببروك الناقة القصواء عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل المدينة مهاجراً من مكة ، الجواب نعم ، ومن وجوه الجمع بين الأمرين البشارة بالنصر والظفر والعز .
قانون التدارك في البدائل
من البدائل في تأريخ النبوة فصيل ناقة صالح ، فبعد أن عقر قومه الناقة قال لهم النبي صالح عليه السلام عليكم بالفصيل احفظوه وتعاهدوه ليصرف الله عنكم العذاب .
و(عن عمرو بن خارجة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : كانت ثمود قوم صالح ، اعمرهم الله في الدنيا فأطال أعمارهم حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل منهم حي ، فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتاً فنحتوها وجابوها وخرقوها ، وكانوا في سعة من معايشهم فقالوا : يا صالح ادع لنا ربك يخرج لنا آية نعلم أنك رسول الله .
فدعا صالح ربه فأخرج لهم الناقة ، فكان شربها يوماً ، وشربهم يوماً معلوماً ، فإذا كان يوم شربها خلوا عنها وعن السماء وحلبوها لبناً ملأوا كل اناء ووعاء وسقاء ، حتى إذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء فلم تشرب منه شيئاً فملأوا كلَّ اناء ووعاء وسقاء .
فأوحى الله إلى صالح : إن قومك سيعقرون ناقتك . فقال لهم : فقالوا : ما كنا لنفعل . . . !
فقال لهم : أن لا تعقروها أنتم يوشك أن يولد فيكم مولود يعقرها .
قالوا : فما علامة ذلك المولود ، فوالله لا نجده إلا قتلناه؟
قال : فإنه غلام أشقر أزرق أصهب أحمر .
وكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان لاحدهما ابن يرغب به عن المناكح ، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤا ، فجمع بينهما مجلس فقال أحدهما لصاحبه : ما يمنعك أن تزوج ابنك؟
قال : لا أجد له كفؤا ، قال : فإن ابنتي كفء له فانا أزوجك . فزوجه ، فولد بينهما مولود . وكان في المدينة ثمانية رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، فلما قال لهم صالح : إنما يعقرها مولود فيكم . اختاروا ثماني نسوة قوابل من القرية ، وجعلوا معهن شرطاً كانوا يطوفون في القرية فإذا نظروا المرأة تمخض نظروا ما ولدها؟ إن كان غلاماً قلبنه فنظرن ما هو؟
وإن كانت جارية أعرضن عنها .
فلما وجدوا ذلك المولود صرخت النسوة : هذا الذي يريد صالح رسول الله ، فأراد الشرط أن يأخذوه فحال جداه بينهم وقالوا : لو أن صالحاً أراد هذا قتلناه .
فكان شر مولود وكان يشب في اليوم شباب غيره في الجمعة ، ويشب في الجمعة شباب غيره في الشهر ، ويشب في الشهر شباب غيره في السنة.
فاجتمع الثمانية الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون وفيهم الشيخان ، فقالوا : استعمل علينا هذا الغلام لمنزلته وشرف جديه فكانوا تسعة .
وكان صالح لا ينام معهم في القرية ، كان يبيت في مسجده ، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم ، وإذا أمسى إلى مسجده فبات فيه ) ( ).
وعن رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (وأرادوا أن يمكروا بصالح ، فمشوا حتى أتوا على شرب طريق صالح فاختبأ في ثمانية ، وقالوا : إذا خرج علينا قتلناه وأتينا أهله فبيتناهم ، فأمر الله الأرض فاستوت عليهم ، فاجتمعوا ومشوا إلى الناقة وهي على حوضها قائمة ، فقال الشقي لأحدهم ، ائتها فاعقرها .
فاتاها فتعاظمه ذلك فاضرب عن ذلك ، فبعث آخر فأعظمه ذلك ، فجعل لا يبعث رجلاً إلا تعاظمه أمرها حتى مشى إليها وتطاول فضرب عرقوبيها فوقعت تركض ، فرأى رجل منهم صالحاً فقال : ادرك الناقة فقد عقرت .
فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه يا نبي الله إنما عقرها فلان إنه لا ذنب لنا .
قال : فانظروا هل تدركون فصليها؟
فإن أدركتموه فعسى الله أن يرفع عنكم العذاب .
فخرجوا يطلبونه ، فلما رآى الفصيل أمه تضطرب أتى جبلاً يقال له القارة قصير ، فصعد وذهبوا ليأخذوه ، فأوحى الله إلى الجبل ، فطال في السماء حتى ما تناله الطير ، ودخل صالح القرية فلما رآه الفصيل بكى( ) حتى سالت دموعه .
ثم استقبل صالحاً فرغا رغوة ، ثم رغا أخرى ، ثم رغا أخرى.
فقال صالح لقومه : لكل رغوة أجل [تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ] ( ) .
الا أن آية العذاب أن اليوم الأول تصبح وجوهكم مصفرة ، واليوم الثاني محمرة ، واليوم الثالث مسودة ، فلما أصبحوا إذا وجوههم كأنها قد طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم ، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الأجل وحضركم العذاب .
فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كأنها خضبت بالدماء ، فصاحوا وضجوا وبكوا وعرفوا أنه العذاب ، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل , وحضركم العذاب .
فلما أصبحوا اليوم الثالث فإذا وجوههم مسودة كأنها طليت بالقار ، فصاحوا جميعاً ألا قد حضركم العذاب فتكفنوا وتحنطوا .
وكان حنوطهم الصبر والمغر وكانت أكفانهم الانطاع ، ثم ألقوا أنفسهم بالأرض فجعلوا يقلبون أبصارهم فينظرون إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة فلا يدرون من أين يأتيهم العذاب ، من فوقهم من السماء أم من تحت أرجلهم من الأرض خسفاً أو قذفاً ، فلما أصبحوا اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء له صوت في الأرض ، فتقطعت قلوبهم في صدورهم ، فاصبحوا في ديارهم جاثمين ) ( ).
وهل أكتفى وفد خزاعة بأبيات الشعر أعلاه في شكواهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا ، إنما ذكروا تفاصيل ووقائع واوردوا أسماء رجال من قريش حاربوا مع بني الديل متخفين في الليل بما يدل على نقضهم عهد الحديبية .
وبعد أن استمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما قاله وفد خزاعة قال لأصحابه (كَأَنّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَكُمْ لِيَشُدّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدّةِ) ( ).
لبيان نكتة وهي أن قريشاً يتجاهلون ويتبرأون من قتال وتعدي بني الديل على خزاعة ، ويظهرون عدم علمهم بما وقع فيرسلون أبا سفيان إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمرين :
الأول : تأكيد بنود صلح الحديبية .
الثاني : زيادة مدة العشر سنوات التي ليس فيها حرب وقتال بين الناس.
وهل إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا من الوحي أم الفراسة والإجتهاد ، والصحيح هو الأول لقانون لو دار الأمر في إخبار النبي عن المغيبات بين الوحي والفراسة والحدس ، فالصحيح هو الأول لقوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).

مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة
المفهوم اسم مفعول من فهم والمراد عقل وعلم وعرف .
أما المفهوم في الإصطلاح فهو : ما دلّ عليه اللفظ في محل السكوت بحيث يكون الحكم باستقراء معنى ودلالة من اللفظ وليس نصه .
وينقسم المفهوم إلى قسمين :
الأول : مفهوم الموافقة ، وهو أن المسكوت عنه موافق للمنطوق في الإثبات أو النفي ، ويسمى فحوى الخطاب ، ولحن الخطاب كما لو كان المسكوت عنه أولى بالحكم من ذات المنطوق به ، ومنه قوله تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه] ( )، إذ تدل الآيتان بمنطوقهما على أن الشئ القليل سواء من الحسنات أو السيئات لا يترك إنما هناك ملائكة يكتبونه ، قال تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( )، فكذا بالنسبة للإنفاق والحسنات والمعروف لا يترك إن كان كبيراً ، وكذا بالنسبة للمعصية فانها وإن كبرت لا تترك أو تهمل ، ومنه قوله تعالى [فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا]( ) .
إذ تدل الآية في منطوقها على نهي الولد ذكرا أو أنثى عن التأفف من الوالدين وعن نهرهما مما يدل بالأولوية القطعية عن المنع عن شتمهما أو ضربهما ، فهذه الأولوية من مفهوم الموافقة ويسمى (فحوى الخطاب) لأن المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق لتجلي العلة في المسكوت عنه بما هو أوضح .
وقد يكون المسكوت عنه مساوياً لما ذكر في المنطوق وإن كان اللفظ لا يذكره أو يقتضيه ، وقد يسمى (لحن الخطاب) على اختلاف في معنى هذا الإصطلاح ومن أمثلته منه قوله تعالى [وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ]( )، لبيان أن عصا موسى معجزة يتدفق الماء بسببها عندما يضربها موسى على الحجر بفضل ولطف ورحمة من عند الله ، ويحتمل ضرب موسى الحجر بعصاه وجوهاً :
الأول : قد أنعم الله عز وجل على موسى باذن مطلق ، من غير حاجة الى تكراره .
الثاني : لا يضرب موسى عليه السلام الحجر الا باذن من عند الله سبحانه .
الثالث : التفصيل وأنه هناك حالات معينة لضرب موسى الحجر بعصاه فيتدفق الماء.
الرابع : تفضل الله بتفويض ضرب الحجر الى موسى عليه السلام في أي وقت ولأي شيء ينتفع من العصا ، وورد في التنزيل [قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى]( ).
والمختار هو الثاني ، ويدل عليه تكرار أمر الله عز وجل لموسى عليه السلام بالضرب بعصاه مع تعدد المعجزة في جنسها وموضوعها منها قوله تعالى [فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ]( )، وقوله تعالى [وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذْ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنْ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( )، وقوله تعالى [وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ]( )، وقوله تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ]( )، أي أن الوحي حاضر.
وعن السدي : لما دخل بنو إسرائيل التيه، قالوا لموسى، عليه السلام: كيف لنا بما هاهنا ، أين الطعام .
فأنزل الله عليهم الَمنّ فكان يسقط على الشجر الزنجبيل، والسلوى وهو طائر يشبه السمانى أكبر منه، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، فإن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله.
فإذا سمن أتاه، فقالوا: هذا الطعام فأين الشراب؟ فَأُمِر موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، فشرب كل سبط من عين .
فقالوا : هذا الشراب، فأين الظل فَظَلَّل عليهم الغمام.
فقالوا : هذا الظل، فأين اللباس ، فكانت ثيابهم تطول معهم كما يطول الصبيان، ولا يَنْخرق لهم ثوب، فذلك قوله تعالى [وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى]( )، وقوله وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ.
ومنهم من قال أن المراد باصطلاح لحن الخطاب هو دليل الخطاب ، ومفهوم المخالفة ، واثبات نقيض حكم المنطوق به المسكوت عنه .
ومشهور علماء الإسلام حجية مفهوم الموافقة ، وثبوته بدلالة ومعنى النص ، أي أنه موافق للمنطوق ولا يتعارض معه ، وإن لم يذكره اللفظ بالذات .
ومنهم من ربط بين انكار حجية مفهوم الموافقة وبين انكار القياس ، ولا أصل لهذا الربط لأن موضوع القياس أعم ، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق وتحتمل دلالة النص على المسكوت عنه سواء المشابه أو الأولى :
الأول : الدلالة القطعية : وهو المعنى الجلي الذي لا يدب إليه احتمال النقيض كما في دلالة قوله تعالى [فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ]( )، على حرمة صيغ الإيذاء في حق الوالدين ، ومنها الشتم والضرب.
الثاني : الدلالة الظنية : ومعناه أن انطباق الحكم على المسكوت عنه ، على نحو الظن وليس القطع ، ومنه قوله تعالى [وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ]( )، إذ اختلف هل في القتل العمد كفارة من باب الأولوية بالنسبة لقتل الخطأ أم ليس فيه كفارة إنما فيه أحد وجوه :
الأول : القتل قصاصاً.
الثاني : الدية .
الثالث : العفو .
(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما أهبط الله آدم إلى الأرض مكث فيها ما شاء الله أن يمكث ، ثم قال له بنوه : يا أبانا تكلم . فقام خطيباً في أربعين ألفاً من ولده وولد ولده فقال : إن الله أمرني فقال : يا آدم أقلل كلامك ترجع إلى جواري) ( ).
وهل الحكم بافطار الذي يأخذ المغذي في نهار رمضان من الدلالة القطعية أو الظنية ، أو أنه ليس مفطراً ، المختار هو الأول .
واستدل على مفهوم الموافقة بقوله تعالى [وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ]( ) ( ).
وعن أبي سعيد الخدري في قوله [وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ]( )، قال : ببغضهم علي بن أبي طالب .
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ببغضهم علي بن أبي طالب ( ).
ولا يكون مفهوم الموافقة إلا بتقدير فهم المقصود من الحكم في محل النطق.
وفي مفهوم المخالفة قيل أن تخصيص الشئ باسمه ، يدل على نفي الحكم عما سواه ، سواء كان هذا التخصيص اسم جنس أو اسم علم.
الثاني : مفهوم المخالفة
وجود حكم مسكوت عنه مخالف لحكم المنطوق ، ويسمى (دليل الخطاب).
فاذا كان معنى مفهوم الموافقة أن حكم المسكوت عنه يأخذ ذات حكم المنطوق نفياً أو اثباتاً ، فان مفهوم المخالفة بعكسه .
ومعنى مفهوم المخالفة وجود شرط أو وصف أو قيد في الحكم ، وبما يدل على أن المسكوت عنه مخالف للمنطوق في الحكم ، فلا يشمله الحكم كما في قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : في سائمة الغنم الزكاة.
فالمنطوق هو وجوب الزكاة في الأنعام التي ترعى كما مثلاً في الأربعين شاة شاة ، ومفهوم هذا القول المخالف هو : أن الأنعام المعلوفة والتي تطعم ولا ترعى لا زكاة فيها ونحن نذكر هنا مسألة استحدثتها وهي اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، فليس في الحديث ما يدل على حصر الزكاة في الأنعام السائمة ، نعم يمكن الإستدلال بعدم وجود نص آخر أعم يشمل المطعومة ، وهناك قيد آخر للزكاة وهو النصاب.
وكتب أبو بكر لأنس بن مالك حين وجهه إلى البحرين (هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين التي أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن سئلها من المؤمنين على وجهها فليعطها ، ومن سئل فوقها فلا يعطيه ، فيما دون خمس وعشرين من الإِبل الغنم في كل ذود شاة ، فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها ابنة مخاض إلى أن تبلغ خمساً وثلاثين ، فإن لم يكن فيها ابنة مخاض فابن لبون ذكر ، فإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين ، فإذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل إلى ستين ، فإذا بلغت إحدى وستين ففيها جذعة إلى خمس وسبعين .
فإذا بلغت ستاً وسبعين ففيها ابنتا لبون إلى تسعين ، فإذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان طروقتا الفحل إلى عشرين ومائة ، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون ، وفي كل خمس حقة .
فإذا تباين أسنان الإِبل في فرائض الصدقات ، فمن بلغت عنده صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه وأن يجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهماً ، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده حقة وعنده جذعة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين .
ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون وليست عنده إلا حقة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين ، ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون وليست عنده إلا ابنة مخاض فإنها تقبل منه وشاتين أو عشرين درهماً .
ومن بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليس عنده إلا ابن لبون ذكر فإنه يقبل منه وليس معه شيء ، ومن لم يكن عنده إلا أربع فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها ، وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة ، فإذا زادت على عشرين ومائة ففيها شاتان إلى أن تبلغ مائتين .
فإذا زادت على المائتين ففيها ثلاث شياه إلى أن تبلغ ثلثمائة ، فإذا زادت على ثلثمائة ففي كل مائة شاة ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ، ولا ذات عوار من الغنم ، ولا تيس الغنم إلا أن يشاء المصدق ، ولا يجمع بين متفرق ، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية ، فإن لم تبلغ سائمة الرجل أربعين فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها ، وفي الرقة ربع العشر ، فإن لم يكن المال إلا تسعين ومائة فليس فيه شيء إلا أن يشاء ربها)( ).
وقد ذكرت في رسالتي العملية (الحجة) أنصبة الزكاة في كل من:
الأول : زكاة الأنعام ، وهي :
الأولى : الإبل .
الثانية : الغنم .
الثالثة : البقر .
الثاني : زكاة النقدين ، وهما :
الأولى : الدينار الذهبي .
الثانية : الدرهم الفضي .
وقد ذكرت في رسالتي العملية (الحجة) :
(مسألة 36) الأقوى تعلق الزكاة بالعملات الورقية المستعملة في هذا الزمان اذا كانت بمقدار النصاب، أي انها تعادل في قيمتها عشرين ديناراً ذهبياً مسكوكاً والشرائط الأخرى لإطلاق الأدلة وانطباقها على الموضوع البدلي وللرواج المعاملي، ولتعلق التشريع بالموضوع لا المصداق المقيد، وللإحتياط في عدم تضييع حق الفقراء وحجب الثواب والنماء في الأموال، اذ لا ملازمة بينه وبين كون النقد بالمسكوك الذهبي والفضي، ولإجتناب تعطيل بعض الأحكام بسبب تغير المصاديق والحكم يتبعها قهراً.
الثالث : زكاة الغلات الأربعة .
ويسمى مفهوم المخالفة دليل الخطاب ، وينقسم إلى أقسام :
الأول :مفهوم الشرط ، ومنه قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) ومفهوم هذا الشرط أنه إذا لم تثبت رؤية هلال شهر رمضان فلا يصح الصوم بنية شهر رمضان .
وفي رسالتي العملية (الحجة ) ذكرت:
مسألة 18 (يوم الشك وهو اليوم الذي يحتمل ان يكون الثلاثين من شعبان او الأول من شهر رمضان اذا طلع فجره ولم تثبت رؤية هلال شهر رمضان فيصومه ندباً او قضاءً ونحوهما، واذا بان وظهر ولو بعد انتهاء اليوم انه من شهر رمضان أجزأ عنه، نعم لو بان له ذلك اثناء النهار وجب عليه تجديد النية ولو كان بعد الزوال.). ( )
مسألة 20 (لو اصبح المكلف يوم الشك بنية الإفطار ثم بان انه من الشهر فان تناول المفطر في ذلك اليوم امسك بقية النهار تأدباً ووجب عليه القضاء اما اذا لم يتناول المفطر فان كان قبل الزوال جدد النية واجزأ عنه، واما لو كان بعد الزوال فالأقوى جواز تجديد النية وصحة الصوم ايضاً.لعمومات قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “من لم يأكل فليصم، ولعمومات ما ورد في الصحيح: هو شيء وفق له) ولقاعدة الإشتغال وحديث الرفع ولقاعدة نفي الحرج وقاعدة كل ما غلب الله عليه فالله اولى بالعذر وللإنطباق الواقعي القهري ولأن الجهل بالموضوع ولعمومات لا ضرر ولا ضرار، فصيام ذلك اليوم لو تم افضل في ثوابه ومطلق اثره من القضاء، وللخدشة بأدلة القول بالبطلان , ولا يضره لو قصد اثناء نهاره الإفطار عن ذات الصوم مطلقاً، سواء كان من شهر رمضان أو غيره لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه .) ( ).
الثاني : مفهوم الوصف .
الثالث : مفهوم الغاية .
الرابع : مفهوم الحصر .
الخامس : مفهوم العدد .
السادس : مفهوم اللقب .
أسماء قتلى المشركين في معركة بدر
لقد كانت معركة بدر حجة على الذين كفروا من وجوه :
الأول : إختيار المشركين القتال يوم بدر وابتدأ هذا الإختيار من حين خروجهم من مكة ، فصحيح أن علة وسبب الخروج هو إنقاذ قافلة أبي سفيان ، إلا أن مناجاة قريش يومئذ تتعلق بالبطش والإنتقام من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد ضاقت قريش ذرعاً بالدعوة إلى الله ، ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لعبادة الأصنام التي ورثتها قريش عن آبائهم ، إلى جانب الأنظمة الإجتماعية التكميلية والأخلاقية والإقتصادية التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنها :
الأولى : حرمة الربا وأكل المال بالباطل ، قال تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
الثانية : ثبوت حق الملكية للأفراد .
الثالثة : توجه الخطاب التكليفي لكل إنسان على نحو مستقل .
الرابعة : المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات .
الخامسة : حرمة القتل والقصاص في القتل العمد ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
لقد كانت المجتمعات قبل الإسلام ترتكز على نظام السيد والعبد والرئيس والمرؤوس ، والتابعين والمتبوع ، فنزل القرآن بقوله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
السادسة : إكرام الإسلام للمرأة وفق قوانين سماوية ثابتة ، والقضاء على ظاهرة الوأد وذبح البنت المولودة خشية العار بسببها ، وفيه جهالة ، فلو أكثرت العرب من الوأد كيف يحصل الزواج والتكاثر ، أي أن الوأد في حقيقته حرب إبادة على الذات والقبيلة والجنس ، ونادراً أن تجد مجتمعاً يزاول الإبادة ضد نفسه ، لذا صدق على الكفار قبل الإسلام مفهوم الجاهلية وصارت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : وجوب عبادة الله مع البيان والتفصيل ، ومنه قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) .
ليكون من وجوه الإعجاز في الآية أعلاه إطاعة الرسول في كيفية العبادة وعدد ركعات الصلاة وأحكام الزكاة والإنصبة والخمس .
الثانية : بيان ضروب وكيفية العبادة بآيات نازلة من عند الله معصومة من التعبديل والتحريف .
الثالثة : تثبيت ضروب العبادة بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
الرابعة : بناء صرح الأخلاق الحميدة بين الناس ، ومنها العفو والصفح وحسن الجوار .
الخامسة : تنزيه المجتمعات عن الظلم والجور .
السادسة : استئصال الشرك ، ومفاهيم الكفر .
السابعة : القضاء على العادات المذمومة ، ومنها الوأد ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ).
الثامنة : صيرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قانوناً مصاحباً للحياة اليومية للمسلمين وعامة الناس ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
السابعة : نزل القرآن بالذب والدفاع عن الفقراء والمستضعفين , حماية حقوق الإنسان .
وعن أبن عمر قال (عرضت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني، ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) ( ) .
مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يرضى باشتراك الأطفال في القتال ، ولو للقيام ببعض الخدمات ، وهو الذي تدل عليه قوانين الأمم المتحدة في هذا الزمان .
ودومة الجندل ليست قريبة من المدينة المنورة ، إنما تبعد عنها (600) كم باتجاه الشام ، وهي على مسيرة خمس عشرة ليلة من المدينة وسبب خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى دومة الجندل .
الثامنة : التنزه عن الأخلاق المذمومة كالغدر والغش .
التاسعة : الإنقطاع إلى ذكر الله وأداء الصلاة خمس مرات في اليوم ، وهل كان هذا الأداء من أسباب محاربة الكفار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، إذ كانوا لا يطيقون الركوع والسجود ، ولا يرضون بوقوفوهم مع عبيدهم جنباً إلى جنب في الصلاة .
وقتلى المشركين يوم بدر هم :
الأول : القائد العام لجيش مكة (أبو جهل بن هشام)، واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم ، وكان متحمساً للقتال ويقوم بتوبيخ من يدعو إلى السلم والإمتناع عن القتال وكان (يَرْتَجِزُ وَهُوَ يُقَاتِلُ وَيَقُولُ
مَا تَنْقِمُ الْحَرْبُ الْعَوَانُ مِنّي … بَازِلِ عَامَيْنِ حَدِيثٌ سِنّي
لِمِثْلِ هَذَا وَلَدَتْنِي أُمّي) ( ).
وقد أقعده بضربة بالسيف معاذ بن عمرو بن الجموح فقطع رجله، ثم ضربه معوذ بن عفراء حتى أثبته ، وفي بعض كتب المغازي : هما ابنا عفراء : معاذ ومعوذ( ) ، ثم ذفف عليه عبد الله بن مسعود، حين احتز (وفرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل أبي جهل، وقال: اللهم، قد أنجزت ما وعدتني، فتمم على نعمتك .
وقال : فآل ابن مسعود يقولون: سيف أبي جهل عندنا، محلى بفضة، غنمه عبد الله بن مسعود يومئذ.
فاجتمع قول أصحابنا أن معاذ بن عمرو وابني عفراء أثبتوه، وضرب ابن مسعود عنقه في آخر رمق، فكلٌّ قد شرك في قتله)( )، وإلى جانب كثرة إيذاء أبي جهل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وقتله سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر فانه ما لبث يحرض الناس على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكالبرزخ الذي يمنع الناس من دخول الإسلام .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه (تطلبوه بين القتلى وتعرفوه بشجة في ركبته، فإنى تزاحمت أنا وهو على مأدبة لابن جدعان فدفعته فسقط على ركبته فانهشمت فأثرها باق في ركبته ” فوجدوه كذلك) ( ) .
الثاني : عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، جرحه عبيدة بن الحارث، وذفف عليه الإمام علي بن أبي طالب، وحمزة بن عبدالمطلب .
وكان عتبة بن ربيعة ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة مع إقراره أحياناً بنبوته ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً (عن عبد الله( ) قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلى ورهط من قريش جلوس، وسلا جزور قريب منه.
فقالوا: من يأخذا هذا السلا فيلقيه على ظهره ؟
فقال عقبة بن أبى معيط: أنا.
فأخذه فألقاه على ظهره.
فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” اللهم عليك بهذا الملا من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللم عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم عليك بأبى جهل بن هشام، اللهم عليك بعقبة ابن أبى معيط، اللهم عليك بأبى بن خلف – أو أمية بن خلف – ” شعبة الشاك.
قال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا، ثم سحبوا إلى القليب غير أبى، أو أمية بن خلف، فإنه كان رجلا ضخما فتقطع)( ).
الثالث : شيبة بن ربيعة بن عبد شمس، قتله حمزة بن عبدالمطلب .
الرابع : الوليد بن عتبة، قتله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
الخامس : أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، قتله رجل من الأنصار من بني مازن، ويقال اشترك في قتله معاذ بن عفراء ، وخبيب بن إيساف وخارجة بن زيد .
وقد تردد أمية بن خلف في الخروج إلى معركة بدر خاصة وأنه شيخ جسيم ، وكان جالساً بين ظهراني قومه في المسجد الحرام أثناء إعداد قريش للخروج إلى بدر ، وإذا عقبة بن أبي معيط يأتي (بمجمر يحملها فيها نار ومجمر حتى وضعها بين يديه ثم قال يا ابا على استجمر فانما انت من النساء قال قبحك الله وقبح ما جئت به قال ثم تجهز وخرج مع الناس.
قيل وكان سبب تثبطه ما ذكره البخاري في الصحيح من حديثه مع سعيد بن معاذ وابى جهل بمكة وقول سعد له انى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول انه قاتلك) ( ).
ولكن صدور هذا الوعيد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأخيه أمية بعد إكثاره من تهديد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة بقتله ، وكان أمية هذا يكثر من تعذيب بلال بن رَباح ،ويخرجه في حر الظهيرة ،وكان مولى لبني جمح ، وأظهر صدق الإسلام والثبات عليه.
فكان (أُمَيّةُ بْنُ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ يُخْرِجُهُ إذَا حَمِيَتْ الظّهِيرَةُ فَيَطْرَحُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فِي بَطْحَاءِ مَكّةَ ، ثُمّ يَأْمُرُ بِالصّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمّ يَقُولُ لَهُ لَا تَزَالُ هَكَذَا حَتّى تَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمّدِ وَتَعْبُدَ اللّاتِي وَالْعُزّى ؛ فَيَقُولُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ أَحَدٌ أَحَدٌ)( ).
ويكنى أمية بن خلف أبا علي ، وقد قتل ابنه علي معه يوم بدر ، وبقي ابنه صفوان فكان من أشد المشركين على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسعى في اغتياله .
ومن الفرائد أنه حضر معركة حنين والطائف على كفره إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم واسلمت امرأته ناجية بنت الوليد بن المغيرة أخت خالد بن الوليد ، قبله يوم الفتح ثم أسلم بعدها بشهر فأقرهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم على زواجهما وهو من المؤلفة قلوبهم يوم حنين ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
وتوفى صفوان بن أمية في مكة سنة (41) للهجرة مسلماً.
السادس : حنظلة بن أبي سفيان بن حرب، قتله زيد بن حارثة، مولى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : الحارث بن الحضرمي- حليف لبني عبد شمس- قتله النعمان بن عصر .
الثامن : عامر الحضرمي- حليف لهم أيضاً- قتله عمار بن ياسر.
التاسع : عمير بن أبي عمير، قتله سالم مولى أبي حذيفة.
العاشر : ابن عمير هذا، والاثنان موليان لبني عبد شمس .
الحادي عشر : عبيدة بن سعيد بن العاص، قتله الزبير بن العوام.
الثاني عشر : العاص بن سعيد بن العاص، قتله علي بن أبي طالب .
الثالث عشر : عقبة بن أبي معيط، قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، قتله صبراً في مكان يقال له عرق الظبية، وذلك أثناء عودة الجيش الإسلامي إلى المدينة.
الرابع عشر : عامر بن عبد الله النمري- حليف لهم- قتله الإمام علي بن أبي طالب.
الخامس عشر : وهب بن الحارث من بني أنمار بن بغيض، حليف لهم.
السادس عشر : عامر بن زيد، حليف لهم من اليمن.
السابع عشر : الحارث بن عامر بن نوفل، قتله خبيب بن إساف.
الثامن عشر : طعيمة بن عدي بن نوفل، قتله الإمام علي بن أبي طالب، ويقال قتله حمزة بن عبدالمطلب.
التاسع عشر : زمعة بن الأسود بن المطلب، قتله ثابت بن الجذع، ويقال اشترك في قتله الإمام علي بن أبي طالب، وحمزة بن عبدالمطلب.
العشرون : أبو البختري بن هشام – واسمه العاصي بن هشام بن الحارث – قتله المجذر بن ذياد البلوي، وقال ابن هشام: أبو البختري العاص بن هاشم.
الحادي والعشرون : الحارث بن زمعة، قتله عمار بن ياسر .
الثاني و العشرون : نوفل بن خويلد بن أسد، وهو أخو أم المؤمنين خديجة -وكان من شياطين قريش- قتله علي بن أبي طالب.
الثالث و العشرون: عقيل بن الأسود بن المطلب، قتله حمزة والأمام علي عليه السلام .
الرابع و العشرون : عتبة بن زيد – رجل من اليمن حليف لبني أسد.
الخامس و العشرون : مولى لهم اسمه عمير .
السادس و العشرون : النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة، أسر النضر في المعركة -وكان حامل لواء المشركين- وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتله صبراً، فقتله علي بن أبي طالب( ) في موضع يقال له (الأثيل) بوادي الصفراء، وكان النضر هذا من شياطين قريش، ومن أكبر مجرمي الحرب، ومن أشد الناس إيذاء للمسلمين.
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَتْ قُتَيْلَة بِنْتُ الْحَارِثِ أُخْت النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ تَبْكِيهِ
يَا رَاكِبًا إنّ الْأَثِيلَ مَظِنّةٌ … مِنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفّقُ
أَبْلِغْ بِهَا مَيْتًا بِأَنّ تَحِيّةً … مَا إنْ تَزَالُ بِهَا النّجَائِبُ تَخْفِقُ
مِنّي إلَيْك وَعَبْرَةً مَسْفُوحَةً … جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وَأُخْرَى تَخْنُقُ
هَلْ يَسْمَعَنّي النّضْرُ إنْ نَادَيْتُهُ … أَمْ كَيْفَ يَسْمَعُ مَيّتٌ لَا يَنْطِقُ
أَمُحَمّدُ يَا خَيْرَ ضَنْءِ كَرِيمَةٍ … فِي قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرّقُ
مَا كَانَ ضُرّك لَوْ مَنَنْتَ وَرُبّمَا … مَنّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ
أَوْ كُنْتَ قَابِلَ فِدْيَةٍ فَلْيُنْفِقَنْ … بِأَعَزّ مَا يَغْلُو بِهِ مَا يُنْفِقُ
فَالنّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ أَسَرّتْ قَرَابَةً … وَأَحَقّهُمْ إنْ كَانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ
ظَلّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ … لِلّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تُشَقّقُ
صَبْرًا يُقَادُ إلَى الْمَنِيّةِ مُتْعَبًا … رَسْفَ الْمُقَيّدِ وَهُوَ عَانٍ مُوَثّقُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَيُقَالُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لَمّا بَلَغَهُ هَذَا الشّعْرُ قَالَ لَوْ بَلَغَنِي هَذَا قَبْلَ قَتْلِهِ لَمَنَنْتُ عَلَيْه( )
ومن النساء من بكت أهل القليب عامة وهو لا يخلو من تحريض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه (وَقَالَ صَفِيّةُ بِنْتُ مُسَافِرِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ . تَبْكِي أَهْلَ الْقَلِيبِ الّذِينَ أُصِيبُوا يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ : ( وَتَذْكُرُ مُصَابَهُمْ ) :
يَا مَنْ لِعَيْنِ قَذَاهَا عَائِرُ الرّمَدِ … حَدّ النّهَارِ وَقَرْنُ الشّمْسِ لَمْ يَقِدْ
أُخْبِرْت أَنّ سَرَاةَ الْأَكْرَمِينَ مَعًا … قَدْ أَحَرَزَتهمْ مَنَايَاهُمْ إلَى أَمَدِ
وَفَرّ بِالْقَوْمِ أَصْحَابُ الرّكَابِ وَلَمْ … تَعْطِفْ غَدَائتِذٍ أُمّ عَلَى وَلَدِ
قَوْمِي صَفِيّ وَلَا تَنْسَى قَرَابَتَهُمْ … وَإِنْ بَكَيْت فَمَا تَبْكِينَ مِنْ بُعُدِ
كَانُوا سُقُوبَ سَمَاءِ الْبَيْتِ فَانْقَصَفَتْ … فَأَصْبَحَ السّمْكُ مِنْهَا غَيْرَ ذِي عَمَدِ) ( ).
كما قامت هند بنت ربيعة أم معاوية بن أبي سفيان برثاء أبيها .
السابع و العشرون : (وَزَيْدُ بْنُ مُلَيْصِ مَوْلَى عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ . رَجُلَانِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَتَلَ زَيْدَ بْنَ مُلَيْصٍ بِلَالَ بْنَ رَبَاحٍ ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ وَزَيْدٌ حَلِيفٌ لِبَنِي عَبْدِ الدّارِ مِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ ، وَيُقَالُ قَتَلَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو) ( ).
الثامن و العشرون : نبيه بن زيد بن مليص -حليف لهم- من بني مازن ثم من بني تميم
التاسع و العشرون : عبيد بن سليط -حليف لهم- من قيس.
الثلاثون : مالك بن عبيدالله بن عثمان، وهو أخو طلحة بن عبيدالله، أسر فمات في الأسر، فعمد في القتلى.
الحادي والثلاثون : عمرو بن عبدالله بن جدعان.
الثاني والثلاثون : عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، قتله علي بن أبي طالب، ويقال عبدالرحمن بن عوف.
الثالث والثلاثون : عثمان بن مالك بن عبيدالله، قتله صهيب بن سنان.
الرابع والثلاثون : العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قتله عمر بن الخطاب -وهو خاله -.
الخامس والثلاثون : يزيد بن عبدالله -حليف لهم- من بني تميم، قتله عمار بن ياسر.
السادس والثلاثون : أبو مسافع الأشعري -حليف لهم- قتله أبو دجانة الساعدي.
السابع والثلاثون : حرملة بن عمرو -حليف لهم- وهو من الأسد قتله خارجة بن زيد، ويقال علي بن أبي طالب.
الثامن والثلاثون : مسعود بن أبي أمية بن المغيرة، قتله علي بن أبي طالب.
التاسع والثلاثون : أبو قيس بن الوليد بن المغيرة -أخو خالد بن الوليد- قتله حمزة بن عبدالمطلب، ويقال علي بن أبي طالب.
الأربعون : أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، قتله علي بن أبي طالب، ويقال عمار بن ياسر.
الحادي والأربعون : رفاعة بن أبي رفاعة عائذ بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، قتله سعد بن الربيع.
الثاني والأربعون : المنذر بن أبي رفاعة بن عائذ، قتله معن بن عدي بن الجد بن العجلان.
الثالث والأربعون : السائب بن أبي السائب بن عابد، قتله الزبير بن العوام، وفي رواية ابن هشام:أن السائب هذا أسلم وحسن إسلامه
الرابع والأربعون : الأسود بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قتله حمزة بن عبدالمطلب.
الخامس والأربعون : حاجب بن السائب بن عويمر بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، قتله علي بن أبي طالب، قال ابن هشام: ويقال عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم.
السادس والأربعين : عويمر بن السائب بن عويمر، قتله النعمان بن مالك القوقلي مبارزة.
السابع والأربعون : عمرو بن سفيان – حليف لهم- من طي، قتله يزيد بن رقيش.
الثامن والأربعون : جابر بن سفيان – حليف لهم- وهو من طي أيضاً، قتله أبو بردة بن نيار.
التاسع والأربعون : عبدالله بن المنذر بن أبي رفاعة، قتله علي بن أبي طالب.
الخمسون : حذيفة بن أبي حذيفة بن المغيرة، قتله سعد بن أبي وقاص.
الحادي والخسون : هشام بن أبي حذيفة بن المغيرة، قتله صهيب بن أبي سنان.
الثاني والخمسون : زهير بن أبي رفاعة، قتله أبو أسيد، مالك بن ربيعة.
الثالث والخمسون : السائب بن أبي رفاعة، قتله عبدالرحمن بن عوف.
الرابع والخمسون : عائذ بن السائب بن عويمر، جرحه في المعركة حمزة بن عبدالمطلب، ثم أسر فافتدى ثم مات متأثراً بجراحه.
الخامس والخمسون : رجل من طي، اسمه عمير -حليف لهم من طي.
السادس والخمسون : رجل آخر أيضاً اسمه خيار – حليف لهم من القارة.
السابع والخمسون : ومن بني سهم بن عمرو – قبيلة عمرو بن العاص- سبعة نفر، وهم :
الأول : منبه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، قتله أبواليسر أخو بني سلمة.
الثاني : ابنه العاص بن منبه بن الحجاج، قتله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
الثالث : أخوه نبيه بن الحجاج، قتله حمزة بن عبدالمطلب، وسعد بن أبي وقاص اشتركا في قتله.
الرابع : أبو العاص بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم، قتله علي بن أبي طالب، ويقال النعمان بن مالك القوقلي، ويقال أبو دجانة.
الخامس : عاصم بن أبي عوف ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم، قتله أبو اليسر، أخو بني سلمة.
السادس : الحارث بن منبه بن الحجاج، قتله صهيب بن سنان.
السابع : عامر بن عوف بن ضبيرة، أخو عاصم بن ضبيرة، قتله عبدالله ابن سلمة العجلاني، ويقال أبو دجانة.
الثامن والخمسون : ومن بني عامربن لؤي رجلان، وهما :
الأول : معاوية بن عامر- حليف لهم من بني عبدالقيس- قتله علي بن أبي طالب، ويقال عكاشة بن محصن على ما قاله ابن هشام.
الثاني : معبد بن وهب – حليف لهم من بني كلب بن عوف- قتله خالد وإياس ابنا البكير، ويقال أبو دجانة على ما قاله ابن هشام.
التاسع والخمسون :ومن بني جمح بن عمرو بن هصيص ثلاثة نفر، إلى جانب أمية بن خلف , وهم :
الأول : ابنه علي بن أمية بن خلف، قتله عمار بن ياسر.
الثاني : أوس بن معير بن لوذان بن سعد بن جمح، قتله علي بن أبي طالب، ويقال قتله الحصين بن الحارث، وعثمان بن مظعون.
الثالث : سبرة بن مالك – حليف لهم- لا يعرف قاتله.
آيات في حفظ القرآن
نزلت آيات من القرآن تدل على أن الله عز وجل هو الذي يحفظ القرآن في ألفاظه ودلالته وبيانه ومنها :
الأولى : قوله تعالى [لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ]( ).
الثانية : قوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، أي أنه هدى في كل زمان .
الثالثة : قوله تعالى [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ]( )، أي لو تكلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاء من عنده بكلام ونسبه الى الله.
والآية في الرد والإحتجاج على كفار قريش ، وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : إن الله برأ محمدا صلى الله عليه وآله من ثلاث: أن يتقول على الله، أو ينطق عن هواه، أو يتكلف( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ]( ).
لبيان أن القرآن محفوظ في صدور المؤمنين ولا يختص هذا الحفظ بالذين يحفظون القرآن كله عن ظهر قلب ، إنما يشمل العلماء وعموم المسلمين ، وتلاوتهم لآيات وسور القرآن في الصلاة ، فهذا يحفظ ثلاث سور وهذا يحفظ عشرة وهذا يحفظ عشرين ، وهكذا ليقع التدارس بينهم ويكون تدارس، معارضة جبرئيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آيات سور القرآن أسوة للمسلمين في كل زمان .
وهذه المسألة تبين هنا لأول مرة وهي أن جبرئيل أراد من المسلمين التدارس في القرآن خصوصاً في شهر رمضان ، وبما يمنع من تسرب أو دبيب التحريف له سواء في اللفظ أو المعنى.
الخامسة : قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
السادسة : قوله تعالى [وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا]( ).
السابعة : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( )، لبيان التحدي للخلائق بعجزهم عن تبديل أو تحريف كلمات وآيات القرآن.
دعاء النبي للكفاية
من خصائص الأنبياء تفويض الأمور إلى الله عز وجل ، واللجوء إلى الله بالدعاء والتضرع وقد تناجت قريش في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن الزهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: اللهم، اكفني نوفل بن خويلد! وأقبل نوفل يومئذٍ وهو مرعوب، قد رآى قتل أصحابه، وكان في أول ما التقوا هم والمسلمون، يصيح بصوتٍ له زجل، رافعاً صوته: يا معشر قريش، إن هذا اليوم يوم العلاء والرفعة!
فلما رأى قريشاً، قد انكسرت جعل يصيح بالأنصار: ما حاجتكم إلى دمائنا .
أما ترون ما تقتلون .
أما لكم في اللبن من حاجة .
فأسره جبار بن صخر فهو يسوقه أمامه، فجعل نوفل يقول لجبار ورأى عليا مقبلاً نحوه قال: يا أخا الأنصار، من هذا .
واللات والعزى، إني لأرى رجلاً، إنه ليريدني .
قال: هذا علي بن أبي طالب.
قال: ما رأيت كاليوم رجلاً أسرع في قومه منه. فيصمد له علي عليه السلام فيضربه، فنشب سيف علي في حجفته( ) ساعة، ثم نزعه فيضرب ساقيه، ودرعه مشمرة، فقطعهما، ثم أجهز عليه فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: من له علمٌ بنوفل بن خويلد؟
فقال علي عليه السلام : أنا قتلته.
قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وقال: الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه! ( )
وأقبل العاص بن سعيد يحث على القتال، فالتقى هو وعلي عليه السلام ، فقتله علي فكان عمر بن الخطاب يقول لابنه سعيد بن العاص: إني لأراك معرضاً، تظن أني قتلت أباك؟
في أصل ابن أبي حية، والله ما قتلت أباك ولا أعتذر من قتل مشرك، ولقد قتلت خالي بيدي، العاص بن هشام بن المغيرة، فقال سعيد: لو قتلته لكان على الباطل وأنت على الحق.
قال: قريش أعظم الناس أحلاماً، وأعظمها أمانةً، لا يبغيهم أحدٌ الغوائل إلا كبه الله لفيه) ( ).
وفي رواية أن عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص ومر به (فأما أبوك فإني مررت به، وهو يبحث بحث الثور بروقه، فحدتُ عنه، وقصد له ابنُ عمه علي فقتله) ( ).
قانون الملازمة بين النبوة والحكم بالعدل
من خصائص الأنبياء الحكم بالعدل ،وتنمية ملكة العدل والإنصاف عند الناس والميل إلى الصلح والوئام من غير ظلم أو جور ، وهل قوله تعالى [يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ] ( ) خاص بالنبي داود عليه السلام أم أنه شامل لكل الأنبياء خصوصاً النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
المختار هو الثاني .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم توليه الحكم والفصل بين كل من :
الأول : المسلمون فيما بينهم .
الثاني : المسلمون وأهل الكتاب .
الثالث : أهل الكتاب فيما بينهم .
الرابع : المشركون .
الخامس : المسلمون والمشركون .
قال تعالى [فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ]( ).
قال تعالى [وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا]( )، أي لا تدافع عن الخائنين والكاذبين ولا تخاصم الناس بسببهم .
وفي أسباب نزول هذه الآية ورد عن قتادة قال : ذكر لنا أن هذه الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق ، وفيما هم به نبي صلى الله عليه وسلم من عذره .
فبين الله شأن طعمة بن أبيرق ، ووعظ نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وحذره أن يكون للخائنين خصيماً ، وكان طعمة بن أبيرق رجلاً من الأنصار ، ثم أحد بني ظفر سرق درعاً لعمه كانت وديعة عندهم ، ثم قدمها على يهودي كان يغشاهم ، يقال له زيد بن السمين ، فجاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهتف ، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر ، جاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ليعذروا صاحبهم ، وكان نبي الله قد هم بعذره حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل ، فقال { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم}( )، إلى قوله { يرم به بريئاً}( )، وكان طعمة قذف بها بريئاً ، فلما بين الله شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين ، فأنزل الله في شأنه وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.
لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحكم بالحق وأن الوحي عضد له ، وإن كان لصالح كتابي على مسلم كما تدل هذه الآيات وأسباب نزولها على تلقي الصحابة نزول آيات القرآن بالرضا والتصديق وإن كانت تفضح صاحبهم.
وفي رواية ابي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال : إن اناسا من رهط بشير الاذنين قالوا: انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله نكلمه في صاحبنا ونعذره فإن صاحبنا برئ، فلما أنزل الله [يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ]( )، إلى وقوله ” وكيلا ” فأقبلت رهط بشير فقالوا: يا بشير استغفر الله وتب من الذنب .
فقال : والذي أحلف به ما سرقها إلا لبيد فنزلت [وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا]( )، ثم إن بشيرا كفر ولحق بمكة، وأنزل الله في النفر الذين أعذروا بشيرا وأتوا النبي صلى الله عليه وآله ليعذروه : ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ” فنزل في بشير وهو بمكة وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا.
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجاهد لبناء دولة العدل والحق ، وتنزيه المجتمعات من الظلم ، ونزلت آيات القرآن لتعضيده ، وتثبيت سنن وأحكام الشريعة إلى يوم القيامة ، وبيان قبح السرقة ، وضررها على المجتمع وأن الله عز وجل يتفضل فيفضح السارق والظالم وإن ستر الله عز وجل عليه فيجب أن يشكر الله بالتوبة النصوح .
ولم يرض المشركون بسيادة الوحي وحكم الله في الأرض والذي يتقوم بوجوب أداء الصلاة والزكاة والصيام ، وبالمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات مع أن الإسلام لم يتعرض الى ملكيتهم الخاصة بل حفظها لهم ولكن غلب عليهم العفو والغرور ، وحسدوا النبي محمداً وكذّبوه فسلت السيوف ، وسالت الدماء فكان النصر للنبوة وثبات التنزيل في الأرض إلى يوم القيامة من غير تحريف أو تبديل أو تغيير ، قال تعالى [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
دخول النبي (ص) مكة لا عنوة ولا صلحاً
أختلف في فتح مكة على وجهين ونستحدث معهما وجهاً ثالثاً :
الوجه الأول : فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة عنوة ، وبه قال الأوزاعي إذ خلى بين المهاجرين ودورهم وأراضيهم ، فاعادها لهم ، وقيل فتحها عنوة لأنه عفى عن أهلها ، وأستدل عليه بنعت النبي لرجالات قريش بالطلقاء ، ولكن هذه التسمية لم تأت إلا بعد أن دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة ، وأطمأن الناس وخرجوا إلى البيت وتطلعوا إلى رؤية الطلعة البهية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فجاء إلى البيت وطاف سبعاً على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده ( ).
ثم دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عثمان بن طلحة وكان قد أسلم أيام الهدنة مع خالد بن الوليد (فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها فوجد بها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها ثم وقف على باب الكعبة .
فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمى هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج .
ألا وقتيل الخطأ شبيه العمد السوط والعصى ففيه الدية مغلظة مائة من الابل أربعون منها في بطونها أولادها يا معشر قريش إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم من تراب .
ثم تلاهذه الآية [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] ( ) .
ثم قال يا معشر قريش ما ترون أنى فاعل فيكم قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم ثم قال اذهبوا فأنتم الطلقاء ثم جلس في المسجد) ( ).
وأستدل على فتح مكة عنوة بقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا] ( ) وإرادة مكة من الآية .
والمشهور والمختار أن موضوع الآية أعلاه هو صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة ، ونعته فتح شاهد على رفع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لواء السلم والصلح ، وأنه لا يريد القتال والحرب ، ولو قلنا بأن المراد من الفتح في الآية أعلاه هو فتح مكة ، فان الآية لا تدل على فتحها عنوة ، إنما جاء الفتح بأمر ومشيئة من عند الله عز وجل ، وهو سبحانه لا تستعصي عليه مسألة ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
كما استدل بقوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا] ( ) وليس في هذه الآية ما يدل على فتح مكة عنوة وبالغلبة والعكس صحيح ، كما أنها نزلت بخصوص صلح الحديبية (عن أنس قال : لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة في السلاح من قبل جبل التنعيم يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم فنزلت هذه الآية وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم) ( ).
وأستدل بسورة النصر [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ) ولكن هذه السورة نزلت في حجة الوداع وعدّها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم استيفاء لقيامه بالتبليغ وإيذاناً بمغادرته الحياة الدنيا .
وأستدل بآيات أخرى منها [أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) وقوله تعالى [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ] ( ).
كما أستدل عليه بالسنة النبوية ، وأن علة فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمكة نقض قريش الإتفاق باعانتهم على قتال خزاعة ، ومجئ وفد خزاعة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للشكوى وطلب النصرة .
لقد تضمن صلح الحديبية شرط وضع الحرب لعشر سنوات ، ويأمن الناس فيها ، ويكف بعضهم عن بعض وأعطي الخيار للقبائل بأن تدخل في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عهد قريش .
فدخلت قبيلة خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ودخلت بنو بكر في عهد قريش ، التي عدت على خزاعة وقتلت رجلاً منهم ، ونقضت قريش العهد بأن رفدوا بني بكر من وجوه :
الأول : إعارة وهبة السلاح .
الثاني : الكراع ، أي الخيل خاصة والإبل .
الثالث : قتال رجال من قريش مستخفين مع بني بكر حنقاً وعداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتوبيخاً للذين تعاهدوا معه.
لقد حجز صلح الحديبية بين الناس ، ولكن بني الديل من بني بكر أرادوا الإنتقام والثأر لقتل حدث في الجاهلية ،وهو كالآتي :
إذ قتلت خزاعة رجلاً من بني الحضرمي اسمه مالك بن عِباد وهو حليف للأسود بن رزن من رؤساء بني الديل ،فلما توسط أرض خزاعة ، عدوا عليه فقتلوه ، وسلبوا ماله ( )، هذا قبل الإسلام بسنوات فقامت بنو بكر بقتل رجل من خزاعة ، ولكن خزاعة تجاوزت بأن قتلت أولاد الأسود بن رزن الديلي ، وهم أخوة من أشراف بني بكر وكنانة فقتلوهم ، وهم :
الأول : سلمى .
الثاني : كلثوم .
الثالث : ذؤيب .
(وكان قتلهم بعرفة عند أنصاب الحرم) ( ).
ثم جاء الإسلام وانشغلت قريش وحلفاؤها بالحرب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإغارة على المدينة .
حتى تم صلح الحديبية ، وحجز بين الناس ، ولكن طائفة من بني الديل لم ينسوا وطأة قتل الإخوة الثلاثة غدراً ، فانتهز نوفل بن معاوية من بني بكر الهدنة والطمأنينة بين الناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ جماعة معه من بني بكر ليلاً فبيتوا لخزاعة ، وهم على ماء لهم يسمى الوتير ، فاقتتلوا وأعانتهم قريش فلجأت خزاعة إلى الحرم ، فأمر نوفل بن معاوية باللحاق بهم ، وقتلهم في الحرم .
ولكن أصحابه وغيرهم من الناس حذروه وأنذروه ، وقالوا (يا نوفل، الحرم، اتق الله إلهك. فقال الكافر: لا إله له اليوم، والله يا بني كنانة إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تدركون فيه ثأركم فقتلوا رجلاً من خزاعة يقال له: منبه، وانجحرت في دور مكة ، فدخلوا دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ودار مولى لهم اسمه رافع، وكان هذا نقضاً للعهد الواقع يوم الحديبية) ( ).
وفيه مغالطة منه ، فالقتل وسفك الدماء في الحرم ليس مثل السرقة التي هي أدنى مراتب من سفك الدماء .
عندئذ ركب وفد من خزاعة برئاسة عمرو بن سالم إلى المدينة ،وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنشد عمرو هذا أبياتاً بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبين فيها نقض قريش العهد والميثاق وما لاقاته خزاعة من الأذى ، وتوجه إلى الله بنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأظهر أن الذين قتلوا من خزاعة كانوا مسلمين ، إذ قال:
(اللهمَّ إني ناشد محمداً … خلف أبينا وأبيه إلا تلدا
كنا والداً وكنت ولداً … ثَمَّتَ أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر رسول الله نصراً عندا … وادعُ عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا … إن شئتم حسنا فوجهه بدر بدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا … ان قريشاً اخلفوك موعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا … وزعموا أن ليس تدعو احدا
فهم أذل وأقل عددا … قد جعلوا لي بكداء رصدا
هم بيوتنا بالهجير هجدا … وقتلونا ركَّعا وسجَّدا) ( ) .
قال ابن اسحاق :
وَقَالَ الْأَخْزَرُ بْنُ لُعْطٍ الدّيلِيّ فِيمَا كَانَ بَيْنَ كِنَانَةَ وَخُزَاعَةَ فِي تِلْكَ الْحَرْبِ .
أَلَا هَلْ أَتَى قُصْوَى( ) الْأَحَابِيشِ( ) أَنّنَا . رَدَدْنَا بَنِي كَعْبٍ بِأَفْوَقَ نَاصِلِ( )
حَبَسْنَاهُمْ فِي دَارَةِ الْعَبْدِ رَافِعٍ … وَعِنْدَ بُدَيْلٍ مَحْبِسًا غَيْرَ طَائِلِ
بِدَارِ الذّلِيلِ الْآخِذِ الضّيْمِ بَعْدَمَا … شَفَيْنَا النّفُوسَ مِنْهُمْ بِالْمَنَاصِلِ
حَبَسْنَاهُمْ حَتّى إذَا طَالَ يَوْمُهُمْ … نَفَخْنَا لَهُمْ مِنْ كُلّ شِعْبٍ بِوَابِلِ( )
نُذَبّحْهُمُ ذَبْحَ التّيُوسِ كَأَنّنَا … أُسُودٌ تَبَارَى فِيهُمُ بِالْقَوَاصِلِ( )
هُمْ ظَلَمُونَا وَاعْتَدَوْا فِي مَسِيرِهِمْ … وَكَانُوا لَدَى الْأَنْصَابِ أَوّلَ قَاتِلِ
كَأَنّهُمْ بِالْجِزْعِ إذْ يَطْرُدُونَهُمْ … قَفَا ثَوْرَ( ) حَفّانُ النّعَامِ الْجَوَافِلِ) ( ).
وتفاخرت بنو الديل ، وردوا على الأخزر إذ (أَجَابَهُ بُدَيْلُ بْنُ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَجَبّ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ بَدِيلُ ابْنِ أُمّ أَصْرَمَ ، فَقَالَ
تَفَاقَدَ قَوْمٌ يَفْخَرُونَ وَلَمْ نَدَعْ … لَهُمْ سَيّدًا يَنْدُوهُمُ غَيْرَ نَافِلِ
أَمِنْ خِيفَةِ الْقَوْمِ الْأُلَى تَزْدَرِيهِمْ … تُجِيزُ الْوَتِيرَ خَائِفًا غَيْرَ آيِلِ
وَفِي كُلّ يَوْمٍ نَحْنُ نَحْبُو حِبَاءَنَا … لِعَقْلِ وَلَا يُحْبَى لَنَا فِي الْمَعَاقِلِ
وَنَحْنُ صَبَحْنَا بِالتّلَاعَةِ دَارَكُمْ … بِأَسْيَافِنَا يَسْبِقْنَ لَوْمَ الْعَوَاذِلِ
وَنَحْنُ مَنَعْنَا بَيْنَ بَيْضٍ وَعِتْوَدٍ … إلَى خَيْفِ رَضْوَى مِنْ مَجَرّ الْقَنَابِلِ
وَيَوْمَ الْغَمِيمِ قَدْ تَكَفّتَ سَاعِيًا … عُبَيْسٌ فَجَعْنَاهُ بِجَلْدِ حُلَاحِلِ
أَإِنْ أَجْمَرْت فِي بَيْتِهَا أُمّ بَعْضِكُمْ … بِجُعْمُوسِهَا تَنْزُونَ أَنْ لَمْ نُقَاتِلْ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللّهِ مَا إنْ قَتَلْتُمْ … وَلَكِنْ تَرَكْنَا أَمْرَكُمْ فِي بَلَابِلِ) ( ).
وقال حسان بن ثابت بخصوص هذه الحرب :
(لَحَا اللّهُ قَوْمًا لَمْ نَدَعْ مِنْ سَرَاتِهِمْ( ) … لَهُمْ أَحَدًا يَنْدُوهُمُ غَيْرَ نَاقِبِ( )
أَخُصْيَيْ حِمَارٍ مَاتَ بِالْأَمْسِ نَوْفَلًا
مَتَى كُنْت مِفْلَاحًا( ) عَدُوّ الْحَقَائِبِ( ))( ).
وتطلعت خزاعة لجواب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذي قال (نصرت يا عمرو بن سالم ، فما برح حتى مرت غمامة في السماء فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن هذه السحابة لتشهد بنصر بني كعب ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس بالجهاد وكتمهم مخرجه ، وسأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم) ( ).
(قال جرير بن عبد الله سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة .
والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة) ( ).
وذكر أن عدد الطلقاء (قريباً من ألفين ) ( ) وصحيح أنهم أسلموا بعد الغلبة عليهم ، ولكنه لا يدل على فتحها عنوة لأن هذا الأمر يتعلق بالأفراد والذوات فاغلبهم لم يقاتلوا ، وطلبوا الأمان قبل دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة .
وبعد أن أطلع وفد خزاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما لحقهم من القتل ومظاهرة قريش لبني بكر عليهم خلافاً لشروط صلح الحديبية ، انقلبوا إلى مكة راجعين من غير أن يسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما سيفعله .
مع ورود لفظ [يَسْأَلُونَكَ] في القرآن خمس عشرة مرة لبيان أن أسئلة المسلمين تتعلق بالتشريع وأحكام الحلال والحرام ، والتكاليف الخمس إلى جانب ما ورد في السنة النبوية من الأخبار عن أسئلة المسلمين وغيرهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل كانت خزاعة مسلمون حين تعرضها لهجوم بني الديل .
الجواب إنما هم دخلوا في عهد النبي ، ولم يدخلوا كقبيلة في الإسلام، نعم تدل اشعار وفد خزاعة على وجود مسلمين بين ظهرانيهم وأنهم تعرضوا للقتل ظلماً ، وهذا الوجوه من أسباب دخولهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن كانت خزاعة في الأصل حلفاء بني هاشم ، لبيان أسباب توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة ، لإزاحة سلطان الذين كفروا منها ، وتطلع الناس إلى ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنهم يعلمون أنه [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) .
فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينتظر الوحي خاصة في مسألة خروج كتيبة نحو مكة وما فيه من منافع عظيمة منها إزاحة المشركين عن ولاية البيت الحرام ، قال تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) والضمير (الهاء) في أوليائه يعود للمسجد الحرام إذ كان مشركو قريش يقولون (نحن أولياء المسجد)( ).
لقد أخرجوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إذ انحصرت نجاته من القتل بهذا الخروج ، ولم يعلموا أنهم فتحوا على أنفسهم باب العذاب ، لأن وجود النبي بينهم كان سبباً للرحمة ، وصرف العذاب عنهم ، إذ قال الله في الآية السابقة للآية أعلاه [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]( ) .
وقال بعض المفسرين المراد من العذاب في الآية أعلاه عذاب السيف ، ولا دليل عليه ، إنما العذاب بالإبتلاء ونقص الأموال حيث أنفقوها في الحرب ضد النبوة والتنزيل .
وقوله تعالى [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ] ( )يتعلق بأهل مكة وحرمانهم أنفسهم من وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم، وتوالي نزول المعجزات الحسية والعقلية عليه .
وقال مالك وأبو صبغة وأصحاب الرأي : فتحت مكة عنوة ومنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أهلها .
الوجه الثاني : ذكر أن دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة صلحاً وبه قال الشافعي ، وعدد من الذين قتلوا من المشركين إنما هم قتلة خزاعة ، وليس له دار في مكة إنما لجأوا إليها .
وقد قاتلوا خالد بن الوليد (وكان على المجيبة اليمنى، وفيها أسلم، وسليم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وقبائل من العرب – أن يدخلوا من الليط، وهو أسفل مكة، وأمره أن يغرز رايته عند أدنى البيوت وأمر أبا عبيدة بن الجراح على الحسر، كما عند الامام أحمد) ( ).
ومن مصاديق دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة صلحاً أنه أمر (أمراءه أن يكفوا أيديهم، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، قال ابن إسحاق، ومحمد بن عمر : إن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمر -، وأسلموا بعد ذلك – دعوا إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجمعوا أناسا
بالخندمة وضوى إليهم ناس من قريش، وناس من بني بكر، وهذيل، ولبسوا السلاح، يقسمون بالله لا يدخلها محمد عنوة أبدا، وكان رجل من بني الديل يقال له جماش – بكسر الجيم وتخفيف الميم – وبالشين المعجمة – بن قيس بن خالد لما سمع بدخول رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – جعل يصلح سلاحه، فقالت له امرأته: لمن تعد هذا ؟
قال: لمحمد وأصحابه، قالت: والله ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شئ.
قال: والله انى لارجو أن أخدمك بعضهم فانك محتاجة إليه .
قالت، ويلك: لا تفعل، ولا تقاتل محمدا والله ليضلن عنك رأيك، لو قد رأيت محمدا، وأصحابه، قال ستري ثم قال: (إنْ يُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَا لِي عِلّةٌ … هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلَهْ
وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السّلّهْ) ( ).
ثم شهد الخندمة مع صفوان، وسهيل بن عمرو، وعكرمة فلما دخل خالد بن الوليد من حيث أمره رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وجد الجمع المذكور، فمنعوه الدخول، وشهروا له السلاح، ورموه بالنبل، وقالوا: لا تدخلها عنوة، فصاح في أصحابه، فقاتلهم، وقُتل منهم أربعة وعشرون رجلا من قريش، وأربعة من هذيل.
وقال ابن إسحاق: أصيب من المشركين قريب من اثنى عشر أو ثلاثة عشر، وانهزموا أقبح الانهزام) ( ).
ولم يقتل من المسلمين يومئذ إلا رجلان أضلا الطريق هما :
الأول : كرز بن جابر الفهري .
الثاني : حبيش بن خالد بن ربيعة .
ودخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة من غير قتال، وهو من الشواهد على أنه دخلها سلماً .
لقد دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهات متعددة إلى مكة ، وهل هو من عمومات قوله تعالى [وَقَالَ يَابَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ] ( ) الجواب نعم ، إذ أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كف المشركين أيديهم وإدراك أن قتالهم يضر بهم ،وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ) .
لقد بشّر يوسف عليه السلام أباه يعقوب النبي بأن يدخل مصر بأمان ، قال تعالى [فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ]( ) ليدخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة بأمان ووعد كريم من عند الله ، لتبقى تستقبل وفد لحاج والمعتمرين إلى يوم القيامة ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
نعم حدث قتال في جهة خالد بن الوليد ، وحينما نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إلى البارقة مع فضض المشركين، فقال: ” ما هذه البارقة .
ألم أنه عن القتال .
قالوا: يا رسول الله، خالد بن الوليد قوتل ولو لم يقاتل ما قاتل، وما كان يا رسول الله ليعصيك، ولا يخالف أمرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” قضاء الله خير) ( ).
لقد أعطى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أماناً عاماً لأهل مكة قبل أن يدخلها من وجوه :
الأول : من دخل المسجد الحرام فهو آمن( ) .
الثاني : من أغلق باب داره فهو آمن .
الثالث : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، وكان داره في أعلى مكة .
الرابع : من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن ، وكان داره في أسفل مكة ( ), وهو ابن أخي خديجة بنت خويلد زوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد الحرام في معجزة جلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال الشافعي : فتحت مكة صلحاً .
الوجه الثالث : وهو مستحدث هنا ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة بسلام ، أعاده الله عز وجل لها ، فهو والمؤمنون أولياء البيت الحرام ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
والأقوى أنه لا يصدق على دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة فتحاً ، وفيه رد على الذين يقولون في هذا الزمان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نقض العهد مع المشركين ، إنما المشركون هم الذين ينقضون العهود ، وهم ليس أهلاً لولاية البيت الحرام ، ولم يبق عدد كثير منهم ، إنما بقى منهم أفراد سرعان ما دخلوا الإسلام ، وأظهروا الندم على ما فعلوه من الإضرار بالنبوة والتنزيل .
فاغلب الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد والخندق دخلوا الإسلام ومنهم كثير من الرؤساء ، وصاروا يلحون بالرجوع إلى مكة لوجود المقتضي وفقد المانع ، ولإنتفاء وجود طائفة من المشركين ، إنما كانوا افراداً .
لقد قال الله تعالى [فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ] ( ) أي يتعلق موضوع ونوع المعاملة مع المشركين بذات تصرفهم وفعلهم ، أما مكة فهي بمعزل ، هي مدينة النبوة والتنزيل ، وإذا لم يستقم المشركون ، فيجب أن ينّحوا ويطردوا من ولاية البيت ، وفي دخولهم الإسلام سلامة من الغدر , ونجاة لهم في الدنيا والآخرة .
ولم يكن دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة عنوة على أهلها ، فهو وأصحابه أهلها ،ولم يدخلها صلحاً فليس من طرف آخر يتصالح معه .
وقد تم صلح الحديبية مع وفد من قريش برئاسة سهيل بن عمرو ،وعدد من أعضاء هذا الوفد دخلوا الإسلام بين صلح الحديبية ودخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة ، إنما دخلها بأمر الله ، وعاد الحق لأهله ، دخلها سلماً ولطفاً وعهداً من عند الله .
ومن معاني قوله تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ] ( ) أي إلى مكة (قاله مجاهد والضحاك وابن جبير ، والسدي ) ( ).
و(قال الامام الحسن بن علي عليهما السلام لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وأظهر بها دعوته، ونشر بها كلمته، وعاب أعيانهم في عبادتهم الاصنام، وأخذوه وأساؤا معاشرته، وسعوا في خراب المساجد المبنية كانت للقوم من خيار أصحاب محمد وشيعة علي بن أبي طالب عليه السلام، كان بفناء الكعبة مساجد يحيون فيها ما أماته المبطلون، فسعى هؤلاء المشركون في خرابها، و أذى محمد وأصحابه وألجاؤه إلى الخروج من مكة نحو المدينة التفت خلفه إليها .
وقال: ” الله يعلم إنني احبك، ولولا أن أهلك أخرجوني عنك لما آثرت عليك بلدا “،ولا ابتغيت عليك بدلا ، وإني لمغتم على مفارقتك “.
فأوحى الله إليه: يا محمد العلي الاعلى يقرأ عليك السلام، ويقول: سنردك إلى هذا البلد ظافرا غانما سالما قادرا قاهرا، وذلك قوله تعالى: ” إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد “( )
يعني إلى مكة غانما ” ظافرا “. فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه فاتصل بأهل مكة فسخروا منه.
فقال الله تعالى لرسوله: سوف يظفرك الله بمكة ، ويجري عليهم حكمي، وسوف أمنع عن دخولها المشركين حتى لا يدخلها أحد منهم إلا خائفا، أو دخلها مستخفيا “.
من أنه إن عثر عليه قتل.
فلما حتم قضاء الله بفتح مكة واستوسقت له أمر عليهم عتاب بن أسيد، فلما اتصل بهم خبره قالوا: إن محمدا ” لا يزال يستخف بناحتى ولى علينا غلاما حدث السن ابن ثماني عشرة سنة، ونحن مشايخ ذوي الاسنان وجيران حرم الله الامن ، وخير بقعة على وجه الارض وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله لعتاب بن أسيد عهدا على مكة) ( ).
لقد كان الفتح يوم صلح الحديبية ، إذ قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) فليس من فتح في دخول مكة ، إنما كان دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها وعداً وصدقاً ورحمة من عند الله ، وصلاحاً ونجاة لأهلها .
وهل كان أهل مكة والعرب ينتظرون ويرجون دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة ، الجواب نعم , ولا عبرة بالقليل النادر من المقيمين على الكفر لوجود المقتضي وفقد المانع .
مسائل
وهناك مسائل :
الأولى : أين موضوعية دعاء إبراهيم لذريته وأهل مكة عامة أيام استحواذ المشركين على مكة .
الثانية : هل كانت هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يثرب أماناً لأهلها .
الثالثة : ما هي كيفية عذاب المشركين في موضوع الآية عند مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة مهاجراً خاصة وأن هذه الهجرة باكراه ووعيد من قريش أنفسهم .
أما المسألة الأولى فان الله عز وجل قد استجاب لإبراهيم دعوته ولكن المشركين حرموا أنفسهم من هذه النعمة باختيارهم الكفر والشرك ، وقد سأل إبراهيم عليه السلام الرزق الكريم من الثمرات للمؤمنين بالقول [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ]( ) .
لإرادة الحصر في النعم ،ولكن الله عز وجل أجابه بأن نعمه تتغشى مجاوري البيت الحرام جميعاً ، ولكن الذين كفروا يلقون العذاب الأليم في الآخرة ، إذ ورد في ذات الآية أعلاه [وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً] ( )، ومنه منع إفتتان المسلمين وعامة الناس بالجاه والأموال التي عند رؤساء قريش من الكفار .
وهل يدل قيد [قَلِيلاً] أعلاه على قرب فتح مكة ، وقطع دابر الكفر ، الجواب نعم ، ليكون في الآية إنذار لقريش ، وزجر للناس من إعانتهم في حربهم وقتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وهل هذا المعنى من الإشارات في الآية القرآنية التي تبين هنا ، الجواب لا ، إنما هي دلالات بينة وفطرة ظاهرة وسبب في دخول الناس الإسلام ، وتخليهم عن نصرة قريش عندما تمادوا في حرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وأما المسألة الثانية , فالجواب نعم , لقانون وهو من خصائص الأنبياء مصاحبة البركة لهم ، وفي عيسى عليه السلام ورد قوله تعالى [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا]( ).
وكانت المدينة تسمى يثرب على اسم رجل من أحفاد نوح وهو الذي أسس هذه المدينة ، لبيان أن العماليق قد سكنوا هذه المدينة ، وقيل ان يثرب موجودة قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليها بنحو (1500) سنة ، وذكرت يثرب في كتب الإغريق ، وفي نصوص أشورية تعود للقرن السادس قبل الميلاد .
وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها سميت بالمدينة ، كما تسمى بعدة أسماء أخرى منها :
الأول : أرض الهجرة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هاجر إليها .
الثاني : أرض الله ، لقوله تعالى [قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا] ( ).
الثالث : آكلة القرى ، لما ورد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهى المدينة، تنقى الناس كما ينقى الكير خبث الحديد) ( ).
وظاهر الحديث صدوره من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوان الهجرة ، وقد أسلم أبو هريرة في السنة السادسة للهجرة.
الرابع : طيبة : إذ ورد (عن جابر بن سمرة قال : كانوا يسمون المدينة يثرب ، فسماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طيبة)( ).
الخامس : مدينة الإيمان ، وهو الذي تجلى بالهجرة وما تبعها من تثبيت سنن الهدى في المدينة بعدها .
(عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) ( ).
وقد انفرد مالك بتفضيل المدينة على مكة ، والأصح والثابت تفضيل مكة عليها .
ومعنى (يأزر) أي يرجع ويحتمي ويجتمع ، كما ترجع الحية إلى حجرها ، وهل فيه إشارة إلى آخر الزمان ، الجواب نعم (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَنَّةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا ثُمَّ يَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ الْغُرَبَاءُ قَالَ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُحَازَنَّ الْإِيمَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا يَحُوزُ السَّيْلُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَأْرِزَنَّ الْإِسْلَامُ إِلَى مَا بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا)( ).
ومن بركات هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن المعارك كانت مشتعلة بين الأوس والخزرج ، ومعهم حلفائهم من لقبائل العربية ، ويهود المدينة ، ومنها حرب بعاث قبل الهجرة النبوية بخمس سنوات ، وسميت بُعاث نسبة إلى الموضع الذي وقعت فيه الحرب .
وكان الخزرج أكثر عدداً من الأوس ، وحالفوا قبيلة أشجع وجهينة ، ومن اليهود بنو قينقاع .
وحالف الأوس مزينة ، ويهود بني قريظة ، وبني النضير .
فنشب القتال بين فرق اليهود أنفسهم بسبب إختلاف تحالفهم مع الأوس والخزرج .
ولما توقفت الحرب قام اليهود بجمع الأموال لفداء اليهود الأسرى عند الفريقين سواء عند الأوس أو الخزرج ، وعيّرت العرب اليهود ، قالوا لهم كيف يقاتل بعضكم بعضاً ثم تقومون بفداء الأسرى من الطرفين .
فاجابوا : نعم قد حرم الاقتتال بيننا ولكننا نتقيد بما بيننا وبين حلفائنا من الأوس والخزرج ،ونستحي منهم فلا نتخلف عن نصرتهم .
وبهذا الخصوص نزل قوله تعالى [ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] ( ).
وحينما علمت الخزرج بتحالف بني قريظة والنضير مع الأوس توعدوهم ، وبعثوا لهم برسائل تهديد وتخويف ، وأرسل اليهود أربعين من غلمانهم رهائن عند الخزرج ، لتأتي هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتوحد بين قطبي القتال الأوس والخزرج وينعم اليهود بالأمان والسلم ، ويعقدون المواثيق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من الشواهد على الصبغة العالمية لرسالة السلام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأما المسألة الثالثة فتتضمن وجوهاً :
الأول : بيان قبح فعل رؤساء الكفر من قريش بمنع الناس من عمارة البيت الحرام، وصّد المسلمين عنه ، ومع أن صلح الحديبية فتح ونصر من عند الله ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) فانه يدل على منع قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من أداء العمرة ، وفيه إنذار للذين كفروا .
الثاني : مجئ الآية بصيغة المضارع ، أي عند مغادرتك سينزل بهم العذاب لحربهم على النبوة والتنزيل .
الثالث : سقوط القتلى من قريش لإصرارهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : الإنذار للذين كفروا بنزول العذاب بهم ، ويحتمل هذا العذاب جهات :
الأولى : إرادة العذاب .
الثانية : المقصود العذاب الآخروي .
الثالثة : العنوان الجامع للوجهين أعلاه .
المختار هو الثالثة أعلاه
ومن أسباب عذاب مشركي قريش العاجل إرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واضطراره للهجرة إلى المدينة بالوحي والأمر من عند الله ، وقد قال الله تعالى [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]( ) والمراد صرف العذاب بأحد أمرين :
الأول : وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الإستغفار ، ومن رحمة الله عز وجل بالناس تعدد أسباب النجاة وكذا البدائل ، إذ أن الإستغفار أمان باق في الأرض إلى يوم القيامة ، وكأن الآية تقول لمشركي قريش : أما أنكم قد أخرجتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة قهراً فالجأوا إلى الإستغفار ،وفيه نكتة وهي أن الإستغفار يقود إلى الهدى والإيمان.
جواز أخذ لقاح كورونا يوم الصيام
قال الله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
وفيه بيان لقانون وهو أن وقوله تعالى [كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، شاهد على تأريخ الأمم والملل ، وأنه إذا أعرض الناس عن موضوع وحي أو حرفت فريضة ، فان القرآن نزل ليبينها للناس إلى يوم القيامة ، وهذا البيان كاشف للتحريف ومبطل له ، فقد انقطع بنزول القرآن التحريف وأثره ، وهو من مصاديق الحاجة إلى سلامة القرآن من التحريف والتبديل والتغيير ، فلا يطرأ عليه التحريف إلى يوم القيامة ، إذ يخبر القرآن بأن فريضة الصيام ليست جديدة وأنها كانت مفروضة على الموجودين السابقين ، وفي رواية أنها فرضت على الأنبياء والرسل.
وتدل الآية على تشريع الصوم قبل الإسلام وفيه بعث للمسلمين لتعاهده ، واخبار عن وجود أمم من المسلمين قبل الإسلام , وفي المراد من مدة الصوم في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ) وجوه :
الأول : ثلاثة أيام من كل شهر .
الثاني : شهر رمضان .
الثالث : إرادة سنخية الصوم من غير تعيين للأيام .
الرابع : التباين بين ما فرض على الأمم السابقة ، فمنهم ما فرض عليه ثلاثة أيام ، ومنهم ما فرض عليه شهر رمضان .
والمراد امتناعهم عن الأكل والشرب والجماع .
وظاهر الآية الإلتقاء بين المسلمين والأمم الأخرى في صيام أيام معدودات ، مما يدل على تعيينها والمختار إرادة شهر رمضان و(كتب) يدل على الوجوب .
ومن الإعجاز توجه الخطاب للمسلمين والمسلمات وتجدد الفريضة كل عام بكلمة واحدة من القرآن وهي [كُتِبَ].
وذكر أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم صام تسع رمضانات ، ولم يرد هذا القول عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن الصحابة ، ولا عن أئمة أهل البيت ، بل لم يرد عن التابعين ، إنما ذكره بعض المتأخرين ، والشراح في الحواشي .
ومع هذا قال أحد العلماء المعاصرين (وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صام تسع رمضانات) ( ).
وليس هو من الصحيح إنما هو استقراء من بعض المتأخرين ، والمختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يصوموا رمضان من السنة الثانية التي وقعت فيه معركة بدر ، حتى على القول بأن فرض الصوم في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة ، فلم يرد في أخبار معركة بدر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا صياماً أو أنه أمرهم بالإفطار عند الخروج من المدينة أو عند القتال ، مع وقوع المعركة في اليوم السابع عشر من شهر رمضان أو أنهم قضوا صيام شهر رمضان فيما بعد مع أن الخروج من المدينة إلى معركة بدر والعودة منها استوعب أكثر أيام شهر رمضان .
والمختار أنه على القول بفرض الصيام في السنة الثانية للهجرة فانه فرض بعد شهر رمضان من تلك السنة .
وعن ابن عباس في قوله تعالى [كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] يعني بذلك أهل الكتاب .
وفي حديث الإمام الحسن عليه السلام في مجئ نفر من اليهود إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوجيهم له بعض المسائل منها أن أحدهم سأله (فأخبرني لاي شئ فرض الله عزوجل الصوم على امتك بالنهار ثلاثين يوما، وفرض على الامم أكثر من ذلك .
قال النبي صلى الله عليه وآله: إن آدم لما أكل من الشجرة بقي في بطنه ثلاثين يوما، وفرض الله على ذريته ثلاثين يوما الجوع والعطش، والذي يأكلونه بالليل تفضل من الله عزوجل عليهم، وكذلك كان على آدم، ففرض الله على امتي ذلك، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله: هذه الآية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ]( ) أي أن النبي لم يقاطعه وينفي فرض الصيام على الأمم السابقة أكثر من ثلاثين يوماً ، بل أجاب بعلة تعيين الثلاثين يوماً من أيام أبينا آدم عليه السلام مما يدل على إتحاد الحكم والموضوع بين الموحدين ، قال اليهودي: صدقت يا محمد، فما جزاء من صامها ، فقال النبي صلى الله عليه وآله: ما من مؤمن يصوم شهر رمضان احتسابا إلا أوجب الله له سبع خصال:
أولها : يذوب الحرام في جسده.
والثانية : يقرب من رحمة الله.
والثالثة : يكون قد كفر خطيئة أبيه آدم.
والرابعة : يهون الله عليه سكرات الموت.
والخامسة : أمان من الجوع والعطش يوم القيامة.
والسادسة : يعطيه الله براءة من النار.
والسابعة : يطعمه الله من ثمرات الجنة. قال: صدقت يا محمد)( ).
ويحتمل قوله تعالى [أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]( )، وجوهاً :
الأول : إرادة صيام المسلمين شهر رمضان ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( )، أي هلال شهر رمضان ، ولم يذكر في القرآن اسم شهر إلا شهر رمضان ، ومن إعجاز القرآن مجئ آية واحدة نذكر اسم الشهر ، وتبين أول الصيام وآخره بما يمنع اللبس والخلاف فيه إلى يوم القيامة ، إذ قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، وتقدير الآية كتب عليكم الصيام أياماً معدودات .
الثاني : إرادة صيام الأمم السابقة والتقدير : كتب على الذين من قبلكم أياماً معدودات ، ويحتمل جهات :
الأولى : صيام الأمم السابقة شهر رمضان أيضاً .
الثانية : صيام ثلاثة أيام من كل شهر ( ).
الثالثة : فرض الصيام على الأنبياء دون اتباعهم (عن حفص بن غياث النخعي قال: ” سمعت الإمام جعفر الصادق عليه السلام يقول: إن شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الامم قبلنا، فقلت له: فقول الله عزوجل : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم.
[الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، قال : إنما فرض الله صيام شهر رمضان على الانبياء دون الامم ففضل به هذه الامة وجعل صيامه فرضا على رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى أمته)( ).
وهذا لا يشمل أنواع صيام الأمم السابقة مثل المصريين القدامى ، ولا الذين اجتهدوا في زيادة أيام الصيام ولا صيام الصمت ونحوه ، إنما المراد الذين تلقوا الصيام فريضة من عند الله لقول تعالى [كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( ).
وفي مريم ورد قوله تعالى [إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا] ( ) وفي زكريا ورد قوله تعالى [آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ] ( ).
ويؤخذ لقاح كورونا بالعضل فهو غير مفطر في نهار شهر رمضان .
فالذي يفطر الصائم هو الأكل والشرب والجماع ، ويكون الأكل والشرب بواسطة الفم ، وأن يصل الطعام إلى الجوف من منفذ ظاهر للحواس أو وفق التحليل والمختبر بخصوص المستحدثات الطبية في الإطعام والتمثيل الغذائي والمكملات الغذائية .
ولا عبرة بالقليل النادر والدقة العقلية كالذي يدخل من الأوردة والمسامات إلا إذا كان هذا الدخول نوع مغذ للبدن وهي مسألة مستحدثة في هذا الزمان ، فالمغذي هنا يكون من المفطرات لما فيه من الأملاح والمواد الغذائية ، وإذا كان الذي يأخذه مريضاً فينطبق عليه قوله تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ…] ( ) أي عليه الإفطار ثم القضاء.
وإذا صاحبت اللقاح أعراض جانبية كارتفاع درجة الحرارة فللصائم أن يفطر , وهو الأولى , وعليه القضاء بعد انقضاء شهر رمضان لعمومات الآية أعلاه.
ويلزم الحذر في شهر رمضان من العدوى وأسبابها مثل التجمعات , قال تعالى[خُذُوا حِذْرَكُمْ].
وينتقض الصيام عندما يصل الشراب أو الطعام إلى جوف الإنسان ، أما اللقاح فهو ليس طعاماً أو شراباً ولا ينفذ إلى الجوف ، إنما هو أبرة في العضل أو الإلية ، نعم الأولى تأخير اللقاح إلى ما بعد الإفطار .
والذين عندهم أمراض حادة أو مزمنة يجب أن يستشيروا الطبيب .
وهل على المصاب بكورونا الصيام اذا استمرت إصابته بالمرض مع شهر رمضان الجواب لا يجب عليه الصوم لقوله تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( )، أما الذي في مرحلة التعافي فعليه استشارة الطبيب .
أما ابر الإنسولين والبنسلين والذي يعطى كلقاح أو علاج فانه لا يفطر سواء اعطيت في العضلة أو الوريد .
أما غسل الكلى ونقل الدم ونحوه فانه يفسد الصوم ، كما ينطبق عليه قوله تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ).
ومن المفطرات ما هو خارج إرادة الصائم أو الصائمة كخروج دم الحيض ، وهل يجوز تعاطي المرأة العقاقير لتأخير أوان العادة حتى خروج شهر رمضان الجواب نعم على كراهة من جهات :
الأولى : بقاء حال المرأة على جبلة الخلق ، وفي الإفطار مدة الحيض ثواب أيضاً.
الثانية : الأضرار الجانبية لاستعمال هذه العقاقير .
الثالثة : امكان القضاء أيام السنة كلها .
في سنة 1425 أي قبل سبع عشرة سنة أصدرت فتوى العصر :
م/ فتوى العصر
جواز ركوب السيارة والطائرة والقطار حال الإحرام
لقد جعل الله عز وجل الحج فريضة عبادية، وسياحة ملكوتية في أشرف بقاع الأرض، وما عليه النصوص والإجماع أن التظليل من تروك الإحرام، وجرت العادة في هذا الزمان أن تنتقل قوافل المؤمنين عند الإحرام للركوب في أحواض سيارات مكشوفة بطيئة وقديمة في الجملة، وسيارات حمل البضائع حرصاً على الإمتثال الأحسن، ولكن الشريعة سمحاء وتتضمن أدلة التخفيف المطلقة والخاصة في الحج ,وقاعدة نفي الحرج سيالة وحاكمة من باب الطهارة إلى الديات.
ونسبت حرمة تظليل المحرم سائراً إلى المشهور, كما قال في المدارك وجامع المدارك والحدائق، وفيه عن الصدوق: لا بأس بالتظليل ويتصدق عن كل يوم بمد.
وفي المنتهى جعل إبن الجنيد(297–385 هجرية) ترك التظليل مستحباً، وليس واجباً، كما قال باستحباب الفدية، والمختار عندنا هو الحرمة وفيه نصوص كثيرة وإن ظهرت بعض الأخبار بالكراهة و عدم البأس، منها صحيحة الحلبي قال: “سألت ابا عبد الله عليه السلام عن المحرم يركب في القبة؟ قال: ما يعجبني ذلك إلا أن يكون مريضاً”.
ولا تدخل السيارة والقطار والطائرة في الحرمة لوجوه:
الأول : القدر المتيقن من النصوص وفتاوى الفقهاء المتقدمين والمتأخرين هو المحمل والهودج والقبة والعمارية المظللة على البعير كمثال حاضر للمصداق ومتعلق الأمر والنهي.
الثاني : الإختيار وقصد التظليل قيد في نشر الحرمة، بدليل أن المشي تحت الظلال والأشجار جائز، فليس بمقدور الإنسان رفع سقف والقطار والسيارة والطائرة التي جاء بها من الآفاق والبلدان البعيدة، والتكليف بما لا يطاق قبيح ، وأحكام الشريعة الإسلامية منزهة وخالية مما لا يطاق وما فيه مشقة وعسر.
الثالث : حكومة قاعدة نفي الحرج، ولا ضرر ولا ضرار في المقام، ولابد أن الإحتراز والتوقي موافق للأوامر والنواهي كما هو ظاهر الأدلة خصوصاً مع القول بان الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.
الرابع : أدلة نفي التشديد على النفس، بالإضافة إلى فلسفة الوسط في الإسلام.
الخامس : أولوية وحدة المسلمين وتوكيد الأئمة المعصومين عليها في خصوص الحج.
السادس : إطلاقات أحكام التقية المداراتية، ومن وجوه الحكمة فيها تحصيل الإئتلاف ورفع الإختلاف، ودفع المنافرة .
السابع : لزوم دفع الأذى المحتمل المتحد والمتعدد , والشخصي والنوعي.
الثامن : صيانة المؤمنين ، ومنع الغيبة والإساءة لهم، والإحتراز من الجدال.
التاسع : التباين الموضوعي بين المحمل والدابة ، وبين السيارات والطائرات، وتعدد العنوان موجب لتعدد المعنون.
العاشر : إذا أنعم الله نعمة على أهل الأرض، فالمؤمن أولى بها، والطائرات والسيارات المكيفة من نعم الله عز وجل على الإنسان في هذا الزمان، ولم يثبت خروج موضوع الإحرام من إستخدامها.
الحادي عشر : لقد أصبحت أبدان الناس في هذا الزمان معتادة على التبريد والتدفئة، وتكون أكثر عرضة للأمراض حين الإنكشاف بسيارات مكشوفة ساعات عديدة، وقاعدة نفي الحرج بخلافه بالإضافة إلى النصوص في المنع من تعريض النفس للأذى، ومن الأدلة والبينة في المقام ما ورد في الصحيح عن سعد بن سعد الأشعري عن الرضا عليه السلام سألته عن المحرم: يظلل على نفسه، فقال: من علة؟ فقلت: يؤذيه حر الشمس وهو محرم، فقال: (هي علة يظلل ويفدي)، فمجرد الأذى من الشمس إعتبره الإمام عليه السلام سبباً كافياً للتظليل، وليس من أحد في هذا الزمان إلا ويؤذيه حر الشمس وشدة البرد إلا النادر، والحكم لا يكون على القليل النادر.
الثاني عشر : الحاجة إلى السلامة من الأمراض للإنقطاع إلى الدعاء والعبادة وأداء المناسك، ألا ترى مجيء النهي عن صيام يوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء.
الثالث عشر : وردت الرخصة بجواز التظليل للمريض، والمرض أعم من التلبس به، فمن مصاديقه وجود الظن المعتبر للإصابة والتعرض للأخطار بالسيارات القديمة المكشوفة في هذا الزمان، خصوصاً مع إحتمال سرعة إنتشار الأمراض والأوبئة في موسم الحج وإن كانت تدرء بفضل وعناية الله تعالى بوفد الحاج.
الرابع عشر : قد إقترحنا في البيان رقم 12 الصادر في 4 شوال 1424هـ إنشاء سكةحديد عالمية تربط عواصم العالم كلها بمكة المكرمة والمدينة المنورة، وسيأتي يوم ينتفع المسلمون والعالم بأسره من هذا المشروع الحيوي لما فيه من المنافع العقائدية والأخلاقية والإجتماعية والإقتصادية، وظهورِ وإزدهار مدن عديدة تقع على طريقه، وترغيبٍ بالحج والعمرة، ولابد أن يكون الإحرام داخل القطار، والأدلة منصرفة عن المركبات الكبيرة الحديثة التي تشهد تطوراً متصلاً أمس واليوم وغداً.
الخامس عشر : في باب الطهارة والنجاسة قالوا إن الماء المضاف إذا كان كثيراً ولاقى قطرة من النجاسة فانه ينجس وأطلقوا الحكم أي أنه يشمل ناقلة النفط ونحوها، وقد بيّنا في الجزء الأول من رسالتنا العملية “الحجة” ورسالتنا (حجة النساء) وهي أول رسالة عملية للمرأة أن القدر المتيقن هو الحوض والخابية والآنية الصغيرة، وكذلك بالنسبة لراحلة الحاج فقد كانت فردية كالبعير والناقة، ويمكن التصرف بها إختياراً، أما في هذا الزمان فواسطة السفر جماعية عامة مصنوعة من الحديد.
السادس عشر : هناك قاعدة كلية أصولية وهي إذا تغير الموضوع تبدل الحكم لأن الحكم تابع للموضوع، والمرتكز في أذهان المتشرعة في الأزمان السالفة هو الهودج والمحمل والقبة وهي البناء من الشعر على الهودج، فالأدلة منصرفة عن السيارات والطائرات موضوعاً وحكماً، وهذا الدليل حجة شرعية وعقلية.
السابع عشر: من حج ماشياً أو راكباً على دابة فان التظليل محرم عليه لقوله عليه السلام: (إحرام الرجل في رأسه)، وكفارته دم شاة إلا أن يكون مريضاً، ويكفي في السيارة والطائرة كشف الرأس أثناء الإحرام وعدم وجود الظل الإختياري.
الثامن عشر : الحج عيد عبادي تطلع شعوب العالم كافة على معظم مناسكه في زمن العولمة بواسطة الفضائيات ونحوها، ومن الأولى أن يظهر المؤمنون بأبهى صورة تبعث الشوق في نفوس الآخرين للحج والعلوم العقائدية، فمثلاً مع حرمة لبس الحرير يجوز لبسه في الحرب وساحة المعركة كي يبدو المسلمون أغنياء وفي مندوحة وسعة ولدعوة الكافرين لدخول الاسلام، وكذا بالنسبة لوسائط النقل في الإحرام، خصوصاً وأن الركوب بأحواض سيارات الحمل وعلى سطح السيارة لم يثبت دليله ولا يخلو من الأخطار.
التاسع عشر : ما ذكرناه أعلاه بفضل ورأفة الله تعالى أدلة شرعية، وفيه تيسير ضمن أحكام الشريعة، وسيتلقى أولوا المعرفة هذه الفتوى بالقبول الحسن لما فيها من تخفيف عن المؤمنين وإزاحة للعناء الذي يلاقونه كل عام ولزوم دفع العسر والمشقة، وسينتفع منها الملايين من الحجاج والمعتمرين، وتكون سبباً لمنع عزوف الكثيرين عن الحج المستحب وتكرار العمرة بسبب المشقة في واسطة الإحرام والموانع المصاحبة لها ذاتاً وتقييداُ، وفي هذه الفتوى عزّ وأمن، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
اللهم تفضل علينا باللطف والإحسان في هذه المسألة الإبتلائية، وإهدنا للتي هي أقوم في هذا العام وكل عام، إنك أنت اللطيف الخبير.

م/ متى يكون الإجهاض جائزاً
السقط هو الولد الغير تمام , ويقرأ السقط بحركات السين الثلاث (السِّقْطُ والسُّقْطُ والسَّقْطُ: في الوَلَدِ المُسْقَطِ) ( )، ويقال الولد المسقط ، يتساوى فيه الذكر والأنثى ، ويقال امرأة مِسقاط لمن كان الإسقاط عادة قهرية لها .
والأصل حرمة الإجهاض وعليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل ، ومن المسائل المستحدثة في هذا الزمان والإكتشافات الطبية إظهار الأشعة الطبي تشوه الجنين خلقياً ، وفيه وجوه وتفصيل :
الأول : إسقاط الجنين بسبب الخشية من ولادته مشوهاً وذا عيوب خلقية ومنه ولادته منغوليا وما يسمى بمتلازمة داون .حسب تقارير الأشعة قبل ولوج الروح في تمام الشهر الرابع .
فاذا اثبتت الأشعة الدقيقة والكشف العلمي بأن الجنين يولد مشوهاً ، فيجوز الإسقاط ما دامت الروح لم تنفخ فيه ، وفيه الدية بقدرها .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : تزوجوا فإني مكاثر بكم الامم غدا في القيامة حتى ان السقط يجيء محبنطئاً على باب الجنة فيقال له : ادخل الجنة ، فيقول: لا ، حتّى يدخل أبواي الجنة قبلي( ).
وهل يشمل هذا الحديث السقط بالإجهاض العمدي من قبل الوالدين، المختار لا .
الثاني : إسقاط الجنين بعد ولوج الروح فيه خشية ولادته مشوهاً.
فلا يجوز الإسقاط ، وعليه إجماع العلماء في هذا الزمان مع إستحضار موضوع كشف الأشعة لحال التشويه ، وتوقع حدوثه عند الولادة ، ومن فضل الله عز وجل على الناس أنك قد ترى سلامة من أخبرت الأشعة عن تشوهه، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( )ولأن الأشعة والكشف يفيد الظن في الجملة ، نعم هذا الظن في إرتقاء من جهة المرتبة مع تطور العلم في قادم السنوات ، وقد يقارب الواقع ، وعندئذ قد تتغير الفتوى لعمومات إذا تبدل الموضوع تبدل الحكم .
الثالث :حكم إسقاط الجنين قبل ولوج الروح بخصوص إضراره بالأم ووقوعها في الحرج الشديد قبل ولوج الروح .
فيجوز إسقاط الجنين خشية الحرج الشديد مدة الحمل , أو عند الولادة، أو بخصوص رعايته وتعاهده وحفظه ، لقاعدة نفي الحرج في الدين ، وفيه الدية من غير كفارة .
الرابع : حكم إسقاط الجنين بعد ولوج الروح في حال تعريضه لحياة الأم للخطر بعد ولوج الروح .
فلا يجوز الإسقاط إلا إذا ثبت رجحان تعرض الأم للهلاك والموت بسبب هذا الحمل أو بعد الولادة أو بلغ علم طب الأبدان في قادم السنين مراتب من الدقة العقلية بالرجحان الأكيد لخطر هلاك الأم ، وحينئذ تجب الدية من غير كفارة.
وهل يمكن استنباط جواز الإجهاض عند الحرج الشديد وشبه الضرورة بالحاقه بقوله تعالى [وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا]( )، أم أن الموضوع مختلف إذ تنص الآية أعلاه على التضاد بين إيمان الوالدين وكفر الغلام , المختار هو الأول والعلم عند الله .
الخامس : إذا أمكن معالجة الجنين وهو في بطن أمه فلا يجوز الإجهاض حتى قبل ولوج الروح .
السادس :حكم الدية والكفارة .
تجب الدية بقدرها ولحاظ عمر الجنين عند إسقاطه.
أما الكفارة فتسقط مع وجود المسوغ الشرعي .
وهل الدية على الطبيب حسب الأصل وهو تحمل المباشر للجناية والدية إلا مع القرينة على الخلاف ، أم أنها على الوالدين لأمرهما للطبيب بالإجهاض أو خصوص الذي يأمر به منهما .
المختار هو الثاني ، فيتحمل الوالدان دية الإسقاط إلى المرتبة الثانية من الورثة وهو إخوة السقط والأجداد الأربعة .
وهل يشاركهم أو بعضهم الأجداد الثمانية ، ووجودهم أمر ممكن في هذا الزمان مع زيادة متوسط عمرالإنسان ، وفي المجتمع شواهد عديدة منه ويحصل ايضاً في حال الحروب والأوبئة .
المختار لا ، لقاعدة الأقرب يحجب الأبعد , والعلم عند الله .
قانون الأخلاق الحميدة واقية
الخُلُق والخُلْقَ بضم وسكون اللام: السجايا والطباع، وموجبات السلوك، والمفاهيم والمباني التي تترشح عنها الأفعال الشخصية والعامة، وجمع الخلق: أخلاق.
ومن الأسرار اللغوية في إشتقاق ومعاني الكلمات القرآنية، أن الخُلُق مشتق من الخَلق والإنشاء، وفيه إشارة إلى مضامين التكليف في عالم السجايا والسلوك، وترتب الثواب على العمل الصالح ، وما يكون ملاكاً للأخلاق الحميدة، وهذه الأخلاق رشحة من رشحات الإيمان، وملازمة له، فلا تنفك عنه.
ويمكن معرفة المؤمن بأخلاقه الحميدة، بالبرهان الإني، وهو الإستدلال بالمعلول على العلة، والفرع على الأصل، إذ أن الأخلاق والسيرة مرآة للعقيدة والمرتكز والمبنى.
والإيمان حسن ذاتاً وأثراً، وواقية من القبائح والرذائل، وقد أثنى الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
وحسن خلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعرفه الناس جميعاً، وجاءت الآية أعلاه ليتخذ المسلمون سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة وإماماً في الأخلاق وفي العبادات قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
وهل من موضوعية للأخلاق الحميدة في دخول الناس الإسلام ، الجواب نعم فهو شعبة من الوحي ، وفي التنزيل [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) ترى ما هي مصاديق الأخلاق الحميدة التي يتحلى بها المؤمنون وابتاع الأنبياء ، الجواب من وجوه :
الأول : العفو والتجاوز عن السيئات .
الثاني : الإحسان للقريب والبعيد .
الثالث : التحلي بالصدق ، والتنزه عن الكذب .
(عن ابن عباس في قوله {ولا تلبسوا الحق بالباطل}( ) قال : لا تخلطوا الصدق بالكذب) ( ).
الرابع : الإجتهاد في طاعة الله ، وأداء الفرائض العبادية في أوقاتها ، وهو من أهم مصاديق الأخلاق الحميدة .
الخامس : ترك الغيبة والنميمة ، قال تعالى [وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ]( )، ومعنى الغيبة ذكر الإنسان بفعل قام به بحيث إذا علم تأذى من هذا الذكر (وقال معاذ بن جبل : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر القوم رجلاً .
فقالوا : ما يأكل إلاّ ما أطعم، ولا يرحل إلاّ ما رحّل، فما أضعفه.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : اغتبتم أخاكم.
قالوا : يا رسول الله وغيبة أن نحدّث بما فيه .
فقال : بحسبكم أن تحدّثوا عن أخيكم بما فيه) ( ).
لقد أكرم الله عز وجل المسلمين بأن جعل أصل الأخلاق الحميدة عندهم من الوحي .
السادس : التواضع وإجتناب الغضب والتكبر .
السابع : التحلي بالصبر في حال الرخاء والشدة.
الثامن : العصمة من إرتكاب المعاصي والفواحش .
التاسع : الطهارة والإجتهاد بذكر الله (عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الطهور شطر الإيمان {والحمد لله} تملأ الميزان ، وسبحان الله تملآن أو تملأ مابين السماء والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو . فبائع نفسه ، فمعتقها أو موبقها) ( ).
العاشر : التنزه عن التعدي والظلم والإضرار بالغير .
ومن إعجاز القرآن أنه مدرسة الأخلاق الحميدة ، وباعث على الصلاح وبناء صرح الخلق الرفيع للحاجة إليه مصاحباً للإيمان .
وقد اضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للدفاع عن التنزيل وسنن الهدى ، فهل هذا الدفاع من الأخلاق الحميدة ، الجواب نعم ، وهو تأسيس وتثبيت لقواعد الخلق الرفيع ، ونشر للواء السلام في الأرض.
ولو تحلى المشركون بالأخلاق الحميدة فهل تقع معركة بدر وأحد والخندق ، الجواب لا .
وكانت بعض الأصوات تتعالى بينهم بلزوم إجتناب القتال ، ولكن دون جدوى ، لغلبة رؤساء الشرك كأبى جهل على القرار واتباعهم إغواء الشيطان ، قال تعالى [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ).
ومن الخلق الحسن السعي للسلم وطلب الصلح ، ودفع مقدمات الفتنة والإقتتال.
قانون الزاجر عن المعصية
من خصائص فوز الإنسان بصفة [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، مجئ البشارة والإنذار له البشارة على العمل الصالح ، والإنذار من الفعل السئ والمذموم ، ولابد من زاجر وسبب صارف عن فعل المعصية ، سواء على نحو الموجبة الكلية أو الجزئية ، وهو من اللطف الإلهي لينتفع منه الناس ، ويكون ها الزاجر والسبب متباين في كمه وكيفه ، الجواب إنه بلحاظ عمل الإنسان وصلاحه وتقواه ، ويدل على هذا السبب قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ).
إذ عصم الله عز وجل النبي يوسف عليه السلام من الإقتراب من الفاحشة وزاد الله عليه من فضله بأن جعل ذات المعصية لا تدنو منه ولا تصل إليه .
ولقد أظهر مشركو قريش أشد العداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، وأراده قتله ، فهبط جبرئيل بالهجرة التي يتجلى فيها الإعجاز باجتماع وجوه :
الأول : نزول جبرئيل وأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة ، وهل يدل هذا الأمر على أن الملائكة أفضل من الأنبياء ، الجواب إنما المراد أن جبرئيل يحمل الأمر إلى النبي بالهجرة.
الثاني : فورية الهجرة إلى المدينة ، وعدم التأخر أو التسويف فيها ، فعادة ما يتردد الإنسان في اتخاذ القرار الذي يستلزم التبدل التام في حياته ، ولكن الوحي لا يقبل الترديد .
الثالث : إظهار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمتثال التام للأمر الإلهي بالمغادرة .
الرابع : قيام الإمام علي عليه السلام بالمبيت في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : عند وقت السحر انكشف الأمر بأن هجم عشرة من الشباب مفتولي العضلات على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتله ، لولا أن رأوا الإمام علي عليه السلام ، وكادوا يقتلونه لولا فضل الله عز وجل.
(فَأَتَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَا تَبِتْ هَذِهِ اللّيْلَةَ عَلَى فِرَاشِك الّذِي كُنْت تَبِيتُ عَلَيْهِ . قَالَ فَلَمّا كَانَتْ عَتَمَةٌ مِنْ اللّيْلِ اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ يَرْصُدُونَهُ مَتَى يَنَامُ فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ .
فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكَانَهُمْ قَالَ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نَمْ عَلَى فِرَاشِي وَتَسَجّ بِبُرْدِي هَذَا ، الْأَخْضَرِ ، فَنَمْ فِيهِ فَإِنّهُ لَنْ يَخْلُصَ إلَيْك شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنَامُ فِي بُرْدِهِ ذَلِكَ إذَا نَامَ)( ).
ولم ينحصر أمر جبرئيل بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المبيت في ذات الفراش ، إنما أمره بالهجرة في ذات الليلة .
وفي معركة بدر جاء الزاجر المتكرر لقريش من القتال .
لقد كانت علة وسبب خروج قريش إلى بدر مجئ رسول من أبي سفيان وهو ضمضم بن عمرو الغفاري بأن محمداً وأصحابه يريدون الإستيلاء على القافلة التي اتفق أن اشتركت في إعدادها ورؤوس أموالها أكثر بيوتات قريش ، وكانت مؤلفة من ألف بعير ، وجاء ضمضم هذا بهيئة الندب والفزع والإستفزاز .
فما أن أشرف على مكة حتى صار (يَصْرُخُ بِبَطْنِ الْوَادِي وَاقِفًا عَلَى بَعِيرِهِ قَدْ جَدّعَ بَعِيرَهُ وَحَوّلَ رَحْلَهُ وَشَقّ قَمِيصَهُ وَهُوَ يَقُولُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اللّطِيمَةَ اللّطِيمَةَ أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمّدٌ فِي أَصْحَابِهِ , لَا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا ، الْغَوْثَ الْغَوْثَ)( ).
فتناجى رجال قريش ، وأعدوا العدة للخروج في ثلاثة ايام ، وذات أبي سفيان الذي بعث لقريش يندبهم للخروج لأنه كان رئيس القافلة وخشي على أموال قريش عندما رآى نجاة القافلة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يتعرضوا لها ، لم يسكت ويسير نحو مكة بهدوء ، إنما بادر إلى الإرسال إلى قريش يحثهم على الرجوع إلى مكة إذ قال (إنّكُمْ إنّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَرِجَالَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ فَقَدْ نَجّاهَا اللّهُ فَارْجِعُوا)( ).
وسواء كانت هذه الرسالة تحريرية أو شفوية وهو الأقرب فانها زاجر لقريش عن الإستمرار في التوجه نحو بدر لإنتفاء موضوع المسير بعد احراز سلامة القافلة ، وفيه حجة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لا يغزو ولا يطمع بالأموال مع أن قريشاً استولت على أموال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة .
لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد المقاصة والعوض بدليل أنه لما (أقبل صهيب مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم ، فاتبعه نفر من قريش ، فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال : يا معشر قريش قد علمتم إني من أرماكم رجلاً ، وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي.
ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي فيه شيء ، ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة وخليتم سبيلي . قالوا : نعم . فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال : ربح البيع ، ربح البيع . ونزلت وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ( ).
وهل يختص الزجر عن المعصية بالأنبياء والذين آمنوا , الجواب لا , فهذا الزجر من رحمة الله عز وجل التي تتغشى الناس جميعاً , نعم إنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً , فمع الإيمان وأداء الفرائض يأتي الزجر والزاجر عن المعصية فورياً ويتكرر مرات بهيئة وصيغة وصبغة متعددة , ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وهل تلقت قريش الزاجر عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم , وليس من حصر لصيغ هذا الزاجر ويمكن إنشاء قانون من جهات :
الأولى : كل آية قرآنية زاجر عن المعصية .
الثانية : كل آية قرآنية إنذار ورادع عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من عمومات قوله تعالى [قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ] ( ).
الثالثة : كل آية قرآنية برهان ودعوة للإيمان , والتصديق بالنبوة والتنزيل .
لقد أحب الله عز وجل قريشاً وجعل لهم الشأن والجاه ببركة البيت الحرام وجواره ورزقهم من الأموال ما تفوق أضعاف ما عند الذين من حولهم , وتدل عليه سورة قريش قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( ).
وصحيح أن الاسم غير المسمى , ولكن تسمية سورة كاملة باسم قريش تشريف وإكرام لهم بين أهل الأرض إلى يوم القيامة وحجة على الذين أصروا على محاربة النبوة والتنزيل منهم , وكان الزاجر المتعدد يأتيهم في كل معركة لأنهم هم المعتدون الذين يصرون على القتال فيها .
وسيأتي البيان في الجزء التالي إن شاء الله , قال تعالى [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ]( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn