معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 218

المقدمة
الحمد لله الأول قبل الإنشاء والإحياء , والآخِر بعد فناء الأشياء ، الحمد لله الذي تغشت رحمته الخلائق كلها ،وتعجز الخلائق عن عدّ معشار من مصاديق هذه الرحمة في ساعة واحدة .
الحمد لله الذي أكرم الإنسان وجعله [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لتبلغ هذه الخلافة أبهى حللها برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لذا قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الحمد لله في السراء والضراء ، وفي الرخاء والشدة ، والحمد لله الذي يهون المصيبة ويدفع البلاء بلطف منه تعالى بعد إجتماع مقدمات البلاء وحضور شرائطه ، الحمد لله الذي جعل أمور الخلائق بيده وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( ) وصلى الله على محمد وآل الطيبين [لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( ).
(عن ابيه عن رفاعة بن رافع الزرقى انه قال كنا يوما نصلى وراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه من الركوع وقال سمع الله لمن حمده .
قال رجل وراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه .
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال من المتكلم آنفا .
قال الرجل انا يا رسول الله .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها ايهم يكتبها أول) ( ).
الحمد لله على النعم المتتالية والخفية منها أكثر من الظاهرة ، وكذا بالنسبة للنعم التي لم نحتسبها فانها تأتينا بلطف من عند الله أكثر من تلك التي تحتسب كماً وكيفاً ، وإن كان التصور الذهني يذهب بالإنسان في رغائبه وآماله بعيداً .
ومن علم الله عز وجل أنه لا ينسى الخواطر التي تخطر على فكر الإنسان ،وهو سبحانه يقرب البعيد منها بالدعاء ، والصدقة ، وأداء الفرائض العبادية .
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار المناجاة والذكر له سبحانه ،ويدل عليه قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا] ( ) وقال تعالى [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ] ( ).
وقد أمر الله تعالى المسلمين والمسلمات بذكره ، واشترط عليهم أن يكون هذا الذكر كثيراً ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذكروا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا *وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا] ( ).
ولا يعلم ما في هذا الذكر من المنافع العظيمة إلا الله سبحانه ، لذا جعله خاصاً بالمؤمنين من جهة كثرته ، والله سبحانه [غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ولكنه تفضل بخلق آدم وجعله [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) وبسط الله الرزق لذريته ليذكروه ويشكروه ، ولينالوا مرتبة طمأنينة القلوب ، ويفوزوا بالثواب العظيم في الآخرة .
وهل يدل قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ) على إفادة الحصر ، وأن القلوب لا تطمئن إلا بذكر الله ، ويكون من مفهوم المخالفة أن الذين لا يذكرون الله الجواب نعم ، فلا تطمئن القلوب إلا بذكر الله .
الحمد لله الذي ليس لعطائه حد أو منتهى ، والذي يهب لمن يشاء لا عن استحقاق منا ، ولكن برحمة منه تعالى .
الحمد لله الذي أنعم علينا بهذا السِفر المبارك ، وصدور أجزائه المتتالية ، بلطف ومدد منه سبحانه ، وهذا الجزء الثامن عشر بعد المائتين من تفسيري للقرآن ، ويقع في قانون (آيات الدفاع سلام دائم ) لبيان سنخية هذه الآيات التي تتضمن حاجة المسلمين إلى الدفاع الأضطراري ،
وهل يجمل هذا الدفاع صبغة الضرورة والحاجة ، الجواب نعم .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) .
وهل فتح الله للأنبياء السابقين الذين قاتلوا كما فتح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب نعم بدليل ذات الآية التي تتضمن الإخبار عن مواصلتهم الجهاد والدفاع من غير وهن أو ضعف مع شدة الأذى الذي لحقهم في سبيل الله ، ولبيان مسألة وهي أن المصائب التي لحقت بهم لم تزدهم إلا إيماناً .
وهل في الآية إشارة لنيل الصحابة الذين دافعوا مع رسول الله صفة الربيين ، الجواب نعم لوحدة الموضوع في تنقيح المناط كما تقدم بيانه( ) .
وفي الآية أعلاه مواساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ومنع من طرو الشك إلى النفوس مع إزدياد وشدة المعارك ، ومواصلة كفار قريش هجماتهم على المدينة المنورة .
ومن بين أجزاء هذا السِفر :
أولاً : صدور الجزء (142- 205 و217 ) بذات قانون هذا الكتاب .
ثانياً : صدور (23) جزء في قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً ).
ثالثاً : صدور ثمانية أجزاء في قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب ) وهو قانون بِكر ، وشاهد على العصر يدل على تنزيه الإسلام من الإرهاب .
رابعاً : صدور (5 ) أجزاء في قانون (آيات السلم محكمة غير منسوخة .
ترى ما هي الصلة والنسبة بين أجزاء القانون أعلاه والأجزاء الخاصة بهذا القانون ، الجواب أنها العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء ومادة للإفتراق بينهما .
أما مادة الإلتقاء فمن جهات :
الأولى : يتضمن كل جزء من هذه الأجزاء تفسير وقراءة في آيات القرآن.
الثانية : إنتفاء التعراض بين الدفاع وإرادة السلم .
الثالثة : الدفاع نوع طريق للسلم وتثبيت قواعده في الأرض ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] ( ).
الرابعة : تأكيد قانون وهو أن النبي محمداً لا يبدأ قوماً قتالاً .
وهل هذا القانون عام وشامل للأنبياء جميعاً الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، إنما البشارة والإنذار بالحجة والبرهان والمعجزة والدليل على صدق النبوة ، ووجوب الإمتثال لما أمر الله عز وجل به من عبادته ، والسعي الدؤوب إلى الإقامة في النعيم الأخروي .
ومن خصائص الأنبياء الإخبار عن عالم الجزاء وأن الدنيا مزرعة للآخرة لا يفوز بها إلا الموحدون الذين حرصوا على التنزه عن الشرك ومفاهيم الضلالة لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينادي في ميدان المعركة وقبل أن يبدأ القتال : قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا( ) .
ويحتمل خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا بلحاظ الجهة التي يتوجه إليها وجوهاً :
الأول : إرادة الكفار الذين في الميدان ، إذ أن قولهم لا إله الا الله مانع من القتال ضد المسلمين لأن كلمة التوحيد أمن وسلامة وهي غاية دعوة الأنبياء وفي التنزيل [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يدعُ في ساحة المعركة إلى الإقرار بنبوته ، ويجعل هذا الإقرار فيصلاً في ابتداء واستدامة القتال أو اجتنابه .
الثاني : إرادة المسلمين الذين في الميدان ، لتثبيت إيمانهم وحثهم على الصبر والدفاع وجعل قتالهم خالصاً لوجه الله عز وجل ، وفي سبيله ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ) وفيه منع من الإفتتان بالذين كفروا .
ومن وجوه تقدير الآية ، وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ويمتنعون عن كلمة التوحيد .
الثالث : إرادة مخاطبة الناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وبلطفه تتغشانا البركة ، الذي لا تنفد كلماته أبداً .
فتفضل وجعل علم التفسير من اللامتناهي إذ صدر لنا الجزء (السابع عشر بعد المائتين ) من معالم الإيمان وفيه قراءة لأربع آيات من آيات معركة بدر التي هي دفاع محض قراناً وسنة وتأريخياً وهذه القراءة غير تفسيرنا لها .
وجميع أجزاء هذا التفسير معروضة في موقعنا (www.marjaiaa.com).
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة ، ودار الإختبار والإمتحان ، ولم يكن هذا الإمتحان عسيراً على الناس ، إنما جعله الله عز وجل سهلاً يسيراً من جهات:
الأولى : نعمة الله عز وجل على الناس بالعقل والتمييز بين الأشياء ، وبين الفعل الحسن والسيء .
الثانية : تفضل الله عز وجل بالفطرة العامة عند الناس ، بالرغبة في العمل الصالح ، والنفرة من القبيح ، قال تعالى [فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا]( ).
الثالثة : بعثة الأنبياء والرسل على نحو متعاقب ومتتالي بما يهدي الناس إلى الإيمان ، ويقيم الحجة على الذين كفروا .
ومن إعجاز القرآن مجيؤه بقصص الأنبياء ، وما تتضمنه من جهادهم في سبيل الله ، وحرصهم على التبليغ على أتم وجه وإيصال الرسالة إلى أكثر عدد من الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ).
الرابعة : نزول الكتب السماوية من عند الله التي تتضمن الفرائض العبادية وتنمية ملكة الفضيلة ، وأحكام الحلال والحرام والبشارة والإنذار والوعد والوعيد.
ويتجلى من رشحات لطائف الوحي وفرائد التنزيل معنى دقيق ، عزيز المثال بصدور الجزء (218) هذا من تفسيرنا للقرآن بقراءة في أربع آيات من آيات (بدر) وفق قانون آيات الدفاع سلام دائم ، وهذه القراءة غير تفسيرنا لهذه الآيات ، قال تعالى [يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] ( ) .

حرر في 21 شعبان 1442
الموافق 4/4/2021

قانون وجوب السلم
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، ويتجلى في الآية التضاد بين السلم وخطوات الشيطان ، وكذا التضاد بين السلم وبين الإرهاب والقتل العشوائي ، وفيها نهي عن روح الفرقة والخلاف والشقاق .
وورد عن طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ] قال : يعني أهل الكتاب.
وابن جريج هو أبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم وهو رومي الأصل ومن العلماء من تابعي التابعين ولم يسمع من ابن عباس بل ولد بعد وفاة ابن عباس إذ كانت ولادته سنة (80) للهجرة بينما توفي ابن عباس سنة (68) للهجرة .
وقد اثنى عليه عدد من العلماء وضعّف بعضهم روايته عن الزهري لأنه يروي بالإجازة والمناولة مما قد يدخل معه التصحيف
قال الذهبي : يروي عن عطاء وطبقته. وهو أول من صنف الكتب بالحجاز، كما أن سعيد بن أبي عروبة أول من صنف بالعراق.
ولم يطلب العلم إلا في الكهولة، ولو سمع في عنفوان شبابه لحمل عن غير واحد من الصحابة. فإنه قال: كنت أتبع الأشعار والعربية والأنساب حتى قيل لي: لو لزمت عطاءً فلزمته ثمانية عشر عاماً.
قال ابن المديني: لم يكن في الأرض أعلم بعطاء بن أبي رباح من ابن جريج.
وقال خالد بن نزار الأيلي: رحلت بكتب ابن جريج سنة خمسين ومئة لألقاه فوجدته قد مات رحمه الله( ).
تلاوة المسلمين كل يوم لآيات السلم شاهد واقعي وفعلي على عدم نسخها .
لقد نزل القرآن بكل من آيات الأحكام ، الصبر ، الدفاع ، الأخلاق ، الصلح ، المهادنة والعفو ، وهي باقية من جهات :
الأولى : نص ومنطوق هذه الآيات .
الثانية : حكم آيات الله هذه.
الثالثة : العمل بآيات السلم .
الرابعة : تفقه المسلمين في الدين ، وميل الناس بالفطرة إلى السلم والصلح لذا ترى إذا عُقد صلح في هذا الزمان عمّ الفرح ، وجرت احتفالات ، وذهبت الأموال التي انفقت على السلاح والحرب ومؤنه وصار القتلى ذكرى .
لقد رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لواء السلم ضد العصبية القبلية والثأر ، لتعود الحياة الدنيا إلى بداياتها فان الأصل فيها هو السلم .
الخامسة : دلالة آيات السلم ، ومعناها الثابت من جهة اللغة والمضمون.
السادسة : تلاوة كل مسلم ومسلمة لآيات القرآن ومنها آيات السلم كل يوم في الصلاة شاهد على عدم نسخها.
من معاني آية السلم
يمكن تقدير وتأويل قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة فيها بينكم.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة مع غيركم من الناس .
الثالث : ادخلوا في السلم كافة ليدخل الناس فيه .
الرابع : ياأيها الذين آمنوا قوموا بالأمور بالسلم والنهي عن الإرهاب وسفك الدماء بغير حق .
الخامس : يا أيها الناس ادخلوا في السلم كافة ، وهذا الخطاب العام من فيوضات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) لتتوجه هذه الآية للمسلمين والناس جميعاً من جهات :
الأولى : في حال السلم .
الثانية : عند مقدمات القتال ، والهّم به .
الثالثة : الآية دعوة يومية متجددة لوقف إطلاق النار .
الرابعة : في الآية تنمية للغة الحوار .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم صدّ الناس بمختلف مشاربهم عن دخول المسجد النبوي والإنصات لهم .
المختار أنها نسبة العموم والخصوص المطلق ، فالسلم أعم ، والصلح نوع طريق ومدخل إلى السلم .
وبلحاظ هذه الآية هل يمكن القول بأن الله عز وجل جعل الدنيا دار السلم وليس دار الحرب أو دار الحرب والسلم .
الجواب نعم ، سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أداء العمرة في السنة السادسة للهجرة ومنعته قريش ، وجاءت الوفود من قبلهم .
كما أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة الوفود ليبين لهم أنه وأصحابه لم يأتوا إلا لأداء العمرة ، والقرائن ظاهرة فليس معهم سلاح ،وذات إقامتهم في الحديبية وعدم دخولهم الحرم شاهد على إمتناعهم عن إثارة حفيظة قريش ، مع أنه لا يحق لقريش منع أحد من دخول مكة للحج أو العمرة ، وعدم استحقاقهم الولاية على البيت الحرام ، قال تعالى [وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( )،
وهل منع قريش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وحصرهم وحبسهم في الحديبية وحده سبب بسقوط ولاية قريش على البيت الحرام ، الجواب نعم.
غلبة الحسد على قريش
أول من طلب المناجزة يوم بدر هو عتبة بن ربيعة , ويلتقي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جده عبد مناف ، إذ النبي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف .
وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف .
أي أن جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبد المطلب هو ابن عم عتبة لحماً ، ولعله ملأ قلب عتبة الحسد بان حفيد ابن عمه نال مرتبة النبوة ، وظاهر الأمور تنقاد إليه في مكة والجزيرة ، مع الكرم والجاه العريض الذي كان يتصف به عتبة آنذاك .
وهل زاد في حسد قريش إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، وهو في مكة قبل الهجرة بأن فارس والروم سيدخلون الإسلام ، الجواب نعم .
وإن كان إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا لهم من الوحي ، ويتضمن ترغيبهم بالإسلام ، وبيان ما يأتيهم من العز والغنى والسؤدد بسببه ، بما يصرف أسباب الحسد ، ويقيم الحجة عليهم ، فلما دخلت طائفة من شباب ورجالات قريش الإسلام خشيت قريش على سلطانها وشأنها ، وأدركوا عجزهم عن منع دخول الناس الإسلام واتباعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فعرض الوليد بن المغيرة على اشراف قريش ، وهو أكبرهم سناً الذهاب إلى أبي طالب ومحادثته بخصوصه .
فرضوا ومشوا إلى أبي طالب وهم :
الأول : الوليد بن المغيرة .
الثاني : أبو جهل بن هشام .
الثالث : أُبي بن خلف .
الرابع : أُمية بن خلف .
الخامس : عمر بن وهب بن خلف .
السادس : عتبة بن ربيعة بن عبد شمس .
السابع : شيبة بن ربيعة .
الثامن : عبد الله بن أمية .
التاسع : العاص بن وائل .
العاشر : الحرث بن قيس .
الحادي عشر :عدي بن قيس .
الثاني عشر : النضر بن الحرث .
الثالث عشر :أبو البختري واسمه العاص بن هشام بن الحارث بن أسد.
الرابع عشر : قرط بن عمرو .
الخامس عشر :عامر بن خالد.
السادس عشر : مخرمة بن نوفل من بني زهرة من قريش (أمه رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف وهو والد المسور بن مخرمة كان من مسلمة الفتح وكان له سن وعلم بأيام قريش , كان يؤخذ عنه النسب وكان أحد علماء قريش يكنى أبا صفوان .
وقيل : أبو المسور بابنه المسور .
وقيل : أبو الأسود وأبو صفوان أكثر .
روى الليث بن سعد عن ابن أبي مليكة قال : أخبرني المسور بن مخرمة قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي : ” يا أبا صفوان ” في حديث ذكره وكان نبيها أبيا شهد حنينا وهو أحد المؤلفة قلوبهم وممن حسن إسلامه منهم وأحد الذين نصبوا أعلام الحرم لعمر) ( ) مات سنة (54) للهجرة وعمره (115) سنة .
السابع عشر : زمعة بن الأسود .
الثامن عشر : المطعم بن عدي .
التاسع عشر :الأخنس بن شريق الثقفي (وإنما لقب الاخنس لأنه رجع ببني زهرة من بدر لما جاءهم الخبر أن أبا سفيان نجا بالعير فقيل: خنس الأخنس ببني زهرة فسمي بذلك ثم أسلم الأخنس فكان من المؤلفة وشهد حنينا)( ).
العشرون : حويطب ابن عبد العزى .
الحادي والعشرون : نبيه ابن الحجاج.
الثاني والعشرون : منبه ابن الحجاج.
الثالث والعشرون : الوليد بن عتبة.
الرابع والعشرون : هشام بن عمر بن ربيعة.
الخامس والعشرون : سهيل بن عمرو ) ( ).

قانون تثبيت النبي (ص) للسلم المجتمعي إلى يوم القيامة
من إعجاز قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) أن السلم فرع الإيمان ، فمع الهداية يتوجه النداء والأمر من الله عز وجل للندب إلى السلم لبيان الملازمة بينهما ، وهل تختص الدعوة إلى السلم بالمسلمين ، كما هو منطوق الآية ، الجواب لا ، إنما تشمل أهل الأرض جميعاً لوجوه :
الأول : وجوب الإيمان ، والإقرار بالربوبية لله عز وجل .
الثاني : مجئ الأنبياء جميعاً بالدعوة إلى السلم .
الثالث : رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس جميعاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الرابع : عموم السلم من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض ، قال تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الخامس : الحسن الذاتي للسلم .
السادس : تأكيد قانون : رسالة الأنبياء هي السلام والأمن ، وهو مقدمة ووعاء لأداء الفرائض العبادية .
من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه جاء بشرائع الإسلام وفيه توافق بين الاسم والمسمى ، فمع أن المدار المسمى ، والإسلام جاء بالحكم الحق والعدل ، فان اسم السلام يبعث على الأمن والسلام ، والنجاة من الظلم والتعدي ، طرداً وعكساً .
ومن خصائص الإنسان ميله الفطري إلى السلم ، وتفرته من الحروب وإراقة الدماء ، وكل من هذا الميل والنفرة من مصاديق احتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، حينما [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، عند إخبار الله لهم عن جعل آدم خليفة في الأرض .
لقد تفضل الله عز وجل ونفخ في آدم من روحه ، لتكون أرواح الناس متعلقة بالعرش من جهة حسن الإختيار ، وإجتناب قبيح الأفعال .
ومن إعجاز القرآن دعوة آياته إلى السلم المجتمعي ، وكل فريضة عبادية هي سلم بذاتها ودعوة إلى السلم ، وهذا جلي وواضح فالصلاة أفعال يؤديها العبد طاعة لله عز وجل ، وهي صلة وقوس صعود فيه إنقطاع عن الناس ، ودعوة ذاتية لنشر مفاهيم الرحمة بين الناس .
الآية الثالثة : من الآيات التي تخص معركة بدر ، قوله تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ) ( ).
تبين الآية فضل الله عز وجل على المسلمين إذ وعدهم وعداً عظيماً بأن يهب لهم إحدى الطائفتين وهما :
الأولى : جيش قريش القادم من مكة .
الثانية : قافلة أبي سفيان التي جاءت محملة بالبضائع من الشام في طريقها إلى مكة وتتآلف من ألف بعير .
وقد ذكرت آية البحث خصوص القافلة بما يشير إلى الجيش كضد لها ، وهو من إعجاز القرآن ، إذ وصفت الآية القافلة بانتفاء الشوكة فيها كناية عن السلاح سمي الجيش بالشوكة لحدتها .
والشوكة نبات رأسه مدبب ، فيه حدة ، قد تنفذ إلى البدن (الشَوْكَةُ: واحد الشَوْكِ. وشجرٌ شائِكٌ، أي ذو شَوْكٍ.
قال ابن السكيت: هذه شجرةٌ شاكَةٌ، أي كثيرة الشَوْكِ. قال الأصمعي: يقال شاكَتْني الشَوْكَةُ تَشوكُني، إذا دخلَتْ في جسده. وقد شِكْتُ فأنا أَشاكُ شاكَةً وشيكَةً بالكسر، إذا وقعتَ في الشَوْكِ. ومنه قول الشاعر:
لا تَنْقُشَنَّ بِرجْلِ غيرِك شَوْكَةً … فَتقي بِرِجْلِكَ رِجْلَ من قد شاكها) ( ).
ويقال نقشت الشوكة من الرجل أي أخرجتها .
وفي وصف القافلة أنها غير ذات الشوكة تخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة ، وبعث للطمأنينة في نفوسهم بأنهم لا يخسرون المعركة ،إذا دخلوا فيها ، وإن نزل بهم الأذى من إحتمال سقوط عدد قليل من الشهداء أو الجراحات ، إنما تكون حصيلة المعركة كأثر الشوكة التي تصيب الإنسان ويستخرجها .
وهو من فضل الله عز وجل إذ يشير بلغة التخفيف إلى جيش قريش المتأهب للقتال من جهات :
الأولى : كثرة أفراد الجيش إذ أن عددهم نحو ألف ، وهم أكثر من ثلاثة أضعاف عدد جيش المسلمين .
الثانية : وفرة السلاح والدروع عند قريش من وجوه :
الأول : خزين السلاح المتوارث الموجود عند قريش .
الثاني : شراء قريش السلاح من الشام ومن اليمن ، ومنه ما يأتي من الهند ، ومن أسماء السيف المهنّد والهِنداوي، والهندِي ، إذ كان العرب يطلقون صفات متعددة على الشئ ذي الأهمية .
(ذكر ابن خالويه في شرح الدريدية: الصَّارِم، والرِّدَاء، والخليل، والقَضِيب، والصَّفِيحة، والمُفَقَّر، والصَّمْصَامة، والمَأْثُور، والمِقْضَب، والكَهام، والأنِيث، والمِعْضَد، والجُرَازُ، واللَّدْن، والفُطَار، وذُو الكَريهة، والمَشْرَفيّ، والقُسَاسِيّ، والعَضْب، والحُسام، والمُذَكَّر، والهُذام، والهَذُوم، والمُنْصَل، والهَذَّاذ، والهَذْهَاذِ، والهُذَاهِذ، والمِخْصَل، والمِهْذَم، والقاضِب، والمُصَمِّم، والمُطَبِّق، والضَّرِيبة، والهِنْدُوَاني، والمُهَنَّد، والصَّقيل، والأبْيض، والغَمْر، والعَقِيقة، والمتين، وهو الذي لا يقطع، والهِنْدِكيّ أيضاً، في شعر كثير) ( ).
(قال عَبيد بن الأرض:
نَهنِه دُمُوعك إنَّ من … يغتَرُّ بالحدثانِ عاجز
كوننَّ فيما يعتريكَ … به الزَّلازِلَ والهرائِز
كالهُندوانيِّ المهنَّد ه … زَّهُ قرنٌ مُناجِز) ( ).
لقد كانت قريش تجلب البضائع من الشام واليمن وبلاد فارس ، والهند ، وتعرضها في مكة خاصة في أسواق موسم الحج مثل سوق عكاظ ، وسوق مجنة ، وذي المجاز ,كما كانت العرب تجلب البضائع والخيل والحبوب لعرضها في أسواق مكة .
وكان النعمان بن المنذر ملك الحيرة يبعث بتجارة إلى الموسم ، وصارت هذه التجارة سبباً لحرب الفجار (وكان النعمان يوجه في كل سنة بلطيمة إلى عكاظ للتجارة، ولا يعرض لها أحد من العرب، حتى قتل النعمان أخا بلعاء بن قيس، فكان بلعاء بعد ذلك يغير على لطائم النعمان. فلما اجتمع عروة والبراض عنده قال: من يجير لطائمي.
فقال البراض: أنا، وقال عروة: أنا، مثله، فتنازعا كلاما.
فلما خرجا وتوجه عروة لينصرف، عارضه البراض فقتله وأخذ ما كان معه من لطائم النعمان.
فاجتمعت قيس على قوم البراض، ولجأت كنانة إلى قريش فأعانتها وخرجت معها، فاقتتلوا في رجب، وكان عندهم الشهر الحرام الذي لا تسفك فيه الدماء. فسمي الفجار لأنهم فجروا في شهر حرام.
وكان على كل قبيل من قريش رئيس، وعلى بني هاشم الزبير بن عبد المطلب( ).
وقد روي أن أبا طالب منع أن يكون فيها أحد من بني هاشم وقال: هذا ظلم وعدوان وقطيعة واستحلال للشهر الحرام، ولا أحضره ولا أحد من أهلي، فأخرج الزبير بن عبد المطلب مستكرها.
وقال عبد الله بن جدعان التيمي وحرب ابن أمية: لا نحضر أمراً تغيب عنه بنو هاشم فخرج الزبير.
وقيل: أن أبا طالب كان يحضر في الأيام ومعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا حضر هزمت كنانة قيسا ، فعرفوا البركة بحضوره فقالوا: يا ابن مطعم الطير وساقي الحجيج لا تغب عنا ، فإنا نرى مع حضورك الظفر والغلبة.
قال: فاجتنبوا الظلم والعدوان والقطيعة والبهتان فإني لا أغيب عنكم. فقالوا: ذاك لك ، فلم يزل يحضر حتى فتح عليهم)( ).
الثالث : خوض قريش المعارك المتعددة ، ومنها حرب الفجار وحاجتهم إلى السلاح وغناهم عن بيع أسلحتهم ودروعهم، فقد يبيع الفارس سيفه أو درعه أو فرسه عند لحاجة ، ولكن قريشاً كانوا أصحاب أموال ،ويقننون النفائس .
وقد يأتي صاحب بضاعة إلى أسواق مكة في موسم الحج فلا يجد من يشتري فتشتري منه قريش بثمن أدنى من السعر، كما هو ظاهر بالتخفيضات في معارك الكتاب ونحوها في هذا الزمان .
الرابع : التباهي بين القبائل والأفراد في اقتناء جيد السلاح وإدخاره للحاجة .
الخامس : عزم قريش الحرب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا العزم الذي بدأ في التزايد من حين هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، وانتشار المساجد ، وإقامة الصلوات فيها ، وتوالي هجرة المسلمين إليها حتى إذا ما جاء رسول أبي سفيان يستصرخ أهل مكة لإنقاذ قافلته تناجوا بالحرب والقتال .
وكان هذا المجئ الشرارة التي أشعلت العزائم على القتال ، ومنعت من سماع صوت التهدئة والعقل والحكمة .
الثالثة : إبتداء مرحلة جديدة في الدعوة الإسلامية ، وهي زحف جيوش المشركين نحو المدينة للقضاء على النبوة ، ومنع التنزيل .
الرابعة : الشهادة من عند الله بأن المسلمين لا يريدون القتال ، ولا يرغبون فيه .
الرابعة : من إعجاز الآية وكشف السرائر فيها إخبارها عن ود ورغبة المسلمين في الإستيلاء على القافلة ، والود كيفية نفسانية ليدل في مفهومه على أنهم لم يخرجوا للإستيلاء على القافلة ، ولم يخططوا لهذا الإستيلاء ، ولو أراد الله عز وجل استيلاءهم على القافلة لأذن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في التصدي لها في الوقت والمكان المناسب .
وكان مع القافلة نحو ثلاثين أو أربعين رجلاً من قريش ، ولكن تسميتها غير ذات الشوكة يدل على قلة المقاتلي-ن والسلاح الذي يصاحبها .
والشوكة هي السلاح ، والسيف ، والسنان ، والدروع ، والنبال ، والشوكة هي النبتة التي له حدة وتشك يد الإنسان وتنفذ فيه.
حضور المشيئة
قال تعالى [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ] ( ) وجاءت الآية أعلاه بصيغة المضارع لبيان فضل الله عز وجل ، ولتدل بالأولوية القطعية على أن مشيئة الله هي النافذة في كل الأحوال ، لأن النسبة بين مشيئة الإنسان وبين وده هو العموم والخصوص المطلق ، فالمشيئة أعم وأقوى في الفعل والأثر.
ولقد وردت الآية أعلاه مرتين في القرآن :
الأولى : قال تعالى [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ).
الثانية : قال تعالى [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ).
فهل الخطاب فيهما موجه إلى الناس جميعاً أم إلى المسلمين خاصة ، أم أن أحدهما يختص بالمسلمين ، والآخر لعامة الناس ، المختار هو إرادة عموم الناس جميعاً في الآيتين.
وهو من قوانين الإرادة التكوينية ، وفيه حفظ للجنس البشري ، وعبادة الله في الأرض ، وأنه سبحانه يتعاهد ملكه للسموات والأرض بأن تكون مشيئته هي النافذة .
تبين الآية [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ…]( )، إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأن وعدهم وعداً وتصديقهم بهذا الوعد شاهد على الإيمان ، وفي التنزيل [إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ] ( ) .
فحينما يعد الله عز وجل لابد أن ينجز وعده بأحسن كيفية ، لأن مقاليد الأمور كلها بيده سبحانه ، وذات الوعد نعمة عظمى على الناس ، وفيه دعوة للمسلمين للصبر والثبات على الإيمان بدليل قوله تعالى [فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ] ( ).
ويدل الوعد من الله للمؤمنين باحدى الطائفتين في مفهوم المخالفة على أنه وعيد للذين كفروا ، وإخبار عن هزيمتهم .
وهل يمكن إنشاء قانون وهو : كل وعد من الله عز وجل للمؤمنين في مفهومه وعيد للكافرين ، الجواب نعم .
إذ أن الله عز وجل جعل الدنيا مزرعة للآخرة والإنسان في عالم الجزاء ، أما إلى الجنة أو إلى النار ، قال تعالى [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ] ( ).
وتبين الآية قانوناً وهو أن الأمور والمقادير لا تجري برغائب المؤمنين ، وإن كانت حقاً ، إنما تجري الأمور بما فيه النفع العام المستديم ليأتي الثواب الجزيل للمؤمنين .
منافع إجتناب قافلة أبي سفيان
تبين الآية مسألة وهي لو استولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على قافلة قريش لقويت شوكة الكفار واتخذوا هذا الإستيلاء ذريعة للهجوم وحشدّوا القبائل معهم ، وهو من مصاديق التذكير في الآية بقوله تعالى [غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ ]ومن مفاهيمه إن أخذت غير ذات الشوكة تغزوكم الجيوش ذات الشوكة .
فان قلت مع أن المسلمين لم يستولوا على قافلة أبي سفيان فان المشركين غزوا المدينة في معركة أحد ، ثم الخندق ، والجواب إن هذا قليل وهو حجة لإستقراء الغدر الفادح بجمع قريش الجيوش لو استولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قافلتهم ، لأنهم يتخذون من هذا الإستيلاء حجة وذريعة لتشويه دعوة الحق والهدى .
ولا يعلم منافع إجتناب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الإستيلاء على القافلة إلا الله عز وجل .
وهذه المنافع من جهات :
الأولى : المنافع العقائدية ، وبيان الغايات الحميدة في دعوة النبي للإسلام ، وأنها لم تقع على حب المال ، وإن كان هذا الإستيلاء من المقاصة عن إملاك وأموال الصحابة التي استولت عليها قريش ، والأذى الذي لحقهم ، وما يسمى في هذا الزمان بالعدالة الإجتماعية .
فيتجلى للناس قانون من وجوه :
الأول : قانون إجتناب النبي صلى الله عليه وآله وسلم القافلة .
الثاني : قانون ترك النبي قافلة أبي سفيان دعوة للإسلام ، وبرزخ دون تحريض الناس على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : قانون سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من حب الدنيا وزينتها ، ومن أسباب خسارة المسلمين في معركة أحد رغبة الرماة في الغنائم ، وتركهم لمواضعهم خلاف وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذا وردت الآية بالتبعيض في حب الدنيا بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ليكون من إعجاز القرآن كشف معركة أحد للمنافع العظمى لفضل الله عز وجل في معركة بدر بعزوف المسلمين عن قافلة أبي سفيان ، مع أنها قريبة المنال ، وقلة الرجال الذين معها .
الثانية : المنافع الإجتماعية بسبب الإستيلاء على القافلة كدورة وضغائن عند عموم أهل مكة ، ويجعل هذا الإستيلاء لو تم المشركين يطمعون بالإضرار بمن بقي من المسلمين والمسلمات فيها ، ويحرضون الصبيان والجُهال عليهم عن مكر وخبث ، وينظمون الأشعار التي تذم النبي وأصحابه لهذا الإستيلاء .
وتأتي وفود قريش تطالب بالمال ويتصلون مع المنافقين في المدينة ، ويشيع عند القبائل هذا الإستيلاء ، ومن أسباب حجبه قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( ) .
ففي هذه الآية وعد من عند الله لإستدامة رحلات التجارة لقريش ، وعدم تعطيلها من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، إلا أن تقوم قريش نفسها بتعطيلها ، وهو الذي حصل ، إذ انشغلوا بقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وسخروا إبل القوافل في الحرب والقتال وإطعام الجيوش ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ] ( ).
الثالثة : المنافع الدفاعية ، من خصال الإنسان أنه قد يجتهد بالقتال إذ أخذ ماله ، ويفتر إذا كان ظالماً ، فأراد الله عز وجل بجيش المشركين الفتور والإختلاف .
فلو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استولى على قافلة أبي سفيان لما أنسحب من وسط الطريق وعشية معركة بدر قوم من جيش المشركين ، وربما استمروا في زحفهم لغزو المدينة ، بينما انسحب قوم في الطريق وعشية معركة بدر منهم قوم من بني هاشم ، وبنو زهرة بتحريضها من قبل الأخنس .
واسم الأخنس (أُبَيّ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ الثّقَفِيّ ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ) ( ) وإنما سمي الأخنس لأنه أخنس ببني زهرة يوم بدر للإنسحاب من معركة بدر .
إذ قال (الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثّقَفِيّ ، وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ وَهُمْ بِالْجُحْفَةِ يَا بَنِي زُهْرَةَ قَدْ نَجّى اللّهُ لَكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَخَلّصَ لَكُمْ صَاحِبَكُمْ مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ وَإِنّمَا نَفَرْتُمْ لِتَمْنَعُوهُ وَمَالَهُ فَاجْعَلُوا لِي جُبْنَهَا وَارْجِعُوا ، فَإِنّهُ لَا حَاجَةَ لَكُمْ بِأَنْ تَخْرُجُوا فِي غَيْرِ ضَيْعَةٍ لَا مَا يَقُولُ هَذَا ، يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ .
فَرَجَعُوا ، فَلَمْ يَشْهَدْهَا زُهْرِيّ وَاحِدٌ أَطَاعُوهُ وَكَانَ فِيهِمْ مُطَاعًا . وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ بَطْنٌ إلّا وَقَدْ نَفَرَ مِنْهُمْ نَاسٌ إلّا بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ ، لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَرَجَعَتْ بَنُو زُهْرَةَ مَعَ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ ، فَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مِنْ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ أَحَدٌ ، وَمَشَى الْقَوْمُ .
وَكَانَ بَيْنَ طَالِبِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَ فِي الْقَوْمِ وَبَيْنَ بَعْضِ قُرَيْشٍ مُحَاوَرَةٌ فَقَالُوا : وَاَللّهِ لَقَدْ عَرَفْنَا يَا بَنِي هَاشِمٍ وَإِنْ خَرَجْتُمْ مَعَنَا ، أَنّ هَوَاكُمْ لَمَعَ مُحَمّدٍ . فَرَجَعَ طَالِبٌ إلَى مَكّةَ مَعَ مَنْ رَجَعَ . وَقَالَ طَالِبُ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ :
لَا هُمّ إمّا يَغْزُوَنّ طَالِبْ … فِي عُصْبَةٍ مُحَالِفٌ مُحَارِبْ
فِي مِقْنَبٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَانِبِ … فَلْيَكُنْ الْمَسْلُوبُ غَيْرَ السّالِبِ
وَلْيَكُنْ الْمَغْلُوبُ غَيْرَ الْغَالِبِ) ( ).
الرابعة : المنافع الإقتصادية تتقوم الدعوة وقصد التغيير بالإقتصاد والمال ، والذي ليس عنده مال كان يصعب عليه التغيير السياسي والإجتماعي ، لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي ظهور دعوته مع عدم وجود مال عنده ، وحتى المال الذي عند أصحابه حملتهم قريش على تركه إلى جانب تركهم دورهم وتجارتهم في مكة .
الدفاع عن كلمة التوحيد
لا تختص المنافع الدفاعية بطرف الذين كفروا وإصابتهم بالوهن ، بل يدافع المؤمنون عن عقيدة التوحيد مع التنزه عن حب الدنيا والطمع في المال ، وكانت قافلة أبي سفيان في عودتها من بلاد الشام ، تتألف من ألف بعير ، وكانت محملة ببضائع منها :
الأول : الذهب .
الثاني : الفضة .
الثالث : الحبوب .
الرابع : القماش .
و(عن صهيب قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة هممت بالخروج ، فصدني فتيان من قريش ثم خرجت ، فلحقني منهم أناس بعد ما سرت ليردوني ، فقلت لهم : هل لكم أن أعطيكم أواقي من ذهب وتخلوا سبيلي؟
ففعلوا .
فقلت : احفروا تحت أسكفة الباب فإن تحتها الأواقي ، وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قباء قبل أن يتحوّل منها ، فلما رآني .
قال : يا أبا يحيى ربح البيع ، ثم تلا هذه الآية[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ])( ).
لقد ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قافلة أبي سفيان ، ليقع في الأسر سبعون من المشركين ، ويضع المسلمون شرطاً لفكاك أغلبهم وهو دفع بدل قدره (4000) درهم فضة مما اضطر رجالات قريش لجمع المال والإتيان به ، ودفعه بدلاً وعوضاً للأسرى ، ويرجع الأسير إلى مكة ليكون شاهداً من وجوه:
الأول : القيام بإخبار أهل مكة عن معالم الإيمان في المدينة .
الثاني : قيام الأسير بتلاوة القرآن التي حفظها عرضاً على الناس .
الثالث : ذكر معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة .
الرابع : بيان حسن معاملة الصحابة وذويهم للأسرى ، فلم يرد في التأريخ أن الأسير يعيش مع العائلة ، وأنهم يقدمونه في المأكل والمشرب إلا في أيام النبوة مما يفوق ما ورد في اتفاقية جنيف بشأن معاملة أسرى الحرب المؤرخة في 2 آب / أغسطس /1949 وما بعدها.
لقد وصلت قافلة أبي سفيان إلى مكة سالمة ، ولم تمر بضعة أيام حتى دخلت فلول المنهزمين من قريش ،وهم يحملون أخبار قتل رؤسائهم ، إذ قُتل منهم سبعون، وأُسر سبعون .
فدخل العزاء والمصيبة لكل بيت من بيوت مكة ، وقد ناحوا رجالاً ونساءً على قتلاهم شهراً ، وقامت النساء بجز شعورهن ، ولم تكن آنذاك صور للرجال ، إنما يؤتى براحلته أو فرسه أو بعض مقتنياته الخاصة ، فتوضع بين النساء ، ويبكين حولها ، ويخرجن إلى أزقة مكة وهنّ يندبنهم .
فادرك رجال قريش حال الوهن والإحباط الذي لحقهم وواصلوا إجتماعاتهم في دار الندوة بعد الصدمة والمصيبة .
فقالوا (لا تفعلوا ذلك فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم، لا يأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء، فكان الاسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة بن الاسود، وعقيل بن الاسود، والحارث بن زمعة .
وكان يحب أن يبكي على بنيه، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقام لغلام له، وقد ذهب بصره: انظر هل أحد انتحب ؟
هل بكت قريش على قتلاها ؟
لعلي أبكي على أبي حكيمة – بضم الحاء المهملة وفتح الكاف – يعني زمعة فإن جوفي قد احترق، فلما رجع إليه الغلام قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته.) ( ).
وقال (تبكي أن يضل لها بعيرٌ … ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكرٍ ولكن … على بدرٍ تصاغرت الخدود
فبكي إن بكيت على عقيل … وبكى حارثاً أسد الأسود
وبكيهم ولا تسمى جميعاً … وما لأبي حكيمة من نديد
على بدرٍ سراة بني هصيصٍ … ومخزومٍ ورهط أبي الوليد
ألا قد ساد بعدهم رجالٌ … ولولا يوم بدرٍ لم يسودوا) ( ).
لبيان أثر الدفاع عن كلمة التوحيد يبث الحزن والجزع والخوف في قلوب المشركين , وعو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
ثم ذهبت نسوة قريش إلى هند بنت ربيعة زوجة أبي سفيان ، وقلن لها : لقد قُتل أبوك وأخوك وعمك وأهل بيتك في معركة بدر ، إلا تبكين عليهم (فقالت : حلقي، أنا أبكيهم فيبلغ محمداً وأصحابه فيشمتوا بنا، ونساء بني الخزرج! لا والله، حتى أثأر محمداً وأصحابه، والدهن على حرامٌ إن دخل رأسي حتى نغزو محمداً.
والله، لو أعلم أن الحزن يذهب من قلبي بكيت، ولكن لا يذهبه إلا أن أرى نأري بعيني من قتلة الأحبة. فمكثت على حالها لا تقرب الدهن، وما قربت فراش أبي سفيان من يوم حلفت حتى كانت وقعة أحد) ( ).
وتناجى رجال قريش بالثأر ، وجاء من يحرضهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، مما صار برزخاً دون التدبر بحقيقة وهي أن نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر معجزة تلزم التدبر فيها ، والميل إلى الصلح والمهادنة ، والكف عن قتاله .
ومنهم من حضر معركة بدر ورآى الآيات ، كما في (نوفل بن معاوية الديلى يقول: انهزمنا يوم بدر ونحن نسمع صوتا كوقع الحصى في الطاس في أفئدتنا ومن خلفنا، وكان ذلك من أشد الرعب علينا) ( ).
ونوفل هذا هو سيد وقائد بني الديل من بني بكر ، الذي أغار على خزاعة بعد صلح الحديبية .
وكان السبب في نقض قريش لصلح الحديبية إعانتهم له سراً وخفية ، وقد اشترك نوفل بن معاوية في معركة أحد مشركاً ، إذ قتل الصحابي (عنترة السلمي
ثم الذكواني حليف لبني سواد بن غنم بن كعب بن سلمة من الأنصار شهد بدرا هكذا قال ابن هشام .
وقال ابن إسحاق وابن عقبة في عنترة هذا : هو مولى سليم بن عمرو بن حديدة الأنصاري شهد بدرا وقتل يوم أحد شهيدا قتله نوفل بن معاوية الديلي) ( ).
وأسلم نوفل بن معاوية يوم الفتح، وحج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنة عشر ، وكان قد بلغ المائة (عن موسى بن سعد عن نوفل بن معاوية الدئلي قال: رأيت المقام في عهد عبد المطلب ملصقاً بالبيت مثل المهاة) ( ).
وقد استشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند اسوار الطائف ، (نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ ، فَقَالَ مَا تَرَى ؟
فَقَالَ ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ إنْ أَقَمْتَ عَلَيْهِ أَخَذْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَضُرّك . فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، فَأَذّنَ فِي النّاسِ بِالرّحِيلِ فَضَجّ النّاسُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا : نَرْحَلُ وَلَمْ يُفْتَحْ عَلَيْنَا الطّائِفُ ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَاغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ فَغَدَوْا فَأَصَابَتْ الْمُسْلِمِينَ جِرَاحَاتٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إنّا قَافِلُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللّهُ فَسُرّوا بِذَلِكَ وَأَذْعَنُوا ، وَجَعَلُوا يَرْحَلُونَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَضْحَكُ .
فَلَمّا ارْتَحَلُوا وَاسْتَقَلّوا ، قَالَ قُولُوا : آيِبُونَ تَائِبُونَ ، عَابِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ وَقِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ اُدْعُ اللّهَ عَلَى ثَقِيفٍ . فَقَالَ اللّهُمّ اهْدِ ثَقِيفًا وائْتِ بِهِمْ) ( ).
ومن بركات الدفاع عن كلمة التوحيد تغيرت حال الصحابة المعاشية وأهل المدينة عامة بعد معركة بدر ، إذ دخلت إلى المدينة الغنائم من الإبل والخيل والسيوف والدروع ، ثم جاءت الوفود لفكاك الأسرى ودفع البدل بالإضافة إلى الأمور المعنوية والإعتبارات العامة التي ترتبت على النصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ومن الآيات تعاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتواضعه وانقطاعه إلى الدعاء والذكر والصلاة قبل وبعد المعركة وتحقيق النصر ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ..] ( ) وقوله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) بيان قانون من الإرادة التكوينية ، وهو أن الله عز وجل يريد إظهار الحق وإعلاء كلمة التوحيد , ويجعله واقعا يوميا , قال تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ] ( ).
وتقدير الآية : ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ولو حارب المشركون الأنبياء ، لقد آذى مشركو قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه أشد الأذى ، وأرادوا قتله فهاجر إلى المدينة لعلهم يتعظون ، ولكنهم لم يكفوا أيديهم ، بل تمادوا في الغي ، وعندما شهروا السيوف يوم بدر .
واقترب خطر القتل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للفارق الكبير في عدد الجيش والعدة نزل ألف من الملائكة لنصرته ، ليكون هذا النزول من مصاديق الكلمات في قوله تعالى [وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ..] ( ) وشاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا في حال دفاع وهم مضطرون إلى هذه الحال ، غير راغبين فيها .
وعن (أسلم أبي عمران( ) حدثه أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن بالمدينة: إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يُغْنمناهَا؟ ” فقلنا: نعم، فخرج وخرجنا، فلما سِرْنا يوما أو يومين قال لنا: ” ما ترون في قتال القوم؛ فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟
فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو، ولكنا أردنا العير، ثم قال: ” ما ترون في قتال القوم؟
” فقلنا مثل ذلك فقال المقداد بن عمرو: إذًا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }( ) قال: فتمنينا -معشر الأنصار-أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم، قال: فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ })( ) .
وقال الزمخشري (يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف الأمور وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأحوالكم والله عز وجل يريد معالي الأمور ، وما يرجع إلى عمارة الدين ، ونصرة الحق ، وعلوّ الكلمة ، والفوز في الدارين . وشتان ما بين المرادين) ( ).
ولكن معنى الآية البشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وبيان إبتداء هزيمة المشركين ، ولم يثبت أن المسلمين أرادوا سفاف الأمور .
و(السَفْسافُ: الرديءُ من كلّ شيء، والأمرُ الحقيرُ وفي الحديث: ” إنَّ الله يحب مَعالِيَ الأمور ويكره سَفْسَافَها ” . والسَفْسافُ: ما دَقَّ من التراب، والمُسَفْسِفَةُ: الريحُ التي تثيره وتجري فُوَيْقَ الأرض. والسَفْسَفَةُ: انتخالُ الدقيق ونحوه.) ( ).
إنما أخبرت الآية عن حال الود التي كانت عند المسلمين ، وهي رغبة وكيفية نفسانية ، أما حينما بانت بوادر المعركة بسبب إصرار رؤساء قريش عليها فقد استشار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه ولم يسمع منهم إلا الإستعداد للدفاع والتضحية ، وهو من الإعجاز الغيري لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على أن آيات الدفاع سلام دائم لما فيها من دحض الكفر والعدوان المرتكز على الإلحاد وعبادة الأوثان ، ليكون ظلماً مركباً ومتعدداً صادراً من قريش ، تذمه الأجيال المتعاقبة ، وتنبذ معه الإرهاب .
لقد أراد الله عز وجل الأفضل والأحسن للمسلمين والناس جميعاً ، لقد دخل المهاجرون والأنصار الإسلام وتحملوا الأذى الشديد من الذين كفروا ، فصبروا ولم يطمعوا بالدنيا ، وتركوا أموالهم ، وتعطلت أعمالهم وهم راضون فرحون بالهداية إلى الإيمان ، وفي التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
آيات (يحق الحق )
من إعجاز القرآن اللفظي وما له من دلالة ورود قوله تعالى [يُحِقُّ الْحَقَّ] ثلاث مرات فيه ، اثنتين في آيتين متجاورتين ، وفي موضوع معركة بدر ، وهذه الآيات هي :
الأولى : قوله تعالى [وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
لبيان أن قوله تعالى [وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ] ( ) أعم من أن يختص بمعركة بدر ، إنما هو أمر متجدد ، ويتغشى معارك الإسلام ، وحال الحرب والسلم ، وهل منه صلح الحديبية ، الجواب نعم ، وفيه شاهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعمل بالوحي والتنزيل ، وأنه كان في حال دفاع .
ويدل قوله تعالى [وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ] بخصوص نتيجة معركة بدر على أمور:
الأول : نصرالمسلمين وهزيمة المشركين يوم بدر حاجة للناس ,
الثاني : فيه بناء لصرح التوحيد .
الثالث : فيه إماتة للكفر ومفاهيم الضلالة .
لقد إبتدأت في يوم بدر إشراقة هدى على الناس ، وحال إيمان مستديم وهو المستقرأ من قوله تعالى [يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ] ( ) .
أي يحق الحق الى يوم القيامة ، لأن الله عز وجل إذا أنعم على الناس بنعمة فانه أكرم من أن يرفعها.
وقد ورد في التنزيل [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي] ( ) وقال تعالى [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ] ( ) وكلمات الله مشيئته وإرادته ، وفي التنزيل [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) .
الوعد باحدى الطائفتين
لقد أراد الله عز وجل كمال النفع ، وتمام المصلحة للمسلمين وغيرهم ، إذ أن قوله تعالى [يُحِقَّ الْحَقَّ] رحمة حتى بالذين كفروا ، ففيه سبب لهدايتهم , والطائفتان هما :
الأولى : قافلة أبي سفيان القادمة من الشام في طريقها إلى مكة ، محملة بالبضائع .
الثانية : جيش المشركين .
ويحتمل أوان نزول قوله تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( )، وجوهاً :
الأول : قبل معركة بدر .
الثاني : اثناء معركة بدر .
الثالث : بعد معركة بدر .
ولا تعارض بينها , وإن كان الوعد سابقاً للمعركة بواسطة الوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء بعد علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بخروج جيش المشركين من مكة , وتجلت بوضوح حقائق التنزيل بعد معركة بدر .
رصد حركة جيش قريش
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبث العيون لرصد أحوال الجزيرة ، وأخبار الناس سواء الأعداء أو غيرهم ، كما كان المسلمون من أهل مكة يبعثون بالأخبار إليه ، وإلى الصحابة إلى جانب سؤال الركبان .
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجعل العيون ، ويرصد الأخبار والتحركات ، وهو من أسباب خروجه في كتائب خارج المدينة ، وفيه شاهد بأن هذه الكتائب والسرايا ليست للغزو .
(قال ابن اسحق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة في ليال مضت من شهر رمضان في اصحابه، قال ابن هشام لثمان ليال خلون منه، وقال ابن سعد يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت منه بعد ما وجه طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بعشر ليال) ( ).
لذا ضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غنائم معركة بدر بسهام لطلحة وسعيد بن زيد إذ (بعثهما يتجسسان خبر العير) ( ) .
قال ابن اسحاق (فسلك صلى الله عليه وآله وسلم على نقب المدينة إلى العقيق، إلى ذي الحليفة، إلى ذات الجيش، إلى تربان، وقيل: تربان ، إلى ملل، إلى غميس الحمام من مر يين ، إلى صخيرات اليمام ، إلى السيالة، إلى فج الروحاء، إلى شنوكة، إلى عرق الظبية . رحقان ، بين النازية ومضيق الصفراء، ثم إلى مضيق الصفراء، فلم قرب من الصفراء بعث بسبس بن عمرو الجهني، حليف بني ساعدة، وعدي ابن أبي الزغباء الجهني، حليف بني النجار إلى بدر، يتجسسان أخبار أبي سفيان وعيره.
ثم رحل، فأخبر عن جبلي الصفراء، وان اسميهما: مسلح ومخرى، وأن سكانهما بنو النار وبنو حراق، بطنان من غفار، فكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الأسماء، فترك الجبلين، وترك الصفراء على اليسار، وأخذ ذات اليمين على وادي ذفران؛ فلما خرج منه نزل.
وأتاه الخبر بخروج نفير قريش لنصر العير، فأخبر أصحابه، رضوان الله عليهم، واستشارهم فيما يعملون) ( ).
ومن المستبعد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث جماعتين لتحسس أخبار العير على نحو الحصر والتعيين ، إذ يكون طريق مسارها في جهة واحدة .
ثم حينما يرجعون باخبار القافلة تكون قد قطعت مسافة نحو مكة والأقرب أخبار كانوا يتجسسون خبر جيش قريش إذ بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أخبار مكة استعدادهم للخروج ، وقد خرجوا نحو بدر بعد ثلاثة أيام من مجئ ضمضم بن عمرو رسول أبي سفيان وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يتعقبون كل ثلاثة أو أربعة على بعير واحد ، إذ كان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وليس عندهم إلا سبعين بعيراً ، مما يدل على البطئ في مسيرهم .
و(عن عبدالله بن مسعود، قال كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، كان أبو لبابة وعلى زميلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: فكانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالا: نحن نمشي عنك.
فقال : ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الاجر منكما)( ).
والمشهوروالمختار أن مرثد بن أبي مرثد بدل أبي لبابة ، قال ابن إسحاق (وكانت ابل اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ سبعين بعيرا فاعتقبوها فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى بن ابى طالب ومرثد بن ابى مرثد يعتقبون بعيرا وكان حمزة وزيد بن حارثة وابو كبشة وأنسة موليا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتقبون بعيرا وكان أبو بكر وعمر و عبدالرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا)( ).
ومن منافع تتبع ورصد حركة المشركين أمور :
الأول : أخذ الحيطة والحذر .
الثاني : الإحتراز من مباغتة العدو للمسلمين أو للمدينة المنورة ، قال تعالى[لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ]( ).
الثالث : إخبار الصحابة عن حركة جيوش المشركين والأحلاف التي تكون بين قريش والقبائل ، أو بين ذات القبائل التي تنوي غزو المدينة أو محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحاب .
الرابع :استشارة الصحابة فيما يجب عمله ، لمواجهة الأفطار.
الخامس : الإستعداد اللقاء.
السادس : الإجتهاد بالدعاء والإستغاثة والتضرع إلى الله عز وجل لدفع الضرر ، وللنصر على المشركين ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ]( ).
وإن إراد الصحابة الغنيمة فستأتيهم الغنائم والنعم المتوالية لبيان فضل الله عز وجل عليهم (عن عكرمة قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر عليك بالعير ليس دونها شيء فقال له العباس وهو أسير في أيديهم : ليس لك ذلك ، فقال : لم؟
فقال : لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك) ( ).
وهذا بعيد من جهات :
الأولى : وصول القافلة إلى مكة .
الثانية : دلالة ونوع المعركة على إرادة جيش المشركين من معنى الطائفة.
الثالثة : إنشغال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالشكر لله تعالى على نعمة النصر .
الرابعة : قيام المسلمين بجمع الغنائم وإحصاء الأسرى وإدراكهم بأنها أفضل من القافلة .
الخامسة : لقد جعل الله عز وجل النبي وأصحابه في غنى عن قافلة أبي سفيان ، ومن فضل الله أنه لم تمر الأيام حتى رزق الله عز وجل المسلمين أضعاف ما في قافلة أبي سفيان ، وابتدأ هذا الرزق بغنائم معركة بدر ، وببدل فكاك الأسرى مع قيام الحجة على كفار قريش بأنهم هم الذين بدأوا القتال .
مصاديق من إحقاق الحق
من معاني قوله تعالى [وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ] ( )وجوه :
الأول : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال دفاع واستغاثة بالله عز وجل .
الثاني : قانون مصاحبة النصر للنبوة حق .
الثالث : قانون هزيمة المشركين من إحقاق الحق والعدل .
الرابع : تنجز وعد الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ميدان المعركة .
الخامس : تثبيت سنن الإيمان في الأرض إلى يوم القيامة ، ولو دار الأمر بين الإطلاق والتقييد في قوله تعالى [وَيُحِقُّ الْحَقَّ] فالأصل هو الإطلاق ، وبقاء منافع نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر إلى يوم القيامة .
وهل يحق الله الحق في معركة بدر على نحو الخصوص ، أم إرادة المعنى الأعم .
الجواب هو الثاني ، ليكون من وجوه تقدير الآية :
الأول : ويحق الحق في معركة بدر بكلماته .
الثاني : ويحق الحق بعد إصرار الذين كفروا على قتال النبي وأصحابه .
الثالث : ليثبت الله ديانة التوحيد في الأرض بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : ليميت الله الباطل بعد إلحاح وعزم المشركين على القتال ، وليس من حصر لوسائل تثبيت التوحيد وإظهار شرائعه فلا ينحصر الأمر بالقتال .
ولكن عندما أصرّ المشركون على القتال جاءتهم الهزيمة إذ نزل الملائكة لقتالهم ، ليضطروا إلى الفرار مع كثرتهم.
وجاءت الآية بصيغة الجمع (بكلماته) لبيان نصر وسائل وسبل إحقاق الحق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ليكون من معاني وأسرار صيغة الجمع في الآية (ويحق الحق) تجدد أسباب وسبل نصر المسلمين ، ودحر الكافرين ، ففي الآية بعث للسكينة في نفوس المسلمين بأن لا تخافوا ثأر قريش وعزمهم على الإنتقام من خسارتهم في معركة بدر ، وإنذار للكفار بأن يكفوا عن القتال ، ومن مصاديقه حينما هجم ثلاثة آلاف رجل من المشركين لغزو المدينة ، وصاروا على مشارفها قابلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسبعمائة من الصحابة ، فأرجع الله كيد الكافرين وعادوا بخزي ، قال تعالى بخصوص معركة أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) .
ومن معاني صيغة الجمع في قوله تعالى [يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ]( )، رد عشرة آلاف من المشركين خائبين بعد تطويقهم المدينة لأكثر من عشرين ليلة .
قانون المدد الملكوتي
لقد تفضل الله سبحانه بنزول الملائكة والتنزيل ، فمن كلمات الله أمره إلى الملائكة بالنزول لنصرة النبوة والتنزيل ، قال تعالى بخصوص معركة بدر [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، ومعنى مردفين بكسر الدال أي متتالين ، يتبع بعضهم بعضاً أما مردفين –بفتح الدال- فمعناه أردفوا بغيرهم مدداً لهم ، ووردت الآية بالكسر .
وهل نزلوا أفراداً أم جماعات وفرقاً ، المختار هو الثاني ، ترى لماذا نزل الملائكة مردفين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وعوناً ومدداً لهم .
الجواب من جهات :
الأولى : دفع القتل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : توالي نزول آيات القرآن .
الثالثة : نزول الملائكة من شكر الله عز وجل للمهاجرين والأنصار في دخولهم الإسلام وصبرهم في لقاء المشركين .
الرابعة : دعوة الناس لدخول الإسلام .
الخامسة : كشف حال الذل ، ودفع الفقر والفاقة عن المسلمين .
السادسة : ما تقدم من قول الله تعالى [ِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ] ( ) .
السابعة : إضعاف أهل الكفر ورميهم بالحسرة والخيبة والذل للملازمة بينه وبين الهزيمة مع كثرة العدد والعدة .
الثامنة : نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر بعث للنفرة في نفوس الناس من عبادة الأوثان .
التاسعة : دلالة الآية أعلاه [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ) على أن هذه الإستغاثة وإلحاح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدفاع عشية ونهار يوم بدر علة وسبب لإستجابة الله عز وجل بنزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وفيه دعوة للمؤمنين إلى يوم القيامة للإجتهاد في الدعاء في حال الشدة وعدم اليأس من المدد والعون الإلهي ، قال تعالى [يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ] ( ).

لفظ [كَلِمَاتٍ] في القرآن
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ [كَلِمَاتٍ] أربع عشرة مرة في القرآن كلها لله عز وجل وكل واحدة منها حرز ومادة لاستنباط المسائل العقائدية والكلامية ، وكذا الجمع بينها والصلة بينها وبين الآيات التي ورد فيها لفظ كلمة الله بصيغة المفرد ، ومنها [إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ]( )، وهذه الآيات هي :
الأولى : قال تعالى [فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( ).
الثانية : قال تعالى [وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]( ).
الثالثة : قال تعالى [وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ]( ).
الرابعة : قال تعالى [وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ) وتجمع هذه الآية بين لفظ [كَلِمَة] بصيغة المفرد ولفظ [كَلِمَاتٍ] بصيغة الجمع .
الخامسة : قال تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
السادسة : قال تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
السابعة : قال تعالى [لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
الثامنة : قال تعالى [وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ] ( ).
التاسعة : قال تعالى [وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا]( ).
العاشرة والحادية عشرة : قال تعالى[قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا]( ).
الثانية عشرة : قال تعالى [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
الثالثة عشرة : قال تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ]( ).
الرابعة عشرة : قال تعالى [وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ]( ).
مصاديق من كلمات الله
من فضل الله على أهل الأرض التقاء المسلمين على وقت واحد في ساعة الإفطار وساعة الإمساك عن الأكل .
وكما يؤدي المسلمون الفرائض العبادية قربة إلى الله تعالى فانهم يقاتلون دفاعاً وفي سبيل الله عندما يصر ويلّح المشركون لا يريدون إلا القتال والقتل وسفك الدماء .
فكانت الهزيمة في انتظارهم في كل معركة من معارك تعديهم وغزوهم المدينة المنورة ، ليكون من معاني قوله تعالى [يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ) .
إن وجوب أداء الفرائض العبادية من كلمات الله عز وجل ، وأسباب تغشي السلم لربوع الأرض ، واستئصال الذين كفروا بظلمهم.
هل الدنيا من كلمات الله
ذات الدنيا من كلمات الله عز وجل , فهي وزينتها قامت واستدامت بامره سبحانه ومنقادة إليه سبحانه ، وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال إن الله جميل يحب الجمال)( ). رواه أحمد في مسنده ، والحاكم في مستدركه .
والكبر : التعالي والترفع عن الناس بغير حق .
وبطر الحق : انكاره والجدال فيه عناداً وتجبراً .
وغمط الناس : ازدراؤهم .
وعن (خيثمة بن أبي خيثمة قال: كان الحسن بن على عليه السلام إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فقيل له: يا ابن رسول الله لم تلبس أجود ثيابك ؟ .
فقال: إن الله جميل يحب الجمال، فأتجمل لربي، وهو يقول: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) فأحب أن ألبس أجود ثيابي)( ).
والمراد من إن الله جميل أي ان الجمال والبهاء المطلق لله عز وجل وصفاته الحسنى ، وكلماته التامات ، وهو سبحانه يحب من الناس أداءهم المناسك والفرائض والعبادات .
ويبين الحديث أن من جمال الإنسان التقوى والخلق الحميد والطهارة والنظافة ، والتنزه عن الكبر ، وهذا التنزه طريق إلى اللبث الدائم في الجنة .
ولا يختص الجمال في الحديث أعلاه بالقضية الشخصية إنما يشمل الأمور العامة ، ومنها حال السلم المجتمعي فانها جمال وبهجة ، ومناسبة للإجتهاد بالتقوى ، والتراحم بين الناس ، لذا جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسلم المجتمعي ليتم رسالة الأنبياء السابقين .
وتبقى أحكام القرآن تتعاهد صرح السلم في الأرض ، وتمنع من غلبة الفتنة وتدفع الكيد والمكر ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) .
وقد وردت مادة السلام ومشتقاتها في القرآن نحو ثمانين مرة عدا مواضع كلمة الإسلام المتعددة ، مما يدل على أن القرآن كتاب السلام ، وفيه دعوة للسلم .
وكانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة لهذه الدعوة , قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( )، وتدل الآية أعلاه على أن المشركين هم الذين كانوا يبدأون القتال ويواصلونه .
مواعظ من خاتمة الآية
أختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ) وقد ورد قطع دابر الكافرين في أربع آيات من القرآن ، إذ ورد في ثلاث آيات أخرى , وهي :
الأولى : قال تعالى [فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) لبيان تلقي الكفار النعم العظيمة المتتالية من عند الله بالجحود والغرور والظلم .
وفي الآية أعلاه ورد عن (عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء . . . . }( ) الآية ، والآية التي بعدها .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بقوم بقاء أو نماء رزقهم القصد والعفاف ، وإذا أراد بقوم اقتطاعاً فتح لهم أو فتح عليهم باب خيانة { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين })( ).
الثانية : وردت في قوم هود وإقامتهم على الكفر مع دعوته المتكررة لهم للتوحيد ، ونبذ الكفر ، قال تعالى [فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ] ( ) .
لبيان مجئ آية من عند الله وهي الريح الدبور اختصت بهلاك الذين كفروا دون المؤمنين الذين أنجاهم الله مع النبي هود عليه السلام .
وكانت عاد قوم هود تسكن اليمن بالأحقاف ما بين عُمان إلى حضرموت ، وازدادت قوتهم وكثرت أموالهم ، وكانت لهم أصنام منها صنار ، وصمود ، والهبار , وبنوا المصانع وشيدوا القصور , وسادوا على من حولهم .
الثالثة : قوله تعالى في قوم لوط [وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ] ( ) للإخبار عن استئصالهم بنزول العذاب بهم عند الصباح بسبب إجرامهم وظلمهم .
وقد أكرم الله عز وجل لوطاً إذ أقسم بعمره بقوله تعالى [لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ] ( ) أي يتمادون في غفلتهم ، ويترددون في لعبهم وغيهم .
وقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يهلك قومه قريش مع شدة إيذائهم له ، ولا كل بيته وأصحابه لأنه كان يدعو لهم ويسأل الله لهم الهداية .
نعم أهلك الله طائفة منهم في ميدان المعارك عندما أصروا على غزو المدينة ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) .
ونزلت الآية أعلاه بخصوص معركة أحد إلا أنها جاءت بصيغة المضارع لبيان تجدد هذا القطع مع كل غزوة يقومون بها ضد المدينة المنورة .
لقد كان المشركون يهجمون على المدينة بقصد قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيرجعون بقتل عدد منهم ، وبخيبتهم وعجزهم عن وصول أيديهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، نعم قد أصيب بجراحات شديدة في معركة أحد ، وفيه بلحاظ قانون هذا الجزء وهو (آيات الدفاع سلام دائم) وجوه :
الأول : إقامة الحجة على الذين كفروا .
الثاني : دلالة [فينقلبوا ] في الآية أعلاه على أن المشركين هم الغزاة ، وتقدير الآية على جهات :
الأولى : فانقلبوا من معركة بدر خائبين .
الثانية : فانقلبوا من معركة أحد خائبين , وهل كانت صيغ وصبغة الذم والتبكيت التي توجهت من الشعراء وعامة الناس إلى قريش من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) ، الجواب نعم .
الثالثة : فانقلبوا من معركة الخندق باحزابهم الكثيرة وجحافلهم خائبين.
وقال حسان بن ثابت في هجاء سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، مع ثنائه على بني هاشم :
لقد علم الأقوام أنّ ابن هاشمٍ . هو الغصن ذو الأفنان لا الواحد الوغد
وأنّ سنام المجد من آل هاشمٍ … بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
ومن ولدت أبناء زهرة منهم … كرام ولم يلحق عجائزك المجد
ولست كعبّاسٍ ولا كابن أُمّه … ولكن لئيمٌ لا يقوم له زند
وما لك فيهم محتد غير ملصق … فدونك فالصق مثل ما لصق القرد
وإنّ امرأً كانت غزيّة أُمه … وسمراء مغمور إذا بلغ الجهد
وأنت زنيمٌ ليط في آل هاشمٍ ..كما ليط خلف الرّاكب القدح الفرد) ( ).
الرابعة : فانقلبوا من صلح الحديبية خائبين ، وهو الذي يدل عليه وصف الصلح بأنه فتح جلي وعظيم ، ففي قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( )ورد (عن أنس بن مالك، قال: “لما رجعنا من غزوة الحديبية، وقد حيل بيننا وبين نسكنا، قال: فنحن بين الحزن والكآبة، قال: فأنزل الله عزّ وجلّ:( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) ( ) ,
أو كما شاء الله، فقال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم: لَقَدْ أُنزلَتْ عَليَّ آيَةٌ أحَبُّ إلي مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعا) ( ).
الخامس :فينقلبوا من معركة حنين خائبين .
السادس : فينقلبوا أن قاموا بالغزو ، إذ يدل لفظ [فَيَنْقَلِبُوا] على أن المشركين هم الغزاة .
السابع : غلبة حال الخيبة على المشركين حتى في حال اقامتهم في مكة .
الثالث : تأكيد الآية لحقيقة كون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال دفاع ، وأنه لم يقم بغزو الكفار ، إنما هم الغزاة في معارك الإسلام الكبرى .
الرابع : لقد أخبرت الآية السابقة بأن الله عز وجل جعل بشارة للمؤمنين ، ومن وجوه البشارة الوعد بأن المشركين كلما هجموا وغزوا فان النتيجة هلاك طائفة منهم ، ورجوعهم أذلة خائبين .
الخامس : ذهاب ما انفقه المشركون على مغازيهم سدىً .
والجامع المشترك بين الغزاة في المعارك أعلاه هو الكفر والضلالة والجحود بالربوبية لله ، والنبوة والتنزيل ، لذا فان أي خسارة في كفار قريش هي خسارة لعموم الكفار ليكون من معاني قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( ) :
الأول : ولقد نصر الله رسوله محمداً ببدر[وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا]( ) .
الثاني : ولقد نصركم الله كمؤمنين ببدر[وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا]( ).
الثالث : ولقد نصر الله المهاجرين والأنصار ببدر.
الرابع : ولقد نصر الله المؤمنين ببدر وهم أذلة، قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الخامس : ولقد نصركم الله ببدر على مشركي قريش.
السادس : ولقد نصركم الله ببدر على الذين أصرو على قتالكم.
السابع : ولقد نصركم الله على مشركي الجزيرة.
الثامن : ولقد نصركم ببدر على عموم المشركين[وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ]( ).
التاسع : ولقد نصركم الله ببدر.
وكذا فان خسارة هوازن وثقيف في معركة حنين قطع لطرف من الذين كفروا ، وسبب في دخول الناس الإسلام ، ونبذ العنف والإرهاب .
وتبين الآية أن المسلمين وإن كانوا قلة وضعفاء إلا أن الله عز وجل يدفع عنهم وهم في تلك الحال بالعون والمدد والنصر .
لقد كانوا يخشون وهم في المدينة الكفار ، يتوجسون خيفة من هجومهم وغزوهم واقتحامهم المدينة ، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقاؤه لسنوات ليس عنده إلا بلدة واحدة يقيم فيها هو وأصحابه، ويحيط به كل من :
الأول : المنافقون .
الثاني : طائفة من الكفار ، فلم يكن أهل المدينة كلهم مسلمون في بدايات الهجرة .
الثالث : يسكن في المدينة اليهود من بني النضير وقريظة وقينقاع ، وتتوالى هجمات المشركين عليها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ] ( ).
المُعاهد في الإصطلاح
من السلم الحكم بالعدل وانصاف الناس ، وضمان حقوقهم وان تباين انتماؤهم ، و(عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و سلم عن آبائهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قال : من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)( ).
والمُعاهد على أقسام :
الأول : الذي أعطاه المسلمون أو بعضهم عهداً وموثقاً .
الثاني : الرجل من أهل الحرب فيدخل دار الإسلام بأمان ويحرم على المسلمين إيذاؤه ، وقد دخل كفار مكة بعد معركة بدر إلى المدينة لفكاك الأسرى وغيره من غير عهد ولا ميثاق .
وبعضهم حضر ليغتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه رآى معجزات النبوة فدخل الإسلام مثل عمير بن وهب الجمحي وكان من شياطين قريش .
وجلس بعد معركة بدر بقليل مع صفوان بن أمية في حِجر إسماعيل .
فأظهر عُمير التهديد بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأنه كان يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان في مكة قبل الهجرة ولأن ابنه وهب بن عمير كان أسيراً عند المسلمين في المدينة ، ولكثرة قتلى المشركين في معركة بدر.
ثم بين عُمير الموانع التي تحول دون ذهابه للمدينة لقتل النبي وهي دين ركبه لا يستطيع قضاؤه ، وعيال يخشى عليهم الضيعة والتيه .
مما يدل على علم عمير بأنه لو أراد قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فانه أي عمير سيُقتل سواء استطاعت يده الوصول إلى النبي أو لا ، (فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ وَقَالَ عَلَيّ دَيْنُك ، أَنَا أَقْضِيهِ عَنْك ، وَعِيَالُك مَعَ عِيَالِي أُوَاسِيهِمْ مَا بَقُوا ، لَا يَسَعُنِي شَيْءٌ وَيَعْجِزُ عَنْهُمْ فَقَالَ لَهُ عُمَيْرٌ فَاكْتُمْ شَأْنِي وَشَأْنَك ، قَالَ أَفْعَلُ)( ).
وقد تقدم ذكر مجئ عمير الى المدينة ، ودخوله الإسلام ، ومن الآيات شفاعة عمير يوم فتح مكة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لصفوان بن أمية ، وقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم شفاعته.
الثالث : الذين صالحهم رسول الله على منع الحرب والقتال ، وإن كانوا كفاراً مشركين .
الرابع : أهل الذمة ، لذا قد يطلق عليهم أهل العهد .
والنسبة بين المعاهد والذمي هي العموم والخصوص المطلق ، فيطلق المعاهد على الكافر والكتابي .
أما الذمي فلا يطلق إلا على الكتابي من اليهود والنصارى والمجوس .
مع حرمة قتل أي فرد منهم أو الإضرار به أو بحقوقه لعصمة دمائهم وأموالهم ، ويحتمل العهد وجوهاً :
الأول : الصلح المؤقت بمدة كما في صلح الحديبية لعشر سنين .
الثاني : الصلح الدائم .
الثالث : إرادة الوجهين أعلاه .
والمختار هو الأخير ، وكانت معاهدات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الدوام ، إلا القليل .
و(عن واقد بن عمرو، قال: حدثني من نظر إلى أسيد بن حضير وسعد بن عبادة أخذا بيد الكاتب فأمسكاها وقالا : لا تكتب إلا محمدٌ رسول الله، وإلا فالسيف بيننا! علام نعطي هذه الدنية في ديننا؟
فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخفضهم ويومىء بيده إليهم: اسكتوا! وجعل حويطب يتعجب مما يصنعون، ويقبل على مكرز بن حفص ويقول: ما رأيت قوماً أحوط لدينهم من هؤلاء القوم!
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اكتب باسمك اللهم. فنزلت هذه الآية في سهيل حين أبي أن يقر بالرحمن: ” قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ” ( ).
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا محمدٌ بن عبد الله، فاكتب!
فكتب: باسمك اللهم، هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس.
ويكف بعضهم عن بعض، على أنه لا إسلال ولا إغلال ، وأن بيننا عيبةً مكفوفة ؛
وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمدٍ وعقده فعل، وأنه من أحب أن يدخل في عهد قريشٍ وعقدها فعل؛
وأنه من أتى محمداً منهم بغير إذن وليه رده إليه، وأنه من أتى قريشاً من أصحاب محمدٍ لم ترده؛
وأن محمداً يرجع عنا عامه هذا بأصحابه، ويدخل علينا قابل في أصحابه فيقيم ثلاثاً، لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر، السيوف في القرب)( ).
وكان الإمام علي عليه السلام هو الذي كتب بنود الصلح .
ومع هذا لم يحافظ الكفار على هذا العهد إذ نقضوه باعانتهم بني بكر على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خزاعة.
قانون تقديم القرآن المهاجرين على الأنصار
لقد أكرم الله عز وجل الأنبياء بشرف النبوة والرسالة ليفوز الذي يصدّقهم ويؤمن بنبوتهم لأن التصديق فضيلة ، وتأسيس لصلاح وقد امتاز صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد بتحمل الأذى ، وتلقي الضرر من الذين كفروا بصبر وثبات في منازل الإيمان .
وتتضمن الآيات التي تذكرهم الثناء عليهم ، والوعد الكريم مثل قوله تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ).
وهل يختص اصطلاح المهاجرين بالذين هاجروا إلى المدينة أم يشمل أولئك الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة ، الجواب هو الثاني، لتكون عودتهم من الحبشة وهجرتهم إلى المدينة مناسبة لمضاعفة الأجر والثواب ، وتعدد مصداق الهجرة ، وفيه شاهد على أن الإسلام دين السلم والسلام، وهذا التعدد حجة على الذين كفروا من قريش وشدة ظلمهم .
لقد نالوا صفة المهاجرين من حين خروجهم من مكة وركوبهم البحر متوجهين إلى الحبشة بارشاد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد لاحقتهم خيل قريش لإعادتهم من البحر دون جدوى ، (قال المفسرون : أئتمرت قريش بأن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على محمد فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم فأفتن ما أفتن وعصم اللّه منهم من شاء ومنع اللّه رسوله بعمّه أبي طالب .
فلما رأى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال : إن بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد.
فاخرجوا إليه حتى يجعل اللّه للمسلمين فرجاً وأراد به النجاشي وإسمه أصحمة وهو بالحبشة عطية فإنما النجاشي إسم الملك كقول قيصر وكسرى فخرج إليها سراً عشرون رجلاً وأربع نسوة وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم والزبير بن العوام وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية وعثمان بن مضعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة وحاطب بن عمرو وسهيل بن البيضاء .
فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وهذه الهجرة الأولى .
ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون إليها وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين إثنين وثمانين رجلاً سوى النساء والصبيان فلما علمت قريش بذلك وجّهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي وإلى بطارقته ليردهم إليه فيعصمهم اللّه) ( ).
وهل تقديم المهاجرين على الأنصار في الآية القرآنية كما في قوله تعالى [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ) تقديم تفضيل بلحاظ أن التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدأ في مكة من أهل بيت النبوة وبعض الصحابة قبل بيعة العقبة ، وتحمل المهاجرين الأذى ووطأة الغربة .
المختار الأصل هو التساوي في الفضل بين المهاجرين والأنصار مع وجود المائز على نحو القضية الشخصية ، كما في إسلام الإمام علي عليه السلام في اليوم الثاني للبعثة النبوية ، ومبيته في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وجهاده وكذا عدد من الصحابة الأوائل في مكة ، وبعض رؤساء الأنصار ، قال تعالى [أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ] ( ) ، كما في قوله تعالى وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ).
ويحتمل حرف الجر (من) في قوله تعالى [مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] وجهين :
الأول : التبعيض وتقدير الآية على شعبتين :
الأولى : والسابقون الأولون من المهاجرين ، وليس المهاجرين كلهم .
الثانية : السابقون الأولون من الأنصار ، وليس الأنصار كلهم .
الثاني : إرادة البيان والتعيين ، كما في قوله تعالى [فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ] ( ) وأن المراد كل المهاجرين والأنصار .
ومشهور علماء الإسلام والمختار هو الأول ، وفيه وجوه :
الأول : المراد الذين صلوا إلى القبلتين من المهاجرين والأنصار ، وكان تحويل القبلة في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة قبل معركة بدر بنحو شهرين .
(عن البراء قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهراً ، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخوله إلى المدينة بشهرين .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى إلى بيت المقدس أكثر تقلب وجهه في السماء ، وعلم الله من قلب نبيه أنه يهوى الكعبة ، فصعد جبريل فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبعه بصره وهو يصعد بين السماء والأرض ينظر ما يأتيه به ، فأنزل الله { قد نرى تقلب وجهك في السماء . . . }( ) الآية .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا جبريل كيف حالنا في صلاتنا إلى بيت المقدس؟
فأنزل الله { وما كان الله ليضيع إيمانكم }( )) ( ).
الثاني : أنهم أهل بدر .
الثالث : المقصود أهل بيعة الرضوان .
والمختار هو الثاني ، ووصف المهاجرين والأنصار لا يختص بالبدريين ، إنما يشمل الذي كان مؤمناً يوم وقوع معركة بدر سواء كان في الحبشة أو المدينة لوجوه :
الأول : ذكر اسم معركة بدر في القرآن .
الثاني : تسمية يوم بدر بأنه يوم الفرقان ، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
الثالث : إخبار القرآن عن كون المسلمين يومئذ أذلة فهم اختاروا الإيمان مع حال الإستضعاف التي عليها الإسلام .
ويدخل المهاجرون إلى الحبشة بعنوان المهاجرين الأوائل ، ومن المهاجرين الأوائل إلى المدينة :
الأول : أبو سلمة بن عبد الأسد مع زوجته أم سلمة وابنه سلمة وقيل كانت هجرته قبل بيعة العقبة بسنة .
الثاني : عبد الله بن أم مكتوم الأعمى القرشي العامري (واسم أمه أم مكتوم عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة بن عامر بن مخزوم. واختلفوا في اسم أبيه فقال بعضهم: هو عبد الله بن زائدة بن الأصم.
وقال آخرون : هو عبد الله بن قيس بن مالك بن الأصم بن رواحة بن صخر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي القرشي العامري كان قديم الإسلام بمكة وهاجر إلى المدينة)( ).
قيل (وقدم المدينة بعد بدرٍ بيسير فنزل دار القراء، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستخلفه في أكثر كتائبه( ) على المدينة.
وأهل المدينة يقول: اسمه عبد الله، وأهل العراق يقولون: اسمه عمرو. وكان يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع بلال)( ).
الثالث : عامر بن ربيعة مع زوجته ليلى بنت أبي حثمة.
الرابع : عبد الله بن جحش مع أخوته حيث لم يبق في دارهم أحد .
الخامس : عمر بن الخطاب .
السادس : طلحة بن عبيد الله .
السابع : الزبير بن العوام .
الثامن : مصعب بن عمير .
التاسع : عثمان بن عفان .
العاشر : عبد الرحمن بن عوف .
الحادي عشر : زيد بن حارثة .
الثاني عشر : بلال بن رباح .
الثالث عشر : الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
الرابع عشر : عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب .
الخامس عشر : سليم مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(قال ابن هشام : هو من فارس وقال : غيره هو من مولدي أرض دوس وقد قيل من مولدي مكة ابتاعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعتقه واسمه سليم توفي سنة ثلاث عشرة)( ).
وهل يختص عنوان الأنصار الأوائل على الذين حضروا بيعة العقبة الأولى أو الثانية من الأوس والخزرج ، المختار لا ، إنما هو أعم ، فيشمل الذين أسلموا قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعدها إلى معركة بدر ونحو أوانها .
الآية الرابعة : قوله تعالى [وَاذكروا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
تبين آية البحث معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتذكير بنعمة الله عليه بسلامته وأصحابه بسنوات إقامته نبياً في مكة مع ضعفهم وقلة عددهم ،وإمكان قريش أخذهم وقتلهم أو سجنهم وتعذيبهم .
لقد جعل الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بتبليغ رسالته في مكة خاصة أيام الموسم ،وعند قدوم وفود القبائل للحج ، لبيان قانون وهو بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت الحرام مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتهيئة لقيامه بتبليغ أهل المدن والأرياف برسالته ، فلا يمكن أن يتحقق له هذا التبليغ لولا إجتماعهم في موسم الحج .
لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يذهب إلى القبائل في منازلها في أسواق مكة ، وفي منى ، ويعرض عليهم نفسه ، ويتلو عليهم آيات القرآن ، أما الإستجابة والهداية فهي فضل ونعمة من عند الله ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( )
ومن فضل الله عز وجل أنه جعل موسم الحج في أشهر حرم تمتنع قريش فيها عن إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
إذ يجتمع الناس في موسم الحج في شهر ذي القعدة وذي الحجة من كل سنة وإلى يومنا هذا ، والأشهر الحرم هي :
الأول : ذو القعدة .
الثاني : ذو الحجة .
الثالث : محرم .
الرابع : شهر رجب ، وهو منفرد ، ومن أسباب انفراده كشهر حرام عدم إيغال العرب بالقتال ، واستمرار سفك الدماء ، وفيه دعوة للصلح ، وقد تم صلح الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، وفيه شاهد على أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد القتال .
وهل يختص قوله تعالى [إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ] ( ) بأيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، الجواب لا ، إنما يشمل أيام الهجرة ومخاطر الطريق وبدايات إقامته في المدينة .
وتدخل فية واقعة بدر لوصف الله عز وجل المسلمين يومئذ [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
ولم تنته أسباب تعرض المسلمين للأذى والهجوم الواسع بمعركة بدر من جهات :
الأولى : مع هزيمة قريش في معركة بدر فأنهم استعدوا للثأر ، وساروا نحو معركة أحد ، وعددهم أكثر من ثلاث أضعاف عددهم في معركة بدر .
وبينما يبعد موضع معركة بدر نحو (150) كم عن المدينة ، ولم يعلم أهلها بالمعركة إلا بعد دخول الأسرى والغنائم إلى المدينة ، فان جيش المشركين أطلوا على المدينة في معركة أحد ، وصاروا يرمون بالسهام الذي يخرج من المدينة إلى زراعته ، أو نحو انعامه أو يريد مغادرتها في سفر قبل أن يضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للخروج إليهم وملاقاتهم في سبعمائة فقط من أصحابه .
الثانية : قيام عدد من القبائل بالتخطيط للهجوم على المدينة .
الثالثة : الخشية من غزو الفرس أو الروم للمدينة .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات سلامته أنه ليس عنده مدينة أخرى يلجأ إليها ، لو داهمته الأخطار والعدو في المدينة المنورة ، وأراد الإنسحاب إلى غيرها .
وهذا من الإستضعاف الذي تذكره آية البحث بقوله تعالى [وَاذكروا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ] ( ) .
هل سعى كفار قريش في تحريض ملوك فارس والروم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، الأقرب نعم ، ولعل ذهاب أبي سفيان وغيره من رؤساء المشركين إلى ملك الروم وإلى كسرى ملك فارس للمناشدة للإخبار بأنه جاء بدين جديد ، والحضّ على الهجوم عليه.
قانون الإستضعاف
من ظلم وجور رؤساء الشرك اضطهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة ، ومنعهم من الهجرة في أرض الله الواسعة ، وهو من مصاديق الإستضعاف في آية البحث بقوله تعالى [وَاذكروا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ] ( ).
ومن معاني الإستضعاف في المقام وجوه :
الأول : لجوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل بيته وشمولهم في الحصار .
الثاني : عجز النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الذب عن أصحابه ، ومنع تعذيب الكفار لهم ، (قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ بَنُو مَخْزُومٍ يَخْرُجُونَ بِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِأَبِيهِ وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ إسْلَامٍ إذَا حَمِيَتْ الظّهِيرَةُ يُعَذّبُونَهُمْ بِرَمْضَاءِ مَكّةَ ، فَيَمُرّ بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَيَقُول ، فِيمَا بَلَغَنِي : صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمْ الْجَنّة فَأَمّا أُمّهُ فَقَتَلُوهَا ، وَهِيَ تَأْبَى إلّا الْإِسْلَامَ .) ( ).
الثالث : عجز الصحابة عن دفع أذى المشركين عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونعته بأنه كذاب وأنه مجنون ، وسكوتهم تقية عن قريش في تكذيبها للمعجزات النبوية .
وعن عبد الله بن مسعود(قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله سلم دعا على قريش غير يوم واحد فإنه كان يصلي و رهط من قؤيش جلوس و سلا جزور قريب منه فقالوا : من يأخذ هذه السلا فيلقبه على ظهره ؟
فقال عقبة بن أبي معيط : أنا فأخذه فألقله على ظهره فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم عليك بهذا الملأ من قريش اللهم عليك بعتبة بن ربيعة اللهم عليك بشيبة بن ربيعة اللهم عليك بأبي جهل بن هشام اللهم عليك بعقبة ابن أبي معيط اللهم عليك بأبي بن خلف ـ أو أمية بن خلف ـ شعبة الشاك]
قال عبد الله : فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا ثم سحبوا إلى القليب غير أبي أو أمية بن خلف فإنه كان رجلا ضخما فتقطع) ( ).
والمراد أمية بن خلف لأن أبي بن خلف جرح في معركة أحد ، ومات في طريق العودة إلى مكة ، اي أن عبد الله بن مسعود وربما غيره من الصحابة كانوا جالسين في المسجد الحرام ساعة إيذاء قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنهم يخشون بطش قريش .
الرابع : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لطائفة من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة ، ليبقوا في حال استضعاف إلى حين عودتهم إلى المدينة وتحقق مصاديق قوله تعالى [وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ]أي أن عودتهم إلى المدينة لم ترفع عنهم حال الإستضعاف لتوالي هجوم المشركين على المدينة وإرادتهم قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ومن مهاجري الحبشة من قاتل دفاعاً في معركة بدر ، ومنهم من قاتل في معركة أحد .
فمثلاً عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي وأمه أمية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو حليف بني أمية أسلم قبل دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم وهاجر إلى الحبشة ثم هاجر إلى المدينة ، وشهد بدراً واستشهد في معركة أحد ، ويُعرف بالمجدوع لأن المشركين مثلوا به يوم معركة أحد وقطعوا أنفه وأذنه.
وعن سعد بن أبي وقاص قال (أن عبد الله بن جحش انقطع سيفه يوم أحد فأعطاه رسول الله صلى الله عليه و سلم عرجون نخلة فصار في يده سيفا يقال إن قائمته منه وكان يسمى العرجون ولم يزل يتناول حتى بيع من بغا التركي بمائتي دينار ويقولون : إنه قتله يوم أحد أبو الحكم بن الأخنس بن شريق الثقفي وهو يوم قتل ابن نيف وأربعين سنة ) ( ).
وكذا بالنسبة لابن عمة آخر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي وأمه برة بنت عبد المطلب ، وهو أيضاً أخو النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة ، إذ ارضعتهما وحمزة بن عبد المطلب ثويبة الأسلمية جارية لأبي لهب بلبن ابنها مسروح .
وقد هاجر مع زوجته إلى الحبشة وعاد منها ، وقيل أن عبد الله بن عبد الأسد أول من هاجر إلى الحبشة ( ) .
وبعد أن هاجر إلى الحبشة سمع باسلام قريش فعاد إلى مكة ، فتبين عدم صحة الخبر فأجاره خاله أبو طالب بن عبد المطلب ، فهاجر إلى المدينة ، وقيل هو أول من هاجر إليها .
(عن عمر بن أبي سلمة قال: خرج أبي إلى أحد فرماه أبو سلمة الجشمي في عضده بسهم فمكث شهرا يداوي جرحه ثم بريء الجرح، وبعث رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أبي إلى قطن في المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا فغاب تسعا وعشرين ليلة .
ثم رجع فدخل المدينة لثمان خلون من صفر سنة أربع، والجرح منتقض، فمات منه لثمان خلون من جمادي الآخرة سنة أربع من الهجرة، فاعتدت أمي وحلت لعشر بقين من شوال سنة أربع فتزوجها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في ليال بقين من شوال سنة أربع، وتوفيت في ذي القعدة سنة تسع وخمسين.
أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا مجمع بن يعقوب عن أبي بكر بن محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبيه عن أم سلمة أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قال لها: إذا أصابتك مصيبة فقولي اللهم اعطني أجر مصيبتي واخلفني خيرا منها.
فقلتها يوم توفي أبو سلمة، ثم قلت: ومن لي مثل أبي سلمة؟
فعجل الله لي الخلف خيرا من أبي سلمة.) ( ).
الخامس : هل كانت كل من معركة بدر ، وأحد ، والخندق من حال إستضعاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، الجواب نعم .
فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قلة في عددهم ، ويظهر النقص في عدتهم ورحالهم للعدو مما يجعل المشركين يطمعون بهم ، فصار المدد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حاجة فتفضل الله عز وجل , وقال في آية البحث [وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ] ليكون من معاني الآية الكريمة وأيدكم الله بنصره وأنتم مستضعفون .
ومع ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الإستضعاف فانهم كانوا يجاهدون في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة .
فلم يشهروا سيفاً ، ولم يقوموا باغتيال بعض رؤساء الكفر ممن كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولم يقوموا برد الضرب والصفع بمثله ، إنما كانوا مرآة لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) وكان الإستضعاف بادياً عليهم ، وهو من أسباب دخول الناس الإسلام ، لتجلي الحق والصدق بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهره باقامة الصلاة في المسجد الحرام كل يوم .
السادس : منع رؤساء الشرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دخول مكة في صلح الحديبية ، إذ وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه ألف وأربعمائة من أصحابه إلى حدود الحرم لأداء مناسك العمرة ، ولكن المشركين بعثوا الخيل لمنعهم وإرادة الإجهاز عليهم وقتلهم إلى أن تم صلح الحديبية .
ليكون من معاني قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ] ( ) إنقطاع كثير من ضروب الإستضعاف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بصلح الحديبية .
ويبين توالي الوقائع في تأريخ نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مراتب التخفيف وصرف شدة الإستضعاف مع تقادم الأيام ، فحال المسلمين بعد الهجرة أحسن مما هو قبل الهجرة بمراتب ، لذا كانت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة له ، لكن حال الإستضعاف لم تغادر المسلمين .
قانون نزول الآية القرآنية سلام دائم
لقد خلق الله عز وجل الناس لتتوالى عليهم النعم وعلى نحو دفعي وتدريجي ، ومن فضل وإحسان الله عز وجل أن النعم تراكمية ، فاذا جاءت نعمة تكون في عرض النعمة الأخرى ، ومضافة إليها ، وليست بديلاً عنها ، وإن إتحد الموضوع ، ليكون من مصاديق قول تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) .
أي وأن تعدوا نعمة الله في الموضوع المتحد كالصحة أو الرزق أو الأمن ونحوه فإنكم تعجزون عن إحصائها ، و‘ن اجتمعتم على إحصاء أفراد النعمة الواحدة للفرد الواحد منهم .
فان قلت من آيات القرآن ما تخص القتال فهل هي من السلامة ، الجواب نعم ، لأنها استئصال للقتال وأسبابه من جهات :
الأولى : قانون إبتداء الذين كفروا بالقتال .
الثانية : قانون إضطرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للدفاع لما فيها من الأوامر للمسلمين للحيطة والحذر .
الثالثة : آيات القتال حجة على الذين كفروا .
الرابعة : تستلزم حاجة المسلمين للدفاع مدداً وعوناً من الله ، فتفضل الله سبحانه بآيات القتال لبيان حقهم في الدفاع عن النبوة والتنزيل وعن أنفسهم.
الخامسة : تدل آيات الدفاع بالدلالة التضمنية على سقوط القتلى من المسلمين ، كما في معركة بدر ، إذ سقط أربعة عشر شهيداً كانوا في حال دفاع وإضطرار للقتال ، وفي معركة أحد سبعون شهيداً ، وقد رزقهم الله عز وجل الخلود في النعيم .
ومن مفاهيم هذا الرزق أنهم ضحوا بأنفسهم ليسود السلام في الأرض واقترانه بعبادة الله ، إذ يؤدي المؤمنون الصلاة من غير وجود من يمنع الصلاة ، وفي التنزيل [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى] ( ).
ونزلت الآية أعلاه في أبي جهل ومنعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم (روي عن علي (عليه السلام) أنه خرج في يوم عيد فرأى ناسا يصلون فقال يا أيها الناس قد شهدنا نبي الله في مثل هذا اليوم فلم يكن أحد يصلي قبل العيد أو قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم .
فقال رجل يا أمير المؤمنين أ لا تنهى أن يصلوا قبل خروج الإمام .
فقال لا أريد أن أنهي عبدا إذا صلى و لكنا نحدثهم بما شهدنا من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أو كما قال) ( ).
(وأخرج ابن سعد عن عثمان بن أبي العاصي قال : آخر كلام كلمني به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ استعملني على الطائف أن قال : خفف الصلاة عن الناس حتى وقت [اقرأ باسم ربك الذي خلق ] ( )وأشباهها من القرآن) ( ).
وفي القرآن أكثر من خمسمائة آية من آيات الأحكام والتي تتضمن السلم المجتمعي وبناء صرح الأخلاق الحميدة ، وصيرورة العدل هو الفيصل والملاك ، كما وردت آيات تدعو إلى السلام ، وتندب الناس إليه وفيها منع من غلبة النفس الغضبية ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) أن الصلح والسلم يقودان إلى هداية الناس إلى سبل الرشاد والإيمان ، كما يدل عليه صلح الحديبية والمنافع العظيمة التي ترشحت عنه .
فتفضل الله وسماه فتحاً بقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) لبيان ترشح منافع هذا الصلح على الناس إلى يوم القيامة، ولتكون الآية أعلاه من آيات السلام ،وإشاعة الأمن بين الناس .
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة يتطلعون إلى السماء ويرجون نزول آيات القرآن ، إذ يدركون أن كل آية منهاج وصراط مستقيم.
وفي موضوع تحويل القبلة ورد قوله تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ] ( ) وانشغال المسلمين بنزول آيات القرآن والتدبر في معانيها ، والحرص على العمل بمضامينها القدسية شاهد على إعراضهم عن القتال والغزو .
قانون تبليغ النبي في الأسواق
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد بالتبليغ في موسم الحج ، وفي الأسواق التي تقام آنذاك .
ومن الحكمة وحسن التنظيم في أوان ومكان هذه الأسواق ، مسائل :
الأولى : إقامة هذه الأسواق في الأشهر الحرم ، لإزدهار التجارة ، والمنع من الفتنة ، وسفك الدماء فيها .
الثانية : هذه الأسواق مفتوحة للناس جميعاً في البيع والشراء ، مع عكس وضريبة تدفع للقبيلة التي تحرس وتؤمن كل سوق .
الثالثة : الترتيب المكاني بالإقتراب في الأسواق إلى مكة مع قرب يوم عرفة وأهم هذه الأسواق ثلاثة :
الأول : سوق عكاظ : ويبدأ من الأول من شهر ذي القعدة إلى اليوم العشرين منه ، ويبعد هذا السوق عن الطائف أربعين كيلو متراً .
وتقع في أرض هوازن وتدل تسمية هذا السوق على إزدحام العرب فيه ، لأنه يعكظ بعضهم بعضاً فيه بالزحام والتفاخر وإنشاد الشعر ورواية الأخبار ، وحديث الآباء ليدخل لها موضوع الرسالة وتبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة إلى التوحيد فتجذب عناية الناس عن مكة ، ويبين لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم شدة ما يلاقيه من الأذى ، كما يحضر عدد من المسلمين لهذه السوق ، ويقومون ببث وبيان أخبار النبوة فيها .
الثاني : سوق مجنة : وتقام في العشرة الأخيرة من شهر ذي القعدة ، ويقام في مرّ الظهران (الجموم) شمال مكة ، على طريق الحج الشامي الشمالي قرب جبل يسمى الأسفل على قدر بريد من مكة أي نحو (22) كم.
وكانت هذه السوق محل اجتماع العرب ، وعرض التجارات والسلع المختلفة ، ويقصدها وفد الحاج والتجار واستمرت حتى بعد الإسلام إلى نحو سنة 130 هجرية حيث استبدلت بأسواق مكة الدائمة لتجلي معاني الأمن والإستقرار فيها ، وعمارة البيت الحرام طيلة أيام السنة .
وكان العرب يشتاقون إليها لما فيها من عروض التجارات والتفاخر وإنشاد الشعر ، وأصيب بلال بالحمى فذكرها .
وعن عائشة قالت (وكان بلال إذا أقلع عنه رفع عقيرته يقول: ” من الطويل “
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً … بوادٍ وحولي إذخرٌ وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنةٍ … وهل يبدون لي شامةٌ وطفيل
اللهم العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعها ومدها، وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة) ( ).
قال حكيم بن حزام كنت أعالج البز في الجاهلية، وكنت رجلاً تاجراً أخرج إلى اليمن وإلى الشام في الرحلتين، وكنت أربح أرباحاً كثيرة فأعود على فقراء قومي ونحن لا نعبد شيئاً نريد بذلك ثراء الأموال والمحبة في العشيرة، وكنت أحضر للأسواق.
وكان لنا ثلاثة أسواق : سوق بعكاظ يقوم صبح هلال ذي القعدة، فيقوم عشرين يوماً ويحضرها العرب، وبها ابتعت زيد بن حارثة لعمتي خديجة بنت خويلد وهو يومئذ غلام، فأخذته بستمائة درهم، فلما تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خديجة سألها زيداً، فوهبته له فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبها ابتعت حلة ذي يزن، كسوتها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما رأيت أحداً قط أجمل ولا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الحلة .
ويقال : إن حكيم بن حزام قدم بالحلة في هدنة الحديبية وهو يريد الشام في عير، فأرسل بالحلة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقبلها، وقال: إلا أقبل هدية مشرك، قال حكيم: فجزعت جزعاً شديداً حيث رد هديتي، وبعتها بسوق النبط من أول سائم سامني، ودس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليها زيد بن حارثة فاشتراها، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبسها بعد( ).
الثالث : سوق ذي المجاز سمي بالمجاز لإجازة الحاج منه ، ولأنه أخر أسواق موسم الحج ويبدأ بهلال شهر ذي الحجة ، ومنه يدخل الناس إلى مكة للحج ، ويقع في شرق مكة ، ويبعد عنها (21) كيلو متر
عودة النبي (ص) من الطائف
لقد واجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند عودته من الطائف مشقة وأذى من قريش وكان يخشى منعه من دخول مكة وحينما وصل إليها (أَرْسَلَ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ إلَى مُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ أَدَخَلَ فِي جِوَارِكَ ؟
فَقَالَ نَعَمْ وَدَعَا بَنِيهِ وَقَوْمَهُ فَقَالَ الْبِسُوا السّلَاحَ وَكُونُوا عِنْدَ أَرْكَانِ الْبَيْتِ فَإِنّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمّدًا .
فَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْمَسْجِدِ الْحِرَامِ .
فَقَامَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَنَادَى : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّي قَدْ أَجَرْتُ مُحَمّدًا فَلَا يَهْجُهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ .
فَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى الرّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ وَصَلّى رَكْعَتَيْنِ وَانْصَرَفَ إلَى بَيْتِهِ وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ وَوَلَدُهُ مُحْدِقُونَ بِهِ بِالسّلَاحِ حَتّى دَخَلَ بَيْتَهُ)( ).
وسيأتي قانون إحصاء قرب القتل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان للمطعم بن عدي فعل حسن آخر عندما طاردت قريش الأنصار في بيعة العقبة الثانية وامسكوا بسعد بن عبادة (فَرَبَطُوا يَدَيْهِ إلَى عُنُقِهِ بِنِسْعِ رَحْلِهِ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ وَيَجُرّونَهُ وَيَجْذِبُونَهُ بِجُمّتِهِ حَتّى أَدْخَلُوهُ مَكّةَ فَجَاءَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ وَالْحَارِثُ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ فَخَلّصَاهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَتَشَاوَرَتْ الْأَنْصَارُ حِينَ فَقَدُوهُ أَنْ يَكِرّوا إلَيْهِ فَإِذَا سَعْدٌ قَدْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ فَوَصَلَ الْقَوْمُ جَمِيعًا إلَى الْمَدِينَةِ .) ( ) .
وكان سعد يجير قوافلهما التي تمر بالمدينة ولم يصبه أذى .
لتفضح قريش نفسها بهذه الحادثة لتعديها على وفد الحاج في الحرم ، وفي الشهر الحرام ويعلم الناس بوجود أنصار للنبي محمد من خارج مكة ، ولهم شأن في مجتمعاتهم ومدنهم .
والحارث بن حرب بن أمية أخو أبي سفيان ، وكان زوج صفية بنت عبد المطلب عمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فولدت له صيفي بن الحارث .
ثم هلك عنها ، وتزوجها العوام بن خويلد أخو خديجة زوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فولدت له الزبير والسائب وعبد الكعبة.
كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بتبليغ الدعوة ومحاربة الأوثان وعبادتها على نحو يومي متصل ، وأكثر هذه الدعوة في البيت الحرام وهي على وجوه :
الأول : إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة اليومية في البيت الحرام بمرآى ومسمع من مشركي قريش ، وكان عدد من الصجابة يخرجون إلى أطراف وبطحاء مكة لإقامة الصلاة وتلاوة آيات وسور القرآن التي نزلت في مكة ، والتدبر في معانيها وتفسيرها .
الثاني : الإتصال بعامة الناس من أهل مكة وعرض نبوته عليهم.
الثالث : مفاتحة المعتمرين وزوار المسجد الحرام من أهل القبائل والمدن بالإسلام ، وبيان أحكامه ، وكثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يٍسألهم أن يكتموا عليه .
والنداء بصوت جهوري بكلمة التوحيد ، فبينما الناس مقبلون على البيع والشراء وبعضهم جاء بصنمه معه يأتيهم النداء بالتوحيد ليقض مضجعه ، ويجعله عندما يضع رأسه على الوسادة يتدبر في دعوة النبوة هذه.
الرابع : طواف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القبائل في منازلها في منى يسألهم إيواءه وحمايته من قريش ، ويدعوهم إلى الإسلام .
قوله تعالى يتخطفكم
هل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يدركون أنهم مستضعفون ، ويخشون هجوم الدول الكبرى عليهم ، الجواب نعم ، لذا كان لجوؤهم إلى الإستغاثة حكمة .
ولم تكن استغاثتهم يوم بدر خاصة بذات المعركة بل بها وما بعدها من الوقائع ، ولا يعلم ما دفعه وصرفه الله بهذه الإستغاثة إلا هو سبحانه ، والتخطف القبض والأخذ بسرعة (عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله { واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس } قيل : يا رسول الله ومن الناس؟
قال أهل فارس) ( ).
وعن (عن وهب في قوله { يتخطفكم الناس } قال : الناس إذ ذاك : فارس والروم) ( ).
والمختار أن لفظ [الناس ] في الآية أعم ، وأن الألف واللام للجنس ، والمراد :
الأول : كفار قريش ، وبه قال عكرمة وقتادة( ) .
الثاني: حلفاء قريش من الأحابيش ونحوهم .
الثالث : القرى التي تحيط بالمدينة ممن لم يتحالف معهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : قطاع الطرق ، فقد يتعرض المسلمون للأخطار عند الخروج عن المدينة للتجارة ، ونحوها ، فمات في الطريق أو قتل من قبل الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر ، فيتخذ منه المنافقون ذريعة للتشكيك بالإيمان ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
وقدمت الآية الضرب والسير في الأرض لبيان أنه الأكثر ، وان الغزو للدفاع وعند الحاجة ،ويكون تقدير الآية وفق السبر والتقسيم على وجوه :
الأول : إذا ضربوا في الأرض للتجارة والكسب وعمارة البيت الحرام ونحوها فماتوا .
الثاني : إذا ضربوا في الأرض فقتلوا .
الثالث : إذا كانوا غزى فماتوا .
الرابع : إذا كانوا غزى فقتلوا .
ومن معاني الغزو السير نحو العدو ، وقتاله في دياره ، ومن معاني الغزو: القصد .
يقال (غزا يغزو غَزْواً، ثم كثر ذلك في كلامهم حتى قالوا: غزوتُ كذا وكذا، أي قصدته، وغَزْوي كذا وكذا، أي قصدي إليه) ( ) .
نعم المتبادر من كلمة الغزو هو الخروج بالسلاح لإرادة قوم ، وكان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع وتفريق الجيوش التي تهجم على المدينة ، أو زيد الإغارة عليها ، لذا ورد لفظ (غزى) على نحو الإطلاق من أمارة على إرادة التعدي بخصوص جهة.
ومن فضل الله عز وجل أنه لم يخبر المسلمين عما هم فيه من حال الإستضعاف إلا بعد أن إجتازوها بمنّ وإحسان منه سبحانه ، إذ قال تعالى [وَاذكروا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ] ( ).
ومن معاني [يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ] وجوه :
الأول : ترصد المشركين للمسلمين .
الثاني : قيام المشركين وقبائلهم بالقاء القبض على الأفراد من المسلمين في مكة وفي الجادة العامة وغيرها وإرادة قتلهم وأسرهم.
الثالث : سعي المشركين وبذلهم الوسع وإنفاقهم الأموال في إكراه المسلمين على ترك دينهم ، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا]( ) .
وفي الآية أعلاه شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا في حال دفاع عن دينهم عن أنفسهم .
الرابع : تجهيز الكفار الجيوش لغزو المدينة وعزمهم على أسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، لتكون النسبة بين التخطف والأسر عموماً وخصوصاً مطلقاً ، فالتخطف أعم .
ومن إعجاز آية البحث ما تدل عليه بالدلالة التضمنية على سلامة المسلمين من التخطف والأسر ، فلا يرقى الأمر عن خشية الصحابة من التخطف لقوله تعالى [تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ]( )، فلم يتم تخطف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حتى أمدهم الله ونصرهم وصاروا في عصمة ومنعة من التخطف والأسر ، لتكون آية البحث عيداً متجدداً للمسلمين والمسلمات على هذه النعمة.
من معاني ( فآواكم )
من الشواهد على هذه الآية ومصاديقها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أسروا سبعين رجلاً من المشركين ، بينما في معركة أحد ومع أن الريح كانت للمشركين في أكثر جولات المعركة فانهم عجزوا عن أسر بعض الصحابة يوم المعركة ، وعجزهم هذا من مصاديق قوله تعالى [فَآوَاكُمْ] وجوه :
الأول : فآواكم إلى المدينة .
الثاني : فآواكم وجعلكم تقيمون الصلوات اليومية الخمس جماعة .
الثالث : فآواكم وحصنكم من الأسر .
الرابع : فآواكم مهاجرين وأنصاراً .
الخامس : فآواكم الله إلى رسوله .
السادس : يا أيها الذين آمنوا أن الله يحبكم فآواكم .
السابع : من معاني الآية الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فآواك .
وقد ورد قوله تعالى [أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى]( )، فهل معنى وموضوع الآية متحد الجواب لا ، إذ تدل آية البحث (فآواكم) على الهجرة إلى المدينة والإحتماء بها .
أما الآية أعلاه فانها تتعلق برعاية وكفالة أبي طالب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكفايته مؤونته ، ولا مانع من إرادة الإطلاق ، وبشارة إيواء أهل المدينة له بالهجرة إليها ، إذ توفى عبد الله والد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بطن أمه ، وقيل بعد أن ولد .
ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وعمره ست سنين ، وكان في كفالة جده عبد المطلب الذي توفى وله من العمر ثمان سنين فكفله عمه أبو طالب وحرسه وذبّ عنه ونصره ، ويدل قوله تعالى [أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى] ( ) على البشارة من الله بحفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وتمثل مسلمة بن مخلد( ) وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص ببيت من شعر أبي طالب قال (لو أن أبا طالب رأى ما نحن فيه اليوم من نعمة الله وكرامته لعلم أن ابن أخيه سيد قد جاء بخير كثير .
فقال عبد الله : ويومئذ قد كان سيداً كريماً قد جاء بخير كثير ، فقال مسلمة : ألم يقل الله { ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ، ووجدك عائلاً فأغنى }( ).
فقال عبد الله : أما اليتيم فقد كان يتيماً من أبويه ، وأما العيلة فكل ما كان بأيدي العرب إلى القلة) ( ).
أي أن عامة العرب كانوا في حال فاقة ونقص في الأموال إلى أن بعث الله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخلوا في دين الإسلام وتوالت عليهم النعم .
وغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، ولم يجمع أو يدّخر منها شيئاً، وقد حذّر أمته من الإفتتان بالدنيا ومباهجها .
وقد فاز بقوله تعالى [وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى] ( ) .
و(عن ابن عباس : في قوله {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}( ) قال : رضا محمد ان لا يدخل أحد من أهل بيته النار، وقيل : هي الشفاعة في جميع المؤمنين.) ( ).
التفقه والتفسير
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصعد المنبر ، ويعظ أصحابه ويستقبل الوفود .
ويجيب على الأسئلة المتعددة في وقت واحد , كما في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذكروا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ] ( ) .
لبيان أن الصحابة كانوا مشغولين بالتفقه في الدين ، وفازوا بتلقي الإجابة على اسئلتهم من عند الله عز وجل ، وفيه تزكية لهم وشهادة على إيمانهم ودلالة على أنهم لا يريدون القتال والغزو إنما هم مضطرون للدفاع ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ومعنى مكلبين : أي معلمين ومؤدبين لكلاب الصيد والطير كالصقور مع ذكر اسم الله عز وجل عند ارسال الجوارح .
و(عن أبي رافع قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستأذن عليه فأذن له ، فأبطأ فأخذ رداءه فخرج ، فقال : قد أذنا لك!
قال : أجل ، ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو .
قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت ، وجاء الناس فقالوا : يا رسول الله ، ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟
فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله { يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوراح مكلبين }( ) .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا أرسل الرجل كلبه ، وذكر اسم الله فأمسك عليه ، فليأكل ما لم يأكل) ( ).
ويتلو المسلمون آيات القرآن ويرجعون إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ضبط الكلمات وتأويلها ، مع التدارس فيها وتلاوتها في الصلاة .
(وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل .
قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة. وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد في أعيننا) ( ).
وإذا يشرف على المدينة المنورة بغتة ثلاثة آلاف مقاتل من كفار قريش والقبائل الحليفة لها ، والأفراد والمستأجرين يريدون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه الذين كان عدد المقاتلين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقل من ربع عدد جيش المشركين بدليل قلة عدد الصحابة الذين حضروا ميدان المعركة ،وكان عددهم نحو سبعمائة .
وفي معركة بدر التي وقعت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة وقبل معركة أحد لم يعلم كثير من الصحابة بها فخرج بعض وجهاء الأنصار لإستقبال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإعتذار منه , لأنهم لم يعلموا أو يحتملوا وقوع معركة .

معجزة الجمع بين القلة والاستضعاف
ترى لماذا جمعت الآية بين صفتين للمسلمين :
الأول : قليل .
الثاني : مستضعفون.
الجواب قد تكون قلة من الناس ولكنها بأمان وحال عز وغنى ، وسلامة من كيد الأعداء والمشركين فجاء القيد الآخر الذي يدل على الإستضعاف لبيان كثرة وقوة وشدة بطش الذين كفروا أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من الشواهد على صدق نبوته لأنهم يقتلون كل من يدعو إلى منع سلطانهم ، وينهى عن العادات القبيحة التي يقيمون عليها ومنها عبادة الأوثان .
بل ذهبت قريش إلى أبعد من هذا فقد شكوا من النبي بأنه شتم آباءهم ، ولم يشتمهم ، ولكن رسالته تقتضي ذم عبادة الأوثان ، والتزلف إليها ، وبهذا الذم جاءت آيات من القرآن كما تدل عليه آيات أخرى في مفهومها ، منها آيات التوحيد ، وكان لزاماً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلاوة هذه الآيات .
وعن ابن إسحاق قال (مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب فيهم عتبة بن ربيعة و شيبة و أبو سفيان و أبو البختري و الأسود بن المطلب و الوليد بن المغيرة و أبو جهل و العاصي بن وائل و منبه و نبيه ابنا الحجاج أو من مشى فيهم فقالوا : يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا و عاب ديننا و سفه أحلامنا و ضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا و إما أن تخلي بيننا و بينه فنكفيكه)( ).
لقد أمر الله عز وجل (النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد مبعثه بثلاث سنين أن يصدع بما يؤمر، وكان قبل ذلك في السنين الثلاث مستتراً بدعوته لا يظهرها إلا لمن يثق به، فكان أصحابه إذا أرادوا الصلاة ذهبوا إلى الشعاب فاستخفوا، فبينما سعد بن أبي وقاص وعمار وابن مسعود وخباب وسعيد بن زيد يصلون في شعب اطلع عليهم نفر من المشركين، منهم: أبو سفيان بن حرب، والأخنس بن شريق، وغيرهما، فسبوهم وعابوهم حتى قاتلوهم)( ).
ويدل هذا الخبر على قلة عدد المسلمين في بدايات البعثة النبوية وحالهم من الإستضعاف والإضطهاد من قبل المشركين .
وحتى في معارك الإسلام الأولى تجد عدد جيش المسلمين أقل من ثلث عدد جيش المشركين في كل من :
الأولى : معركة بدر .
الثانية : معركة أحد .
الثالثة : معركة الخندق .
وهذا التباين في العدد ، وقلة المسلمين في هذه المعارك شاهد على أنهم لم يقاتلوا إلا دفاعاً ، وليكون هذا الدفاع سلاماً دائماً باستئصال الكفر، وعبادة الأوثان من الأرض.
الهجرة إلى الحبشة من الإستضعاف
يدل قوله تعالى [إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ]( )، على طول فترة الإستضعاف , وأنها ليست بالساعات والأيام، ومن الشواهد عليه الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من كفار قريش .
فقام بدعوة طائفة من أصحابه للهجرة إلى الحبشة ، ومن معجزاته الغيرية استجابتهم لدعوته ، وخروج ثلاثة وثمانين رجلاً وتسع عشرة امرأة خفية من مكة مهاجرين إلى دار الغربة البعيدة .
وهل ارسال قريش وفداً إلى النجاشي من هذا الإستضعاف ، الجواب نعم ، فقد خشي الصحابة قيام النجاشي باعادتهم مع وفد قريش ، إذ بعثت قريش كلاً من :
الأول : عمرو بن العاص .
الثاني : عمارة بن الوليد( ) .
وزودتهم قريش بهدايا إلى النجاشي والبطارقة وحاشية النجاشي ,وقد أشتهر عمرو بن العاص في تحريض النجاشي واسمه أصحمة بن أبجر (560-630) م على الصحابة الذين في جواره ، والنجاشي لقب يطلق على ملوك الحبشة ، كما يطلق كسرى على ملوك الفرس ، وقيصر على ملوك الروم , ومعنى أصحمة بالعربية : عطية ( ).
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة ، وعلمه بأن النجاشي حاكم عادل .
لقد كانت قريش تحسن مخاطبة الملوك ، وتهيئة المقدمات للوصول إليهم ، ومنها تقديم الهدايا من الخيل والأدم وغيرها ، وكانت قريش معروفة في الأمصار بأنهم سدنة البيت الذي يحج إليه العرب ، ويجتمعون فيه كل عام ، وأنهم أهل تجارة تسير قوافلهم في البراري والصحارى ، فلا يتعرض لها السراق وقطاع الطرق مع كثرتهم .
(عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا خير جار النجاشي، آمنا على ديننا، وعبدنا الله لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه.
فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم، أن يبعثوا إلينا رجلين جلدين، وأن يهدوا إلى النجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان أعجب ما يأتيه منها الأدم .
فجمعوا له أدما كثيرا هدية ، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية .
وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي، ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم.
قالت أم سلمة : فخرجنا حتى قدمنا عليه، ونحن عنده بخير دار، عند خير جار) ( ).
وهل يشمل قوله تعالى [فَآوَاكُمْ] أيواء النجاشي لطائفة من الصحابة في الحبشة ، الجواب نعم ، لبيان تعدد نعمة الإيواء من عند الله وأنها لا تنحصر ببلدة مخصوصة ، قال تعالى [أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] ( ).
النسبة بين الإستضعاف والذلة
وردت آية البحث بصيغة الإطلاق في محل استضعاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأنها الأرض كلها ، لبيان أن هجرته إلى المدينة لم ترفع عنه وأصحابه الإستضعاف لذا قال تعالى بخصوص معركة بدر [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
ترى ما هي النسبة بين الذلة التي تذكرها الآية أعلاه ، والإستضعاف الذي تذكره آية البحث ، فيه وجوه :
الأول : نسبة التساوي وان الإستضعاف الوارد في سورة الأنفال هو نفسه الذلة التي وردت في سورة آل عمران .
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الإستضعاف والذلة .
الثالث : نسبة العموم والخصوص المطلق وهو على شعبتين :
الأولى : الإستضعاف أعم من الذلة .
الثانية : الذلة أعم من الإستضعاف .
الرابع : نسبة التباين والإختلاف بينهما .
والمختار أنهما مما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا إجتمعا ، مع تعلق لفظ [أَذِلَّةٌ] بذات وحال المسلمين ، فهم ضعفاء قليلو العدد ، ليس معهم أسلحة وعدة كثيرة بينما الإستضعاف نوع مفاعلة ، فهناك من يستضعف المسلمين ويسعى في الإضرار بهم ومحاربتهم ، وتدل الوقائع على سعي كفار قريش لإبادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إبادة جماعية ، وأستئصالهم من الأرض .
وهي الغاية من هجومهم المتكرر في معارك الإسلام الأولى ، وهل من الشواهد على استضعاف المسلمين استغاثتهم يوم بدر ، كما ورد في قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) .
الجواب نعم لبيان قانون وهو أن المستضعفين في الله يستجيب لهم الله عند وقوعهم في الشدة والضيق في سبيل الله .
وورد لفظ [اسْتُضْعِفُوا] خمس مرات في القرآن اثنتين منها في الذين كفروا وسوء عاقبتهم يوم القيامة ، قال تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ) .
وذكرت هذه الآيات سوء عاقبة المستضعفِين –بكسر الفاء – والمستضعفَين – بفتح الفاء لإلتقائهم بالكفر وشهادتهم على أنفسهم بلغة الحوار والتلاوم التي جرت بينهم في مواطن الحساب الأخروي .
ولبيان أن خطاب التكليف بالإيمان والعبادة موجه لكل إنسان على نحو مستقل ، ويختلف الأمر في آية البحث فان المستضعِفين وهم كفار قريش ومن والاهم وهجم معهم على المدينة في النار ، بينما المستضعفَون من المؤمنين لهم الأجر على الإستضعاف ، وتفضل الله عزوجل ولم يجعله مستديماً بل كشفه عنهم في سنوات معدودة .
وتدل على كشفه آية البحث نفسها ، لذا أختتمت بوجوب الشكر لله عز وجل على النعم ، وليكون هذا الكشف بشارة للمستضعفين ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ) ومن رحمة الله قانون الإعطاء بالأتم والأوفى .
وهل يختص هذا القانون بالمؤمنين ، وهل يدل عليه قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ) الجواب لا .
نعم المؤمنون أولى من غيرهم بالأتم والأفى ، فان قلت إن قوله تعالى [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ] ( ) .
الجواب من أسماء الله (الرحمن ، الرحيم ، أرحم الراحمين ) .
فالرحمة صفة لله عز وجل تتغشى بركاتها الخلائق كلها ، فلا حد لرحمة الله ، وكل مخلوق هو محتاج لرحمة الله ، ومن صفات الله الحسنى أنه يفيض على الناس بأضعاف ما يحتاجون إليه منها ، مع بيان قانون وهو هناك مصاديق وأفراد من الرحمة لا ينالها إلا أهل التقوى ،ومنها ما ورد في آية البحث من الهداية إلى الإيمان ، والإنتقال من حال الإستضعاف إلى حال النصر .
فمع الإستضعاف الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فان النصر جاءهم من الله عز وجل .
(عن سلمان قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السموات والأرض ، كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض ، فأهبط منها رحمة إلى الأرض ، فيها تراحم الخلائق ، وبها تعطف الوالدة على ولدها ، وبها يشرب الطير والوحوش من الماء ، وبها تعيش الخلائق .
فإذا كان يوم القيامة انتزعها من خلقه ثم أفاضها على المتقين ، وزاد تسعاً وتسعين رحمة ، ثم قرأ { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون }( ))( ).
وقيل (أنّ امرأة دخلت على نبيّ الله داود عليه السلام ، فقالت : ربّك ظالم أم عادل يا نبي الله.
فقال داود عليه السلام : ويحك يا امرأة هو العدل الذي لا يجور ، ثمّ قال لها ما قصّتك .
قالت : أنا أرملة عندي ثلاث بنات أقوم عليهنّ من غزل في خرقة حمراء ، وأردت أن أذهب إلى السوق لأبيعه وأبلّغ به أطفالي، فإذا أنا بطائر قد انقضّ عليّ وأخذ الخرقة والغزل ، وذهب وبقيت حزينة لا أملك شيئاً أبلّغ به أطفالي .
فبينما المرأة مع داود عليه السلام في الكلام إذا بالباب يطرق على داود فأذن له بالدخول ، وإذا بعشرة من التجار كلّ واحد بيده مائة دينار .
فقالوا : يا نبيّ الله أعطها لمستحقّها .
فقال لهم داود عليه السلام : ما كان سبب حملكم هذا المال.
قالوا : يا نبيّ الله كنّا في مركب فهاجت علينا الريح وأشرفنا على الغرق ، فإذا بطائر قد ألقى علينا خرقة حمراء ، وفيها غزل فسدّدنا به عيب المركب فهانت علينا الريح ، وانسدّ العيب ونذرنا الله أن يتصدّق كلّ واحد منّا بمائة دينار .
وهذا المال بين يديك فتصدّق به على من أردت .
فالتفت داود عليه السلام إلى المرأة وقال لها : ربّ يتّجر لكِ في البحر وتجعلينه ظالماً . وأعطاها الألف دينار ، وقال : أنفقيها على أطفالكِ).
ولم أجد هذا الخبر في مصدر معتبر ، وليس له اسناد ، ولكن الشواهد مع سعة رحمة الله تشمله ، قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ]( ).
قانون قلة المسلمين في المعارك
لقد كان المسلمون قليلي العدد بالنسبة لجيوش المشركين في كل من :
الأولى : معركة بدر .
الثانية : معركة أحد .
الثالثة : معركة الخندق .
الرابعة : معركة حنين وهي آخر غزوات المشركين على النبوة والتنزيل ، ووقعت بعد فتح مكة , وفي شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة .
والمتبادرأن القليل لا يهجم على الكثير في العدة والعدد , وتسمى معركة حنين أحياناً غزوة هوازن وثقيف ، بقصد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي غزاهم إنما هم الذين غزوا وبدأوا القتال ، فجأة ومباغتة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، إذ كان عدد المسلمين فيها اثني عشر الفاً ،وكان عدد المشركين عشرين الفاً .
ولم يقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتالهم ، ولكنهم تناجوا بغزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والإجهاز عليهم .
(لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – مكة مشت أشراف هوازن، وثقيف بعضها إلى بعض، واشفقوا أن يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقالوا: قد فرغ لنا فلا ناهية له دوننا، والرأي أن نغزوه، فحشدوا وبغوا وقالوا: والله إن محمدا لاقى قوما لا يحسنون القتال فاجمعوا أمركم، فسيروا في الناس وسيروا إليه قبل أن يسير إليكم، فاجمعت هوازن أمرها، وجمعها مالك بن عوف بن سعد بن ربيعة النصري بالصاد المهملة – وأسلم بعد ذلك، وهو – يوم حنين – ابن ثلاثين سنة .
فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها ونصر وجشم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال، وهم قليل.
قال محمد بن عمر: لا يبلغون مائة، ولم يشهدها من قيس عيلان – أي بالعين المهملة – إلا هؤلاء، ولم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب، مشى فيها ابن أبي براء فنهاها عن الحضور وقال: والله لو ناوأوا محمدا من بين المشرق والمغرب لظهر عليهم.) ( ) .
وكان القائد العام لجيش المشركين مالك بن عوف من بني نصر وعمره آنذاك ثلاثين سنة ، وقائد ثقيف في معركة حنين كنانة بن عبد يا ليل ، وكلاهما اسلما فيما بعد .
فان قلت قد ورد قوله تعالى بخصوص معركة حنين [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ] ( ) والجواب إنها كثرة بالذات وبالقياس إلى أعداد المسلمين في معركة بدر وأحد ، وليس في مقابل عدد جيش المشركين عشرين ألفاً من هوازن وثقيف ، وجشم كلها ، وسعد بن بكر ، وقوم من حضر ، ومن بني هلال ,ويرأسهم مالك بن عوف .
مع استعداد المشركين للقتال بالرجال والسلاح والكمائن والخطط ، وأوان المباغتة عند طلوع الفجر من جنبات الوادي ضد المسلمين .
(وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ لَمّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ حَطُوطٍ إنّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا .
قَالَ وَفِي عَمَايَةِ الصّبْحِ وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ سَبَقُونَا إلَى الْوَادِي ، فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَحْنَائِهِ وَمَضَايِقِهِ وَقَدْ أَجْمَعُوا وَتَهَيّئُوا وَأَعَدّوا ، فَوَاَللّهِ مَا رَاعَنَا وَنَحْنُ مُنْحَطّونَ إلّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَدّوا عَلَيْنَا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَانْشَمَرَ النّاسُ رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَانْحَازَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ ثُمّ قَالَ أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟
هَلُمّوا إلَيّ أَنَا رَسُولُ اللّهِ أَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ .
قَالَ فَلَا شَيْءَ حَمَلَتْ الْإِبِلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَانْطَلَقَ النّاسُ إلّا أَنّهُ قَدْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ .
الّذِينَ ثَبَتُوا
وَفِيمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَابْنُهُ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبّاسِ وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : اسْمُ ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ جَعْفَرٌ وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ الْمُغِيرَةُ وَبَعْضُ النّاسِ يَعُدّ فِيهِمْ قُثَمَ بْنَ الْعَبّاسِ ، وَلَا يَعُدّ ابْنَ أَبِي سُفْيَانَ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ وَرَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرُ بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ لَهُ طَوِيلٍ أَمَامَ هَوَازِنَ ، وَهَوَازِنُ خَلْفَهُ إذَا أَدْرَكَ طَعَنَ بِرُمْحِهِ وَإِذَا فَاتَهُ النّاسُ رَفَعَ رُمْحَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ فَأَتْبَعُوهُ .) ( ).
وقال جابر (فبينما هو كذلك إذ أهوى إليه علي بن أبي طالب ورجل من الانصار يريدانه قال فيأتي علي من خلفه فيضرب بالجمل فوقع على عجزه ووثب الانصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه فانجعف عن رحله قال واجتلد الناس فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الاسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
لقد كانت معركة حنين دفاعية محضة ، وهزم الله المشركين شر هزيمة ، وهل يصدق عليها ما ورد في معركة بدر [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) ويكون تقدير الآية : ولقد نصركم الله بحنين ) .
الجواب نعم ، إذ أنزل الله الملائكة يوم حنين لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] ( ).
ولم يرد لفظ [مُسْتَضْعَفُونَ] بالرفع إلا في آية البحث ، وورد بصيغة النصب والجر أربع مرات .
قانون الهجرة طريق النصر
هل يشمل قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ) هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الجواب نعم ، وهو من فضل الله ومن مصاديق آية البحث التي تتضمن الإخبار عن منّ وإحسان وإنعام الله عز وجل على المسلمين ، ونقلهم من منازل الإستضعاف إلى مقامات المنعة .
إذ قال تعالى في آية البحث [فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ] ( ) ففي ليلة الهجرة أراد المشركون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعلموا أن الله عز وجل قد هيئ له موطناً بديلاً يكون مزاراً إلى يوم القيامة ، تشتاق إليه قلوب المؤمنين ، ويفد إليه الملايين كل سنة ، إذ جعل الله له أصحاباً من الأنصار بانتظار قدومه ، وهو من معاني [فَآوَاكُمْ] ووردت الآية بصيغة الجمع [فَآوَاكُمْ] لبيان تغشي نعمة الهجرة والإيواء لكل من :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : المهاجرون .
الثالث : عوائل المهاجرين .
الرابع : الأنصار .
لقد جعل الله عز وجل المدينة مأوى وحصناً يحتمون به من الكفار ، ويدل قوله تعالى [فَآوَاكُمْ] على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يجتنبون القتال ، ولا يرغبون بالإغتيال وخوض المعارك ، وتتجلى حقيقة أنه لو لم يهجم عليهم المشركون في معركة بدر وأحد والخندق لم تقع معركة بينهم وبين المسلمين .
وعندما جهز رؤساء الكفر من قريش الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، تفضل الله عز وجل وأيدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس من حصر لأسباب وسبل نصر الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ولا ينحصر هذا النصر بنزول الملائكة ، فأسباب النصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حاضرة قبل المعركة وأثناها وبعدها ، منها قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ).
ولقد أراد الله عز وجل أن يسود السلام ربوع الأرض المقترن بالعمل بأحكام الشرائع السماوية ، فهو سبحانه لا يرضى أن تعبد الأصنام والأوثان والحجارة دونه ، وعند البيت الحرام خاصة الذي يفد له الناس على مدار أيام السنة ، وتتوافد القبائل في أيام الحج ، قال تعالى في خطاب إلى إبراهيم [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
والخطاب[وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ] ( ) عام وشامل لكل أجيال المسلمين ، ولكن موضوعه خاص ، وهو نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنزال الملائكة لنصرته على كفار قريش ، وذكر أن الملائكة لم يقاتلوا إلا في معركة بدر .
والمختار أنهم قاتلوا في غيرها من معارك الإسلام ، ويدل قوله تعالى بخصوص معركة حنين [وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا] ( ) على أن المدد يقاتل أيضاً لصفة الجنود .
وتبين الآية مسألتين :
الأولى : تفضل الله بأكثار عدد المسلمين بعد أن كانوا قليلاً .
الثانية : تأييد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بنصره ، لبيان قانون وهو أن الكثرة لا تنفع في الدفاع ، كما في قوله تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا] ( ) إنما المدار على التقوى والصبر ، والتنزه عن التعدي والظلم .
براهين على أن المشركين هم الغزاة
في سنة 2003 وبعد تغيير النظام جاء لمقابلة المرجع الشيح صالح الطائي في مكتبة في النجف الأشرف مراسلون من دول عدة منها أمريكا –بريطانيا –فرنسا –أيطاليا – استراليا- البرازيل .
وجاء بعضهم بعدها ، وقد نشر عدد من الصحف تلك المقالات واللقاءات ، وذكر سماحة المرجع لبعضهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في حال دفاع في معركة بدر وأحد والخندق في قراءة مستحدثة للوقائع أيام النبوة ، وأن ما يتواتر في كتب السيرة والتأريخ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزا (26) غزوة أو نحوها لا أصل له .
ثم بين التباين في العدة والعدد بين المشركين والمسلمين وفي القرب من المدينة في تلك المعارك من جهات :
الأولى : وقعت معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وتبعد بدر عن المدينة المنورة نحو (150) كم ، وعن مكة التي خرج منها المشركون للقتال (300) كم.
الثانية : لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ للقتال في معركة بدر ، إنما كان خروجه للإستطلاع ، إذ خرج وليس معه سيف ، للدلالة على أنه لم يطلب القتال ، ولم يسع إليه ، وعندما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة المنورة لم يكن جيش المشركين قد خرج أو استعد لمعركة بدر ، إذ كان نفيرهم واستعدادهم في ثلاثة أيام فقط للتعجيل خشية استيلاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قافلة أبي سفيان ، بينما القافلة قد وصلت قريباً من مكة المكرمة سالمة لم يتعرض لها أحد .
(فَلَمّا أَفْلَتَ أَبُو سُفْيَانَ بِالْعِيرِ وَرَأَى أَنْ قَدْ أَجْزَرَهَا، أَرْسَلَ إلَى قُرَيْشٍ قَيْسَ بْنَ امْرِئِ الْقَيْسِ – وَكَانَ مَعَ أَصْحَابِ الْعِيرِ خَرَجَ مَعَهُمْ مِنْ مَكّةَ – فَأَرْسَلَهُ أَبُو سُفْيَانَ يَأْمُرُهُمْ بِالرّجُوعِ وَيَقُولُ قَدْ نَجَتْ عِيرُكُمْ .
فَلَا تُجْزِرُوا أَنْفُسَكُمْ أَهْلَ يَثْرِبَ، فَلَا حَاجَةَ لَكُمْ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ إنّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَقَدْ نَجّاهَا اللّهُ. فَإِنْ أَبَوْا عَلَيْك، فَلَا يَأْبَوْنَ خَصْلَةً وَاحِدَةً يَرُدّونَ الْقِيَانَ فَإِنّ الْحَرْبَ إذَا أَكَلَتْ نَكَلَتْ. فَعَالَجَ قُرَيْشًا وَأَبَتْ الرّجُوعَ وَقَالُوا: أَمّا الْقِيَانُ فَسَنَرُدّهُنّ فَرَدّوهُنّ مِنْ الْجُحْفَةِ) ( ).
ليكون عدوان قريش في معركة بدر وهزيمتهم فيها سبباً لتجرأ القبائل والأعراب على قوافلهم ،وهو من ضروب إبتلاء الذين يحاربون النبوة والتنزيل ، وفي قوله تعالى [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] ( ) ورد عن ابن عباس أنها مكة( ) .
الثالثة : صدور الأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه عند التقاء الصفين بعدم الإبتداء بالرمي أو القتال ، وكان يرجو أن ينصرف جيش المشركين من غير قتال .
وقد نصح بعض رجال قريش وحلفائهم قومهم في ميدان بدر بالإمتناع عن القتال ، وإنتفاء أسبابه ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرصد حركة جيش المشركين ، ويرجو ترجل هذا النصح في الواقع ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم (لما رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل أحمر: ” إن يك في أحد من القوم خير فعند صاحب هذا الجمل الاحمر، إن يطيعوه يرشدوا، يا علي ناد حمزة – وكان أقربهم من المشركين – من صاحب الجمل الاحمر ؟
فقال: هو عتبة وهو ينهى عن القتال، ويأمر بالرجوع ويقول: يا قوم اعصبوها اليوم برأسي وقولوا: جبن عتبة، وأبو جهل يأبى) ( ).
أما بخصوص معركة أحد فقد زحفت جيوش المشركين أربعمائة وخمسين كيلو متراً حتى صاروا على مشارف المدينة المنورة ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مشغولون باقامة الصلاة ، وفرحون بتلاوتهم آيات القرآن ، وشاكرون لله عز وجل نعمة النصر في معركة بدر .
وكان عدد جيش المشركين أكثر من مجموع عدد المسلمين في المدينة ممن يحمل السلاح ومن لا يقدر على حمله ، فخرج لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ألف من المسلمين ، عاد ثلاثمائة منهم من وسط الطريق بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، مع حاجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام الشديدة يومئذ إلى الفرد الواحد من الرجال ،لتجتمع التقوى والصبر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في طريقهم إلى معركة أحد ، أما التقوى فالمبادرة إلى الدفاع ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وأما الصبر فتلقي إنخزال ثلاثمائة من المسلمين بالصبر والتحمل ، ومواجهة لمعان السيوف في ميدان المعركة ، وسقوط سبعين شهيداً من الصحابة ، إلى جانب الجراحات البالغة التي أصابت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابة ، وقد أكرمهم الله وأنزل ثلاثة آلاف ملك لنصرتهم بدل الذين عادوا من وسط الطريق ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
ومن الإعجاز في تسمية معركة أحد بقاء ذات جبل أحد في موضعه إلى الآن ، وبلوغ أحياء المدينة ، وتجاوزها له ليصبح جزءً منها ، وهو يبعد عن المسجد النبوي (5) كم تقريباً وكان يقال في السابق يبعد جبل أحد عن المدينة كذا ، أما الأن فانه جزء من المدينة ، وهذه الجزئية ودخوله في عمارة المدينة من الإعجاز في قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) لبيان ليس ثمة مسافة بين بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وميدان المعركة .
وفيه شاهد بأن المشركين هم الغزاة في معركة أحد ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع ، وهم مضطرون له .
ومع هذا يسمي المفسرون والمؤرخون هذه المعركة بأنها غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قراءة للتأريخ مخالفة للواقع ، ولابد من كشف الحقائق في هذا الزمان ، وتأكيد قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول سلام .
ولقد كانت رسائل التهديد والوعيد تأتي من قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وسخّرت قريش الشعراء وبذلت لهم الأموال لهجاء النبي والتنزيل.
وكانت أخبار عسكرة مكة تصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهم منقطعون إلى العبادة والدعاء ، فقد هداهم الله سبحانه إلى التقوى والدعاء وتفضل عليهم بالنصرة ، ونزل الملائكة بالإستغاثة ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ) .
وصحيح أن الآية أعلاه نزلت في معركة بدر إلا أنهل جعلت قانون الإستغاثة مصاحباً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لتجلي منافعه العاجلة والآجلة .
لقد كان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقاء المشركين في معركة أحد ضرورة ، فلو لم يخرج لهم ، هل يرجعون إلى مكة من غير قتال ، الجواب لا ، إنما يزحفون على المدينة ويسعون لإقتحامها كما فعلوا بعدها في معركة الخندق .
لقد عجز المشركون عن تحقيق النصر في معركة أحد مع رجحان كفتهم من جهات :
الأولى : إختيار المشركين لمكان وأوان المعركة .
الثانية : تهيؤ واستعداد المشركين لمعركة أحد سنة كاملة بالتدريب وحشد الرجال والخطط واستمالة القبائل .
الثالثة : المشركون هم الغزاة ، ويدل هذا الوصف على سعيهم الأكيد للقتال ، وتوقعهم النصر والغلبة .
لقد كان هذا التهيئ وبالاً على كفار قريش لصيرورته سبباً في تعطيل تجارتهم ، وهل كانوا يعلمون بحصول هذه النتيجة ، الجواب نعم ، ولكن غلب عليهم الغضب والإستحياء بسبب الهزيمة في معركة بدر ، قال تعالى [إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا] ( ).
ولم يرد لفظ (حَمِيَّةَ) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وعلى نحو مكرر ، وكأنه يشير إلى تنزه المؤمنين من الحمية العصبية القبلية ،وإلى سعيهم لاستئصال العصبية للأوثان من الأرض .
ولو لم يقم المشركون بغزو المدينة في معركة أحد ، فهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يغزوهم في تلك السنة أو بعدها .
الجواب لا ، بدليل أن هذه المعركة وقعت في شهر شوال من السنة الثالثة ، وفي شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أداء العمرة من غير أن يحمل وأصحابه سلاحاً ودروعاً ورماحاً وسهاماً ونحوها .
الرابعة : كثرة أفراد جيش المشركين ، إذ كان عددهم ثلاثة آلاف .
وهناك أمران :
الأول : هل كانت قريش تحصي عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو إجمالاً .
الثاني : هل سعت قريش لإمتناع المنافقين عن القتال ، وهل قامت بمراسلة عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
المختار نعم ، لذا فانها جاءت لمعركة أحد بخيلها وخيلائها ، وكانوا يتناجون في الطريق بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وطائفة من أصحابه وأسر طائفة أخرى ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وأما بالنسبة لمعركة الخندق التي وقعت في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة فهي دليل قاطع على أن المشركين هم الغزاة ، إذ توجه عشرة آلاف مقاتل من مكة وما حولها من القرى والبوادي ( وجاء أهل نجد ورئيسهم عيينه بن حصن ) ( ).
وبقوا محاصرين لها وعاملين على اقتحامها لأكثر من عشرين ليلة لولا فضل الله سبحانه في صرفهم وإبعاد شرورهم ، وستبقى معركة الخندق وأخطارها التي كانت تهدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأهل المدينة سبباً لحزن كل مسلم ومسلمة في الأجيال المتعاقبة ، ثم الغبطة والسعادة بانصراف المشركين دون تحقيق غاياتهم الخبيثة التي جاءوا من أجلها ، وقال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ] ( ).
اسمان لمعركة
ولمعركة الخندق اسمان :
الاسم الأول : معركة الأحزاب ، لورود هذا الاسم في القرآن ، وورد لفظ (الأحزاب ) عشر مرات في القرآن ، منها ثلاثة بخصوص معركة الأحزاب ، وفي ذم المنافقين يومئذ قال تعالى [يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ) كما ورد الثناء على المؤمنين وصبرهم وحسن طاعتهم لله ورسوله في قوله تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا] ( ) ، وهل يختص قولهم ( وصدق الله ورسوله ) بوقائع معركة الأحزاب ، الجواب لا ، إنما يشمل التنزيل والرسالة والوعد والوعيد في الآخرة .
لقد خرجت قريش في هذه المعركة من مكة والتحقت في الطريق إلى المدينة قبائل عديدة بقصد القضاء على الإسلام والمسلمين دفعة واحدة .
لقد كان تحالفاً وتآلفاً لم تشهد له الجزيرة مثيلاً من جهة العدد والإتفاق على الباطل ، وخبث المقاصد ، وكانت الأحزاب تتألف من :
الأول : جيش قريش برئاسة أبي سفيان بن حرب ، ونزلت قريش بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة ) ( ).
الثاني : قبيلة غطفان( ) برئاسة عيينة بن حصن (وهم ألف) قال ابن إسحاق (وسرحت غطفان إبلها إلى الغابة في أثلها وطرفائها، وكان الناس قد حصدوا زرعهم قبل ذلك بشهر، وأدخلوا حصادهم وأتبانهم، وكادت خيل غطفان تهلك) ( ).
ونقضت بنو قريظة العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل المشركون بعد ممانعة شديدة من كعب بن أسد القرظي صاحب عقدهم وعهدهم (وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قومه، وعاهده على ذلك) ( ).
وكان مع غطفان من بنو فزارة الذين ينتمون إلى غطفان بالنسب ، فجدهم هو فزارة بن ذبيان بن ريث بن غطفان ،وهم قبيلة عدنانية .
الثالث : بنو مرة ، برئاسة الحارث بن عوف ، وكان عددهم (400) ، وروى الزهري أن الحارث بن عوف رجع ببني مُرة فلم يشهد الخندق منهم أحد ، وأدّعاه بنو مرة ، والظاهر حضورهم الخندق مع الأحزاب .
الرابع : شطر من قبيلة أشجع برئاسة مسعر بن رُخيمة( ) وعددهم (400).
الخامس : قبيلة بني أسد بقيادة طليحة بن خويلد .
السادس : قبيلة بني سليم ، برئاسة سفيان بن عبد شمس ، وهو حليف حرب بن أمية ، وهو والد أبي سفيان صخر بن حرب ، وعددهم (700) والتحقوا بعامة الجيش في مرّ الظهران .
(روي انه ارسل ابو سفيان بعد الفرار كتابا لرسول الله فيه باسمك اللهم فاني احلف باللات والعزى واساف ونائلة وهبل لقد سرت اليك فى جمع وانا اريد ان لا اعود ابدا حتى استأصلكم فرأيتك قد كرها لقاءنا واعتصمت بالخندق .
وفى لفظ قد اعتصمت بمكيدة ما كانت العرب تعرفها تعرفها وانما تعرف ظل رماحها وسيوفها وما فعلت هذا إلا فراراً من سيوفنا ولقائنا ولك مني يوم كيوم واحد .
فارسل له عليه السلام جوابا فيه ( اما بعد ) اى بعد بسم الله الرحمن الرحيم ( من محمد رسول الله الى صخر بن حرب فقد اتانى كتابك وقديما غرّك بالله الغرور .
أما ما ذكرت انك سرت الينا وانت لا تريد ان تعود حتى تستأصلنا فذلك امر يحول الله بينك وبينه ويجعل لنا العاقبة وليأتين عليك يوم اكثر فيه اللات والعزى واساف ونائلة وهبل حتى اذكر يا سفيه بني غالب) ( ).
وهل خرج أفراد تلك القبائل جميعاً مع قريش ، الجواب لا ، فقد بلغت الدعوة أهلها ، ودخل أفراد منهم الإسلام وآخرون امتنعوا عن الخروج مع قريش للقتال مع الإغراء وكثرة بذل قريش ، وحض رؤساء القبائل والشعراء الناس على هذا الخروج .
الاسم الثاني : معركة الخندق ، نسبة إلى قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بحفر خندق حول بعض الجهات من المدينة التي يحتمل دخول المشركين منها لما أشار إليه سلمان المحمدي ، وهي خطة لم يكن العرب يعملون بها .
وهل رضي بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمر بحفر الخندق عن إجتهاد أم عن الوحي ، الجواب هو الثاني (وكمل الخندق في ستة أيام ) ( ) وقيل حفر الخندق في بضع عشرة ليلة ، وقيل أكثر .
وهل هذان الأسمان : الأحزاب والخندق شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار في حال دفاع ، الجواب نعم ، كما أخبرت الآية المتقدمة أنهم كانوا في حال خوف شديد ، ولكن هذا الخوف لم يخرج الصحابة عن طاعة الله ورسوله ، سواء في مقدمات المعركة ، وحفر الخندق أو أثناء ومدة حصار قريش للمدينة.
لقد حاصرت قريش بني هاشم في السنة السابعة للبعثة النبوية حصاراً اقتصادياً واجتماعياً ، ويتضمن التعسف والإضطهاد النفسي فصبروا وحاموا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أما في السنة الخامسة للهجرة فجاء عشرة آلاف رجل من المشركين لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم واشاعة القتل بين أصحابه ، وجعلهم بين قتيل وأسير ، بينما كان عدد المسلمين ( ثلاثة آلاف).
ونزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( أمام سلع فجعله خلف ظهره، والخندق أمامه، وكان عسكره فيما هنالك، وضربت له قبة من أدم كانت عند المسجد الاعلى الذي بأصل الجبل – جبل الاحزاب – وكان المسلمون فيما قالوا: ثلاثة آلاف، ووهم من قال: إنهم كانوا سبعمائة.
وكان لواء المهاجرين مع زيد بن حارثة، ولواء الانصار مع سعد بن عبادة.
وجعل النساء والذراري بين الآطام، وشبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية فهي كالحصن.
روى ابن سعد، عن المهلب بن أبي صفرة، قال: حدثني رجل من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ليلة الخندق: إني لارى القوم الليلة فإن شعاركم: (هم لا ينصرون).
وكان حسان بن ثابت مع النساء والذراري في الآطام.
فروى محمد بن إسحاق عن عباد بن عبد الله بن الزبير، ومحمد بن عمر عن شيوخه، وأبو يعلى والبزار بسند حسن، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، والطبراني برجال الصحيح، عن عروة بن الزبير مرسلا: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى الخندق فجعل نساءه وعمته صفية في أطم يقال له:
فارع، وجعل معهم حسان بن ثابت.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخندق، فأقبل عشرة من يهود، فجعلوا ينقمعون ويرمون الحصن، ودنا أحدهم إلى باب الحصن، وقد حاربت قريظة.
وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نحر العدو، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إذ أتانا آت، فقلت لحسان: يا حسان قم إليه فاقتله، فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، ولو كان ذلك في لخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قالت صفية: فلما قال ذلك، ولم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت سيفا فربطته على ذراعي، ثم تقدمت إليه حتى قتلته، وفي لفظ: فأخذت عمودا، ثم نزلت من الحصن فضربته بالعمود ضربة شدخت فيها رأسه، فلما فرغت منه رجعت
إلى الحصن، فقلت: يا حسان، انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل، قال: ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب.
فقلت له: خذ الرأس وارم به على اليهود، قال: ما ذاك في، فأخذت هي الرأس فرمت به على اليهود، فقالوا: قد علمنا أن محمدا لم يترك له خلوفا ليس معهم أحد، فتفرقوا.
زاد أبو يعلى: فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فضرب لصفية بسهم كما يضرب للرجال.) ( ).
ومن العلماء من أنكر كون حسان بن ثابت جباناً شديد الجبن ، ولو كانت صفته هكذا لذمه فحول الشعراء الذين كان يهاجمهم مثل ابن الزبعري وضرار ، وكانوا يردون عليه ، ولم ينعتوه بجبن ، ولعله كان مصاباً بعلة يوم معركة أحد ، ونعت حديث ابن إسحاق بالضعف ، ومنهم من قال ( إن حساناً أصابته علة صارت سبباً لحدوث الجُبن ، وأنه لم يكن من قبل جباناً ) .
(وقال ابن الكلبي أن حسَّان كان لسناً شجاعاً فأصابته علّة أحدثت له الجبن فكان بعد ذلك لا يقدر ينظر إلى قتال ولا يشهده) ( ).
وتكشف مقدمات ووقائع معركة الخندق حقائق :
الأولى : كفار قريش هم الغزاة في معركة الخندق .
الثانية : تحشيد قريش قبائل العرب لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : قانون صرف جيوش المشركين يوم الخندق معجزة .
ترى هل كان أثر لتبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة أيام موسم الحج عندما كان في مكة ، وهل من نفع في انتصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر ، وعدم خسارتهم في معركة أحد ، الجواب نعم ، من وجوه :
الأول : لم تحضر القبائل كلها مع أن رجالات قريش طافوا عليها ، وبذلوا لهم الأموال ، وأخذوا معهم الشعراء للحمية والبعث على الإشتراك في الغزو .
الثاني : لم يأت كل أفراد القبائل التي جاءت للقتال ، بما فيه بيوتات قريش نفسها .
الثالث : وجود مهاجرين مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كل القبائل ، وكأنهم يدعون قبائلهم لإجتناب القتال .
وقد ظهرت آثار الدعوة أيام الحصار باجتناب القبائل المناجاة لعبور الخندق ، فعبره عمرو بن ود العامري فارس قريش ونفر معه ، فسقط قتيلاً على يد الإمام علي عليه السلام .
ليكون نزول قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) بشارة عدم عودة قريش للغزو والهجوم على المدينة ، وظهور العجز ونقص الأموال والرجال عندهم ، ولم يكونوا يستحقون اسم قريش بعدها ، إذ دخل كثير من رجالات قريش بعد صلح الحديبية الإسلام ، وهاجروا إلى المدينة ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم سيد قريش .
لقد كانت معركة الخندق أمراً متحداً من جهة ماهية القتال ، فهي ليست بين القبائل ووفق قواعد العصبية القبلية ، إنما كانت بين الإيمان والكفر ، فأراد الله عز وجل فضح قريش بقبح غاياتها ، وبرجوعهم ومن معهم من قبائل العرب بحسرة وخيبة .
ولقد نزلت كلمتان بعد معركة أحد ، تخبرهم عن هذه النتيجة بقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) وتقدير الآية فينقلبوا في كل مرة يهجمون بها على المدينة خائبين .
آية ( وإذ غدوت ) شاهد على الدفاع
لقد نزلت آيات بخصوص معركة بدر وأخرى يتعلق موضوعها بمعركة أحد لتكون مرآة لصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وشاهداً على أنه لم يغز أحداً ، وأن دفاعه وأصحابه كان سلاماً دائماً ، ومنها قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
والآية خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرد لفظ [غَدَوْتَ] في القرآن إلا في هذه الآية .
وقال ابن جزي( ) (وإذ غدوت من أهلك ) نزلت في غزوة أحد وكان غزو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للقتال صبيحة يوم السبت وخرج من المدينة يوم الجمعة بعد الصلاة وكان قد شاور أصحابه قبل الصلاة) ( ).
فيسميها وغيره غزوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه سار على قدميه لملاقاة جيوش الكفار التي صارت على بعد نحو (5)كم من المسجد النبوي.-
(عن المسعر بن مخرمة قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: أي خالي أخبرني عن قصتكم يوم أحد، فقال: اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجد (وَإِذ غَدَوتَ مِّن أَهلِكَ تُبَوِّيءُ المُؤمِنينَ) ( ) إلى قوله تعالى (ثُمَّ أَنزَلَ عَليكُم مِّن بَعدِ الغَمِ أَمَنَةً نُّعاسًا) ( )) ( ).
والمراد من [غَدَوتَ] أي خرجت في أول النهار (الغَدْوَة: المرّة من الغُدُوّ، وهو سير أوّل النهار، نَقِيض الرَّواح. وقد غَدا يَغْدُو غُدُوّاً. والغُدْوة بالضم: ما بين صلاة الغَداة وطلوع الشمس) ( ).
والغدوة بين صلاة الغداة وطلوع الشمس( ) .
ولا يخلو هذا الحصر من إشكال ، لأن وقت صلاة الغداة وهي صلاة الصبح يبدأ من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس .
إلا أن يراد أذان الفجر وإبتداء وقت الصلاة .
قانون حرز المدينة
هل يدل قوله تعالى [فَآوَاكُمْ]على سلامة المدينة المنورة من إقتحام المشركين لها ، لأن الله عز وجل جعلها مأوى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الجواب نعم ، وهو من البشارات بتحصين المدينة ، وعجز آلاف من المشركين في معركة الخندق من دخولها ، والعبث فيها ، وحتى لو دخل الكفار المدينة فان الله عز وجل قد ضمن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم النصر بدليل آية البحث نفسها [فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ] ( ) ومن مصاديق هذا التأييد قتل الإمام علي عليه السلام لعمرو بن ود العامري عندما عبر ونفر من قريش الخندق .
وبالإسناد عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده الصحابي معاوية بن حيَدة (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال مبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة)( ).
لقد كانت عادات الغزو شائعة عند العرب ويقترن معها النهب والسلب والسبي ، وعالم الرقيق ، فمن يتم سبيه من الرجال يباع كرق ، وتكون المرأة أمة لذا تفرعت عادات وأد البنات عند العرب ، بسبب الغزو ، فجاء الإسلام لينقذ المرأة من الوأد .
ويفيض على الناس بالبركة في النكاح والنسل والأمن والسلم المجتمعي ، وتفضل الله عز وجل على المسلمين بالرزق من الطيبات ، وهذا الرزق من رشحات السلم ونشاط الأسواق ، والزراعات والصناعات ، لقانون وهو مع إنعدام الحروب تزدهر التجارات وتكثر الأموال ويشيع العمران.
(عن ابن عباس أنهم قالوا : يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا ، والعرب أكثر منا ، فمتى بلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنا أكلة رأس . فأنزل الله { أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً})( ).
وهم أكلة رأس مثل يضرب للقوم قليلي العدد يشبعهم رأس بعير واحد وحينئذ لابد أن يقرأ آكلة رأس وقد يراد منه أن القضاء عليهم يكون سريعاً مثل إجتماع جماعة على طبخة رأس بعير.
(عن ابن عباس : أن الحارث بن عامر بن نوفل الذي قال : { إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا }( ) .) ( ).
وفي الخبر المراد من الناس في قوله تعالى [يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ] ( ) أي الفرس ولما مانع منه لإرادة الجنس في الألف واللام من [النَّاسُ] لبيان تعدد مصاديقه .
ليكون من معاني [وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ] ( ) زيادة عدد المسلمين ودخول الناس الإسلام ، وإصابة الكفار بالضعف والوهن لكثرة الحروب التي دخلوها ، وللنقص الذي أصابهم بدخول الناس الإسلام ، فكما يدخل شخص الإسلام ينقص عدد الكفار .
إسلام باذان
قد ورد أن أبا سفيان زار ملك فارس وأخذ له الهدايا ، وذكر ابن هشام أن الفرس أخرجوا رجال الحبشة من اليمن الذي استمر حكمهم فيها (اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً تَوَارَثَ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ : أَرْيَاطٌ ، ثُمّ أَبْرَهَةُ ، ثُمّ يَكْسُومُ بْنُ أَبْرَهَةَ ثُمّ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةَ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : ثُمّ مَاتَ وَهْرِزُ فَأَمَرَ كِسْرَى ابْنَهُ الْمَرْزُبَانِ بْنِ وَهْرِزَ عَلَى الْيَمَنِ ، ثُمّ فَأَمَرَ كِسْرَى ابْنَهُ التّيْنُجَانَ بْنَ الْمَرْزُبَانِ عَلَى الْيَمَنِ ، ثُمّ مَاتَ التّيْنُجَانُ فَأَمَرَ كِسْرَى ابْنَ التّيْنُجَانِ عَلَى الْيَمَنِ ، ثُمّ عَزَلَهُ وَأَمّرَ بَاذَانَ فَلَمْ يَزَلْ بَاذَانُ عَلَيْهَا حَتّى بَعَثَ اللّهُ مُحَمّدًا النّبِيّ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ –
فَبَلَغَنِي عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ كَتَبَ كِسْرَى إلَى بَاذَانَ : أَنّهُ بَلَغَنِي أَنّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ خَرَجَ بِمَكّةَ ، يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ ، فَسِرْ إلَيْهِ فَاسْتَتِبْهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلّا فَابْعَثْ إلَيّ بِرَأْسِهِ .
فَبَعَثَ بَاذَانُ بِكِتَابِ كِسْرَى إلَى رَسُولِ اللّهِ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ – فَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ – إنّ اللّهَ قَدْ وَعَدَنِي أَنْ يَقْتُلَ كِسْرَى فِي يَوْمِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا فَلَمّا أَتَى بَاذَانَ الْكِتَابُ تَوَقّفَ لِيَنْظُرَ .
وَقَالَ إنْ كَانَ نَبِيّا ، فَسَيَكُونُ مَا قَالَ فَقَتَلَ اللّهُ كِسْرَى فِي الْيَوْمِ الّذِي قَالَ رَسُولُ اللّهِ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ – قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قُتِلَ عَلَى يَدَيْ ابْنِهِ شِيرَوَيْهِ وَقَالَ خَالِدُ بْنُ حَقّ الشّيْبَانِيّ :
وَكِسْرَى إذْ تَقَسّمَهُ بَنُوهُ … بِأَسْيَافِ كَمَا اُقْتُسِمَ اللّحَامُ
تَمَخّضَتْ الْمَنُونُ لَهُ بِيَوْمِ … أَنَى ، وَلِكُلّ حَامِلَةٍ تِمَامُ
بَاذَانُ يُسْلِمُ
قَالَ الزّهْرِيّ : فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ بَاذَانَ بَعَثَ بِإِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْفُرْسِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَتْ الرّسُلُ مِنْ الْفُرْسِ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى مَنْ نَحْنُ يَا رَسُولَ اللّهِ ، قالَ أَنْتُمْ مِنّا وَإِلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ
. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَبَلَغَنِي عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ فَمِنْ ثَمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ – سَلْمَانُ مِنّا أَهْلَ الْبَيْتِ) ( ).
(لما مات باذان ولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنه شهر بن باذان صنعاء وأعمالها فقط.
قانون مصاديق الشكر على الإيواء
لقد أختتمت آية البحث بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] والمراد لكي تشكروا الله لتبعث الآية المسلمين على طاعة الله ، ترى على ماذا يشكر المسلمون الله عز وجل بلحاظ آية البحث ، فيه وجوه :
الأول : الشكر لله عز وجل على النعم التي تذكرها آية البحث وغيرها من النعم الظاهرة والخفية .
الثاني : دعوة المسلمين لإستحضار نعم الله في الوجود الذهني ، وفي المناجاة فيما بينهم .
الثالث : تجلي شكر الله في أقوال وأفعال المسلمين ، ومن الشكر لله عز وجل التنزه عن التعدي والظلم والإرهاب ، لقوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
الرابع : إرتقاء المسلمين إلى مراتب الشكر لله عز وجل ، وما فيها من الثواب العظيم ، وفي التنزيل [وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ( ).
الخامس : بيان قانون بالشكر تستديم النعم .
السادس : قانون إتصاف المسلمين بأنهم أمة شاكرة لله .
السابع : الشكر لله عز وجل على النعم استحضار لها ، وتسليم بأنها من عند الله عز وجل .
الثامن : طرد الغفلة عن الشكر لله عز وجل ، ولا يعلم منافع الشكر لله عز وجل في النشأتين إلا هو سبحانه ، وفي التنزيل [وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ] ( ).
التاسع : شكر المسلمين لله عز وجل على حفظهم وهم في حال قلة واستضعاف ، إذ خاطبهم الله عز وجل بعد انتهاء تلك الحال وصيرورتهم كثرة وفي حال عز ظاهر ومنعة ، وفي معركة حنين قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ) .
وتقدير الآية : اشكروا الله إذ حفظكم ودفع عنكم وأنتم [قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ]( )، كيد المشركين .
ويجوز تقدير الآية بلحاظ استضعاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جهات :
الأولى : يا أيها النبي اذكر انتم قليل مستضعفون في الأرض ، وهل يصدق : واذكر إذ انت وحدك مستضعف ، الجواب لا ، فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إيمان خديجة والإمام علي في أول البعثة النبوية .
و(عن ابن عباس انه قال: لعلي أربع خصال ليست لاحد غيره وذكر منها انه اول عربي وعجمي صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وعنه قال: أول من صلى علي بن أبى طالب.
وعن أنس قال: استنبأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين وصلى على يوم الثلاثاء.
اخرجه الترمذي.
وفى بعض الطرق: بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين وأسلم على يوم الثلاثاء.
وعن الحكم بن عيينة قال: خديجة أول من صدق وعلى أول من صلى إلى القبلة.
وعن رافع قال صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين وصلت خديجة آخر يوم الاثنين وصلى على يوم الثلاثاء.
من الغد قبل أن يصلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحد.) ( ).
الثانية : يا أيها الذين آمنوا اذكروا إذ النبي مستضعف بين كفار قريش ، ومن معاني الإستضعاف في آية البحث قرب القتل والإغتيال من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ كان القوي يأكل الضعيف فتفضل الله بالرسالة ونزل قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
الثالثة : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بطش قريش مع كونه بين ظهرانيهم ، ويؤدي الصلاة اليومية في المسجد الحرام وهم ينظرون له بعنف وغضب ، لتكون هذه السلامة من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
العاشر : الشكر لله عز وجل على نعمة الصبر المقترن بالتقوى وعدم جزع المؤمنين في حال القلة والإستضعاف .
الحادي عشر : نعمة إيواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهجرته وأصحابه الى المدينة ليجد أصحاباً مخلصين لبيان مسألة وهي أن الله عز وجل هو الذي هدى الأنصار إلى الإيمان ، والقيام بايواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وتوفير أسباب العيش الكريم لهم .
ولا يختص الإيواء في الآية بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين إنما يشمل الأنصار أيضاً لأن الله عز وجل جعل المدينة حصناً آمناً لهم ، وقد تجلت مصاديق منه في عجز المشركين عن اقتحام المدينة في معركة أحد ، ومعركة الخندق مع موضوعية حال الرعب الذي ملأ قلوب المشركين في انصرافهم عن اقتحامها إذ قال تعالى [ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
ومن الإعجاز في مجئ الفاء في [فَآوَاكُمْ] بيان عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من القتل والتشرد حالما داهمهم الخطر ، فما أن أرادت قريش قتله في الليل حتى نزل جبرئيل وأمره بالهجرة في ذات الليلة إلى المدينة حيث الأنصار قد تعهدوا بالذّب عنه .
ومن معاني حرف العطف (الفاء) الترتيب والتعقيب من غير تراخ أو مهلة.
والترتيب على قسمين :
الأول : الترتيب المعنوي : وهو أن زمان تحقق المعطوف متعقب لزمان المعطوف عليه ، كما في قوله تعالى [وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى]( )، ومنه قوله تعالى [أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا]( )، إذ تكرر الترتيب المعنوي في الآية أعلاه مرتين.
الثاني : الترتيب الذكري : وهو وقوع المعطوف بالفاء بعد المعطوف عليه بحسب أوان وكيفية الإخبار عنهما ، ومن أقسامه الترتيب الإخباري في سرد المعطوفات .
ومن الترتيب الذكري عطف المفصل على المجمل منه قوله تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ]( )، وورود الترتيب المعنوي في الكلام العربي هو الأكثر .
وجاءت الفاء في قوله تعالى [فَآوَاكُمْ] من الترتيب المعنوي فليس ثمة مدة وزمان طويل بين القلة والإستضعاف من جهة وبين الإيلاء والكثرة ، إذ تسارع الناس في دخول الإسلام ، وصار عدد المسلمين يزداد يوماً بعد يوم ، وقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شهر محرم من السنة السابعة للهجرة بتوسعة مسجده الشريف فزاد فيه كما قيل 20×15م تقريباً ، ليصبح المسجد مربعاً 50م×49,5م والمساحة الكلية هي 2475م2 ، وعدد أبوابه ثلاثة .
وكان المسجد ينار في الليل ببعض الأسرجة التي توقد آنذاك بالزيت ، وبجريد النخل ، وهل المسجد النبوي وعمارته وأداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الصلاة فيه من عمومات قوله تعالى [فَآوَاكُمْ] الجواب نعم .
إذ آواهم الله عز وجل إلى المسجد النبوي ومساجد أخرى في المدينة يؤدون فيها الصلاة من غير خوف أو أذى من كفار قريش .
عموم خطاب ( واذكروا )
هل يختص التذكير بقوله تعالى [وَاذكروا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ ..]( )، بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، الجواب لا ، إنما يتوجه الخطاب في هذه الآية إلى المسلمين والمسلمات في كل زمان ، وتقديره على وجوه :
الأول : يا أيها المهاجرون والأنصار اذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون .
الثاني : يا أيها التابعون اذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا في كل زمان اذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون .
وتحتمل الخشية من الخطف وجوهاً :
الأول : هل كان يخشى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخطفه الناس .
الثاني : الآية خاصة بالصحابة من المهاجرين والأنصار، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمن من هذا الخطف ، ومن الخوف منه ، وطلب فدية لإطلاقهم .
الثالث : المقصود إرادة خصوص المهاجرين لأن قريشا كانوا يتوعدونهم ، وقد حبسوا بعض المسلمين في مكة .
الرابع : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو المهاجرين والأنصار .
والمختار هو الأخير ، والمقصود من الضمير (كم) في [يتخطفكم] في الآية العموم ، ولو دار الأمر بين العموم والخصوص ، فالأصل هو الأول , وكذا بين الإطلاق والتقييد .
فقد كان الصحابة يخافون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل أو الأسر ، فكانوا يبذلون أنفسهم في سبيل الله ودفاعاً عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما تجلت آيات من التضحية من الصحابة رجالاً ونساءً في معركة أحد ، كما يدل عليه حديث الغار ، وما ورد في قوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
ترى لماذا التذكير من عند الله بحال المسلمين ، الجواب من وجوه :
الأول : إنه من اللطف الإلهي بالمسلمين والناس .
الثاني : قانون إستقراء معجزات متعددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من آية البحث .
الثالث : قانون دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل ، قال تعالى في خطاب للمسلمين وعامة الناس [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ] ( ) .
الرابع : جعل المسلمين في حال حذر وحيطة .
الخامس : قانون وجوب تنزه المسلمين عن الإرهاب والقتل العشوائي ، وهذا التنزه من شكرهم لله عز وجل .
السادس : بيان نعمة الله عز وجل على المسلمين ، وتبدل أحوالهم من القلة إلى الكثرة ، ومن الضعف إلى المنعة ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
السابع : إستحضار المسلمين في كل زمان لقلة المسلمين في بدايات الإسلام ، وتجلي قانون وهو ما كان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يظهر على أعدائه إلا بالمدد والعون من عند الله .
لقد ضربت قريش الحصار الإقتصادي والإجتماعي والنفسي على أهل البيت في مكة لثلاث سنوات ، وكانت قريش (إذَا قَدِمَتْ الْعِيرُ مَكّةَ يَأْتِي أَحَدُهُمْ السّوقَ لِيَشْتَرِيَ شَيْئًا مِنْ الطّعَامِ لِعِيَالِهِ فَيَقُومُ أَبُو لَهَبٍ عَدُوّ اللّهِ فَيَقُولُ يَا مَعْشَرَ التّجّارِ غَالُوا عَلَى أَصْحَابِ مُحَمّدٍ حَتّى لَا يُدْرِكُوا مَعَكُمْ شَيْئًا ، فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لِي وَوَفَاءُ ذِمّتِي .
فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا خَسَارَ عَلَيْكُمْ فَيَزِيدُونَ عَلَيْهِمْ فِي السّلْعَةِ قِيمَتُهَا أَضْعَافًا ، حَتّى يَرْجِعَ إلَى أَطْفَالِهِ وَهُمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجَوْعِ وَلَيْسَ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ يُطْعِمُهُمْ بِهِ .
وَيَغْدُو التّجّارُ عَلَى أَبِي لَهَبٍ ، فَيُرْبِحُهُمْ فِيمَا اشْتَرَوْا مِنْ الطّعَامِ وَاللّبَاسِ حَتّى جَهِدَ الْمُؤْمِنُونَ وَمَنْ مَعَهُمْ جَوْعًا وَعُرْيًا ، وَهَذِهِ إحْدَى الشّدَائِدِ الثّلَاثِ الّتِي دَلّ عَلَيْهَا تَأْوِيلُ الْغَطّات الثّلَاثِ الّتِي غَطّهُ جِبْرِيلُ حِينَ قَالَ اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ فِي الْيَقَظَةِ) ( ) .

مبارزة الإمام علي (ع) لعمرو بن ود
لقد تجلى إستضعاف المؤمنين في معركة الخندق إذ أحاط عشرة آلاف رجل من الكفار بالمدينة لغرض استباحتها وقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وربما كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم داخل الخندق في بعض الليالي مائتين أو ثلاثمائة من اصحابه في مقابل هذا الجيش العرمرم المؤلف من عشرة آلاف رجل .
ومع هذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأذن للمنافقين وغيرهم للإنصراف إلى بيوتهم ، وهذا الإذن معجزة له صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ).
وقال (ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَتّى قَالَ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ مِنْ الْعَدُوّ وَذَلِكَ عَنْ مَلَأٍ مِنْ رِجَالِ قَوْمِهِ فَأَذِنَ لَنَا أَنْ نَخْرُجَ فَنَرْجِعَ إلَى دَارِنَا ، فَإِنّهَا خَارِجٌ مِنْ الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ إلّا الرّمْيَا بِالنّبْلِ وَالْحِصَارُ) ( ).
ولكن كانت هناك مناجزة وتحد من قبل المشركين ، إذ يروي ابن إسحاق كما في دلائل النبوة للبيهقي عنه ( ).
لقد استطاع خمسة من فرسان وشجعان قريش عبور الخندق من مكان ضيق منه ،وهم :
الأول : عمرو بن ود العامري .
الثاني : عكرمة بن أبي جهل .
الثالث : هبيرة بن أبي وهب .
الرابع : نوفل بن عبد الله .
الخامس : ضرار بن الخطاب .
(وقيل لأبي سفيان: ألا تعبر؟
قال: قد عبرتم، فإن احتجتم إلينا عبرنا) ( ).
ووقف المسلمون في مقابل تلك الثغرة ، ولم يكن هذا الوقوف وحده هو السبب في منع عبور فرسان آخرين ، بل كان قتل الإمام علي عليه السلام لعمرو بن ود العامري هو السبب إذ إنهزم الفرسان الآخرون بدليل نزول قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ) أي بعلي بن أبي طالب كما في قراءة وبيان عبد الله بن مسعود( ) .
قال ابن مسعود (خرج عمرو بن عبد ود وهو مقنع بالحديد فنادى: من يبارز؟
فقام علي بن أبي طالب فقال: أنا لها يا نبي الله.
فقال: إنه عمرو، اجلس.
ثم نادى عمرو: ألا رجل يبرز ؟
فجعل يؤنبهم ويقول: أين جنتكم التى تزعمون أنه من قتل منكم دخلها ؟ أفلا تبرزون إلى رجلا ؟
فقام علي فقال: أنا يا رسول الله ؟
فقال: اجلس.
ثم نادى الثالثة) ( ).
ثم أخذ عمرو بن ود العامري يتمادى في التحدي ، ويلقى الأشعار منفرداً وسط الميدان ، وقال :
(وَلَقَدْ بَحِحْت مِنْ النّدَا … ءِ بِجَمْعِكُمْ هَلْ مِنْ مُبَارِزْ ؟
وَوَقَفْت إذْ جَبُنَ الْمُشَ … جّعُ مَوْقِفَ الْقِرْنِ الْمُنَاجِزْ
وَكَذَاك إنّي لَمْ أَزَلْ … مُتَسَرّعًا قَبْلَ الْهَزَاهِزْ
إنّ الشّجَاعَةَ فِي الْفَتَى … وَالْجُودَ مِنْ خَيْرِ الْغَرَائِزْ) ( ).
وقال الإمام علي عليه السلام : وإن كان عمراً .
فاذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإمام وتبعه بالدعاء والإستغاثة والتضرع إلى الله عز وجل ، وأعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيفه للإمام علي عليه السلام وقال : اللهم أعنه عليه( ) .
ومن دعاء ومناجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساعتئذ أنه قال : اللهم إنك أخذت مني عبيدة بن الحارث يوم بدر ، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد ، وهذا أخي علي بن أبي طالب [رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ] ( ).
وكان عمرو قد أصيب بجراحات في معركة بدر ، فلم يشهد معركة أحد (وحرم الدهن حتى يثأر من محمدٍ وأصحابه، وهو يومئذٍ كبير – يقال بلغ تسعين سنة.
فلما دعا إلى البراز قال علي عليه السلام : أنا أبارزه يا رسول الله! ثلاث مرات.
وإن المسلمين يومئذٍ كأن على رءوسهم الطير، لمكان عمرو وشجاعته) ( ).
وبرز الإمام علي عليه السلام ماشياً مهرولاً أي أن الإمام علي عليه السلام كان راجلاً بينما كان عمرو بن ود فارساً ، وتجلت بلاغة علي عليه السلام في ساعة المبارزة مع أن الإنسان يندهش وتغيب عنه الأفكار ، فذّكر عمرو بما كان يقوله في الجاهلية بأنه لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلا قبلتها .
قال عمرو : أجل أي أنه رضي بأن يعرض عليه الإمام علي عليه السلام ثلاث خصال ليختار أحدها .
(فإني أدعوك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتسلم لله رب العالمين.
قال: يا ابن أخي، أخر هذا عني.
قال: فأخرى؛ ترجع إلى بلادك، فإن يكن محمدٌ صادقاً كنت أسعد الناس به، وإن غير ذلك كان الذي تريد.
قال: هذا ما لا تتحدث به نساء قريشٍ أبداً، وقد نذرت ما نذرت وحرمت الدهن.
قال: فالثالثة؟
قال: البراز. قال فضحك عمرو ثم قال: إن هذه الخصلة ما كنت أظن أن أحداً من العرب يرومني عليها! إني لأكره أن أقتل مثلك، وكان أبوك لي نديماً؛ فارجع، فأنت غلامٌ حدث) ( ).
لقد رقّ عمرو بن ود لعلي ورأف به ، ولم يعلم المدد والفضل من عند الله الذي يصاحبه ، فأجابه الإمام علي عليه السلام : فاني أدعوك إلى المبارزة ، ثم أردف [فأنا أحب أن أقتلك]( ).
وهل هذا القول من الدفاع أم من الهجوم ، الجواب هو الأول ، إذ كان عمرو بن ود يتحدى جيش المسلمين ويغري آلاف المشركين المرابطين على الخندق لإقتحامه .
وهل كان عمرو يقصد عبور الجيوش معه الخندق، الجواب نعم ، ولم يكن الخندق محصناً ضدها تحصيناً كافياً ، إذ تم حفره على عجل في ستة أيام وبواسطة بدائية ، ولكن الله عز وجل هو الذي حال دون المشركين ودون اقتحامه , وعدم عبور جيش المشركين للخندق معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي رواية أن عمرو بن ود قال (يا بن أخي من أعمامك من هو أسن منك، فإني أكره أن أهريق دمك، فقال علي عليه السلام : لكني والله لا أكره أن أهريق دمك) ( ).
فسلّ عمرو سيفه كأنه شعلة نار ، ثم أقبل نحو علي مغضباً ، وأستقبله علي بدرقته ، والدرقة ترع ودرع من جلد البعير ، ليس فيه خشب ولا عقب (كان جابر يحدث يقول: فدنا أحدهما من صاحبه وثارت بينهما غبرةٌ فما نراهما، فسمعنا التكبير تحتها فعرفنا أن علياً قتله.
فانكشف أصحابه الذين في الخندق هاربين، وطفرت بهم خيلهم، إلا أن نوفل ابن عبد الله وقع به فرسه في الخندق، فرمي بالحجارة حتى قتل. ورجعوا هاربين) ( ).
مما يدل على إمتناع عامة جيش المشركين من عبور الخندق .
ليبقى قوله تعالى [وَاذكروا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ] ( ) دعوة لكل جيل وطبقة من المسلمين لإستحضار واقعة الخندق والشكر لله عز وجل لعمومات قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( )، وكيف كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مستضعفين ليس بينهم وبين القتل والأسر حاجز أو برزخ إلا رحمة الله .
فصحيح أن هذه الآية نزلت في معركة بدر إلا أن موضوعها وحكمها متجددة في كل معركة من معارك الإسلام وبيان قانون وهو عدم إنحصار استضعاف المسلمين بما لو كانوا خارج المدينة ، بل شمل إقامتهم في المدينة أيضاً كما في معركة أحد ومعركة الخندق .
(وجاء في بعض الروايات أن علياً عليه السلام لما بارز عمراً قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” اليوم برز الإيمان كله للشرك كله “
وكان سيف علي عليه السلام يقال له ذو الفقار، لأنه كان في وسطه مثل فقرات الظهر، وكان لمنبه بن الحجاج، سلبه منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، وأعطاه علياً عليه السلام وكان من حديدة وجدت عند الكعبة من دفن جرهم، أو غيرهم، وكانت صمصامة عمرو بن معد يكرب من تلك الحديدة أيضاً ) ( ) .
معجزة رمي التراب
لقد كان الملائكة يعين بعضهم بعضاً في النصرة ، وصيغ هزيمة المشركين , ويمدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأسباب العون .
وهل قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) من كلمات الله التي يحق بها الحق ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : ذات الآية القرآنية أعلاه من كلمات الله ونفعها متجدد إلى يوم القيامة .
الثانية : أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يرمي الكفار بالتراب ، وعن ابن عباس في حديث طويل (فلما اصطف القوم قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره .
ورفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه فقال : يا رب إن تهلك هذه العصابة في الأرض فلن تعبد في الأرض أبداً .
فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فأرم به وجوههم ، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة فولوا مدبرين) ( ).
الثالثة : أثر ونفع رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم التراب ، وهو معجزة له .
الرابعة : الإنذار للمشركين بتجدد هذا السلاح كما ورد في الخبر تجده في معركة أحد في قصة رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بن خلف الذي هجم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يريد قتله ، أو رميه المشركين يوم حنين .
ويدل هذا الرمي على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع ، وأن الله عز وجل هو الذي نصرهم بفضله وحوله .
وهل تختلف رمية الله عن رمية البشر ، الجواب نعم إذ تتصف رمية الله بأمور قاهرة ومنها جهات :
الأول : تعمل ذرات التراب كالسلاح الماضي .
الثاني : بلوغ ذرات التراب إلى كل واحد من المشركين في ميدان القتال .
الثالث : دخول الرعب إلى قلوب المشركين مع الرمية التي جرت على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : قانون الرمية من عند الله مقدمة للنصر والغلبة .
الخامس : قانون إقتران الهزيمة بمن يرميه الله عز وجل بالتراب .
السادس : الإنذار للذين كفروا بعقاب أشد من رمي التراب إذا استمروا بالقتال ، قال تعالى [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ) .
وهل شاركت الملائكة برمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه, الجواب نعم .
لقد أعاقت هذه الرمية المشركين في هجومهم وقتالهم .
وهل يمكن أن تأتي هذه الرمية على يد أي مؤمن أم لابد لها أن تكون على يد الرسول ، كما في عصا موسى عليه السلام ، وجريان الماء عند ضربه الحجر بها ، قال تعالى [وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ] ( ) .
المختار هو الثاني ، فهذه الرمية وأثرها العام ونفعها العظيم لا تجري إلا على يد الرسول ، وهي معجزة له ، والله واسع كريم لا ينقطع مدده .
ثم كان فيها الكفاية إذ فتح الله للمسلمين طريق النصر ، واندحرت مفاهيم الكفر في الجزيرة إلى يوم القيامة ، لذا قال تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
قانون هزيمة المشركين
لقد لاذ بالفرار يوم بدر رجالات قريش وحلفاؤهم , بعد أن خلّفوا وراءهم سبعين قتيلا , ومثلهم من الأسرى , وإبلا وأسلحة وأزوادا كثيرة , وانهزموا مع ما يتصفون به من رجحان الكفة في المعركة ، من وجوه :
الأول: كثرة عدد جيش قريش ، وقد تم إعداد هذه الكثرة بجهد من رؤساء قريش ،فهم يعلمون على نحو التقدير عدد أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فارادوا أن يكونوا بمقدار ثلاثة أضعافهم .
الثاني : هيبة رجال قريش في القلوب وعند العامة .
الثالث : وجود فرسان بين رجال قريش قد خاضوا المعارك .
الرابع : كثرة عدد وأسلحة قريش .
الخامس : الأزواد الكثيرة وإطعام رؤساء قريش للجيش في الطريق بنحر الإبل والتمر والشعير , وحتى على ماء بدر أطعمهم أبو البختري.
السادس : كثرة الخيل والإبل التي كانت مع قريش ، فقد كانت معهم مائة فرس وسبعمائة بعير في مقابل فرسين وسبعين بعيراً عند المسلمين .
السابع : هيبة قريش ورجالاتها وفرسانها عند العرب .
وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) .
وسيأتي مزيد بيان في تفسير الآية التالية وهو قوله تعالى [وَاذكروا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( )إذ يدل هذا التذكير بالدلالة التضمنية على صيرورة المسلمين بحال من الغنى والسعة والمنعة .
و(عن ابن مسعود قال : لما كان ليلة الجن أقبل عفريت من الجن في يده شعلة من نار ، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ القرآن ، فلا يزداد إلا قرباً .
فقال له جبريل : أَلاَ أعلمك كلمات تقولهن ينكب منها لفيه وتطفأ شعلته ، قل : أعوذ بوجه الله الكريم ، وكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يهرج فيها ، ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ، ومن شر فتن الليل والنهار ، ومن شر طوارق الليل ، ومن شر كل طارق إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن .
فقالها فانكب لفيه وطفئت شعلته)( ).
وهل كان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر الإستعاذة بكلمات الله التامات من شرور كفار قريش الجواب نعم .
قانون معاهدات النبي (ص) سلام
يدل قوله تعالى[ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ]( ) على قانون وهو الذي يخاف أن يتخطفه الناس لا يقوم بالغزو والهجوم المتكرر ، إنما يحرص على حماية بلدته وأصحابه ، ويقوم بالدعوة إلى السلم والصلح والموادعة ، كما تدل عليه عقود صلح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع عدد من رؤساء القبائل المحيطة بالمدينة ومع اليهود منها :
الأولى : عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاهدة مع بني ضمرة ، وهم من القبائل التي حول المدينة ، وكان رئيسهم آنذاك مخشي بن عمرو الضمري وذلك في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة ، أي بعد أقل من سنة من هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقبل معركة بدر بسبعة أشهر .
وفيه إنذار لقريش بالإمتناع عن القتال ، وأمان للمسلمين إن نشب هذا القتال , ومع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقد صلحاً في خروجه هذا فقد سميت غزوة الأبواء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم , وهو لم يقاتل فيها ، ولم يطلب القتال ، إنما وقّع صلحاً وموادعة مع المشركين ممن حول المدينة .
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَتّى بَلَغَ وَدّانَ ، وَهِيَ غَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ ، يُرِيدُ قُرَيْشًا وَبَنِيّ ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ فَوَادَعَتْهُ فِيهَا بَنُو ضَمْرَةَ ، وَكَانَ الّذِي وَادَعَهُ مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ مَخْشِيّ بْنُ عَمْرٍو الضّمَرِيّ ، وَكَانَ سَيّدَهُمْ فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ .
ثُمّ رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا ، فَأَقَامَ بِهَا بَقِيّةَ صَفَرٍ وَصَدْرًا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهِيَ أَوّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا) ( ).
ووَدّانَ قرية جامعة من قرى الفرع ، وقيل تبعد وَدّانَ عن المدينة المنورة (250) كم وتذكر بعض كتب التأريخ أنه وقعت فيها أول المعارك للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شهر صفر من السنة الثانية ، ولم تقع فيها أي معركة .
وكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً وعهداً مع بني ضمرة تضمن بنوداً:
الأول : لا يغزو بنو ضمرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمدينة .
الثاني : لا يغزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنو ضمرة .
الثالث : لا يكثر بنو ضمرة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمعاً ، فاذا هجمت قريش فلا يجوز لبني ضمرة بعث المدد من الرجال .
الرابع : عدم إعانة بني ضمرة عدواً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسلاح والتجسس والمال والخيل وغيرها.
وكان حامل لواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ حمزة بن عبد المطلب ، أما الذي استخلفه على المدينة فهو سعد بن عبادة .
الثانية : خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شهر جمادى الأولى من السنة الثانية للهجرة أي بعد معاهدته لبني ضمرة بشهرين ، فعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بني مدلج ، ولم يلق قتالاً ، ومع هذا تسمى غزوة العشيرة .
(قال ابن هشام : و استعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد
قال الواقدي : و كان لواؤه مع حمزة بن عبد المطلب قال : وخرج عليه السلام يتعرض لعيرات قريش ذاهبة إلى الشام) ( ).
ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعرض لعير قريش إنما كان في كتيبة استطلاع ودعوة للقبائل لدخول الإسلام ، يمرون على أراضيهم وأدائه الصلاة في أفواه القرى وتلاوته القرآن ، وإجابته على أسئلة عامة الناس ، ويدل عليه تعدد القرى التي مرّ عليها النبي ، والطرق التي اتخذها في مسيره .
قال ابن إسحاق : فسلك على نقيب بني دينار ثم علي فيفاء الخيار فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر يقال لها ذات الساق فصلى عندها فثم مسجده فصنع له عندها طعام فأكل منه و أكل الناس معه فرسوم أثافي البرمة معلوم هناك و استسقى له من ماء يقال له المشيرب
ثم ارتحل فترك الخلائق بيسار و سلك شعبة عبد الله ثم صب للشاد حتى هبط يليل فنزل بمجتمعه و مجتمع الضبوعة ثم سلك فرش ملل حتى لقى الطريق بصخيرات اليمام ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع
فأقام بها جمادى الأولى و ليالي من جمادى الآخرة ووادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمر ثم رجع إلى المدينة و لم يلق كيدا) ( ).
(عَنْ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، قَالَ كُنْت أَنَا وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَفِيقَيْنِ فِي غَزْوَةِ الْعُشَيْرَةِ فَلَمّا نَزَلَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَأَقَامَ بِهَا ، رَأَيْنَا أُنَاسًا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يَعْمَلُونَ فِي عَيْنٍ لَهُمْ وَفِي نَخْلٍ ، فَقَالَ لِي عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : يَا أَبَا الْيَقْظَانِ هَلْ لَك فِي أَنْ تَأْتِيَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فَنَنْظُرُ كَيْفَ يَعْمَلُونَ ؟
قَالَ قُلْت : إنْ شِئْت ، قَالَ فَجِئْنَاهُمْ فَنَظَرْنَا إلَى عَمَلِهِمْ سَاعَةً ثُمّ غَشِينَا النّوْمُ . فَانْطَلَقْت أَنَا وَعَلِيّ حَتّى اضْطَجَعْنَا فِي صُورٍ مِنْ النّخْلِ وَفِي دَقْعَاءَ مِنْ التّرَابِ فَنِمْنَا ، فَوَاَللّهِ مَا أَهَبّنَا إلّا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يُحَرّكُنَا بِرِجْلِهِ . وَقَدْ تَتَرّبْنَا مِنْ تِلْكَ الدّقْعَاءِ الّتِي نِمْنَا فِيهَا) ( ).
(أَلَا أُحَدّثُكُمَا بِأَشْقَى النّاسِ رَجُلَيْنِ ؟
قُلْنَا : بَلَى يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ ” أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الّذِي عَقَرَ النّاقَةَ وَاَلّذِي يَضْرِبُك يَا عَلِيّ عَلَى هَذِهِ – وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى قَرْنِهِ – حَتّى يَبُلّ مِنْهَا هَذِهِ وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ) ( ).
الثالثة : لقد عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عهداً مع قبيلة جهينة وهي قبيلة كبيرة آنذاك ، وديارها في الشمال الغربي للمدينة على ثلاث مراحل منها ، والمرحلة هي طول المسافة التي يقطعها المسافر في يوم واحد ولو سيراً على الأقدام .
والمرحلة : بريدان .
وكل بريد أربعة فراسخ .
والفرسخ ثلاثة أميال وهو نحو 5,40 كم .
فتكون المرحلة (24) ميل أي نحو 40 كم وقيل (42) كم.
وتبعد مساكن جهينة عن المدينة نحو 120 كم .
وكانت معاهدة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع بني زُرعة وبني الرّبعة من جهينة (أنّهم آمنون على أنفسهم وأموالهم، وأنّ لهم النصر على من ظلمهم أو حاربهم إلاّ في الدين والأهل، ولأهل باديتهم مَن بَرّ منهم واتقى ما لحاضرتهم، والله المستعان).
لتكون قبيلة جهينة في فتح مكة مع (خالد بن الوليد فدخل من الليط أسفل مكة في بعض الناس وكان خالد على المجنبة اليمنى و فيها أسلم و سليم و غفار و مزينة و جهينة و قبائل من قبائل العرب .
وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لأهل مكة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم .
ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أذاخر حتى نزل بأعلى مكة فضربت له هنالك قبة) ( ).
الرابعة : بعث النبي (جيش خالد بن الوليد حين بعثه نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أكيدر ملك دومة الجندل فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ” إنك ستجده يصيد البقر ” .
قال: فوافقناه في ليلة مقمرة وقد خرج كما نعته رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذناه وقتلنا أخاه وكان قد حاربنا وعليه قباء ديباج فبعث به خالد بن الوليد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما أتينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنشدته أبياتاً منها:
تبارك سائق البقرات إني … رأيت الله يهدي كل هاد
قال: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يفضض الله فاك فأتت عليه تسعون سنة وما تحركت له سن) ( ).
وكان عدد الذين مع خالد يومئذ أربعمائة وعشرين فارساً ( ).
وكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاب أمارة لاكيد ، وآمن معه أخاه ، ووضع عليه الجزية (فَلَمْ يَكُ فِي يَدِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ خَاتَمٌ فَخَتَمَهُ بظفره)( ).
الخامسة : حينما توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبة تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة والتي تسمى غزوة تبوك مع أنه لم يقصد بلداً معيناً ، ولم يقع قتال أو حرب ، وورد عن أبي حميد الساعدي أنه قال : خرجنا (حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنها ستهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقومن فيها رجل، فمن كان له بعير فليوثق عقاله .
قال أبو حميد: فعقلناها، فلما كان من الليل هبت علينا ريح شديدة، فقام فيها رجل فألقته في جبل طيئ)( ).
(وَقَدِمَ يُحَنّةُ بْنُ رُؤْبَةَ عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَكَانَ مَلَكَ أَيْلَةَ، وَأَشْفَقُوا أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَمَا بَعَثَ إلَى أُكَيْدِرٍ.
وَأَقْبَلَ مَعَهُ أَهْلُ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ ، فَأَتَوْهُ فَصَالَحَهُمْ فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ جِزْيَةً مَعْلُومَةً .
وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا:” بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا أَمَنَةٌ مِنْ اللّهِ وَمُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ لِيَحْنَةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ، لِسُفُنِهِمْ وَسَائِرِهِمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ لَهُمْ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ، وَلِمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الشّامِ وَأَهْلِ الْيَمَنِ وَأَهْلِ الْبَحْرِ.
وَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَإِنّهُ لَا يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ. وَإِنّهُ طَيّبٌ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنْ النّاسِ وَإِنّهُ لَا يَحِلّ أَنْ يُمْنَعُوا مَاءً يُرِيدُونَهُ وَلَا طَرِيقًا يُرِيدُونَهُ مِنْ بَرّ أَوْ بَحْرٍ .
هَذَا كِتَابُ جُهَيْمِ بْنِ الصّلْتِ وَشُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ بِإِذْنِ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ” وَوَضَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ أَيْلَةَ ; ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ كُلّ سَنَةٍ وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ)( ).
لقد صالح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلاً من أهل جرباء وأذرح وصاحب دومة الجندل وملك أيلة .
قال ابن إسحاق (وأعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل أيلة بردة( ) مع كتابه الذي كتب لهم أمانا لهم ، فاشتراه أبو العباس عبد الله بن محمد بثلاثمائة دينار) ( ).
السادسة : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التأريخية أنه كان يكتب كتب الأمان للأفراد والطوائف والقبائل لتثبيت السلم المجتمعي وللمنع من التجرأ على الدماء ، وكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل جرباء وأذرُح كتاب أمان ليجتنب المسلمون إيذاءهم وكذا بالعكس .
ولتكون هناك صلات مودة بينهم(قَالَ الْوَاقِدِيّ : نَسَخْت كِتَابَ أَذْرُحَ وَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لِأَهْلِ أَذْرُحَ، أَنّهُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللّهِ وَأَمَانِ مُحَمّدٍ وَأَنّ عَلَيْهِمْ مِائَةَ دِينَارٍ فِي كُلّ رَجَبٍ وَافِيَةٍ طَيّبَةٍ .
وَاَللّهُ كَفِيلٌ عَلَيْهِمْ بِالنّصْحِ وَالْإِحْسَانِ لِلْمُسْلِمِينَ وَمَنْ لَجَأَ [ إلَيْهِمْ ] مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمَخَافَةِ وَالتّعْزِيرِ إذْ خَشَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ آمِنُونَ حَتّى يُحْدِثَ إلَيْهِمْ مُحَمّدٌ قَبْلَ خُرُوجِه) ( ).
وأذرُح تعني بالعربية التل الأحمر ، وهي مدينة قديمة من أيام الرومان وتقع في هذا الزمان في محافظة معان في الأردن ، وذكر أن التحكيم بين الإمام علي عليه السلام ومعاوية تم فيها ، وتقع مدينة الجرباء على بعد بضع كيلو مترات عنها ، وعن عبد الله (بن عمر أن رسول الله قال : إن أمامكم حوضا كما بين جرباء وأذرح) ( ).
والحوض هو نهر الكوثر (قال أبو حاتم: المسافة بين جرباء ، وأذرح كما بين المدينة وعمان ، ومكة وأيلة ، وصنعاء والمدينة ، وصنعاء وبصرى سواء، من غير أن يكون بين هذه الأخبار تضاد ، أو تهاتر) ( ).
السابعة : كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاب أمان لأهل مقنا وهي مدينة ساحلية تقع على خليج العقبة في منطقة تبوك .
وجاء في كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل مَقنا (أَنّهُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللّهِ وَأَمَانِ مُحَمّدٍ وَأَنّ عَلَيْهِمْ رُبْعَ غُزُولِهِمْ وَرُبْعَ ثِمَارِهِمْ.
وَكَانَ عُبَيْدُ بْنُ يَاسِرِ بْنِ نُمَيْرٍ أَحَدَ سَعْدِ اللّهِ وَرَجُلٌ مِنْ جُذَامٍ أَحَدَ بَنِي وَائِلٍ قَدِمَا عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِتَبُوكَ، فَأَسْلَمَا وَأَعْطَاهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ رُبْعَ مَقْنَا مِمّا يَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ وَمِنْ الثّمَرِ مِنْ نَخْلِهَا، وَرُبْعَ الْمَغْزِلِ. وَكَانَ عُبَيْدُ بْنُ يَاسِرٍ فَارِسًا، وَكَانَ الْجُذَامِيّ رَاجِلًا .
فَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَرَسَ عُبَيْدِ بْنِ يَاسِرٍ مِائَةَ ضَفِيرَةٍ – وَالضّفِيرَةُ الْحُلّةُ – فَلَمْ يَزَلْ يَجْرِي ذَلِكَ عَلَى بَنِي سَعْدٍ وَبَنِيّ وَائِلٍ إلَى يَوْمِ النّاسِ هَذَا)( ).
وأهدى عبيد بن ياسر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فرساً عتيقاً يقال له مراوح ، وقال : يا رسول سابقْ ، فأجرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخيل بتبوك فسبق مراوح الخيل .
(فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مِنْهُ فَسَأَلَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو الْفَرَسَ. قَالَ: رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ “أَيْنَ سَبْحَةُ” ؟ فَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ قَدْ شَهِدَ عَلَيْهَا بَدْرًا.
قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ عِنْدِي، وَقَدْ كَبِرَتْ وَأَنَا أَضِنّ بِهَا لِلْمَوَاطِنِ الّتِي شَهِدْت عَلَيْهَا ; وَقَدْ خَلّفْتهَا لِبُعْدِ هَذَا السّفَرِ وَشِدّةِ الْحَرّ عَلَيْهَا، فَأَرَدْت أُحَمّلُ هَذَا الْفَرَسَ الْمُعْرِقَ عَلَيْهَا فَتَأْتِينِي بِمُهْرٍ.
قَالَ: النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ “فَذَاكَ إذًا”
فَقَبَضَهُ الْمِقْدَادُ، فَخَبِرَ مِنْهُ صِدْقًا، ثُمّ حَمّلَهُ عَلَى سَبْحَةَ فَنَتَجَتْ لَهُ مُهْرًا كَانَ سَابِقًا يُقَالُ: لَهُ الذّيّالُ سَبَقَ فِي عَهْدِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ فَابْتَاعَهُ مِنْهُ عُثْمَانُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا) ( ).
ليتجلى قانون وهو أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك لم يكن غزواً ، إنما رسالة سلام وألفة وأمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وبهذا الخروج سلمت المدينة من الأخطار التي يحتمل أن تأتي من الشمال ونحوها ، إذ دخلت قبائل عديدة الإسلام ، وتصالحت قبائل أخرى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتجلت المعجزات للناس .
(وَقَدِمَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي سَعْدِ هُذَيْمٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا قَدِمْنَا عَلَيْك وَتَرَكْنَا أَهْلَنَا عَلَى بِئْرٍ لَنَا ، قَلِيلٌ مَاؤُهَا ، وَهَذَا الْقَيْظُ وَنَحْنُ نَخَافُ إنْ تَفَرّقْنَا أَنْ نُقْتَطَعَ لِأَنّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَفْشُ حَوْلَنَا بَعْدُ فَادْعُ اللّهَ لَنَا فِي مَاءِ بِئْرِنَا ، وَإِنْ رُوِينَا بِهِ فَلَا قَوْمَ أَعَزّ مِنّا ، لَا يَعْبُرُ بِنَا أَحَدٌ مُخَالِفٌ لِدِينِنَا .
قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَبْلِغُونِي حَصَيَاتٍ فَتَنَاوَلْت ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ فَدَفَعْتهنّ إلَيْهِ فَفَرَكَهُنّ بِيَدِهِ ثُمّ قَالَ اذْهَبُوا بِهَذِهِ الْحَصَيَاتِ إلَى بِئْرِكُمْ فَاطْرَحُوهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَسَمّوا اللّهَ .
فَانْصَرَفُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَجَاشَتْ بِئْرُهُمْ بِالرّوَاءِ وَنَفَوْا مَنْ قَارَبَهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَوَطِئُوهُمْ فَمَا انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ حَتّى أَوْطَئُوا مَنْ حَوْلَهُمْ عَلَيْهِ وَدَانُوا بِالْإِسْلَامِ) ( ).
مدينة إيلة
هل المراد من مدينة إيلة القدس ، أو مدينة العقبة , أو غيرهما، المختار أنها الأولى لأن مدينة العقبة انشئت في أيام الدولة الإسلامية .
ومن الأسماء القديمة لمدينة القدس :
الأول : ببوس .
الثاني : إيليا ، ويقال أحياناً الياء .
الثالث : بيت المقدس .
الرابع : المدينة .
الخامس : مدينة القدس .
السادس : أرينيل .
السابع : أورشليم ، وورد هذا الاسم في عهد الملك بنو سرت .
وورد ذكرها في بعض الكتب الفرعونية واليونانية والرومانية.
وذكر هذا الاسم في التوراة نحو ستمائة مرة منها
(وامر الملك حلقيا الكاهن العظيم و كهنة الفرقة الثانية و حراس الباب ان يخرجوا من هيكل الرب جميع الآنية المصنوعة للبعل و للسارية و لكل اجناد السماء واحرقها خارج اورشليم في حقول قدرون و حمل رمادها الى بيت ايل .
23: 5 و لاشى كهنة الاصنام الذين جعلهم ملوك يهوذا ليوقدوا على المرتفعات في مدن يهوذا وما يحيط باورشليم والذين يوقدون للبعل للشمس والقمر والمنازل ولكل اجناد السماء .
23: 6 واخرج السارية من بيت الرب خارج اورشليم الى وادي قدرون واحرقها في وادي قدرون ودقها الى ان صارت غبارا وذرى الغبار على قبور عامة الشعب .
23: 7 وهدم بيوت المابونين التي عند بيت الرب حيث كانت النساء ينسجن بيوتا للسارية
23: 8 وجاء بجميع الكهنة من مدن يهوذا ونجس المرتفعات حيث كان الكهنة يوقدون من جبع الى بئر سبع وهدم مرتفعات الابواب التي عند مدخل باب يشوع رئيس المدينة التي عن اليسار في باب المدينة .
23: 9 الا ان كهنة المرتفعات لم يصعدوا الى مذبح الرب في اورشليم بل اكلوا فطيرا بين اخوتهم)( ).
قانون ملاك الفرائض سلام
ومن إعجاز قوله تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى]( )، لبيان أن هذا النهي فرد نادر ، وأنه لا يتعدى المنع الموقت وإلا فبامكان المؤمن الصلاة في أي وقت ، ونزلت الآية أعلاه في الأذى الذي كان يلقاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مشركي قريش .
والصيام عبادة ملاكها الصبر ، وحبس النفس عن الشهوات ، والتنزه عن الغيبة والنميمة وفيه دعوة لمعرفة أحوال الفقراء ، ومنه أن الحروب تجلب الفقر وتعطل الأعمال .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوصي السرايا بالأخلاق الحميدة ، وينهى عن القتل .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا بعث سرية بعث على أميرها فأجلسه إلى جنبه وأجلس أصحابه بين يديه ثم قال: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقطعوا شجرا إلا أن تضطروا إليها ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا صبيا ولا امرأة.
وأيما رجل من ادنى المسلمين أو أقصاهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإذا سمع كلام الله فان تبعكم فأخوكم في دينكم، وإن أبى فاستعينوا بالله عليه وأبلغوه إلى مأمنه( ).
ومن الإعجاز في فريضة الصيام فرض الفدية على الذي لم يستطع الصيام لمرض أو شيخوخة ومقدارها مدّ ، وهو ثلاثة أرباع الكيلو غرام ، وفرض القضاء مع الكفارة على من ترك الصوم عمداً ، وهي أطعام ستين مسكيناً عن كل يوم ومقدارها خمسة وأربعون كيلو غرام.
وهل أداء المسلمين الصلاة وصيامهم لشهر رمضان مانع للناس من التعدي عليهم ، الجواب نعم .
وجاءت فريضة الزكاة لبيان التكافل في الإسلام وإعانة الفقراء مطلقاً من المسلمين وغيرهم مع الحاجة والفاقة ، وفي الزكاة والخمس دعوة متجددة للسلم المجتمعي ، وطرد لأفة الحسد ومنع من السرقة والسلب والنهب ، إذ يدرك الفقراء أن الأغنياء يوصلون إليهم حقوقهم التي كتب الله لهم في أموالهم ، مع مجئ الكتاب والسنة بالصدقة المستحبة أيضاً .
وكذا بالنسبة للحج فانه عبادة بدنية مالية تتجلى فيها معاني الأخوة العبادية بين الناس .
يظهر فيها المسلمون والمسلمات الحرص على أداء مناسك الحج التي تستلزم تأمين الطريق ، والأماكن المقدسة مما يلزم الحكومات والمؤسسات والأفراد التعاون لسيادة الأمن ، وإمتناع الخوف.
ويطل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، على المسلمين والمسلمات والناس جميعاً .
ففي حال السلم يتوجه المسلمون إلى الفرائض العبادية وينشدون الصلح والموادعة في المسائل الخلافية .
ومن مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ] إقامة الفرائض على نحو متحد ومتشابه كما في أداء الصلاة اليومية عند دخول وقت الصلاة سواء كان هذا الأداء جماعة أم فراداً ، وكذا في فريضة الصيام مثلاً بقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ) وتعيين بداية شهر رمضان في آية كونية ،وهي إطلالة الهلال ، أو قوله تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ]( ) .

مفهوم خطاب النصر
سيبقى خطاب الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) نجما يضيء قلوب المؤمنين ويزّين المنتديات , وهو على وجوه :
الأول : توبيخ وذم أبي جهل في حياته وبعد موته .
الثاني : بيان قانون وهو بطلان دعاء المشركين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ).
الثالث : ذم الذين اتبعوا أبا جهل ورؤساء الشرك ، وخرجوا إلى معركة بدر .
ومن نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سقوط سبعين قتيلاً وأسر الصحابة لسبعين آخرين ، مع حال الخوف الذي لحق الأسرى ، إذ اصابتهم الظنون بأنهم سيقتلون ، بينما عاملهم النبي وأصحابه أحسن معاملة ، فقد كانوا ضيوفاً على المهاجرين والأنصار وأهليهم .
الرابع : حض المسلمين والناس جميعاً على المنع من محاربة النبي وغزو المدينة .
الخامس : صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : البشارة بازدهار الحياة في الجزيرة ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فكما نصره الله وأصحابه فانه سبحانه ينزل البركات عليهم , وعلى عامة الناس ، وهو من مصاديق دعاء إبراهيم , كما في التنزيل [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] ( ).
الموادعة مع الذين لم يقاتلوا النبي ( ص )
لقد واجهت الدعوة النبوية إلى الإسلام من أيامها الأولى العداوة من كفار قريش ، وشدة إيذائهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والصحابة الأوائل الذين دخلوا الإسلام ، ومن مصاديق هذه الشدة أن حصار قريش لبني هاشم والذي استمر ثلاث سنوات شمل المؤمن والكافر منهم .
وعندما أرادت قريش قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزل جبرئيل في ذات اليوم وأمره بالهجرة ليلاً إلى المدينة ، والتي كانت تسمى يثرب ، فتحول أذى قريش إلى تجهيز الجيوش والزحف على المدينة ، وهو الذي تبينه آيات القرآن كما في معركة أحد ، وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
والذي يدل بالدلالة التضمنية على التخطيط والخطط لدفع العدو , من المدينة لقرب جيوش المشركين في المدينة , وقبل الخروج لمعركة أحد , وفيه حجة على مشركي قريش والمنافقين الذين انخزلوا من وسط الطريق راجعين إلى المدينة .
ولم يرد في القرآن لفظ (غزوة ) ولا ما يدل على أن النبي قد قام بالغزو والهجوم على بلدة أو قرية ، إنما هو الدفاع المحض عن بيضة الإسلام ، بأمر من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) لبيان حصر قتال المسلمين بالذين يغزونهم ويهجمون عليهم ، وقد يقال إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، وأنه كما يجوز قتال الذين يقاتلون المسلمين فانه يجوز قتال الذين لم يقتلوهم .
فجاء الجواب في ذات الآية أعلاه بقوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا] ، وأختتمت الآية بالتشديد على لزوم إجتناب الإبتداء سواء بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]ليشمل مع إجتناب قتال الذين لم يقاتلوا المؤمنين حال القتال مع المشركين الغزاة بأنه يكون للدفاع ودفع المشركين ، وليس الإمعان والتمادي في سفك الدماء .
ويدل عليه قوله تعالى [لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ( ) من كل الأديان والملل أن تصلوهم وتبايعوهم وتبروهم وتتبادلوا معهم المنافع واكتساب المهارات وتتجنبوا الإضرار بهم وظلمهم .
وقوله تعالى [وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ] أي تقضوا إليهم بالعدل والإنصاف والإحسان ، والصلة والإعانة بالمال .
وعن ابن زيد في الآية أعلاه قال (أن هذا في أول الأمر عند موادعة المشركين ، ثم نسخ بالقتال) ( ).
وذكرت فيها وجوه أخرى :
الأول : قال (ابن عباس : نزلت في خزاعة منهم هلال بن عُديم وخزيمة ومزلقة بن مالك بن جعشم وبنو مدلج وكانوا صالحوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً) ( ).
الثاني : (أنهم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف كان لهم عهد فأمر الله أن يبروهم بالوفاء ، قاله مقاتل .
الثالث : أنهم النساء والصبيان لأنهم ممن لم يقاتل ، فأذن الله تعالى ببرهم ، حكاه بعض المفسرين .
الرابع : ما رواه عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن أبا بكر طلق امرأته قتيلة في الجاهلية وهي أم أسماء بنت أبي بكر ، فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين كفار قريش .
فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطاً وأشياء ، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له ، فأنزل الله هذه الآية .) ( ).
الخامس : قال الحسن البصري نزلت هذه الآية في قبائل .
والمختار أن الآية محكمة غير منسوخة لأن حسن صلة وإحسان المسلمين مع الذين لم يقاتلوهم برزخ دون ميلهم لعداوة المسلمين ولإعانة أعدائهم ، وفي هذه الصلة ترغيب للناس بالإسلام ، وحقن للدماء ، ومنع من تجدد المعارك .
وتدل هذه الآية على أن قتال المسلمين كان مع الذين هجموا عليهم وسلّوا السيوف وبرزوا للمناجاة ، وهو ظاهر حتى في كتب المؤرخين ، وكتب السيرة النبوية الذين يصفون هذه المعارك بأنها غزوات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما هي بغزوات له .
من خصائص هبات الله
من فضل الله عز وجل إتصاف هباته ونعمه بأمور :
الأول : التعدد فأبى الله أن تكون نعمته في الموضوع المتحد واحدة بل هي متعددة .
الثاني : الإتصال والتعاقب في النعم .
الثالث : الشمول في النعمة ، فلا تنحصر نعمة الله بالذي يسألها أو الذي يستحقها بفضل الله .
الرابع : إنتفاء المانع من وصول نعمة الله إلى الناس .
الخامس : استدامة النعم من عند الله عز وجل .
السادس : بقاء النعمة الإلهية في الأرض ، فالله سبحانه إذا أنعم على الناس بنعمة فانه أكرم من أن يرفعها .
السابع : تقريب النعم إلى الناس للإنتفاع الأمثل منها .
الثامن : إعادة النعمة على الناس إن فاتهم الإنتفاع منها ، وحتى مع الإنتفاع وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
ومن النعم التي رزقها الله عز وجل الإنسان :
الأولى : إكرام الإنسان من بين الخلائق بالخلافة في الأرض .
الثانية : نعمة النبوة والتنزيل ، ومن فضل الله مصاحبة النبوة لهبوط الإنسان في الأرض ، إذ كان آدم رسولاً نبياً.
الثالثة : نعمة البصر والسمع ، وفي التنزيل [قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ] ( ).
الرابعة : نعمة اللسان والكلام ، وإمكان الترجمة بين الأمم والشعوب( ).
الخامسة : نعمة العقل والتفكر والتدبر ، وعن الإمام الصادق عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله : خلق الله العقل فقال له أدبر فأدبر، ثم قال له أقبل فأقبل، ثم قال: ما خلقت خلقا أحب إلي منك)( ).
السادسة : نعمة وفرة الماء لأهل الأرض ، وهي من أعظم النعم بوجود احتياطي في البحار والمحيطات يكفي الناس لآلاف السنين عند الحاجة خاصة مع التقنين لوجوبه ، إذ تغطي المحيطات والبحار 71% من الأرض .
وذكر أن مجموع مساحة الأرض هو 510 مليون كم2 وتبلغ مساحة اليابسة 149 مليون كم2 .
بينما تبلغ مساحة البحار فيها 361 مليون كم.
ولابد من أجراء احصاء لتقدير كميات المياه ومخزون البحار والمحيطات بلحاظ عمقها بما يتجلى معه للناس معجزة من بديع صنع الله ، وفضله على الناس.
وأعمق المحيطات هو المحيط الهادي ، وهو اكبرها وعن بعض المراجع تبلغ مساحته 132 مليون كم2 بما يزيد على مساحة قارات العالم ، ويبلغ عمقه 10924م .
ثم المحيط الأطلسي وعمقه 9219م .
ثم المحيط الهندي 7455م ، ويبلغ عمق البحر الأبيض المتوسط نحو 4630م.
وهل من موضوعية لوفرة الماء في وجود وخلافة الإنسان في الأرض ، الجواب نعم .
ومن بديع صنع الله عز وجل أن مياه المحيطات مالحة , وتعيش فيها ملايين الكائنات ، بينما تكون مياه الأنهار عذبة وصالحة للإنسان والحيوان والنبات .
ومن معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وبعثة الأنبياء شكر الناس لله عز وجل على نعمة الماء ، وهو الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسعى رؤساء الكفر لمنع الناس منه ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( )، ولوجفّ عدد من الأنهار ، فهل ينتفع الإنسان من البحار والمحيطات الجواب نعم .
وإن كانت الأبخرة التي تتصاعد من سطح الأرض تتجمع في الجو ليجعلها الهواء البارد تتكاثف وتسقط كامطار وثلوج وترجع أكثرها إلى البحار والمحيطات لإستدامة الحياة على الأرض مليارات السنين.
ولم يثبت الى الآن وجود حياة على كوكب آخر غير الأرض .
السابعة : نعمة الرزق المتجدد الذي يأتي للإنسان عن سعي أو بدون سعي ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذكروا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ]( ).
الثامنة : نعمة الصحة والعافية ، والسلامة من الأدران ، وحتى لو داهم المرض الإنسان فانه أمر طارئ ، ومناسبة للدعاء وإدراك حقيقة كنه الدنيا أنها إلى زوال ، وورد على لسان إبراهيم عليه السلام في التنزيل [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
التاسعة : نعمة الألفة والحياة الإجتماعية ، وتهيئة أسباب السكينة والأمن بين الناس ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( )، ومن أسرار بعثة الأنبياء أنها حاجة للناس .
خاتمة الآية
أختتمت آية البحث بقانونين من الإرادة التكوينية :
الأول : تثبيت إحقاق الحق .
الثاني : استئصال وقطع دابر الكافرين .
لبيان قانون وهو أن نصر الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر لإعلاء كلمة التوحيد ، وأن الله حينما بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أراد تثبيت سنن التوحيد في الأرض ، ورفعة الإيمان ، وأداء الناس للفرائض العبادية ،فكان النصر في معركة بدر مقدمة لتحقيق مصاديق وشواهد تملأ الأرض لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) .
فان قلت ظاهر هذه الآية هو وجود أمة مؤمنة في كل زمان تعمر الأرض بعبادة الله ، الجواب هذا صحيح ، قال تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ]( ).
وتدل الآية وفق مفهوم المخالفة أن تحقيق رغبة ومودة المسلمين لا يتم معه إحقاق الحق ، لتبين الآية قانوناً وهو لو دار الأمر بين ود ورغبة المؤمنين وبين تعظيم شعائر الله ، يقدم الأخير ، وهو من أسباب بناء واستدامة صرح التوحيد في الأرض إلى يوم القيامة .
وذكرت آية البحث أن إحقاق الحق ، ونصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو بكلمات الله وليس بجهود الصحابة ، والباء في [بِكَلِمَاتِهِ]للسببية ، إلا أن آية البحث تبين جهادهم وصبرهم لقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) إذ يدل هذا النصر على أنهم دخلوا المعركة في سبيل الله ودافعوا وقاتلوا ، إلى جانب الشواهد العملية بسقوط أربعة عشر من الشهداء منهم في ميدان المعركة .
والكلمات في قوله تعالى [وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ] ( ) المشيئة والإرادة وقدرة الله عز وجل ، ولبيان مسألة وهي أن الحضور في معركة بدر لم يختص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والملائكة والمشركين من الطرف الآخر .
إنما كان فضل ونصر الله عز وجل حاضراً فان قلت إن الله عز وجل حاضر في كل مكان وزمان .
والجواب هذا صحيح ، ولكنه حضور مشيئة وأمر وتغليب لكفة المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ]( )، ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث وفيه بلحاظ مضمونها بيان لموضوعية الإستغاثة العامة للفوز بالإستجابة من عند الله لقوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
ولم يرد لفظ (تستغيثون) في القرآن إلا في الآية أعلاه وورد في ذم أهل النار وسوء حالهم يوم القيامة قوله تعالى [وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا]( ).
لبيان التضاد بين المؤمنين ومشركي قريش , إذ يستغيث المؤمنون بالله عز وجل في الدنيا فيستجيب لهم في الحال ، ولتكون هذه الإستجابة مقدمة لفوزهم بالثواب العظيم في الآخرة .
ومع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي إجتهد بالدعاء عشية ويوم معركة بدر حتى سقط رداؤه فان الآية وردت بصيغة الجمع لبيان أن المهاجرين والأنصار أيضاً تضرعوا إلى الله ، وأن الإستغاثة بالله والإستجابة لها لا تنقطع إلى يوم القيامة .
وتكون لغة الجمع في الآية (تستغيثون) دعوة للمسلمين بالإستعانة بالله في كل زمان ، وهل يشترط الإستغاثة بحال القتال ، الجواب لا ، إنما الدعاء حاجة في السراء والضراء .
و(عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله علي أمانين لأمتي [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] ( )، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة)( ).
وفي قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ]دعوة لأجيال المسلمين للإقتداء بالنبي واستغاثته بالله في الأمور الخاصة والعامة ، وفيه غنى عن الظلم والإرهاب وسفك الدماء .
لبيان أن قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) على نحو الحقيقة والمباشرة من عند الله بكلماته وليس بالواسطة ، ومن كلمات الله عز وجل في المقام أمور :
الأول : نزول المطر ليلة معركة بدر، وفيه معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة التباين في الكم والأثر بين المطر الشديد الذي نزل على المشركين وهم بالعدوة القصوى ، فصار وبالاً عليهم ومنعهم من التقدم بعد أن سبقوا في الوصول إلى الماء ، فمنعوا المسلمين من الوصول إليه ، بينما نزل على المسلمين طشاً قليلاً ، تماسكت معه الأرض التي هم فيها وصلب الرمل ، واستطاعوا أن يغتسلوا ويتطهروا ويتزودوا منه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
(عن علي عليه السلام قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي تلك الليلة ليلة بدر ، ويقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد ، وأصابهم تلك الليلة مطر شديد ، فذلك قوله { ويثبت به الأقدام })( ) .
(عن ابن عباس. أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء ، فظمىء المسلمون وصلوا مجنبين محدثين فكانت بينهم رمال ، فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن ، وقال : أتزعمون أن فيكم نبياً وإنكم أولياء الله وتصلون مجنبين محدثين؟
فأنزل الله من السماء ماء فسال عليهم الوادي ماء ، فشرب المسلمون وتطهروا وثبتت أقدامهم وذهبت وسوسته) ( ).
الثاني : استجابة الله عز وجل لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستجارته واستغاثته بالله عز وجل .
الثالث : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر (وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن بعض بني ساعدة قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما أصيب بصره يقول : لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى .
ونزلت الملائكة للنصرة ، وأوحى الله : [إليهم إني معكم فثبتوا الذين آمنوا ] ( )، وكانت الملائكة عليهم السلام تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول : ابشروا فإنهم ليسوا بشيء والله معكم كروا عليهم ، فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه وقال : [إني بريء منكم ] ( )وهو في صورة سراقة .
وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول : لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم فإنه كان على موعد من محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ثم قال : واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمداً وأصحابه في الحبال ، فلا تقتلوا وخذوهم أخذاً) ( ).
والحديث ضعيف السند لا أقل بقوله عن بعض بني ساعدة من غير الاسم وتوثيقه إلا أن الكتاب وأخبار السنة المتواترة تؤكد نزول الملائكة للقتال إلى جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
أما قول أبي جهل (فلا تقتلوا وخذوهم أخذاً) فهو خلاف الواقع ، إذ إبتدأ المشركون رمي المسلمين بمئات السهام والنبال ،ثم تقدم ثلاثة من رؤساء قريش للمناجزة وسألوا المبارزة ، وهم كل من :
الأول : عتبة بن ربيعة .
الثاني : شيبة بن ربيعة .
الثالث : الوليد بن عتبة بن ربيعة .
وهل تنحصر مصاديق قوله تعالى [لِيُحِقَّ الْحَقَّ] ( ) بميدان معركة بدر ، الجواب لا .
واللام في [لِيُحِقَّ] لام التعليل ، ومن مصاديق إحقاق الحق في المقام وجوه :
الأول : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ورجوعه إلى المدينة من المعركة سالماً .
الثاني : تحقق أول نصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر .
الثالث : بيان قانون وهو إحقاق الحق وإظهار عقيدة التوحيد بالنصر في معركة بدر ، والله يعلم أنه ليس في الإستيلاء على القافلة من المنافع الدنيوية والآخروية معشار منافع الدفاع في ميدان معركة بدر، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
الرابع : إزاحة عقبات دون دخول الناس الإسلام من جهات :
الأولى : تجلي قانون من الإرادة التكوينية وهو نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر معجزة حسية .
الثانية : إصابة مشركي قريش بالوهن والإنشغال بالإعداد للمعركة القادمة مما يجعلهم في همّ وحزن إلى جانب الرعب الذي غزا قلوبهم ، مما يجعلهم في شغل عن رصد الناس والإضرار بمن يدخل الإسلام.
الثالثة : صيرورة وقائع معركة بدر حديث الناس من وجوه :
أولاً : أسباب معركة بدر.
ثانياً : التسليم العام بأن قريشاً هي التي أرادت وبدأت القتال .
ثالثاً : التباين والبون الواسع بين كثرة جيش قريش عدداً وعدة ،وبين قلة عدد وعدة جيش المسلمين .
رابعاً : وقائع معركة بدر وكثرة قتلى وأسرى قريش ، ودخول الحزن إلى كل بيت من بيوت مكة .
خامساً : إطلاع الناس جميعاً على قانون إنقطاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدعاء والتضرع وسؤال الله النصر ، فهو لم يقض كل وقته بتنظيم صفوف جيشه ، وبيان الخطط للقتال ، وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى هذا الأمر عناية إلا أنه لم يفرط بالوقت بل سخّره للدعاء .
سادساً : تناقل الناس من المسلمين والكفار آيات القرآن التي نزلت بخصوص معركة بدر وإن اختلف موضوع هذا التناقل وأسبابه وغاياته ، وفي مضامين آيات القرآن شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد القتال ، ولم ينو الغزو ، وأنه اضطر إلى الدفاع ، فانعم الله عليه ، قال تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) .
ونزلت الآية أعلاه في معركة بدر ، وهل تجددت هذه النعمة في معركة أحد وما بعدها ، الجواب نعم ، وفيه إنذار للمشركين للكف عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الرابعة : من الإعجاز بخصوص أوان معركة بدر أنها ونتائجها صارت حديث وفد الحاج في تلك السنة ، إذ وقعت المعركة قبل أقل من شهر عن موسم الحج في السابع عشر من شهر رمضان ، ويبدأ موسم الحج في شهر شوال ،وهو الذي يلي شهر رمضان ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] ( ) .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [لِيُحِقَّ الْحَقَّ] ( ) الجواب نعم ، ليكون حديث وفد الحاج معجزات النبوة ، وسوء فعل قريش ،وخبثهم ، وبطش الله عز وجل بهم ، وليكون النصر في معركة بدر بشارة فتح مكة لوجود المقتضي وفقد المانع ، فالمقتضي هو سيادة النبوة والتنزيل في مكة المكرمة ، والمانع هو كفار قريش لأنهم صاروا في حال وهن .
فاذا كانت قريش ثلاثة أضعاف عدد المسلمين وأكثر منهم ضعفاً في العدة والرواحل ومع هذا انهزمت في معركة هي التي أختارت أوانها وموضعها وبداياتها ، وأدرك الناس التباين في العزائم والهمم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ).
فمن باب الأولوية أنه مع إتساع الإسلام بسبب هذا النصر وتوالي المعجزات هزيمة قريش في المعارك اللاحقة وعجزهم عن ولاية البيت الحرام والسيادة والأمرة في مكة بعد معركة بدر ، لبيان قانون وهو : معركة بدر مقدمة ونوع طريق لفتح مكة .
ومن المتعارف آنذاك وفود رؤساء القبائل وعدد من الوجهاء في موسم الحج وخارجه على كبار رجالات قريش الذين يقومون بضيافتهم وإكرامهم خاصة وأن هذه الصلات ذات صبغة تجارية ومالية .
وتحتاج قريش تلك القبائل في قطع قوافلها لأراضيها في الصحراء القاحلة مع كثرة السلب والنهب فيها ، وتدرك الأمان الذي أحرزته قريش من هذه الصلات بأن تسير بسلام قافلة أبي سفيان المؤلفة من ألف بعير ومحملة بالبضائع ومنها الذهب والفضة ، وليس معها إلا ثلاثون أو أربعون رجلاً ، وبامكان الشطار واللصوص أن يهجموا عليها أو على أطرافها في الليل أو النهار للنهب والسلب .
الخامس : وكلمات الله في قوله تعالى [وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ]( ) من اللامتناهي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا] ( ) وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يحق الله الحق ليبقى .
ثانياً : يحق الله الحق لينتفع الناس جميعاً منه .
ثالثاً : يحق الله الحق في توالي نزول آيات القرآن وعصمتها من التحريف.
رابعاً : يحق الله الحق بتجلي معجزات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، فمن لم يتعظ بالمعجزات العقلية وآيات القرآن رآى وسمع من معجزات النبي في معركة بدر ، ومنه رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبضة من تراب ليدخل عيون وأنوف جيوش المشركين لقوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) .
السادس : هل معركة بدر كلمة واحدة أم كلمات من عند الله عز وجل ، المختار هو التعدد ، وأن كلمات ومشيئة وبديع صنع الله في معركة بدر متعدد وكثير في موضوعه وأثره ونفعه .
ومن الإعجاز في الآية مجيؤها بصيغة المضارع [يحق الحق ] لبيان توالي فضل الله في بناء صرح الإسلام ، وأحكام الحلال والحرام وفق الشريعة السمحاء .
السابع : من كلمات الله في آية البحث دخول المسلمين المعارك اللاحقة كمعركة أحد والخندق وحنين من غير خوف أو وجل من جيوش المشركين وإن تضاعف عددها لأن نتيجة كل معركة منها على وجهين يقبلان الشبيه والنظير والمماثل جمعا وترشحاً ، ولا يقبلان الضد وهما :
الأول : إحقاق الحق .
الثاني : قطع دابر الكافرين .
والمراد من القطع أعلاه أنه تدريجي وعلى مراحل لتكون للمشركين مندوحة في التوبة والإنابة ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( )دخول أفواج من الناس في الإسلام ، وهل يصدق على الذي كان كافراً ودخل الإسلام أنه مشمول بقطع دابر الكافرين .
الجواب لا تشمله الآية ، إنما بدخوله الإسلام يكون قد صار من أسباب قطع دابر الذين بقوا في منازل الكفر .
وتقدير الآية : كلما دخل رجل أو امرأة الإسلام فانه قطع لدابر الذين بقوا على الكفر لعمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا) ( ).
وحتى الذين بقوا على الكفر والجحود فان الله عز وجل أمر رسوله بترغيبهم بالإيمان ، ووعدهم بالمغفرة كما في قوله تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ] ( ).
ولم تقل الآية : أن غير ذات الشوكة تكون لكم ، ويريد الله أن تقع معركة بدر وتستولوا على الغنائم ، وتجلبوا الأسرى إلى المدينة ، إنما ذكر الله عز وجل في مقابل مودة المسلمين للاستحواذ على القافلة هو إحقاق الحق وقطع دابر الكافرين ، سواء تحقق هذان الأمران باستيلاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القافلة أو بوقوع معركة بدر ،أو غيرهما ، ولكن بما أن الإستيلاء على القافلة يؤدي إلى مناجاة الذين كفروا بالإنتقام والبطش ، وعدم انتفاع المسلمين من القافلة كثيراً ، ولو استولوا عليها لربما ردها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قريش ، إذا جاءوا وسألوه ،وقد أعاد إلى هوازن وثقيف بعد معركة حنين أضعاف ما في قافلة أبي سفيان ، إذ أعاد لهم وبعد القسمة على أصحابه كل السبي .
وقال ابن سعد بخصوص غنائم معركة حنين (كان السبي ستة آلاف رأس، والابل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين ” ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة) ( ).
وفي سبايا أوطاس وحنين قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ حَامِلٍ حَتّى تَحِيضَ حَيْضَةً وَاحِدَةً) ( ).
إذ أصرّ مالك بن عوف رئيس هوازن على جلب النساء والصبيان معه إلى الميدان الذي أغار وباغت به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لينال الخزي ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
والظاهر أنه لم يطأ أحد من المسلمين من سبايا هوازن ، إذ تعجلت هوازن بالوفود إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقدموا وهم أربعة عشر رجلاً يرأسهم زهير بن صرد وهو المتكلم ، وأثنوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكروا صلة القربى التي تجمعهم به وحسن ظنهم به ، وكان فيهم أبو بُرقان وهو من بني سعد بن بكر رهط حليمة السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(فقال( ) يا رسول الله إنما في هذه الحظائر من كان يكفيك من عماتك وخالاتك وأخواتك وقد حضناك في حجورنا ، وأرضعناك بثدينا وقد رأيتك مرضعا فما رأيت مرضعا خيرا منك ، ورأيت فطيما فما رأيت فطيما خيرا منك .
ثم رأيتك شابا فما رأيت شابا خيرا منك ولقد تكاملت فيك خصال الخير ونحن مع ذلك أهلك وعشيرتك فامنن علينا من الله عليك) ( ).
وفي بعض النسخ أن اسمه أبو ثروان.
ومع أن مالك بن عوف رئيس هوازن هو الذي جهز الجيوش في معركة حنين فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل وفد هوازن عنه ، وقال : ما فعل ؟
فقالوا : هو بالطائف مع ثقيف .
(فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَخْبِرُوا مَالِكًا أَنّهُ إنْ أَتَانِي مُسْلِمًا رَدَدْت عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَيْته مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَأُتِيَ مَالِكٌ بِذَلِكَ فَخَرَجَ إلَيْهِ مِنْ الطّائِفِ .
وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ خَافَ ثَقِيفًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالَ لَهُ مَا قَالَ فَيَحْبِسُوهُ فَأَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَهُيّئَتْ لَهُ وَأَمَرَ بِفَرَسٍ لَهُ فَأُتِيَ بِهِ إلَى الطّائِفِ ، فَخَرَجَ لَيْلًا ، فَجَلَسَ عَلَى فَرَسِهِ فَرَكَضَهُ حَتّى أَتَى رَاحِلَتَهُ حَيْثُ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُحْبَسَ فَرَكِبَهَا ، فَلَحِقَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَأَدْرَكَهُ بِالْجِعْرَانَةِ أَوْ بِمَكّةَ فَرَدّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَاهُ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ حِينَ أَسْلَمَ :
مَا إنْ رَأَيْت وَلَا سَمِعْت بِمِثْلِهِ … فِي النّاسِ كُلّهُمُ بِمِثْلِ مُحَمّدِ
أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ إذَا اُجْتُدِيَ … وَمَتَى تَشَأْ يُخْبِرْك عَمّا فِي غَدٍ
إذَا الْكَتِيبَةُ عَرّدَتْ أَنْيَابَهَا … بِالسّمْهَرِيّ وَضَرْبِ كُلّ مُهَنّدِ
فَكَأَنّهُ لَيْثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ … وَسْطَ الْهَبَاءَةِ خَادِرٌ فِي مَرْصَدِ
فَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ وَتِلْكَ الْقَبَائِلُ ثُمَالَةُ وَسَلِمَةُ فَكَانَ يُقَاتِلُ بِهِمْ ثَقِيفًا ، لَا يَخْرُجُ لَهُمْ سَرْحٌ إلّا أَغَار عَلَيْهِ حَتّى ضَيّقَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ أَبُو مِحْجَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثّقَفِيّ :
هَابَتْ الْأَعْدَاءُ جَانِبَنَا … ثُمّ تَغْزُونَا بَنُو سَلَمَهْ
وَأَتَانَا مَالِكٌ بِهِمْ … نَاقِضًا لِلْعَهْدِ وَالْحُرْمَهْ
وَأَتَوْنَا فِي مَنَازِلِنَا … وَلَقَدْ كُنّا أُولِي نِقْمَهْ) ( ).
لقد قاتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه دفاعاً في معركة حنين ونصرهم الله عز وجل ، ثم جاء وفد هوازن فارجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السبايا والأسرى جميعاً لهم ، ثم عرض على رئيسهم العفو والإكرام .
وفيه شاهد على صفح النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كل الأفراد والطوائف التي قاتلته ومنهم هوازن وثقيف من باب الأولوية القطعية لدلالة العفو عن القائد والرئيس على العفو عن الأفراد والأتباع ، وهو مناسبة لتوبتهم وصلاحهم في الدنيا بدل العتاب والتلاوم يوم القيامة بينهم لو بقوا على الكفر ، وقال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ] ( ).
وقد ورد لفظ [الَّذِينَ اتُّبِعُوا] ثلاث مرات في هاتين الآيتين ، ولم يرد في غيرهما ، وتتعلق في أوانها بعالم الحساب والجزاء يوم القيامة ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ) في خاتمة آية البحث هداية أجيال الناس إلى الهدى والإيمان ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فاذا كان المشركون أيام النبوة يعللون ويعتذرون في بقائهم على عبادة الأوثان فانه لولا رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودفاعه وأصحابه عن كلمة التوحيد لجاءت أجيال تحاكي طوائف منهم ما كان عليه الآباء ، وممن ذكرهم الله عز وجل بصيغة الذم ممن جاءوا باصرارهم على محاكاة آبائهم الكافرين كل من :
أولاً : قوم إبراهيم ما ورد في جواب إبراهيم عليه السلام حينما دعاهم بلغة الإحتجاج إلى التوحيد ، وترك عبادة الأوثان ، وفي التنزيل [إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ] ( ) فمع أنهم يقدسون الأصنام ويعكفون عليها ، أطلق عليها إبراهيم صفة التماثيل أي المصنوعة باليد لإرادة تصغيرها ، وأنها لا تستحق منكم الوقوف عليها ، والتذلل لها .
وتبين هذه الآية إقرار الكفار بعبادة الأصنام ، وليس التقديس أو اتخاذها واسطة لتقريبهم إلى الله ، وأن عبادتها لم تختص بالآباء بل كان قوم إبراهيم يعبدونها أيضاً ، كما ورد ذات اللفظ بخصوص إبراهيم ،واحتجاجه على قومه أيضاً ، مما يدل على تعدد كثرة هذا الإحتجاج ، كما في قوله تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ* إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ *قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ] ( ).
ثانياً : إخبار القرآن عن قانون وهو تفضل الله عز وجل ببعثة النبي أو الرسول عند عكوف الناس على الأوثان وتوارثهم لإرتكاب المعاصي ، وإعراضهم عن سنن التوحيد ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ] ( ).
ثالثاً : جدال مشركي العرب مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى التوحيد كما ورد في التنزيل [بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ] ( ) .
وقد تقدم قبل آيتين من آية البحث قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ] ( ) وفيه وجهان :
الأول : هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة بأمر من الله عز وجل ، وكراهية فريق من المؤمنين للهجرة ، وما فيها من المخاطر .
الثاني : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة نحو بدر ، وفيه شاهد على أنه لم يخرج إلى بدر باجتهاد منه ، وأن هذا الخروج لم يكن لطلب قافلة أبي سفيان .
وهل المراد من قوله تعالى [يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ] ( ) أن طائفة من المؤمنين يجادلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القتال يوم بدر بعد ما فرضه عليهم المشركون، وأنهم لم يكونوا مستعدين له ، ولم يخرجوا من أجله .
الجواب لم يثبت هذا ، والذي ثبت خلافه بإظهار كبار المهاجرين والأنصار الإستعداد للدفاع والتضحية خاصة وأن هذه الآية نعتت الذين يجادلون بكونهم فريقاً من المؤمنين .
ونسب إلى ابن عباس (أنهم خرجوا لأخذ العير المقبلة من الشام مع أبي سفيان فلما فاتهم ذلك أمروا بالقتال فجادلوا طلباً للرخصة وقالوا ما تأهبنا في الخروج لقتال العدو ، فأنزل الله تعالى : { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ }( ) يعني كأنهم في قتال عدوهم يساقون إلى الموت ، رعباً وأسفاً لأنه أشد لحال من سيق إلى الموت أن يكون ناظراً له وعالماً به .
قوله عز وجل : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } الآية . وسبب ذلك أن عير قريش لما أقبلت من الشام مع أبي سفيان قيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم همّ بالخروج لأخذها , وهذا القول مشهور ومستفيض ، وسار فبلغ ذلك قريشاً فخرجت للمنع عنها ، فلما علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخروجها شاور أصحابه .
فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك .
فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقول سعد وقال : سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ وَأَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الْطَّائِفَتَينِ وَاللَّهِ لَكَأَنِي أَنْظُرُ الآنَ إِلَى مَصَارِعِ الْقَومِ فذلك معنى قوله { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّآئِفَتَيْنِ } يعني العير التي مع أبي سفيان أو الظفر بقريش الخارجين للمنع منها) ( ).
والمختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج طلباً لقافلة أبي سفيان ، ولم يقصد تعقبها ، ورصدها في الطريق لأخذها ، إنما كان في كتيبة استطلاع ودعوة للإسلام ، واحتراز وحراسة لأطراف المدينة ، ومنع الناس من التعدي عليها ، ولكن جيش قريش لاقوه وابتدأوه بالقتال .
ويدل الفاء في قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ]( )، على سرعة استجابة الله عز وجل ، وعلى عدم وجود فترة زمنية بين كل من :
الأول : دعاء وتضرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، واستغاثتهم بالله سبحانه .
الثاني : سماع الله عز وجل للدعاء والإستغاثة الصادرة من النبي وأصحابه في ميدان بدر .
الثالث : استجابة الله عز وجل للإستغاثة .
الرابع : أمر الله عز وجل للملائكة بالنزول من السموات المتعددة ، إذ لم يكن الألف ملك من سماء واحدة كالسماء الدنيا ، و(عن ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول:
أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه، وشق وجهه، كضربة السوط فاخضر ذلك الموضع أجمع.
فجاء الانصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : صدقت، ذلك مدد من السماء الثالثة)( ).
وهل يمكن تقدير آية البحث بصيغة المضارع إذ تستغيثون ربكم يستجيب لكم ، الجواب نعم .
لبيان فضل الله عز وجل على أجيال المسلمين المتعاقبة ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم باتخاذه الإستغاثة بالله وسيلة للنصر ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
ليكون من الدروس المستنبطة من معركة بدر الدفاعية ، واصرار الكفار على القتال فيها دعوة للمسلمين والمسلمات إلى الإلحاح بالدعاء ، وإتخاذ الإستغاثة سلاحاً ووسيلة وبلغة لجلب المصلحة ودفع المفسدة بقدرة خارقة وسبل وفق قانون العلة والمعلول ، والسبب والمسبَبَ أو خارج هذه القوانين بقدرة الله عز وجل .
وهل الإستغاثة والإجتهاد بالدعاء والإلحاح في المسألة إلى الله عز وجل من مصاديق الصبر والجهاد ، الجواب نعم ، قال تعالى [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
ولم يرد قوله تعالى [وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] في القرآن إلا في آية البحث ، والدابر هو البقية وإرادة آخر الكافرين لبيان قانون وهو إستئصال سيادة الكفر وهلاك رؤساء الشرك برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من وجوه تفضيله صلى الله عليه وآله وسلم وموضوعية القرآن واستدامة تلاوته كل يوم من قبل كل مسلم ومسلمة في الصلاة اليومية في تنزيه المجتمعات من مفاهيم الشرك ، ولدخول تلاوة القرآن كل منتدى وسوق وبيت وسماعها في طرق وأماكن المسافرين .
قانون التضاد بين نصر الله والعدوان
لقد تضمن قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) أموراً :
الأول : وقوع معركة بين المسلمين وطرف آخر وهم الكفار .
الثاني : انتهاء المعركة بانتصار المسلمين ، ومن إعجاز الآية أنها لم تقل : ولقد نصر الله النبي أو المؤمنين أو المسلمين ، إنما وردت بصيغة الخطاب [نَصَرَكُمُ] وفيه مسائل :
الأولى : إدراك المسلمين والناس أن المخاطبين في الآية هم المسلمون.
الثانية : حضور وقائع معركة بدر في السنة النبوية والأخبار وعند المجتمعات ، وكثرة القتلى والأسرى من قريش يومئذ .
الثالثة : دلالة نظم آيات القرآن على إرادة المسلمين .
الرابعة : مجئ آيات أخرى بخصوص معركة بدر تدل على نصر المسلمين فيها ، منها قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
ومنها قوله تعالى [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) ومنها قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) إذ تدل هذه الآية على كثرة الغنائم التي تركها الكفار المعتدون .
لقد كان طائفة من الصحابة يودون الإستيلاء على قافلة أبي سفيان فابدلهم الله عز وجل بغنائم تركها الكفار المعتدون ولاذوا بالفرار ، إلى جانب دخول سبعين أسيراً منهم المدينة ، ولم يصدق عدد من الناس من أهلها انتصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على قريش وخيلها وخيلائها .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه بعث اثنين من أصحابه إلى أهل المدينة قبل وصوله إليها ليبشراهم بالنصر ، حيث أظهر التكذيب بنبأ بعض المنافقين والحساد هذا النصر ، ولم يعلموا أنه من عند الله [لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ]( ) .
وهل النفاق من الباطل , الجواب نعم ، لذا قال سبحانه [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ) .
ويأتي النصر من عند الله للذين يحبهم الله ، وهم في حال دفاع عن كلمة التوحيد ، ، وبينت آية [ببدر] أن الله عز وجل نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهم أذلة ، فهل من موضوعية لحال الضعف هذه في مجئ النصر من عند الله ، أم أن النصر من عند الله يأتي للمؤمنين وإن كانوا في حال عز ومنعة ، الجواب لا تعارض بين الأمرين ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وقد ذم الله المشركين ووصفهم بأنهم يسعون لإبادة المؤمنين إذ قال تعالى [كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ] ( ) .
ولم يرد اللفظ [الْمُعْتَدُونَ] بصيغة الرفع في القرآن إلا في الآية أعلاه ، فالمشركون ينقضون العهود والمواثيق ويغدرون بالمؤمنين ، ولا يحترزون من سفك الدماء ، ولا يرعون صلة القربى والرحم ، ويدل عليه إصرار عتبة بن ربيعة وأخيه شيبة وابنه الوليد على مبارزة ذوي القربى ، وإمتناعهم عن مبارزة ثلاثة من الأنصار , إذ قالوا لهم :
قالوا : من أنتم؟
(قالوا رهط من الانصار.
فقالوا: ما لنا بكم حاجة.
وفى رواية فقالوا: أكفاء كرام، ولكن أخرجوا إلينا من بنى عمنا، ونادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا) ( ) وفيه بلحاظ قانون البحث مسائل :
الأولى : تقدم عتبة وأخيه وابنه للمناجزة من العدوان .
الثانية : إصرار الثلاثة أعلاه على مبارزة رجال من قريش أو من بني هاشم خاصة ظلم وعدوان .
الثالثة : ذات التلبس بالكفر عدوان وحاجب عن النصر .
لقد برز إليهم ثلاثة من شباب الأنصار هم :
الأول : عوف بن الحارث .
الثاني : معاذ بن الحارث وأمهما عفراء .
الثالث : عبد الله بن رواحة .
لبيان استعداد الأنصار للدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل خارج المدينة .
وفيه شاهد على ثبات الإيمان في قلوبهم ، والأصل أن تتعظ قريش ، فهذا الإيمان شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو من قريش وابن عم الذين بين الصفين ، خاصة وأنه ليس من موضوع وعلة للقتال .
فقد بعث أبو سفيان إلى قريش بأن قافلته تقترب من مكة بأمان وطلب منهم الرجوع ، ثم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه موجودون في الميدان ، ليس معهم إلا القرآن وتلاوته ،ولكن المشركين طمعوا بهم لقلة عددهم وعدتهم ، فمثلاً كان مع المسلمين فَرَسان وسبعون بعيراً وستون درعاً .
بينما كان مع جيش المشركين مائة فرس وستمائة درع وسبعمائة بعير أو أكثر ، وقيل (كان مع المشركين مائتا فرس يقودونها ) ( ) أي يمتنعون عن الركوب على ظهورها في الطريق لتكون جاهزة لدخول المعركة بقوة .
وهل كان هذا التباين سبباً في إغواء وإستدراج المشركين في إصرارهم على القتال ، الجواب نعم .
وبين نصر الله والعدوان وجوه :
الأول : حجب النصر عن المشركين لأنهم معتدون .
الثاني : بيان عظيم فضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنصره .
الثالث : من معاني الفرقان صيرورة يوم بدر نصراً حاسماً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهزيمة نكراء للمشركين .
الرابع : نصر الله موضوع للتفريق بين الحق والباطل ، فيعلم الناس أن الله لا ينصر إلا الحق ، وهو الذي هزم أهل الباطل في معركة بدر .
الخامس : غلق باب العدوان ، وإن تم فلا يأتي بثمرة .
فمن معاني الفرقان في المقام عدم تحقق النصر للمشركين في معركة بدر وما بعدها ، فقد فرق فيه بين المشركين والنصر ، لبيان قانون وهو بعث الله عز وجل النبي محمداً ليظهره وينصره ويجعله يقوم بتبليغ آيات القرآن ، وأحكام الحلال والحرام كاملة ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
السادس : التفريق بين المؤمنين وبين الذلة والقلة والضعف ، إذ يدل قوله تعالى [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]بالدلالة التضمنية على تضاؤل وإنقطاع هذه الذلة يوم الفرقان ، إذ وردت الآية بصيغة الماضي [نَصَرَكُمُ]بالإضافة إلى قانون وهو أن النصر من الله طارد لحال الذل والضعف .
ومن إعجاز آية ببدر تعقب إخبارها عن نصر الله للمؤمنين بلزوم إتخاذهم التقوى والخشية من الله منهاجاً وسنة ، وكل من هذه الأفراد ضد للعدوان ، وبرزخ دونه .
آيات [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]
لعلكم تشكرون الله على الفلاح والنجاح في معركة بدر ، والفلاح والنصر يوم بدر على وجوه :
الأول : الفلاح سبب وطريق للنصر .
الثاني : مصاحبة الفلاح للنصر .
الثالث : ترشح الفلاح عن النصر .
وهل يلازم الفلاح النصر دائماً ، الجواب لا ، إنما يختص الفلاح بأهل الإيمان ، وفي حال الحرب والسلم ، لذا تراهم يجتنبون القتال ، ويعزفون عنه ، ويتنزهون عن الإرهاب والظلم ، قال تعالى [أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
ولم تذكر آية البحث الجهة التي يتوجه إليها الشكر ، والمراد لعلكم تشكرون الله الذي نصركم وأنتم أذلة .
ومن معاني الآية : لعلكم تشكرون على الهداية والتوفيق لمراتب التقوى.
ويستقرأ من آيات [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] أعلاه علم لشكر لله ، والقوانين المترشحة عنه في بحوث وتحقيق من القرآن والسنة والتأريخ والواقع ، والأحوال المصاحبة ، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ).
مصاديق الشكر على النصر ببدر
من موارد شكر المسلمين لله عز وجل بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : الشكر المتجدد لله عز وجل على نعمة النصر في معركة بدر .
الثاني : نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والجرح ، بينما أصابته الجراحات الكثيرة في معركة أحد .
الرابع : مجئ النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر مع أنهم لم يتهيأوا للمعركة ،وقد فوجئوا بجحافل جيش المشركين أمامهم ، ولو أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الرجوع يومئذ إلى المدينة قبل نشوب المعركة فهل يمكنهم هذا .
الجواب لا ، لأن جيش المشركين يلحقهم ويطاردهم ، ويكون المسلمون في حال ضعف ، فالبقاء [بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا]( ) هو الفضل ، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يطمع بإجتناب القتال ، واحترز من قِبلِهِ بعدم إبتداء المسلمين القتال ، كما امتنع المسلمون عن الرد على سهام ونبال المشركين ، وإن سقط بعض القتلى ،ووقعت جراحات بين المسلمين بسبب هذه السهام التي سبقت نشوب المعركة .
لقد أرادت قريش لهذه السهام أن تكون وسيلة لبعث الهلع والرعب في قلوب المسلمين ليصابوا بالخوف والإرتباك عند بدء القتال ، ولكن الإيمان ونزول الملائكة لنصرتهم كانا واقية وحصناً للمؤمنين يومئذ .
الخامس : تحقق نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر بنزول ألف من الملائكة ، مع أن واحداً منهم يكفي لتحقيقه ، ولكنه من فضل الله عز وجل وسعة رحمته ، وليشترك الملائكة في تثبيت كلمة التوحيد في الأرض ، ويقيم المؤمنون الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، ويصوموا في شهر رمضان من غير منع وقهر من المشركين ، وقد ذكر الله عز وجل هذا المنع وأنه ليس أمراً افتراضياً بل هو أمر قهري وقع فعلاً .
(عن ابن عباس في قوله : { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى }( ) قال أبو جهل بن هشام : حيث رمى رسول الله بالسلا على ظهره وهو ساجد لله عز وجل) ( ).
و(في الحديث أن أبا جهل قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قالوا نعم، قال: فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لاطأن على رقبته، فقيل هاهو ذلك يصلي، فانطلق ليطأ على رقبته فرأى معجزة ونكص على عقبيه وتركه، فأنزل الله هذه الآية) ( ).
السادس : إنذار كفار قريش من إعادة الكرة في الهجوم على المسلمين وقتالهم ، ليكون من معاني قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) .

قراءة في آيات لعلكم تشكرون
ورد قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] في آية ببدر وآيات عديدة ، وهي حسب نظم القرآن :
الأولى : قال تعالى [ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( ).
الثانية : قال تعالى[ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( ).
الثالثة : قال تعالى [ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( ).
الرابعة : قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( ).
الخامسة : قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ).
السادسة : قال تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ).
السابعة : قال تعالى [وَاذكروا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ).
الثامنة : قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( ).
التاسعة: قال تعالى [وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ).
العاشرة : قال تعالى [وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذكروا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ).
الحادية عشرة : قال تعالى [وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ).
الثانية عشرة : قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( ).
الثالثة عشرة : قال تعالى [وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( )
الرابعة عشرة : قال تعالى [اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ).
وقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) خطاب للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة للتوجه بالشكر لله عز وجل على النعم التي تتجلى في هذه الآية من جهات :
الأولى : تفضل الله عز وجل بتذكير المسلمين بالنعم التي تفضل بها عليهم وما تدل عليه من بعثهم على استحضار هذه النعم ، ومن خصائص هذا الإستحضار تثبيت سنن التقوى في المجتمعات .
الثانية : بيان نشوء الإسلام ضعيفاً ، فمن الإعجاز في دعوة الأنبياء ابتداؤها بشخص النبي وحده ، ثم تصديق بعض الأفراد من أهل بيته ثم يتسع هذا التصديق على نحو التدريج والتعاقب.
الثالثة : تهيئة مقدمات الهجرة إلى المدينة .
الرابعة : نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالمعجزة ، وخلاف الحسابات من جهة العدد والعدة في الجيوش ، مع إنكشاف المسلمين للعدو الذي انهالت سهامه عليهم كالمطر .
الخامسة : نصر الله عز وجل للمؤمنين في معركة بدر دعوة وترغيب للناس لدخول الإسلام ، وقد ظهر أثره سريعاً .
الآية الخامسة
قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ابتدأت الآية بحرف العطف الواو لبيان إتصالها موضوعاً بالآية السابقة ، وهو قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
وموضوع الآية أعلاه بخصوص معركة أحد عندما ترك أغلب الرماة المسلمين مواضعهم لجمع حصصهم من الغنائم بعد ظهور علامات هزيمة المشركين ، فجاءت خيالة المشركين من خلف جيش المسلمين ليحصل الإرتباك ويقع الشهداء من المهاجرين والأنصار منهم حمزة بن عبد المطلب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن جابر بن عبدالله قال : فينا نزلت . في بني حارثة ، وبني سلمة [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ] وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله [وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا].
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ] قال : بنو حارثة كانوا نحو أحد ، وبنو سلمة نحو سلع)( ).
ومن معاني الصلة بين الآيتين : كما نصركم الله عز وجل ببدر فانه قادر على أن ينصركم في معركة أحد من باب الأولوية القطعية ، فقد كنتم أذلة وزالت عنكم بنصر الله هذه الذلة سواء الفردية أو العامة .
ومن إعجاز نظم القرآن دلالة حرف العطف في أول آية البحث على نزول الآية بعد معركة أحد وبين المعركتين ثلاثة عشر شهراً ، وحتى على القول بأن الواو استئنافية كما هو المشهور( )، وقول جمع من النحويين فلنظم الآيات موضوعية في الحمد على العطف ولو العطف الموضوعي ، ومن الشواهد عليه مجئ كل من الآيتين بصيغة الماضي [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ]( )،[وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
والمختار أن كلاً من الآيتين نزلت بعد معركة أحد التي وقعت في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة ، ليكون من معاني العطف بين الآيتين والجمع بينهما في محل واحد من القرآن نوع تنبيه وتحذير إلى المسلمين فكيف تهم طائفتان بالجبن والخور مع أن الله عز وجل قد نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر وهم في حال ضعف والأصل أن يكون هذا النصر ، وتجلي معاني الإعجاز فيه مادة للصبر والتحمل في معركة أحد .
وفي الجمع بين الآيتين ذم للمسلمين الذين انخزلوا وانسحبوا راجعين من وسط الطريق إلى معركة أحد من باب الأولوية القطعية ليكون من اللطف الإلهي بالمسلمين ذكر التقصير الأدنى ، للدلالة على الذنب والمعصية بالتخلف عن الواجب باتباع رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول.
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا، كُلهم قد حدث.
قال: خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني حين خرج إلى أحد في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كان بالشَّوط -بين أحد والمدينة-انحاز عنه عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس.
وقال أطاعهم فخرج وعصاني، ووالله ما ندري علام نقتُل أنفسنا هاهنا أيها الناس،.
فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب .
واتبعهم عبد الله بن عَمرو بن حرام أخو بني سَلمة، يقول: يا قوم، أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوكم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أن يكون قتال.
فلما استعصوا عليه وأبَوْا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيُغْنى الله عنكم. ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ).
لقد كان عدد الذي همّوا بالفشل أقل من نصف الذين رجعوا مع عبد الله بن أبي بن أبي سلول ولم يهمّوا إلا بعد أن قاتلوا ، ولم يقع منهم إنسحاب أو تراجع لأن الهم النية والعزم على الشروع بالفعل دون وقوعه.
لبيان قانون في تأديب الله للمسلمين باجتناب الهم بالمعصية ليس فقط لأن هذا الهم قد يوقع الإنسان بذات المعصية أو غيرها لمخالفة فعله المعصية للوجود الذهني والبعث على التجرأ للإقدام عليها .
وكما كانت معركة بدر دفاعية محضة ، بالنسبة للمسلمين ، فكذا بالنسبة لمعركة أحد ترى لماذا لم ينصر الله المسلمين في معركة أحد كما نصرهم في معركة بدر خاصة وأن هذا النصر نعمة من عند الله عز وجل ، وهو سبحانه إذا أنعم بنعمة فانه لا يرفعها ، والجواب من جهات :
الأولى : إن نعمة النصر في معركة بدر باقية في موضوعها وأثرها ونفعها ، أما في معركة أحد فقد كان النصر قريباً من المسلمين لو لا ترك الرماة مواضعهم.
الثانية : من إعجاز القرآن الموضوعي في المقام قوله تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ]( )، لبيان تحقق مصاديق نصر الله على نحو متكرر .
وعن الحسن البصري قال : لما اجتمع أهل مكة وأهل المدينة قالوا : الآن والله نقاتل حين اجتمعنا ، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قالوا وما أعجبهم من كثرتهم ، فالتقوا فهزمهم الله حتى ما يقوم منهم أحد على أحد ، حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينادي أحياء العرب إليَّ فو الله ما يعرج إليه أحد حتى أعرى موضعه .
فالتفت إلى الأنصار وهم ناحية ناحية فناداهم : يا أنصار الله وأنصار رسوله إلى عباد الله أنا رسول الله .
فعطفوا وقالوا : يا رسول الله ورب الكعبة إليك والله ، فنكسوا رؤوسهم يبكون وقدموا أسيافهم يضربون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى فتح الله عليهم( ).
الثالثة : لم ينهزم المسلمون في معركة أحد ، وقد اعترف رؤساء المشركين وهم في طريق العودة إلى مكة من ميدان المعركة أنهم لم ينتصروا فيها ، ولم يحققوا أي غاية من الغايات والمقاصد التي سعوا بالإعداد والإنفاق وتجهيز الجيوش لها .
اقترن بمعركة بدر قدوم قافلة أبي سفيان وقبلها قافلة أبي جهل بن هشام ويحرسها ثلاثمائة رجل التي التقت مع سرية حمزة بن عبد المطلب للقتال ، في ناحية العيص من ديار قبيلة جهينة ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد عقد معاهدة مع مجدي بن عمرو أحد رؤساء جهينة ، والذي حجز بين الفريقين .
ولم يقع قتال في سرية حمزة أعلاه ، مما يدل بالدلالة الإلتزامية على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لا يطمعون في القوافل وما فيها من البضائع ، ولا يقصدون الإستيلاء عليها .
وهل يمكن القول أن قوافل قريش بعد معركة بدر صارت أقل منها قبل المعركة ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : إنشغال رؤساء قريش بالإعداد لمعركة أحد طيلة سنة كاملة ، بينما تجهزوا لمعركة بدر في ثلاثة أيام .
الثانية : كثرة إنفاق قريش على إعداد الجيوش على رؤساء القبائل والشعراء ، وهذا الإنفاق من مال التجارة .
الثالثة : خشية قريش من تعرض قوافلها للسلب والنهب ، ليس من طرف المسلمين وحدهم ، بل من القبائل بعد ما حدث في معركة بدر من إصرار قريش على القتال من غير علة وسبب للقتال ، ولحوق الهزيمة بهم ، لبيان قانون وهو تجلي قوانين عن نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر من وجوه :
الأول : قانون كثرة دخول الناس الإسلام من جهات :
الأولى : قانون الذين دخلوا بعد معركة بدر أكثر من الذين دخلوه في ذات المدة قبلها .
الثانية : قانون الذين دخلوا بعد صلح الحديبية أكثر من الذين دخلوه قبل الصلح ، فدخل الإسلام بين الصلح في شهر ذي القعدة من السنة السادسة إلى شهر رمضان من السنة الثامنة حيث فتح مكة أكثر من الذين دخلوه في ثماني عشرة سنة قبله .
الثالثة : الذين دخلوا الإسلام بعد فتح مكة أكثر من الذين دخلوه قبله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا] ( ).
الثاني : قانون تناقل عامة الناس لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، وصيرورتها حديث كل من :
الأول : وفد الحاج في مكة ، على رغم رؤساء قريش الذين أحسوا بالذل أمام وفد الحاج ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
الثاني : الركبان وفي الجادة العامة ، ومنازل المسافرين .
الثالث : مرور الناس على آبار بدر ، والإنصات للمقيمين حولها عن وقائع بدر ، ودلائل الإعجاز فيها ، والشهادة بأن كفار قريش هم الذين بدأوا المعركة واستقراء الناس بالفطرة لعمومات قوله تعالى [وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( )والتدبر في معانيه .
الرابع : ربات الحجال وعامة النساء في البيوت ، وقد اجتمعت نساء قريش يندبن قتلاهن في مكة ليتناقلن من سير المعركة ، وكيفية قتلهم ، ومن الذي قتلهم ، فلابد أنهن علمن أن عتبة بن ربيعة وأخاه شيبة وابنه الوليد هم الذين تقدموا وسط الميدان للمناجزة ، وأن شباباً من الأنصار برزوا لهم ، ولكنهم لم يرضوا إلا برجال من قريش ، ليكون آخر عمل لهم في الدنيا الإصرار على قطع الرحم ، وقتال أهل الإيمان من عمومتهم .
فيتنامى في النفوس وإلى يوم القيامة لومهم وذمهم ، والإتعاظ منهم بإجتناب الإصرار على القتال على الباطل ، ويدرك عامة وأجيال الناس أوان معركة بدر وما بعدها قوانين :
الأول : لم يغز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً ، فهو لم يهاجر إلى المدينة لقتالهم ، إنما لإقامة الصلاة، وتبليغ الرسالة ، والعمل بمضامينها .
الثاني : من صفات الرسول من عند الله أنه لا يغادر الدنيا إلا وقد ترك أمة من بعده يعملون بالشريعة التي جاء بها من عند الله ، وقد اتصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بانه ترك أمة عظيمة من بعده ولم يغادر الدنيا إلا وهناك أكثر من مائة ألف من المسلمين ، وهل التفصيل وتقسيم الصحابة إلى طائفتين :
الأولى : المهاجرين .
الثانية : الأنصار .
من أسباب بعثهم على التقوى والإجتهاد في طاعة الله ورسوله ، الجواب نعم .
الثالث : قانون : المشركون هم المعتدون في معركة بدر .
الرابع : بيان مصداق لبغض الله عز وجل للمعتدين ، قال تعالى [ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ] ( ) .

توالي النعم
لقد نزلت النعم من الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من غير فترة وطول مدة إستضعاف بدليل أن هذه النعم بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : ورود الآية بلفظ (الفاء) فلم تقل الآية (وآواكم) إذ تدل الفاء (فآواكم) على التعقيب ، وعدم وجود فترة بين الإستضعاف والخوف وبين إيواء الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بهجرته للمدينة ، وهجرة طائفة من أصحابه قبل هجرته الى الحبشة وإلى المدينة .
ولم يرد لفظ (آواكم) في القرآن إلا في آية البحث فهل هو دليل على انحصار الإيواء من عند الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه . دون غيرهم الجواب لا ، إذ أن نعمة الإيواء تغشت الأنبياء وتتغشى المؤمنين نعم تبين الآية قانونا ومعجزة من بديع صنع الله وهي مدينة واحدة وهي يثرب تكفي لإيواء النبوة والتنزيل والحابة .
وهي حصن وعصمة لهم ، وفي موسى عليه السلام وخروجه من أرض مصر هارباً من فرعون وجنوده إلى أرض مدين ، قال له شعيب كما ورد في التنزيل [لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( )، لأن أرض مدين خارج ملك فرعون .
و(عن سلمة بن سعد العنزي أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: مرحبا بقوم شعيب وأَخْتان موسى، هُديت.
وقال آخرون: بل كان ابن أخي شعيب. وقيل: رجل مؤمن من قوم شعيب. وقال آخرون: كان شعيب قبل زمان موسى، عليه السلام، بمدة طويلة)( ).
والمشهور والمختار أنه شعيب النبي عليه السلام الذي قام بتسليم العصا الى موسى وهي من آس الجنة اهبطت مع آدم (قال ابن عباس : العصا أول آيات موسى وكانت من آس الجنة ، طولها عشرة أذرع بطول موسى ، قصد باب فرعون فألقى عليه الفزع ، فشاب فخضب بالسواد استحياء من قومه ، فكان فرعون أول من خضب بسواد)( ).
وورد قوله تعالى [وَآوَيْنَاهُمَا]( )، بخصوص عيسى عليه السلام وأمه .
و(عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه تلا هذه الآية [وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ] ( )، قال : أتدرون أين هي ، قالوا : الله ورسوله أعلم .
قال : هي بالشام بأرض يقال لها الغوطة ، مدينة يقال لها دمشق هي خير مدن الشام)( ).
ودمشق من أقدم مدن العالم ، وتتصف باستمرار عمارتها فهي مأهولة منذ آلاف السنين من غير انقطاع.
ومن الإيواء المذكور في قوله تعالى [فآواكم) أعلاه عصمة المدينة المنورة من إختراق وغزو المشركين لها ، وإذا انعم الله فانه ينعم بالأتم والأوفى.
ترى كيف يؤيد الله عباده المؤمنين ، الجواب ليس من حصر لوجوه تأييد الله عز وجل ، إذ أنه يفوق التصور الذهني ، وإن أستحضرت شواهد عديدة منه .
وهذا التأييد من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وقد أكرم الله عز وجل النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بأن جعل الله تأييده له بالنصر والغلبة على المشركين ، مع أنه في حال استضعاف ودفاع ، وهو الذي تدل عليه الوقائع والأحداث .
وهل نزول آيات القرآن من هذا النصر الذي أيد الله عز وجل به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نزول كل آية من القرآن تأييد من عند الله عز وجل وفيه نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولكن القدر المتيقن من النصر المذكور في آية البحث [وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ] هو النصر في ميدان المعركة ، وهزيمة المشركين ومن مصاديق هذا النصر، ومنه ما يبعثه الله في قلوب المشركين من الخوف والرعب ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ) .
إذ أصر المشركون على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ، ويوم أحد ، ويوم الخندق ، ويوم حنين .
قال السدي وغيره : لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة انطلقوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ندموا وقالوا : بئس ما صنعنا ! قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ارجعوا فاستأصلوهم فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا( ).
الثاني : تأييد الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بنصره ومدده ولم يرد لفظ (أيدكم) في القرآن إلا في آية البحث ، نعم ورد قوله تعالى [وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
ونزلت الآية أعلاه بخصوص معركة بدر وهي بيان وتفسير وتأكيد لقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) .
والنسبة بين التأييد بالنصر وذات النصر العموم والخصوص المطلق ، فالتأييد أعم ، ومن نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار وصدق إيمانهم ، ودفاعهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمدد الملكوتي .
ويدل إخبار آية البحث على إيواء الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلى تفضله بتأييده بنصره وعلى تنزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار عن التعدي والظلم لورود آيات متعددة بأن الله [لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، وقال تعالى [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( )، ولدلالة قانون وهو إن الله لا يؤيد بنصره الظالمين والمعتدين.
لقد نصر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في دفاعه على مشركي قريش لتستأصل مفاهيم الكفر وعبادة الأوثان ، وليعم السلام الأرض إلى يوم القيامة.
الثالث : سنخية موضوع التأييد ، وهو النصر من عند الله عز وجل ، لبيان أن هذا التأييد على نحو الموجبة الكلية وما يفيد حسم النزاع مع المشركين بالنصر لكلمة التوحيد ، وتثبيت سنن النبوة .
وحينما أخبر الله عز وجل عن تأييده للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالنصر بقوله تعالى [َأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ]فلابد من شواهد إعجازية تدل على كون هذا النصر من عند الله عز وجل ودلائل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً ، ولم يسع إلى القتال ، ومنها ما أخبرت عنه آية البحث بأن المسلمين كانوا قليلي العدد ، وكانوا مستضعفين من قبل جيوش المشركين ورؤسائهم الذين لا يريدون إقامة الحق والعدل في الأرض ، فاذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجاهد من أجل المستضعفين فهو نفسه مستضعف يخاف أن يتخطفه الناس سواء عندما كان في مكة أو في طريق هجرته إلى المدينة ، وهل محاولات أغتياله وهو في المدينة من هذا الإستضعاف ، الجواب نعم .
الرابع : لما أخبرت آية البحث عن تأييد الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالنصر ذكرت فضل الله عز وجل برزقهم الطيبات ، فقد يأتي النصر ويصاحبه الفقر والعوز والجدب ، مما يبعث على الكآبة والحزن واليأس .
ولكن الله عز وجل أنعم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بالرزق الكريم لتمام النعمة، كما في إبراهيم عليه السلام حينما قال تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ).
ولو كانت برداً وحده لجمد إبراهيم من البرد ، ولكن الله عز وجل جعلها سلاماً وآمناً ، وكذا بالنسبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فان الله عز وجل تفضل وجعلهم غير محتاجين لما في أيدي المشركين من النعم لمنع الإفتتان بهم ، وليبقى المؤمنون منقطعين إلى ذكر الله، وأداء الفرائض العبادية .
وهذا الرزق الكريم من عند الله شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لا يطمعون بما في أيدي الناس .
وقد ورد قوله تعالى [وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ]مرتين في القرآن ، إذ ورد مرة ثانية في خطاب للناس جميعاً في قوله تعالى [وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ] ( ) .
لبيان رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً ، ودعوة الناس للتقوى والخشية من الله .
لماذا المشورة
لقد أخبرت آية البحث عن نزول وعد من عند الله للمسلمين ، قال تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ) فهل المقصود بالوعد هو ذات آية البحث أم غيرها .
المختار هو الثاني ، فعندما خرجت قريش بالجموع من مكة وهم يرددون الأشعار والأهازيج ، واتجهوا صوب بدر ، وهو ماء كانت العرب تقيم سوقاً فيه بضعة أيام من السنة ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوادي ذَفِران فنزل جبرئيل بالوعد من عند الله عز وجل باحدى الطائفتين .
فقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستشارة أصحابه في الدفاع مع الحاجة إليه ، وقد تقدم في الجزء السابق رد الصحابة من المهاجرين والأنصار بالنصرة والإستعداد للدفاع عن النبوة والتنزيل ، إذ ابتدأ المهاجرون بهذا الرد خاصة المقداد بن الأسود ، ثم ألح النبي بالإستشارة فادرك الأنصار أنه يريد أن يسمع رأيهم بالذات ، لأنهم تعهدوا له في بيعة العقبة بالدفاع عنه عندما يصل إلى المدينة ،بينما معركة بدر إن وقعت فهي تبعد عنها (150) كم .
فاعلنوا النصرة والعزم على الدفاع وابتدأ بهذا الإعلان الأنصاري ( )سعد بن معاذ الذي قال (وَاَللّهِ لَكَأَنّك تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللّهِ .
قَالَ أَجَلْ قَالَ فَقَدْ آمَنّا بِك وَصَدّقْنَاك ، وَشَهِدْنَا أَنّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقّ ، وَأَعْطَيْنَاك عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا ، عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ فَامْضِ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَك .
فَوَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَك ، مَا تَخَلّفَ مِنّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوّنَا غَدًا ، إنّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللّقَاءِ . لَعَلّ اللّهَ يُرِيك مِنّا مَا تَقَرّ بِهِ عَيْنُك ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ .
فَسُرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَنَشّطَهُ ذَلِكَ . ثُمّ قَالَ سِيرُوا وَأَبْشِرُوا ، فَإِنّ اللّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ وَاَللّهِ لَكَأَنّي الْآنَ أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ) ( ).
ليكون من غايات هذه الإستشارة توحيد صفوف المسلمين في الدفاع ، ومن الإعجاز في السيرة النبوية قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قبل معركة بدر بنحو ستة أشهر .
ونزلت الآية بصيغة الجمع [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ] فيحتمل المراد من صيغة الجمع في الآية وجوهاً :
الأول : إرادة شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : المقصود النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون والأنصار.
الثالث : عموم المسلمين والمسلمات .
والمختار هو الثالث أعلاه ، فالآية بشارة لأجيال المسلمين ، إذ نزل الوعد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، والمراد أفراد الأمة لما في النصر في معركة بدر من المنافع العقائدية والوقاية من شرور الكفار .
وإذا وعد الله عز وجل فانه سبحانه يفي بوعده على أحسن وأتم وجه ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) فجاءت البشارة وتنجز الوعد بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
قانون استشارة النبي (ص ) لأصحابه بالوحي
لم تكن استشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه برأي وإجتهاد منه ، إذ أن هذا الإجتهاد والمشورة قد تنقص وتضعف بذاتها وأثرها, أو لا تتكرر وتستمر , خاصة عندما تنبسط السلطات والأمر للقائد ، وتكون له كلمة الفصل ، إنما هي بأمر من عند الله لقوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ( ) وهو من الإعجاز في ضبط السيرة النبوية بالوحي والتنزيل .
وفي هذه المشورة مسائل :
الأولى : بيان دفاع الصحابة عن إيمان وتصديق بالنبوة .
الثانية : تجلي مصداق للقتال في سبيل الله ، إذ يدافع المهاجرون والأنصار عن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن توالي نزول آيات القرآن التي لم ولن تنزل على غيره من أهل الأرض إلى يوم القيامة ، فقد أختتمت النبوة ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا] ( ).
و(عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يَرَيْن) ( ).
الثالثة : تشريع قانون المشورة في الإسلام ، فاذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يشاور أصحابه وهو الذي لايقول ولا يفعل إلا بالوحي فمن الأولوية القطعية أن يشاور السلطان والرئيس والملك والعلماء والوزراء , وينصت لهم ليقوموا بمشورة الأدنى منهم رتبة .
وهل مجالس النواب من المشورة , الجواب نعم ووظائفها أعم من المشورة لما لها من سلطة تشريعية نيابة عن الشعب.
الرابعة : منع الفرقة والإختلاف بين الصحابة عند ابتداء القتال .
الخامسة : إرادة حسن التوكل على الله عز وجل ، وإصلاح النفوس لبذل الوسع في الدفاع .

قانون اتصال الإستشارة
لم تنقطع مشورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في معركة بدر بما قبل المعركة ، فحتى عندما انتهت المعركة كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصغى لأصحابه بخصوص جمع الغنائم التي تركها المشركون خلفهم، وكيفية توزيعها ، إذ تأتي الإستشارة بسؤال وطلب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعامة أصحابه أو لبعضهم ، وقد تأتي باقتراح وبيان من بعض الصحابة , فيصغي لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم , أو بمناسبة نزول آية قرآنية .
والفيصل هو القرآن ، ونزول الآيات بخصوص موضوع الإستشارة والرأي .
(عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشهدت معه بدراً ، فالتقى الناس فهزم الله العدوّ ، فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمون يقتلون ، واكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يصيب العدوّ منه غرة .
حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب .
وقال الذين خرجوا في طلب العدوّ : لستم بأحق بها منا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم .
وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرة واشتغلنا به ، فنزلت { يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم }( ) فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين) ( ).
ثم قال (وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أغار في أرض العدوّ ونفل الربع ، وإذا أقبل راجعاً وكل الناس نفل الثلث ، وكان يكره الأنفال ويقول : ليرد قويُّ المسلمين على ضعيفهم) ( ).
كما استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في الأسرى من المشركين ، وعددهم سبعون ،وهو عدد غير قليل بالنسبة لجيش المسلمين الذي كان نحو ثلاثمائة ، إذ كان مجموع عددهم هو ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وسقط منهم يومئذ أربعة عشر شهيداً عدا الجرحى .
ولو أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون عدد الأسرى أكثر من سبعين فهل هذا ممكن ، الجواب نعم ، إذ إنهزم جيش المشركين على وجوههم .
قريش في طريقها إلى بدر
لقد خرجت قريش لمعركة بدر , وكأنهم في نزهة لأنهم يريدون شفاء صدورهم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بقتلهم أو أسرهم في المعركة ، وكانوا ينحرون الإبل في طريقهم من مكة إلى بدر .
(وذكر الاموى: أن أول من نحر لهم حين خرجوا من مكة أبو جهل، نحر لهم عشرا .
ثم نحر لهم أمية بن خلف بعسفان تسعا .
ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشرا، ومالوا من قديد إلى مياه نحو البحر فظلوا فيها وأقاموا بها يوما.
فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعا، ثم أصبحوا بالجحفة فنحر لهم يومئذ عتبة بن ربيعة عشرا .
ثم أصبحوا بالابواء فنحر لهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج عشرا، ونحر لهم العباس بن عبدالمطلب عشرا، ونحر لهم على ماء بدر أبو البختري عشرا، ثم أكلوا من أزوادهم.) ( ).
لقد خرجوا ومعهم مائة فرس وستمائة درع وسبعمائة بعير ، ومع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرسان وستون درعاً وسبعون بعيراً ، فأي حساب عسكري يرجح كفة المشركين ، لذا جاء قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
النصر في بدر قطعي الحدوث
تقدير الآية بلحاظ الوعد من عند الله [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ] ( ) :
الأولى : تعيين الطائفة التي تكون للمسلمين وهي جيش المشركين.
(وروى أبو أُمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال : لقد رأيت يوم بدر وأن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.
وقال ابن عباس : حدثني رجل عن بني غفار قال : أقبلت أنا وابن عم لي حتّى صعدنا في جبل ليشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الواقعة على مَنْ يكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب.
قال : فبينما نحن في الجبل إذ دنت منّا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل. فسمعت قائلا يقول : أقدم حيزوم قال فأمّا ابن عمّي فانكشف قناع قلبه فمات أمّا أنا فكدت أهلك ثمّ تماسكت.
وقال عكرمة : قال أبو رافع مولى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت وأسلمتْ أم الفضل وأسلمتُ وكان العباس يهاب قومه ويكره أن يخالفهم وكان يكتم إسلامه،
وكان ذا مال كثير متفرّق في قومه وكان أبو لهب عدوّ الله قد تخلّف عن بدر فقد بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة،
وكذلك صنعوا لم يتخلّف رجل إلاّ بعث مكانه رجلا فلمّا جاء الخبر عمّا أصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوّة وحزماً فكان رجلاً ضعيفاً .
قال : وكنت أعمل الأقداح أنحتها في حجرة زمزم فوالله إنّي لجالس فيها أنحت الأقداح وعندي أم الفضل جالسة وقد سرّنا ما جاء من الخبر إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتّى جلس على طنب الحجرة وكان ظهره إلى ظهري فبينما هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب قد قدم،
فقال أبو لهب : هلم إلي يابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس،
قال : لا شيء والله كأن الآن لقينا فمنحناهم أكتافاً يقتلون ويأسرون كيف شاؤوا وأيم الله مع تلك ما لمّت الناس :
لقينا رجالاً بيضاً على خيل (معلّق) بين السماء والأرض (ما تليق) شيئاً ولا يقوم لها شيء.
قال أبو رافع : فرفعت طرف الحجرة بيدي ثمّ قلت : تلك الملائكة،
فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة فناورته فاحملني فضرب بي الأرض،
ثمّ برك عليّ فضربني وكنت رجلا ضعيفاً فقامت أم الفضل الى عمود من عمد البيت فأخذته فضربته ضربة فلقت رأسه شجة منكرة وقالت : تستضعفه أن غاب عنه سيّده،
فقام مولّياً ذليلاً فوالله ما عاش إلاّ سبع ليال حتّى رماه الله بالعدسة فقتله.) ( ).
الثانية : إخبار آية أخرى عن علة وسبب النصر ، وهو نزول الملائكة لنصرة المسلمين بعد دعاء وتضرع من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فقوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ…] ( ) شاهد على إجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء بهيئة المسكنة والخشوع لله عز وجل ، لقد كان المسلمون أذلة من جهة قلة العدد والعدة ، وأنكشفوا في ميدان بدر لألف من كفار قريش عازمين على استئصالهم .
فأظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ذلتهم لله عز وجل لينقذهم من الذل للمخلوق .
وقد ذكرت في الجزء السابع عشر بعد المائتين من تفسيري هذا للقرآن والذي صدر والحمد لله أن النسبة بين الإستغاثة والدعاء هي العموم والخصوص المطلق ، فكل استغاثة هي دعاء وليس العكس( )، لبيان قانون وهو لزوم اللجوء إلى الله عند الشدائد بالإلحاح بالدعاء والتضرع والمسكنة والتوسل ، وهذا التضرع قطعي الوقوع .
وإصطلاح القرآن قطعي الصدور قطعي الدلالة أو ظني الدلالة أمر مستحدث ، لم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام والصحابة ، ولا التابعين .
والمختار أن القرآن قطعي الصدور ، قطعي الثبوت ، قطعي الدلالة .
الثالثة :ذكرت آية البحث لقانون تحقق نصر المسلمين في معركة بدر ليتصف هذا النصر بأمور :
الأول : نصر المسلمين في معركة بدر قطعي الوقوع .
الثاني : الآية التي تتضمن الإخبار عن نصر المسلمين قطعية الثبوت والنزول من عند الله عز وجل .
الثالث : تحقق نصر المسلمين في معركة بدر معجزة من فضل الله ، وبعد مضي ألف وأربعمائة وأربعين سنة على معركة بدر لأن القرآن قطعي الدلالة ، لذا فان وصف دلالة القرآن بأنها ظنية لا أصل له ، خاصة وأن إعجاز القرآن يتقوم بالثبوت واليقين والبرهان القاطع .
الرابعة : ذكر موضع نصر الله عز وجل للمسلمين بالاسم وعلى نحو التعيين لقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) .
ولم يرد لفظ ( بدر ) في القرآن إلا في آية البحث ، ولم يرد لفظ (أُحد) أو معركة أحد في القرآن مع كثرة الآيات التي تتحدث عن معركة أحد .
من معاني التقوى بعد بدر
لقد صارت حال المسلمين بعد معركة بدر أفضل وأحسن مما هو قبلها بدليل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) ، ولم يأت نصر الله للنبي وأصحابه إلا وهم في حال تقوى ، ليكون من تقدير قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ]وجوه :
الأول : فاتقوا الله كما كنتم تتقونه .
الثاني : فاجتهدوا بسبل التقوى .
الثالث : فاتقوا الله لأنه سبحانه يحب لكم التقوى ، بلحاظ أن الإنسان عندما يكون في منعة وغنى قد ينشغل بالمال والجاه ، والجلباب الجديد ، فينسى ذكر الله ، فجاءت الآية للتنبيه ، وبيان وجوب تعاهد سنن التقوى والخشية من الله عز وجل ، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ).
الرابع : فاتقوا الله بالإرتقاء في سلم المعارف الإلهية . ومسالك الهدى .
قانون نصر الله
من مصاديق نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوه :
الأول : مصاحبة الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن الإعجاز في نبوته أن أول آية نزلت عليه هي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( ) وعمره أربعون سنة ، ليكون الوحي جزء من هذه القراءة الربانية ، ولإرادة عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القول والفعل الخطأ ، لقانون حاجة النبي وأجيال المسلمين لعصمته لأنه يبين لهم مناهج وسنن الشريعة السمحاء إلى يوم القيامة .
وليس من رفيق يقود إلى السلامة والنجاة مثل الوحي ، لذا أكرم الله عز جل بالأنبياء ، قال تعالى [شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ] ( ) .
الثاني : مبادرة عدد من أهل البيت والصحابة بدخول الإسلام حالما أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبوته (عن أنس بن مالك قال أنزلت النبوة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين وبعث يوم الاثنين وأسلمت خديجة يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء ليس بينهما إلا ليلة) ( ) .
الثالث : حدب أبي طالب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنعه والذب عنه ، وقيامه دونه بوجه عتاة قريش ، وامتناعه عن تسليمه لهم ، وإظهارهم التهديد والوعيد لهما معاً ، فضربوا على بني هاشم الحصار في شعب أبي طالب ، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحصار وعمر النبي تسع وأربعون سنة ، وبعد هذا الخروج (بِأَشْهُرٍ مَاتَ عَمّهُ أَبُو طَالِب ٍوَلَهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَفِي الشّعْبِ وُلِدَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ فَنَالَ الْكُفّارُ مِنْهُ أَذًى شَدِيدًا .
ثُمّ مَاتَتْ خَدِيجَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَسِيرٍ فَاشْتَدّ أَذَى الْكُفّارِ لَهُ فَخَرَجَ إلَى الطّائِفِ هُوَ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَدْعُو إلَى اللّهِ تَعَالَىُ وَأَقَامَ بِهِ أَيّامًا فَلَمْ يُجِيبُوهُ وَآذَوْهُ وَأَخْرَجُوهُ وَقَامُوا لَهُ سِمَاطَيْنِ فَرَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ حَتّى أَدْمَوْا كَعْبَيْهِ.
فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ رَاجِعًا إلَى مَكّةَ وَفِي طَرِيقِهِ لَقِيَ عَدّاسًا النّصْرَانِي ّ فَآمَنَ بِهِ وَصَدّقَهُ وَفِي طَرِيقِهِ أَيْضًا بِنَخْلَةَ صُرِفَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ الْجِنّ سَبْعَةٌ مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ فَاسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ وَأَسْلَمُوا.
وَفِي طَرِيقِهِ تِلْكَ أَرْسَلَ اللّهُ إلَيْهِ مَلَكَ الْجِبَالِ يَأْمُرُهُ مَكّةَ وَهُمَا جَبَلَاهَا إنْ أَرَادَ فَقَالَ : لَا بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ لَعَلّ اللّهَ يُخْرِجُ مِنْ أَصْلاَبِهِم مَنْ يَعْبُدُهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) ( ).
لقد إنقطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق العودة إلى الطائف وعند الإقامة فيها والعودة منها إلى الدعاء ، إذ دعا بالدعاء المشهور (اللَّهم إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس،
أرحم الراحمين أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني،
إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدوَ ملّكته أمري.
إن لم يكن بك عليَّ غضب، فلا أُبالي، ولكن عافيتك هي أوسع، وأعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك، ويحلّ عليَّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، لا حول،
ولا قوّة إلاّ بك) ( ).
وحينما دخل مكة دخلها بجوار المطعم بن عدي( ) .
الرابع : توالى دخول الناس في الإسلام رجالاً ونساءً ، إذ دخل الإسلام البيوت وامتلأت قلوب رؤساء الكفر بالغيظ لأن أبناءهم وبناتهم دخلوا الإسلام ، وإن كان أكثرهم يخفون عبادتاهم ، وهو من الإستضعاف .
الخامس : معجزة الإسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجسده وروحه من مكة إلى المسجد الأقصى ثم العروج به إلى السماء مع شواهد حسية تجلت لمشركي قريش .
(وأخرج الطبراني وابن مردويه ، عن أم هانئ قالت : بات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة أسري به في بيتي ، ففقدته من الليل ، فامتنع عني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن جبريل عليه السلام أتاني فأخذ بيدي فأخرجني فإذا على الباب دابة دون البغل وفوق الحمار .
فحملني عليها ثم انطلق حتى أتى بي إلى بيت المقدس .
فأراني إبراهيم يشبه خلقه خلقي ، ويشبه خلقي خلقه .
وأراني موسى آدم طوالاً ، سبط الشعر أشبهه برجال ازد شنوأة ,
وأراني عيسى ابن مريم ربعة أبيض يضرب إلى الحمرة شبهته بعروة بن مسعود الثقفي .
وأراني الدجال ممسوح العين اليمنى شبهته بقطن بن عبد العزى .
قال : وأنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم ما رأيت، فأخذت بثوبه ، فقلت إني أذكرك الله ، إنك تأتي قوماً يكذبونك وينكرون مقالتك ، فأخاف أن يسطوا بك .
قالت : فضرب ثوبه من يدي ، ثم خرج إليهم فأتاهم وهم جلوس ، فأخبرهم .
فقام مطعم بن عدي فقال : يا محمد ، لو كنت شاباً كما كنت ما تكلمت بما تكلمت به وأنت بين ظهرانينا .
فقال رجل من القوم : يا محمد ، هل مررت بإبل لنا في مكان كذا وكذا؟
قال : نعم ، والله وجدتهم قد أضلوا بعيراً لهم فهم في طلبه قال : هل مررت بإبل لبني فلان( ) قال : نعم وجدتهم في مكان كذا وكذا ، قد انكسرت لهم ناقة حمراء ، فوجدتهم وعندهم قصعة من ماء فشربت ما فيها قالوا : فأخبرنا عن عدتها وما فيها من الرعاء .
قال : قد كنت عن عدتها مشغولاً فقام وأتى بالإبل فعدها وعلم ما فيها من الرعاء . ثم أتى قريشاً فقال لهم : سألتموني عن إبل بني فلان ، فهي كذا وكذا ، وفيها من الرعاء فلان وفلان ، وسألتموني عن إبل بني فلان فهي كذا وكذا وفيها من الرعاء ابن أبي قحافة وفلان وفلان وهي مصبحتكم الغداة الثنية فقعدوا إلى الثنية ينظرون أصدقهم ما قال ، فاستقبلوا الإبل فسألوا ، هل ضل لكم بعير؟
قالوا : نعم .
فسألوا الآخر ، هل انكسر لكم ناقة حمراء؟
قالوا : نعم .
قال : فهل كان عندكم قصعة من ماء؟
قال أبو بكر: والله أنا وضعتها فما شربها أحد منا ولا أهريقت في الأرض) ( ).
وقد حصل الإسراء بجسد وروح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على البراق بصحبة جبرئيل حتى وصل الى السماء السابعة .
فالإسراء الى المسجد الأقصى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ]( )، أما المعراج فهو الرحلة من المسجد الأقصى إلى السموات تباعاً حتى السماء السابعة في ذات الآية ، قال تعالى [وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى]( ) .
السادس : توالي نزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجهاره بتلاوتها مع ما فيها من الوعيد لكفار قريش ، قال تعالى [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ *الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ] ( ).
ومن الإعجاز في السور المكية اتصافها بالقصر في كل من الآية والسورة لتبقى الآية المكية في الوجود الذهني للمؤمنين والكفار قهراً وإنطباقاً وإختياراً ، خاصة مع إتصاف قريش وعامة العرب آنذاك بسرعة الحفظ ليتجلى الإعجاز القرآني بتيسير حفظه للناس عامة .
ويتذكر الناس عامة كلمات وآيات القرآن وما فيها من الوعد لأهل الإيمان ، والوعيد للكافرين ، وبه دخل كثير من الناس الإسلام .
ولا يختص هذا الوعد والوعيد بعالم الآخرة ، إنما يشمل الحياة الدنيا ، لتكون الهجرة إلى المدينة من هذا الوعد ، وما أعقبها من أسباب النصر ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
ومن هذه الآيات والسور سورة المسد في ذم أبي لهب وزوجته مع أنه عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنها سورة العصر ، وهي مكية( ) وهي ثمانية وستون حرفاَ , وأربع عشرة كلمة , وثلاث آيات
(عن أبي أُمامة، عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من قرأ سورة {وَالْعَصْرِ} ختم اللّه له بالصبر، وكان مع أصحاب الحق يوم القيامة) ( ).
وتبين السورة قانوناً وهو إنحصار النجاة بالذين آمنوا وعملوا الصالحات لقوله تعالى [وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] ( ) لترغيب قريش وعامة الناس بالمسارعة في دخول الإسلام .
ومنها سورة القارعة وهي مكية كما عن ابن عباس( ) [وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ *فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ] ( ) .
السابع : الهجرة إلى المدينة ، فذات الهجرة نصر من عند الله عز وجل لما فيها من نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ليلة المبيت بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى منه ، إذ كان عشرة من شباب المشركين وعدد من رؤسائهم ينتظرون في الباب أوان شآبيب الفجر ليهجموا عليه ويقطعوه بسيوفهم ، بينما هو وصل إلى غار ثور ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
الثامن : النصر في طريق الهجرة مع إرادة المشركين طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وجعلهم مقدار مائة بعير لمن يأتي به .
لقد فوجئ رجال قريش بمغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة مع أنه خرج من بينهم وهو يتلو [وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ] ( ).
لقد أدركت قريش الإسلام لوجود الأنصار من الأوس والخزرج في انتظاره في المدينة ، وهجرة طائفة من الصحابة إلى الحبشة (وقال محمد بن كعب القرظي: اجتمع قريش على بابه وقالوا: إن محمدا يزعم أنكم إن بايعتموه كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم بعد موتكم فجعل لكم جنان كجنان الارض وإن لم تفعلوا كان لكم من الذبح ثم بعثتم بعد موتكم فجعلت لكم نار تحرقون بها، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله فأخذ حفنة من تراب .
ثم قال: نعم أنا أقول ذلك، فنثر التراب على رؤوسهم وهو يقرأ ” يس “( ) إلى قوله: ” وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون “( ) فلم يبق منهم رجل وضع على رأسه التراب إلا قتل يوم بدر،
ثم انصرف إلى حيث أراد فأتاهم آت لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون ههنا ؟
قالوا: محمدا، قال: قد والله خرج محمد عليكم ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه التراب وانطلق لحاجته فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه التراب، ثم جعلوا يطلعون فيرون عليا على الفراش متشحا ببرد رسول الله صلى الله عليه وآله.
فيقولون: إن هذا لمحمد نائم عليه برده. فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا.
فقام علي من الفراش فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا به.
وروى الواقدي عن أشياخه أن الذين كانوا ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وآله تلك الليلة من المشركين أبو جهل، والحكم بن أبي العاص، وعقبة بن أبي معيط، والنضر ابن الحارث، وامية بن خلف، وابن الغيطلة، وزمعة بن الاسود، وطعمة بن عدي وأبو لهب، وأبي بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، فلما أصبحوا قام علي عليه السلام من الفراش
فسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: لا علم لي به.
وروي أنهم ضربوا عليا وحبسوه ساعة ثم تركوه) ( ).
وظاهر الحديث أن الذين كانوا يرصدون بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويريدون قتله كبار رؤساء قريش وليس عشرة من شبابهم فقط .
الدلالة القطعية في آية [ببدر ]
يدل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) على نزول الملائكة يوم بدر بالدلالة القطعية .
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
فهل مسألة قطعية دلالة القرآن أو ظنيتها ، قد بينت في القرآن أم لا.
الجواب هو الأول، ف(كل)الوارد في الآية أعلاه سور الموجبة الكلية، والشيء ، مصدر شاء ، وهو إسم لما هو ثابت ومتحقق ، سواء كان حسياً أو معنوياً، كما يشمل ما يحضر في الوجود الذهني.
فكل ما يشمل عالم التصديق فإنه يشمل المعلوم التصوري.
وهذا الشمول من أسرار بقاء القرآن غضاً طرياً مناسباً وملائماً لكل زمان وإلى يوم القيامة .
وعلى فرض وجود دلالة القرآن القطعية في القرآن وهو المختار فلابد من وجود آيات تدل عليه من قوله تعالى[مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( )، كما يمكن أخذ شواهد من آيات القرآن كما في قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )، وفيه مسائل:
الأولى : إخبار القرآن عن وقوع معركة بدر , وهذا الإخبار والحدوث قطعي الدلالة ، ليؤكد صدق إخبار القرآن عن قصص الأنبياء في سابق الزمان ، وعن أهوال يوم القيامة في عالم الآخرة.
الثانية : تعيين موضع المعركة بما يمنع من الترديد أو الخلاف فيه ، وبدر موضع آبار قليلة تسكن عليها بعض العوائل ، وتنتظر قدوم القوافل الخارجة من مكة أو القادمة من الشام ، أو غيرها ليعرضوا على القوافل بعض المواد الغذائية للحاجة الآنية كارغفة الخبز ، وكانت العرب تقيم سوقاً في بدر مرة في السنة .
الثالثة : تحقق نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر ، فلا يأتي شخص ما في الأزمنة اللاحقة ويقول أن المشركين هم الذين انتصروا أو أن المعركة ليس فيها منتصر .
الرابعة : بيان قانون من الدلالة القطعية وهي أن نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بمشيئة وكلمات ومدد من عند الله عز وجل .
الخامسة : دلالة نصر الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار على حبه لهم ، ورضاه عنهم .
السادسة : الدلالة القطعية بصدور الأمر من عند الله للمسلمين والمسلمات بطاعته ، والخشية منه ، وإجتناب ما نهى عنه لقوله تعالى في آية البحث [فَاتَّقُوا اللَّهَ] وليس من فترة بين النصر ووجوب تقوى المسلمين لله ، لتكون الخشية منه تعالى حاضرة في ميدان المعركة وتوزيع الأثقال ، وحسن معاملة الأسرى لعمومات قوله تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]( ) .
السابعة : نسبة نصر المسلمين في معركة بدر إلى الله قطعية الدلالة وليست ظنية وهل هي أمارة على نزول الملائكة بقوله تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
وثيقة الحوار مع أبي طالب
حينما حضر رجالات قريش عند أبي طالب أظهروا إكرامهم له ، وإقرارهم بأنه شيخهم وكبيرهم ، ثم شكوا له ما يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سب آلهتهم والتعريض بآبائهم ، وقيام المسلمين الذين دخلوا الإسلام بتلاوة القرآن وأداء الصلاة ودعوة الناس إلى نبذ عبادة الأصنام ، والعادات الجاهلية .
وقالوا له (يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأشعره وأجمله فخذه فلك عقله ونصرته واتخذه ولدا فهو لك وأسلم لنا ابن أخيك هذا الذى قد خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله فإنما رجل كرجل .
فقال والله لبئس ما تسوموننى أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله ما لا يكون أبدا فقال المطعم ابن عدى بن نوفل بن عبد مناف والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا فقال أبو طالب للمطعم والله ما أنصفوني .
ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك أو كما قال أبو طالب قال فحقب الامر عند ذلك وحميت الحرب وتنابذ القوم وبادى
بعضهم بعضا قال ثم ان قريشا تذمروا على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين اسلموا معه فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ومنع الله رسوله منهم بعمه أبى طالب) ( ).
كان أبو طالب يتصف بالحكمة والوقار ، وقد أدرك صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا يكلف نفسه الإحتجاج عنه ، وحتى لو احتج فان هذا الإحتجاج أدنى مراتب من احتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لذا قام بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعندما حضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له أبو طالب : يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وماذا يسألوني ؟
قال أبو طالب (يقولون ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وآلهك.
فقال النبي عليه السلام : أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟
فقال أبو جهل : لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قولوا لا إله إلاّ الله.
فنفروا من ذلك وقاموا وقالوا : {أَجَعَلَ الِهَةَ الها وَاحِدًا} كيف يسع الخلق كلهم إله واحد.
{إِنَّ هذا لَشَىْءٌ عُجَابٌ} أي عجيب) ( ).
يدل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) على أمور :
الأول : الخطاب من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في القرآن .
الثاني : بقاء الخطاب القرآني إلى يوم القيامة ، ليكون فيه ثناء متجدد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل كان بعض الصحابة الذين حضروا معركة بدر ليس لهم عمل وجهد إلا تكثير السواد ، الجواب لا ، إنما شاركوا جميعاً بالدفاع بدليل أنهم حينما جرت قسمة غنائم بدر التي خلفها المشركون احتج بعضهم في نوع العمل الذي قام به هو وما قام به غيره ، مما يدل على اشتراكهم جميعاً في الدفاع عن النبي والتنزيل ، وتعرضهم للقتل من قبل كفار قريش ، ومجئ السهام إلى جيش المسلمين من غير تعيين أو تمييز ، نعم كان لبعض أهل البيت والصحابة جهد وجهاد جلي كما في قتال الإمام علي عليه السلام وحمزة بن عبد المطلب ، وعدد من شباب الأنصار , والشهداء الأربعة عشر الذين سقطوا يومئذ .
ولم تختص نسبة نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الله عز وجل بخصوص معركة بدر بدليل قوله تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( )، مما يدل على أمور :
الأول : وقوع المواطن الكثيرة التي ذكرتها الآية قبل معركة حنين ، وسيأتي (قانون النصر في مواطن كثيرة) .
الثاني : بيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالث : الشهادة من عند الله عز وجل بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا يجاهدون في سبيل الله .
الرابع : يدل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ]( )، على تثبيت أقدام المسلمين في منازل الإيمان بعد معركة بدر .
ترى لماذا وردت نسبة النصر لله عز وجل في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) الجواب فيه وجوه منها :
الأول : بيان عجز الصحابة عن تحقيق النصر في معركة بدر إلا بمدد وعون من عند الله ، وهو ظاهر بالتباين الكبير بين كثرة المشركين وأسلحتهم وقلة الذين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ، وكان رؤساء المشركين متحمسين للقتال ، بينما خرج أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعلموا أنهم سيدخلون المعركة .
الثاني : إخبار الله للمسلمين والناس جميعاً بأن النصر يوم بدر من عنده تعالى .
الثالث : زيادة إيمان المسلمين والحرب على النفاق .
الرابع : بعث الخوف في قلوب المشركين ، ومنعهم من إعادة الكرة بالقتال .
الخامس : زجر القبائل عن نصرة كفار قريش وإن بذلوا لهم الأموال.
السادس : إعانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله عز وجل .
السابع : النصر محبوب بالذات ، وفيه ترغيب للناس بدخول الإسلام ، والفوز بالنصر من عنده سبحانه ، وهل يجوز للمؤمن أن يسأل الله عز جل في إنتزاع حقه الشخصي في الخصومات ، الجواب نعم .
الثامن : إقامة الحجة على الذين كفروا في الدنيا والآخرة بأن الله عز وجل هو الذي هزمهم .
وقد فطن أبو جهل إلى موضوعية الدعاء في الميدان التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وزرعها في مجتمع مكة بندائه المتكرر (قولوا لا إله إلى الله تفلحوا) وإعلانه بطلان عبادة الأوثان ، (قال محمد بن اسحاق وحدثني محمد بن مسلم الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري حليف بنى زهرة قال لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض قال أبو جهل اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة فكان هو المستفتح
على نفسه) ( ).

معاني الباء في [بِبَدْرٍ]
قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) ومن معاني الباء في هذه الآية وجوه :
الأول : الظرفية ، أي أن الله عز وجل نصر المسلمين في الموضع المسمى (بدر ) ومن ظرفية الباء قوله تعالى [وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ…]( ) ليترشح عن تقييد موضع المعركة بالاسم مسائل :
الأولى : استقراء تعيين أوان المعركة وبعث الآية للمسلمين على الحرص على ضبط أوانها وتأريخ وقوعها وهو السابع عشر من شهر رمضان ، وصادف أن كان يوم جمعة .
الثانية : صيرورة موضع عريش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بدر وقيامه الليل مسجداً (وَبَاتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يُصَلّي إلَى جِذْعِ شَجَرَةٍ هُنَاكَ وَكَانَتْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ السّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ فِي السّنَةِ الثّانِيَةِ) ( ).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلتئذ يجتهد بالدعاء والصلاة والتضرع إلى الله عز وجل .
وهل الصلاة في تلك الليلة من الإستغاثة بقوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ..] ( ) .
الجواب نعم ، خاصة وأنها لجوء إلى الله ، ومن معاني الصلاة لغة أنها دعاء ، قال تعالى [وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ] ( ) أي أدع لهم .
ليكون من معالم منطقة ومسجد بدر إحياء النبي الليلة فيها بالصلاة والدعاء ، وسؤال النصر والغلبة على المشركين ، وفيه شاهد على صدق نبوته بعلمه بأن النصر بيد الله عز وجل .
وهذا الإحياء شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد القتال ، ولا مباغتة المشركين ، كما ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أصحابه بالإمتناع عن ابتداء القوم بالرمي .
في الوقت الذي قُتل بعض المسلمين بسهام المشركين قبل المعركة (قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ رُمِيَ مِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ بِسَهْمِ فَقُتِلَ فَكَانَ أَوّلَ قَتِيلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمّ رُمِيَ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ أَحَدُ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ ، وَهُوَ يَشْرَبُ مِنْ الْحَوْضِ بِسَهْمِ فَأَصَابَ نَحْرَهُ فَقُتِلَ) ( ).
ترى لماذا كان المشركون يرمون السهام مع أن المعركة لم تبدأ بعد ، الجواب إنهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يبدأ قتالاً ، ولا يرغب فيه ، وهو في غنى عنه .
فأرادوا أن يحولوا دون رجوعه عن القتال بتحريض أصحابه على أخذ الثأر لمن سقط بسهام المشركين ، أو أنهم يقومون بالرد بالمثل ، فيُقتل بعض المشركين ، فيكون هذا القتل سبباً لتهييج صفوف المشركين على القتال .
ولكن الصحابة التزموا بقانون نبوي وهو عدم البدء بالقتال حتى وإن جاءت سهام القوم ، وأصابت بعضهم .
الثالثة : استحضار المسلمين وفي الوجود الذهني لكل من :
أولاً : موضع بدر بين مكة والمدينة .
ثانياً : وقوع معركة بدر .
ثالثاً : نصر الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر .
الرابعة : عمارة منطقة بدر في قادم الأيام ، وزيارة شطر من وفد الحاج والمعتمرين لها ، للصلاة ركعتين أو الفريضة في ذات موضع مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل هذه الزيارة والصلاة من عمومات قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ…] ( ) .
الجواب لا , لورود الآية بصيغة التأكيد ولغة الماضي [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ] وإرادة قضية عين , إنما هو من رشحات النصر .
الثاني : التأكيد ، وقد يعبر عن الباء في المقام بأنها زائدة ، والتأكيد هنا من جهات :
الأولى : تحقيق النصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر.
الثانية : نسبة النصر يوم بدر إلى الله عز وجل .
الثالثة : الإخبار عن قانون وهو لا يقدر على تحقيق النصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم بدر إلا الله عز وجل ، فتفضل وأنزل الملائكة مدداً لهم .
كما يأتي التأكيد في الآية الكريمة بالحرف قد في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ].
الثالث : الإلصاق وهو من أهم معاني الباء ، إذ أنه ملازم لها ، وفي قوله تعالى [وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ] ( ) جهات :
الأولى : قال ابن هشام ( ) : الظاهر أن الباء فيها للإلصاق .
الثانية : التبعيض ، وقد وردعن الإمام الباقر عليه السلام (أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء ) ( ) التبعيض وإرادة المسح ببعض الرأس وهو الذي تدل عليه السنة في الوضوء ، ومسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ناصيته ، ومن معاني الباء للتبعيض قوله تعالى [عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ..] ( ) .
الثالثة : الباء في [وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ] ( ) زائدة ونسب هذا القول إلى سيبويه ، ومعنى زائدة أي فضل من القول زائد لا موضوعية له في المعنى ، وربما استدل بعضهم بأن العرب: تقول خذ الخطام وخذ بالخطام ) ، وهو قياس مع الفارق لأن أخذ الشئ حمله ، بينما يحتمل المسح الكل والشطر والجزء القليل منه ، ثم أن المسح أمر عبادي وقاعدة الإشتغال اليقيني تستلزم الفراغ اليقيني .
الرابعة : إرادة الإلصاق ، وتقدير الآية : الصقوا المسح برؤسكم ، وكذا بالنسبة لمعركة بدر أي يلتصق النصر ببدر ، ليكون من معاني الآية :
أولاً : لقد نصركم الله يوم بدر .
ثانياً : لقد نصركم الله عند موضع بدر .
ثالثاً : لقد نصركم الله بمعركة بدر .
رابعاً : لقد نصركم الله يوم بدر ليصبح اسمه [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( ) .
لقد صارت (يثرب) مدينة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنشأ فيها دولة الإسلام بعد الهجرة إليها ، فهل أصبحت منطقة بدر جزء من المدينة ، أو أنها صارت بقعة إسلامية بذات النصر فيها ، الجواب القدر المتيقن أن بدراً موضع للنصر ومَعلم إيمان، ومقدمة لإجتهاد المسلمين في سنن التقوى وأداء الفرائض والسنن ، والإحتراز من الظلم والتعدي .
الرابع : من معاني حرف الجر (الباء ) الإستعانة ، كما في باء البسملة [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) وكما في قوله تعالى [وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ]( ) لتكون من معاني (الباء) في [بِبَدْرٍ] الإستعانة ، وحينئذ يكون معنى النصر في الآية أعم ، وتصح الإستعانة مع الحذف مثل :
ولقد نصركم الله بقيام القتال ببدر .
ولقد نصركم الله بنزول الملائكة ببدر .
وهل يمكن القول أن من إعجاز الآية ورودها بحرف الجر (الباء) في [بِبَدْرٍ] ، ولم ترد بحرف الجر (في) لتعدد معاني الباء وإفادتها معاني متعددة إلى جانب الظرفية والسببية والتوكيد ، الجواب نعم .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة اسم (بدر) معروفاً في جميع أنحاء الأرض ، وهو من أسرار ذكرهم اسم بدر في القرآن، وتلاوة المسلمين للآية في مشارق الأرض ومغاربها .
وهل يصح إحياء ذكرى معركة بدر في السابع عشر من شهر رمضان ، الجواب نعم ، ببيان ظلم المشركين لأنفسهم وغيرهم ، بقيامهم بالغزو والتعدي والإصرار على القتال ، وكيف أن الله عز وجل عصم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من شرورهم .

مفهوم الموافقة
ورد عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ قَالُوا الَّذِي يُقَاتِلُ فَيُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ الْقَتِيلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَهِيدٌ وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ يَعْنِي النُّفَسَاءَ( ).
[وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ]( )،
وقيل للإمام علي عليه السلام : صف لنا العاقل , قال : هو الذي يضع الشئ مواضعه قيل له: فصف لنا الجاهل قال: قد فعلت( ).
أي أن الجاهل هو الذي يضع الشئ في غير مواضعه , أو لا يضعه أصلا وهذا المعنى من مفهوم المخالفة ، أما موارد استنباط مفهوم الموافقة في الحديث أعلاه فهو صفة العالم لأنه بقياس الأولوية بضع الشئ في مواضعه ، بلحاظ أن النسبة بين العالم والعاقل العموم والخصوص المطلق .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الطاعون لكل مسلم شهادة ، وتلحق كورونا ونحوها بالطاعون لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وما تعدون الشهادة ، قالوا في سبيل الله ، إذن الشهداء في امتي قليل لبيان قلة معارك الإسلام ، في بداية الإسلام .
وقال الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله ، المطعون شهيد ، والغريق شهيد ، وصاحب ذان الجنب شهيد ، والبطو شهيد ، وصاحب الحريق شهيد ، والذي يموت تحت الهدم شهيد ، والمرأة تموت بحمل شهيدة أي في الطلق .
وهل هذا التعدد من النص والمنطوق ، الجواب من المنطوق ، وهل احتساب الذي يموت في كورونا من المسلمين شهيداً من المنطوق أو المفهوم ، الجواب إنه من المفهوم لأنه في مقام المستحدث والمسكوت عنه في اللفظ ولكن قياس على المطعون .
[إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ] ( )، ولا يعني هذا الحث على القتال إنما لبيان فضل الله على المسلمين وقد كان عدد المسلمين في صلح الحديبية ألف وأربعمائة ، ومع هذا حرص على الصلح وسعى اليه ، واستجاب لشروط قريش حفضاً للدماء.
المفهوم اسم مفعول من فهم والمراد عقل وعلم وعرف أن المفهوم في الإصطلاح فهو : ما دلّ عليه اللفظ في محل السكوت يميز يكوت الحكم استقراء من معنى ودلالة من اللفظ وليس نصه ، وينقسم المفهوم إلى قسمين:
الأول : مفهوم الموافقة ، وهو أن المسكوت عنه موافق للمنطوق في الإثبات والنفى ويسمى فحوى الخطاب ، ولحن الخطاب كما لو كان المسكوت عنه أولى ، قال تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه]( )، ومثل [إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ]( )، ومشهور علماء المسلمين حجية مفهوم الموافقة ، وثبوته بدلالة ومعنى النص ، وان لم يتضمنه المنطوق .
ومنهم من ربط بين انكار حجية مفهوم الموافقة وبين انكار القياس ، ولا أصل لهذا الربط .
واستدل على مفهوم الموافقة بقوله تعالى [وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ]( )، ولكن ورد عن ابن سعيد الخدري في الآية أعلاه قال : ببغضهم علي بن أبي طالب .
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ببغضهم علي بن أبي طالب( ).
الثاني : مفهوم المخالفة وهو وجود حكم مسكوت عنه مخالف لحكم المنطوق ويسمى دليل الخطاب ويستدل عليه في علم الأصول عامة: سائمة الغنم الزكاة.
كما في حديث (عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ : فِى كُلِّ أَرْبَعِينَ مِنَ الإِبِلِ سَّائِمَةِ ابْنَةُ لَبُونٍ مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا ، وَمَنْ كَتَمَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ إِبِلِهِ عَزِيمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّكَ لاَ يَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلاَ لآلِ مُحَمَّدٍ)( ).
والمراد من معاوية هو الصحابي معاوية بن حَيدة واختلف في وثاقة بهز بن حكيم القشيري البصري (وثقه ابن المدينى، ويحيى، والنسائي.
وقال أبو حاتم: لا يحتج به.
وقال أبو زرعة: صالح.
وقال البخاري: يختلفون فيه.
وقال ابن عدى: لم أر له حديثا منكرا، ولم أر أحدا من الثقات يختلف في الرواية عنه.
وقال صالح جزرة: بهز عن أبيه، عن جده إسناد إعرابى.
وقال أحمد بن بشير: أتيت بهزا فوجدته يلعب بالشطرنج.
وقال ابن حبان: كان يخطئ كثيرا.
فأما أحمد وإسحاق فاحتجا به.
وتركه جماعة)( ).
ومعنى سائمة أي تستديم الرعي ، وكما في قوله تعالى [وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ] ( )({ والخيل } : جمع خائل عند أبي عبيدة ، سمي الفرس لأنه يختال في مشيه فهو كطائر وطير ، وقال غيره : هو اسم جمع لا واحد له من لفظه .
واختلف المفسرون في معنى { المسومة } فقال سعيد بن جبير وابن عباس وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى والحسن والربيع ومجاهد ، معناه الراعية في المروج والمسارح تقول: سامت الدابة أو الشاة إذا سرحت وأخذت سومها من الرعي أي غاية جهدها ولم تقصر عن حال دون حال ، وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك ومنه قوله عز وجل : { فيه تسيمون }( ) .
ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : في سائمة الغنم الزكاة وروي عن مجاهد أنه قال : { المسومة } معناه المطهمة الحسان ، وقاله عكرمة ، سومها الحسن ، وروي عن ابن عباس أنه قال : { المسومة } معناه المعلمة) ( )
(قال عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفا … أبينا أن نقر الخسف فينا ..) ( ).
والمختار عدم دلالة هذا المعنى على أن المعلوفة لا زكاة فيها لأن اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ولم يستدل العلماء على هذا المعنى وأن المعلوفة ليس فيها زكاة إلا بنصوص من السنة القولية والعقلية ، لبيان قانون وهو أن السنة بيان للقرآن ، وأن الزكاة محصورة بالسائمة في المراعي المباحة، وليس على المعلوفة زكاة .
وإجماع علماء الإسلام على اشتراط السوم والرعي في زكاة الماشية من الإبل والبقر والغنم ، وإن أعدت للتجارة ففيها زكاة مال التجارة ، وإن أسيمت للحمل أو الركوب أو اللحم ، فلا زكاة فيها .
والمراد من السائمة أي التي ترعى أكثر السنة في العشب العام المباح في الفلاة , وخالف الإمام مالك وقال بوجوب الزكاة في المواشي مطلقاً سواء كانت سائمة أو معلوفة ، عاملة أو غير عاملة ، والمختار لا زكاة في المعلوفة ، وعن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن صدقات الاموال ؟
فقال : في تسعة أشياء ، ليس في غيرها شيء : في الذهب والفضة ، والحنطة والشعير والتمر والزبيب ، والابل والبقر والغنم السائمة ـ وهي : الراعية ـ وليس في شيء من الحيوان غير هذه الثلاثة الاصناف شيء ، وكل شيء كان من هذه الثلاثة الاصناف فليس فيه شيء حتى يحول عليه الحول منذ يوم ينتج( ).
ومن مفهوم المخالفة ، مفهوم الشرط ، مفهوم الوصف ، مفهوم الغاية ، مفهوم الحصر ، مفهوم العدد ، مفهوم اللقب .

زوال الذلة دفعي أو تدريجي
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دخول كثير من رؤساء المشركين الإسلام طواعية ، فما أن يصبح صباح كل يوم ،وإذا عدد وجماعة من الناس دخلوا المدينة ليعلنوا إسلامهم ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ) .
ومنهم من يبعثه قومه ليعلن إسلامهم ، ويتعلم معالم الشريعة ، وأحكام الحلال والحرام ، وأركان وواجبات الصلاة .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجعلهم يقيمون في المدينة عدة أيام بضيافته إلى أن يتقنوا الصلاة ، ويحفظوا عدداً من سور القرآن ، ويروا حال الصلاح والتقوى التي عليها المسلمون وإنقيادهم لأمر الله ورسوله ، وما في هذا الإنقياد من أسباب العز والفخر والرحمة ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) .
وأختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وتبين مضامين آية البحث أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا قلة مستضعفين ، مما يدل على أنهم لا يقصدون القتال ، إنما يحرصون على إجتنابه لما فيه من الإضرار الفادح بهم ، وأنهم كانوا مجتمعين ومتفرقين يخشون الناس ، سواء كفار قريش أو القبائل التي تحيط بالمدينة أو البلدان التي تحيط بالجزيرة وهم :
الأول : هرقل ملك الروم في الشام .
الثاني : كسرى ملك فارس في حدود العراق .
الثالث : عامل كسرى في اليمن .
الرابع : ملك الحبشة .
الخامس : الملوك والرؤساء في الجزيرة ، وما حولها .
السادس : التآلف بين أطراف من القوى أعلاه للإجهاز على المدينة ، وإرادتهم وأد الإسلام لولا فضل الله .
لبيان قانون وهو صرف تآلف الكفار للإجهاز على المدينة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه شاهد على عدم توفر أسباب ومقدمات غزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبلدة أخرى ، إنما كان يسأل الله عز وجل كفايته ، وصرف شرور الكفار .
وهل هذا الصرف من ضروب صرف حال الذلة والضعف عن المسلمين ، الجواب نعم ، كما أنه من زيادة منعة وعز المؤمنين ، والمختار أن زوال الذلة ابتدأ دفعة بالنصر في معركة بدر ، ونسبة هذا النصر لله عز وجل بقوله سبحانه [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
وتقدير الآية : وكنتم أذلة ثم أستمر زوال ما تبقى منه إلى حين صلح الحديبية ، وهو من أسرار تسميته من عند الله فتحاً مبيناً .
قانون ( فاتقوا الله ) بعد بدر
التقوى لغة من الوقاية والحماية والصيانة يقال (وَقاهُ وَقْياً ووِقَايَةً وواقِيَةً صانَه، كَوَقَّاهُ. والوَقاءُ، ويُكْسَرُ، والوَقَايَةُ، مثلثةً ما وَقَيْتَ به.
والتَّوْقِيَةُ: الكِلاءَةُ، والحِفْظُ. واتَّقَيْتُ الشيءَ، وتَقَيْتُه أتَّقِيه وأتْقِيه تُقًى وتَقِيَّةً وتِقاءً، ككِساءٍ: حَذِرْتُه، والاسمُ: التَّقْوَى، أصْلُه: تَقْيا، قَلَبُوهُ للفَرْقِ بين الاسمِ والصِّفةِ، كخَزْيا وصَدْيا.
وقولهُ عز وجلَّ: ” هو أهْلُ التَّقْوَى ” ، أَي: أهْلٌ أن يُتَّقَى عِقابُه. ورجُلٌ تَقِيٌّ، من أتْقِياءَ وتُقَواءَ) ( ).
والتقوى في الإصطلاح على وجوه منها :
الأول : الخشية من الله سبحانه.
الثاني : العمل بطاعة الله ، ومن معاني نداء نوح المتكرر لقومه بلزوم التقوى [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ] ( ) الدلالة على طول عمر نوح عليه السلام بين قومه وأنه قضى عمره بالتبليغ والدعاء إلى التوحيد ، وليس عنده من فترة وفتور بين التبليغ والدعوة .
كما تكرر هذه النداة في القرآن بالنسبة للنبي هود كما في قوله تعالى [إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ]( ) وقوله تعالى [وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ]( ).
كما ورد قول فاتقوا الله وأطيعون( ) مرتين في القرآن على لسان الرسول صالح عليه السلام .
وورد على لسان الرسول عيسى عليه السلام( ) ، كما وردت على لسان النبي شعيب عليه السلام ( ).
وجاء هذا القول من الأنبياء بصيغة الإنذار والوعيد والحضّ على التدارك والنجاة في النشأتين بالخشية من الله وبطاعة الرسول .
وقد أصطف الصحابة لملاقاة الحتوف يوم بدر ، لتتجلى فيها مصاديق تقوى الله وطاعة الرسول .
فتفضل الله عز وجل ورزقهم النصر ،وذكّرهم بوجوب تقوى الله ، والإجتهاد في طاعته ، ومن تقوى الله إجتناب التعدي والظلم ، ومن وجوه تقدير الآية :
الأولى : فاتقوا الله ولا تسرفوا في القتل .
الثانية :فاتقوا الله بالشكر له سبحانه .
الثالثة : فاتقوا الله وأرضوا بالصلح ، ليكون من معاني قوله تعالى في آية البحث [فَاتَّقُوا اللَّهَ] عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلح مع كفار قريش في الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة .
الرابعة : فاتقوا الله بأن اجعلوا الذين يفرون من المشركين يذهبون لحالهم .
ليكون هذا الفرار على وجوه :
الأول : قيام الفارين بنقل وقائع المعركة إلى الناس .
الثاني : ذكر معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الذكر ترغيب للناس بالإسلام ، قال تعالى [وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الثالث : وهناك أفراد من المسلمين خرجوا إلى بدر مع المشركين مكرهين فمنهم من إنسحب في الطريق إلى بدر ، ومنهم من إنهزم عند بدء المعركة ، فالمراد من التقوى النجاة والتوبة .
لقد انتقل المسلمون في معركة بدر من جهات :
الأولى : من هيئة الذل إلى حال المنعة والقوة .
الثانية : من الفقر والعوز إلى السعة والغنى .
الثالثة : من القلة في العدد والعدة إلى الكثرة .
الرابعة : من حال الخوف والوجل كما في قوله تعالى [وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
الخامسة : من حال شبه موادعة مع المشركين إلى حال القتال والنصر على المشركين .
لقد نصر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لإختيارهم التقوى ، وإجتهادهم في طاعة الله ، إذن لماذا قال لهم الله [فَاتَّقُوا اللَّهَ]( ) ،فيه وجوه :
الأول : تعاهد المسلمين صيغ التقوى التي هم عليها .
الثاني : الإجتهاد في سنن التقوى .
الثالث : إرادة الإمتناع عن الفرح والزهو بالنصر ، والتهاون في الفرائض ، قال تعالى [لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ]( ).
وقد ورد ذات الأمر في مسألة الأنفال والتي نزلت بخصوص معركة بدر بقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
وقدذكرتُ في الجزء الثامن والثمانين من هذا السِفر (ليكون من معاني الآية تقوى الله عند إنتهاء المعركة من وجوه:
الأول: الرضا في قسمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للغنائم.
الثاني: حسن معاملة الأسرى.
الثالث: المبادرة إلى الصلاة وعدم الغفلة عنها.
الرابع: الإستعداد للدفاع في القادم من المعارك بين المسلمين والكفار.
الخامس: الإقرار بان النصر في معركة بدر من عند الله، وبفضله تعالى على المسلمين.
السادس: إظهار أسمى معاني الطاعة لله ورسوله، وإجتناب الفرقة والخلاف ) ( ).
وأضيف لها هنا وجوهاً :
الأول : الإجتهاد بأداء الفرائض والعبادات والمستحبات .
الثاني : تعاهد مناهج الدفاع .
الثالث : الإمتناع عن التعدي .
الرابع : الثبات في منازل الإيمان .
الخامس : التفقه في الدين .
السادس : إجتناب ما حرم الله من المعاصي والسيئات .
السابع : صدق الحديث .
الثامن : تعاهد آيات القرآن تلاوة وتدبراً .
التاسع : الإنفاق في سبيل الله ، وإخراج الزكاة والحقوق الشرعية ، قال تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]( ).
العاشر : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن معاني الآية : ستصبحون أولي قوة ومنعة ومال ، فاتقوا الله ولا تشغلكم الدنيا وزينتها ، قال تعالى [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً] ( ).
ومن خصائص التحلي بالتقوى أنه دعوة للناس جميعاً للإيمان وترك العنف والإرهاب .
وقد أراد الله عز وجل للمسلمين حفظ أعراض وأموال وحقوق عامة الناس بعد تحقق النصر ، فأمرهم وقال لهم بصيغة الأمر في آية البحث [فَاتَّقُوا اللَّهَ]( ).
وتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على أن الطرف المنتصر بعد الضعف قد يأتي ببعض الأفعال التي فيها أذى وضرر ، فأراد الله عز وجل تنزيه المسلمين عنها ، ليكون هذا التنزه حجة على الذين كفروا ، إذا قاموا بغزو المدينة وضواحيها ، كما فعلوا في معركة أحد والخندق ، ليكون من معاني آية البحث وجوه :
الأول : فاتقوا الله بنشر الأمن .
الثاني : فاتقوا الله بالصبر على تحمل الأذى من المشركين .
الثالث : فاتقوا الله في حسن معاملة الناس .
الرابع : فاتقوا الله في تعاهد مفاهيم الأخوة الإيمانية بينكم ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
قانون نسبة النصر إلى الله
كان شطر من الصحابة يودون أن تكون القافلة لهم ، ولو وقعت القافلة في أيدي المسلمين لتظافرت جهود قريش وحلفائهم على حرب وقتال النبي وأصحابه ، وجعلوا مسألة القافلة والإستيلاء عليها ذريعة للفتك بالمسلمين حتى الذين في مكة .
ولأرسلوا الوفود إلى ملوك وأمراء الجزيرة وإلى قيصر وكسرى للشكوى ، وإظهار صفة الإستيلاء على القافلة ، وهي في الطريق من غير أن تبيّن قريش استحواذها على أملاك وأموال الصحابة التي في مكة ، إذ كانت الهجرة ذريعة لهم للتصرف بها تشفياً وانتقاماً ، ومحاولة لمنع المسلمين الآخرين من الهجرة ، ولجعل الأهل والأقارب ينصحون بعدم الهجرة خشية ضياع المال ، وتحريض كفار قريش القبائل والأمراء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وهذا الإستحواذ وسوء القصد الذي من ورائه ونتائجه أعلاه من مصاديق الذلة في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ترك القافلة تسير في طريقها ووقوع معركة بدر بالحاح وإصرار على القتال من قبل الكفار ، وهو من مصاديق [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) .
لبيان معجزة قرآنية وهي نسبة النصرإلى الله عز وجل في تحد متجدد للذين كفروا بأن الهزيمة تلازمهم في محاربتهم النبوة والتنزيل من غير علة ظاهرة ، وأسباب حسية أو رجحان كفة النبي وأصحابه في العدة والعدد .
وتدل الآية في مفهومها على التبكيت للذين كفروا ، وتقدير الآية في مفهوم المخالفة : يا أيها الذين كفروا لقد أنهزمتم ببدر بأمر الله عز وجل ، وفيه دعوة لعموم الذين كفروا للإتعاظ والتدبر واقتباس الدروس من معركة بدر ، واتخاذها وسيلة للتوبة والإنابة , قال تعالى [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] ( ) ,
ولم يرد لفظ [يُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ] في القرآن إلا في آيتين متجاورتين إحداهما عامة للناس جميعاً ، وهي الآية أعلاه ، والأخرى خاصة بالمسلمين كما في قوله تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
ويدل نصر الله للمسلمين في معركة بدر على أمور :
الأول : قتال المسلمين دفاعاً .
الثاني : قتال المسلمين بقصد في سبيل الله .
الثالث : لم يبدأ المسلمون القتال إنما المشركون هم الذين بدأوا برمي السهام والنبال ، ثم تقدم ثلاثة منهم للمناجزة ، والمراد من المناجزة أي يتبارز الرجلان حتى يقتل أحدهما الآخر ، وهؤلاء الثلاثة من اسرة واحدة:
الأول : عتبة بن ربيعة .
الثاني : شيبة بن ربيعة .
الثالث : الوليد بن عتبة
خاتمة آية ببدر
بعد الأمر للمسلمين بتقوى الله والخشية منه في السر والعلانية أختتمت آية البحث بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]لبيان قانون وهو وجوب شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة النصر في معركة بدر ، وهذا الوجوب ليس خاصاً بالبدريين إنما هو شامل لكل مسلم ومسلمة لوجوه :
الأول : أصالة العموم والإطلاق في الأمر القرآني إلا مع الدليل على التقييد ، كما في قوله تعالى في كفارة الظهار[فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ] ( )إذ قيدت الآية الصيام بالتتابع .
وقد يقال يدل ظاهر الآية على إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين اشتركوا في معركة بدر ، وأنها تخصهم دون غيرهم ، لما ورد في تعريف التخصيص بأنه قصر العام على بعض أفراده، لدليل متصل من ذات الآية .
والجواب الأصل في الخطاب القرآني إرادة عموم المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
الثاني : ترشح منافع فضل الله في معركة بدر على أجيال المسلمين .
الثالث : شمول الشكر لله عز وجل على النصر في معركة بدر حتى للذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذات المعركة ثم تابوا ، وهو من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (إِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا) ( ).
الرابع : قانون الإنقطاع إلى الشكر لله عز وجل برزخ دون التعدي .
الخامس : تنمية ملكة الشكر لله عز وجل عند المسلمين .
السادس : دلالة شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة النصر في معركة بدر على أمور :
الأول : حب المسلمين لله عز وجل .
الثاني : تفقه المسلمين في الدين.
الثالث : التدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية بلحاظ أن معركة بدر تتضمن عدداً منها ، ومنه النصر المبين على جيوش المشركين مع التباين في العدد والعدة .
الرابع : إقرار أجيال المسلمين المتعاقبة بأن النصر في معركة بدر من عند الله سبحانه ، وبمدد منه تعالى .
الخامس : معرفة قانون وهو عدم وجود ثمة مسافة أو وقت بين نزول الأمر من عند الله عز وجل وبين تنجزه ، فمع البعد الشاسع بين السماوات والأرض ، ما تكشف عنه الدراسات العلمية في باب الفضاء فان الملائكة نزلوا لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بطرفة عين ، قال تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] ( ) .
وتدل خاتمة الآية أعلاه على التداخل والتقارب بين أفراد ملك الله عز وجل ، وأنه سبحانه قادر على إنزال ملائكة السماء إلى الأرض بطرفة عين، وقد كان جبرئيل عليه السلام ينزل بالآية القرآنية عند تحقق واقعة تكون سبباً لنزولها ، ومنهاجاً حاضراً بخصوصها ليبقى قانوناً في الأرض بلحاظ أن المدار على عموم المعنى ، وليس سبب النزول ، وكذا في قوله تعالى في خاتمة آية البحث [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] فان الخطاب في الآية لكل المسلمين والمسلمات ، وبعثهم على الشكر لله عز وجل في كل موضوع ونعمة عامة أو خاصة .
وتدل خاتمة آية البحث على قانون وهو: الشكر لله عز وجل من رشحات التقوى .
ولبيان المائز بين المؤمنين والمشركين ، فقد يشكر مشركو قريش الله عز وجل ، ولكن شكرهم هذا لا يترتب عليه الثواب لأنهم يشركون الأصنام والأوثان مع الله في العبادة ، ويخافون منها ويرجون نوالها.
ليتجلى قانون مصاحبة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو وجود أمة دافعت وسقط منها شهداء من أجل كلمة التوحيد ، وشكر الله عز وجل من منازل التقوى ، قال تعالى [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] ( ) .
وتبين الآية قوانين :
الأول : قانون إن الله يحب أن يُشكر .
الثاني : قانون فضل الله في جعل أمة من الموحدين يشكره كل واحد منهم عدة مرات في اليوم في الصلاة اليومية والنوافل .
الثالث : قانون تعاقب أجيال أمة تشكر الله عز وجل كل يوم.
الآية السادسة
قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ]( ).
ابتدأت الآية بالخطاب وبلغة الماضي [قَدْ كَانَ] ويحتمل الضمير (كم) الوارد في الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عموم والمهاجرين والأنصار .
الثاني : المقصود الذين كفروا خاصة وأن الآية السابقة قد ذكرتهم وبصيغة الأمر من الله الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإنذارهم وزجرهم عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيان سوء عاقبتهم بقوله تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ]( ).
الثالث : توجه الخطاب في الآية إلى أجيال المسلمين .
الرابع : إرادة أهل زمان التنزيل ليزداد المسلم إيماناً وينزجر الكافر ، ويتوب إلى الله عز وجل ، وهو من لطف الله بالناس وسبل تقريبهم إلى منازل الهدى والإيمان.
الخامس : توجه الخطاب في الآية إلى الناس جميعاً في أجيالهم المتعاقبة .
والمختار هو الأخير ، ففي كل يوم تطل هذه الآية على الناس ، وهذا التجدد اليومي في الخطاب القرآني من فضل الله بوجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة قراءة القرآن سبع عشرة مرة في اليوم ، وما يترشح عن هذه التلاوة من التدبر العام في مضامين آيات القرآن ، سواء التي تتلى في الصلاة أو خارجها .
وجاءت آية بتسمية لقاء المسلمين والمشركين يوم بدر بأنهم جمعان ، قال تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).+
ولم يرد كل من لفظ (التقتا) (كافرة) (مثليهم) في القرآن إلا في آية البحث ، ولم تعين الآية الفئتين بالاسم إنما ذكرتهما بالوصف التضاد ولم تذكر الآية تأريخ وموضع الآية .
والمراد هو لقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار ضد المشركين في معركة بدر في اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة إذ يقاتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه البدريون من وجوه :
الأول : في سبيل الله .
الثاني :الدفاع عن النبوة عن التنزيل .
الثالث : إزاحة عبادة الأوثان من الأرض , من منازل الدفاع ,ويحارب المشركون من أجل قتل خاتم النبيين وإندثار آيات وسور القرآن التي نزلت ، والمنع من نزول الآيات والسور الأخرى من القرآن ، إذ اختص الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بنزوله ، ولا يغادر الدنيا إلا وقد نزل القرآن كله .

معنى الفئة
هي الطائفة و(الجماعة من الناس) ( ) والجمع فَئون ، وورد عن (أبي سعيد الخدري قال حدثني من هو خير مني أبو قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمار بؤسا لك يا بن سمية ومسح الغبار عن رأسه تقتلك الفئة الباغية) ( ).
ومن معاني آية البحث (قد كان لكم آية في فئتين فئة فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) وهل من معاني لفظ (الآية) أن المراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده هو الفئة ، الجواب لا دليل عليه .
نعم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمة وآية في معركة بدر من جهات:
الأولى : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية عظمى في العالمين .
الثانية : حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المعركة بنفسه .

الثالثة : قيادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمعركة آية لأنه لا يأمر أو ينهى إلا من الوحي ، قال تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الرابعة : منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه من الإبتداء بالقتال ، ومن الرد على السهام التي توالت على معسكره .
الخامسة : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفين ، ونداؤه (قُولُوا لَا إلَهَ إلّا اللّهُ تُفْلِحُوا)( )، ليكون بقول المشركين لكلمة التوحيد هذه وجوه منها :
الأول : سلامة من القتل لأربعة عشر من الصحابة ، وسبعين من المشركين.
الثاني : النجاة من أسر سبعين آخرين من المشركين ، ومن مجئ رجال قريش إلى المدينة بالبدل والعوض المالي لفكاك الأسرى ، فبدل أن يأخذوا الأموال إلى الشام للإستيراد والتسوق وقضاء ديون التجار هناك ، صاروا يحملون الذهب والفضة لفكاك أسراهم في معركة بدر ، وهذا المجئ من مصاديق رفع الذلة عن المسلمين الذي دلّت عليه آية [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ).
لقد أرادوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر فصاروا يأتون بالأموال إلى المدينة عوضاً وبدلاً عن الأسرى ، بينما تجار الشام واليمن يتطلعون لمجيئهم وأموالهم ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) .
الثالث : عدم لحوق الخزي بمشركي قريش إلى يوم القيامة بخصوص هزيمتهم في بدر .
الرابع : الهداية إلى سبل الإيمان ، وليس من حصر لمصاديق الفلاح في قول كلمة التوحيد ، وهل منها نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يومئذ في معركة بدر.
الجواب نعم ، ليكون تقدير نداء النبي يومئذ قد قلنا لا إله إلا الله وجاءنا النصر .
لبيان أن قوله تعالى [يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ] ( ) ينصر الفئة التي تقول لا إله إلا الله ، وهذا النصر من مصاديق الفلاح والنجاح في الدنيا ، أما الثواب في الآخرة فلا يعلم سعته وطول أمده إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) فنعم الله عز وجل على أهل الإيمان في الآخرة أكثر وأعظم منها في الدنيا .
قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ]( ) لقد وردت الآية السابقة بصيغة الخطاب والأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بانذار الكفار بكلمتين هما من جوامع الكلم إذ تضمنا الإخبار عن أمرين :
الأول : هزيمة الكفار في الدنيا وإن تكرر هجومهم على المدينة المنورة ، ومنه هزيمتهم في معركة بدر ، وخيبتهم وحسرتهم وذلهم في معركة بدر والخندق وحنين .
وصحيح أن معركة حنين لم تقع بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقريش ، إنما جرت أحداثها بمباغتة هوازن وثقيف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلا أنها أكدت لقريش مسألة وهي لو أنهم قاتلوا عند فتح مكة للحقتهم الهزيمة والذل والخسارة .
ومن اللطف الإلهي بمكة وأهلها مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعشرة آلاف من المسلمين لفتحها لبعث الخوف والفزع في قلوب المشركين ، واختيارهم الإمتناع عن القتال ، وهو الذي حدث ليكون من معاني قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، تيسير فتح مكة من غير مناجزة ومبادرة كما حديث في معركة بدر وأحد ومن غير قتال كثير .
الثاني : سوء عاقبة الكفار في الآخرة باقامتهم في نار جهنم وهي المهاد الذي مهدوه لأنفسهم ، وفي الآية إنذار للمشركين من غزو المدينة .
وعن مقاتل في الآية [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا]( )، من أهل مكة يوم بدر [سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ]( )، فى الآخرة ، [وَبِئْسَ الْمِهَادُ] ( )، يقول : بئسما مهدوا لأنفسهم ، فقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم للكفار يوم بدر : إن الله غالبكم ، وسوف يحشركم إلى جهنم ، فقال أبو جهل : يا ابن أبي كبشة ، هل هذا إلا مثل ما كنت تحدثنا به( ).
ومن إعجاز القرآن نزول آيات الوعيد بعذاب النار للكفار في الآيات المكية والمدنية ، لإصرارهم على الجحود والنفاق والظلم والفسق ، ومحاربة الحق .
وهذا الوعيد سالم من النسخ ، نعم ليس من حد لسلطان العفو والمغفرة من عند الله ، وتفضله بقبول الشفاعة ، إلا ما غادر الدنيا على الكفر ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ).
قانون مضاعفة عدد الملائكة في الميدان
لقد أنعم الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بمضاعفة عدد الملائكة في معركة أحد إذ نزل يومئذ ثلاثة أضعاف الذين نزلوا في معركة بدر ، وفيه تثبيت متقدم زماناً للمسلمين في مقامات الإيمان عند هجوم المشركين في معركة الخندق .
فتفضل الله عز وجل وضاعف عدد الملائكة لبيان قانون تعليقي وهو إن جاء المشركون بأعداد إضافية من المقاتلين فان الله عز وجل سيزيد في أعداد المدد من الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، كما في قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِين] ( ) وجاءت الآية أعلاه بإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بنزول الملائكة مدداً لهم ، إذ أنهم سرعان ما يصدقون بهذا النزول من جهات :
الأولى : صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يخبر عنه .
الثانية : أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي عن الله عز وجل.
الثالثة : استصحاب نزول الملائكة في معركة بدر .
الرابعة : لما كان عدد المشركين في معركة أحد ثلاثة أضعاف عددهم في معركة بدر فان الله تفضل بنزول ثلاثة أضعاف الملائكة في معركة بدر .
وهل تدل الآية أعلاه ونزول ثلاثة آلاف ملك لنصرة المسلمين في معركة أحد على أن المسلمين اتقوا الله بعد معركة بدر ، كما ورد في آية البحث وقوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
الجواب نعم ، لتدل الآية بالدلالة التضمنية على الإخبار عن إستجابة المسلمين لأمر الله عز وجل بتحليهم بالتقوى والخشية من الله عز وجل ، وأن الإستجابة لأمر الله وتعاهد الشكر له سبحانه باب لنزول فضل عظيم من عند الله ، وفي التنزيل [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
وحينما أخبر الله عز وجل الملائكة بخلق آدم وجعله [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) احتجوا بفساد شطر من الذرية ، كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( فاجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( لينزل الملائكة يوم بدر ويعلموا صفحات من علم الغيب بأن الله عز وجل يبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بسنن التقوى وللحرب على الفساد والإرهاب ولإستئصال الفساد من الأرض ، وأن ينزل ذات الملائكة لنصرته على المفسدين الضالين .
ومن وجوه تقدير قوله تعالى في خاتمة آية [ببدر] [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) وجوه :
الأول : لعلكم تشكرون الله من منازل التقوى .
الثاني : لعلكم تشكرون الله في كل يوم إلى يوم القيامة .
الثالث : لعلكم تشكرون الله على النصر في معركة بدر ، فيدفع عنكم المشركين .
الرابع : لعلكم تشكرون لتتخذوا الشكر منهاجاً وسنة .
الخامس : لعلكم تشكرون فيتعلم منكم الناس الشكر لله عز وجل .
لماذا طلب مبارزة المهاجرين
وحينما نادى عتبة وأخوه وابنه النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج لهم أكفاءهم من قريش لم يخرج لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أقرب الناس إليه رحماَ ونسباً من المهاجرين من بيوت وقبائل قريش .
إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قم يا حمزة بن عبد المطلب، قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا علي بن أبي طالب؛ فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم !
قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال علي: علي، قالوا: نعم أكفاءٌ كرام) ( ).
وهل كان طلب المشركين الثلاثة بمبارزة خصوص رجال من قريش باقتراح ورأي منهم أم كان برأي قادة جيش المشركين كأبي جهل ، المختار هو الثاني ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ] ( ).
إذ كان قصد رؤساء قريش من هذا الشرط في المبارزة على وجوه :
الأول : إعطاء رسالة بأن المشركين هم الذين يتحكمون بسير ومجريات المعركة .
الثاني : الإشارة إلى أن عداوة كفار قريش مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين .
الثالث : حرص قريش على عدم إثارة الأوس والخزرج ضدهم ، ولو في خصوص ابتداء المعركة ، لقد سعوا بدهاء ومكر إلى تحييد الأنصار ، فخاب سعيهم .
الرابع : إرادة إدخال الحزن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل عدد من أرحامه ورجال قريش الذين هاجروا معه إلى المدينة .
الخامس : جعل أهل مكة يعلمون بوقوع القتل في صفوف المسلمين ، وإرتفاع النياحة عند ذوي المهاجرين في مكة ،والشماتة بهم ولم يعلموا أن قانون [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] يتغشاهم .
السادس : يوحي قتل عدد من بني هاشم وعامة المهاجرين بأن المشركين انتصروا في المعركة ، فاخزاهم الله عز وجل بذات المبارزة ، وبالنتيجة العامة للقتال ، فكانوا بين قتيل أو أسير أو فار منهزم .
وتنزل آيات القرآن بالإخبار عن تحقيق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه النصر ونسبته إلى الله عز وجل .
ومن إعجاز القرآن أن الملائكة لم ينزلوا إلا بعد أن تضرع النبي بالدعاء وأستغاث بالله ، فلم ينم ليلة معركة بدر لأنها الفيصل بين الإيمان والكفر ، لذا سمّاها الله عز وجل يوم الفرقان ، قال تعالى [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) .

معركة بدر
وجاءت السنة النبوية ببيان وتفصيل لوقائع المعارك التي ذكرت في القرآن وهي :
الأولى : معركة بدر وبهذا وردت في القرآن ، وهي تشريف وإكرام للمسلمين ، وتسمى أيضاً :
الأول : معركة بدر الكبرى .
الثاني : بدر القتال للتمييز بينها وبين بدر الموعد التي لم يقع فيها قتال .
الثالث : يوم الفرقان .
الرابع : بدر الكبرى .
الخامس : بدر حنين ، لوجود عين في الموضع بهذا الاسم ، ولكن وردت الأخبار بأن عين حنين في مكة ، وقيل سميت بدراً لإحاطة الجبال بأرضها التي صارت تشبه القمر عند تمامه خاصة وأنها أرض سهلة .
السادس : اسم بدر الصفراء نسبة لوادي الصفراء .
ووقعت معركة بدر في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية الشريفة ، وهي أول معارك الإسلام ، ونزلت آيات عديدة بخصوصها وتوثيقها (عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: سورة الأنفال؟
قال نزلت في بدر) ( ).
وورد ذكر معركة بدر في سورة آل عمران ، وسورة الأنفال وغيرهما ، فهي أول معارك المسلمين ، ونزل فيها نصرهم من عند الله عز وجل لتبقى منافعه تتجلى وتتجدد وتستحدث منها أفراد إلى يوم القيامة ، وقد تقدم ذكر عدد من هذه الآيات منها الآية التي ورد فيها اسم بدر على نحو التعيين بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
استقراء المسائل من الدفاع
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وفيه معارك الإسلام الأولى ، إذ ورد ذكرها في القرآن بما يمكن للعلماء استنباط المواعظ والقوانين والدروس والأحكام والحكم من وجوه :
الأول : مقدمات المعركة .
الثاني :وقائع المعركة .
الثالث : موضع المعركة .
الرابع : نتائج المعركة .
ولو طبقت القوانين الدولية في هذا الزمان عليها لوجدت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا مستضعفين ، وليس عندهم ما يسبب الإغارة والهجوم المتكرر عليهم ، وأنهم انتصروا بمعجزة من عند الله ، ونستقرأ المسائل من هذه المعارك من جهات :
الأولى : تؤخذ كل آية من آيات الدفاع هذه على نحو مستقل .
الثانية : التحقيق والتدبر بالجمع بين آيتين من آيات الدفاع .
الثالثة : جمع آيات الدفاع واستقراء القوانين والمسائل والشواهد منها .
الرابعة : الجمع بين آية دفاع وآية سلم واستخراج الدلائل من هذا الجمع .
الخامسة : الصلة بين آية دفاع والأحكام والسنن بلحاظ أن الدفاع مقدمة لبيان وتثبيت الأحكام والعمل بها .
قانون آيات معركة أحد تخويف للمشركين من معركة الخندق
لقد كانت معركة أحد شاهداً على شدة محاربة الكفار للنبوة والتنزيل ، إذ استعدت قريش لها لمدة عام كامل من حين هزيمتهم في معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، مع أن هذه المعركة ونتائجها تلح عليهم بلزوم الصبر والرضا بالهزيمة الواحدة ، وعدم الإلحاح في القتال والتعدي ، فهو مبغوض عقلاً وإن قاد إلى النصر في شطر منه ، ومن قوانين النبوة التنزه عن هذا الإلحاح ، ويتجلى هذا التنزه في آيات القرآن الخاصة بكل من :
الأولى : معركة بدر ، ومنها قوله تعالى [إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
الثانية : معركة أحد ، ومنها قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
الثالثة : معركة الأحزاب ومجئ سورة كاملة باسمها .
الرابعة : معركة حنين , والتي وقعت في شهر شوال من السنة الثامنة بعد فتح مكة بنحو شهر .
ويدل تحذير وإنذار عامة الناس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من تحشيد قريش الجيوش كما في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ) على أن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد القتال ولا يطلبه ، ولكنه وأصحابه أظهروا الثبات في منازل الإيمان ، فأكرمهم الله في الحال بأن رجعوا بسلام إلى المدينة المنورة , وسمي خروجهم هذا خلف العدو غزوة حمراء الأسد , إذ صرف الله عز وجل المشركين وشرورهم بعد أن أظهروا الندامة لفشلهم في تحقيق غاياتهم الخبيثة في معركة أحد.
لقد بلغ النبي أن جيش قريش الذي انسحب من معركة أحد بخيبة فصاروا رؤساؤهم يتلاومون بينهم خاصة مع كثرة جيشهم ، والأموال الطائلة التي انفقوها على الجيش وأكثرهم مستأجرون فهمّوا بالرجوع للهجوم على المدينة المنورة خاصة مع كثرة أفراد الجيش وهم لم يحققوا غاياتهم الخبيثة و(عن ابن عباس قال: لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمدا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا.
فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فندب المسلمين، فانتدبوا)( ).
وعن عروة قال : قدم رجل فاستخبره النبي صلى الله عليه و سلم عن أبي سفيان . فقال : نازلتهم فسمعتهم يتلاومون يقول بعضهم لبعض : لم تصنعوا شيئا أصبتم شوكة القوم وحدهم ثم تركتموهم ولم تبيدوهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم .
فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه ، وبهم أشد القرح( ) ، بطلب العدو وليسمعوا بذلك .
قال : لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال .
فقال عبد الله بن أبي : أركب معك قال : لا .
فاستجابوا لله والرسول على ما بهم من البلاء . فانطلقوا فطلبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى بلغ حمراء الأسد ( ).
وذكر أن معبدا الخزاعي مرّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بحمراء الأسد .
وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله بمكة صغوهم معه لا يخفون عليه شيئا كان بها . ومعبد يومئذ مشرك . فقال : يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله عافاك فيهم( ) .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينئذ في حمراء الأسد والتي تبعد عن المدينة نحو (20) كم ، فذهب معبد إلى أبي سفيان ومن معه ، وكانواوا في الروحاء ، وقد تناجوا بالرجوع إلى المدينة للغزو .
فلما رأى أبو سفيان معبدا قال : ما وراءك قال : محمد قد خرج في طلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط . قال : ويلك ما تقول قال : والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل . قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم . قال : فإني أنهاك عن ذلك والله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا . قال : وما قلت قال :
كادَتْ تُهدُّ منَ الأصوات رَاحلتي … إذْ سَالَت الأرضُ بالجُرْدِ الأبابيل
تَرْدى بأسْدٍ كرام لا تَنَابلة … عنْد اللّقاء ولا ميل مَعَازيل
فَظَلْتُ عَدْوا أظُنُّ الأرض مائلةً … لَمَّا سَمَوا برئيس غير مَخْذول …
فقلتُ: ويل ابن حَرْب من لقائكُمُ … إذا تَغَطْمَطَت البطحاء بالجيل
إني نذير لأهل البَسْل ضَاحيَةً … لكل ذي إرْبَة منهم ومعقول …
من جَيْش أحمدَ لا وَخْشٍ تَنَابِلة … وليس يُوصف ما أنذرت بالقيل( ) قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه . ومر ركب من عبد القيس فقال أبو سفيان : أين تريدون قالوا : المدينة لنمتار . فقال : أما أنتم مبلغون عني محمدا رسالة وأحملكم على إبلكم هذه زبيبا بعكاظ غدا إذا وافيتموه قالوا : نعم .
قال : إذا جئتم محمدا فأخبروه أنا قد أجمعنا الرجعة إلى أصحابه لنستأصلهم .
فلما مر الركب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بحمراء الأسد أخبروه . فقال هو والمسلمون : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فأنزلت [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ]( )،الآيات ( ).
وفيه زجر للمشركين عن العودة للقتال مرة أخرى ، وهل يضرهم ترك الغزو على المدينة الجواب لا ، ومن آيات معركة أحد ما يدل على بعث الخوف والرعب في قلوب المشركين ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
وجاءت الآية بحرف المستقبل القريب (السين) في [سَنُلْقِي] ليكون انصرافهم عن إعادة الكرة والرجوع إلى غزو المدينة من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي] وعدم مجئ الآية بـ(سوف نلقي) .
لبيان أن هذا الرعب وفورية القائه في قلوب كفار قريش ومن والاهم وحضر معهم معركة أحد من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، من جهات :
الأولى : رحمة الله بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه فما ألقاه الله عز وجل من الرعب في قلوب المشركين من أسباب عجزهم الإضرار به وقتله ، قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ( ).
الثانية : سرعة إنسحاب المشركين.
الثالثة : وسيبقى الإعجاز وشآبيب الرحمة جلية في معركة أحد عند معرفة إنسحاب ثلاثة آلاف من المشركين في نفس يوم معركة أحد مع أن الغلبة كانت في جولات لهم ، فلم يعط أبو سفيان قائد الجيش أمراً عاما ً للهجوم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خاصة بعد إنكشاف أكثر أصحابه .
ولما قَتَلَ إبن قَمئة مصعب بن عمير ظنّ أنه قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنادى : قد قتلت محمداً ، وسرعان ما شاع هذا الخبر في الجمعين ، فصار الصحابة على أقسام :
الأولى : جماعة تحيط برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتدافع عنه ومنهم بعض النساء مثل أم عمارة .
الثانية : فر بعض الصحابة إلى المدينة .
الثالثة : صعدت طائفة فوق الجبل .
الرابعة قال بعضهم لو كان نبياً ما قتل .
الخامسة : تنحت طائفة من الصحابة جانب المعركة .
السادسة : طائفة تقاتل في مواضعها سواء في الميمنة أو الميسرة.
السابعة : اختار بعضهم الشهادة .
وروى الحاكم عن جابر بن عبد الله (قال: فقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمزة حين فاء الناس من القتال، فقال رجل: رأيته عند تلك الصخرات وهو يقول: أنا أسد الله وأسد رسوله، اللهم أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء – يعني أبا سفيان أصحابه – وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء بانهزامهم.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحوه ، فلما رآى جثته بكى) ( ).
(وروي حميد عن أنس أن عمه أنس بن النضر هذا غاب عن قتال يوم بدر فقال غبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المشركين لئن أشهدني الله قتالا ليرين الله ما أصنع .
فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين وأعتذر إليك مما جاء به هؤلاء يعني المسلمين .
ثم مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ فقال أي سعد والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد واها لريح الجنة .
فقال سعد فما استطعت يا رسول الله ما صنع
فوجدناه بين القتلى وبه بضع وثمانون جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم وقد مثلوا به حتى عرفته أخته ببنانه .
قال أنس كنا نقول أنزلت هذه الآية [من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه] ( ) فيه وفي أصحابه) ( ).
وقال (كعبُ بنُ مالك : كنت أولُ من عرف رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين فناديت بأعلى صوتي : يا معشرَ المسلمين هذا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه وحملوه حتى كشفوا عنه المشركين) ( ).
لقد صار الرعب الذي ملأ قلوب المشركين برزخاً دون مواصلتهم الهجوم ، ليبقى نزول آيات القرآن مستمراً ومتوالياً بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم أحد .
الرابعة: من الرحمة العامة لما أصاب المشركين من الرعب يوم أحد وقف القتال والقتل في صفوف الصحابة ، وفي صفوف المشركين أنفسهم ، ليكون هذا الوقف سبباً لتوبة شطر منهم ودخولهم الإسلام ، وصار بعضهم قادة وأمراء في الإسلام .
(قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَجَمِيعُ مَنْ قَتَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ رَجُلًا) ( ) وكان عدد قتلى المسلمين سبعين شهيداً.
الخامسة : من الرعب الذي لحق المشركين عودتهم إلى مكة خائبين من وجوه :
الأول : مقدمات هذه الخيبة التي وردت في قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ].
الثاني : حال الجزع عند المشركين في ميدان المعركة .
الثالث : إقرار رؤساء الشرك بأنهم لم يحققوا أي من غاياتهم في المعركة ، وهذا الإقرار شاهد على أنهم هم الغزاة ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار في حال دفاع .
الرابع : ما ترتب على خيبة المشركين وندمهم على كثرة الإنفاق على الجيوش وظهور النقص في إبل التجارة .
السادسة : قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) فهل للرعب الذي ملأ قلوب المشركين من موضوعية بهذا القطع وهلاك طائفة من المشركين ، الجواب نعم ، وهذا إنذار للكف عن العدوان وغزو المدينة .
ولم يكن بنو عبد الدار يوم معركة أحد كلهم مع المشركين وحملة لوائهم ، بل كان عدد منهم من المهاجرين وإلى جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاركوا في حمل لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ كان مصعب بن عمير حاملاً اللواء فاقبل عليه ابن قَمئة فضرب يده اليمنى فقطعها وأخذ اللواء بيده اليسرى ، وحنى عليه فقام ابن قَمئة بقطع يده اليسرى (فَحَنَى عَلَى اللّوَاءِ وَضَمّهُ بِعَضُدَيْهِ إلَى صَدْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ وَمَا مُحَمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ الْآيَةَ .
ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِ الثّالِثَةَ فَأَنْفَذَهُ وَانْدَقّ الرّمْحُ وَوَقَعَ مُصْعَبٌ وَسَقَطَ اللّوَاءُ وَابْتَدَرَهُ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّار ِسُوَيْبِطُ بْنُ حَرْمَلَةَ وَأَبُو الرّومِ ، وَأَخَذَهُ أَبُو الرّومِ فَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ حَتّى دَخَلَ بِهِ الْمَدِينَةَ حِينَ انْصَرَفَ الْمُسْلِمُونَ)( ).
وفيه شاهد بأنه حتى حامل لواء المسلمين لا يريد القتال أنما المشركون هم الذين يسرفون في القتل والتعدي ، لقد كانت وقائع معركة أحد إنذاراً لقريش وحلفائها ، وقبائل الكفار في الجزيرة ، وزاجراً لهم عن تجهيز الجيوش ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذا تأخرت معركة الخندق بعد معركة أحد لمدة سنتين ، بينما لم يكن بين معركة بدر وأحد سوى ثلاثة عشر شهراَ .
ولقد زادت معركة أحد المسلمين إيماناً وتفقهاً في الدين ، وأقتبسوا منها دروساً في الصبر ، وأدركوا لزوم طاعة الله والرسول في ميدان الدفاع ، وهل كانت آيات معركة بدر وآيات معركة أحد سبباً لإنصراف كثير من المشركين عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أو عن بذل الوسع في هذه المحاربة ، الجواب نعم .
شواهد من الخندق
عندما أقبلت خيول الأحزاب قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بحفر الخندق ، ثم اجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء.
وأخرج أبو نعيم عن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ليلة الاحزاب من يأتيني بخبر القوم جعله الله رفيقي في الجنة ثلاثا فلم يجبه احد فنادى يا حذيفة فاجابه .
فقال أما سمعت صوتي قال بلى قال فما منعك ان تجيبني قال البرد قال لا برد عليك قال فذهب عني البرد .
فذهب فأتاه بخبر القوم فلما رجع عاد البرد إليه كما كان يجده .
واخرج الشيخان عن عبد الله بن ابي اوفى قال دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الأحزاب فقال اللهم منزل الكتاب سريع الحساب أهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم
واخرج أيضا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول لا إله إلا الله وحده أعز جنده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده فلا شيء بعده .
وأخرج ابن سعد عن سعيد بن جبير قال لما كان يوم الخندق اتى جبرئيل ومع الريح فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رأى جبرئيل ألا أبشروا ثلاثا فأرسل الله عليهم الريح فهتكت القباب وكفأت القدور ودفنت الرحال( ) وقطعت الأوتاد فانطلقوا لا يلوي احد على احد .
وأنزل الله تعالى إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا جنودا لم تروها( ).
وأخرج ابن سعد عن ابن المسيب قال حصر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب وأصحابه بضع عشرة ليلة حتى خلص إلى كل امرئ منهم الكرب وحتى قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم اللهم إني انشدك عهدك ووعدك اللهم انك ان تشأ لا تعبد.
واخرج ابن سعد عن جابر بن عبد الله قال دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد الاحزاب يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الاربعاء بين الصلاتين الظهر والعصر فعرفنا البشر في وجهه قال جابر فلم ينزل بي أمر مهم غائظ إلا توخيت تلك الساعة من ذلك اليوم فدعوت الله فأعرف الإجابة ( ).
بعد إنسحاب الأحزاب من حصار المدينة
لما انسحبت قريش وغطفان دخل حيي بن أخطب في حصن بني قريظة ، وجرت محاورة لعمرو بن سُعدى الذي امتنع عن الغدر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد خرج في ليلة ومرّ على حرس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان عليهم تلك الليلة محمد بن مسلمة ، فلما رآه قال : من هذا .
قال : انا عمرو بن سُعدى ، وكان قوله: لا أغدر بمحمد أبداً) ( ) مشهوراً ومعروفاً .
فقال محمد بن مسلمة : اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام ثم خلى سبيله) ( ) .
فخرج على وجهه حتى أتى باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة تلك الليلة (فَذُكِرَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ شَأْنُهُ فَقَالَ ذَاكَ رَجُلٌ نَجّاهُ اللّهُ بِوَفَائِهِ وَبَعْضُ النّاسِ يَزْعُمُ أَنّهُ كَانَ أُوثِقَ بِرُمّةِ فِيمَنْ أُوثِقَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَة َحِينَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَأَصْبَحَتْ رُمّتُهُ مُلْقَاةً وَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِيهِ تِلْكَ الْمَقَالَةَ) ( ).
والمراد من الرمة قطعة الحبل البالية التي شدّ بها .
كما بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسلاً ورسائل إلى قريش يبين لهم سخط الله عز وجل عليهم ، ورجوعهم خائبين ، ويدعوهم للنجاة في النشأتين باختيار الإيمان ، لقد كانت قريش تبعث رسائل التخويف والوعيد إلى النبي وأصحابه .
ومع أن قريشاً على الباطل ، فلم يسكت عنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إنما كان يجيبهم ، ولكن ليس بلغة الوعيد بالهجوم والغزو ، إنما كان يبين لهم أن حربهم على الإسلام تضرهم ، إنما تجب عليهم التوبة والإنابة .

جواز الإفطار في نهار 20ساعة أو أكثر ثم القضاء
هناك مدن في السويد والنرويج ، وفي شمال اسكتلندا ببريطانيا ، ومناطق شمال الخط 48 الأستوائي ، قد يتجاوز النهار فيها (21) ساعة في بعض أشهر السنة .
أما القول باتباع هذه المدن توقيت مكة أو المدينة أو كربلاء فلا أصل له ، والذي يستطيع الصوم في النهار الطويل ويريد صومه يصح منه ، وله أن يأكل ويشرب إلى ما قبل ساعة وربع من طلوع الشمس لعدم استبانة ضوء الفجر ثم يصلي ، ويجوز الإفطار أيام شهر رمضان والقضاء فيما بعد ليس لعلة إلا لطول النهار في استغراقه لعشرين ساعة أو أكثر .
والإفطار في رمضان والقضاء بعده موافق لقوله تعالى [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ] ( ) الذي يجب أن يحافظ عليه الصائمون في مشارق الأرض ومغاربها .
أما المدن والمناطق التي لا تغيب فيها الشمس نهائياً فيكون العدد 12 ساعة صيام و12 ساعة إفطار .
وقال تعالى [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] ( ) أي يتحملونه بمشقة ، والمختار ليس هناك وقت إمساك قبل الفجر بسبع أو عشر دقائق ، فيجوز الأكل وشرب الماء قبل دقيقة من أوان طلوع الفجر .
هناك فارق رتبي بين النظرية والإدارة من جهة وبين التطبيق ، فعندما يفتي عالم برجوع الأمر إلى توقيت مكة أو كربلاء ليفطر في الساعة الثالثة عصراً مثلاً بتوقيت النرويج والشمس لا تزال مرتفعة فان الصائم لا يقتنع بهذا ، لذا لم تجد هذه الفتاوى استجابة من غالبية المكلفين ، وعدم الإستجابة هذا من إعجاز القرآن الذاتي والغيري ، إذ خاطب القرآن المكلفين أنفسهم بوجوب الصوم ، ولم يخاطب العلماء وحدهم ، فقال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
وتقدير الآية على وجوه منها :
الأول : يا أيها الذي آمن كتب عليك الصيام .
الثاني :يا أيتها التي آمنت كتب عليك الصيام .
وقال تعالى [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ] ( ) .
وتأتي الفتاوى مبينة بأحكام الصيام ، وكيفيته وأوانه وشرائطه حسب الكتاب والسنة .
ويدل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) وتقدير الآية : كافة للناس في كل زمان ، وفي أي بلاد كانوا فقد ذكر الله عز وجل الصيام بأمور :
الأول : ابتداء الصوم برؤية هلال شهر رمضان .
الثاني : وجوب إكمال العدة .
الثالث : كون الصيام أياماً معدودات .
الرابع : جواز الإفطار والقضاء فيما بعد للمريض والذي يخشى المرض ، قال تعالى [وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ) وهل يلزم الذي يشق عليه الصيام في النهار الطويل السفر مسافة شرعية كل يوم ، الجواب لا ، قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( ).
الخامس : سقوط الصوم عن الذين يتحملونه بمشقة كالشيخ والشيخة مع فدية مدّ عن كل يوم ، وهو كيلو إلا ربع من أوسط ما يطعم أهله .
و(عن جابر : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال ربنا : الصيام جنة يستجن بها العبد من النار ، وهو لي وأنا أجزي به . قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الصيام جنة حصينة من النار) ( ) .
روي الحديث أيضاً عن عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري ، والإمام الباقر عليه السلام وغيرهم .
والصيام عبادة لا يطلع عليها إلا الله عز وجل لأنها إمساك عن المفطرات في الجهر والخفاء ، ولأنها إمتناع عن ملذات الدنيا طاعة لله , وشوقاً إلى لقائه .
والصيام زكاة الأبدان ، وفيه صفاء للقلب ، ويميت الطبع الحيواني .
وقيل رمضان من أسماء الله تعالى ، ومنهم من يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رمضان شهر الله (وأخرج الأصبهاني من طريق الأوزاعي عن مكحول والقاسم بن مخيمرة وعبدة بن أبي لبابة قالوا : سمعنا أبا لبابة الباهلي ، وواثلة بن الأسقع ، وعبدالله بن بشر ، سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الجنة لتزين من الحول إلى الحول لشهر رمضان ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صان نفسه ودينه في شهر رمضان زوّجه الله من الحور العين ، وأعطاه قصراً من قصور الجنة ، ومن عمل سيئة ، أو رمى بها مؤمناً ببهتان ، أو شرب مسكراً في شهر رمضان أحبط الله عمله سنة .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اتقوا شهر رمضان لأنه شهر الله جعل لكم أحد عشر شهراً تشبعون فيها وتروون ، وشهر رمضان شهر الله فاحفظوا فيه أنفسكم) ( ).
وسُمي الشهر رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يدقها ويحرقها من حر الجوف وشدة العطش .
لماذا امتنعت قبائل عن عمرة الحديبية
لقد أوجست بعض القبائل الخوف والخشية من القتل وهجوم قريش , فامتنعت عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما دعاهم وهو في الطريق لإرادة العمرة في شهر ذي القعدة من السنة السادسة حيث تم صلح الحديبية , ومنهم قبيلة جهينة.
إذ استنفرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم ومُزينة وبنو بكر (فَاعْتَلَوْا وَتَشَاغَلُوا بِأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. يَقُولُ عَلَيْهِمْ مَا تَمَنّوْا وَظَنّوا، وَذَلِكَ أَنّهُمْ قَالُوا: إنّمَا خَرَجَ مُحَمّدٌ فِي أَكَلَةِ رَأْسٍ يَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مَوْتُورِينَ فَأَبَوْا أَنْ يَنْفِرُوا مَعَهُ)( ).
وفي هذا الخبر شاهد ومصداق لقانون هذا الجزء وهو (آيات الدفاع سلام دائم ) من وجوه :
الأول : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى العمرة من غير أسلحة وسيوف ودروع .
الثاني : إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم ألف وأربعمائة في الحديبية على بعد كيلو متر عن حدود الحرم ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الصلاة اليومية في الحرم .
الثالث : استنفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم القبائل لأداء العمرة ثقة بالله عز وجل ونصرة ودفعه شرور المشركين .
الرابع : عدم إكراه النبي صلى الله عليه وآله وسلم القبائل والأفراد على اللحوق به مع ما فيه من الأجر والثواب العظيم .
وعندما دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القبائل لأداء العمرة استحضروا أموراً :
الأول : شدة بطش قريش .
الثاني : حنق وغيظ قريش على كثرة قتلاهم في معارك الإسلام ، وعلى فضح التنزيل لقبيح أفعالهم .
الثالث : حسد الكفار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم للزيادة المتوالية في عدد الأصحاب الذين أظهروا التصديق بنبوته ، وهل كان عدد من بيوتات قريش تحسد بني هاشم على النبوة والتنزيل والهجرة ، ودولة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
الرابع : الخشية من إجهاز فرسان قريش على النبي وأصحابه الذين ليس معهم سلاح .
الخامس : زحف جيوش قريش وحلفائها في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، فلم تمر سنة على غزو عشرة آلاف من قريش ومن تابعهم للمدينة حتى توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة عقر دار قريش ليؤدي وأصحابه العمرة من غير إحتراز وإحتياط بحمل أسلحة ، لبيان صدق نبوته ، وتنجز وعد الله عز وجل ، قال تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا] ( ) .
ليبقى قوله تعالى [لاَ تَخَافُونَ] في الآية أعلاه وعداً من عند الله إلى المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
وفي ذم المنافقين الذين ظنوا أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سيقتلون نزل قوله تعالى [وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ] ( ).
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال (رَأَيْت يُحَنّةَ بْنَ رُؤْبَةَ يَوْمَ أُتِيَ بِهِ إلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلَيْهِ صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ وَهُوَ مَعْقُودُ النّاصِيَةِ .
فَلَمّا رَأَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَفّرَ وَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ فَأَوْمَأَ إلَيْهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ارْفَعْ رَأْسَك وَصَالَحَهُ يَوْمَئِذٍ وَكَسَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بُرْدًا يُمْنَةً وَأَمَرَ لَهُ بِمَنْزِلٍ عِنْدَ بِلَالٍ)( ).
قتال يوم في الخندق
عندما قُتل عمرو بن ود هرب عكرمة وألقى رمحه ، كما هرب هبيرة فلحقا بأبي سفيان الذي قال (هذا يومٌ لم يكن لنا فيه شيء، ارجعوا! فنفرت قريشٌ فرجعت إلى العقيق، ورجعت غطفان إلى منازلها، واتعدوا يغدون جميعاً ولا يتخلف منهم أحد.
لقد باتت قريش يعبئون أصحابهم، وباتت غطفان يعبئون أصحابهم، ووافوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخندق قبل طلوع الشمس. وعبأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وحضهم على القتال، ووعدهم النصر إن صبروا، والمشركون قد جعلوا المسلمين في مثل الحصن من كتائبهم فأخذوا بكل وجهٍ من الخندق.
فحدثني الضحاك بن عثمان، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله قال: قاتلونا يومهم وفرقوا كتائبهم، ونحوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتيبةً غليظةً فيها خالد بن الوليد، فقاتلهم يومه ذلك إلى هويٍ من الليل، ما يقدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أحدٌ من المسلمين أن يزولوا من مواضعهم، وما يقدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على صلاة الظهر ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء .
فجعل أصحابه يقولون: يا رسول الله، ما صلينا! فيقول: ولا أنا والله ما صليت! حتى كشفهم الله تعالى فرجعوا متفرقين.
فرجعت قريشٌ إلى منزلها، ورجعت غطفان إلى منزلها، وانصرف المسلمون إلى قبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأقام أسيد بن حضير على الخندق في مائتين من المسلمين، فهم على شفير الخندق إذ كرت خيلٌ من الشمركين يطلبون غرةً، عليهم خالد بن الوليد؛
فناوشوهم ساعةً ومع المشركين وحشي، فزرق الطفيل بن النعمان من بني سلمة بمزراقه فقتله، فكان يقول: أكرم الله تعالى حمزة والطفيل بحربتي ولم يهنى بأيديهما .
فلما صار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى موضع قبته أمر بلالاً فأذن.
وكان عبد الله بن مسعود يقول: أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاذن وأقام للظهر، وأقام بعد لكل صلاةٍ إقامةً إقامةً.) ( ) مما يدل على وقوع مبارزة وقتال شديد يوم الخندق لا كما قال ابن إسحاق .
وقد توفرت بعض المؤن في المدينة ، لبيان استعداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للواقعة ومنع حدوث بلبلة وارتباك وإرتفاع في الأسعار في المدينة.
وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لشراء جثة عمرو بن ود بعشرة آلاف درهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هو لكم ولا نأكل ثمن الموتى ) ( ) ، وقتل من المشركون يوم الخندق كل من:
الأول : عمرو بن ود العامري .
الثاني : نوفل بن عبد الله من بني مخزوم ، وكان اقتحم الخندق ، وعندما قتل الإمام علي عليه السلام عمرو بن ود العامري أصابه الفزع والرعب ففر فاقتحم الخندق ، فسقط فيه فرماه المسلمون بالحجارة فنادى (قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب.
فنزل إليه علي فقتله) ( ).
محاولة المشركين تدارك نقضهم الصلح
قبل فتح مكة قام بنو نفاثة من بني الديل ، وهم على عهد قريش وفق صلح الحديبية بالإغارة على بني كعب وهم في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وأعانت بنو بكر بني نفاثة ، كما أمدتهم قريش بالسلاح والرقيق ، أما بنو مدلج فقد اعتزلوهم وفاء للعهد والعقد الذي عقدوه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
(يذكرون أن ممن أعانهم صفوان بن أمية و شيبة بن عثمان و سهيل بن عمرو
فأغارت بنو الديل على بني عمرو و عامتهم زعموا نساء و صبيان و ضعفاء الرجال فألجأوهم و قتلوهم حتى أدخلوهم إلى دار بديل بن ورقاء بمكة
فخرج ركب من بني كعب حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكروا له الذي أصابهم و ما كان من أمر قريش عليهم في ذلك فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : [ ارجعوا فتفرقوا في البلدان ]
و خرج أبو سفيان من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و تخوف الذي كان فقال : يا محمد اشدد العقد و زدنا في المدة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : و لذلك قدمت ؟
هل كان من حدث قبلكم ؟
فقال معاذ الله ! نحن على عهدنا و صلحنا يوم الحديبية لا نغير و لا نبدل
فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و أتى أبا بكر فقال: جدد العقد و زدنا في المدة فقال أبو بكر : جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم
ثم خرج فأتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال عمر بن الخطاب : ما كان من حلفنا جديدا فأخلقه الله و ما كان منه مثبتا فقطعه الله و ما كان منه مقطوعا فلا وصله الله !
فقال له أبو سفيان : جزيت من ذي رحم شرا .
ثم دخل على عثمان فكلمه فقال عثمان : جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم اتبع أشراف قريش يكلمهم فكلهم يقول : عقدنا في عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فلما يئس مما عندهم دخل على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلمها فقالت : إنما أنا امرأة و إنما ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها : فأمري أحد ابنيك فقالت : إنهما صبيان ليس مثلهما يجير قال : فكلمي عليا فقالت : أنت فكلمه
فكلم عليا فقال له : يا أبا سفيان إنه ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفتات على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجوار و أنت سيد قريش و أكبرها و أمنعها فأجر بين عشيرتك قال : صدقت و أنا كذلك فخرج فصاح : ألا إني قد أجرت بين الناس و لا و الله ما أظن أن يخفرني أحد
ثم دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا محمد إني قد أجرت بين الناس و لا و الله ما أظن أن يخفرني أحد و لا يرد جواري فقال: أنت تقول يا أبا حنظلة فخرج أبو سفيان على ذلك
فزعموا ـ و الله أعلم ـ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال حين أدبر أبو سفيان : [ اللهم خذ على أسماعهم و أبصارهم فلا يرونا إلا بغتة و لا يسمعوا بنا إلا فجأة ]
و قدم أبو سفيان مكة فقالت له قريش : ما وراءك ؟
هل جئت بكتاب من محمد أو عهد ؟
قال : لا و الله لقد أبى علي و قد تتبعت أصحابه فما رأيت قوما لملك عليهم أطوع منهم له غير أن علي بن أبي طالب قد قال لي : التمس جوار الناس عليك و لا تجر أنت عليه و على قومك و أنت سيد قرش و أكبرها و أحقها ألا تخفر جواره فقمت بالجوار ثم دخلت على محمد فذكرت له أني قد أجرت بين الناس .
و قلت : ما أظن أن تخفرني فقال : أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة فقالوا مجيبين له : رضيت بغير رضى و جئتنا بما لا يغني عنا و لا عنك شيئا و إنما لعب بك علي لعمر الله !
ما جوارك بجائز و إن إخفارك عليهم لهين
ثم دخل على امرأته فحدثها الحديث فقالت : قبحك الله من وافد قوم ! فما جئت بخير) ( ).
موضوع الآيات
وموضوع آيات القرآن على شعب منها :
الأولى : آيات الأحكام والفرائض العبادية .
الثانية : آيات تنظيم الأسرة والنكاح والطلاق .
الثالثة : الحياة العامة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابعة : اخراج الزكاة على نحو الوجوب ، إلى جانب الصدقات المستحبة .
الخامسة : آيات الأخلاق والآداب .
السادسة : آيات القضاء .
السابعة : قواعد الميراث .
الثامنة : آيات الدفاع .
التاسعة : آيات الصلح والمهادنة .
العاشرة : آيات القصص ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ) .
الحادية عشرة : آيات الوعد والوعيد .
الثانية عشرة : آيات السؤال ، إذ ورد لفظ [يَسْأَلُونَكَ] في القرآن خمس عشرة مرة ، إلى جانب الأسئلة المستقرأة من آيات القرآن ، ومنه قوله تعالى [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( )وقوله تعالى [عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ] ( ) ومنه في ذم المنافقين قال تعالى [يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ) ، وسيأتي قانون علم السؤال في القرآن .
ومنه توجه الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليسأل كفار قريش [سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ] ( ) أيهم يكفل تنجز ما يشتهون ويرغبون فيه .
الثالثة عشرة : آيات سنن التقوى .
الرابعة عشرة : آيات الحب والبغض ، منه قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] ( ).
و(عن ابن جريج عن ابن عباس : قالوا إن آية السيف نسخت (124) آية من القرآن وليس فيه لفظ السيف ، إنما يقصدون آية [َإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ]( )، ونبين هنا مسألة وهي تقديم الآية أعلاه للقتل على الأخذ والحصر دعوة للرأفة بهم فمن يُقتل لا يؤخذ ولا يحصر .
إنما الآية للوعيد واستحقاق المشرك بعد فتح مكة وتجلي المعجزات العقوبة .
واحصروهم أي ضيقوا عليهم مما يدل على أن واو العطف تفيد الإشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولا تدل على الترتيب ، وقد تدل عليه في مواطن أخرى .
وقد تفيد الترتيب كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ]( )، وقوله تعالى [إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا]( ).
والقدر المتيقن من الآية هو خصوص أهل مكة وما حولها وهو الأشهر الحرم من أيام نزول الآية فقط وهي :
الأول : عشرة أيام من شهر ذي القعدة من السنة التاسعة للهجرة .
الثاني : شهر ذي الحجة من السنة التاسعة .
الثالث : شهر محرم من السنة العاشرة للهجرة .
وأن هذه الأشهر سرد متصلة أي أن المجموع سبعون يوماً وعن السدي في قوله [ فإذا انسلخ الأشهر الحرم] قال : هي الأربعة عشرون من ذي الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وشهر ربيع الأول ، وعشرون من شهر ربيع الآخر .
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك رضي الله عنه في قوله { فإذا انسلخ الأشهر الحرم} قال : عشر من ذي القعدة ، وذي الحجة ، والمحرم ، سبعون ليلة .
وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد {فإذا انسلخ الأشهر الحرم } قال : هي الأربعة التي قال [فسيحوا في الأرض أربعة أشهر] ( ).
وأخرج ابن المنذر عن قتادة في قوله { فإذا انسلخ الأشهر الحرم . . . } الآية .
قال : كان عهد بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين قريش أربعة أشهر بعد يوم النحر ، كانت تلك بقية مدتهم ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرم ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إذا مضى هذا الأجل أن يقاتلهم في الحل والحرم وعند البيت ، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ( ).
تأويل الرؤيا بعد صلاة الصبح
كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصلي صلاة الصبح كل يوم في المسجد النبوي , وبعد الصلاة والتسبيح يجيب على أسئلة ومسائل أصحابه ، وتارة يبادر هو بالسؤال .
(عن ابن زمل الجهني قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى الصبح قال – وهو ثان رجليه – : سبحان الله وبحمده ، واستغفر الله إن الله كان توابا سبعين مرة ، ثم يقول : سبعين بسبعمائة لا خير لمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة .
ثم يقول ذلك مرتين ، ثم يستقبل الناس بوجهه وكان تعجبه الرؤيا ، ثم يقول : هل رأى أحد منكم شيئا ؟
قال ابن زمل : فقلت : أنا يا نبي الله .
قال : خير تلقاه وشر توقاه ، وخير لنا وشر على أعدائنا ، والحمد لله رب العالمين اقصص رؤياك .
فقلت : رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لاحب ، والناس على الجادة منطلقين ، فبينا هم كذلك إذ أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله يرف رفيفا يقطر ماؤه من أنواع الكلإ .
قال : فكأني بالرعلة الأولى حين أشفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم في الطريق فلم يظلموه يمينا ولا شمالا .
قال : فكأني أنظر إليهم منطلقين ، ثم جاءت الرعلة الثانية وهم أكثر منهم أضعافا فلما أشفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم في الطريق منهم المرتع ، ومنهم الآخذ الضغث ومضوا على ذلك .
قال : ثم قدم عظم الناس ، فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا : هذا خير المنزل ، فكأني أنظر إليهم يميلون يمينا وشمالا .
فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى أتي أقصى المرج فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات ، وأنت في أعلاها درجة ، وإذ عن يمينك رجل آدم شثل( ) أقنى( ) ، إذا هو تكلم يسمو فيفرع الرجال طولا ، وإذا عن يساره رجل ربعة تار أحمر كثير خيلان الوجه كأنما حمم شعره بالماء ، إذا هو تكلم أصغيتم له إكراما له .
وإذا أمامكم رجل شيخ أشبه الناس بك خلقا ووجها ، كلكم تؤمونه تريدونه وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء( ) شارف .
وإذا أنت يا رسول الله كأنك تبعثها .
قال : فانتقع لون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ساعة ، ثم سري عنه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللاحب فذاك ما حملتكم عليه من الهدى ، وأنتم عليه.
وأما المرج الذي رأيت فالدنيا وغضارة عيشها ، مضيت أنا وأصحابي لم نتعلق منها ولم تتعلق منا ، ولم نردها ، ولم تردنا .
ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدنا وهم أكثر منا أضعافا فمنهم المرتع ، ومنهم الآخذ الضغث ولجوا على ذلك ، ثم جاء عظم الناس فمالوا في المرج يمينا وشمالا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وأما أنت فمضيت على طريقة صالحة ، فلن تزال عليها حتى تلقاني .
وأما المنبر الذي فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة فالدنيا سبعة آلاف سنة أنا في آخرها ألفا .
وأما الرجل الذي رأيت على يميني الآدم الشثل فذلك موسى عليه السلام إذا تكلم يعلو الرجال بفضل كلام الله إياه ، والذي رأيت من التار( ) الربعة الكثير خيلان الوجه ، كأنما حمم شعره بالماء ، فذاك عيسى ابن مريم نكرمه لإكرام الله إياه .
وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقا ووجها فذلك أبونا إبراهيم كلنا نؤمه ونقتدي به ، وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أبعثها فهي الساعة علينا تقوم لا نبي بعدي ولا أمة بعد أمتي .
قال : فما سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن رؤيا بعد هذا إلا أن يجيء الرجل فيحدثه بها متبرعا) ( ) وذكر ابن عساكر الحديث في تأريخ دمشق( ) .
وتلزم خاتمة الحديث (إلا أن يجيء الرجل فيحدثه بها متبرعا) الدليل والإحاطة ، فربما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل أصحابه عن الرؤيا بعدها ابتداءً ، ولكن لم يعلم به راوي الحديث وهو ابن زمل الجهني.
وابن زمل الجهني هو (عبد الله بن زمل الجهني ) روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقيل له صحبة وهو ظاهر الحديث إلا أن مشهور الرجاليين أنه تابعي أرسل ، وقال ابن حجر (عبد الله بن زمل الجهني تابعي أرسل ولا يكاد يعرف ليس بمعتمد انتهى وقال ابن حبان في الثقات يقال له صحبة قلت وقد استوفيت خبره في كتابي في الصحابة) ( ) .
ولفظ يقال له صحبة : تضعيف لخبر صحبته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
بداية نقض قريش صلح الحديبية
لقد تطير وتشاءم سهيل بن عمرو يوم الصلح حين دخلت بنو بكر في حلفهم ، ودخلت خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ ظنّ أن بني بكر ستعتدي على خزاعة ، وستقوم قريش باعانتهم وهذه الإعانة نقض للحلف.
لقد كان رجال قريش على دراية بأحوال القبائل ، ورغبتها بالثأر والإنتقام وشواهد على عدم محافظة بعضهم على العهود خاصة إذا لم تكن معهم مباشرة .
وعندما تم عقد الصلح الحديبية وفي ذات موضع العقد ، وثبت جماعة من قبيلة خزاعة ودخلت في (عهد محمدٍ وعقده ، قال سهيل: ما هم إلا كغيرهم، هؤلاء أقاربنا ولحمنا قد دخلوا مع محمد، قومٌ اختاروا لأنفسهم أمراً فما نصنع بهم ، قال حويطب: نصنع بهم أن ننصر عليهم حلفاءنا بني بكر)( ).
وحويطب هذا هو ابن عبد العزى وهو أحد أعضاء وفد قريش المفاوض في الصلح ، وقد اسلم يوم فتح مكة أدركه الإسلام وهو ابن ستين سنة أو نحوها ، وهو من المؤلفة قلوبهم ، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غنائم حنين مائة بعير ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( )، وهو من الذين أمرهم عمر بن الخطاب بتجديد أنصاب الحرم أي حدوده ، ووضع علامات في جوانبه الأربعة تدل عليها .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر تميم بن أسد الخزاعي في تعيينها .
وتبدو علامات وأعلام الحرم في هذا الزمان والتي وضعت على رؤوس الجبال في الجهات الأربعة للحرم ، وبنيت هذه الأعلام من حجارة وتختلف عن حجارة الجبل نفسه و(عن ابن عباس قال : أوّل من نصب أنصاب الحرم إبراهيم عليه السلام يريه ذلك جبريل عليه السلام .
فلما كان يوم الفتح بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تميم بن أسد الخزاعي فجدد ما رث منها)( ).
لقد أظهر حويطب العزم على نقض الصلح ولم يجف حبره ، ولم يغادروا مكانه ، فحذّره سهيل بن عمرو ، من هذا القول .
لقد أدرك سهيل أن إعانتهم لبني بكر نقض للعهد وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يسكتوا على هذا النقض ، وأن قريشاً لا طاقة لها بدفع جيوش المسلمين .
لقد انكشفت قريش ، واصبحت ضعيفة وهو جزاء عاجل للذين يحاربون النبوة والتنزيل ، وكان أولاد سهيل بن عمرو ذكوراً واناثاً ، وأخوانه قد دخلوا الإسلام ومنهم من هاجر إلى الحبشة ومنهم من قاتل الى جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من قيده سهيل بالسلاسل في مكة وهو أبو جندل ، وحينما فاجئ المسلمين في الحديبية بسلاسله كاد أن ينخرم عقد الصلح بسبب غضب طائفة من الصحابة ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا إلى الصبر لما يفتحه الصلح من أبواب العز والنصر للمؤمنين ، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
لقد قال سهيل (إياك أن تسمع هذا منك بنو بكر! فإنهم أهل شؤم، فيقعوا بخزاعة فيغضب محمدٌ لحلفائه، فينقض العهد بيننا وبينه. قال حويطب: حظوت والله أخوالك بكل وجه)( ).
لقد اتهم حويطب سهيلاً بأنه مال وانحاز إلى أخواله خزاعة ، الأمر الذي نفاه سهيل بالمال ، وقال إن أفعال بني بكر مع قريش ليست حسنة .
وهل تحذير سهيل هذا من مصاديق ورشحات تسمية صلح الحديبية من عند الله بالفتح كما في قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ) .
الجواب نعم ، إذ تشير الدلائل إلى توجه الناس للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الإسلام ، سواء على نحو الأفراد أو الجماعات أو القبائل .
ولم تمر سنتان حتى قامت بنو بكر بالعدوان على خزاعة وهذا العدوان خارج الصلح ، ولكن إعانة رجالات قريش لبني بكر نقض له . إذ قام رجال من قريش بمد بني بكر بالسلاح وقاتلوا معهم متخفين , لأن قبيلة خزاعة في عهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , عقوبة لهم ولمنع القبائل الأخرى من الدخول في عهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن قبل كان هناك نوع حلف بين بني هاشم وخزاعة ، ومن بدايات الدعوة كان ميل خزاعة الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته ، فبادروا إلى الدخول في حلف عهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم في حمايته ، وعلى الآخرين إجتناب التعدي عليهم مدة الصلح وهي عشر سنين ، ولكن بني بكر أرادوا أخذ ثأر لهم من خزاعة فباغتوهم بالهجوم عليهم ليلاً وقيل إنما كان هذا الهجوم بتأليف من قريش وهم الذين أمدّوهم بالسلاح ، خاصة بعد شياع نبأ سرية مؤته والتي وقعت في البلقاء في أطراف الشام المجاورة للجزيرة العربية في شهر جمادى الأولى .
(وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث الحرث بن عمير الازدي أحد بنى لهب بكتابه إلى الشام إلى ملك الروم وقيل إلى ملك بصرى، فعرض له شرحبيل ابن عمرو الغساني فأوثقه رباطا ثم قدمه فضرب عنقه صبرا ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسول غيره فاشتد ذلك عليه حين بلغه الخبر عنه)( ).
ومضت سرية المسلمين وأمر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة وقال (إن قتل زيد فجعفر وان قتل جعفر فعبد الله بن رواحة)( ).
وكان عدد أفراد السرية ثلاثة آلاف من المسلمين ، وعندما نزلوا معان وهي الأن من الأرون ، بلغهم (أَنّ هِرَقْلَ قَدْ نَزَلَ مَآبَ ، مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ ، فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنْ الرّومِ ، وَانْضَمّ إلَيْهِمْ مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ وَالْقَيْنِ وَبَهْرَاءِ وَبَلِيّ مِائَةُ أَلْفٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ بَلِيّ ثُمّ أَحَدُ إرَاشَةَ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ زَافِلَةَ . فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ أَقَامُوا عَلَى مَعَانَ لَيْلَتَيْنِ يُفَكّرُونَ فِي أَمْرِهِمْ وَقَالُوا : نَكْتُبُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَنُخْبِرُهُ بِعَدَدِ عَدُوّنَا ، فَإِمّا أَنْ يَمُدّنَا بِالرّجَالِ وَإِمّا أَنْ يَأْمُرَنَا بِأَمْرِهِ فَنَمْضِي لَهُ)( ).
وكانت جموع هرقل من الروم والعرب ولكن عبد الله بن رواحة حض الناس على الدفاع والقتال ، وصحيح ورد قوله تعالى [إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ]( )، أي يغلبوا عشرة أضعافهم أما في مؤته فان نسبة جيش الصحابة الى جيش هرقل واحد الى ثلاثة وثلاثين وقتل زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة .
وأخذ الراية خالد بن الوليد (فَلَمّا أَخَذَ الرّايَةَ دَافَعَ الْقَوْمَ وَحَاشَى بِهِمْ ثُمّ انْحَازَ وَانْحِيزَ عَنْهُ حَتّى انْصَرَفَ بِالنّاسِ)( ).
لذا فان المعركة انتهت بالانسحاب ، وعدم هزيمة المسلمين ، ولكنها كانت إنذاراً للمشركين وأعداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً بأن لا يعتدوا على المسلمين ولا يتوغلوا في أرض الجزيرة ، إذ قاتل ثلاثة آلاف منهم مائة ألف من جيش هرقل مزودتين بالسلاح والخيل والسهام ، والدروع ، والمؤن ، فصبروا لهم ، لذا فان منافع سرية مؤته من جهة الكم والكيف لا يعلمها إلا الله عز وجل .
وحينما بلغ قريشاً نبأ قتل قادة السرية وخسائر المسلمين فيها ، وحدوث القتال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهرقل طمعوا باستمرار هذا القتال ، وظنوا باصابة الصحابة بالضعف والوهن ، فارادوا فتح جبهة مكة من جديد فقاموا بتحريف حلفائهم من بني بكر على خزاعة وأمدوهم بالسلاح والرجال .
وداهمت بنو بكر مضارب خزاعة ليلاً ، فقتلوا جماعة وأسروا جماعة ، وهربت طائفة منهم ودخلت مكة طلباً للأمن والإجارة ، ودخلوا دار بُيل بن ورقاء ، وشكوا اليه ما جرى لهم ، ثم توجه رهط منهم إلى المدينة لإخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان سبب تجهز النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لدخول مكة.

إمساكية شهر رمضان ــ 1442هـ(مدينة الناصرية وضواحيها)
شهر رمضان اليوم التاريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
1 الأربعاء 14/4 4:04 5:29 11:57 6:38
2 الخميس 15/4 4:03 5:28 11:57 6:39
3 الجمعة 16/4 4:01 5:27 11:56 6:40
4 السبت 17/4 4:00 5:26 11:56 6:41
5 الأحد 18/4 3:58 5:25 11:566 6:42
6 الإثنين 19/4 3:57 5:23 11:56 6:42
7 الثلاثاء 20/4 3:56 5:22 11:56 6:43
8 الأربعاء 21/4 3:54 5:21 11:55 6:43
9 الخميس 22/4 3:53 5:20 11:55 6:44
10 الجمعة 23/4 3:52 5:19 11:55 6:45
11 السبت 24/4 3:50 5:18 11:55 6:46
12 الأحد 25/4 3:49 5:16 11:53 6:46
13 الإثنين 26/4 3:48 5:15 11:52 6:47
14 الثلاثاء 27/4 3:46 5:14 11:52 6:48
15 الأربعاء 28/4 3:45 5:13 11:52 6:49
1- يكون يوم الأربعاء 14/4/2021 أول أيام شهر رمضان، ويبقى الهلال ليلتئذ بعد الغروب ساعة و(12) دقيقة.
2- لا أصل للإحتياط بالإمساك قبل الأذان بسبع أو عشر دقائق، ويمتنع السحور بطلوع الفجر الصادق، وعليه الكتاب والسنة ، فيجوز شرب الماء قبله ولو بدقيقة، وتتجلى المندوحة بقوله تعالى[كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ] وقوله تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ].
3- يستحب الإستهلال، ولا تثبت رؤية الهلال إلا بشاهدين عدلين.
شهر رمضان اليوم التاريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
16 الخميس 29/4 3:44 5:12 11:52 6:49
17 الجمعة 30/4 3:43 5:11 11:52 6:50
18 السبت 1/5 3:42 5:11 11:52 6:48
19 الأحد 2/5 3:41 5:10 11:52 6:49
20 الإثنين 3/5 3:40 5:09 11:52 6:49
21 الثلاثاء 4/5 3:39 5:08 11:51 6:50
22 الأربعاء 5/5 3:38 5:07 11:51 6:51
23 الخميس 6/5 3:36 5:06 11:51 6:52
24 الجمعة 7/5 3:35 5:06 11:51 6:53
25 السبت 8/5 3:34 5:05 11:51 6:54
26 الأحد 9/5 3:33 5:04 11:51 6:55
27 الإثنين 10/5 3:32 5:03 11:51 6:56
28 الثلاثاء 11/5 3:31 5:02 11:51 6:56
29 الأربعاء 12/5 3:30 5:02 11:51 6:57
30 الخميس 13/5 3:29 5:01 11:51 6:57
1- يكون يوم الجمعة 14/5/2021 أول أيام عيد الفطر المبارك إذا لم تثبت الرؤية ليلة الخميس 13/5، ويبقى الهلال بعد الغروب ليلة الجمعة ساعة و(33) دقيقة، وإرتفاعه عن الأفق (17) درجة و(23) دقيقة ، وعلى الأرجح يكون مطوقاً.
2- صدرت مائتان وخمسة عشر جزءً من تفسيري للقرآن في سورة البقرة وشطر من آل عمران ، وهي معروضة على موقعنا WWW.MARJAIAA.COM، وكلها تأويل وإستنباط لم يشهد له التأريخ مثيلاً، إلى جانب كتبي الفقهية والأصولية [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].
3- ستعلن أكثر الدول العربية والإسلامية ، وعدد من العلماء يوم الخميس 13/5 أول أيام شهر شوال.
إمساكية شهر رمضان ــ 1442هـ
((مدينة بغداد صانها الله من الفساد))
شهر رمضان اليوم التاريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
1 الأربعاء 14/4 4:08 5:34 12:02 6:47
2 الخميس 15/4 4:07 5:33 12:02 6:48
3 الجمعة 16/4 4:05 5:32 12:01 6:49
4 السبت 17/4 4:04 5:31 12:01 6:50
5 الأحد 18/4 4:02 5:30 12:01 6:51
6 الإثنين 19/4 4:01 5:28 12:01 6:51
7 الثلاثاء 20/4 4:00 5:27 12:01 6:52
8 الأربعاء 21/4 3:58 5:26 12:01 6:52
9 الخميس 22/4 3:57 5:25 12:00 6:53
10 الجمعة 23/4 3:56 5:24 12:00 6:54
11 السبت 24/4 3:54 5:23 12:00 6:55
12 الأحد 25/4 3:53 5:21 12:00 6:55
13 الإثنين 26/4 3:52 5:20 11:59 6:56
14 الثلاثاء 27/4 3:50 5:19 11:59 6:57
15 الأربعاء 28/4 3:49 5:18 11:59 6:58
4- يكون يوم الأربعاء 14/4/2021 أول أيام شهر رمضان، ويبقى الهلال ليلتئذ بعد الغروب ساعة و(12) دقيقة.
5- لا أصل للإحتياط بالإمساك قبل الأذان بسبع أو عشر دقائق، ويمتنع السحور بطلوع الفجر الصادق، وعليه الكتاب والسنة ، فيجوز شرب الماء قبله ولو بدقيقة، وتتجلى المندوحة بقوله تعالى[كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ] وقوله تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ].
6- يستحب الإستهلال، ولا تثبت رؤية الهلال إلا بشاهدين عدلين.
شهر رمضان اليوم التاريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
16 الخميس 29/4 3:48 5:17 11:59 6:58
17 الجمعة 30/4 3:47 5:16 11:59 6:59
18 السبت 1/5 3:45 5:14 11:59 7:00
19 الأحد 2/5 3:43 5:13 11:59 7:01
20 الإثنين 3/5 3:42 5:12 11:59 7:01
21 الثلاثاء 4/5 3:40 5:11 11:58 7:02
22 الأربعاء 5/5 3:39 5:10 11:58 7:03
23 الخميس 6/5 3:37 5:09 11:58 7:04
24 الجمعة 7/5 3:36 5:09 11:58 7:05
25 السبت 8/5 3:35 5:08 11:58 7:06
26 الأحد 9/5 3:34 5:07 11:58 7:07
27 الإثنين 10/5 3:33 5:06 11:58 7:08
28 الثلاثاء 11/5 3:32 5:05 11:58 7:08
29 الأربعاء 12/5 3:31 5:05 11:58 7:09
30 الخميس 13/5 3:30 5:04 11:58 7:10
4- يكون يوم الجمعة 14/5/2021 أول أيام عيد الفطر المبارك إذا لم تثبت الرؤية ليلة الخميس 13/5، ويبقى الهلال بعد الغروب ليلة الجمعة ساعة و(33) دقيقة، وإرتفاعه عن الأفق (17) درجة و(23) دقيقة ، وعلى الأرجح يكون مطوقاً.
5- صدرت مائتان وخمسة عشر جزءً من تفسيري للقرآن في سورة البقرة وشطر من آل عمران ، وهي معروضة على موقعنا WWW.MARJAIAA.COM، وكلها تأويل وإستنباط لم يشهد له التأريخ مثيلاً، إلى جانب كتبي الفقهية والأصولية [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].
6- ستعلن أكثر الدول العربية والإسلامية ، وعدد من العلماء يوم الخميس 13/5 أول أيام شهر شوال.

إمساكية شهر رمضان ــ 1442هـ(مدينة النجف الأشرف وضواحيها)
شهر رمضان اليوم التاريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
1 الأربعاء 14/4 4:10 5:35 12:03 6:46
2 الخميس 15/4 4:09 5:34 12:03 6:47
3 الجمعة 16/4 4:07 5:33 12:02 6:48
4 السبت 17/4 4:06 5:32 12:02 6:49
5 الأحد 18/4 4:04 5:31 12:02 6:50
6 الإثنين 19/4 4:03 5:29 12:02 6:50
7 الثلاثاء 20/4 4:02 5:28 12:02 6:51
8 الأربعاء 21/4 4:00 5:27 12:01 6:51
9 الخميس 22/4 3:59 5:26 12:01 6:52
10 الجمعة 23/4 3:58 5:25 12:01 6:53
11 السبت 24/4 3:56 5:24 12:01 6:54
12 الأحد 25/4 3:55 5:23 12:01 6:54
13 الإثنين 26/4 3:54 5:22 12:00 6:55
14 الثلاثاء 27/4 3:52 5:21 12:00 6:56
15 الأربعاء 28/4 3:51 5:20 12:00 6:57
7- يكون يوم الأربعاء 14/4/2021 أول أيام شهر رمضان، ويبقى الهلال ليلتئذ بعد الغروب ساعة و(12) دقيقة.
8- لا أصل للإحتياط بالإمساك قبل الأذان بسبع أو عشر دقائق، ويمتنع السحور بطلوع الفجر الصادق، وعليه الكتاب والسنة ، فيجوز شرب الماء قبله ولو بدقيقة، وتتجلى المندوحة بقوله تعالى[كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ] وقوله تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ].
9- يستحب الإستهلال، ولا تثبت رؤية الهلال إلا بشاهدين عدلين.
شهر رمضان اليوم التاريخ أذان الفجر الشروق الظهر المغرب
16 الخميس 29/4 3:50 5:19 12:00 6:57
17 الجمعة 30/4 3:49 5:18 12:00 6:58
18 السبت 1/5 3:47 5:17 12:00 6:59
19 الأحد 2/5 3:46 5:16 12:00 7:00
20 الإثنين 3/5 3:45 5:15 12:00 7:00
21 الثلاثاء 4/5 3:44 5:14 11:59 7:01
22 الأربعاء 5/5 3:43 5:13 11:59 7:02
23 الخميس 6/5 3:41 5:12 11:59 7:03
24 الجمعة 7/5 3:40 5:12 11:59 7:03
25 السبت 8/5 3:39 5:11 11:59 7:04
26 الأحد 9/5 3:38 5:10 11:59 7:05
27 الإثنين 10/5 3:37 5:09 11:59 7:06
28 الثلاثاء 11/5 3:36 5:08 11:59 7:06
29 الأربعاء 12/5 3:35 5:08 11:59 7:07
30 الخميس 13/5 3:34 5:07 11:59 7:08
7- يكون يوم الجمعة 14/5/2021 أول أيام عيد الفطر المبارك إذا لم تثبت الرؤية ليلة الخميس 13/5، ويبقى الهلال بعد الغروب ليلة الجمعة ساعة و(33) دقيقة، وإرتفاعه عن الأفق (17) درجة و(23) دقيقة ، وعلى الأرجح يكون مطوقاً.
8- صدرت مائتان وخمسة عشر جزءً من تفسيري للقرآن في سورة البقرة وشطر من آل عمران ، وهي معروضة على موقعنا WWW.MARJAIAA.COM، وكلها تأويل وإستنباط لم يشهد له التأريخ مثيلاً، إلى جانب كتبي الفقهية والأصولية [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].
9- ستعلن أكثر الدول العربية والإسلامية ، وعدد من العلماء يوم الخميس 13/5 أول أيام شهر شوال.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn