المقدمــــــة
الحمد لله الذي لا إله إلا هو ، لا شريك له ، له ملك السموات والأرض ، ملك تصرف ومشيئة مطلقة ، وفي التنزيل [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
وهل ينحصر الشئ الذي يريده الله عز وجل سبحانه ضمن السموات والأرض ، أم أعم منها ، ويكون فيهما وما بينهما وخارجهما ، الجواب هو الثاني ، فليس من حد لملك الله عز وجل ، لذا نحمده تعالى على سعة ملكه وعظيم قدرته ، وإستدامة سلطانه ، والهداية إلى هذا الحمد نعمة وفضل منه تعالى .
وفيه رجاء لرضاه تعالى ، الحمد لله الذي جعل الدنيا دار الإبتلاء والإمتحان والإختبار ، ليفوز الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالنعيم الدائم.
قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً]( ).
لقد خلق الله عز وجل آدم وحواء في الجنة ثم أقام الحجة على آدم بأن علّمه وهداه وهو في الجنة ، قال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( ) أمر الملائكة بالسجود لآدم، وحذرهما من الأكل من شجرة مخصوصة .
وهل يمتحن الله الملائكة بالأكل أو عدمه من شجرة أو طعام معين ، الجواب لا ، إذ أن غذاء الملائكة هو التسبيح والتهليل .
لقد كان كل من هذا التعليم والنهي من الميثاق ، وذات الميثاق وامتحان وهو إكرام.
ويختص هذا الجزء بموضوع ميثاق أهل الكتاب لإتباعهم أنبياء زمانهم ، وتصديقهم بهم ، وفيه شاهد على خلافة الإنسان في الأرض ، وأنها لم تنقطع من أيام آدم ، وتعليم الله عز وجل له الأسماء ، وقيام آدم بتعليم الملائكة لذات الأسماء بأمر من الله عز وجل ، وفي التنزيل [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( )، ليكون هذا التعليم من الميثاق والعهد ، وشاهداً على تنجز تعلم آدم وتوثيق اعمال الناس في الدنيا حسب هذا التعليم ، وإيقافهم للحساب يوم القيامة لما رزقهم الله من العقل والفطرة والميثاق ، وتلقي البلاغ المتكرر بواسطة الأنبياء والكتب السماوية.
ومن الميثاق الفطرة على التوحيد ، والتنزه عن الشرك بالله ، ومن فضل الله عز وجل سبق هذا الميثاق على خلق آدم ، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ]( )، وتسمى هذه الآية آية الميثاق وآية الذر .
و(عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة ، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه كالذر ، ثم كلمهم قبلاً قال [أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا]( )، إلى قوله الْمُبْطِلُونَ( ).
(ونَعْمانُ، كسَحْبانَ : وادٍ وراء عَرَفَةَ، وهو نَعْمانُ الأَراكِ)( ).
وورد في الآية عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في الآية قال : نعم لله الحجة على جميع خلقه أخذهم يوم أخذ الميثاق هكذا( ).
لبيان مسألة وهي أن وقوف المسلمين على جبل عرفة في يوم مخصوص من السنة تجديد للميثاق ، والعمل بسننه .
فقد جاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجعل مكة كما أرادها الله مدينة مفتوحة يفد اليها المؤمنون من كل حدب ومكان ، لتأدية مناسك العمرة والحج ، ومما يختص به الحج عن العمرة بالوقوف على عرفة عند زوال الشمس من اليوم التاسع من شهر ذي الحجة .
وتجري الإستعدادت العامة في مكة لإستقبال هذا اليوم ، كما يستعد له وفد الحاج القادمين من الأمصار المختلفة ، وهل هو من الميثاق في خطاب الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
الجواب نعم ، إذ أن حج البيت واجب ، وفيه بلحاظ أول آية السياق [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ]وجوه :
الأول : لقد جاهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في بناء البيت الحرام ، ودعوة الناس للحج ، وهذه الدعوة ليست لمرة واحدة بل هي متجددة ، وقام بها إبراهيم وإسماعيل لسنوات متعددة .
وعند مغادرة إبراهيم عليه السلام إلى الرفيق الأعلى أوصى إسماعيل بالإستمرار بدعوة الناس لحج البيت الحرام ليقوم بها وأولاده معه ، ثم أولاده من بعده ، إلى أن بلغ الأمر قريشاً وهم من ذرية إبراهيم ، وهم ولاة البيت الحرام فرضوا بدخول الأصنام إلى البيت الحرام مع قيامهم باستضافة وفد الحاج إذ آلت الرفادة والسقاية واللواء والحجابة ودار الندوة لقصي بن كلاب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم توزعت في أولاده ، كما سيأتي بيانه في الجزء التالي وهو الواحد والعشرين بعد المائتين ان شاء الله .
الثاني : وجوب تعاهد طهارة البيت الحرام ، ومقدمة قيام الناس بالحج بأمان .
الثالث : حج البيت أمارة على الإيمان ، ودعوة له ، ولما إنحرفت قريش عن ابجديات الإيمان باتخاذهم الأصنام ، بعث الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للدعوة إلى التوحيد فحاربهم المشركون فصار الإبتلاء بالأموال والنفوس قهرياً وهو من مصاديق الآية السابقة .
وهل تعاهد البيت الحرام وتيسير دخول الحجاج له من الميثاق الذي أخذه الله ، الجواب نعم .
ومن نسمات ألطاف الباري ، وبيان حضور أنوار القرآن في كل زمان ومكان صدر الجزء السابق وهو (التاسع عشر بعد المائتيـن) من تفسيري للقرآن وهو خاص بقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) .
وعن النواس بن سمعان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهما بعد قال وإنهما غمامتان أو طلتان سوداوان بينهما شرف أو كأنهما فرقان من طير صواف تخافان عن صاحبهما( ).
وجاء هذا الجزء بتفسير آية واحدة من سورة آل عمران وهي الآية (187) منها ويتضمن قوانين وعلوماً تتفرع عن هذه الآية ، وتتعلق بموضوعها.
ومن الإعجاز في فلسفة النبوة بشارة الرسول السابق بالرسول اللاحق حتى إذا ما كان بينهما أنبياء فانهم يقومون بالبشارة بالرسول اللاحق .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشارة الأنبياء والرسل به من أيام أبينا آدم ، وفي عيسى عليه السلام وهو آخر الرسل قبل الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد قوله تعالى [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
ومن معاني أخذ الميثاق على أهل الكتاب تعاهدهم سنن التوحيد وإقامة الصلاة في الأرض ، وايتاء الزكاة والصيام، والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنع المشركين من الإضرار به .
وتجتمع كل من البشارة والمنع أعلاه في مضامين آية البحث ، من جهات :
الأولى : أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب واختصاصهم بالميثاق في المقام تشريف واكرام لهم ، وعهد ووعد.
الثانية : قيام الله عز وجل نفسه بأخذ الميثاق بواسطة الأنبياء والكتب المنزلة والبراهين العامة والخاصة ، وهن معاني الخلافة في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، ومجئ الآية أعلاه باخبار الله للملائكة عن خلافة الإنسان في الأرض ، أي ليس من واسطة بين الله عز وجل وبين خلفائه في الأرض لذا بعث الله عز وجل لهم الأنبياء من البشر أنفسهم.
وهو من الشواهد على أن الله عز وجل هو الذي أخذ الميثاق سواء من عامة الناس ، أم من أهل الكتاب على نحو الخصوص .
وقد تتحد مضامين الميثاق العام والخاص ، كما في وجوب التوحيد ونبذ الشرك والإلحاد ، وكما في البشارة والدعوة إلى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : وجوب بيان أهل الكتاب الميثاق والبشارة للناس والنسبة بين الناس وأهل الكتاب هي العموم والخصوص المطلق ، ومن الناس قريش لأن هذا البيان زاجر لهم عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغزو المدينة كما سيأتي في ثنايا هذا الجزء المبارك وهو العشرون بعد المائتين من تفسيري وأقوم بتأليف أجزائه وتصحيحها ومراجعتها بمفردي بفضل ولطف من عند الله عز وجل ، وكذا كتبي الفقهية والأصولية والكلامية.
الحمد لله الذي لم يتخذ الناس خلفاء في الأرض إلا بعد أن أخذ عليهم الميثاق ، وهو رحمة عامة بهم ، وسبب لصلاحهم ، ولطف من الله لتقريبهم إلى منازل الطاعة .
وعندما احتجت الملائكة على هذه الخلافة بالقول [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) هل كانت تعلم بالميثاق ، وإذا كانت تعلم به ، أي أنه حتى مع الميثاق فانه من الناس من يفسد ،ومنهم من يقتل ويسفك الدماء بغير حق .
والمختار أنهم لم يعلموا بعد بالميثاق ، وأخذ الله له من الناس وهم في عالم الذر ، ثم تكرر الميثاق ليكون من علم الله في خلافة الإنسان تكرار الميثاق بما يفيد تعاهد الإيمان في الأرض ، وبعث النفرة من الفساد ومن القتل ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الحمد لله الذي أفاض على الناس بالرزق الكريم ، ومنه العلم ولم يحصره عند قوم أو طائفة من الناس .
فجاء هذا التفسير المبارك رحمة وفضلاً منه تعالى لبيان قانون من الإرادة التكوينية ، وهو أن خزائن آيات القرآن من اللامتناهي ، وفي كل زمان تطل علينا شواهد قولية وفعلية تدل على نزوله من عند الله عز وجل .
وموضوع هذا الجزء هو آية واحدة من سورة آل عمران تتعلق بميثاق أهل الكتاب ، والآية هي [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ]( ).
الحمد لله الذي جعل الإيمان يتقوم بالحمد له سبحانه ، وأوجب على كل مسلم ومسلمة قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ] سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية لتنزل البركات عليهم وعلى أهل الأرض إلى يوم القيامة ، ويمر الإبتلاء والوباء عليهم بأخف حال ، ومنه جائحة كورونا هذه الأيام التي لا يعلم الشرور التي انصرفت منها وبها إلا الله عز وجل.
فان قلت هل يدفع قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) في الصلاة هذا البلاء ، المختار نعم .
ولم يهبط آدم إلى الأرض إلا بعد أن قال وهو في السماء [الْحَمْدُ لِلَّهِ] ليكون هذا القول أمانة وميثاقاً يجب أن يتعاهده أهل الأرض ، كما أنه من مصاديق الوفاء بالميثاق .
وعندما احتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) أجابهم الله عز وجل بالقول [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) لتكون مصاديق انفراد الله عز وجل بالعلم فيما يخص الإنسان وخلافته في الأرض من اللامتناهي ، بما يجعل الملائكة منقطعين إلى الله عز وجل بالتسبيح والإقرار بعظيم وسعة علمه ، وتخلفهم والخلائق عن جزء يسير منه .
لقد أحبّ الله عز وجل الناس فبعث من بينهم الأنبياء ، وأنزل معهم الكتب السماوية ، وأخبر الله عز وجل بأن القرآن كلامه ، ولأنه له ملك السموات والأرض .
والقرآن آخر الكتب السماوية ، فلابد أن يحفظ كلام الله في الأرض من التحريف والتبديل والتغيير والنقص والزيادة .
ليفتح باب التفسير والتأويل ، ولا يغلق إلى يوم القيامة ، وهل يمتنع التحريف في علم التفسير مثلما هو ممتنع في نص وحروف وكلمات القرآن ، المختار لا ، إلا أن سلامة القرآن من التحريف زاجر عن هذا التحريف ،وإن حدث فانه سرعان ما ينكشف أمره ، ويزول بسرعة .
الحمد لله الذي جعل شكر العبد له سبحانه باباً لنزول الفضل الإلهي عليه وعلى ذويه وديرته في حال اليقظة والغفلة والمنام .
الحمد لله الذي يتفضل على العباد ويهديهم إلى الحمد والشكر له سبحانه ، ويكون هذا الحمد ساتراً لما مضى من الذنوب ، وواقية من إتيان مثلها في قادم الأيام ، فمن خصائص الحمد لله حضوره سلاحاً للعبد في الرخاء والشدة .
وأن لم يحضر ويتخلف العبد عن النطق به فان الله عز وجل يلطف بالعبد ، ويجعله يتوجه إلى ذكره والحمد لله حتى في حال البلاء ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ] ( ).
ربنا أنك علام الغيوب تعلم ما نسر وما نعلن من قبل أن نخلق نستغيثك اللهم ، ونسألك خير ما تعلم وأن تضاعف لنا فضلك ، وأن تعطينا وتهب لنا ولا تحرمنا ، وأن ترحمنا ولا تسخط علينا ، وآثرنا وأكفنا وأرض عنا .
اللهم أغفر لآبائنا وأمهاتنا وجميع أمواتنا إنك أنت الغفور ، اللهم ارزقنا من يستغفر لنا في الدنيا في حياتنا وبعد موتنا ، وأجعلنا نسألك ونحن في عالم البرزخ وعرصات القيامة من يدعو لنا من الناس والأنبياء ، والملائكة وأنت القائل [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
وتضمن هذا الجزء صفحة مشرقة من قصص الأنبياء ومنه ما يخص الميثاق والعهد ممن ذكرهم القرآن ، كما ذكر القرآن الأسباط وأصحاب الأخدود ، وأصحاب الكهف والرقيم ، وأهل القرية ، وأصحاب الفيل كما في قوله تعالى [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ]( ).
لبيان أن من الميثاق إجتناب الإضرار بالبيت الحرام الذي جعله الله عز وجل أمناً ، ومحلاً للحج والطواف حوله طاعة لله عز وجل .
وكل الأنبياء حامدون لله عز وجل ، وتجلى بتسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم محمد ، أحمد فهو الإمام بالحمد والشكر لله عز وجل ، ومنه حمده لله عز وجل على صيرورة البشارة بنبوته من الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الناس .
قال حسان بن ثابت في قصيدة :
(صَلّى الْإِلَهُ وَمَنْ يَحُفّ بِعَرْشِهِ … وَالطّيّبُونَ عَلَى الْمُبَارَكِ أَحْمَدْ) ( ).
حرر في 5 شوال 1442
17/5/2021
قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ]الآية 187
الإعراب واللغة
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر : ليبيننه للناس ولا يكتمونه ، كلاهما بالياء . وقرأ الباقون بالتاء ، فمن قرأ بالياء فمعناه أخذ عليهم الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه ، ومن قرأ بالتاء فمعناه أخذ عليهم الميثاق( ).
ورد (عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن أصحاب عبد الله يقرؤون : وإذ أخذ ربك من الذين أوتوا الكتاب ميثاقهم)( ).
ولكن المدار على ما مرسوم في المصاحف ، لذا لم يتضمن الحديث أعلاه رداً من ابن عباس .
ولا عبرة بخبر الواحد عن قراءة نادرة أو شاذة , وهل ينسب الخبر أعلاه إلى صحابي أم تابعي ، الجواب إنه من تابعي وهو سعيد بن جبير يحكي عن تابعين .
الواو : حرف استئناف .
إذ : ظرف لما مضى من الزمان مبني في محل نصب مفعول به لفعل محذوف تقديره (اذكر).
أخذ : فعل ماض .
الله : فاعل مرفوع ، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
ميثاق : مفعول به منصوب بالفتحة الظاهرة على آخره.
الذين : اسم موصول مبني في محل جر مضاف إليه.
اوتوا : فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم .
الواو : نائب فاعل .
الكتاب : مفعول به منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
لتبيننه : قيل اللام واقعة في جواب القسم ، وليس من قسم , وهي لام الأمر .
تبيننه : فعل مضارع مرفوع ، وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال .
ويمكن تسمية هذه اللام لام الوجوب ،وهل هذه التسمية المستحدثة خاصة بعلم الأصول ، الجواب لا , إذ تشمل علم النحو وتعدد معاني الحرف القرآني .
الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين : فاعل .
الضمير الهاء : مفعول به.
ولا تكتمونه : الواو : حرف عطف .
لا : نافية : تكتمون : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة .
الواو : فاعل : والهاء : مفعول به .
والمختار أن النسبة بين النفي والنهي في المقام هو العموم والخصوص المطلق ، فالنفي أعم ، ويدخل في مصاديقه بلحاظ الأمر (لتبيننه) النهي عن كتمان وإخفاء الميثاق.
وسيأتي مزيد كلام في الجزء (228) باب سياق الآيات لماذا جاءت ( لا ) بصيغة النفي .
فنبذوه : الفاء حرف عطف ، نبذوه : فعل ماض مبني على الضم.
الواو : فاعل ، الهاء : مفعول به .
وسيأتي مزيد بيان في معنى الهاء هذه في تفسير قوله تعالى [فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ]( ).
وراء : ظرف مكان منصوب متعلق بـ(نبذوه).
ظهورهم : ظهور : مضاف إليه مجرور ، وهو مضاف ، والضمير هم : مضاف إليه.
واشتروا : الواو حرف عطف ، اشتروا : فعل ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين ، الواو : فاعل.
به : الباء : حرف جر ، والضمير الهاء في محل جر ، والجار والمجرور متعلقان بـ(اشتروا).
ثمناً : مفعول به منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
قليلاً : نعت لـ(ثمناً) وهو منصوب مثله.
والنعت صفة ثابتة للمنعوت .
ويتبع النعت منعوته في أمور :
الأول : العدد من جهة الإفراد والتثنية ، والجمع.
الثاني : النوع (التذكير والتأنيث).
الثالث : التنكير والتعريف .
الرابع : الإعراب (الرفع والنصب والجر).
والنعت على أنواع :
الأول : النعت المفرد .
الثاني : النعت الجملة .
الثالث : النعت شبه الجملة.
فبئس : الفاء استئنافية .
بئس : فعل ماض جامد لإنشاء الذم.
الفاعل ضمير مستتر وجوباً ، تقديره (هو).
ما يشترون : ما : نكرة موصوفة في محل نصب تمييز للضمير الفاعل.
يشترون : فعل مضارع مرفوع ، وعلامة رفعه ثبوت النون.
الواو : فاعل .
والميثاق نوع عقد وعهد ، والمواثقة : المعاهدة ، قال تعالى [وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ]( )، وجمع الميثاق : المواثيق والمياثيق .
ويقال أوثقه وشده ، قال تعالى بخصوص أسرى بدر من المشركين [فَشُدُّوا الْوَثَاقَ]( )، أي لا يفلتوا منكم ، ولا يغدروا بكم ، لعمومات قوله تعالى [وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً]( ).
والوثيق الشء المحكم ، والموثق : الميثاق .
(ويُقال أخذ بالوَثِيقة في أَمْره أي بالثِّقة. وتَوَثَّق في أَمْره مثْلُه. ووَثَّقَ الشَّيْءَ تَوْثيقاً فهو مُوَثَّق. وثَّقَه أيضاً قال له إِنه ثِقَة. واسْتَوْثَقَ منه أخَذَ منه الوَثِيقَةَ)( ).
ترى ما هي النسبة بين الميثاق واليمين ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالميثاق أعم.
والكتمان : الإخفاء عن عمد ، وهو نقيض الإظهار والإعلان .
(باب الكتمان : أخفى وأسر وجن وضن وطوى وابطن واضمر وكتم وأغضى وأكن وستر وغطى)( ).
والنبذ : الترك والإقصاء والإبعاد والطرح .
يقال : نبذه ينبذه نبذاً .
و(النَّبْذُ طرحك الشيء من يدك أَمامك أَو وراءك نَبَذْتُ الشيء أَنْبِذُه نَبْذاً إِذا أَلقيته من يدك ونَبَّذته شدد للكثرة ونبذت الشيء أَيضاً إِذا رميته وأَبعدته.
ومنه الحديث فنبذ خاتمه فنبذ الناس خواتيمهم أَي أَلقاها من يده وكلُّ طرحٍ نَبْذٌ نَبَذه يَنْبِذُه نَبْذاً والنبيذ معروف واحد الأَنبذة والنبيذ الشيء والمنبوذ والنبيذ ما نُبِذَ من عصير ونحوه وقد نبذ النبيذ وأَنبذه وانتبَذه ونَبَّذَه ونَبَذْتُ نبيذاً إِذا تخذته)( ).
والكتمان : الإخفاء أو التستر ، والنسبة بين السريرة والكتمان هو العموم الخصوص المطلق ، فالسريرة أعم ، وهي ما يخفيه الإنسان مطلقاً في نفسه .
وجاءت الآية بخصوص كتمان وإخفاء البشارة ونحوها من أفراد الميثاق (قال سعد بن المدخاس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من علم شيئا فلا يكتمه ، ومن دمعت عيناه من خشية الله لم يحل له أن يلج النار أبدا ، إلا تحلة القسم ، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) ( ).
في سياق الآيات
صلة آية البحث بالآية السابقة [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( )، وفيها مسائل :
المسألة الأولى : وردت الآية السابقة بصيغة الخطاب إلى المسلمين لتتضمن الخبر والبيان ثم الأمر بصيغة الشرط.
إذ أختتمت بجملة شرطية تتعلق بذات موضوع الآية ، ليكون من إعجاز القرآن بيان الحال مع سبل النجاة والفوز فيه ، لتكون المصيبة سبباً للأجر والثواب.
وجاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية وبما يفيد القطع لأن الإخبار من عند الله حق وصدق ، وهل يدخل المحو في قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، على الجملة الخبرية في القرآن الجواب لا ، إلا أن تكون في الأذى والوعيد ونحوه لأن رحمة الله عز وجل وسعت كل شئ ، ومنه الوعيد بالعقاب الأليم ، ورجاء محوه بفضل الله على من يشاء سبحانه.
ويتجلى عدم المحو في آية البحث بنزولها بصيغة الجملة الخبرية بلحاظ تعدد الفعل الماضي فيها (أخذ) (نبذوه) (اشتروا به) أما في آية السياق فالمحو لطف من الله من جهة تخفيف الإبتلاء عن المؤمنين ، وكتابة الثواب عليه .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (البلاء معلق بين السماء والارض مثل القنديل فإذا سأل العبد ربه العافية، صرف الله عنه البلاء، وقال: سلوا الله عزوجل ما بدا لكم من حوائجكم حتى شسع النعل، فانه إن لم ييسره لم يتيسر، وقال: ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع.
وقال الصادق عليه السلام: إن الله جعل أرزاق المؤمنين من حيث لم يحتسبوا، و ذلك أن العبد إذا لم يعرف وجه رزقه كثر دعاؤه)( ).
ليكون من مصاديق الآية أعلاه بالهداية إلى الدعاء وتفضل الله بمحو البلاء وتثبيت ثوابه ، واستدامة النعم وحسن استقبالها ، وتعاهد التصرف معها وبها .
وتفضل الله على المؤمنين بطول أعمارهم ، ومحو إنخرام العمر ، وميتة السوء إن شاء سبحانه.
وعن عاصم عن الإمام علي عليه السلام (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من سره أن يمد الله في عمره ، ويوسع له في رزقه ، ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله ، وليصل رحمه)( ).
المسألة الثانية : لقد ابتدأت آية البحث بقوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ] ( ) ويحتمل من جهة صلتها مع أول آية السياق وهي الآية السابقة وجوهاً :
الأول : من ضروب وبنود الميثاق الإبتلاء بالأموال والأنفس .
الثاني : الإبتلاء بالأموال والأنفس خاص بالمسلمين .
الثالث : من ميثاق أهل الكتاب إعانة ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قتاله مع الكفار .
الرابع : من ميثاق أهل الكتاب الإخبار عن توفيق المسلمين في مسائل الإبتلاء .
وباستثناء الوجه الثاني أعلاه فان الوجوه الأخرى من مصاديق الصلة بين الآيتين .
ويحتمل الميثاق بلحاظ أول السورة السابقة وجوهاً :
الأول : تعلق الميثاق بالإبتلاء بالأموال .
الثاني : إنه خاص بالإبتلاء بالأنفس .
الثالث : الإبتلاء بالأموال والأنفس من الميثاق.
الرابع : الإبتلاء بالأموال أو النفوس ليس من الميثاق.
والمختار هو الثالث أعلاه ، فالميثاق عهد بين الله عز وجل وبين العباد يجب عليهم التقيد به في حال السراء والضراء ، وتعاهد مضامينه بالقول والعمل ، والمناجاة في هذا التقيد ، لذا جاءت الآيات بصيغة الجمع من جهة أهل الكتاب بقوله تعالى [أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ]( ).
المسألة الثالثة : هناك مسألتان :
الأولى : ترى هل أبتلي الذين أوتوا الكتاب واتبعوا الأنبياء بأموالهم وأنفسهم ، أم بأحدهما ، أم أنهم لم يبتلوا أبداً ، وأن هذا الإبتلاء خاص بالمسلمين .
المختار هو الأول ، فهذا الإبتلاء مصاحب للإيمان ، وهو باب للأجر والثواب بل هو ملازم للحياة الدنيا ، فلابد من الإبتلاء في الدنيا للمؤمن والكافر ، مع التباين بالأجر والثواب للمؤمن ، والأذى والإثم للذين كفروا ، وتدل عليه عمومات قوله تعالى [الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ] ( ) وقوله تعالى [إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً *وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا] ( ).
فلا دوام للحياة الدنيا ، ولا لحال مخصوصة فيها ، إنما هي إلى زوال ، ولا يبقى إلا العمل الصالح ، فجاء الميثاق من عند الله ليتعاهد الناس الإيمان، وفعل الحسنات في حال الرخاء والشدة ، والسعة والضيق .
الثانية : هل انتفع أهل الكتاب من الميثاق في باب الإبتلاء ، الجواب نعم ، فمن خصائص الميثاق وجود مصاديق له في كل زمان ، ومنها تعاهد السلم المجتمعي بالتقوى والخشية من الله ، ورجاء رحمته والرجوع إلى الإستقامة عند تجاوز الحد ، لذا فتح الله عز وجل باب العفو والمغفرة للناس ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى] ( ).
ومن لطف الله عز وجل بالناس سبق أخذه الميثاق عليهم قبل أن يخلقوا ، إذ أخذه عليهم وهم في عالم الذر ، ليخرجوا إلى الدنيا بفطرة التوحيد، وحضور الميثاق في أذهانهم ، ويتدبروا بالآيات الكونية والمعجزات .
وهل هذا التدبر من الميثاق ، أم أنه من رشحاته ، الجواب إنه منهما جميعاً ، فلا تعارض بين الأمرين .
ومن معاني الميثاق تعدد وجوهه ، وأسباب التقيد به ، والحاجة إليه ، ومنها الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وليس من حصر لمصاديق الإنتفاع من الميثاق بخصوص الأموال وحفظها، والنفوس وسلامتها من الزيغ ، لذا جاءت الآية بصيغة العموم [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ] ( ) .
فان قلت إنما وردت لام التعليل في [لَتُبَيِّنُنَّهُ] والجواب هذا البيان من وجوه الإنتفاع الأمثل من الميثاق ، إذ أن ذات أخذ الميثاق موضوع مستقل نافع في ذاته ، ويدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ].
وهو تركة عقائدية وإجتماعية وأخلاقية للأنبياء والصالحين ، وفيه سلامة للذرية ، وحفظ للأموال ، وتنقية لجمعها وانفاقها ، وإجتناب للقتال والإرهاب وسيأتي قانون الميثاق في الآخرة .
المسألة الرابعة : يتجلى الميثاق بالأموال والنفوس من جهتين :
الأولى : موضوعية الميثاق في مسألة الأموال ، وفيه وجوه:
الأول : لا تأتي الأموال للإنسان إلا باذن ومشيئة من عند الله ، قال تعالى [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] ( ) وقال تعالى[أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ]( )، ومعنى يقدر أي يضيّق ويقتر الرزق وصيرورته قليلاً.
وبين التقتير والفقر عموم وخصوص مطلق، فالتقتير والتقدير أعم وأوسع من حال الفقر التي لا يجد فيها الإنسان قوت سنته إلا بمشقة أو مرة يجده وأخرى يختفي ويبتعد عنه.
الثاني : من الميثاق الدعاء وسؤال الله عز وجل جلب المنفعة ، ودفع المفسدة ليتوجه المؤمن إلى الله عز وجل بالدعاء بوفرة المال .
الثالث : هل في قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ …] ( ) دعوة للدعاء بحضور الميثاق للإعانة في أمور الدين والدنيا ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في تعقب آية الميثاق هذه لآية الإبتلاء في الأموال الأنفس .
الثانية : الإختبار والإمتحان في النفوس وأيهما أشق على الفرد والجماعة الإبتلاء بالأموال ام بالنفوس .
الجواب هو الثاني ، إذ أن الأذى الذي يقع على النفس والبدن أشد على الإنسان ، وحتى في العبادات فان الصوم مثلاً عبادة بدنية والزكاة عبادة مالية ، والصوم أشق على النفس ، كما أنه أعم من جهة التكليف ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
بينما لا تجب الزكاة إلا عند تحقق النصاب وتكون باخراج جزء يسير من المال فهي عبادة مالية .
ومن الإبتلاء في النفوس الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في سبيل الله ، من قبل مشركي قريش ، ومن ولاهم لا لشيء إلا لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عملوا بالميثاق فسقط عدد منهم شهداء ، وأصابتهم الجراحات الشديدة إلى جانب الأضرار بالأموال والمكاسب .
المسألة الخامسة : لقد أخبرت آية البحث عن أخذ ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، بينما ذكرتهم آية البحث باسماعهم للذين آمنوا أذى ، واشترك في هذا الأذى الذين أشركوا بالله ، مع التباين بين أهل الكتاب والمشركين في العقيدة والمبدأ وعالم الفعل ، وفيه دعوة لأهل الكتاب إلى الإمتناع عن إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن لا يكون هناك جامع بينهم وبين المشركين في هذا الباب .
وهل كل أهل الكتاب يسمعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أذى كثيراً ، الجواب لا ، لقوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ) .
ومن معاني الجمع بين الآيتين حاجة المسلمين الى الصبر قربة إلى الله تعالى ، ورجاء الثواب ، ومن مصاديق تقدير الجمع بين الآيتين (وان تصبروا على كتمان الناس الحق وتتقوا الله فان الله يظهر الحق وان اخفته وسترته بعض الطوائف من الأمم السابقة) ترى ما هو الذي يجب ألا يكتم أو يُخفى بلحاظ الآية السابقة ، الجواب من جهات :
الأولى : وجوب السعي في الدعوة إلى التوحيد ، فمن الميثاق قوله تعالى [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ]( ).
الثانية : قانون إتباع الأنبياء حق .
الثالثة : التسليم بأنه مع الدعوة إلى الله يحدث الإبتلاء والأذى ، قال تعالى [وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] ( ).
الرابعة : البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضد كفار قريش الذين لم يكتفوا بمحاربته بل منعوه من دخول مكة لأداء العمرة ، كما تجلى في قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ]( )، أي في الحديبية في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة وقبل واثناء عقد صلح الحديبية ، واطلع رجل من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم اسمه (زنيم) الثنية ، في الحديبية ، قبل الصلح ، فرماه المشركون بسهم فقتلوه ، مع أنهم في شهر حرام .
(فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيلا فأتوا بأثني عشر فارسا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هل لكم عهد أو ذمة ، قالوا لا ، فأرسلهم فأنزل الله في ذلك وهو الذي كف أيديهم عنكم الآية)( ).
المسألة السادسة : من معاني ودلالات وتقدير الصلة بين آية البحث وآية السياق وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا إذ أخذ الله ميثاقكم وعهدكم لتبلون في أموالكم وأنفسكم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بينوا الميثاق والتوحيد وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس ، وقد أثنى الله عز وجل على المؤمنين ، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا يكون إبتلاؤكم في الأموال والنفوس سبباً لكتمان الحق ودلائل النبوة .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا اصبروا على الذين يكتمون الميثاق.
إن تلاوة القرآن في الصلاة من مصاديق إعلان الميثاق ، والترغيب ببيانه.
ومن إعجاز آية البحث مجيؤها بصيغة الخطاب العام في الأمر والنهي بقوله تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ] ( ) وكأنه يشمل المسلمين في الدعوة إلى الله باخلاص العبادة والصلاح وعمل الصالحات ، ليكون من معاني قوله تعالى في الآية السابقة [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ] ( ) أن الصبر والخشية من الله من سنن الميثاق .
ومن الصبر في المقام وجوه :
الأول : بيان صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : ذكر المعجزات العقلية والحسية التي تدل على صدق نبوته .
الثالث : تحمل الأذى في بيان الحق ، وذكر البراهين ، وكشف حقائق الوحي والتنزيل .
الرابع : تدارك ما يكتمه أهل الكتاب بقيام المؤمنين ببيانه وذكره ، وإقامة البرهان عليه .
الخامس : التباين والتضاد بين عزم الأمور الذي أختتمت به الآية السابقة وبين إخفاء الحق والتخلف عن بيانه .
السادس : وجوب قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببيان لأحكام الشرعية ، قال تعالى في الآية السابقة [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( )، بالمسلمين على نحو الحصر والتعيين .
الجواب لا ، إنما يشمل أهل الكتاب ودعوتهم لإجتناب نصرة المشركين في قتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد اختار نصارى نجران الصلح مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودفع الجزية وإجتناب تحريض أو مساعدة الكفار قبل الصلح وبعده ، وهل يمكن القول أن هذا الإجتناب من الميثاق الذي تذكره آية البحث ، الجواب نعم .
إعجاز الآية الذاتي
تتضمن آية البحث الإخبار عن أخذ الله سبحانه الميثاق والعهد من الذين اتبعوا الأنبياء السابقين لبيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بتضمن القرآن الإخبار عن المواثيق من جهات :
الأولى : المواثيق والعهود بين الله والناس على نحو العموم الإفرادي فهناك ميثاق بين الله وبين كل إنسان ، ومنه الميثاق في عالم الذر .
الثانية : العهد الذي أخذه الله عز وجل على الأنبياء ، وخصهم وأكرمهم به من بين أهل الأرض.
الثالثة : الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على أهل الكتاب الذي تذكره آية البحث .
الرابعة : الميثاق بين الله وبين المؤمنين في كل زمان .
الخامسة : الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على المسلمين ، ويتجلى هذا الميثاق بآيات القرآن ، ومنها آية البحث التي تدعو المسلمين إلى التقيد بأحكام الميثاق .
لقد أخبرت الآية السابقة عن سماع المسلمين الأذى من الذين أوتوا الكتاب من الأمم السابقة ، ومن المشركين ، وبينهما عموم وخصوص مطلق، فالأذى من المشركين أشد وأطول ، فمادة الاشتراك من وجوه :
الأول : كل من قسمي هذا الأذى خلاف الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الناس.
الثاني : إتصاف هذا الأذى بالإفتراء لبيان قانون وهو كل ما خالف الميثاق باطل ، قال تعالى [وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ) .
ترى ما هي النسبة بين كلمات الله التي تذكرها الآية أعلاه وبين الميثاق ، الجواب إنها العموم والخصوص المطلق .
أما مادة الإفتراق :
الأولى : قيام الذين كفروا بتجهيز الجيوش لغزو المدينة ، ولقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، إلى جانب الأذى الذي يُسمعونه المسلمين ، بينما لم يجهز أهل الكتاب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الجيوش .
الثانية : إرادة المشركين بعث الضجر والسأم والشك في نفوس المؤمنين ، وكان الأذى على وجوه :
الأول : إنه مقدمة لهجوم المشركين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثاني : إقتران قتال المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأذى المشركين .
الثالث : إستمرار الأذى من المشركين حتى بعد إنتهاء المعارك .
الثالثة : الأذى الذي يسمعه المسلمون من أهل الكتاب فانه أخف وطأة ولا يقترن بالقتال كما أنه لا يصدر من جميع أهل الكتاب الذين على صلة بالمسلمين .
نعم صدور هذا الأذى خلاف وظيفة أهل الكتاب بقوله تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ].
ويمكن تسمية آية البحث باسم آية [مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ] ( ).
إعجاز الآية الغيري
تبعث آية البحث على إظهار العلم ، وعدم إخفائه أو ستره .
وتتجلى في هذا الإظهار نعم عظيمة على عامة الناس لما فيه من نشر للواء الأمن والتآخي ، وشيوع الإيمان ، وإنجذاب الناس إلى سبيل الهدى ، وحرمة سفك الدماء .
(وعن الحسن بن عمارة قال : أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألقيته على بابه فقلت : إن رأيت أن تحدثني .
فقال : أما علمت أني قد تركت الحديث فقلت : إما أن تحدثني وإما أن أُحدثك. فقال : حدثني. فقلت : حدثني الحكم ابن عيينة عن نجم الجزار قال : سمعت علياً عليه السلام يقول : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال : فحدثني بأربعين حديثاً)( ).
وتبين الآية الوظائف العقائدية المترشحة عن اتباع الأنبياء ، بلزوم القيام بتبليغ الأحكام والبشارات بالنبوة ، وظهور أهل الإيمان ، وهل من البيان تعاهد الفرائض العبادية كالصلاة والصيام والزكاة ، الجواب نعم.
وتحتمل النسبة بين الميثاق في آية البحث وبين الهاء في (لتبيننه) وجوهاً :
الأول : التساوي وأن الضمير الهاء يعود إلى الميثاق.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الميثاق أعم من المراد من الضمير الهاء .
الثانية : موضوع الضمير الهاء أعم من الميثاق .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء ، وأخرى للإفتراق بينهما .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الأول .
إذ يشمل العهد والكتاب ، ومن المفسرين من حصر معنى الهاء في لتبيننه بالكتاب ، وسيأتي مزيد كلام في الجزء (228) من هذا السِفر.
ومن معاني الآية قانون وصول بيان كلمة التوحيد ووجوب عبادة الله عز وجل إلى الناس جميعاً ، وان صدر من طائفة منهم ، وهو من الإعجاز في الميثاق الإلهي ، ويتجلى بأبهى حلّة بتبليغ الأنبياء للناس فيبدأ النبي بالدعوة إلى الله عز وجل من أهل بيته ودويرته لتتوسع دعوته ، وتزداد يوماً بعد يوم .
ويتلقى كل فرد من أهل الإيمان الميثاق بالقبول ثم يكون داعياً له ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وتنمي آية البحث ملكة قول الحق والدعوة إلى مسالك الهدى ، والامتناع عن إخفاء معجزات الأنبياء والبشارات بنبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
الآية سلاح
يمكن تسمية الحياة الدنيا دار الميثاق فلم يهبط آدم إلى الأرض إلا وقد أخذ الله سبحانه عليه وعلى حواء الميثاق ، ثم توالت مصاديق الميثاق على الناس مجتمعين ومتفرقين .
وأخبرت آية البحث بأن الله سبحانه أخذ ميثاقاً على أهل الكتاب يتعلق بالبيان ، وهل هذا البيان على نحو الوجوب أم الندب والإستحباب.
الجواب هو الأول ، ويمكن حمل اللام في (لتبيننه) على إرادة الوجوب ، كما جاءت الإشارة إليه في باب الإعراب واللغة .
لقد جعل الله عز وجل الميثاق رحمة للناس جميعاً سواء الميثاق العام أو الخاص ، ومن الخاص ميثاق الأنبياء ، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ]( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه لضللتم .
إنكم حظي من الأمم ، وأنا حظكم من النبيين( ).
لقد أخذ الله عز وجل الميثاق على أهل الكتاب بواسطة أنبيائهم ، فاصبحوا شهوداً على التأريخ بالدعوة إلى الله ، والتصديق ببعثة النبي محمد وتبين الآية قانوناً وهو أن بيان الحق سلاح ، وخير محض ، ونفع عام.
وتتضمن الآية الإنذار والوعيد على كتمان وإخفاء الميثاق ، فهو نعمة من عند الله ، ورحمة بأهل الأرض ، فمن معاني قوله تعالى [وَلَا تَكْتُمُونَهُ] وصيغة النفي وليس النهي الدلالة على الأضرار التي تتفرع عن هذا الكتمان والإخفاء للميثاق والعهد بين الله عز وجل وبين العباد ، والبشارات بسلطان الإيمان في الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي الشهادة ووجوب إظهارها ، قال تعالى [وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ]( )، و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تشهد على شهادة حتى تكون عندك أضوأ من الشمس .
وأخرج ابن مردويه عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : خيركم من كانت عنده شهادة لا يعلمها فتعجلها قبل أن يسألها)( ).
مفهوم الآية
تبين آية البحث قانوناً وهو أن الحياة الدنيا دار الميثاق ، وأنه ملازم للأنبياء وأتباعهم ، ترى كيف أخذ الله عز جل ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، الجواب بعد الميثاق العام في عالم الذر ، فان كل نبي يأتي بميثاق وعهد من عند الله ، ليكون أخذ الميثاق من وظائف النبوة ، ومنه طلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البيعة من الناس .
والمختار أن بيعة الأنبياء من الميثاق ، ولا يأخذ النبي الميثاق لنفسه ، إنما يأخذه لله عز وجل من الأتباع .
ولقد بايع الأنصار الأوائل النبي محمداً في العقبة عند منى في موسم الحج في مكة ، وكانت هناك بيعتان في كل سنة بيعة ، والثانية أجلى وأظهر وأوسع من الأولى .
وكان عدد الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ اثني عشر رجلاً ، وليس معهم امرأة ، ومع هذا سميت بيعة النساء لأنها لم تتضمن الدفاع.
وعن عبادة بن الصامت وهو ممن حضر بيعة العقبة الأولى في نص بيعتهم للنبي وهي (أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاَللّهِ شَيْئًا ، وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِيَ وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا ، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانِ نَفْتَرِيهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا ، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ فَإِنْ وَفَيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنّةُ وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ فَأُخِذْتُمْ بِحَدّهِ فِي الدّنْيَا ، فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَإِنْ سُتِرْتُمْ عَلَيْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَمْرُكُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ إنْ شَاءَ عَذّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ) ( ).
ومن مفاهيم الآية أمور :
الأول : منع الناس من إنكار الميثاق ،
الثاني : سؤال أهل الكتاب عن الميثاق ، ومنه الفرائض العبادية ، وصفات نبي أخر زمان ، والتصديق بنبوته .
الثالث : تحري مضامين ميثاق أهل الكتاب في التوراة والإنجيل .
الرابع : بيان فضل الله عز وجل على أهل الكتاب بأكرامهم من جهات:
الأولى : إخبار القرآن عن أخذ الله عز وجل منهم الميثاق من أهل الكتاب .
الثانية : دعوة المسلمين للإحتجاج بالميثاق والدعوة لبيانه .
الثالثة : مع أن الميثاق العام تم في عالم الذر ، وميثاق أهل الكتاب بواسطة الرسل ، ومنهم الرسول موسى والرسول عيسى عليهما السلام ، فان الله عز وجل نسب أخذ الميثاق منهم بنفسه ، وفيه مسائل :
الأولى : تأكيد الميثاق .
الثانية : بيان قانون وهو ما يأخذه الأنبياء من الميثاق والبيعة على الأمم هو من عند الله سبحانه .
الثالثة : تشريف أهل الكتاب وأنهم عندما اختاروا اتباع الرسل أخذ الله عز وجل لنفسه منهم الميثاق ، وهل أخذ الله عز وجل ذات الميثاق على الذين كفروا ، الجواب لا ، لذا كانت ابتدأت بيعة العقبة الأولى بعدم الإشراك بالله( ) .
ومن معاني آية البحث : يا أيها الذين أوتوا الكتاب قد أكرمكم الله بالميثاق ، فاشكروا الله عز وجل ببيان وتفصيل الميثاق لعامة الناس ، لينزل عليكم الفضل من الله عز وجل ، وتفوزون بالأجر والثواب العظيم .
وتتضمن الآية إخبار المسلمين بأنه بين الناس أمم من أتباع الأنبياء ، وفيه منع من النظر لعامة الناس بصفة مشركي مكة ، فقد يستصحب المسلم حال أهل مكة على غيرهم ، فجاءت هذه الآية ليتفقه المسلمون في الدين ، وليعلموا بأن أمماً من اهل الأرض يدينون بالتوحيد .
ترى ماذا لو بيّن أهل الكتاب البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس ومنهم قريش ، الجواب لبادرت أفواج من الناس لدخول الإسلام ، ولما تأخر هذا الدخول إلى السنة التاسعة والعاشرة من الهجرة إذ نزل قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ) .
الآية لطف
من خصائص الحياة الدنيا الإستدامة وسير الشمس والقمر وتداخل الليل والنهار بآيات كونية إلى أجل ، وكل واحدة منها لطف من عند الله بالعباد والخلائق .
والله يوصل وقائع المنافع إلى العباد عن استحقاق ومن دونه لأنه هو اللطيف الخبير ، يهدي الناس إلى العمل الصالح ، وإلى ما يناسب شأنهم وما يقود إلى الهدى ، ويرزقهم جميعاً من فضله ، وذات خلق الإنسان في الرحم ونموه وولادته وحياته من اللطف الإلهي ، ومنه الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الناس جميعاً من الحروب والإقتتال .
فلو قاموا باذاعة البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخبروا قريشاً وحلفاءهم عن حرمة محاربته وأنها لا تجلب لهم إلا الهلاك لخفت وطأة القتال ، وكانت المعارك أيام النبوة أقل عدداً في ذاتها ، وفي مجموع أفراد جيوش المشركين .
وفي التنزيل [إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ] ( ) ومن معاني الآية أعلاه الإطلاق ، وتغشي لطف الله للذين آمنوا وأهل الكتاب وغيرهم ، وهو يعم الموجودات والخلائق كلها .
وهل الميثاق الذين تذكره آية البحث من اللطف الإلهي ، الجواب نعم ، وهو لطف من وجوه :
الأول : اللطف بأنبياء بني إسرائيل إذ بعثهم الله عز وجل بالميثاق ووجوب بيانه .
الثاني : تشريف أهل الكتاب ، وحملهم أمانة الميثاق .
الثالث : سبق الإخبار عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الميثاق ، وهو من اللطف الإلهي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الرابع : اللطف باللناس جميعاً بتلقي البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعنوان الميثاق .
الخامس : قانون الميثاق حجة وبرهان .
السادس : قانون ترغيب الناس بالميثاق والتقيد بمضامينه ، وفي التنزيل [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ] ( ).
إفاضات الآية
لقد نزل القرآن بالميثاق ، ولزوم بيانه ، ويمكن القول بقانون وهو ذات الآية القرآنية ميثاق وعهد بين الله عز وجل وبين كل من :
الأول : جبرئيل الذي نزل بالقرآن ، قال تعالى [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ]( ) وهل آية البحث من الإنذار الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم من جهات :
الأولى : وجوب بيان الميثاق .
الثانية : الإخبار عن بشارات موسى وعيسى عليهما السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : التحذير والإنذار من إخفاء الحق .
قال تعالى [وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ] ( ) إن نشر العلم ، وتبليغ الحق وأحكام الشريعة من مصاديق الجهاد في سبيل الله ، لذا يتضمن الأمر بالبيان السعي في طاعة الله ، والقيام بالتبليغ ، وإظهار الموروث من الحقائق الغيبية للفوز بالأجر والثواب .
وجاء القرآن بالحضّ على إظهار البينات ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] ( ) .
وهل إعلان الميثاق من التقوى ، الجواب نعم ، سواء قصد به القربة إلى الله عز وجل أو اكتفى بأداء الأمانة والوفاء بالعهد ، قال تعالى [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ] ( ) ومن الميثاق توثيق آيات القرآن وحفظها والتدبر في معانيها .
ومن أفاضات الآية التعرض لفضل الله بالإنتفاع الأمثل من الميثاق وإعلانه ،إذ أن قوله تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ]أعم من الإعلان ، فيشمل التصديق بالميثاق والبشارات ، وكأن الآية تخاطب أهل الكتاب ، أي أهل الكتاب عندكم ميثاق فاظهروه ولا تخفوه ، وتخاطب الناس يا أيها الناس عند أهل الكتاب فاستمعوا له .
وهل من معاني الآية فسألوهم عنه الميثاق ، أم أن قوله تعالى [فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ] ( ) مانع من هذا السؤال .
المختار هو الأول ، فمن المقاصد السامية للآية القرآنية التذكير ، قال تعالى [فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى]( ).
وهل تؤخذ أجرة على بيان الميثاق ، الجواب لا ، لأنه واجب ، والواجب لا تصح الأجرة عليه .
بالإضافة إلى قانون وهو بيان الميثاق نعمة ورحمة من جهات :
الأولى : أنه رحمة بأهل الكتاب براءة الذمة بهذا البيان .
الثانية : إنه رحمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومدد وعون له من الله جعله يجري بواسطة أهل الكتاب .
الثالثة : حفظ وتوثيق الميثاق .
الرابعة : بيان الميثاق رحمة بالذين يدخلون الإسلام ، وتثبيت للمؤمنين في مقامات الهدى ، قال تعالى [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ] ( ).
الآية بشارة
لقد ملأ الله عز وجل الحياة الدنيا بالمواثيق ، فليس من إنسان إلا وقد أخذ الله عز وجل عليه الميثاق ، سواء الميثاق المتحد أو المتعدد.
ليكون سبيلاً لذكره وعبادته ، ومناسبة لتوجه الناس إلى الدعاء ، لأن الميثاق نوع صلة دائمة بين الإنسان روحاً وجسداً وبين الله عز وجل ، لذا لم تذكر الآية الميثاق بين طرفين ، إنما هو أخذ من الله عز وجل من أهل الكتاب .
وتمنع آية البحث من التهاون بالميثاق ، وعدم الإكتراث به والإنقطاع إلى متاع الحياة الدنيا ، وتبين أن أتباع الأنبياء يتحملون مسؤولية عامة وهي هداية الناس إلى التصديق بالنبوة والتنزيل .
وهل يختص البيان في الآية بالذكور من أهل الكتاب ، الجواب لا ، إنما يجب الوفاء بالميثاق على الذكور والأناث مع البيان وتشملهم أحكام التقية من القوم الكافرين.
وفي تعاهد الميثاق الأجر العظيم وهل يحضر الميثاق يوم القيامة ، الجواب نعم ، ليشهد للذين تقيدوا والتزموا به ، ويشهد على الذين نقضوه وأخلوا به .
لقد أمر الله عز وجل المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً بالوفاء بالعهد والميثاق الذي أخذه عليهم قال تعالى [وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( ).
ومن خصائص الإنسان رزق الله عز وجل له العقل ، والتمييز بين الأفعال ومعرفة الصحيح والسقيم ، والحق والباطل ، وتدرك عقول الخاصة والعامة أن الوفاء بالمواثيق نعمة وصلاح ، ونجاة من الشرور ، وهذا الوفاء من تقوى الله عز وجل ، قال سبحانه [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا]( ).
أي أن الله عز وجل يعلم أعمال البشر ، ويرقبها ويحفظها بذاتها ويحفظها للعبد ، فمن يتعاهد الميثاق ويبينه للناس فان الله عز وجل يحفظ له هذا الفعل ، وقد اثنى الله عز وجل على الذين يوفون بالعهد ، وأخبر سبحانه بأنهم يفوزون بحب الله لهم ، قال تعالى [بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ).
لقد أخذ الله عز وجل الميثاق على الأنبياء وعلى أممهم بالإلحاق والتبعية، وأمرهم والناس جميعاً باتقاء وإجتناب المحارم التي نهى الله عز وجل عنها .
وقد أخبر الله عن إصابة الذين ينفقون الميثاق باليأس يوم القيامة ، وأن الله عز وجل لا يكلمهم ، وكما أخبرت آية البحث على وجوب بيان الميثاق ، وعدم اخفائه ، نزلت آيات أخرى بوجوب التنزه عن تحريف الميثاق ، قال تعالى [وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ]( ).
وموضوع آية البحث البشارة السماوية برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإيداع هذه البشارة عند الأنبياء وفي الكتب السماوية فتلقتها أجيال أهل الكتاب جيلاً بعد جيل من غير أن يتغير موضوعها لأن هذه الرسالة حق وصدق ، ولكن طائفة من الناس هجروا هذه البشارة.
فبقيت آية البحث وآيات التوراة والإنجيل شاهداً على التأريخ ، وضياء للمسلمين للعمل بهذا الميثاق ، وتمنع من إخفائه وفيه دعوة للمسلمين للحمد والشكر لله عز وجل على نعمة الميثاق ، وتجدد البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن نبذ الميثاق وراء الظهور ما يدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ]( ).
الآية إنذار
تتضمن آية البحث قانوناً من جهات :
الأولى : الدنيا دار الميثاق.
الثانية : لزوم تجلي الميثاق بالقول والعمل .
الثالثة : الكتاب السماوي رحمة من الله ، كالتوراة والإنجيل والقرآن.
الرابعة : مجئ الميثاق مع الكتاب السماوي ، وفي ثناياه ، ومن يؤمن بالكتاب بتقيد بما فيه من المواثيق والعهود.
الخامسة : الإنذار والوعيد للذي ينقض الميثاق ، ويجعله وراء ظهره ، ولا يعمل به .
وقد ورد الذم في آية البحث بصيغة الجمع [فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ]( )، فتفضل الله بالإنذار من هذا النبذ والترك .
وهذه الآية من الإحتجاج على الذين أوتوا الكتاب ، ودعوة للناس لتلقي بيان الميثاق من القرآن الذي جعله الله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
والآية إنذار من إخفاء الميثاق والفرائض ، والإمتناع عن الشهادة بالحق ، إذ أن أضرار هذا الإخفاء لا تختص بطائفة دون أخرى ، إنما تشمل الناس جميعاً.
إن إعلان البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للناس لعدم إتباع قريش في غزوها للمدينة ، وحربها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف ، لبيان قانون وهو أن الله عز وجل ينصر رسله بالميثاق واعلانه ، قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
وجاءت آيات القرآن بالتحذير والإنذار من نقض المواثيق ، قال تعالى [فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ]( )، لبيان أن الله عز وجل مظهر لرسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن الذي ينقض العهد يجلب الضرر لنفسه ويجني عليها في الدنيا والآخرة ، والتقيد بميثاق الله تنمية لملكة الوفاء والأمانة وعدم نقض المواثيق ، قال تعالى [الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ]( ).
لقد ذم الله الذين كفروا لإعراضهم وهجرانهم العهود التي يقطعونها على أنفسهم قال سبحانه [وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ]( )، فاراد الله عز وجل في آية البحث إنذار أهل الكتاب ، وبعثهم على التقيد بالميثاق وبيانه وعدم التفريط به لقاء متاع قليل من الدنيا ، وقد أنذر الله عز وجل من نقض الميثاق ، قال سبحانه [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
ابتدأت آية البحث بصيغة القطع وظرف الزمان الماضي (إذ ) مما يدل على حصول الميثاق ،وقيام الحجة على أهل الكتاب ، وهذا الميثاق رحمة بأهل الكتاب أنفسهم ، وهل صاروا أهل كتاب قبل الميثاق أم بعد الميثاق ، الصحيح هو الأول ، فحينما نالوا مرتبة أهل الكتاب جاءهم التكليف من جهات :
الأولى : حمل الميثاق .
الثانية : العمل بالميثاق .
الثالثة : بيان الميثاق .
ولم تقل الآية أخذ الله الميثاق من أهل الكتاب إنما أخبرت عن أخذ ميثاق أهل الكتاب لبيان إفادة الألف واللام في الميثاق العهد ، وأنه ميثاق وأحد يجب على أهل الكتاب أن يعطوه إلى الله عز وجل ، وأن يأخذه الله منهم طوعاً وقهراً.
لبيان قانون وهو الملازمة بين الكتاب والميثاق ، فاذا آتى الله عز وجل قوماً الكتاب المنزل من عنده فانه يأخذ ميثاقهم.
ثم ذكرت الآية وجوب بيان أهل الكتاب للميثاق ، وهذا البيان لا يختص بهم إنما يشمل الناس جميعاً على نحو التبليغ للأحكام العبادية ، والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهل علة أخذ الميثاق هو البيان للناس وحده ، الجواب لا ، فذات الميثاق مطلوب.
ولابد أن يعطيه أهل الكتاب ، كما يقومون ببيانه وذكره للناس من غير تحريف أو زيادة أو نقصان لتكون الحجة من جهات :
الأولى : أخذ الله ميثاق وعهد أهل الكتاب .
الثانية : وجوب بيان أهل الكتاب لمضامين الميثاق ، وما عاهدوا الله عليه ، وفي ذم المنافقين ، قال تعالى [وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً]( ).
الثالثة : حرمة كتمان وإخفاء العهد والميثاق ، وهل تختص هذه الحرمة بأهل الكتاب ، الجواب لا .
الرابعة : القبح الذاتي للتفريط بالعهد والميثاق .
ولقد ذكرت الآية وجوب بيان الميثاق للناس ، وأخبرت عن حرمة كتمانه مطلقاً سواء الكتمان الذاتي فيما بين أهل الكتاب أم كتمانه وإخفائه عن المسلمين ، وعن الذين كفروا ، ولكنهم أعرضوا عن الميثاق ، وكأنهم تركوه وراء ظهورهم لبيان أنهم لا يستحضرونه ، فهم يبتعدون بالسير عنه ، فتفضل الله بالتحذير والإنذار في القرآن من الضلالة بسبب إخفاء حقائق التنزيل ، وأسرار النبوة ، لقد جاءت التوراة بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه من ولد إسماعيل .
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان قانون الميثاق ، وأن الله عز وجل أخذه على أهل الكتاب على وجهين :
الأول : في عالم الذر .
الثاني : عند نزول التوراة والإنجيل وتصديقهم بهما .
الثانية : تأكيد أصل الإستصحاب في التنزيل فكما آمن أهل الكتاب بالتوراة والإنجيل وهذا الإيمان من الميثاق فلابد من التصديق بنزول القرآن ، قال تعالى [نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ] ( ).
الثالثة : نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسبق البشارة بنبوته ، وبحض أهل الكتاب على التصديق بها.
الرابعة : قبح إخفاء حقائق التنزيل .
الخامسة : يدل أخذ الله ميثاق أهل الكتاب على تهيئة مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والدعوة لها قبل ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كانت فترة خالية من الأنبياء بين بعثة عيسى عليه السلام وبعثته نحو ستمائة سنة.
ومع هذا فان ميثاق أهل الكتاب حاضر في كل زمان قبل وبعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من آيات الله في العالمين .
وهل الثمن القليل الذي تذكره آية البحث بالقياس إلى الميثاق والعهد ، أم أنه قليل وزهيد بذاته.
الجواب لا تعارض بين الأمرين ، وفي التنزيل [قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً]( ).
السادسة : تأديب وإرشاد المسلمين لحفظ الميثاق والعهد مع الله ورسوله، ومنه أداء الفرائض العبادية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
السابعة : تدل الآية بالدلالة التضمنية على أن الميثاق سلم وأمن ، لذا فان بيانه باعث للتعايش السلمي ، وحسن الصلات بين أهل الملل والشعوب ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ]( ).
الثامنة : بيان الحاجة إلى تلاوة آيات القرآن ، وكل آية ميثاق وشعبة من الميثاق .
التفسير
قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ]
ذكرت آية البحث بيان أهل الكتاب الميثاق للناس ، وهذا البيان على نحو الوجوب لقوله تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ]( ).
ومن لطف ورحمة الله بالناس أنه لم يؤاخذهم ويعاقبهم عندما كتموا الميثاق ، ولكنه لم يجعلهم الطريق والسبيل الوحيد لبيان الميثاق وعدم العقاب هذا من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ، لذا تفضل تعالى بنزول القرآن وجعله سالماً من التحريف والتبديل والزيادة والنقص إلى يوم القيامة، وهل يمكن القول بقانون وهو : القرآن تأكيد وتجديد لميثاق أهل الكتاب ، الجواب نعم .
وهل المقصود من أهل الكتاب يهود المدينة ، كما ورد عن بعض المفسرين ، أم أنه أعم ، المختار هو الثاني .
و(هذا لميثاق الله أخذ على أهل مكة ممّن علم شيئاً فليعلّمه ، وإيّاكم وكتمان العلم فإنه هلكة)( ).
ومضامين آية البحث باقية ومتجددة في كل زمان ، وفيها دعوة للتآلف والرفق وحسن المعاشرة العلمية بين المسلمين وأهل الكتاب .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (لما أهبط الله آدم إلى الأرض قام وجاه الكعبة ، فصلى ركعتين ، فألهمه الله هذا الدعاء : اللهم إنك تعلم سريرتي ، وعلانيتي فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي .
اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي ، ويقينا صادقا حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتبت لي ، ورضا بما قسمت لي .
فأوحى الله إليه : يا آدم ، إني قد قبلت توبتك ، وغفرت لك ذنبك ، ولن يدعوني أحد بهذا الدعاء إلا غفرت له ذنبه ، وكفيته المهم من أمره ، وزجرت عنه الشيطان ، واتجرت له من وراء كل تاجر ، وأقبلت إليه الدنيا راغمة ، وإن لم يردها) ( ).
وهل يتضمن الميثاق ترغيب المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً بالعمل به ، الجواب نعم ، وهو من رحمة الله عز وجل بالناس في الدنيا ، وتقريبهم بلطفه للعمل بأحكام الشرائع السماوية .
ومن اللطف الإلهي في المقام وجوه :
الأول : سبق الترغيب بالميثاق قبل تلقيه ، ومن هذا السبق تعليم آدم من قبل الله عز وجل قُبُلاً من غير واسطة ، قال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) ليكون من الميثاق وبنوده وجوب بيانه للناس .
الثاني : من وظائف الأنبياء تبليغ الميثاق ، وجعله تركة للذين من بعدهم من الأتباع والأنصار ، ليكون الميثاق من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا]( ).
الثالث : تذكير أهل الكتاب بما يجب عليهم من الوظائف العبادية ، فصحيح أن الآية أخبرت عن وجوب تبليغ البشارات إلا أن موضوعها أعم ، إذ أن هذه البشارات فرع عقيدة التوحيد ، وشعبة من العبادات ، ونوع طريق لإستدامة أدائها بما يفرضه الله سبحانه من الأركان والأجزاء فيها ، كما في الأداء المتجدد للصلاة ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ).
وتتضمن آية البحث تقسيماً عقائدياً للناس بلحاظ النبوة والكتاب السماوي ، وهم :
الأول : المسلمون والمسلمات الذين توجه لهم الخطاب في الآية السابقة [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ] ( ) كما ورد الخطاب الخاص بهم في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]تسعاً وثمانين مرة في القرآن .
الثاني : الذين أوتوا الكتاب ، وهم أهل الكتاب , وهي كلمة مركبة من كلمتين :
الأولى : أهل : والمراد أصحاب الشئ ، والقائمون بأمره ، والذين ينتسبون إليه ، وأهل الأمر أولياؤه وأهل الدار وسكانها ، وأهل الرجل عشيرته وقرابته ، وقد تأتي بمعنى العائلة والأسرة ، قال تعالى [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا] ( ).
كما في أهل البيت إذ ورد في القرآن مرتين ، واحدة في إكرام وتنزيه وعصمة أهل بيت النبوة بقوله تعالى[ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا] ( ) وأخرى متصلة معها في الحكم ،ومقدمة لها في الموضوع بقوله تعالى [قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ] ( ).
الثانية : الكتاب ، وهو الوحي المكتوب في المصحف ، والمراد التوراة والإنجيل ، وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، ويلحق بهم المجوس والصابئة على قول , والمسلمون أيضا أهل كتاب .
الثالث : عموم الناس .
عموم الميثاق
هل أخذ الله عز وجل الميثاق من الناس كافة ، ومن أهل الكتاب خاصة في دعوة للناس للتصديق بالنبوة والتنزيل ، وعدم محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم.
إذ أن أهل الكتاب أئمة الناس في لزوم التصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( )، والسواء العدل والتشابه ، ومحل الإلتقاء وهي كلمة التوحيد ، والتنزه عن الشرك .
ولم يرد لفظ [سَوَاءٍ بَيْنَنَا] في القرآن إلا في الآية أعلاه وتدل خاتمة الآية أعلاه على صبغة السلم في دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالإخبار عن البقاء على الإسلام حتى مع إعراض أهل الكتاب عن الدعوة.
ومن الصلة بين ميثاق أهل الكتاب وبين قريش لزوم قيام أهل الكتاب بالإخبار عن البشارات التي عندهم برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحذير قريش من الصدود عنها .
وذات ميثاق أهل الكتاب حجة على المشركين لوجوب التصديق بالأنبياء السابقين .
وقد جاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت هذا التصديق في الأرض فبدل أن يؤمن المشركون بالنبوات قاموا بمحاربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليكونوا ممن ذكرتهم آية البحث [فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ]( ).
إذ أن اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، فمن فضل الله عز وجل بلوغ البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل بعثته إلى أهل مكة والمدينة على اختلاف مشاربهم ، ومنهم المشركون ، لتكون حجة عليهم ونوع ميثاق بلزوم عدم محاربته ، وإرادة قتله وأصحابه .
وعن سعبد بن جبير في قوله تعالى [الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ]( )، قال : هذا في العلم ليس للدنيا منه شيء( ).
ولكن موضوع الآية أعم ، وهي تتعلق بالمال والإنفاق الواجب والمستحب ، وفي الدفاع عن كلمة التوحيد ، قال تعالى [هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ]( ).
ومن إعجاز القرآن ورود كلمة (يبخل) في القرآن ثلاث مرات كلها في الآية أعلاه ، كما وردت كلمة (يبخلون) ثلاث مرات في القرآن في آيات متفرقة.
وهل من الميثاق إقامة الصلاة في الأرض طاعة لله سبحانه ، الجواب نعم ، وهو الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانكره المشركون ، وسعوا إلى منع إقامة الصلاة ، وقوة الميثاق أشد وأقوى منهم.
ومن إعجاز القرآن نزوله بلغة إياك أعني واسمعي ياجارة ، فصحيح أن الآية ذكرت أخذ الميثاق على أهل الكتاب ولكن موضوعه ووجوب الإنتفاع منه عام ، ويكون عموم الميثاق من جهات :
الأولى : الميثاق والعهد الذي أخذه الله من الناس في عالم الذر .
الثانية : العهد الذي أخذه الله على الرسل بالتبليغ وتجديد الميثاق ، قال تعالى [فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ).
الثالثة : ميثاق أهل الكتاب الذي تذكره آية البحث لوراثة الأنبياء في سنن التقوى والبشارات والإنذارات ، ليكون هذا الميثاق تذكيراً للناس جميعاً بميثاق عالم الذر ، كما أن ميثاق عالم الذر مقدمة لهذا الميثاق .
الرابعة : الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على العقول وقدرتها على التمييز والفصل بين الحق والباطل .
(عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما خلق الله العقل قال له : أقبل ، فأقبل ، ثم قال له : أدبر ، فأدبر ، فقال : وعزتي ما خلقت خلقا أعجب إلي منك ، بك آخذ ، وبك أعطي ، وبك الثواب ، وعليك العقاب) ( ).
من الميثاق الوعد والوعيد
من الميثاق في الأموال والأنفس والبعث على التقيد به الوعد والوعيد من الله عز وجل والوقوف بين يدي الله للحساب ، قال تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ] ( ).
ويبدأ الحساب عليها في عالم البرزخ ، وعند دخول العبد في القبر ، وهذا الحساب حساب إبتدائي ، وتذكير للعبد بما فعل في الدنيا ، وقيل ليس من حساب في القبر ، إنما هو النعيم في القبر للمؤمن الذي عمل الصالحات، والعذاب لمن فعل السيئات ، والمختار وجود هذا الحساب لعمومات قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
ويشهد المال على صاحبه ، وتشهد بقاع الأرض بما فعل عليها .
(عن أبي برزة قَال : قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم : لاَ تَزُولُ قَدَمَا العَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ حتى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ : عَنْ عُمْرِه فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ به ، وَعَنْ مَالِهِ ، مِنْ أَيْنَ اكتسبه وَفِيمَ أَنْفَقَهُ)( ).
لستقرأ مسائل من الحديث أعلاه منها الإبتلاء بالنفوس ، وهو ما كان يعمله الإنسان في أيام حياته ، وبماذا سخّر جسده ، ومنها ذم الكفار لإنفاقهم المال في المعصية والحرب على النبوة ، قال تعالى [يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ]( ).
وليكون من الميثاق وجوب بذل الوسع في طاعة الله ، والتصديق بالنبوة والرسل ، وأداء الفرائض العبادية البدنية كالصلاة والصوم ، والمالية من الزكاة والخمس ، والبدنية المالية وهي أداء الحج والعمرة ، ومنها أفراد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وليس من نبي إلا وقد جاء بالوعد الكريم من الله عز وجل على الإيمان وعمل الصالحات ، وتعاهد الميثاق ، والوعيد بالعذاب على الكفر ونقض الميثاق ، وشراء متاع قليل به إتباعاً للهوى.
ومن إعجاز القرآن مجئ الترغيب بالعمل الصالح والتقيد بالميثاق في ثنايا آيات الوعد ، والزجر عن السيئات في مفهوم ودلالة آيات الوعيد ، قال تعالى [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه]( ).
قانون مصاحبة الميثاق للهبوط
لقد هبط آدم إلى الأرض بصفة النبوة وكان نبياً رسولاً ، وأنفردت حواء من بين أهل الأرض رجالاً ونساءً ، من جهات :
الأولى : الخلق في الجنة ، ومن غير أن تولد من رحم .
الثانية : خلق الله عز وجل حواء بصفة الزوجية ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ] ( ) وجاءت آيات القرآن بالخطاب التكليفي إلى المرأة بعرض واحد مع الرجل ، إلا ما خرج بالدليل .
والأصل في التكليف الشرعي المساواة بين الرجل والمرأة ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( )الرجال والنساء في لفظ [النَّاسِ] .
وقال تعالى [إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ) .
كما جاءت أحكام الجناية في القرآن متحدة من جهة الجنس منها قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاًمِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ) .
وقوله تعالى [الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه تقديم الزانية ، ويدل على شدة قبح الفعل منها ، وأن أضراره عليها وعلى أسرتها .
الثالثة : اللبث في الجنة برهة من الزمن والسكن حيث شاءت وآدم ، والأكل من ثمار الجنة ومن غير كد أو عناء .
الرابعة : صحبة الملائكة والحديث معهم ، وهو كان آدم وحواء يرون الملائكة رؤيا العين ، أم يسمعون كلامهم ولا يرون أجسادهم ، المختار هو الأول ، إذ يرونهم بهيئات مختلفة.
الخامسة : الهبوط إلى الأرض بعد الأكل من الشجرة التي نهاها الله عز وجل هي وآدم عن الأكل منها .
السادسة : حواء أول امرأة سكنت الأرض.
السابعة : الملازمة بين سكن في الأرض وبين عبادة الله وحده ، فلم تمر حواء بفترى طفولة وعدم تكليف وهي في الأرض .
الثامنة : ورود ذكر قصة آدم وحواء في عدة سور من القرآن ، إذ وردت في سورة البقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، والإسراء ، وطه ، وابتدأت بها سورة النساء بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا]( )، وكان بعض من علماء الأمم السابقة ينسب إلى حواء الخطيئة الأولى ، ويحملها مسؤولية إخراج آدم من الجنة.
ونزل القرآن بنسبة إغواء كل من آدم وحواء إلى إبليس بعرض واحد ، فهو الذي أغوى آدم ، وأغوى حواء ، قال تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ر بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( ) والمراد من الشيطان في الآية أعلاه إبليس .
تجليات [اقْرَأْ]
إبتدأ نزول القرآن بكلمة تؤسس لقوانين الحياة والفوز في الآخرة بأظهار العلم والإنتفاع الأمثل منه ، وعندما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )إذ [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ) أخبرهم الله الله عز وجل بقانون من الإرادة التكوينية ، وهو إحاطته علماً بما يعجزون عنه بخصوص الإنسان ، ومنه أن الله عز وجل جعل البشارة بالنبوة والتنزيل أمانة عند الناس ، ومنها نزول القرآن .
ولقد تفضل الله عز وجل وجعل أول كلمة نزلت من القرآن هي [اقْرَأْ] ( ) لبيان مسائل في المقام :
الأولى : تقدير الآية : اقرأ باسم ربك الميثاق . والخطاب في الأصل موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتذكير بالميثاق ، وقراءة بنوده ومضامينه التي تتجلى في ثنايا آيات القرآن ، والتي تأتي بالوحي ، واتخاذ الميثاق مادة للإنذار العام ، قال تعالى [وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لاَ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ]( ).
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا اقرأوا باسم ربكم لقاعدة الإلحاق أي إلحاق المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأوامر والنواهي ، إما ما يخرج بالدليل، وكان خاصاً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة والرسالة ، مثل [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ] ( ).
وذكر من الخطاب الخاص القرآني قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً] ( ) .
وقوله تعالى [الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ] ( ) وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ) .
وقوله تعالى [وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( ).
والمختار أن الأصل هو شمول أجيال الأمة بالخطاب القرآني الموجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما دلّ الدليل على إرادة ذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين .
وهذا العموم هو الظاهر والمشهور والمختار ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل وأصحابهما .
وهل هو من مصاديق [اقْرَأْ]اقرأ ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، الجواب نعم .
وفيه دعوة للألفة والتقارب بين أهل ملة التوحيد ، ونبذ الضعف والإرهاب .
وتلاوة آية البحث من مصاديق [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] ( ) من وجوه :
أولاً : إخبار آية البحث عن قانون من الإرادة التكوينية ، وهو وجود ميثاق بين الله وأهل الكتاب .
ثانياً : تقدير الآية : اقرأ الميثاق الذي أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب.
ثالثاً : بيان قانون وهو إخفاء طائفة للميثاق لم يمنع من نزوله مرة أخرى من عند الله ، وقد جاء القرآن ببيان العهد والميثاق بحفظ كلمة التوحيد.
لتعدد أسباب الإشتراك في الحكم ، وإتحاد الخطاب ، وبقائه غضاً طرياً إلى يوم القيامة ، ولعموم جلب المصلحة ودفع المفسدة ، وهو ليس من تعدي الحكم من الأصل إلى الفرع ، إنما الأصل هو عموم التكليف ، وتجدد الخطاب القرآني في كل زمان إلا ما دل على الخصوص ، لذا فان قوله تعالى في آية البحث [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ] ( ) متجدد في كل زمان ، وإن جاء بصيغة الجملة الخبرية ، وهذا البيان إشراقة تطل على أهل الأرض لتأكيد نبوة موسى وعيسى عليهما السلام ، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه طرد للإرهاب والعنف ، ودفع لروح الخصومة والشقاق .
وقد يقال يلزم الدليل والبيان للإشتراك في الحكم ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ] ( ) فلم تقل الآية : إلا إذا طلقت النساء .
عموم الخطاب القرآني
قد يأتي الخطاب في القرآن موجهاً إلى جهة مخصوصة ،ولكن موضوعه أعم وشامل لأهل ملة وطائفة وعامة الناس بالإلحاق ، وهو من أسرار بقاء خطابات القرآن غضة طرية ، يدرك كل جيل أنها موجه له .
من الشواهد على عموم الخطاب القرآني قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) وقوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) وقيل أن ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول الآية [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا] ( ) لغرض الإكرام والتشريف له .
وهذا صحيح ولكن مضمون النداء في الآية أعم .
والمختار إرادة تدخل القضاء والحاكم في مسألة الطلاق من جهات :
الأولى : إرادة دفع ومنع حدوث الطلاق ، ترى ما هي النسبة بين هذه الآية وموضوع الإصلاح بين الزوجين فيها ، وقوله تعالى [وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا]( ).
الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فآية الطلاق أعلاه هي الأعم لأن بعث الحكمين فرع الحكم والقضاء .
الثانية : منع الغبن والظلم والإستضعاف لأحد طرفي العقد ، عند إيقاع الطلاق .
الثالثة : بيان إعجاز القرآن في تنظيم حياة الأسرة المسلمة من تعيين النساء اللاتي يحرم على الرجل النكاح فيهن ، والرجال الذين يحرم على المرأة النكاح فيهم ، بدليل قوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ).
ويكون تقدير الخطاب بالنسبة للنساء ، حُرم عليكن آباؤكن ، وابناؤكن ، وأخوانكن ، واعمامكن ، وأخوالكن، وأولاد الأخ ، وأولاد الأخت ، وآباؤكن من الرضاعة وأخوانكن من الرضاعة وآباء أزواجكن الذين دخلوا بكن وأزواج بناتكن اللائي من أرحامكن ، وأن تجتمع الأختان إلا ما قد سلف .
ترى لماذا تقدير الخطاب أعلاه فيه وجوه :
الأول : عموم التكليف الشامل للرجل والمرأة ، فمثلاً ورد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] ( ) .
وتدل الآية أعلاه على الرجوع إلى الكتاب والسنة عند الخصومة في موضوع الطلاق ، وأسبابه وما يتفرع عنه ، ليكون من مصاديق توجه الخطاب في آية الطلاق إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ] ثم عمومه [إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ].
الثاني : إرشاد النساء إلى الواجب الشرعي ، ومنع التطاول والتعدي عليه .
الثالث : وجوب شمول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للنساء قدر الاستطاعة .
ومن الإعجاز في صيغة الجمع في آية البحث [إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ] بيان أن أمر الطلاق وما يتفرع عنه من الأحكام والآداب لا يختص بذات المُطلق ، إنما هي مسألة شرعية وإجتماعية وأخلاقية .
مسائل في الميثاق
لقد أخبرت آيبة البحث عن أخذ الله عز وجل لميثاق أهل الكتاب ، وهناك مسائل :
الأولى : هل أخذ الله ميثاقاً من غير أهل الكتاب من عامة الناس .
الثانية : هل أخذ الله ميثاق المسلمين .
الثالثة : الذي يدخل الإسلام من الذين أوتوا لكتاب هل تشمله آية البحث .
أما المسألة الأولى ، فالجواب نعم ،فقد أخذ الله عز وجل الميثاق على الناس جميعاً في عالم الذر .
وقد ورد نداء [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] عشرين مرة في القرآن .
لقد جعل الله الآيات الكونية نوع عهد يدعو في الليل والنهار الناس لعبادة الله ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
(عن مسلم بن يسار الجهني ، أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم}( ) الآية .
فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عنها فقال : أن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية .
فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون . فقال الرجل : يا رسول الله ففيم العمل.
فقال : إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخله الله الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار)( ).
لقد أخذ الله عز وجل الميثاق من الناس ، ووعدهم بالجنة لمن أوفى بعهده ، وأخلص العبادة لله ، ثم تفضل الله سبحانه ببعث الأنبياء ويصاحبهم الوحي والمعجزة ، وهو من لطف الله عز وجل بالناس وجذبهم إلى منازل الهدى.
وأما المسألة الثانية ، فالجواب نعم ، فقد أخذ الله الميثاق منهم مع عامة الناس ، ثم أخذ منهم الميثاق كمسلمين ، وهل يدل هذا على عدم تكليف الكفار بالفروع كتكليفهم بالأصول ، الجواب لا ، إذ أن التكليف بالفروع عام ، وهو المشهور .
وأما المسألة الثالثة فان الذين دخلوا الإسلام لا يشملهم الميثاق في آية البحث ، إنما تشملهم مضامين الآية السابقة ، وتلقي الأذى من مشركي قريش والدعوة العامة من عند الله بالصبر والتقوى.
قانون الميثاق نداء
لقد ورد ذكر ميثاق آية البحث بصيغة الإجمال وشمول عموم أهل الكتاب على التعدد في شرائعهم بكلمة واحدة في الآية وهي إنحلالية ، ويكون تقديرها على وجوه :
الأول : وإذ أخذ الله ميثاق أتباع الأنبياء السابقين بواسطة الأنبياء كنوح وإدريس وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام ، وغيرهم كثير ممن لم تذكر اسماؤهم في القرآن ، قال تعالى [وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا]( ).
ترى ما هي النسبة بين قصص الأنبياء وبين ذكر أسمائهم في القرآن ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق فالقصص أعم وقد ترد قصة نبي أو انبياء من غير ذكر اسمائهم ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
الثاني : وإذ أخذ الله ميثاق بني إسرائيل ، قال تعالى [وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ]( ).
الثالث : وإذ أخذ الله ميثاق النصارى.
ومن معاني الآية الكريمة الملازمة بين أتباع الكتاب المنزل وبين الميثاق ، فكل أمة اتبعت كتاباً سماوياً فان الله عز وجل أخذ منها الميثاق ، ومن أفراده بيان الأحكام والسنن ، ومعجزات النبوة ، والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التكليف بالميثاق تشريف لأهل الكتاب ، لبيان اختتام النبوة برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم تقل الآية (وإذ أخذ الله ميثاق الذين يؤتون الكتاب ) أو (سيؤتون الكتاب ) ، إنما ذكرت الآية تمام إيتاء الكتاب .
والمراد من الكتاب التوراة والإنجيل ، ويحتمل أخذ الميثاق من أهل الكتاب وجوهاً :
الأول : أخذ الميثاق من أهل الكتاب على نحو العموم الإفرادي ، كما لو أخذ من رؤساء وعلماء اليهود والنصارى أخذ الله عز وجل من الميثاق على نحو منفرد ومستقل .
الثاني : أخذ الميثاق من أهل الكتاب على نحو العموم المجموعي أي دفعة واحدة من الجميع .
الثالث : إرادة العموم الإستغراقي بأن أخذه من الجميع على نحو الإستقلال .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث لإصالة الإطلاق .
لقد بينت الآية أن الذي أخذ الميثاق هو الله عز وجل ، ويحتمل أخذ الميثاق وجوهاً :
الأول : أخذ الله الميثاق مباشرة من كل كتابي .
الثاني : أخذ الله الميثاق من أهل الكتاب بواسطة الأنبياء والرسل .
الثالث : أخذ الله عز وجل الميثاق من أهل الكتاب بواسطة الملائكة .
الرابع : إرادة ذكر الميثاق في التوراة والإنجيل .
وباستثناء الوجه الثالث أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق آية البحث .
بين الميثاق والدستور
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الميثاق ، الميثاق بين الله وعباده ، والمواثيق بين الناس أنفسهم، حاكماً ومحكوماً ، ورب عمل وعامل ، وشركاء في العمل .
وهل الدستور المختار في هذا الزمان ميثاق وضعي ، الجواب نعم ، فهو أم القوانين الوضعية، والهرم الأعلى الذي تتفرع وتستقرأ منه ، وفيه تعيين لهيئة ونظام الحكم ، ويشمل كلاً من :
الأول : السلطة التشريعية والتي تسمى مجلس النواب أو البرلمان ونحوه .
الثاني : السلطة التنفيذية .
الثالث : السلطة القضائية .
والدستور كلمة فارسية مركبة من : دست بمعنى القاعدة و(ور) أي صاحب .
ويتضمن الدستور فصولاً وأبواباً رئيسية وهي :
الأول : المقدمة ، وتتضمن البيان والتعريف ومخاطبة أفراد الشعب بخصوص موضوعية الدستور ،وهي خالية من القوانين.
الثاني : تنظيم الصلة بين السلطات ، وذكر المؤسسات في الدولة والمجتمع، وذات الصلة بالمواطن وتحقيق المنافع والمصلحة العامة .
الثالث : فصل حقوق وحريات المواطن مثل حق الجنسية ، والمواطنة والتعليم ، والسكن ، والخصوصية والإنتخاب ، والمساواة بحسب نظام الدولة والمجتمع .
الرابع : أحكام تعديل الدستور ، والضوابط التي يجب اتباعها في تعديل بعض مواد الدستور مثل الإستفتاء العام ، أو التصديق في مجلس النواب للتصديق سواء بـ :
الأول : الأغلبية المطلقة ، وهي الحصول على ثلثي مجموع الأعضاء ، وتكون في القرارات والتعديل ذي الأهمية .
الثاني : الأغلبية البسيطة ، وهي 50 + 1 من مجموع أصوات الحاضرين ، وسميت بسيطة لأنه لو كانت قد فقدت صوتاً واحداً لانهارت .
والدستور من جهة إمكان التعديل على قسمين :
الأول : الدستور الجامد الذي يصعب معه التعديل ، وتتعدد الهيئات والكيفية التي يشترط حصولها ، ولا يعني هذا استحالة التعديل فيه .
وقد يكون هذا الجمود على نحو السالبة الجزئية في بعض القوانين ، أو أنه شامل لمواد الدستور كلها .
الثاني : الدستور المرن وهو الذي يتضمن كيفية بسيطة وغير معقدة لتعديل الدستور ، كما لو اتبعت ذات الطريق في تعديل القوانين لتعديل مواد الدستور مثل اتباع منهج الأغلبية البسيطة .
وتدخل الدساتير غير المدونة في هذا القسم لأنها ارتكزت على العرف وتوارث قواعد الحكم ، ومن أنواع الدستور :
الأول : دستور مطول .
الثاني: دستور موجز .
الثالث: دستور مستقرأ من القرآن والكتب السماوية ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) .
الرابع : دستور ملائم للحاكم واستدامة حكمه .
الخامس: دستور منبثق من إرادة الشعب .
ولو صار الشعب بين أمرين ، نظام بحكم الدستور ، ونظام من غير دستور ، فالأفضل والأحسن هو الأول ، وهو أقرب إلى العدل وإحقاق الحق .
وهو الذي عليه أغلب الحكومات في هذا الزمان .
ترى ما هي النسبة بين الميثاق الذي تذكره آية البحث وبين الدستور ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالميثاق أعم وهو سماوي لا يقبل الخطأ أو التعديل ، وهو خال من النقص ، ويتصف بالسمو والتنزه عن الظلم ، لبعث الناس على الإقرار بالعبودية لله ، والحاجة إلى رحمته ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
وقد أقام الله عز وجل الحجة على الناس بآيات عالم الذر والميثاق والعهد بين الله والعباد ، ومنها آية البحث ، ويمكن القول بقانون وهو الميثاق بين الله والعباد أصل وقاعدة للصلة بين الناس مطلقاً ، وبين الحاكم والرعية.
ولا يعلم منافع الميثاق الإلهي في إصلاح الفرد والمجتمع إلا الله عز وجل ، ومن الآيات ما جمعت بين الميثاق والعهد ، قال تعالى [الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ] ( ).
وهناك آيات جمعت بين التذكير بنعمة الله وبين الميثاق لمنع البطر والغرور ، ولبيان قانون وهو استدامة النعمة مع تعاهد الميثاق ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ).
ومن الآيات ما جمعت بين العهد والحلف واليمين في التغليظ بالتقيد بالعهد بين الله سبحانه والعباد والعهد بين الناس أنفسهم ، قال تعالى [وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ] ( ).
وتبين السياحة العقائدية والفكرية في آيات الميثاق والعهد إعجاز القرآن ، وأنه دستور الحياة الذي ينير سبل الهداية للناس ، لذا تفضل الله عز وجل وأكرم كل مسلم ومسلمة بتلاوة سورة الفاتحة سبع عشرة مرة كل يوم ، ومنها قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) ومن الصراط العمل بالميثاق التي بين الله والعباد .
وإذا كان الدستور قابلاً للتعديل أو الإبطال ، واستحداث غيره ، وآيات القرآن غير قابلة للتعديل أو التبديل ، ولكن أحكامه ملائمة لكل زمان وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) ، وليس من نفرة بينه وبين قواعد الحياة الإجتماعية والسياسية في كل أي بلد كان ، وهو من إعجاز القرآن ، وصدق انطباق اسم الدستور السماوية عليه.
آيات ورد فيها لفظ (ميثاق)
الأول : قوله تعالى[وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ]( ).
الثاني: قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ]( )
الثالث : قوله تعالى[وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ]( ).
الرابع : قوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ]( ).
الخامس : قوله تعالى[وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ] ( ).
السادس : قوله تعالى[وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا] ( ).
السابع : قوله تعالى [لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ]( ).
الثامن : قوله تعالى[أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ]( ).
التاسع : قوله تعالى [فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ]( ).
الثامن : قوله تعالى [الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ]( ).
التاسع : قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ]( ).
العاشر : قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ]( ).
الحادي عشر : قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ]( ).
الثاني عشر : قوله تعالى[فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى] ( ).
الثالث عشر : قوله تعالى [وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ]( ).
الرابع عشر : قوله تعالى [وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ]( ).
الخامس عشر : قوله تعالى [وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا]( ).
السادس عشر : قوله تعالى [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ ]( ).
السابع عشر : قوله تعالى[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ] ( ).
الثامن عشر : قوله تعالى[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ]( ).
التاسع عشر : قوله تعالى [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ]( ).
العشرون : قوله تعالى[وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ]( ).
الحادي والعشرون : قوله تعالى[قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِي مَوْثِقًا مِنْ اللَّهِ]( ).
الثاني والعشرون : قوله تعالى[َلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ]( ).
الثالث والعشرون : قوله تعالى[نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنْ اللَّهِ]( ).
بحث نحوي
يؤتى بنون التوكيد لتأكيد الفعل في الزمن الحال والمستقبل وقد تجعل نون التوكيد مع الفعل المضارع خاصاً بالمستقبل دون الماضي أو الحال لذا فانها لا تأتي الفعل الماضي لأنه ضد الحال والإستقبال .
ونون التوكيد على قسمين :
الأول : نون التوكيد الثقيلة ، وهي مفتوحة ومشددة لأنها نونان أدغمت احداهما بالأخرى ، وهي حرف توكيد مبني على الفتح لا محل له من الإعراب لأنها حرف ، وهذه النون أشد وأبلغ في التأكيد من نون التوكيد الحقيقة .
الثاني : نون التوكيد الخفيفة ، وهي ساكنة من غير تشديد وهي حرف توكيد مبني على السكون لا محل لها .
وتستعمل كل من نون التوكيد الثقيلة والخفيفة لكل من :
الأول : المتكلم .
الثاني : المخاطَب ، كما في آية البحث .
الثالث : الغائب .
كما تستعمل لكل من :
الأول : المفرد .
الثاني : المثنى .
الثالث : الجمع سواء كان جمع مذكر أو جمع مؤنث .
وقيل من شرائط توكيد الفعل المضارع بنون التوكيد بقسميها أن يكون الفعل المضارع جواباً لقسم ، ولم يثبت عندي ، والنون في العربية على أقسام .
الإول : نون النسوة .
الثاني : نون الوقاية .
الثالث : نون التوكيد الثقيلة .
الرابع : نون التوكيد الخفيفة .
الخامس : نون المثنى .
السادس : نون الجمع .
السابع : نون الافعال الخمسة .
الثامن : نون الفعل المضارع .
قوله تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ]
بعد أن ذكرت آية البحث الميثاق والعهد الذي أخذه الله عز وجل على أهل الكتاب ورضوا وأقروا به لأن لفظ (أخذ) يدل على القطع أخبرت عن اقتران هذا الميثاق بالأمر من الله لأهل الكتاب بالبيان وإخبار الناس عنه ، ويتألف لفظ [لَتُبَيِّنُنَّهُ] من خمس كلمات وهي :
الأولى : اللام : قيل وهي واقعة في جواب القسم ، وقد أضفنا لها معنى آخر وهو لام الوجوب , وهي فرع لام التكليف , وهو علم أسسناه في الجزء ( 226 ) من هذا التفسير .
الثانية : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال , أي مجيء حرفين متماثلين متتاليين في كلمة واحدة , وسيأتي مزيد بيان في الجزء ( 228 ) باب سياق الآيات .
الثالثة : الفاعل وهو الواو المحذوفة.
الرابعة : نون التوكيد .
الخامسة : المفعول به ، وهو الضمير الهاء .
ولم ترد كلمة (تبينن وتبيننه ولتبيننه) في القرآن عدا كلمة [لَتُبَيِّنُنَّهُ] الواردة في آية البحث والجامعة لها ، وهو من إعجاز القرآن ، لإخباره عن علم الغيب وتعهد أهل الكتاب ببيان مضامين الميثاق للناس ، وجاء الأمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببيان الميثاق والعهد ، والإجتماع به والدفاع عنه ، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
ترى ما هي النسبة بين الذكر والميثاق ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالذكر والتنزيل والوحي أعم من الميثاق.
لقد ذكرت آية البحث أنه على الذين آتاهم الله الكتاب والتنزيل عن طريق أنبيائهم وجوب بيان الميثاق ، وإخبار الناس به لقوله تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ].
ولا يجوز لهم أن يخفوا بنود الميثاق بوجوب عبادة الله وحده ، والتصديق بانبيائه ، ومنهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ليكون هذا البيان تعضيداً للمسلمين ، وتخفيفاً عما يسمعونه ويلاقونه من الأذى الشديد من المشركين .
ولا يعلم منافع بيان الميثاق إلا الله عز وجل ، لذا اشترط على أهل الكتاب هذا البيان مع عموم التبليغ من جهات :
الأولى : الذين أوتوا الكتاب ، فامر التبيان يشمل العاِلم وغير العالم ، والرجل والمرأة .
الثانية : بنود وفصول الميثاق ، فصحيح أن لفظ (ميثاق ) ورد في الآية بصيغة المفرد ، إلا أنه كاسم الجنس يتضمن مبادئ التوحيد ، والإقرار بالرسالات ، وأداء الفرائض العبادية ، والإمتناع عما حرم الله عز وجل .
الثالثة : عموم الناس من العرب والعجم ، ليكون هذا البيان حجة على قريش في لزوم التصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجتناب عبادة الأوثان .
جاء الخطاب والأمر في آية البحث للذين آتاهم الله الكتاب وهم أتباع الأنبياء السابقين من أصحاب الكتب السماوية ،فهل يختص بهم الخطاب ، أم أنه يشمل المسلمين أيضاً .
لابد من استقراء الجواب من ذات آية البحث ومن آيات القرآن الأخرى، وهو أن المسلمين يشملهم الخطاب ايضاً ، فمن بديع صنع الله وجود أمة في كل زمان تدعو إلى الله .
ومن آيات البيان قوله تعالى [َذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] ( ).
وقوله تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
وقوله تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( ).
وقوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
وقول تعالى [الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ] ( ).
والمراد من البيان الوضوح والإيضاح ، وإظهار الحق .
وهل هذا البيان قولي فقط أم قولي وعملي ، الجواب هو الثاني بإخبار الناس عن الميثاق والعمل بمضامينه ، وإظهار التصديق بالنبوة والتنزيل ، وبذا يمتاز أهل الكتاب عن الذين كفروا من قريش الذين وصفوا القرآن بأنه أساطير وحكايات ، وفي التنزيل [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ]( ).
قانون تبيان الميثاق
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الميثاق ، فالفرد والجماعة والأمة مقيدون بالمواثيق في الدنيا ، ولم يخلق الله عز وجل آدم إلا وقد أخذ عليه وعلى أبنائه وذريته الميثاق وهم في عالم الذر ، كما في آية الميثاق ، والتي تسمى أيضاً آية الذر( )، ومن رحمة الله عز وجل بالناس في الحياة الدنيا تجدد الميثاق من جهات :
الأولى : الميثاق بالوحي للأنبياء .
الثانية : بيان الأنبياء للميثاق وسنن العهد مع الله ، وكذا البلوغ والرشد.
الثالثة : عقل الإنسان وعاء للميثاق ، ومادة للإهتداء إليه .
من عظيم قدرة وسلطان الله عز وجل المواثيق بينه وبين خلقه ، كل بحسبه وما جعل فيه من الإدراك أو الإحساس أو الفهم العام أو الخاص ، فرب مخلوق لا يدرك إلا الميثاق الذي بينه وبين الله ، فترى الشجر والمدر يسبحان الله عز وجل ، قال تعالى [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ]( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن( ).
ويظهر الجماد الإحساس بمشيئة الله ليكون معجزة ، كما في حنين الجذع إذ كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة في مسجده في المدينة وهو مستند إلى جذع عند مصلاه يرتكز إلى الحائط الذي في القبلة ، بحيث يكون وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومقاديم بدنه إلى المسلمين وعامة الجالسين .
فجاء رجل رومي فقال (ألا أصنع لك شيئا تقعد عليه كأنك قائم ، فصنع له منبرا له درجان ومقعد على الثالثة، فلما قعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر خارالجذع)( ).
أي فلما فارق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجذع إلى المنبر الذي صنع له، حنّ الجذع كما تحنّ الناقة.
وعبد الله بن بريدة (فرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوضع يده عليه وقال : اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها وعيونها فيحسن نيتك وتثمر فيأكل أولياء الله من ثمرتك فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول له نعم قد فعلت مرتين فسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال اختار أن أغرسه في الجنة)( ).
مما يدل على أن الجمادات تستجيب لأمر الله ، وتسبح بحمده ، وهي تستجيب للأنبياء بأذن الله تعالى الذي أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم فسجدوا له طاعة لله عز وجل وتكرمة لآدم ، قال تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ]( ).
وقد يستجيب الجماد لحركة الجماد باذن الله ، كما في ضرب الحجر بعصا موسى عليه السلام وتدفق الماء منه ، قال تعالى [وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ]( ) .
ومن معاني الميثاق أن التوحيد هو القانون السائد في الأرض ، والصبغة التي يخرج بها الإنسان إلى عالم الدنيا ، وأن الشرك أمر عرضي طارئ ، يتصف بالقبح ، ترشح أصله عن وسوسة وفتنة ابليس لشطر من الناس .
ومن مصاديق الميثاق صدّ إبليس ومنعه عن التأثير على أكثر الناس في مسألة التوحيد ومنها نصرة طائفة من الناس للنبي عند بعثته فلا يبعث الله عز وجل نبياً إلا وهناك طائفة وأمة من الناس تصدق به وتنصره لذا ذكرت آية البحث من أفراد الميثاق لزوم بيان أهل الكتاب البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعامة الناس .
وهو الذي يدل عليه ألف ولام الجنس وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
وقد جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، ولم يرق إلى هذه المرتبة إلا بعد أن أخذ الله عز وجل عليه الميثاق وهذا الميثاق ليس تعليقياً ، يتوجه إلى الإنسان عندما يبلغ سن الرشد ، إنما أخذه الله عز وجل من الناس وهم في عالم الذر .
فان قلت هل عندهم إحساس آنذاك ولم يتكونوا بعد في أصلاب الرجال وأرحام النساء .
الجواب نعم ، فقد جعل الله عز وجل الخلية الحية ، وكل واحد منهم وهو في عالم الذر بمنزلة العاقل الراشد الذي يتلقى العهد والميثاق ، ويدرك أن ليس له إلا القبول والرضا به.
وهناك قول آخر في معنى آية الذر وهو ان الله عز وجل أخذ الميثاق من ذرية بني آدم من ظهورهم عند إيجادهم قرناً بعد قرن ، فيكون هذا الميثاق في عالم الدنيا والتكليف بنصب الأدلة والبراهين التي تدل على وجوب عبادة الله وحده ومنها الآيات الكونية وبعثة الرسل .
ومن الأدلة عليه قوله تعالى [أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ]( )، لتعلق هذا الإستحضار بالحياة الدنيا ووجود الإنسان فيها ، وليس في عالم الذر واحتمال أن الإنسان لا يدركه .
ولكن هذا المعنى لا يتعارض مع الإحتجاج بعالم الذر ، والإحتجاج به خاصة مع وجود النصوص التي تدل عليه ، والمشهور والمختار تعلق قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ]( )، بعالم الذر.
وهو لا يتعارض مع تجدد أخذ الله سبحانه الميثاق من كل جيل من الناس
صحيفة المدينة
ومن بنود العهود بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل الكتاب :
الأول : الرجوع عند الإختلاف إلى الله والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم( ).
ومن معاني الرجوع إلى الله عز وجل التقيد بالميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الذين أوتوا الكتاب ، وأحكام القرآن والرجوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم نوع تسليم بنبوته ، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً]( ).
الثاني : نصرة أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالإنفاق والبذل ماداموا في حرب مع مشركي قريش وحلفائهم ، إذ ورد في المعاهدة (وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين)( ).
وهل هذا الإنفاق من اليهود قرض ودين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، الجواب لا ، من جهات :
الأولى : أصالة الإطلاق ، وعدم ورود قيد أو أمارة على القرض.
الثانية : تأكيد قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يحاربون دفاعاً عن المدينة وأهلها وأموالهم ، ومنهم اليهود كما تجلى في إرادة المشركين غزو واقتحام المدينة في معركة أحد ، ومعركة الخندق.
الثالثة : بيان مصداق لأحكام أهل الذمة ، ودفعهم الجزية لأن المسلمين يقاتلون دونهم ، وقد يقال لولا هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمدينة لما قصدها مشركوا العرب .
والجواب لقد كانت المدينة (يثرب) محل خصومة واقتتال بين الأوس والحزرج واليهود معهم .
إذ كان بنو النضير وقينقاع يحالفون الأوس ، أما بنو قريظة فانهم يحالفون الخزرج ، وكان هذا الإختلاف سبباً للإحراج والأذى لكل من قبائل اليهود الثلاثة ، قال تعالى [ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ]( ) .
فكانت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لهم ولتنمية التكافل الإجتماعي .
ولو دار الأمر بين تجدد القتال بين الأوس والخزرج في حال عدم هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو توقفه .
فالظاهر هو الأول لأصل الإستصحاب ، وبقاء الأحقاد والثأر ، بل أرادوا الإقتتال حتى بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي سارع إلى الذهاب إلى محل الفتنة ودرأها.
وتبين معاهدة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع يهود المدينة أنهم أعم من هذه القبائل الثلاثة ، وأن كثيراً منهم عرب ، وملحقين بالعرب ، ويحالفون العرب .
إذ ورد فيها (وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي النّجّار ِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف ٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ؛ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ؛ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ؛ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْف ٍوَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ)( ).
وقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار بعد قدومه إلى المدينة بنحو خمسة أشهر واتخذ الأوس والخزرج الأنصار ، وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوثيق العهود بين العرب واليهود على نحو السور الجامع ، بصيغة الإيمان .
الرابعة : هذه المعاهدة من الميثاق الذي أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب.
الثالث : لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ( ).
فمن الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على أهل الكتاب التسليم بأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم شريعة سماوية ، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يُكره أهل الكتاب على ترك دينهم ومن ظلم وتعدى فهو لا يضر إلى نفسه ويجلب الأذى إلى أهل بيته.
لبيان قانون وهو الخطأ والجناية الشخصية لا تبطل المعاهدة العامة ، بين الموحدين ، وهل هذا القانون من الميثاق الذي تذكره آية البحث الجواب نعم.
وبنو عوف الذي تكرر اسمهم في المعاهدة قبيلة عربية أرادت السكن في تيماء وكان يحكمها اليهود ، فاشترطوا عليهم الإنتساب لليهودية ، وعندا انتقلوا إلى يثرب بقوا على ديانتهم.
الرابع : لا يخرج أحد من اليهود (إلّا بِإِذْنِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّهُ لَا يُنْحَجَزُ عَلَى ثَأْرٍ جُرْحٌ)( ).
لتتضمن هذه الموادعة عدم خروج اليهود من المدينة إلا باذن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه تقييد لحركتهم ، ومنع من إختلاطهم مع المشركين ، وإتخاذ المشركين هذا الإختلاط وموضوعه سبباً للإطلاع على أسرار المسلمين والعدوان على المدينة.
ومعنى (لا ينحجز على ثأر جرح) هذا استثناء من تقييد الخروج فاذا أرادت قبيلة من اليهود الخروج لطلب الثأر فلا يمنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان هذا الثأر جرحاً.
الخامس : (وَإِنّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ وَالنّصِيحَةَ وَالْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ)( ).
السادس : الإقرار برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله سبحانه في ذات وثيقة المدينة ، والموادعة التي عقدها مع يهود المدينة ، إذ ورد فيها (وَإِنّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ وَإِنّهُ لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا . وَإِنّ بَيْنَهُمْ( ) النّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ)( ).
فحينما يزحف ثلاثة آلاف من المشركين في معركة أحد ، وهم يرومون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار وتجاهر المشركين بحرب إبادة ، وسبي نساء المدينة ، فان وظيفة أهل الكتاب النصرة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأن العدو داهم المدينة.
وهل هذه النصرة من الميثاق الذي تذكره آية البحث ، الجواب نعم ، خاصة وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يكتب هذه الوثيقة إلا بالوحي من عند الله ، لبيان قانون وهو أن قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ]( ).
ومن الميثاق وفق البند أعلاه حرمة نصرة أهل الكتاب للكفار ، وعدم إجارتهم في المدينة أو خارجها ، وذكرت الآية قريشاً مع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من قريش وكذا أكثر المهاجرين آنذاك ، لبيان أن غالبية قريش كفار يحاربون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالسيف.
السابع : تأكيد حق الجار ، ورعاية حقوقه ، وعدم الإضرار به لبيان وحدة الحكم بين الإسلام وأهل الكتاب فيما يخص حرمة الجوار ، من غير تقييد بالملة بآيات من القرآن ، وأحاديث عديدة من السنة النبوية ، وقد نهى الله عز وجل عن حجب الإعانة للجار وفي سبب نزول قوله تعالى [وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ]( )، ورد عن ابن مسعود أنه قال : كان المسلمون يستعيرون من المنافقين الدلو والقِدر والفأس وشبهه فيمنعونهم فأنزل الله وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ.
وأخرج أحمد من طريق أبي العالية عن رجل من الأنصار قال : خرجت من أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا به قائم ورجل معه مقبل عليه ، فظننت أن لهما حاجة . فلما انصرف قلت : يا رسول الله لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام .
قال : أوقد رأيته ، قلت : نعم . قال : أتدري من هو ، قلت : لا . قال : ذاك جبريل ، ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ، ثم قال : أما أنك لو سلمت رد عليك السلام( ).
لقد قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتأكيد ميثاق أهل الكتاب في الواقع من جهات :
الأولى : ميثاق المدينة .
الثانية : موادعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لليهود فيها .
الثالثة : العقد الذي تم بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووفد نصارى نجران في عام الوفود وهو العام التاسع للهجرة .
الرابعة : دخول طائفة من يهود المدينة وخيبر وفدك الإسلام ، وإخبارهم عن البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : التمايز بين سنة وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل الكتاب بالرأفة ، والإمهال ، وقبول الجزية ، وبين الدفاع ضد المشركين ، وصدّ هجومهم المتكرر.
السادسة : نزول آية البحث بالتذكير بالميثاق ، والإحتجاج به لصد أهل الكتاب عن الإنحياز إلى جانب الكفار والمنافقين ، ومنعهم من الذهاب إلى ملك الروم هرقل وتحريضه على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قانون الابتلاء من الميثاق
لقد أخبرت آية السياق المؤمنين بأنه سيقع لهم امتحان من جهات:
الأولى : الإبتلاء والامتحان بأموالهم.
الثانية : الإبتلاء والاختبار والأذى بأنفسهم .
وهل منه سقوط شهداء في معركة بدر وأحد والخندق وحنين ، الجواب نعم ، وهو من الشواهد على أنهم في حال دفاع عن أنفسهم ، ليكون من معاني قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ) .
ستضطرون للدفاع عن أنفسكم وانفاق شطر من أموالكم في الدفاع ، واستحواذ المشركين على شطر منها ، ومنعهم من الإنتفاع منها ومع هذا نزل الأمر الإلهي للمسلمين بالزكاة لبيان صدق إيمانهم لذا أختتمت آية السياق بقوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]( ).
وهذا الجمع بين الصبر والخشية من الله من إعجاز الآية القرآنية ، لبيان حاجة المؤمنين مجتمعين ومتفرقين لكل من الصبر والتقوى ، ويتضح هذا الجمع بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) وتجلى الفلاح والفوز بصيرورة الصبر وحفظ الميثاق طريقاً للخلود في النعيم ، قال تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] ( ).
وذكرت آية البحث ميثاق الذين أوتوا الكتاب ففي قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ] ( )، وجوه :
الأول : إنه من الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على المسلمين.
الثاني : إنه إخبار قرآني عن حال إبتلاء سواء الأذى الذي يأتي من الذين كفروا أو الإمتحان بوجوب إخراج المسلمين الحقوق الشرعية من أموالهم.
الثالث : إنه ليس من الميثاق وما يتصف به من العهد من العباد لله عز وجل بالعمل بأحكام الميثاق ، إنما هو تكليف يترشح عنه الأجر والثواب .
الرابع : إنه فرع الميثاق بين الله والمؤمنين ورشحة منه .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، فقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الإمتحان والإبتلاء ، لذا سبق أخذ الله الميثاق من الناس قبل ولوجهم الحياة الدنيا.
وأكرم الله الذين آمنوا بالعز وأعانهم بالمدد ليرتقوا في مراتب التقوى ، ومن مصاديق هذا المدد آية السياق ، وما فيها من الإخبار من الإبتلاء بالأموال والأنفس لتهيئة المسلمين لتلقي الإبتلاء بالصبر والثبات على الإيمان ، قال تعالى [وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( ).
من الميثاق نهي قريش عن عبادة الأصنام
لقد أخبرت آية البحث عن إبتلاء المسلمين في أموالهم وهذا الإبتلاء على قسمين :
الأول : الضرر الذي يأتي من الذين كفروا.
الثاني : الإنفاق في سبيل الله ، قال تعالى [وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ] ( ) و(عن الزبير بن العوّام قال : جئت حتى جلست بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخذ بطرف عمامتي من ورائي .
ثم قال : يا زبير إني رسول الله إليك خاصة ، وإلى الناس عامة ، أتدرون ماذا قال ربكم .
قلت : الله ورسوله أعلم قال : ربكم حين استوى عل عرشه ، فنظر خلقه : عبادي أنتم خلقي وأنا ربكم أرزاقكم بيدي ، فلا تتعبوا فيما تكفلت لكم ، فاطلبوا مني أرزاقكم أتدرون ماذا قال ربكم؟
قال الله تبارك وتعالى : أنفق أنفق عليك ، وأوسع أوسع عليك ، ولا تُضَيِّقَ أُضَيِّقُ عليك ، ولا تُصِرُّ فأصِرُّ عليك ، ولا تخزن فأخزن عليك ، إن باب الرزق مفتوح من فوق سبع سموات ، متواصل إلى العرش ، لا يغلق ليلاً ولا نهاراً ، ينزل الله منه الرزق على كل امرىء بقدر نيته ، وعطيته ، وصدقته ، ونفقته ، فمن أكثر أكثر له ، ومن أقل أقل له ، ومن أمسك أمسك عليه ، يا زبير فكل ، واطعم ، ولا توك فيوكي عليك ، ولا تحص فيحصى عليك ، ولا تقتر فيقتر عليك ، ولا تعسر فيعسر عليك ، يا زبير إن الله يحب الانفاق ، ويبغض الاقتار ، وإن السخاء من اليقين ، والبخل من الشك ، فلا يدخل النار من أيقن ، ولا يدخل الجنة من شك .
يا زبير إن الله يحب السخاوة ولو بفلق تمرة ، والشجاعة ولو بقتل عقرب أو حيه .
يا زبير إن الله يحب الصبر عند زلزلة الزلازل ، واليقين النافذ عند مجيء الشهوات ، والعقل الكامل عند نزول الشبهات ، والورع الصادق عند الحرام والخبيثات .
يا زبير عظم الإِخوان ، وجلل الأبرار ، ووقر الأخيار ، وصل الجار ، ولا تماش الفجار .
من فعل ذلك دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب هذه وصية الله إليّ ووصيتي إليك) ( ) .
وفي هذه الوصية إرشاد وتحذير ، والظاهر أنها نهي للزبير عن الخروج إلى معركة الجمل ، وعن جمع الأموال الطائلة ، وبعد وفاة الزبير قال بنو الزبيرلأخيهم عبد الله بن الزبير بعد أن فرغ من دين أبيه (اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا . قَالَ لاَ ، وَاللَّهِ لاَ أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِىَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ أَلاَ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَلْنَقْضِهِ .
قَالَ فَجَعَلَ كَلَّ سَنَةٍ يُنَادِى بِالْمَوْسِمِ ، فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ قَالَ فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ ، وَرَفَعَ الثُّلُثَ ، فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ ، فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ) ( ).
أي أصاب كل زوجة مليون ومائتا ألف ، وهو ربع الثمن أي واحد من (32) مجموع المال .
والأصل هو توزيع التركة بالحال لإنتقال المال إلى الورثة عند وفاة المالك لعدم جواز بقاء المال من غير مالك ، وهو من الميثاق والتعجيل بوفاء الديون ، وأصالة البراءة ورفع الثلث ، ومع رجحان وجود دائن للزبير يعزل مقدار من المال احتياطاً ثم يوزع على الورثة إذا لم يثبت دَين آخر .
ومع التضاد بينهما فان كلاً منهما فيه الأجر والثواب .
و(وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ الْفَاسِقُ الّذِي يُغْرِي بِهِمْ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، إذَا سَمِعَ بِالرّجُلِ قَدْ أَسْلَمَ ، لَهُ شَرَفٌ وَمَنَعَةٌ أَنّبَهُ وَأَخْزَاهُ وَقَالَ تَرَكْتَ دِينَ أَبِيك وَهُوَ خَيْرٌ مِنْك ، لَنُسَفّهَنّ حِلْمَك ، وَلَنُفَيّلَنّ رَأْيَك ، وَلَنَضَعَنّ شَرَفَك .
وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا قَالَ وَاَللّهِ لَنُكَسّدَنّ تِجَارَتَكَ وَلَنُهْلِكَنّ مَالَك ؛ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا ضَرَبَهُ وَأَغْرَى بِهِ)( ).
والإبتلاء الذي ذكرته آية السياق من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً فقد يأتي لمؤمن دون آخر ، وجماعة دون أخرى ، لذا كان بعضهم يلوذ بعشيرته وذوي قرباه فلا يتعرض للتعذيب من قبل قريش ، وبعضهم يستعد للدفاع ويظهر الصبر ، ومدة من الزمن يكون الإبتلاء فيها خفيفاً وأخرى شديداً .
وقد تعقبتها آية البحث التي تتضمن أخذ الله الميثاق من أهل الكتاب قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليسعوا في التوطئة لنبوته بالبيان العام للناس بالبشارة برسالته ، وبلزوم عبادة الله ، ونبذ الشرك ليخفف الإبتلاء عنه وعن أصحابه ، وهل كان على أهل الكتاب إنذار قريش من عبادة الأصنام ، وعن نصبها في البيت الحرام .
الجواب نعم ، خاصة وأنه كانت هناك صلات تجارية بين قريش ويهود المدينة ، وبينها وبين النصارى في بلاد الروم ، والمجوس في بلاد فارس.
لذا ذكرت آية البحث وجوب قيام أهل الكتاب بتبليغ وبيان وتفسير الميثاق للناس جميعاً لقوله تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ]( )، ومضامين هذه الآية متجددة إلى يوم القيامة ، وفيه دعوة للتآلف والتقارب بين الأديان السماوية وإجتناب والإرهاب والقتال بينها.
ومن الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قيامه بعقد معاهدات مع يهود المدينة حالما وصل إليها ، وبعثه الرسائل إلى قيصر ملك الروم وإلى كسرى ملك فارس وغيرهم من الملوك والأمراء يدعوهم إلى التوحيد ، ويفتح صفحة من الصلات والرحمة بين الدول التي ترتكز إلى التوحيد .
وتبيان أهل الكتاب البشارات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس دعوة لهم لعدم الخروج مع قريش لقتاله في معركة بدر وأحد والخندق ، ومن الآيات أيام البعثة النبوية اختلاط عامة العرب باليهود والنصارى في السكن والتجارة ، وفي الأسفار وحتى النكاح والزواج.
وقد وصلت المسيحية إلى اليمن وذكر أن (متى) هو الذي جاء إلى اليمن والحبشة بالمسيحية ، وكان المنذر بن ساوي ملك البحرين في الجاهلية على المسيحية.
واعتنق جماعة من قريش المسيحية منهم عثمان بن الحويرث ، وورقة بن نوفل ، ومن العرب من صاروا يهوداً .
وذكر بعض المؤرخين قبائل عربية عديدة كانت على المسيحية ، ولكنه لم يثبت ، إذ كان كثيراً من القبائل العربية لا يتقيدون بدين مخصوص ، وكانوا يتخذون الترحال وكثرة التنقل طلباً للماء والكلأ ، أو عزوفاً عن فتنة وقتال ، وكانت المسيحية ظاهرة في نجران التي تبعد عن مكة نحو (847)كم.
وفي العام التاسع للهجرة والذي يسمى عام الوفود وبعد كتيبة تبوك جاء وفد نجران إلى المدينة وجرى احتجاج بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزل قوله تعالى [فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( )، فواعدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المباهلة والإخلاص في الدعاء ، والإحتكام إلى التضرع إلى الله.
واتفقوا على يوم ، فلما حان الوقت خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (آخذاً بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه ، فدعاهم إلى الميعاد ، فقالوا : نعوذ بالله فأعادوا التعوذ .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : فإن أبيتم فأسلموا فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء.
قالوا : لا طاقة لنا بحرب العرب ولكنا نؤدي الجزية قال : فجعل عليهم كل سنة ألفي حلة ألفاً في رجب وألفاً في صفر وطلبوا منه رجلاً أميناً يحكم بينهم فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح)( ).
قانون الابتلاء بسبب الإيمان
يتعذر على الناس إحصاء مصاديق الربوبية المطلقة لله عز وجل كما في قوله تعالى [قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ]( )، إذ أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيه السؤال وتعقبه أمر آخر بالإجابة على ذات السؤال لبيان قانون وهو مسائل التوحيد لا تقبل الترديد ، وأنه لا ينتظر من الناس أن يخبروا عنها ، إنما هو الله عز وجل الذي يأمر بالسؤال ويأتي بجواب التوحيد في الحال ، لبيان قانون وجوب إقرار الناس جميعاً بالتوحيد وتنمية ملكة الإيمان ، وحرمة الشرك.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء)( ).
مما يدل على أن أسباب الإبتلاء لا تنحصر بارتكاب الذنب والمعصية ، إنما هو امتحان ليرزق الله عز وجل المؤمن الأجر والثواب ، وهو من الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الناس.
لقد اعتاد الناس في مكة والجزيرة قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على عبادة الأصنام والتزلف إليها ، وعلى الغزو والنهب والسلب ، ووأد البنات وسيادة أعراف القبيلة .
وقد تظن طائفة من الذين يدخلون الإسلام السلامة والوقاية من الإبتلاء في الدنيا ، لأن ملك السموات والأرض بيد الله عز وجل ، وهو الذي ينزل رحمته على الذين آمنوا ويدفع عنهم الشرور ، فجاءت آية السياق للإخبار بأن الإبتلاء صفة مصاحبة للحياة الدنيا ، للمؤمن فيه الأجر والثواب ، لذا أختتمت بالحض على الصبر والخشية من الله عز وجل ، بقوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]( ).
ومن مصاديق التقوى في المقام الثبات على الإيمان ، وعدم الجزع أو الإفتتان ، والنسبة بين الإبتلاء والمصيبة هو العموم والخصوص المطلق فكل مصيبة هي إبتلاء وليس العكس .
وقد يكون الإبتلاء بالخير وكثرة المال والولد ، قال تعالى [وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ]( )، و(عن ابن عباس [وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ] قال : بالخصب والجدب)( ).
ولم يرد لفظ (بالحسنات) في القرآن إلا في الآية أعلاه لتكون النعم إختباراً ومادة لتسخيرها في طاعة الله ، ويكون البلاء بالشر مناسبة للصبر والزهد والرضا بقضاء الله تعالى.
قانون الابتلاء بالأموال
ومن الإعجاز في فلسفة قسمي الإبتلاء التضاد بينهما في الماهية والأثر ، ولكنهما يلتقيان في الهداية إلى سبل الإيمان ، بأن يشكر العبد الله عز وجل على النعم والحسنات ويسأل الله استدامتها ، ويتضرع إلى الله بصرف السيئات مع الصبر عليها ، فلا يفارق الدعاء العبد في حال النعمة والمصيبة.
ومما تتضمنه الآية الكريمة السابقة ( )من إبتلاء المسلمين من جهات :
الأولى : النقص في أموال بسبب محاربة المشركين للمسلمين ، والحاجة لشراء السلاح والخيل.
الثانية : ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين دورهم وأموالهم في مكة لإختيارهم الهجرة ، وقيام كفار قريش بالإستيلاء عليها.
وابتلاء المؤمنين في أموالهم وأنفسهم من الميثاق ليكون من معاني ودلالات آية البحث وإخبارها عن ميثاق أهل الكتاب دعوة المسلمين لتعاهد الميثاق ومن معاني قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا]( )، بيان اقتران حاجة التقيد بالميثاق بالصبر والخشية من الله ورجاء ثوابه.
وعن سعيد بن المسيب قال : أقبل صهيب مهاجرا نحو المدينة واتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتشل ما في كنانته ثم قال يا معشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلا.
وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شئ فافعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي وخليتم سبيلي.
قالوا نعم ففعل فلما قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى( ).
الثالثة : اضطرار المسلمين لتعطيل التجارات والزراعات ، وعندما وصل ثلاثة آلاف مقاتل من المشركين لمشارف المدينة عند سفح جبل أحد الذي يبعد عن المسجد النبوي (5)كم ، اطلقوا خيلهم وإبلهم في زروع أهل المدينة لترعى فيها ، فجاءت عليها ، وكان الذي يأتي من الفلاحين وأصحاب الزروع يقومون برميه بالسهام والنبال ، فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشكوا له حالهم.
وهل هذه الشكوى من أسباب خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتال المشركين يومئذ .
الجواب نعم ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الرابعة : صيرورة المسلمين في حال غنى ، مما يأتيهم من المكاسب والمغانم ، وما يجب فيها من الزكاة والخمس .
الخامسة : الإشتغال بالأموال والمعاملات التجارية والشراء والبيع.
السادسة : الحاجة للإنفاق في سبيل الله ، وفي إعانة الفقراء ، وفي دفع جيوش المشركين التي تزحف بين الحين والآخر نحو المدينة ، وسراياهم التي تهاجم أطراف المدينة ويأخذون السرح ومواشي أهل المدينة من الأنصار واليهود وغيرهم ، وقد تقوم هذه السرايا بحرق النخيل والزروع حول المدينة.
فبعد مرور ثلاثة عشر شهراً على هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة أغار كرز الفهري ومعه جماعة من المشركين على سرح المدينة.
فخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومائتان من أصحابه في طلبه حتى بلغ واد قريب من بدر يسمى وادي صفوان ، وفاته كرز.
فعادوا إلى المدينة ، وتسمى غزوة بدر الصغرى ، وليس فيها غزو لبلدة أو قرية إنما كانت دفاعاً محضاً ، وتعاهداً وحفظاً لأموال عامة أهل المدينة من المؤمنين والمنافقين واليهود والكفار وبعثاً للخوف في قلوب المشركين من غزو المدينة وأطرافها ، ومنعاً من البلبلة والفتنة في المدينة ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) .
وعندما انهزم المشركون في معركة بدر حرم أبو سفيان على نفسه الدهن ، ونذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يثأر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، لما لحق قريش من الهزيمة والخسارة والذل ، فخرج في مائتي راكب من قريش متوجهين نحو المدينة ووصلوا أطرافها في موضع يسمى العريض.
فحرقوا نخيلاً صغاراً ، وقتلوا رجلين أنصارياً وهو معبد بن عمرو ، وحليفاً له.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مائتين من المهاجرين والأنصار في طلبهم على رأس اثنين وعشرين شهراً من الهجرة ، وقام أبو سفيان وأصحابه بالقاء متاعهم وهو السويق ليتخففوا في الهروب ، فصار المسلمون يجمعونه .
فسميت غزوة السويق( )، ورجع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعد خمسة أيام من غير أن يلقوا قتالاً ، ومع هذا تسمى غزوة للنبي ، وهي ليست بغزوة ، وكانت حياة الناس بالجزيرة تتصف بقلة الزاد كماً ونوعاً ويدل عليه حوار بين ملك فارس ووفد من العرب.
ومن الميثاق إجتماع أمور :
الأول : الإبتلاء بالأموال ، وضياعها بسبب ظلم وقهر المشركين .
الثاني : الإنفاق في سبيل الله ، أي أن الإبتلاء بخسارة الأموال لم يمنع من وجوب الإنفاق في سبيل الله ، وتدل مضاعفة العوض والبدل سبعمائة مرة على أنه أضعاف الإبتلاء والإختبار بالأموال .
الثالث : الصبر على أذى الكفار .
الرابع : تعاهد سنن الإيمان ، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
قوله تعالى [وَلَا تَكْتُمُونَهُ]
من لطف الله عز وجل الأمر بكلمتين في الآية مع صيغ العموم والإطلاق فيها بقوله تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ] ( ) فبيان الميثاق واجب ، ولو شاء الله عز وجل لوقف عند قوله [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ] ولكنه اردفه بالنفي الذي يتضمن معنى النهي أيضا , وفي ذات الموضوع لبيان حرمة إخفاء الميثاق والبشارات والأحكام التي جاء بها الأنبياء ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان قانون وهو : النفي تأكيد للأمر .
الثانية : في بيان الميثاق نفع وثواب عظيم ، وفي إخفائه ضرر إثم .
نعم هذا الضرر ليس عاماً ، فاذا لم تبين طائفة من الناس الميثاق فان الله عز وجل يجعل من يظهره ويبينه ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الثالثة : الإستعداد لتحمل الأذى في بيان الميثاق لعموم الجهة التي يتوجه إليها البيان وهم الناس جميعاً .
الرابعة : نزل القرآن لبيان الميثاق وبعث الناس على إظهاره والتدبر والتصديق به ، مع الأجر في هذا البيان .
الخامسة : دلالة آية البحث على حب الله لأهل الكتاب ، إذ الزمهم بوجوب بيان الميثاق والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحذرهم وأنذرهم من إخفائها أو تحريفها .
السادسة : بيان قانون وهو إظهار الله عز وجل للحق ، فكتمان طائفة من الناس له لا يضر بوجوده ، وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف ، وقيل الإنسان المتكامل هو مظهر تام للأسماء الحسنى ، ولا أصل لهذا القول للتباين والتضاد بين المعبود والعبد بين الخالق الذي يقدر على كل شئ والإنسان الذي هو محدود الأثر والتأثير ، إنما هو اللجوء إلى الله عز وجل ، وعندما ركب نوح ومن معه السفينة ، قال [بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا]( ) لتكون وسيلة نجاة في الأمواج المتلاطمة ،ولتأخذهم إلى مرفئ آمن.
وعن الإمام الحسين عليه السلام (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن أن يقولوا : بسم الله الملك الرحمن { بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم }( ) وما قدروا الله حق قدره إلى آخر الآية) ( ).
وقد يكتم ويخفي الإنسان الحق خشية البطش به ولحوق الضرر به من السلطان أو غيره أو يكتمه طلباً لرضا بعضهم ، فجاءت آية البحث بالإطلاق في النهي عن كتمان الميثاق لبيان أنه ليس من ضرر في إعلانه ، وليس من نفع في كتمانه .
وفي التنزيل [فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) وتدعو آية البحث في مفهومها إلى نشر العلم وإشاعة التعليم ، وصدق الرواية ونقل الخبر ، لذا في الإسلام علم خاص وهو علم الرجال والتراجم والدراية ، ولحاظ سلسلة رجال كل حديث من جهة وثاقة أو ضعف أي واحد منهم وأقسام الحديث من المتواتر وخبر الآحاد .
قانون اقتران الابتلاء بالنعمة
وصحيح أن الآية السابقة ذكرت نزول الإبتلاء في المسلمين بأموالهم إلا أنها بشارة من جهات :
الأولى : صيرورة المسلمين أمة عندها أموال.
الثانية : نماء أموال المسلمين وكثرتها.
الثالثة : تعرض أموال المسلمين للإنفاق والبذل ، وفيه الأجر والثواب.
وتقدير الآية : لتبلون في أموالكم فتؤجرون.
ويأتي الإبتلاء من عند الله عز وجل ، وهو الرؤوف الرحيم بالمؤمنين.
وأيهما أكبر الإبتلاء الذي يصيب المؤمنين في أنفسهم وأموالهم أم الأجر والثواب.
الجواب هو الثاني ، ولا يختص هذا الثواب بعالم الآخرة ، إنما يشمل أيام الحياة الدنيا ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( )، أي سبعمائة مرة.
و(عن الربيع في الآية قال : كان من بايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الهجرة ورابط معه بالمدينة ولم يذهب وجهاً إلا باذنه كانت له الحسنة بسبعمائة ضعف ، ومن يبايع على الإِسلام كانت الحسنة له عشر أمثالها)( ).
ولا دليل على هذا التفصيل والحصر والخصم ، إنما جاءت الآية مطلقة في مضاعفة الأجر والثواب ، وتسري أحكامها ، وما فيها من الوعد على كل جيل إلى يوم القيامة .
نعم جاء التقييد في الآية بأن الإنفاق في سبيل الله ، وبقصد القربة إليه تعالى سواء بذات الإنفاق أو الغرض والغاية منه.
وفيه شاهد على أن المسلمين يسعون لجني الحسنات ، ويتخذون من الإنفاق نوع طريق لها ، وفيه شاهد على عدم قصدهم الغزو والقتال .
وهل تبين الآية السابقة ، قانوناً وهو الملازمة بين الإيمان والإبتلاء بالأموال ، أم يختص هذا الإبتلاء بالنبي وأصحابه من المهاجرين والأنصار.
المختار هو الأول ، خاصة على القول بأن المراد من الإبتلاء دفع الزكاة والحقوق الشرعية ، والإنفاق في سبيل الله.
وهل الإبتلاء بالأموال من الكلي المتواطئ أم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، الجواب هو الثاني.
وبلحاظ مضمون آية البحث فان ذكر الآية السابقة لإبتلاء المسلمين بأموالهم مناسبة لبيان أحكام الشريعة ، وتسخير الأموال في طاعة الله، والتحلي بمكارم الأخلاق ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن إعجاز نظم الآيات مجئ إخبار الآية السابقة عن الإبتلاء بالأموال بعد اختتام الآية التي قبلها بقانون كون الدنيا متاع الغرور ، في قوله تعالى [وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ]( )، لبيان قانون وهو إتخاذ المال واقية من الإبتلاء ، وفيه الأجر والثواب.
وهل تحتمل الآية الإخبار عن حصول حالات من الفقر والقحط ، الجواب نعم ، وهو من الإبتلاء والإمتحان ، وما يترشح عن الأذى الذي يأتي من الكفار ، وعن الثبات في منازل الإيمان.
فمن معاني الإبتلاء التمحيص ، وبيان حال الصادق في إيمانه ، وفضح المنافق والكاذب ، قال تعالى [الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ]( ).
قانون الابتلاء بالنفوس من الميثاق
لقد أبتلي المسلمون في أنفسهم ، لعطف النفوس على الأموال في قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ]( ).
ومن معاني الإبتلاء في المقام الإختبار والإمتحان ، والرضا بوقوع الأذى قربة إلى الله عز وجل ، إذ يبتلى المسلمون في أنفسهم بما هم مؤمنون ويكون الإبتلاء في المقام على وجوه :
الأول : الأذى من كفار قريش .
الثاني : إرادة قريش إكراه المسلمين على الإرتداد .
الثالث : سقوط عدد من المؤمنين والمؤمنات قتلى تحت التعذيب الذي تم على أيادي كفار قريش ،كما في قتل سمية بنت خياط (وياسر بن عامر المذحجي)( ).
والتعذيب الذي لاقاه ولدهما عمار بن ياسر وأخوه عبد الله، وهم من السابقين في الإسلام (قال عمار بن ياسر: لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها فقلت له: ما تريد ، فقال لي: ما تريد أنت .
فقلت : أردت الدخول إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأسمع كلامه قال: فأنا أريد ذلك ، قال : فدخلنا عليه ، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا ثم مكثنا يومنا حتى أمسينا ثم خرجنا مستخفين فكان إسلام عمار وصهيب بعد بضعة وثلاثين رجلاً) ( ).
ويدل مجئ شخصين الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في وقت واحد للإستماع لدعوته وهو متخف في دار الأرقم على شيوع الإسلام وميل الناس إليه ، لذا أدركت قريش إنحصار استئصاله بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
ويكنى عمار أبا اليقظان .
الرابع : قتل عدد من المسلمين في ميادين الدفاع ضد غزوات المشركين .
ولم تقع مبارزة وقتال بين المسلمين والمشركين إلا بعد الهجرة النبوية ، وأول معركة بينهم هي معركة بدر التي وقعت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة النبوية( ) ، وقد ذكرها الله عز وجل في آيات من القرآن، وقال تعالى [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ …]( ) وقد سقط فيها أربعة عشر شهيداً من المسلمين ، كما قُتل سبعون من المشركين .
الخامس : قيام المشركين بقتل عدد من المسلمين غيلة وغدراً وعلى نحو متكرر ومنه السرية التي بعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتعليم القرآن في شهر صفر من السنة الرابعة .
إذ قدم الى المدينة وفد من قبيلة عضل وقبيلة القارة وهم من مضر.
(فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ فِينَا إسْلَامًا ، فَابْعَثْ مَعَنَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِك يُفَقّهُونَنَا فِي الدّينِ وَيُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ وَيُعَلّمُونَنَا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ . فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ نَفَرًا سِتّةً مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ ، حَلِيفُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ؛ وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ اللّيْثِيّ ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ ، وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ ، وَخُبَيْبٌ بْنُ عَدِيّ ، أَخُو بَنِي جَحْجَبَى بْنِ كُلْفَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، وَزَيْدُ بْنُ الدّثِنّةِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَخُو بَنِي بَيَاضَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْبِ بْنِ جُشَمِ بْنِ الْخَزْرَجِ ؛ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ طَارِقٍ حَلِيفُ بَنِي ظَفَرِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ)( ).
واختلف في عددهم ، وعند ابن إسحاق أنهم كانوا ستة وعند البخاري أنهم عشرة( ).
وعلم بهم حي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فخرجوا إليهم مائة رجل واقتصوا آثارهم إلى أن وجدوا نوى تمر في منزل نزلوه ، فقالوا تمر يثرب( )، فاتبعوا آثارهم وأحاطوا بهم ، وقتلوهم وأسروا اثنين منهم مع أنهم لم يخرجوا لقتال إنما سرية تعليم وقيل كانت هناك مكيدة من الأصل إذ مشى بنو لحيان إلى عضل والقارة ، وجعلوا لهم جعلاً ليذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويسألوه أن يرسل معهم من يدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم أحكامه ، فيكمنوا لهم ويأٍسروهم ، ويخرجوا بهم إلى مكة لبيعهم هناك.
السادس : استشهاد سبعين من الصحابة في معركة أحد التي وقعت في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، ونزل قوله تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] ( ) لخصوص قتلى معركة بدر وأحد ، إذ كان المسلمون يقولون : مات فلان ، مات فلان .
وقيل من تأويل الحياة في الآية أعلاه قوله تعالى [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ) إذ جعلت الآية الكافر ميتاً ، والمؤمن بالله والنبوة حياً .
ولكن هذا الوجه يتعلق بالأحياء من الناس ، ولم ينل المؤمن درجة الشهادة والقتل في سبيل الله إلا بعد أن تصدق عليه صفة الإيمان والحياة والهدى ، وأختار التضحية بنفسه .
وقال (مسلم بن الوليد الأنصاري في قوله ليزيد بن مزيد:
تلقى المنية في أمثال عدتها … كالسيل يقذف جلموداً بجلمود
يجود بالنفس إذ ظن الجواد بها…والجود بالنفس أقصى غاية الجود)( ).
قانون معجزات الأنبياء دعوة للتراحم
لقد لاقى الأنبياء الأذى الشديد من مشركي قومهم ، ولم يختص هذا الأذى بالأنبياء إنما يشمل كلاً من الوحي والتنزيل ، ونعته بأنه سحر وأساطير ، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ] ( ).
والأساطير جمع أسطورة ، والأسطورة الحديث المتوارث عن الأجيال السابقة الذي يخلط بين الحقيقة والأمور الخارقة وعالم الخيال ، مما يفوق قاعدة السبب والمسبب .
ويقال (وسَطرَ علينا فلانَ تَسْطِيْراً: إذا جاءَ بأحادِيثَ تُشبِهُ الباطِلَ.
ووَاحِدُ الأساطِيْرِ: إسْطَارٌ وأُسْطُوْرَة وإسْطِيْرَةٌ وأُسْطُوْر وإسْطِيْرٌ، وهي الأحادِيْثُ لا نِظَامَ لها. وهو يُسَطرُ: أي يَكْذبُ وُيؤلف، ومنه: ” أسَاطِيْر الأولِيْنَ) ( ).
وتتضمن الأسطورة مبالغة وكذباً أكثر من الحكاية الشعبية .
لقد ذهب الحسد بالمشركين أن نعتوا معجزات الأنبياء بالأساطير مع أن المعجزة أمرحسي جلي ، فتفضل الله عز وجل وأنزل القرآن معجزة عقلية ، قال تعالى[لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ).
ومن معاني الآية أعلاه أن نعته بالأساطير لا يصل إليه ولا يضره .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الرحمة والرأفة ، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لما خَلَقَ اللَّه الخَلْقَ كَتَبَ في كِتَابٍ ، فهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ : إن رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي ، وفي طريق : سَبَقَتْ غَضَبِي( ).
ومن مصاديق رحمة الله في الدنيا أمور :
الأول : هبوط آدم من الجنة ، وقد نفخ الله فيه من روحه ، ومن تجليات هذا النفخ الرحمة بين الناس ، وهذا النفخ من الميثاق ، ودعوة لتعاهده وتثبيته .
الثاني : إدراك الناس في كل جيل أنهم من أب واحد وهو آدم عليه السلام.
الثالث : المعجزات التي يأتي بها النبي والتي جعلها الله عز وجل رحمة نازلة من السماء لينتفع منها الناس جميعاً سواء الذي عاشوا وعاصروا نبي الزمان وشاهدوا وعلموا بالمعجزة ، أو الذين كانوا في مصر آخر ، أو الأجيال التي جاءت وتأتي من بعدهم وفيه شاهد على عظيم منزلة المعجزة في الحياة الدنيا والآخرة .
الرابع : إيذاء المشركين لأهل وذوي النبي ، وتدل الأخبار على صبرهم في ذات الله ، وهو من الشواهد على صدق النبوة ، ولا عبرة بالقليل النادر مثل زوجة نوح ، وزوجة لوط .
وهل كان صدود وقبح عمل أبي لهب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه عمه وجاره في السكن في مكة ، بإكراه من المشركين ، الجواب لا ، بدليل ورود الذم في القرآن لأبي لهب بما يدل على أنه عاقل مختار في جحوده للنبوة والتنزيل ، قال تعالى[تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ).
(وأبو لَهَبٍ هو عَبْدُ العُزَّى بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ)( ).
ومعنى (تبت) خسرت وخابت.
وقيل اسند الخسران إلى اليدين لأن اليد موضع الكسب والربح ، والمختار أن المعنى هو قيام أبي لهب بأفعال هي حرب على النبوة والتنزيل ليكون قوله تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( )، بشارة خيبته ورجوع كيده إلى نحره وعدم إضراره بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
أما معنى (وتبّ) أي أنه سيمكر أيضا , وأنه هالك ، وأن الله عز وجل يظهر الإسلام .
وفي قراءه ابن مسعود (تبت يدا أبي لهبٍ وقد تب ، جعله خبراً ، وهي على قراءة غيره تكون دعاء كالأول)( ).
ولكن حتى على قراءة غيره أيضاً تحمل معنى الخبر.
وكان يقابله صبر وذبّ أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحمل عامة بني هاشم أذى الحصار ونحوه بسبب نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : إزدراء وإيذاء وتعذيب أصحاب واتباع الأنبياء ، وفيه شواهد عديدة من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين .
وكان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخاه من الرضاعة يكثر من هجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهو من الشعراء ، ولكنه أسلم في الأبواء والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريقه لفتح مكة .
وتتجلى معاني التراحم في معجزات الأنبياء بالكتب السماوي المنزلة وبمنهاج وسيرة الأنبياء ومنها سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية.
معجزة التدرج في الدعوة
لقد ابتدأت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام على نحو القضية الشخصية بين أهل بيته وبعض من هو قريب منه ، وفي السنة الرابعة للبعثة النبوية ارتقت الدعوة من جهات :
الأولى : صار النبي يجهر بالدعوة ، وعن عبد الله بن مسعود قال : ما زال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستخفياً حتى نزل [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ] ( )، فخرج هو وأصحابه( ).
الثانية : قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحضور موسم الحج كل عام ويعرض نفسه على القبائل.
الثالثة : اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجيج في منازلهم.
الرابعة : أحياناً يسأل القبيلة التي يراها في منزل خاص ويستأذن بالجلوس معهم فيدعوهم للإسلام ويتلو عليهم القرآن.
الخامسة : تارة يسأل عن قبائل مخصوصة فيقصدها إلى منازلها ، ليكون مع النبوة إحاطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأنساب وأسماء القبائل ومحل سكناها خارج مكة ، ورؤساء كل قبيلة ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية وكانت دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تتقوم ببيان وجوب التوحيد وعبادة الله عز وجل.
وعن (ربيعة بن عباد أو عياد الدؤلى يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوف على الناس في منازلهم قبل أن يهاجر إلى المدينة يقول يأيها الناس إن الله يأمركم ان تعبدوه ولا تشركوا به شيئا قال ووراءه رجل يقول يأيها الناس إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم ، فسألت من هذا الرجل فقيل أبو لهب)( ).
ومن الأذى الذي كان يلقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الموسم أن قريشاً تقتسم طرق مكة ، وتجعل في أفواه الطرق رجالاً (يصدُّون الناس عن الإِيمان بمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم ، فأنزل الله تعالى بهم خزياً ، فماتوا شرَّ ميتةٍ)( ).
وهو من معاني قوله تعالى [كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ]( )، أي كما أنزلنا عذابنا لأن الآية التي سبقتها تتعلق بالإنذار [وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ]( ).
وعن ابن عباس قال : أخبر الله المؤمن أن الدنيا دار بلاء ، وأنه مبتليهم فيها ، وأخبرهم أنه هكذا فعل بأنبيائه وصفوته لتطيب أنفسهم فقال [مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ]( )، والضراء السقم[وَزُلْزِلُوا]بالفتن وأذى الناس إياهم( ).
واستمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الدعوة العامة والخاصة عشر سنين من السنة الرابعة للبعثة إلى السنة الثالثة عشرة واثناء هذه المدة اشتد أذى قريش للنبي وأهل البيت والصحابة الأوائل .
وبعد أن توفى أبو طالب وخديجة اشتد وعيد رجالات قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وجاهروا بعزمهم على قتله أو سجنه ، قال تعالى [لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو القبائل وأهل الأمصار الذين يأتون إلى الحج لإيوائه وكفايته من شرور قريش.
فمن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية أن سؤاله القبائل لإيوائه لم يقترن ببداية الدعوة بل استمر لنحو ست سنوات يدعو الناس في الموسم إلى عبادة الله وحده ، وإلى التصديق بنبوته والتدبر في الإعجاز البلاغي للقرآن ، ومضامينه القدسية ودلالاته.
وحتى عندما أصبح مضطراً لدعوة القبائل لإيوائه ، فان هذه الدعوة لم تكن حاضرة في كل مرة يلتقي معها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع القبائل ، خاصة وان منهم على حلف مع قريش ، أو لا يريد فتح باب للخصومة والخلاف معهم ، ومنهم من أنصت لإفتراء قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولكن هذا لم يمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دعوتهم إلى التوحيد ، وهذه الدعوة مناسبة للفطرة ، قال تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ]( ).
وهل كان عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه على القبائل والوجهاء ، وأوان وكيفية هذا العرض باجتهاد منه أم بالوحي.
الجواب هو الثاني لبيان معجزة التدرج في الدعوة إلى الله في سني البعثة المتعاقبة ويدل عليه ما أخرج عن الإمام علي عليه السلام أنه قال : لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج إلى منى وأنا معه وأبو بكر ، وكان أبو بكر رجلاً نسابة.
فوقف على منازلهم ومضاربهم بمنى ، فسلم عليهم وردوا السلام ، وكان في القوم مفروق بن عمرو ، وهانىء بن قبيصة ، والمثنى بن حارثة ، والنعمان بن شريك ، وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق.
وكان مفروق قد غلب عليهم بياناً ولساناً ، فالتفت إلى رسول الله صلى عليه وآله وسلم فقال له : إلام تدعو يا أخا قريش.
فتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ادعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واني رسول الله ، وإن تأووني وتنصروني وتمنعوني حتى أؤدي حق الله الذي أمرني به .
فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله ، وكذبت رسوله ، واستغنت بالباطل عن الحق ، والله هو الغني الحميد.
قال له : وإلام تدعو أيضاً يا أخا قريش فتلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا]( )، إلى قوله {تتقون}( ).
فقال له مفروق : وإلام تدعو أيضاً يا أخا قريش فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض ، ولو كان من كلامهم لعرفناه ، فتلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {إن الله يأمر بالعدل والإِحسان}( )، الآية .
فقال له مفروق : دعوت والله يا قريشي إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.
وقال هانىء بن قبيصة : قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش ، ويعجبني ما تكلمت به.
ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن لم تلبثوا إلا يسيراً حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم يعني أرض فارس وأنهار كسرى ويفرشكم بناتهم ، أتسبحون الله وتقدسونه.
فقال له النعمان بن شريك : اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش فتلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا.
ولم تكن دعوة النبي محصورة بأيام موسم الحج ، إنما كان يدعو إلى الإسلام على مدار الأيام ، وفي الليل والنهار ، وهي على وجوه :
الأول : الدعوة الصريحة والمباشرة إلى الإسلام ، كما لو خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم شخصاً أو جماعة ، ورغبهم بدخول الإسلام .
الثاني : كل معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم دعوة عامة .
الثالث : نزول الآية القرآنية ، وتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها دعوة للناس للإسلام ، وتثبيت للمسلمين في منازل الهدى والإيمان ، وتحمل الأذى من المشركين قربة إلى الله ، ورجاء الثواب ، وهو من أسرار مبادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتلاوة الآية القرآنية حالما ينزل بها جبرئيل ، قال تعالى [وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا] ( ) .
الرابع : إزدياد عدد الصحابة ، وهم يقومون بالدعوة والتبليغ على حذر وحيطة من كفار قريش .
الخامس : من وجوه الدعوة للتوحيد ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعذيب كفار قريش لعدد من المسلمين الأوائل مثل أم ياسر ، وبلال ، وخبّاب بن الأرت ، وصهيب .
(عن خباب بن الأرت قال : قلنا يا رسول الله ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو الله لنا .
فقال : إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ثم قال : والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون) ( ).
وأيهما أشد : عذاب قريش لطائفة من المسلمين الأوائل أم زحفهم بالجيوش على المدينة للغزو والقتال .
الصحيح هو الثاني ، وكان الأذى يعم المهاجرين والأنصار ،وسقط (14) شهيداً في معركة بدر ، و(70) شهيداً في معركة أحد.
وحتى هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فقد كانت محفوفة بالمخاطر ، وعندما وصلوا إلى المدينة أشتد الحال عليهم لأنهم خرجوا من مكة بلا مال ، وتركوا دورهم وأموالهم وأرضهم يستحوذ عليها المشركون ، وقال رأس النفاق عبد الله بن أبي (لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إلى متى تقتلون أنفسكم ولا تملكون أموالكم،
ولو كان محمد نبيّاً لما سلّط عليه الأسر والقتل.
فقالوا : لا جرم أنّ من قُتل منّا دخل الجنّة) ( ).
وفي يوم الأحزاب عندما حاصر عشرة آلاف من جيش المشركين المدينة ، أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه البلاء والحصروالجوع ، والتهديد اليومي باقتحام المدينة ، وإرجاف المنافقين فيها ، فنزل قوله تعالى[ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] ( ).
لقد صار الدفاع عن التنزيل وأحكام الشريعة وشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للصحابة ، فاضطروا لحمل السلاح لغرض الدفاع المحض ، وأختاروا التعرض للقتل على الإرتداد عن الإسلام ، إذ لم يجعل لهم المشركون خياراً آخر ، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
لقد لزم الدفاع عن النبي والإيمان حتى يتم نزول آيات القرآن ، فمن الإعجاز في نزوله على النجوم والتدريج وجوب الدفاع عن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لتتوالى عليه آيات القرآن ويبين أحكام الشريعة إذ أن السنة النبوية تفسير وبيان للقرآن ، إلى أن نزل قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
الملازمة بين حكم الشرع والعقل
هل الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد بخصوص الواقع والموضوع المتعلق بها ، أم أنها تابعة للحسن والقبح العقليين ، المشهور ، والمختار هو الأول .
فقد يكون الفعل حسن عقلاً ، ولكن لا مصلحة فيه فلا لوم على الإنسان في الإعراض عنه .
وقد تجتمع المصلحة والحسن العقلي .
وذهب الجهم بن صفان إلى القول (إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود الشرع) لذا فان العقل يحكم بما في الأشياء من الصلاح أو الفساد ، ومن الحسن أو القبح ، والنقاش في الكبرى ، فان الأصل هو الشرع ، قال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( ) .
ولم يهبط آدم وحواء إلى الأرض إلى وقد لبس آدم رداء النبوة التي لم تغادره إلى أن تركها أرثاً لابنه هبة الله من بعده.
ثم اختلف في كل من الحسن والقبح على وجوه :
الأول : الحسن والقبح صفة ذاتية في الأشياء .
الثاني : الحاكم بالحسن والقبح هو العقل ، والشرع كاشف ومبين الصفات ، وإليه ذهب المعتزلة ومن وافقهم.
الثالث : أن الملاك على السمع والتنزيل وأن الفعل لا يحكم بحسن أو قبح شئ إنما هو تابع للشرع .
فالحسن ما حسنه الشرع ، والقبيح ما قبحه الشرع وهو موجب السمع ، وبه قال الأشاعرة ، ومن تابعهم ، وإنه لو عكس الشرع فحسن ما قبحه العقل وقبح ما حسنه العقل لجاز ، قال تعالى [وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً]( ).
الرابع : الجامع المشترك بين العقل والشرع في التحسين والتقبيح.
وقد تم تأليف مئات الكتب بخصوص هذه المسألة وانشغل بها العلماء ، ولا تتناسب معها قلة الثمرة فلو جيئ بامثلة واقعية منها لكانت قليلة وهي ذات وجهين ، وتقبل أكثر من إحتمال .
وقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الحسن والقبح على أقسام :
الأول : صفة التمام والكمال ، أو القصور والقصص ، والخصال ، مثل : الكرم حسن ، والبخل قبيح.
الثاني : إرادة المصلحة أو المفسدة ، وقد يعبر عنه بملاك الغرض أو مخالفته.
الثالث : ترتب المدح والثواب ، أو الذم والعقاب.
وقيل بأن الأول والثاني أعلاه عقليان ، والثالث وحده شرعي ، وليس بتام .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بعثت لاتمم مكارم الأخلاق( ).
ويستدل بالحديث الوارد (عن مكحول عن أبى ثعلبة قال ان الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها ونهى عن اشياء فلا تنتهكوها وسكت عن اشياء رخصة لكم ليس بنسيان فلا تبحثوا عنها ، هذا موقوف)( ).
والحديث ضعيف السند ، وفيه انقطاع لأن مكحولاً لم يسمع من أبي ثعلبة الخشني كما قال أبو نعيم الدمشقي وورد (عن الضحاك بن مزاحم قال : اجتمعت أنا وطاوس اليماني ، وعمرو بن دينار المكي ، ومكحول الشامي ، والحسن البصري ، في مسجد الخيف ، فتذاكرنا القدر حتى ارتفعت أصواتنا وكثر لغطنا .
فقام طاوس ، فقال : أنصتوا أخبركم ما سمعت أبا الدرداء ، يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها ، وحد لكم حدودا فلا تعتدوها ، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تكلفوها رحمة من ربكم فاقبلوها ، الأمور كلها بيد الله ، من عند الله مصدرها ، وإليه مرجعها ليس للعباد فيها تفويض ولا مشيئة)( ).
ونهشل بن سعيد متروك الحديث .
ولو تنزلنا وقلنا بصحة معنى الحديث فالمراد التخفيف وموضوعية الإباحة والنهي عن التشديد على النفس .
قوله تعالى [فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ]
لم يرد لفظ (نبذوه) في القرآن إلا في هذه الآية , ويحتمل المراد وجوهاً :
الأول : الميثاق .
الثاني : الكتاب والتنزيل .
الثالث : الوحي .
الرابع : العمل بأحكام الكتاب .
الخامس : بيان صدق النبوة ، وأحكام التنزيل .
السادس : الإخبار عن البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع : أداء الأمانة العقائدية .
ولا مانع من تعدد المراد من الهاء في قوله تعالى [فَنَبَذُوهُ] , وهو من إعجاز الحرف القرآنية .
لقد هجر قوم الكتاب الذي فيه الميثاق ، وانشغلوا بالدنيا ، وأغرى هذا الهجر قريشاً في قتالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ووردت في السنة النبوية أخبار وشواهد بخصوص الذين أنكروا الميثاق مع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم جاء بتصديق التوراة والإنجيل وإقرار أهل الكتاب على ملتهم لقد عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المواثيق مع يهود المدينة بنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعدم الإعتداء فيما بينهم.
وفي الآية تحذير وإنذار من أمور :
الأول : العناد .
الثاني : المكابرة .
الثالث : الإعراض عن المعجزات .
الرابع : الظن بالإستغناء عن أداء الفرائض العبادية .
الخامس : عدم تلاوة الكتاب .
وفي الآية تأديب واصلاح للمسلمين ، وثناء عليهم بتعاهدهم القرآن ، وبيان للطف الله عز وجل بهم.
قانون الابتلاء امتحان
من معاني [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ] ( ) الجمع بين الإبتلاء بالأموال والإبتلاء بالنفوس في آن واحد ، وهل هو أشد الوجوه الثلاثة ، لأنه جامع لطرفي الإبتلاء ، الجواب لا ، إذ أن كل فرد من افراد الإبتلاء من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
فقد يكون الإبتلاء بالنفوس وحدها أشد مع وفرة المال ، لذا أصّر كفار قريش على القتال يوم بدر ، وزحفوا بالجيوش العظيمة في معركة أحد والخندق ، للإضرار بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وإرادة قتلهم ، وصدّ الناس عن مسالك الهدى والإيمان ، قال تعالى [الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ] ( ).
ترى من الذي يبتلي المسلمين ، الجواب يأتي الإبتلاء والإختبار من عند الله عز وجل مع تعدد السبب والجهة والغاية ، قال تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ] ( ).
وقال تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ]( ).
وقد يكون السبب في الإبتلاء من المشركين فيؤثمون ويجعل الله عز وجل قطع الطرف منهم ، والعقوبة تنزل عليهم ، والنسبة بين العقوبة في المقام وقطع الطرف العموم والخصوص المطلق ، فالعقوبة والإبتلاء الذي ينزل بالكفار أشد ، ومن غير ثواب يترتب عليه ، لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل الله عز وجل أن يهدي قومه ، للملازمة بين الهداية والثواب .
ترى من أين تأتي أسباب الإبتلاء في قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ]الجواب من جهات :
الأولى : يأتي الإبتلاء والإختبار من عند الله عز وجل لبعث المسلمين على المسارعة في الخيرات ، وعلى الصبر وتعاهد التقوى ، والعمل بالميثاق قال تعالى [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ]( ).
الثانية : يأتي الإبتلاء بسبب عناد الكفار ، ومناجاتهم في الإستخفاف بالنبوة ، والسخرية من التنزيل ، والحرب على الذين آمنوا ، الذين يتعاهدون الميثاق الإلهي .
الثالثة : تحويل قريش الجزيرة إلى ساحة حرب من حين هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
الرابعة : الإبتلاء من داخل بيوت قريش ، مثل عدم رضا الأب بدخول الابن الإسلام مثلاً ، أو من الزوجة او الابن ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
الخامسة : الإبتلاء الحسن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمناجاة بأداء الفرائض العبادية .
السادسة : قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ] مقدمة ونوع طريق لآية الصدقات ، واخراج المسلمين الزكاة والخمس والحقوق الشرعية ، والمسارعة في الإنفاق في سبيل الله ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
السابعة : ما يترشح عن غزو المشركين للمدينة ، ورصدهم للمسلمين وعرضهم الجعل والجوائز لمن يقوم بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه أذى شديد ، ويلزم إحتراز المسلمين ، وأخذهم الحائطة ،وتعطيل الأعمال أو شطر منها .
كثرة الأموال ابتلاء
لقد جعل الله عز وجل المال زينة وذخيرة ، وبلغة لتحقيق الأماني والغايات ، فجاء الميثاق من عند الله عز وجل لتحصين وتهذيب هذه الغايات بما يفيد الأجر والثواب عند الإنفاق ، ويشمل المقام قاعدة (لاضرر ولا ضرار في الإسلام) .
قال تعالى [إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ]( )، ولا تختص فتنة المال في إنفاقه بل تبدأ مع السعي إليه ، وجمعه و(عن أبي برزة قَال : قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم : لاَ تَزُولُ قَدَمَا العَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ حتى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ : عَنْ عُمْرِه فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ به ، وَعَنْ مَالِهِ ، مِنْ أَيْنَ اكتسبه وَفِيمَ أَنْفَقَهُ)( ).
وتوجيه السؤال إلى العبد في الآخرة فرع أخذ الميثاق عليه في الدنيا وتعدد الحجة عليه ، وتتصف حال المسلمين في بداية الإسلام بالفقر وقلة المال ، والعجز عن توفير الأسلحة والمؤون والظهر للدفاع بوجه المشركين لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه انتصر على المشركين الغزاة بالمعجزة ، وتدل عليه نسبة النصر إلى الله عز وجل في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) ، وفي المقام مسائل :
الأولى : كثرة أموال المسلمين ، وإنتقالهم من حال الفاقة والفقر إلى حال السعة والغنى ، لتكون هذه الكثرة من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنها خير محض في النشأتين ، وتكون موضوعا ومناسبة للإبتلاء من وجوه :
أولاً : لزوم جمعها من حلال .
ثانياً : أداء الحقوق التي تترتب على هذه الأموال .
ثالثاً : التنزه عن التبذير والإسراف ، وعن البخل والشح، قال تعالى [وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا] ( ).
ليكون قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ]بشارة ووعد كريم من عند الله عز وجل .
وتقدير الآية : لتبلون في أموالكم التي عندكم والتي ستأتيكم .
ولو دار الأمر بين قرب تنجز هذه البشارة ، وبين بعده وطول مدته ، فالصحيح هو الأول ، فمن معاني الآية أن الأموال حاضرة عندكم قريبة منكم وهي كثيرة ، وليس ببعيدة عنكم ، وفي التنزيل [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
الثانية : لتبلون في سعة الدولة والأمرة والحكم بين الناس ، قال تعالى [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ] ( ).
الثالثة : لتبلون بسعة الرزق ، وأكل الطيبات ، واللباس الرقيق ، وكثرة المؤونة ، وهو من فضل الله عز وجل ، ومن مصاديق الشكر لله عز وجل التحلي بالصبر والتقوى فأنها سبيل استدامة النعم وصرف الأذى والضرر.
وهل قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ] من الابتلاء والامتحان ، أم من البلاء .
المختار أنه منهما معاً ، ليتجلى الإعجاز في معاني هذه الكلمة وشمولها للتضاد من وجوه :
الأول : البشارة القريبة .
الثاني : التحذير .
الثالث : الإنذار .
الرابع : الوعد على تسخير ضروب الإبتلاء في طاعة الله .
الخامس : قانون إنتفاع المسلمين الأمثل من الإبتلاء .
السادس : الإرتقاء في سلم المعارف ، وعدم دبيب اليأس والقنوط عند الإبتلاء وشدته ، قال تعالى [وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ] ( ).
وقد ورد لفظ [رَوْحِ اللَّهِ] مرتين في القرآن ، وكلاهما حكاية عن يعقوب النبي في الآية أعلاه ، وهي من سورة يوسف ، لبيان أن الإبتلاء لا يزيد المؤمنين إلا إيماناً وصبراً وأنه مناسبة لتأديب الأبناء على التقوى والسعي في طاعة الله.
السابع : تأديب القرآن للمسلمين ، فان باغت الإبتلاء المسلم فانه على بصيرة من أمره ، لا يجزع في حال الأذى ، ولا يفرح ويبطر في حال السعة والنعمة ، إنما يحرص على أداء الفرائض العبادية في أوقاتها ، قال تعالى [فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ).
أقسام الميثاق
الميثاق لغة من المواثقة والمعاهدة (ومنه المَوْثِقُ، تقول: واثَقْتُه باللهِ لأفعلن كذا)( ).
و(وَثقْتُ بالشيء وَثاقةً وثقَةً، ناقص مثل عِدَة وزِنَة، وأنا واثق بالشيء، والشيء موثوق به. وأَوثَقْتُ الدّابةَ وغيرَها إيثاقاً.
والوَثاق: كل ما أوثقت به شيئاً. والمِيثاق: العهد، وأصله الواو: مِوثاق، قُلبت الواو ياءً لكسرة ما قبلها، والجمع مواثيق. وأخذتُ الأمرَ بالأوثق، أي الشديد المُحْكَم)( ).
وأصل الميثاق أن يعقد بين طرفين لكل منهما أو لأحدهما مصلحة فيه .
أما الميثاق الذي يأخذه الله من العباد فهو على وجوه :
الأول : الميثاق رحمة .
الثاني : لا تنحصر منافع تقيد الفرد والجماعة بالميثاق الذي أخذه الله عليهم ، بل تشمل منافعه الذراري والجيران وعامة الناس.
الثالث : غنى الله عز وجل عن المواثيق وهو سبحانه لا يحتاج لشئ ، إنما المخلوقات كلها محتاجة له سبحانه وجعل الله عز وجل الميثاق ملاك استدامة الحياة.
الرابع : وجوب العمل بالميثاق.
الخامس : يثاب الذي يعمل بالميثاق في الآخرة ، قال تعالى [وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ]( ).
وإذا كان الدستور أعلى وأقوى من القانون فان الميثاق أسمى مرتبة منهما ، وهو عنوان الصلة بين الله عز وجل والعباد إلى جانب سعته وشموله الناس جميعاً أو أجيال من طائفة وشطر منهم كما في آية البحث وذكرها لميثاق أهل الكتاب على نحو الخصوص .
وقد لا يلتفت شطر من الناس لمواد الدستور أو القانون ولكن الميثاق الإلهي ينفذ إلى القلوب ، ويكون حاضراً في الوجود الذهني طوعاً واطباقاً وقهراً عند التشريعات الوضعية وقد يكون من أحدهما.
ومن أهل الكتاب أمة تقيدت بمضامين الميثاق وأركان العبادة .
وحرصت على تلاوة التنزيل ، وأمتنعت عن إعانة المشركين أو نصرتهم ، قال تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ] ( ).
وجاءت آية البحث بالمعنى الأخير ، فأهل الكتاب هم الذين أعطوا الميثاق لإدراكهم لما فيه من النفع والثواب العظيم في الدنيا والآخرة .
وجاء الميثاق الذي أخذه الله عز وجل من العباد على وجوه :
الأول : الميثاق في عالم الذر ، والذي هو شامل لجميع الناس من آدم إلى آخر إنسان عندما ينفخ في الصور ، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ]( ) .
وذكرت الآية بني آدم وبين المراد من الناس وبني آدم عموم وخصوص مطلق ، فالناس أعم ، فهل يستثنى آدم وحواء من هذا الميثاق .
الجواب لا ، إنما أخذ الله عز وجل الميثاق من آدم وحواء في الجنة ومنه قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، ومن إعجاز الآية أن الله عز وجل الميثاق على الناس ، وهم في حال ذر .
ويراد من الذرة في لغة العرب الشئ الضئيل الحجم والمتناهي في الصغر الذي قد لا يرى ومنه الجسيمات الدقيقة التي تتراقص مع اشعة الشمس الداخلة من النافذة أو ثقب صغير كما يطلق على نحل صغير جداّ يسمى النمل الأحمر.
والذرة جسيم مجهري يتألف من سحابة من الشحنات السالبة (الإلكترونات) تطوف حول نواة موجبة الشحنة صغيرة في المركز ، ومع صغر الذرة فأكثر حجمها فراغ ، فالنسبة بين حجم ذرة الهيدروجين وحجم نواتها (100,000).
ولو نظرنا إلى مليارات البشر بمجموعهم في تعاقب الأعقاب والأجيال ، فهل يكون ظهر الإنسان كافياً لمجموع هذه الأعداد كذرات الجواب جاءت الآية بصيغة الجمع [مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ]( )، مما يدل على أن الأخذ من ظهور كثيرة متعددة ولم تذكر الآية الذرة على نحو الخصوص وكان يعتقد أن الذرة جوهر لا يتجزأ لصغره .
ولم يرد في آية الذر أعلاه لفظ الميثاق ، ولكنه ظاهر في مضمون ودلالة ألفاظ الآية .
(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سألت ربي فأعطاني أولاد المشركين خدماً لأهل الجنة ، وذلك أنهم لم يدركوا ما أدرك آباؤهم من الشرك ، وهم في الميثاق الأوّل) ( ).
وابتدأ العلماء من سنة 1790 في الإلتفات إلى دراسة أقسام الذرة وانشطارها لتبدأ علوم الطاقة الذرية والنشاط الإشعاعي.
لذا بينت العلوم الحديثة جسيمات أصغر بكثير من الذرة وسخروها في الصناعات مثل البروتون والألكترون والنيترون التي تتألف منها الذرة .
ومن إعجاز القرآن إشارته إلى هذه الجسيمات قبل أكثر من الف واربعمائة وأربعين سنة ، قال تعالى [لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ]( )، أي أن العلماء لم يكتشفوا إمكان انقسام الذرة إلا في آخر القرن الثامن عشر أو القرن التاسع عشر الميلادي ، على نحو القضية الفردية ثم أتسع هذا العلم بينما أخبرهم الله في القرآن قبله بنحو ألف ومائتي سنة عن وجود أجزاء هي أصغر من الذرة وقد أحاط الله عز وجل بها علماً.
وذكرت الآية الذرية المتعاقبة ، وعن الإمام جعفر الصادق في آية الذر أعلاه قال : أخرج الله (من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذر فعرفهم وأراهم صنعه و لولا ذلك لم يعرف أحد ربه.
وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كل مولود يولد على الفطرة، يعني على المعرفة بأن الله عز وجل خالقه، فذلك قوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ( ).
ومن معاني الميثاق في عالم الذر أن الله عز وجل جعلهم يدركون ويفقهون وهم في تلك الحال من الصغر .
وهل أخذ الله ميثاق عيسى في عالم الذر وليس له آب .
الجواب نعم لأنه من الذرية في قوله تعالى [مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ]( )، وقال تعالى [ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
الثاني : فطرة الله الناس على التوحيد ، وإدراك وجوب طاعة الله ، وقد تفضل الله عز وجل وفتح باب التوبة للناس للرجوع إلى الفطرة ، قال تعالى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، كما تنتج الابل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء ، قالوا : يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير ، قال : الله أعلم بما كانوا عاملين( ).
وفي الحديث القدسي : اني خلقت عبادي كلهم حنفاء.
الثالث : المواثيق التي جاء بها الأنبياء والرسل من عند الله ، قال تعالى [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا]( )، ليكون من معاني البشارة العمل بالميثاق الذي أخذه الله من الناس.
الرابع : الكتب السماوية النازلة من عند الله ، والتي تتضمن الأوامر والنواهي ، والإخبار عن العهود والمواثيق بين الله والناس ، بل وحتى بين الناس ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]( )، لبيان أن الوفاء بالعقود بين الناس تنمية لملكة الوفاء بالمواثيق والعهود مع الله ، وهي فرع لهذه المواثيق من غير أن يلزم الدور بينها للتباين الموضوعي .
الخامس : الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الأنبياء بالتبليغ والصبر واقامة الفرائض ، وجذب الناس للإيمان ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ]( )، كما وردت آيات خاصة بأخذ الميثاق من بعض الأنبياء وإن لم يرد بلفظ الميثاق كما ورد في عيسى عليه السلام [مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد]( ).
السادس : ميثاق أهل الكتاب الذي ذكرته آية البحث ، ومن الإعجاز فيه ، أنه ليس ميثاقاً ذاتياً ينحصر بالعبادة والنسك أو الرهبانية ، إنما هو للذات والغير ، أما للذات فلقوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ]( )، وأما للغير فيتجلى في قوله تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ].
السابع : ميثاق المسلمين ، فلما أخذ الله ميثاق أهل الكتاب فلابد أنه سبحانه يأخذ ميثاق المسلمين لأنهم أيضاً أصحاب كتاب سماوي وهو القرآن ، ولانهم أمة خاتم الأنبياء وسيد المرسلين إلى جانب ميثاق عالم الذر الذي أخذه الله من الناس جميعاً ، ومنه قوله تعالى في الثناء عليهم [وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ]( )،[ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ]( )، ومن المواثيق الأمر من الله بأداء الفرائض ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حريصاً على الوفاء بالميثاق والعهد مع الناس وإن كانوا مشركين .
وعندما جاء أبو بصير عتبة بن اسيد بن حارثة إلى المدينة مسلماً هارباً من المشركين بعد صلح الحديبية (فكتب فيه أزهر بن عبد عوف ، والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي ، ومعه مولى لهم ، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكتابهما .
وقالا : العهد الذي جعلت لنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر ، وإنّ الله تعالى جاعل لك ،ولمن معك من المستضعفين فرَجاً ، ومخرجاً.
ثمّ دفعه إلى الرجلين ،فخرجا به حتّى إذا بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو نصير( ) لأحد الرجلين : والله إنّي لأرى سيفك هذا جيّداً ، فاستلّه الآخر ، فقال : أجل والله إنّه لجيد.
قال : أرني أنظر إليه. فأخذه وعلا به أخا بني عامر حتّى قتله ، وفرّ المولى وخرج سريعاً حتّى أتى رسول الله عليه السلام ، وهو جالس في المسجد.
فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طالعاً قال : إنّ هذا الرجل قد رأى فزعاً.
فلمّا انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ويلك مالكَ .
قال : قَتل صاحبكم صاحبي.
فوالله ما برح حتّى طلع أبو نصير متوشّحاً بالسيف ، حتّى وقف على رسول الله ، فقال : يا رسول الله وفت ذمّتك أسلمتني ورددتني وقيل : وذريتني إليهم ثمّ نجّاني الله منهم.
فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ويلُ أُمّه مستعر حرب لو كان معه رجال فلمّا سمع ذلك عرف أنّه سيردّه إليهم ، فخرج أبو نصير حتّى أتى سيف البحر ، ونزل بالغيّض من ناحية ذي المروة ، على ساحل البحر بطريق قريش ، الذي كانوا يأخذون إلى الشام.
وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكّة قول رسول الله عليه السلام لأبي نصير : ويل أُمّه مستعر حرب لو كان معه رجال.
فخرج عصابة منهم إليه ، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي نصير حتّى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلاً منهم ، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلاّ اعترضوا لهم فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم ، حتّى ضيّقوا على قريش ,
فأرسلت قريش إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليه السلام يناشدونه الله ، والرحم ، لمّا أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن، فآواهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقدموا عليه المدينة)( ).
ثواب قراءة السورة
وفي مصحف أبي بن كعب ذكر سورة الفيل وسورة قريش في سورة واحدة ليس من فصل بينهما ، وقد قرأ عمر بن الخطاب السورتين في ركعة واحدة من صلاة المغرب ( ) ، وكذا قرأهما الإمام جعفر الصادق عليه السلام( ).
وقد ورد بالإسناد عن (نوح بن أبي مريم عن علي بن زيد عن زر بن حبيش عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ سورة {لإيلَافِ قُرَيْشٍ}( ) أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها) ( ) .
والحديث ضعيف سنداً ، وقال جمع من علماء الرجال بأنه موضوع ، ونسب وضعه إلى نوح بن أبي مريم المذكور في السند أعلاه وغيره .
وقال عبد الرحمن بن مهدى (قلت لميسرة من أين جئت بهذه الاحاديث من قرأ كذا فله كذا ، قال وضعته أرغب الناس فيه) ( ).
وورد الحديث أيضاً باسناد آخر (عن أبي أمامة ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث فضائل القرآن بطوله) ( ).
كما ورد في حديث ضعيف في فضائل سور القرآن سورة سورة (عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس ، فقيل له : من أين لك هذا .
قال : لأن الناس قد اشتغلوا بمغازي ابن إسحاق ، وغيره فحرضتهم على قراءة القرآن) ( ).
ولا يعني هذ ضعف أحاديث فضائل القرآن المتحدة والمتعددة لتعددها وكثرتها، وقد أُلفت كتب عديدة في فضائل القرآن لبيان كنوز المعارف التي تتضمنها الآية القرآنية ، والأجر والثواب في التلاوة .
وأيهما أعظم أجراً تلاوة الآية القرآنية أم العمل بمضمونها .
الجواب هو الثاني ، ليكون من الإعجاز في وجوب قراءة القرآن في الصلاة تعدد الثواب من جهات :
الأولى : تلاوة القرآن .
الثانية : تلاوة القرآن في حال الخشوع والخضوع لله عز وجل .
الثالثة : الإنصات لتلاوة القرآن ، قال تعالى [فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الرابعة : في قراءة القرآن بعث على العمل بالأحكام ، والسنن الواردة في آياته ودعوته للتقيد بالميثاق السماوي .
الرابعة : تلاوة آيات القرآن مناسبة لحفظها واستحضارها في الوقائع والأحداث ، وفيها بعث للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتذكير بالميثاق الذي ذكرته آية البحث.
قوله تعالى [وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا]
تتضمن الآية إقامة الحجة على الذين أوتوا الكتاب فحينما أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم التمسك به ، وسؤال الله عز وجل الإعانة في هذا التمسك .
وقد تفضل الله عز وجل على المسلمين بأن يقول كل واحد منهم ذكراً أو انثى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، سبع عشرة مرة في اليوم والليلة ، ليكون من الصراط السوي والإستقامة التقيد بالميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الناس والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ، وعلى المسلمين ، وليكونوا حملة لواء الميثاق.
وهل تذكير آية البحث أهل الكتاب بالميثاق من حمل هذا اللواء الجواب نعم ، لذا يتلو المسلمون آية البحث في الصلاة اليومية وخارجها .
ومن معاني ومنافع هذه التلاوة ترغيب أهل الكتاب بالميثاق ، وبيان قبح التفريط به ، أو جعل له بدلاً من حطام الدنيا ، واتباع الشهوات .
والميثاق نعمة وآية من عند الله عز وجل فلا يجوز التخلي عنه ، والإمتناع عن التقيد بمضامينه .
ويفيد الجمع بين آيات القرآن في المقام أن الذين اشتروا الميثاق طائفة من أهل الكتاب ، وليس كل أهل الكتاب بدليل قوله تعالى [وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]( ).
ذكرت آية البحث مسألة الشراء ، والشراء من الأضداد ، وقد يطلق على البيع قال الجوهري (الشِراءُ يمدّ ويقصر. يقال منه: شرَيْتُ الشيء أَشْرِيهِ شِراءً، إذا بعته وإذا اشتريته أيضاً وهو من الأضداد، قال الله تعالى: ” ومِن الناس مَنْ يَشْرِي نفسَه ابتغاءَ مَرضاةِ الله ” أي يبيعها. وقال تعالى: ” وشَرَوْهُ بثمنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعدودة ” أي باعوه) ( ).
ونسب إلى مشهور الأصوليين أن قول اللغويين ليس بحجة لأنهم أهل خبرة في استعمال اللفظ ، وليس أصل الوضع وهذا من التشديد على النفس، ولم تثبت هذه النسبة ، إنما قول اللغويين حجة إلا مع القرينة والدليل على خلافه ، نعم قول اللغويين في التفسير ليس بحجة تامة لأن معنى الآية أعم في مضمونها ودلالتها .
وبخصوص الآيتين أعلاه فان المعنى يشمل البيع والشراء ، ومن معاني قوله تعالى [يَشْرِي نفسَه] ( ) أي يحرز الأجر والثواب ودخول الجنة ، والنجاة من عذاب النار .
ولم يرد لفظ [يَشْرِي] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، كما أنه لم يرد لفظ [يَشْتَرِي]في القرآن إلا في قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ).
ويدل ما ورد بخصوص أسباب نزول الآية على إرادة الشراء حقيقة إذ (أخرج البيهقي في شعب الإِيمان عن ابن عباس في قوله { ومن الناس من يشتري لهو الحديث }( ) يعني باطل الحديث . وهو النضر بن الحارث بن علقمة . اشترى أحاديث العجم وصنيعهم في دهرهم ، وكان يكتب الكتب من الحيرة والشام ويكذب بالقرآن ، فأعرض عنه فلم يؤمن به) ( ).
وهذا المعنى لا يتعارض مع إرادة معنى البيع منه إذ يقوم المشركون بنشر اللهو والباطل .
ولم يرد لفظ [شَرَوْهُ] في القرآن إلا في الآية أعلاه من سورة يوسف .
ورد عن السدي في آية البحث (أخذوا طمعاً ، وكتموا اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : كتموا وباعوا فلم يبدوا شيئاً إلا بثمن)( ).
وليس البيع وقبض الثمن هو المقصود في الآية ، بدليل تقدم قوله تعالى [فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ] أي أنهم لم يحملوه سلعة للبيع .
وقال الثعلبي [وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا] يعني المأكل( ).
وموضوع الآية أعم ، كما أن الذين اشتروا ثمن الكتمان أفراد وطوائف متعددة.
علم المناسبة
ورد لفظ [ثَمَنًا قَلِيلًا] تسع مرات في القرآن كلها في النصف الأول من القرآن ، وإذ أخبرت آية البحث عن ترك طائفة من أهل الميثاق ، والتفريط به لقاء ثمن قليل ، فقد وردت آيات تحذرهم جميعاً من هذا التفريط ، وتخبر بأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الميثاق ، قال تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ َلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ]( ).
وتبين الآية عدم كفاية العصمة من شراء الثمن القليل فلابد من الخشية من الله ، وطاعته واجتناب معصيته ، ومن الآيات في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه جاء بالأوامر والنواهي الإلهية ، وهي مرآة للتقوى.
وبينت آيات [ثَمَنًا قَلِيلًا] حرمة تحريف الكتاب ، والإفتراء على الله ، والذي فيه إعراض وعزوف عن الميثاق ، قال تعالى [فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً]( )، ترى ما هي النسبة بين إخفاء الميثاق الذي تذكره آية البحث ، وبين كتمان ما انزل الله الذي ورد في الآية أعلاه من سورة البقرة .
المختار هو العموم والخصوص ، فكتمان ما أنزل الله أعم من الكتمان الذي تذكره آية البحث وتدخل فيه البشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فمما أنزله الله عز وجل في التوراة صفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
و(عن ابن عباس قال : سأل معاذ بن جبل أخو بني سلمة ، وسعد بن معاذ أخو بني الأشهل ، وخارجة بن زيد أخو الحرث بن الخزرج ، نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة ، فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم ، فأنزل الله فيهم [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى] الآية( ))( ).
لقد أخبرت الآية أعلاه من سورة البقرة بأن الذين يخفون العلم ووجوب الفرائض العبادية ، والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأكلون في بطونهم النار ، لذا ورد عن عبد الله مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيما عبد آتاه الله علماً فكتمه لقي الله يوم القيامة ملجماً بلجام من نار( ).
وأخبرت آية أخرى عن تفريط طائفة من الناس بالميثاق ، وبالإيمان التي قطعوها على أنفسهم لقاء عوض زهيد ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
وتتجلى في هذا الوعيد دعوة أهل الكتاب والناس إلى إظهار البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه حتى مع إخفاء البشارات فأن الله عز وجل أظهره بالمعجزة العقلية والحسية .
وجاءت الآية قبل الأخيرة من سورة آل عمران بالتفصيل ، وذكرت وجود أمة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى يؤمنون بنزول القرآن من عند الله ، ويصدقون بالبشارات بالنبي محمد ولا يرغبون في عوض زهيد .
وتضمنت الآية البشارة لهم بالثواب العظيم قال تعالى [وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]( )، ونزل القرآن بلزوم تلقي آيات الله بالقبول والإمتثال ، وعدم العزوف عنها ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ]( ).
والنسبة بين آيات الله التي تذكرها الآية أعلاه وبين الميثاق التي ورد في آية البحث هو العموم والخصوص المطلق.
وقد دعت آيات القرآن المسلمين وعامة الأمم بأتخاذ آيات الله عز وجل دستوراً وضياءً ، والإتعاظ من الأمم السابقة ، والتقيد بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ووردت عنه أحاديث تحض المسلمين على العمل بسنته منها ما ورد عن جابر قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول : لتأخذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) ( ).
كفارة اليمين
يتجلى فضل الله عز وجل على المسلمين بالتخفيف عنهم في باب اليمين باللجوء إلى الكفارة ، قال تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وسقوط الكفارة في يمين اللغو التي ليس معها قصد أو غاية ، ومنه سبق اللسان إلى اليمين وجريان العادة مما لا يكون طريقاً لتثبيت أمر أو نفيه كقول الإنسان اثناء ترسله في الكلام : لا والله .
ولا تصح ولا تجزي الكفارة في اليمين الغموس (وهي الحلف على الماضي والحال بصدق وحق سواء كان على نحو الأقرار او الشهادة او لفك خصومة ونحوها وليس فيها كفارة.
اليمين الغموس: وهي الحلف على الماضي او الحال مع تعمد الكذب وتضييع حق امرئ مسلم، سُميت بالغموس لأنها تغمس صاحبها في النار وفي بعض الأخبار انها من الكبائر وانها تدع الديار بلاقع) ( ).
واليمين نوع عهد ووعد لذا تترتب الكفارة على حنثه ونقضه ، وعدم الإتيان به ، وصحيح أنه على نحو القضية والعهد الشخصي لاثبات أو تنجز وعد ولكن فيه تنمية لملكة الوفاء بالميثاق الذي جاءت به آية البحث .
وهل يصح تقديم الكفارة على حنث اليمين ، الجواب نعم وتعطى لمن يستحق الزكاة من الفقراء والمساكين ، و(عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : من حلف على يمين فرأى غيرَها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه)( ).
وإذا كان الله عز وجل قد جعل قواعد وقوانين لضبط حقوق الأفراد والشهادة عليها فمن باب الأولوية أنه سبحانه حفظ مواثيق الأنبياء ، والبشارة بها والدعوة إليها من قبل أهل الإيمان وأتباع الأنبياء .
ولقد أسس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحفظ المواثيق بين الدول والطوائف لما يمنع من الإقتتال والإرهاب .
مسائل فقهية
(مسألة 1) اذا انعقدت اليمين وجب الوفاء بها واتيان متعلقها ، وحرم عليه مخالفتها عمداً وحنثها وتجب معه الكفارة فلو كانت مخالفتها جهلاً او نسياناً او اضطراراً او اكراهاً فلا حنث ولا كفارة.
(مسألة 2) اذا كان متعلق اليمين فعلاً يأتي به الحالف كالصلاة والصوم المستحبين فان قيّد اليمين بوقت معين كما لو قال والله لأصومن من يوم الخميس القادم لزم الوفاء به فان لم يأت به ويصوم ذلك اليوم وتحقق الحنث لزمت الكفارة وان صام يوماً آخر بدلاً عنه، اما لو اطلق ولم يعين اليوم كما لو قال والله لأصومن يوماً صح الوفاء به في اي وقت عدا الأيام التي لا يجوز صيامها كيوم الصيد، ولا يجب الفور والبدار فيجوز التأخير ولو بالإختيار الى ان يظن الفوت وظهور امارات العجز عن الوفاء.
(مسألة 3) لو كان متعلق اليمين الترك فان قيده بزمن معين عليه الوفاء والإلتزام تلك المدة باليمين كما لو حلف ان لا يسافر سفراً شرعياً اثناء شهر رمضان في تلك السنة فان حنث وخالف عمداً وسافر وجبت الكفارة اما لو اطلق ولم يقيد اليمين بزمان محدد كما لو قال والله لا ادخن فلو اتى به ولو مرة في العمر في اي زمان تحقق الحنث ولزمت الكفارة، وتعتبر اليمين منحلة اي لو اتى بالفعل مرة اخرى لا تتكرر الكفارة على الأقوى.
(مسألة 4) لو كان متعلق يمينه متعدداً من المتواطيء كما لو قال والله لاصلي صلاة الليل كل ليلة ما دمت حياً فهل يتكرر الحنث والكفارة كل مرة يترك فيها صلاة الليل لأن اليمين تنبسط على كل ليلة على نحو العموم الإستغراقي ام انها تنحل بالمخالفة الأولى على نحو العموم المجموعي فلا حنث بعدها .
المختار هو الثاني لقاعدة نفي الحرج في الدين وتحقق الحنث وصدق اسم الكفارة بعد اتحاد النذر وصيغته.
(مسألة 5) كفارة اليمين عتق رقبة او اطعام عشرة مساكين او كسوتهم، فان لم يقدر فصيام ثلاثة ايام وعليه الكتاب والسنة والإجماع.
(مسألة 6) اليمين الصادقة مكروهة سواء تعلقت بالماضي او المستقبل، والكراهة فيما يتعلق بالماضي اشد، نعم لو قصد رفع مظلمة عن نفسه او عن غيره جاز بلا كراهة.
(مسألة 7) تجوز اليمين الكاذبة لدفع الظلم والأذى عن النفس والغير مع وجود الراجح شرعاً اذا لم يحسن التورية او لم يقدر عليها وهي ان يقصد من اللفظ خلاف ظاهره من دون قرينة مفهمة.
لا يجوز الحلف الشرعي بغير الله في الماضي والمستقبل وان يقصد غير وجهه ولا يترتب على مخالفتها اثم ولا كفارة كما انه ليس قسماً شرعياً فاصلاً في الدعاوى والمرافعات( ).
(مسألة 8)يشترط في الكسوة التي يتخير بينها وبين العتق والإطعام في كفارة اليمين وما بحكمها ان يكون مما يعد لباساً عرفاً سواء كان جديداً او ليس بجديد مما لا يعد بالياً او لا يصلح للإستعمال، ولا تجزي القلنســوة والجورب ونحــوه بل يكون ثـوباً واحداً ساتراً للبدن والأحوط استحباباً ان يكونا ثوبين .
ويشترط في الكسوة تعدد المستحق كما تقدم في الإطعام، وتصح كسوة الصغير والانثى كما تصح كسوة الكبير والذكر.
(مسألة 9)الظاهر صلاحية الثوب للبس بان يكون مخيطاً او نحوه ويجزيه اعطاء المسكين القماش مع اجرة الخياطة او دفع اجرة الخياطة عنه، ولا فرق بين ان يكون من قطن او كتان او صوف وغيرها مما يصلح ان يكون لباساً.
(مسألة 10) لا يجزي اعطاء لباس الرجال للنساء او اعطاء لباس الصغير للكبير او بالعكس، ولو تعذر العدد كسى الموجود وانتظر الباقي او التكرار على الموجود.
(مسألة 11)لا يشترط ان تكون الكسوة بحسب الموسم وبلحاظ الحر والبرد او الريف والمدينة.
(مسألة 12)لا تجزي القيمة في الكفارة فلابد من الإطعام ببذل الطعام اشباعاً او تمليكاً وكذا في الكسوة ببذل الثوب، نعم لا بأس بان يدفع القيمة الى المستحق ويوكله في ان يشتري بها طعاماً فيأكله او كسوة فيلبسها على الأقوى فيشتري المسكين وكالة عن المالك.
(مسألة 13) لايجوز في الكفارة المخيرة ان يكفر بجنسين فلو كانت عليه كفارة يمين فلا يجوز ان يطعم خمسة مساكين ويكسو خمسة.
(مسألة 14) يجوز التباين والإختلاف في الإطعام من تشملهم الكفارة كما لو اطعم بعضهم رزاً ولحماً واطعم الباقين الخبز وكذا في الكسوة.
(مسألة 15) ليس للعتق كأحد خصال الكفارة بدل سواء كانت مرتبة او مخيرة او كفارة جمع فيسقط بالتعذر وينتقل الى خصلة اخرى من الكفارة اما الصيام او الإطعام فلو تعذرا بالتمام صام ثمانية عشر يوماً متتابعات فان عجز عن صيامها صام ما استطاع او تصدق بالميسور، ويكون الإستغفار كفارة لمن يتعذر عليه افرادها.
(مسألة 16) من يقدر على اطعام ستين مسكيناً ككفارة لا يجزيه ان يصوم ثمانية عشر يوماً لإن الإطعام احد خصال الكفارة وبدل اختياري وصوم ثمانية عشر يوماً بدل اضطراري.
(مسألة 17) الظاهر ان وجوب الكفارات موسع فلا تجب المبادرة اليها ويجوز التأخير ما لم يؤد الى حد التهاون.
(مسألة 18) يجوز التوكيل في اخراج الكفارات المالية وادائها، ويتولى الوكيل النية ان كان هو الذي يقوم باخراج الكفارة ويتولاها الموكل اذا دفعها الى الوكيل اذا كانت وكالته بخصوص الأداء كما يجوز الدفع الى وكيل المستحق او وليه .
اما بالنسبة للكفارات البدنية عن الميت كالصيام فلا تصح النيابة الا عن الميت الذي اشتغلت ذمته.
(مسألة 19) الكفارات المالية كالإطعام والكسوة بحكم الديون، فتخرج من اصل المال اذا مات من وجبت عليه، واما البدنية فلا يجب على الورثة اداؤها ولا اخراجها من التركة نعم تخرج من الثلث ان اوصى بها الميت .
والأقوى عدم وجوبها على الولد الأكبر والقدر المتيقن من صحيحة حفص بن البختري في قضاء ما وجب بالذات من الصلاة والصوم لا الذي وجب بالعرض.
(مسألة 20) لو كان عليه كفارات وتردد بين الأقل والأكثر يجزي دفع الأقل والأولى الأكثر، ولو كان التردد بين المتباينين يصح الإكتفاء بدفع اقلهما قيمة والأحوط استحباباً الأكثر.
(مسألة 21) يجوز ان تدفع الكفارات للحاكم الشرعي ليقوم بصرفها في مصالح الفقراء والأولى ان تصرف في طلبة العلم منهم.
(مسألة 22) لو وعد شخصاً على امر او عطية وخالف الوعد فليس عليه من كفارة كما ان المخالفة اعم من التقصير وما يترتب عليه الإثم، فقد يستحدث عنده امر او راجح عقلي او شرعي يحول دون الوفاء بالموعدة.
(مسألة 23) لا كفارة على الجــاني في اســقاط الجنين الا بعد العلم بولوج الــروح فيه، ولا موضوعية للحركة الا اذا كانت كاشــفة عن الحيــاة فتجــب حينئذ.
ومن فضل الله ورود كفارة اليمين في القرآن ، وأنها على التخيير والترتيب للسعة ، وتعاهد المسلمين لها بما فيه النفع العام ، وإعانة الفقراء ، إذ قدمت الآية الكسوة والإطعام.
ومن يحلف بالله على شئ ويأتي به فلا كفارة عليه ، كما او حلف بالله بالإقلاع عن التدخين ، وتركه فعلاً أو حلف بأن يصوم يوماً تطوعاً بان تحقق غرض وغاية عقلائية وشرعية وصام هذا اليوم فلا كفارة عليه ، كما ليس من كفارة في اليمين الغموس الكاذب كما لو شهد زوراً تحت القسم.
إنما الكفارة في حنث اليمين ، والمراد من حنث اليمين هو إخلاف اليمين بفعل ما يخالف موضوعها.
وجاءت تسمية اليمين لأن العرب كانوا إذا تحالفوا أخذ كل واحد منهم بيد صاحبه اليمين ، أما اليمين في الإصطلاح فهو ذكر اسم أو صفة الله عز وجل للتوثيق وتأكيد موضوع العهد أو الوعد أو القول .
أما لفظ الكفارة فمأخوذ من الكفر، وهو الستر والتغطية لأن دفع الكفارة يغطي الإثم ، ويتداركه رحمة من عند الله ، وفي التنزيل [وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( )، وقد يتراجع المسلم عن يمينه لمصلحة أو نفع مستحدث أو عذر .
ولا يلزم صيام ثلاثة أيام كفارة حنث اليمين إلا بعد أن يعجز الحالف عن إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو العتق لأن هذه الكفارة تخييرية ثم ترتيبية .
وهل الوفاء باليمين والنذر من الميثاق ، الجواب نعم ، لبيان موضوعية العهد في الأرض ، وتنمية ملكة التقيد بمضامين الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الناس .
واليمين والحلف بالله تارة يكون طوعياً ، وباختيار الإنسان كالحلف على فعل شئ أو تركه ، وقد يكون الحلف موضوعاً في شهادة أو عقد أو عهد أو حلف ويأتي اليمين لتأكيده ، وبعث الأفراد على العمل به ، وإجتناب نقضه.
بحث بلاغي
الإجماع على أن من إعجاز القرآن بلاغته لأن العرب كانوا فصحاء وأهل بلاغة ، ويتصفون بالخطابة والمناظرة والتباري في الشعر ، واتخاذه سلاحاً في المدح والذم ، فجاء القرآن بالوعد والوعيد مع الثناء على أهل الإيمان ، وذم الذين كفروا ، وكانت أسواق عكاظ والمجنة وذي المجاز وغيرها مناسبة لإظهار فنون البلاغة والبيان ومفاخر الشعر العربي ، فدخلتها الآية القرآنية فرجحت كفتها عليها من جهات :
الأولى : البلاغة والبيان والبديع .
الثانية : الآية القرآنية كلام الله ، ونازلة من عند الله عز وجل .
الثالث : التسليم العام بأن مضامين الآية القرآنية حق وصدق ، وهذا الأمر أبلغ في الأثر والتأثير ودلائل الإعجاز من البلاغة .
وبينما يتخذ الناس من موسم الحج مناسبة للتفاخر بالآباء والإنقطاع إلى عبادة الأوثان داهمهم قوله تعالى [وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( ).
وفي النكت والعيون نسب القول بأن المراد من الحق في الآية أعلاه هو الله إلى الأكثرين( ).
والنقاش في الصغرى والكبرى ، أما الصغرى فلم يثبت صدور هذا القول من الأكثرين ، ونسب إلى أفراد قلائل منهم تابعي التابعين ، وأما الكبرى فالمراد من الحق سور الموجبة الكلية ، ومنه الوحي والميثاق الذي تذكره آية البحث ، ومنه آيات التنزيل وسنن النبوة .
وفي قوله تعالى ({ وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم }( ) قال :ما فيه عوج . ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم لقي رجلاً فقال له : أسلم .
فتعصب له ذلك وكبر عليه .
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أرأيت لو كنت في طريق وعر وعث فلقيت رجلاً تعرف وجهه وتعرف نسبه فدعاك إلى طريق واسع سهل أكنت تتبعه .
قال : نعم .
قال : فوالذي نفس محمد بيده إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو كنت فيه .
وإني لأدعوك إلى أسهل من ذلك الطريق لو دعيت إليه وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لقي رجلاً فقال له أسلم .
فصعده ذلك فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أرأيت فتييك أحدهما إن حدث صدقك وإن أمنته أدى إليك .
والآخر إن حدث كذبك وإن ائتمنته خانك .
قال : بلى .
فتاي الذي إذا حدثني صدقني وإذا أمنته أدى إلي .
قال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم : كذاكم أنت عند ربكم) ( ) .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الناس مجتمعين ومتفرقين للتقيد بالميثاق وعدم إخفائه.
مرحب من العرب
كان مرحب بن الحارث فارس يهود خيبر من قبيلة حِميَر ، وهو صاحب حصن مرحب المنيع ، كما عن ابن هشام ( ).
وكان مكتوب على سيف مرحب (هذا سيف مرحب من يذقه يعطب)( ).
وحينما برز مرحب للقتال وطلب المناجزة كان يقول الشعر بالعربية .
(قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب) ( ).
وحينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الطريق إلى خيبر ، منهم عامر بن الأكوع الأسلمي وكان شاعراً وشجاعاً ، فجعل يقول في الطريق :
(بالله لولا الله ما اهتدينا … ولا تصدقنا ولا صلينا
إن الذين قد بغوا علينا … إذا أرادوا فتنة آبينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا … فثبت الأقدام إن لاقينا
وأنزل سكينة علينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من هذا ، قالوا : عامر يا رسول الله قال : غفر لك ربك .
قال : وما استغفر لإنسان قط يخصه بالاستغفار إلا استشهد) ( ).
وحينما برز مرحب خرج له عامر بن الأكوع وقال (
قد علمت خيبر أني عامر * شاكي السلاح بطل مغامر.
فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر فذهب يسعل( ) له ، فرجع على نفسه فقطع أكحله فكانت فيها نفسه.
قال سلمة : فخرجت فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولون: بطل عمل عامر قتل نفسه .
قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أبكي فقال: ما لك.
فقلت: قالوا: أن عامرا بطل عمله.
فقال: من قال ذلك .
فقلت: نفر من أصحابك.
فقال: كذب أولئك، بل له الاجر مرتين) ( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لأعطين الراية اليوم رجلاً يحبه الله ورسوله ، ثم أرسل إلى الإمام علي عليه السلام ، وكان يومئذ أرمد ، فبصق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عينه فبرأ .
فبرز الإمام علي عليه السلام (وعليه جبة أرجوان حمراء قد أخرج خملها، وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم الصاع كيل السندره
فضرب مرحبا ففلق راسه، وكان الفتح.
وفي حديث بريدة، فاختلفا ضربتين، فبدره علي عليه السلام بضربة فقد الحجر والمغفر ورأسه ووقع في الاحراش وسمع أهل العسكر صوت وقام الناس مع علي حتى أخذ المدينة .
وفي حديث لبريدة (وفي آخره قصة مرحب وقتل علي له فضربه على هامته ضربة حتى عض السيف منه بيضة رأسه وسمع أهل العسكر صوت ضربته فما قام آخر الناس حتى فتح الله لهم)( ).
وروى الامام أحمد عن علي عليه السلام قال: لما قتلت مرحبا، جئت برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )( ).
وفي قول الإمام علي عليه السلام هذا شاهد على أنه هو الذي قتل مرحباً ، وهو الذي ورد في صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع( ) ، وليس محمد بن سلمة كما في بعض الأخبار ، وهل إظهار الميثاق وعدم كتمانه يدفع هذا القتال ، الأرجح نعم.
قانون سمو أسماء الأنبياء
لقد نزل القرآن ببيان تفضيل الله عز وجل للأنبياء على الناس ، والإخبار عن توالي بعثة الأنبياء كوسائط مباركة بين الله وبين الناس ، وفيها وثائق من جهات :
الأولى : الشهادة لرسالة الذي أنزل عليه الكتاب .
الثانية : الدعوة السماوية للتصديق بالأنبياء والرسل ، فصحيح أن الكتاب السماوي ينزل على الرسول دون النبي ، ولكنه يدعو إلى التصديق بالأنبياء.
الثالثة : من فضل الله مجئ كل نبي بمعجزة تدل على صدق نبوته ، أي أن التصديق به بدلائل منها ما يكون سماوياً وغيرياً ، وذات النبي عنده من الدلائل الحسية التي تؤكد أنه نبي مبعوث لقومه من عند الله عز وجل .
الرابعة : إخبار الكتاب السماوي عن صدق النبوات السابقة ، فتنزل التوراة لتخبر عن صدق نبوة نوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام ، وفي التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام [وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ] ( ).
وينزل الإنجيل ليصدق رسالة موسى عليه السلام ، وينزل القرآن ليصدق النبوات كلها .
وقد بعث الله عز وجل مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي .
ومن إعجاز القرآن ذكره أسماء خمسة وعشرين نبياً وهم :
الأول : آدم عليه السلام .
الثاني : إدريس عليه السلام.
الثالث : نوح عليه السلام.
الرابع : هود عليه السلام .
الخامس : صالح عليه السلام .
السادس : يونس عليه السلام.
السابع : إبراهيم عليه السلام .
الثامن : لوط عليه السلام.
التاسع : إسماعيل عليه السلام .
العاشر : إسحاق عليه السلام .
الحادي عشر : يعقوب عليه السلام .
الثاني عشر : يوسف عليه السلام .
الثالث عشر : شعيب عليه السلام .
الرابع عشر : أيوب عليه السلام .
الخامس عشر : موسى عليه السلام .
السادس عشر : هارون عليه السلام .
السابع عشر : ذو الكفل عليه السلام .
الثامن عشر : داود عليه السلام .
التاسع عشر : سليمان عليه السلام .
العشرون : اليسع عليه السلام .
الحادي والعشرون : إلياس عليه السلام .
الثاني والعشرون : زكريا عليه السلام .
الثالث والعشرون : يحيى عليه السلام .
الرابع والعشرون : عيسى عليه السلام .
الخامس والعشرون : محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن إعجاز القرآن ذكر ثمانية عشر نبياً في موضع واحد من سورة الأنعام بقوله تعالى [وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
وهل لذكر أسماء الأنبياء في القرآن من دلالة ونفع ، الجواب نعم ، من وجوه :
الأول : الثناء على الأنبياء في الكتاب الباقي إلى يوم القيامة .
الثاني : دعوة المسلمين للإقتداء بالأنبياء في سيرتهم ، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
الثالث : تفقه المسلمين في أحكام الشريعة ، بلحاظ أن ذكر أسماء الأنبياء نوع تقريب للمعاني .
الرابع : استحضار المسلمين لصبر وسعي وجهاد الأنبياء.
الخامس : بيان مسألة وهي أن الأنبياء لم يغزوا ولم يسفكوا دماً حراماً، إنما كانوا دعاة بالحجة والبرهان ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ) .
وهل الخطاب أعلاه خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم هو شامل للأنبياء السابقين ، وأجيال المسلمين الجواب هو الثاني .
السادس : ترغيب المسلمين بتسمية أبنائهم بأسماء الأنبياء وفيه دعوة لصلاح المسمى ، والذي ينطق بالاسم أو يسمعه ، ولو أجريت احصائية أيهما أكثر بين المسلمين :
الأول : اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء الآخرين والصحابة والصحابيات , والأئمة عليهم السلام .
الثاني : عامة الأسماء الأخرى سواء كانت عربية أو أعجمية .
المختار أن الأول هو الأكثر ، وهو من بركة ورود أسماء الأنبياء في القرآن ، وأكثر الأنبياء ذكراً في القرآن هو موسى عليه السلام إذ ورد إسمه نحو (131) مرة .
وهل هو أكثر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب لا ، إذ وردت آيات أكثر من هذا العدد تخاطب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم منها لفظ (قل) الذي ورد في القرآن خطاباً للنبي محمد (331) مرة .
وصحيح أن الاسم غير المسمى ، ولكن لكل اسم من أسماء الأنبياء دلالات تدعو إلى الإتعاظ والهداية خاصة وأن القرآن دلّ على هذا القانون ، إذ أخبر عن تسمية النبي يحيى من عند الله عز وجل بقوله تعالى [يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا] ( ).
وتبين الآية أعلاه وعدم تسمية الله عز وجل لنبي أو شخص آخر باسم يحيى على أن الله عز وجل قد سمّى آخرين على الظاهر ، ولكن ليس باسم يحيى ، وكانت تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله بلطف منه تعالى .
و(عن كعب الأحبار قال : إن الله أنزل على آدم عليه السلام عصياً بعدد الأنبياء المرسلين ، ثم أقبل على ابنه شيث فقال : أي بني أنت خليفتي من بعدي ، فخذها بعمارة التقوى والعروة الوثقى ، وكلما ذكرت اسم الله تعالى فاذكر إلى جنبه اسم محمد .
فإني رأيت اسمه مكتوباً على ساق العرش وأنا بين الروح والطين ، ثم إني طفت السموات فلم أرَ في السموات موضعاً إلا رأيت اسم محمد مكتوباً عليه ، وإن ربي أسكنني الجنة فلم أرَ في الجنة قصراً ولا غرفة إلا رأيت اسم محمد مكتوباً عليه .
ولقد رأيت اسم محمد مكتوباً على نحور الحور العين ، وعلى ورق قصب آجام الجنة ، وعلى ورق شجرة طوبى ، وعلى ورق سدرة المنتهى ، وعلى أطراف الحجب ، وبين أعين الملائكة ، فأكثر ذكره فإن الملائكة تذكره في كل ساعاتها) ( ).
(عن سعيد بن جبير عن أبي الحمراء خادم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : لما أسري بي رأيت في ساق العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله صفوتي من خلقي أيدته بعلي ونصرته به) ( ).
وفي اسم يحيى ووروده في القرآن بشارة استدامة الحياة الدنيا وعذوبتها ومعالم الإيمان فيها ، والسعي العام للمحافظة على البيئة وحسن المعيشة في الأرض ، وعلى الإمتناع عن القتال بالأسلحة المهلكة ، وحروب الإبادة ، وسياسة إحراق الأرض ، والإرهاب.
ويبعث تعدد الأنبياء وكثرة أسمائهم معاني الأخوة بين الناس ، وفيه ترغيب بهدايتهم إلى سبل الرشاد ،والإقتداء بالأنبياء إذ أن ذكر كل اسم من أسمائهم استحضار لسمو مقامهم ، وإجتهادهم في طاعة الله .
ومن الآيات أن كل نبي من الأنبياء مدرسة في الصبر .
وفي تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للمسلمين للإنقطاع إلى ذكر الله ، والإكثار من الحمد والشكر له تعالى ، وحض الناس على تعاهد الحمد لله .
فهو اسم علم على صيغة المبالغة من الحمد ، ومعناه محمود الصفات ، حسن الخصال رؤوف رقيق رحيم ، يصدر منه الخير للآخرين ، وحتى اسم مريم الذي ذكر في القرآن ، ومنه قوله تعالى [وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ] ( ) إذ ورد ذكر مريم وتوجه الخطاب اليها أعلاه ثلاث مرات في أربع آيات متعاقبة ، وفي الأخيرة منها ذكر اسم عيسى ، وإن اختيار اسمه من عند الله عز وجل وهو سبحانه الذي سماه بهذا الاسم .
وجاءت سورة كاملة من القرآن باسم سورة مريم ، وهي سورة مكية كلها (وهي ثمان وتسعون آية .
تسع تسعون حجازي .
وسبعمائة واثنتان وستّون كلمة .
وثلاثة آلاف وثمانمائة حرف وحرفان .
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقري غير مرّة .
قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم وأبو الشيخ عبد الله بن محمد قالا : قال أبو إسحاق إبراهيم بن شريك، عن أحمد بن يونس اليربوعي، عن سلام بن سليم المدائني، عن عمرو بن كثير، عن يزيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ سورة مريم أُعطي من الأجر حسنات بعدد من صدّق بزكريّا وكذب به، ويحيى ومريم وعيسى وموسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل عشر حسنات، وبعدد من ادعا لله ولداً،
وبعدد من لم يدع له ولداً) ( ).
وإذا كانت تسمية عيسى عليه السلام من عند الله عز وجل وهو رسول من الرسل الخمسة أولي العزم فان اسم مريم من عند أمها بعد الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل .
وهناك أتباع كثيرون لأنبياء متعددين كما في اتباع اليهود لموسى عليه السلام ، والنصارى لعيسى عليه السلام والمسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ليكون إتباع الأنبياء والإقتداء بهم والمبادرة بفخر إلى تسمية الأبناء باسمائهم وتجلي البركة من هذه التسمية مناسبة للود ومعاني الرفق واللطف بين أهل الملل السماوية ، وترك الظلم والتعدي والإخافة العامة .
قانون أماكن بعثة الأنبياء
لقد ذكر تقسيم أماكن بعثة الأنبياء منها :
الأولى : جزيرة العرب : إذ بعث الله فيها آدم ، وهود ، وصالح ، وإسماعيل ، وشعيب عليهم السلام ، والرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : مصر : بعث الله عز وجل فيها كلاً من يوسف ، وموسى ، وهارون ، عليهم السلام .
الثالثة : بلاد الشام : بعث الله عز وجل فيها كلاً من : لوط ، إسحاق ، يعقوب ، أيوب ، ذو الكفل ، داود ، سليمان ، إلياس ، اليسع ، زكريا ، يحيى ، عيسى عليه السلام .
الرابعة : العراق : بعث الله عز وجل فيه كلاً من إدريس ، نوح ، إبراهيم ، يونس عليهم السلام .
والمختار تغشي بعثة الأنبياء المعمورة كلها آنذاك ، فحيثما ما كان هناك أهل مدينة أو قرى بعث الله عز وجل لهم نبياً أو أوصل لهم أخبار بعثة النبي ، والمعجزات التي جرت على يديه ونصوص من الكتاب السماوي ، بصبغة التبليغ .
قال تعالى [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ]( )، [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ]( ).
لقد تفضل الله عز وجل بتزيين السماء بالنجوم وأبى إلا تزيين الأرض ببعثة الأنبياء ، والكتب السماوية التي تتضمن الأحكام والأوامر والنواهي لتجري الألسن في دور العبادة والمنتديات والجادة العامة بطاعة الله ، وتفضل الله عز وجل وأنزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكما اختص القرآن بهذا الاسم ، فقد سمّاه الله عز وجل الكتاب , منه قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) .
وفيه أخبار وقصص الأنبياء ، وعموم الأمم الماضية ، وذكر أحوال الناس في عالم الآخرة بين [شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ] ( ) إذ لا برزخ بينهما إلا أن يشاء الله .
ولم يرد لفظ [سَعِيدٌ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، لبيان المائز بين عالم التكليف وعالم الجزاء ، وما جاء الأنبياء إلا لنجاة الناس في عالم الجزاء .
ومن لطف الله عز وجل وحكمته في الناس ، أنه لم يجعل بعثة الأنبياء في موضع واحد من الأرض أو في مواضع قليلة منها ، فقد تعددت أماكن وأمصار بعثة الأنبياء .
ليكونوا حجة على الناس ، ومن الآيات في المقام تعدد الأماكن والمدن والأولياء والحكومات التي تتوارث البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا ما بعثه الله عز وجل ، وأعلن نبوته ، جاء التصديق من خارج مكة ، وذكر بعض أهل الكتاب صفات نبي آخر الزمان وموافقتها لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، كما وردت بعض صفاته في التوراة والإنجيل منها في التوراة .
42: 1هوذا عبدي الذي اعضده مختاري الذي سرت به نفسي وضعت روحي عليه فيخرج الحق للامم
42: 2 لا يصيح و لا يرفع و لا يسمع في الشارع صوته
42: 3 قصبة مرضوضة لا يقصف و فتيلة خامدة لا يطفئ الى الامان يخرج الحق.
42: 4 لا يكل و لا ينكسر حتى يضع الحق في الارض و تنتظر الجزائر شريعته.
42: 5 هكذا يقول الله الرب خالق السماوات و ناشرها باسط الارض و نتائجها معطي الشعب عليها نسمة و الساكنين فيها روحا.
42: 6 انا الرب قد دعوتك بالبر فامسك بيدك و احفظك و اجعلك عهدا للشعب و نورا للامم)( ).
وقد أخبر القرآن عن ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخصاله الحميدة في التوراة ، إذ ورد في سورة الأعراف [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
النبوة والميثاق
لقد وثّق القرآن شطراً من معجزات الأنبياء ، وصار المسلمون يتلونها خمس مرات في اليوم عند الصلاة اليومية ، ويتلونها ويتدارسونها خارج الصلاة .
لقد أخبرت آية البحث عن أخذ الله الميثاق من أهل الكتاب ، وتم هذا الميثاق بواسطة الأنبياء فهم رسل الله إلى الناس .
فهل أخذ الله عز وجل الميثاق من الأنبياء ، أم كانوا وسائط للميثاق بين الله عز وجل وبين أصحابهم وأنصارهم وأتباعهم ، الجواب صحة الأمرين معاً ، فلا تعارض بينهما ، إذ أخذ الله عز وجل الميثاق من الأنبياء أيضاً ، ولقد تقيد الأنبياء بالميثاق ، وقاموا بأحكامه أحسن قيام ليكونوا حجة على الناس .
وهل ميثاق الأنبياء بكيفية وسنن واحدة ، المختار أن الميثاق على قسمين:
الأول : القوانين الثابتة ، البقاء على التوحيد على كل حال ، وتوارثه ، ودعوة الناس للإيمان ، كما في نوح عليه السلام ، وجهاده في دعوة قومه للإيمان ، كما في قوله تعالى [وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا]( ).
ولم يرد لفظ [دَعَوْتُهُمْ] في القرآن إلا في الآيتين أعلاه ، وفيه بيان ليكفية دعاء الأنبياء لقومهم .
وهل هذه الدعوة من الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الأنبياء ، الجواب نعم ، لذا ورد في الخطابات الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التنزيل [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ…] ( ).
ولم يرد لفظ [إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العالمين ، والأمر الإلهي في الآية بأعلان الميثاق .
لذا جاهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته ، وأمر طائفة من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة ، كما أنه هاجر أولاً إلى الطائف ثم هاجر إلى المدينة ، ومن القوانين الثابتة فرض الصيام على الأنبياء وأتباعهم ، قال تعالى [كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الثاني : القوانين المتغيرة بخصوص الشرائع والواجبات ، فمثلاً كان في الشرائع السابقة جواز الجمع بين الأختين ، وكان من مصاديق الميثاق والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن شريعته تحرم الجمع بين الأختين ، قال تعالى [وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ] ( ) .
ومنها أداء الصلاة خمس مرات في اليوم بكيفية تعبدية خاصة من القيام والركوع والسجود ، قال تعالى [فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ]( ) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صلّوا كما رأيتموني أصلّي) ( ).
معجزات الأنبياء والميثاق
لقد أكرم الله عز وجل الأنبياء بمرتبة النبوة والوحي والعصمة من الشرك ومفاهيم الضلالة ، وجعلهم الدعاة إلى التوحيد ، وعبادة الله وحده لا شريك له .
وهذه المرتبة ميثاق اختص به الله سبحانه الأنبياء من بين الخلائق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
لبيان قانون وهو اقتران الخلافة بالميثاق وهل يمكن القول بتلقي آدم الميثاق في السماء قبل هبوطه إلى الأرض ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( ).
وهو لا يتعارض مع تلقيه الميثاق والوحي في الأرض ، ومن الميثاق تصديق الأنبياء بعضهم لبعض , وهذا التصديق تعضيد للذات وللأنبياء الآخرين واتباع الأنبياء .
وعن الإمام علي عليه السلام وعبد الله بن عباس : ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بَعَث محمدًا وهو حَيّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمَرَه أن يأخذ الميثاق على أمته : لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمِنُنَّ به ولينصرُنَّه( ).
وهو من مصاديق قوله تعالى [ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي]( ).
ويمكن القول أن الله يأخذ على النبي الميثاق من جهات :
الأولى : الميثاق الخاص بالأنبياء .
الثانية : ميثاق الذين أوتوا الكتاب الذي تذكره آية البحث خاصة وأن الميثاق يأتيهم ويؤخذ منهم بواسطة الأنبياء ، وسواء كان النبي له أتباع من أهل الكتاب أو لا ، فان ذات الميثاق الذي أخذه الله على أهل الكتاب قد أخذه على الأنبياء ، وأمرهم ببيانه وإظهاره ، ليكونوا أسوة وأئمة لأهل الكتاب .
الثالثة : الميثاق العام الذي أخذه الله عز وجل على الناس , سواء في عالم الذر أو فيما بعده .
لتكون النسبة بين ميثاق الذين أتوا الكتاب وميثاق الناس العموم والخصوص المطلق .
وتكون النسبة بين ميثاق الأنبياء وميثاق الذين أوتوا الكتاب العموم والخصوص المطلق أيضاً .
فميثاق الأنبياء أعم ، ويتفضل الله عز وجل عليهم بالمدد والوحي لحمل أعباء الميثاق وتبليغه وبيانه .
معجزات آدم عليه السلام
تعددت معجزات آدم عليه السلام ، منها خلقه في الجنة ومن غير أب ولا أم ، ثم هبوطه إلى الأرض .
فهذه المليارات السبعة من الناس الذين يعمرون الأرض إنما هم لأب واحد ، وأم واحدة وهي حواء ، وهم في ازدياد مطرد إن شاء الله ، ليكون هذا التكاثر آية من عند الله في العالمين .
وهل سجود الملائكة لآدم من معجزاته ، المختار نعم لأنه فضل ومكرمة من عند الله ، قال تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ]( ) .
ومن معجزات آدم تكليم ومخالطة الملائكة له في الجنة , وعدم انقطاع بعضهم عنه بعد هبوطه الأرض , ومنها طول عمر آدم , وكونه أول نبي في الأرض .
معجزات نوح عليه السلام
وأظهر معجزات نوح صنعه السفينة للنجاة عند الطوفان ، وغرق الأرض , قال تعالى [وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ومن معجزات نوح طول عمره واختلف فيه ، فمنهم من وقف على قوله تعالى [فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ]( )، وان المراد منه مجموع سني نوح ومنهم من قال عاش ألف سنة وخمسين لأنه بُعث وعمره أربعون سنة ، واستمر يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة.
وعن الطبري (عاش نوح بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة ، هذا عدا الألف سنة إلا خمسين التي لبثها في قومه).
ولكن ورد في حديث أنس (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما بعث الله نوحا إلى قومه بعثه وهو ابن خمسين ومائتي سنة فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما.
وبقي بعد الطوفان خمسين ومائتي سنة .
فلما أتاه ملك الموت قال : يا نوح يا أكبر الأنبياء ويا طويل العمر ويا مجاب الدعوة كيف رأيت الدنيا.
قال : مثل رجل بني له بيت له بابان فدخل من واحد وخرج من الباب الآخر)( ).
وفي سند الحديث أعلاه ابن أبي عياش والظاهر أنه أبان بن أبي عياش البصري ت138 وقد ضعّفه كل من ابن عدي في الكامل ، والذهبي ، وابن حجر ، والشيخ الطوسي ، والعلامة الحلي ، ومن الرجاليين من مدحه واثنى عليه .
ومن معجزات نوح عليه السلام صبره على جحود قومه وشدة إيذائهم له ، ومنها نجاته ومن ركب معه في السفينة من الطوفان الذي أغرق مساحات واسعة مما حوله .
وسيأتي قانون نجاة الأنبياء معجزة متجددة .
وأختلف في الذين كانوا مع نوح على وجوه :
الأول : كان عددهم أربعين رجلاً .
الثاني : ثمانون رجلاً ، وهم الذين هبطوا معه إلى الأرض من السفينة لذا سميت القرية التي نزلوا فيها (عن ابن عباس قال : اعطى الله نوحاً عليه السلام في السفينة خرزتين أحدها بياضها كبياض النهار والأخرى سوادها كسواد الليل ، فإذا أمسوا غلب مواد هذه بياض هذه ، وإذا أصبحوا غلب بياض هذه سواد هذه على قدر الساعات الاثني عشر .
فأول من قدر الساعات الاثني عشر لا يزيد بعضها على بعض نوح عليه السلام في السفينة ليعرف بها مواقيت الصلاة ، فسارت السفينة من مكانه حتى أخذت إلى اليمين فبلغت الحبشة ، ثم عدلت حتى رجعت إلى جدة ، ثم أخذت على الروم ، ثم جاوزت الروم فأقبلت راجعة على حيال الأرض المقدسة .
وأوحى الله إلى نوح عليه السلام : أنها تستوي على رأس جبل فعلت الجبال لذلك ، فتطلعت لذلك وأخرجت أصولها من الأرض وجعل جودي يتواضع لله عز وجل ، فجاءت السفينة حتى جاوزت الجبال كلها ، فلما انتهت إلى الجودي استوت ورست ، فشكت الجبال إلى الله فقالت : يا رب إنا تطلعنا وأخرجنا أصولنا من الأرض لسفينة نوح ، وخنس جودي فاستوت سفينة نوح عليه .
فقال الله : إني كذلك من تواضع لي رفعته ، ومن ترفع لي وضعته ، ويقال : إن الجودي من جبال الجنة ، واستوت السفينة عليه .
وقال الله : يا أرض ابلعي ماءك بلغة الحبشة ، ويا سماء أقلعي أي أمسكي بلغة الحبشة ، فابتلعت الأرض ماءها وارتفع ماء السماء حتى بلغ عنان السماء رجاء أن يعود إلى مكانه ، فأوحى الله إليه : أن ارجع فإنك رجس وغضب .
فرجع الماء فملح وحم وتردد فأصاب الناس منه الأذى ، فأرسل الله الريح فجمعه في مواضع البحار فصار زعاماً مالحاً لا ينتفع به ، وتطلع نوح فنظر فإذا الشمس قد طلعت وبدا له اليد من السماء ، وكان ذلك آية ما بينه وبين ربه عز وجل أمان من الغرق ، واليد القوس الذي يسمونه قوس قزح ، ونهي أن يقال له قوس قزح لأن قزح شيطان وهو قوس الله ، وزعموا أنه كان يمتد وتروسهم قبل ذلك في السماء ، فلما جعله الله تعالى أماناً لأهل الأرض من الغرق نزع الله الوتر والسهم ، فقال نوح عليه السلام عند ذلك : رب إنك وعدتني أن تنجي معي أهلي وغرق ابني ، و{ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح }( ) يقول : إنه ليس من أهل دينك إن عمله كان غير صالح.
قال : اهبط بسلام منا .
فبعث نوح عليه السلام من يأتيه بخبر الأرض ، فجاء الطير الأهلي وقال: أنا .
فأخذها وختم جناحيها فقال : أنت مختومة بخاتمي لا تطير أبداً ينتفع بك ذريتي .
فبعث الغراب فأصاب جيفة فوقع عليها ، فاحتبس فلعنه فمن ثَمَّ يقتل في الحرم ، وبعث الحمامة وهي القمري فذهبت فلم تجد في الأرض قراراً ، فوقعت على شجرة بأرض سبا فحملت ورقة زيتون فرجعت إلى نوح فعلم أنها لم تستمكن من الأرض ، ثم بعثها بعد أيام فخرجت حتى وقعت بوادي الحرم .
فإذا الماء قد نضب وأول ما نضب موضع الكعبة ، وكانت طينتها حمراء فخضبت رجليها .
ثم جاءت إلى نوح فقالت : البشرى استمكن الأرض فمسح يده على عنقها ، وطوّقها ، ووهب لها الحمرة في رجليها ، ودعا لها ، وأسكنها الحرم ، وبارك عليها فمن ثم شفق بها الناس .
ثم خرج فنزل بأرض الموصل وهي قرية الثمانين لأنه نزل في ثمانين ، فوقع فيهم الوباء فماتوا إلا نوح وسام وحام ويافث ونساؤهم وطبقت الأرض منهم ، وذلك قوله { وجعلنا ذريته هم الباقين }( ) .) ( ).
الثالث : عشرة .
الرابع : أولاده يافث وسام وحام وزوجاتهم كما في آخر الحديث أعلاه.
معجزات النبي إدريس عليه السلام
وهو أول من كتب بالقلم ، واسمه اخنوخ ، وقيل هو أول نبي بعثه الله بعد آدم ، والمختار أن النبوة لم تنقطع عند موت آدم وأنه لم يغادر الأرض إلا وكان ابنه هبة الله من بعده نبياً ، وقد ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاسم والنبوة إذ ورد (عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله كم الأنبياء قال : مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفاً .
قلت : يا رسول الله كم الرسل منهم .
قال : ثلثمائة وثلاثة عشر جمع غفير .
قال : يا أبا ذر أربعة سريانيون : آدم ، وشيث ، ونوح ، وخنوخ وهو إدريس ، وهو أوّل من خط بقلم ، وأربعة من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك ، وأوّل نبي من أنبياء بني إسرائيل موسى ، وآخرهم عيسى ، وأوّل النبيين آدم ، وآخرهم نبيك)( ).
وفي رواية أخرى أن الله عز وجل أنزل على شيث كتاباً إذ ورد (عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب ، قال مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل على شيث خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف ، وأنزل التوراة والإِنجيل والزبور والفرقان .
قلت يا رسول الله : فما كانت صحف إبراهيم.
قال : أمثال كلها أيها الملك المتسلط المبتلي المغرور لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ، ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم ، فإني لا أردها ولو كانت من كافر .
وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ويتفكر فيما صنع ، وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال ، فإن في هذه الساعة عوناً لتلك الساعات واستجماعاً للقلوب وتفريغاً لها .
وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه حافظاً للسانه ، فإن من حسب كلامه من عمله أقل الكلام إلا فيما يعنيه ، وعلى العاقل أن يكون طالباً لثلاث مرمة لمعاش ، أو تزوّد لمعاد ، أو تلذذ في غير محرم .
قلت يا رسول الله : فما كانت صحف موسى.
قال : كانت عبراً كلها عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، ولمن أيقن بالموت ثم يضحك ، ولمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها ، ولمن أيقن بالقدر ثم ينصب ، ولمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل.
قلت يا رسول الله : هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى.
قال : يا أبا ذر نعم قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى( ).
وبلحاظ الآيات أعلاه، ففي الميثاق وبيانه مسائل :
الأولى : سبق الإخبار عن وجوب إعلان الميثاق وعدم كتمانه على الديانات السماوية الثلاث .
الثانية : بيان الميثاق تزكية للنفس والعمل .
الثالثة : في الميثاق ذكر لله وحرب على الوثنية والشرك ومفاهيم الضلالة.
الرابعة : يتضمن الميثاق الأمر بالصلاة على نحو الوجوب ، وهذا الأمر ملازم للناس من حين هبوط آدم إلى الأرض .
الخامسة : في بيان الميثاق تنزه عن اللهث وراء الدنيا ، ليكون من معاني قوله تعالى [بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا] ( ) أعلاه التفريط بالميثاق ، وشراء ثمن قليل به ، وبالإمتناع عن بيانه للناس .
السادسة : الثواب العظيم في الآخرة لمن يظهر ويبين الميثاق للناس ، لوجود المقتضي وفقد المانع ، ولإقامة الحجة على الناس .
السابعة : مجئ الوحي للأنبياء السابقين بالميثاق والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
معجزات النبي هود عليه السلام
إذ أرسله الله عز وجل إلى قومه عاد وهم من قبيلة (إزم) وكانوا طغاة ، فدعاهم إلى التوحيد والتقوى للنجاة من البلاء والهلكة فرموه بخفة العقل ، كما ورد في التنزيل [إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ]( )، فانكروا الرسالة والوحي ، فأهلكم الله بالريح الشديدة ، قال تعالى [فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرً ا] ( )من الصر وهو البرد ولشدة صوتها أي باردة تهلك لشدة بردها .
موضع الأحقاف
وكان قوم هود يسكنون الأحقاف واختلف في موضعها على وجوه :
الأول : الأحقاف واد بين عمان ومهرة ، عن ابن عباس .
الثاني : كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له : مهرة ، إليها تنسب الجمال ، عن مقاتل( ).
فيقال : إبل مهرية ومهاري .
وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع.
فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم .
وكانوا من قبيلة إرم.
الثالث : قال الضحّاك : الأحقاف جبل بالشام.
الرابع : هي أرض جساق من جسمي ، أي في اليمن ، عن مجاهد .
الخامس : قال قتادة : ذكر لنا أنّ عاداً كانوا حيّاً باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها : الشحر.
السادس : هي ما استطال من الرمل كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلاً ، عن ابن زيد.
السابع : اقليم حضرموت بين اليمن وعمان والحجاز.
الثامن : أن الأحقاف رمال مشرقة كالجبال ، قاله ابن زيد ، وشاهده ما تقدم ، وقال هي رمال مشرقة على البحر بالسحر في اليمن( ).
التاسع : من بين عمان وحضرموت ، قاله ابن إسحاق.
والاحقاف لغة جمع حقف وهي الرمال.
ومن إعجاز القرآن ورود سورة باسم النبي هود عليه السلام ، وسورة باسم الأحقاف.
وروى أبو الطفيل عن علي كرم الله وجهه أنه قال : خير واد بين في الناس واد بمكة ، وواد نزل به آدم بأرض الهند ، وشر واديين في الناس وادي الأحقاف ، ووادٍ بحضرموت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار ، وخير بئر في الناس بئر زمزم ، وشر بئر في الناس بئر برهوت وهي ذلك الوادي حضرموت( ).
ومن معجزات هود مجئ العذاب للذين كفروا على هيئة سحاب ، وظنوا إنه يحمل المطر بعد طول جدب اصابهم ، ولكن هوداً قال لهم [بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : نُصِرْتُ بِالصبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ( ).
وبخصوص إسراء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعروجه إلى السماء ورد في التوراة حكاية عن النبي دانيال :
7: 13 كنت ارى في رؤى الليل و اذا مع سحب السماء مثل ابن انسان اتى و جاء الى القديم الايام فقربوه قدامه
7: 14 فاعطي سلطانا و مجدا و ملكوتا لتتعبد له كل الشعوب و الامم و الالسنة سلطانه سلطان ابدي ما لن يزول و ملكوته ما لا ينقرض
7: 15 اما انا دانيال فحزنت روحي في وسط جسمي و افزعتني رؤى راسي
7: 16 فاقتربت الى واحد من الوقوف و طلبت منه الحقيقة في كل هذا فاخبرني و عرفني تفسير الامور( ).
وفي انجيل متي (24: 29 و للوقت بعد ضيق تلك الايام تظلم الشمس و القمر لا يعطي ضوءه و النجوم تسقط من السماء و قوات السماوات تتزعزع
24: 30 و حينئذ تظهر علامة ابن الانسان في السماء و حينئذ تنوح جميع قبائل الارض و يبصرون ابن الانسان اتيا على سحاب السماء بقوة و مجد كثير)( ).
ولعل المراد من ضيق الأيام ، وظلمة الشمس والقمر ، هو عبادة قريش رجالاً ونساءً وهم من ذرية ابراهيم عليه السلام للأصنام ، ونصب القبائل أصنامهم في البيت الحرام ، وتقديسهم لها.
وقد ورد ذكر الشمس والقمر اشارة إلى يعقوب النبي وزوجه كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام [إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ]( ) .
وقد فسره بعض شراح الإنجيل بأن الضيق يصير في أيام المسيح الكذاب ومجئ الملكوت الأخروي في كنيسة العهد الجديد.
وأن الشمس والقمر يظلمان في المجئ الثاني لأنهما يخجلان من ظهور المسيح كما يتضاءل وينمحل نور السراج من إشراقة ضوء الشمس ، وأنه لا يحتاج حينئذ لحساب الأيام والليالي لأنه ليس من ليل.
معجزات النبي صالح عليه السلام
الذي بعثه الله عز وجل إلى ثمود ، وهم قبيلة عربية تسكن بين الحجاز وتبوك (وقد دخلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فقال لهم عليه الصلاة والسلام لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا وأنتم باكون مخافة أن يصيبكم مثل الذي أصابهم تتخذون من سهولها قصورا أي تبنون قصورا في الأرض البسيطة وتنحتون الجبال بيوتا أي تتخذون بيوتا في الجبال وكانوا يسكنون القصور في الصيف والجبال في الشتاء) ( ).
كان النبي صالح عليه السلام يدعو الناس إلى التوحيد ، وأخبرهم بأن هذه الدعوة ليست إجتهاداً منه ، إنما هي من الوحي ، وأنه رسول من عند الله عز وجل فكذبوه ونعتوه بأنه ساحر أو مسحور ، قال تعالى [كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ] ( ).
ولما واظب على الدعوة بالبيان والحجة ، وصار يعدد نعم الله عز وجل عليهم وأنه جعلهم خلفاء بعد قوم عاد عليهم ، وحذرهم من زوالها بسبب الكفر والشرك والإقامة على المعاصي ، ومن خطابه لهم ما ورد في التنزيل [أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ] ( ) .
وآمن برسالة صالح عدد من الأشخاص من قومه ، عندئذ توجه الملأ منهم إلى الجدال والشروط .
فأشاروا إلى صخرة مخصوصة ، وسألوا صالحاً أن يخرج منها ناقة ، ووضعوا شروطاً للناقة لا يقدر عليها البشر ، وإن اجتمعوا ، فتوجه صالح إلى المصلى ، وصل ركعتين ، ثم سأل الله عز وجل أن يستجيب لدعائه ، ويخرج له ناقة فأستجاب وأخرج له ناقة من الصخرة ، وكانت ترد الماء يوماً، وإبل وأنعام القوم يوماً ، وفي اليوم الذي ترد فيه الماء تأخذ القبيلة كلها الحليب منها ، قال تعالى [قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ] ( ) .
وهل في هذه الآية إخبار متقدم زماناً عن استنساخ الأنعام كما في النعجة دوللي في يولو 1996 م التي تم استنساخها في معهد روزلين في جامعة أدنبرة.
الجواب إن معجزة ناقة صالح أكبر لأنها لم تتكون من خلية حية ، فهي ليست خلقاً .
نعم ناقة صالح تفتح آفاق البحث العلمي لمحاربة الفقر والمجاعة ، لتكون من مصاديق سعة الرزق التي جعلها الله ملازمة للحياة الدنيا .
لقد كانت ناقة صالح معجزة متجددة كل يوم تدعو الناس للإيمان ، وأوصاهم صالح عليه السلام بتعاهد سلامتها ، وحذرهم من العذاب عند الإضرار بها .
لقد صارت الصخرة تمخض كما تمخض الحامل ، ثم انفجرت فخرجت الناقة من وسطها عندئذ قال لهم صالح عليه السلام [وَيَاقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً] ( ) فنسب الناقة إلى الله .
وقال لهم كما ورد في التنزيل [فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) فأخبرهم صالح عليه السلام بأنه لا يقومون بعلفها والإنفاق عليها ، مع أنها تكفيهم جميعاً من حلبها ، وحذرهم من التعرض لها بأي أذى من الضرب أو العقل أو الطرد .
وهل من صلة بين المناجاة بسلامة ناقة صالح وبين تعاهد الميثاق ، الجواب نعم ، لتوارث الحفاظ على الملة والمعجزة والنعمة .
فأي إيذاء لها يأتي معه العذاب الأليم ، وكانت أنعامهم تهرب من الناقة سواء في الصيف أو الشتاء ، وتشتت ، فتشق عليهم ، وزينت لهم امرأتان قتل الناقة ، هما(عنيزة أمّ غنم ، وصدقة بنت المختار – لما أضرت به من مواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي – فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه) ( ).
وتواصى نفر منهم بعقرها ثم اقدموا على قتلها ، فقال لهم صالح : أدركوا فصيلها عسى أن يرفع الله عنكم العذاب ، فانطلق الفصيل نحو الجبل فرغى ثلاثاً فانفجرت الصخرة فدخل فيها ، فلم يقدروا على حفظه .
عندئذ أخبرهم صالح عن حلول العذاب بهم بعد ثلاث أيام ، قال تعالى [فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ] ( ).
ولما رأوا العلامات ، وأيقنوا أنهم هلكى طلبوا صالح ليقتلوه ، فأنجاه الله عز وجل ، إذ أنتقل إلى أرض فلسطين .
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (يا علي ، أتدري من أشقى الأوّلين؟
قال : الله ورسوله أعلم .
قال : عاقر ناقة صالح ، أتدري من أشقى الآخرين؟
قال : الله ورسوله أعلم .
قال : قاتلك) ( ).
وعن قتادة أن عاقر الناقة أخذ موافقة القوم كلهم بقتل الناقة وقال (لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين .
فجعلوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون : ترضين . . . ؟
فتقول : نعم والصبي( ) ، حتى رضوا أجمعين فعقروها) ( ).
ووردت النصوص بأن الذين اتفقوا على قتلها تسعة .
ولابد أن الناقة صارت سبباً لإيمان طائفة من قوم صالح ، وهو من أسباب غيظ وسخط الكافرين ، وكان عقرهم الناقة يوم الأربعاء فأخبرهم صالح عن قرب هلاكهم ، وبيّن لهم علامات الهلاك التدريجية .
قال (تصبحون غداء يوم مؤنس( ) ووجوهكم مصفرّة،
ثمّ تصبحون يوم عروبة( ) ووجوهكم محمرّة ثمّ تصبحون يوم شيّار( ) ووجوهكم مسودّة .
ثمّ يصبحكم العذاب يوم الأوّل، (وكانت العرب تسمي الأيام (في الجاهلية: الأحد أول، والاثنين أهون، والثلاثاء جبار، والأربعاء دبار، والخميس مؤنس، والجمعة عروبة، والسبت شيار قال شاعرهم:
أؤمل أن أعيش وأن يومي … بأول أو بأهون أو جبار
أو المردى دبار، فإن أفته … فمؤنس أو عروبة أو شيار
أسماء الشهور عند العرب
وكانوا يسمون الشهور: المحرم ناتق، وصفر ثقيل، ثم طليق، نأجر، أسلخ أميح، أحلك، كسع، زاهر، برك، حرف، نعس، وهو ذو الحجة.
الأزمنة الأربعة
وقد اختلف العرب في أسماء الأزمنة الأربعة: فزعمت طائفة منها أن أولها الوَسْمي، وهو الخريف، ثم الشتاء، ثم الصيف، ثم القَيْظ، ومنهم من يعدُّ الأول من فصول السنة الربيع، وهو الأشْهَرُ والأعَمُّ، والعرب تقول: خَرَفْنَا في بلد كذا، وشَتَوْنا في بلد كذا، وتربعنا في بلد كذا، – وصِفْنَا في بلد كذا.
شهور الروم مرسومة على فصول السنة دون شهور العرب) ( ).
فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرّة كأنّما طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وإناثهم . (وفيهم يقول بعض من آمن بصالح عليه السلام:
أراكم يارجال بني عتيد … كأن وجوهكم طُلِيَتْ بِوَرْس
ويوم عروبة اْحَمرَّتْ وجوه … مُصَفرَة، وناثوا يال مرس
ويوم شيار فاسود تْ وجوه … من الحيين قبل طلوع شمس
فلما كان أول في ضحاه … أتتهم صَيْحَة عَمِّتْ بتعْس) ( ).
فأيقنوا العذاب وعرفوا أن صالحاً قد صدقهم فطلبوه ليقتلوه،
وخرج صالح هارباً حتّى لجأ إلى بطن من ثمود .
يقال له : بنو غنم، فنزل على سيّدهم رجل منهم يقال له : نفيل ويكنّى أبا هدب وهو مشرك فغيّبه فلم يقدروا عليه .
وقعدوا على أصحاب صالح يعذّبونهم ليدلّوهم عليه.
فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع بن هرم : يا نبي الله إنّهم ليعذبونا لندلهم عليك أفندلهم؟
قال : نعم .
فدلّهم عليه مبدع فأتوا أبا هدب وكلّموه في ذلك .
فقال : نعم عندي صالح وليس لكم إليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغلهم عنه ما أنزل الله عزّ وجلّ فيهم من عذابه فجعل بعضهم يخبّر بعضاً بما يرون في وجوههم فلما أصبحوا صاحوا بأجمعهم : ألا قد مضى يوم من الأجل .
فلمّا أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرّة كأنّما خُضّبت بالدماء فصاحوا وضجّوا وبكوا وعرفوا آية العذاب .
فلمّا أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب.
فلما كان اليوم الثالث إذا وجوههم مسودّة كأنّما طُليت بالنار فصاحوا جميعاً ألا قد حضركم العذاب.
فلمّا كان ليلة الأحد خرج صالح (عليه السلام) من بين أظهرهم ومَنْ أسلم معه إلى الشام فنزلوا رملة فلسطين .
فلمّا أصبح القوم تكفّنوا وتحنّطوا وكان حنوطهم الصبر والمقر وكانت أكفانهم (الإنطاع) ثمّ ألقوا أنفسهم بالأرض فجعلوا يقلّبون به أبصارهم فينظرون إلى السماء مرّة وإلى الأرض مّرة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب.
فلمّا اشتد الضحى يوم الأحد واسمه الأول في الجاهلية أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كلّ صاعقة وصوت كل (شيء) له صوت في الأرض فتقطّعت قلوبهم في صدورهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلاّ هلك كما قال الله تعالى : {فَأَصْبَحُوا فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}( ) إلاّ جارية منهم مقعدة يقال لها : ذريعة بنت سلق وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح (عليه السلام) فأطلق الله عزّ وجلّ لها رجلها بعدما عاينت العذاب أجمع .
فخرجت كأسرع ما يُرى شيء قط حتّى أتت قزح وهي وادي القرى فأخبرتهم بما (عاينت) من العذاب وما أصاب ثمود ثمّ أستسقت من الماء فسُقيت فلمّا شربت ماتت.) ( ).
لبيان الإعلام العام لموضوع هلاكهم وأنه آية من عند الله ، وفيه دعوة لغيرهم للإيمان ،ولو أن قوم صالح بعد أن عقروا الناقة أظهروا الندامة والتوبة ، ولجؤوا إلى الدعاء وتوسلوا إلى صالح أن يستغفر لهم الله ، وأخبروه أنهم يصدقون برسالته ، ويطيعون الله ويطيعونه فيما جاء به من عند الله ، فهل ينزل بهم العذاب ، أم يرفع عنهم ، وسواء كانت التوبة المقدرة بعد عقر الناقة وعدم إدراك الفصيل أو بعد أن أخبرهم صالح بالهلاك ونزول العذاب لوعيد صالح لهم على نحو القطع ، بأن العذاب يأخذهم عندما يمسون الناقة بسوء ، أم تشملهم رحمة الله وعمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) .
المختار هو شمولهم برحمة الله ، ودفع العذاب عنهم ، وفتح أبواب من الرزق لهم ليتمسكوا بالميثاق ، ويقومون ببيانه للناس .
ومن إعجاز القرآن أن لفظ [فَيَأْخُذَكُمْ] ورد ثلاث مرات في القرآن كلها بخصوص ناقة صالح وهي :
الأولى : قال تعالى [وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
الثانية : قال تعالى [وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ] ( .
الثالثة : قال تعالى [وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ] ( ).
وتتجلى النجاة عند الندم والإستغفار في الإطلاق الوارد في أول هذه الآية من سورة يونس والمثال الحاضر في خاتمتها ، إذ قال تعالى [فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ] ( ).
وحينما حلّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ديار ثمود خطب الناس للتذكير بالمعجزة ، وإنذار الناس من الكفر ، وبيان منافع الإيمان ، إذ ورد عن جابر بن عبد الله (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل الحجر قام فخطب الناس فقال : يا أيها الناس لا تسألوا نبيكم عن الآيات ، فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث إليهم آية فبعث الله إليهم الناقة ، فكانت ترد من هذا الفج فتشرب ماءهم يوم وردها ، ويحتلبون من لبنها مثل الذي كانوا يأخذون من مائها يوم غبها وتصدر من هذا الفج ، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام ، وكان وعداً من الله غير مكذوب .
ثم جاءتهم الصيحة فأهلك الله من كان منهم تحت مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلاً كان في حرم الله ، فمنعه حرم الله من عذاب الله .
فقيل : يا رسول الله من هو.
قال : أبو رغال .
فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه) ( ).
معجزات إبراهيم عليه السلام
وهو أبو الأنبياء إذ يرجع إليه نسب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة النبي إسماعيل ،ويرجع إليه نسب أنبياء بني إسرائيل ، ومنهم يعقوب ويوسف وموسى عليه السلام وداود وسليمان، بواسطة إسحاق ، ويرجع إليه من جهة الأم عيسى عليه السلام .
ولد إبراهيم عليه السلام في أرض بابل بالعراق ، وكان الملك يومئذ نمروذ الذي أدعى الربوبية ، وأتخذ قومه الأصنام آلهة ، فصار إبراهيم يجادلهم ، ويبين لهم قبح عبادة الأصنام ، وأنها أحجار لا تضر ولا تنفع ، ولكنهم قابلوه بالصدود وأخبروه بأنهم رآوا آباءهم يعبدونها ، وهم يقلدونهم ويحاكونهم في هذا الفعل .
ووعدهم بأنه سيكسر هذه الأصنام ليروا كيف أنها عاجزة عن الدفاع عن نفسها ، وأنتهز خروجهم من المدينة إلى عيد لهم ، فأخذ فاساً ودخل بيت الأصنام ، وقام بتحطيمها واحداً بعد واحد ، إلا أكبر الأصنام ، إذ اكتفى إبراهيم في تعليق الفأس في عنقه ، قال تعالى [فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ] ( ) مع إظهاره العبودية لله عز وجل وحده .
ولم يرد لفظ أجذاذ في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وجذاذاً أي قطعاً متكسرة متناثرة ، (قال الليث: الجَذُّ: القطع المستأصل الوحيُّ، والكسر للشيء الصلب.
وقال الفراء في قول الله جل وعز: فَجَعَلَهُمْ جُذَاذً إلاَّ كَبِيراً لَهُمْ( قرأها الناس: جُذَاذاً، وقرأها يحيى بن وثاب: جِذَاذاً فمن قرأ: جُذاذاً، فهو مثل الحُطام والرُّفات، ومن قرأ: جِذاذاً فهو جمع جَذِيذٍ، مثل خفيف وخفاف)( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : هل كسر إبراهيم الأصنام باجتهاد منه أم بالوحي من عند الله ، بعد أن جادلهم وأقام عليهم الحجة بلزوم التوحيد ، ونبذ عبادة الأصنام .
الثانية : لماذا لم يكسر إبراهيم الصنم الكبير مع أن كسره أبلغ في الحجة على أنها لا تضر ولا تنفع .
أما المسألة الأولى فالمختار أن إبراهيم لم يكسر الأصنام إلا بالوحي من عند الله ، وهو من أسباب نجاته من النار .
وأما المسألة الثانية فقد ذكرت الآية أعلاه علة عدم كسره ، وهي رجوعهم إليه ليسألوه عمن كسر هذه الأصنام ، فيدركون أنه جماد عاجز عن الكلام وعن الرد .
ولو أبقى إبراهيم أحد الأصنام الصغيرة لقالوا لا يتكلم ويكشف عن الذي كسرهن مثل الصنم الكبير لو كان باقياً.
ولو كسر إبراهيم جميع الأصنام بما فيها الصنم الكبير ربما لعجلوا بالإجهاز عليه ، وقتله خاصة وأنهم سمعوه يعلن عن عزمه على كسرها ، ولقالوا لو قتلناه من حينها.
إن كسر إبراهيم الأصنام دون كبيرها شاهد على أنه لم يكسرها ، ولم يختر ما يكسر ، وما لا يكسر إلا بالوحي .
وأجمعوا على قتل إبراهيم عليه السلام بطريقة تعذيب شديد ، بأن يحرقوه في النار ، واشترك جميع المشركين رجالاً ونساء في جمع الحطب وحفروا له حفرة كبيرة ، وأشعلوا النار وقيدوا إبراهيم ، وربطوه بالحبال ، وجردوه ووضعوه في كفة منجنيق ورموا به إلى وسط النار التي كان لهيبها يصعد في السماء .
فضجت ملائكة السماء والأرض وقالوا : يا ربنا إبراهيم ، ليس في الأرض أحد يعبدك غيره ، يحرقه الناس لإيمانه وتوحيده ، فاذن لنا في نصرته (فقال الله سبحانه وتعالى لهم : إنِ استَغاث بشيء منكم أودعاه فلينصره ، فقد أذنت له في ذلك ، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به، وأنا وليّه فخلوا بيني وبينه فلمّا أرادوا إلقاءه في النّار.
أتاه خازن المياه فقال : إن أردت أخمدت النّار فإنّ خزائن الأمطار بيدي.
وأتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيّرت النار في الهواء.
فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليكم.
ثم رفع رأسه إلى السّماء فقال : اللهمّ أنتَ الواحد في السّماء وأنا الواحد في الأرض ، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري ، حسبي الله ونعم الوكيل)( ).
ونزل قوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( )، ولو قال الله تعالى (كوني برداً) لمات إبراهيم من البرد والتجمد ، ولكن الله عز وجل قرن البرد بالسلام والأمن وهو من إعجاز القرآن وقيل لم يحرق من إبراهيم إلا وثاقه.
فاجابهم الله عز وجل (أنا أعلم به ، فان دعاكم فأغيثوه) ( ).
ليكون جواب الله عز وجل هذا من مصاديق قوله تعالى في احتجاجه على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عندما احتجوا على جعل الإنسان خليفة في الأرض إذ قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
لبيان أن الملائكة يسلمون بأنه لا يكون إنسان أو غيره من المخلوقات في الأرض إلا بأمر ومشيئة من عند الله عز وجل .
وهل من قوله الله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب الذي تذكره آية البحث ، الجواب نعم ، لبيان أن جعل الإنسان في الأرض خليفة مقيداً بالمواثيق التي يأخذها الله على الناس عامة ، وعلى المؤمنين وأهل الكتاب خاصة ، ومنها البشارات بالنبوة لتكون عنواناً للصلة بين الرسول السابق والرسول اللاحق ، والأنبياء الذين بينهما أو صاحبت نبوتهم الرسالة.
فقد يبعث رسول ، بين أنبياء أو يبعث نبي وآخر رسول في زمان واحد ، أو في بلدة واحدة أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فليس من نبي أو رسول معه .
وكانت فترة خالية من الأنبياء والرسل بين عيسى عليه السلام وبينه نحو ستمائة سنة ، وقال قتادة (كان بين عيسى ومحمد خمسمائة سنة وستون .
قال معمر : قال الكلبي : خمسمائة سنة وأربعون سنة .
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : كانت الفترة خمسمائة سنة .
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : كانت الفترة بين عيسى ومحمد أربعمائة سنة وبضعاً وثلاثين سنة)( ).
والفترة السكون والفتور في الدعوة النبوية إلى الإيمان.
ولبيان موضوعية بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إصلاح الأرض وعمارتها بالإيمان لذا ذكرت آية البحث ميثاق أهل الكتاب.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال : إن إبليس رنّ أربع رنات أولهن يوم لعن، وحين هبط إلى الارض، وحين بعث محمد صلى الله عليه وآله على فترة من الرسل، وحين انزلت ام الكتاب الحمد لله رب العالمين.
ونخر نخرتين: حين أكل آدم عليه السلام من الشجرة، وحين اهبط آدم إلى الارض، قال: ولعن من فعل ذلك( ).
لقد أعطى الأنبياء الميثاق والعهد لله عز وجل بالإخلاص في الدعوة إليه ، وإظهار صدق العبودية والإيمان ، فتجلى الميثاق في صبرهم وجهادهم فلم يرفع إبراهيم السيف على الذين كفروا ، ولو رفعه لاجتمعوا عليه ولقتلوه لأنه كان وحيداً ، ولكنه جادلهم واحتج عليهم بزيف وبطلان عبادة الأوثان ، وإذ لم يستمعوا له وأصروا على محاكاة الآباء في عبادتها ، ثم توجه إلى تكسيرها وتهشيمها.
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجود أمة آمنت به وصحابة تحملوا الأذى في جنب الله ، ومن اليوم الأول لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هناك من آمن به إذ صدقته خديجة والإمام علي في رسالته ، ثم دخل الناس الإسلام أفراداً وجماعات ليكون التصديق بالنبوة من المواثيق التي أخذها الله عز وجل على المؤمنين.
معجزات لوط عليه السلام
من أنبياء الله الذين ذكرهم القرآن والكتب السماوية السابقة لوط عليه السلام .
وهو لوط بن هاران بن تارخ ، وهاران أخو النبي إبراهيم عليه السلام ، وقيل (وهو الذي بني مدينة حرّان وإليه تنسب)( )، ولم يثبت هذا القول.
إنما هاجر إبراهيم ولوط من أرض بابل إلى أرض الشام (حتى صاروا الى حران) ( ).
ونزل ابراهيم أرض فلسطين وأنزل لوطاً الأردن ، وبعث الله عز وجل لوطاً إلى أهل سدوم ، وكانوا قوماً ظالمين يكفرون بالله عز وجل ، ويركبون الفاحشة بأن يأتوا في ناديهم المنكر ، ويأتون الرجال ، ويكرهون الأضياف على التعدي عليهم وانتصابهم .
و(عن أم هانيء بنت أبي طالب قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله سبحانه [وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ]( )، قلت : ما المنكر الذي كانوا يأتون .
قال : كانوا يخذفون أهل الطرق ويسخرون بهم)( ).
فقام لوط بدعوتهم إلى عبادة الله عز وجل وحده ، وعدم الشرك به وإلى التنزه عن الفواحش وإرتكاب المحرمات ولكنهم أعرضوا عن دعوته ، وبعد اجتهاده في الدعوة ، وبيانه للقبح الذاتي لما يرتكبون من الآثام .
لقد أراد لهم الإيمان والعفة والنقاء ، والإزدهار الإقتصادي بالتقوى وإشاعة الأمن ، وإكرام الضيف وعدم التعدي على الغريب وإخافة الناس المسافرين والإعتداء عليهم .
وفي قوله تعالى [وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ]( )، أي سبيل الولد ، و(قيل : يأخذون النَّاس من الطُّرق لطلب الفاحشة)( ).
ولا تعارض بين الأمرين ، إذ كانوا يعتدون على المارة والمسافرين واغتصابهم قسراً ولم يكن هذا الفعل السيء معروفاً عند الناس ، كما كانوا يقومون بسلب أموالهم ، فانقطعت السبيل ومما يترشح عنه تعطل التجارات ، وقيدوا السفر ، وشلَوا حركة الناس .
ومن دلالات قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، أن الله سبحانه لا يرضى باستدامة الظلم في أرضه التي سخّرها للناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وحينما يتمادى الكفار بالفسق والفجور تتجلى شواهد من قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، في احتجاج الله على الملائكة ، وفيه دعوة للعودة إلى الميثاق ، وبيان الحاجة العامة لبيانه وإظهاره .
لقد أخبرهم لوط بأنه نبي مبعوث من عند الله ولكنهم كذبوا قوله وأعرضوا عن دعوته ، وتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء فقال [رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ]( ).
لقد ذكرّهم بالوقوف بين يدي الله للحساب يوم القيامة فقابلوا لغة الإنذار والوعيد بالسخرية والإستهزاء كما ورد في التنزيل [فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ]( )، لبيان قانون من الإرادة التكوينية بأن الله عز وجل يمهل الذين كفروا وظلموا وأن العذاب يأتي للذين كفروا وعملوا السيئات عندما يسألون هذا العذاب بأنفسهم ، فتقوم الحجة عليهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، واكتفى لوط بالسؤال بالنصرة.
وعن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، فقالت عائشة : إنا لنكره الموت .
فقال : ليس ذاك ، ولكن المؤمن إذا حضر الموت بشر برضوان الله وكرامته ، فليس شيء أحب إليه مما أمامه ، وأحب لقاء الله ، وأحب الله لقاءه ، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه وكره لقاء الله وكره الله لقاءه( ).
معجزات إسماعيل عليه السلام
وهو إبن إبراهيم عليه السلام من زوجته هاجر ، ولدته مع تقدم إبراهيم في العمر ، ففرح بولادته فرحاً شديداً .
ولم تطق سارة زوجة إبراهيم الأولى وجود هاجر وابنها معها ، فأمر الله عز وجل إبراهيم بأن يذهب بابنه وأمه إلى مكة ويتركهما هناك واندهشت هاجر من الأمر ، وشعرت كأنه الهلاك فأخبرها إبراهيم أنه أمر الله عز وجل ففوضت أمرها الى الله ، وابتدأت برحلة البحث عن الماء لدفع الموت عطشاً عنها وعن ابنها ، وكلما طال الطلب دبّ إلى نفسها الرعب ، وسعت مهرولة بين الصفا والمروة.
فتدفق الماء من بئر زمزم من تحت أقدام إسماعيل في معجزة خالدة إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ] ( ) وهل هذه النعمة فرع ميثاق النبوة .
الجواب نعم ، فقد حفظ الله عز وجل إبراهيم ، وأنقذه من النار ، ثم أنعم عليه بالأولاد منهم إسماعيل وإسحاق ، وكل واحد منهما نبي في معجزة أخرى وفيه إكرام وشكر من الله عز وجل لإبراهيم ، وفيه شاهد على فضل الله بتوارث النبوة ، وتوالي بعثة الأنبياء لتعاهد الميثاق مع إعلانه وبيانه ، والإخبار عن البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل الأنبياء السابقين .
وقد أكرم الله عز وجل إسماعيل فأخبر بأنه نبي رسول ، قال تعالى [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا] ( ) .
لقد أدرك إبراهيم أن الله عز وجل الذي أنجاه من لهيب النار قادر على أن يحفظ ولده عند البيت من العطش والجوع .
ولاحظ ركب من قبيلة جرهم كانوا يعبرون الصحراء طلباً للماء والكلأ أن الطير تحوم حول موضع البيت الحرام ، وأنه ليس دوراناً حول جيفة ، إنما أمارة على وجود الماء في الموضع ، فتوجهوا إليه ، وكانت ظاهرة الآبار معروفة في الجزيرة ، وإن كانت قليلة، ومنها ما يجف ويكون قليلاً ، وحينما وصلوا وجدوا البئر تجري ماؤها إلى سطح الأرض ، واستأذنت قبيلة جرهم من هاجر للسكن بجوارها ، فأخبرت إبراهيم عليه السلام ، فأذن لهم ، وتزوج إسماعيل من جرهم ، ليكون رجال قبيلة بجواره يذبون عنه ، ويحمونه وأمه من الشرور.
ثم جاء الإمتحان والأمر لإبراهيم بذبح ابنه والذي أظهر الإستعداد والرضا بالأمر ، وفي التنزيل [إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ] ( ) وأختلف في الذبح هل هو إسحاق أم إسماعيل ، والمختار أن الذبيح هو إسماعيل لجهات منها :
الأول : في سورة هود في قوله تعالى[وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ]( ) فقد بشرت الملائكة باسحاق ومن ورائه يعقوب للدلالة على أن اسحاق يبلغ الرشد ويولد له ، ولا يكون الذبح أوان بلوغه السعي مع أبيه إبراهيم ، وقد يقال إن ولادة يعقوب نافلة ، وهذا صحيح فهو فضل من عند الله .
الثاني : ورود قوله تعالى [وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ]( ) فكانت البشارة باسحاق ولادة وذرية وبلوغ مرتبتا النبوة .
الثالث : مجئ البشارة باسحاق على نحو مستقل وبعد الأمر بالذبح .
الرابع : ورود النص عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (انا ابن الذبيحين ) والذبيح ابوه عبد الله لأن والده عبد المطلب نذر ان ينحره ففداه من الذبح بمائة من الإبل .
والذبيح الثاني أبوه إسماعيل عليه السلام .
وعن ابن فضالة (قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن معنى قول النبي صلى الله عليه واله: أنا ابن الذبيحين، قال: يعني إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وعبد الله بن عبد المطلب أما
إسماعيل فهو الغلام الحليم الذي بشر الله به إبراهيم ” فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ” ولم يقل له يا أبت افعل ما رأيت ” ستجدني إن شاء الله من الصابرين ” فلما عزم على ذبحه فداه الله بذبح عظيم بكبش أملح يأكل في سواد،)( ).
وكان إسماعيل يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة ، إذ أن قوله تعالى [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ] ( ) أي المشي والعمل معه ، والعبادة.
وقيل أن يعقوب كان يكتب في رسائله من يعقوب إسرائيل إلى ابن اسحاق ذبيح الله .
الخامس : قوله تعالى [قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ] ( ) إذ اختلف هل المراد من صفة عليم في الآية هو إسحاق أو إسماعيل ، والمشهور شهرة عظيمة أنه إسحاق (عن مجاهد في قوله { وبشروه بغلام عليم }( ) قال : هو إسماعيل) ( ).
قال الزمخشري (والمبشر به إسحاق ، وهو أكثر الأقاويل وأصحها؛ لأن الصفة صفة سارّة لا هاجر ، وهي امرأة إبراهيم وهو بِعلها) ( ).
ومال إليه ابن عطية ، وقال (وجمهور الناس على أن الغلام هنا إسحاق ابن سارة الذي ذكرت البشارة به في غير موضع) ( ).
والمختار أن المراد من الغلام العليم هو يوسف عليه السلام ، وهذا قول مستحدث ذكرته في كتابي الموسوم (تفسير سورة يوسف ) والمطبوع قبل ثلاثين سنة .
والدليل أن القرآن يفسر بعضه بعضاً إذ أخبر يوسف عليه السلام ملك مصر بانه عليم ، كما ورد في قوله تعالى [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] ( ).
السادس : ورد في الإنجيل (فكلم الله حينئذ إبراهيم قائلا : خذ ابنك بكرك اسماعيل واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة) ( ).
وكان عمر إسماعيل يوم ولد إسحاق سبع سنين ،ومسألة تعيين الذبيح صغروية لأنها محصورة بولدي إبراهيم عليه السلام ، وكل واحد منهما بلغ مرتبة النبوة ، ولا يلزم الخلاف الكثير فيها .
لقد أخذ الله ميثاق كل من :
الأول : إبراهيم .
الثاني : إسماعيل .
الثالث : إسحاق .
وما لبث إسماعيل أن شارك والده إبراهيم عليه السلام في بناء البيت الحرام ، ودعوة الناس لحج البيت الحرام.
وهل الأمر من الله عز وجل لإبراهيم بذبح ابنه ثم فداءه من الميثاق ، الجواب نعم لبيان مسألة وهي أن ميثاق الأنبياء أشد .
معجزات إسحاق عليه السلام
والتي تبدأ من ولادته ، إذ بشرت به الملائكة والديه إبراهيم وسارة ، مع أن عمر إبراهيم آنذاك مائة عام ، وعمر سارة تسعون سنة في معجزة .
وتؤكد كتب التفسير على أن الإعجاز بذات الولادة ، مع أن بشارة الملائكة بولادته معجزة أخرى سابقة لها ، ومنها بيان لموضوعية البشارة في حياة الأنبياء .
ومن الآيات مجئ هذه البشارة في قصة عجيبة ، إذ رأت سارة الملائكة عندما استضافهم إبراهيم عليه السلام ضيوفاً مكرمين ، ولكنه رآى أيديهم لا تصل إلى الزاد ، وكانا اثنين ، وقدم لهما عجلاً شواه على الحصو والحجر ، كما قال تعالى [وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ] ( ).
لقد كان الملائكة في طريقهم إلى قوم لوط للبطش بهم .
ولابد من دلالات في الجمع بين البشارة بولادة إسحاق النبي ، وتدمير وهلاك قوم لوط لفسادهم وإقامتهم على المعاصي ، ولو شاء الله لبعث ملائكة إلى إبراهيم عليه السلام بالبشارة ،وملائكة آخرين إلى قوم لوط .
ومن الدلالات أن مشيئة الله عز وجل حاضرة في وقف الفساد عند حد مخصوص مع إشراقة إيمانية تطل على الأرض ، ومنها بعث الطمأنينة والسكينة في نفوس المؤمنين حتى في حال البطش بالذين كفروا وعتوا وأوغلوا في الظلم لأنفسهم ولغيرهم ، فذات اللواط ظلم للفاعل والمفعول ، وما يتعلق بهما ، ولا عبرة بالمكابرة ، وقام الملائكة باخبار رسول الزمان عن وظيفتهم في الأرض .
ويدل على هذا الإخبار ما ورد بخصوص معركة أحد ، وفي خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
فلابد أن الله عز وجل أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنزول الملائكة ، وأنه رآهم في نزولهم ، فلم يظهر على النبي خوف أو وجل في المعركة ، ولم يفر من وسط الميدان، مع أن حجارة المشركين كانت تصله ، وضربه ابن قمِئة بالسيف ، ولم يكن مع النبي حينئذ من أهل لبيت والصحابة إلا بعدد أصابع اليدين .
ولم يرد لفظ [يَكْفِيَكُمْ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وهل كانت بشارة الملائكة لإبراهيم عليه السلام بولادة إسحاق من الميثاق الذي تذكره آية البحث في قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ].
الجواب لا ، فهو من الميثاق الذي أخذه الله على الأنبياء وأهليهم ، ولكنه سابق لميثاق أهل الكتاب .
ولم تكن معجزة إسحاق منحصرة بولادته ، فقد كان نبياً يدعو إلى الله ، ويؤدب أولاده وأحفاده على الفرائض ، ولم يغادر الأرض إلا بعد أن وثق من تعاهدهم التوحيد ، وسنن الإيمان ، وهو الذي تجلى في جواب أولاد ابنه يعقوب بن إسحاق ، قال تعالى [إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ).
ولقد كانت أفراد المعجزة المتجددة عضداً لإسحاق في الدعوة إلى الله وإصلاح الذرية .
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنه من بداية بعثته دعا عامة الناس للإيمان ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
وهل عموم الدعوة هذه من الميثاق الذي ذكرته آية البحث ، الجواب نعم ، إذ تتوجه دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل الكتاب ، وهم يتوارثون ويحتفظون بالبشارة بنبوته .
معجزات يعقوب عليه السلام
وهو ابن إسحاق بن إبراهيم ، ومن معجزاته خلافته النبوة بعد أبيه إسحاق ، وسفره إلى حوران في العراق عند خاله ، ليرجع إلى أرض فلسطين بالأبناء والماشية والأنعام الكثيرة ، ومنها صبره على فراق ولده النبي يوسف عليه السلام عليه نحو عشرين سنة ، وفقد بصره حزناً عليه ، ثم عودته له بمعجزة من عند الله كما ورد في التنزيل [اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ] ( ).
ولابد أن يوسف عليه السلام علم بالوحي أن أباه يعقوب سيعود له بصره .
(روي أن هذا القميص كان لإبراهيم كساه الله له حين أخرج من النار وكان من ثياب الجنة ثم صار لإسحاق ثم ليعقوب ثم دفعه يعقوب ليوسف وهذا يحتاج إلى سند يوثق به والظاهر أنه كان قميص يوسف الذي بمنزلة قميص كل أحد) ( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (إن إبراهيم لما اوقدت له النار أتاه جبرئيل بثوب من ثياب الجنة فألبسه إياه فلم يضره معه حر ولا برد، فلما حضر إبراهيم الموت جعله في تميمة ، وعلقه على إسحاق وعلقه إسحاق على يعقوب، فلما ولد ليعقوب يوسف علقه به وهو ملطخ بالدم، قال: فاذهب بهذا أيضا وأخبره أنه حى وأفرحه كما أحزنته، فحمل
القميص وخرج حافيا حاسرا حتى أتاه وكان معه سبعة أرغفة، وكانت المسافة ثمانين فرسخا، فلم يستوف الا ارغفة في الطريق. منه رحمه الله. التميمة: خرزة أو ما يشبهها، كان الاعراب يضعونها على أولادهم للوقاية من العين ودفع الارواح.
عليه، فكان في عنقه حتى كان من أمره ما كان، فلما أخرج يوسف القميص من التميمة وجد يعقوب ريحه وهو قوله: ” إني لاجد ريح يوسف لولا أن تفندون “( ) وهو ذلك القميص الذي انزل من الجنة) ( ).
وحينما أعطى يوسف القميص لأخوته ذكرّهم يهوذا بحادثة القاء يوسف في الجبّ ، ومجيئهم بقميص يوسف ملطخاً بالدماء بذريعة أن الذئب أكله ، وقال لأخوته (أنا ذهبت بالقميص إلى يعقوب عليه السلام وهو متلطخ بالدماء وقلت : أن يوسف قد أكله الذئب ، وأنا أذهب بالقميص وأخبره أن يوسف عليه السلام حي فأفرحه كما أحزنته . فهو كان البشير)( ).
ومن معجزات يعقوب أنه صبر على أذى أبنائه ، ومنع من تفرقهم وتشتتهم ، ففقد واحد منهم ، بتعد وظلم منهم ، أقل ضرراً من تجدد بفقد أخرين منهم أو تشردهم خاصة ، وأن الله عز وجل رمى الناس في تلك السنين بالجدب مع أن أرض فلسطين وبيت المقدس سماها الله عز وجل الأرض المقدسة ، كما في قوله تعالى [يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( ) .
ولم يرد لفظ [الْمُقَدَّسَةَ] أو [مُقَدَّسَةَ]في القرآن إلا في الآية أعلاه لتشريف بيت المقدس وهو أول القبلتين ومهاجر الأنبياء وموضع معراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، مما يوجب عناية المسلمين وأهل الكتاب به .
وفي الآية قال قتادة هي المباركة .
(وأخرج ابن عساكر عن معاذ بن جبل قال : الأرض ما بين العريش إلى الفرات .
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة في قوله { الأرض المقدسة}( ) قال : هي الشام) ( ).
لقد كان يوسف عليه السلام نبياً ووزيراً في مصر ، فهل انقطعت معجزات يعقوب عند دخوله مصر ، الجواب لا ، وإذا كانت معجزات يوسف تتعلق بالبلاط ، وخطط توزيع الطعام ، وتنفيذها ، ودفع المجاعة عن الناس ، وما يتعلق به من ضبط الأمن ، وسلامة الحكم ، وبقاء الملك والوزارة ، ليبث يعقوب النبي دعوته إلى الله عز وجل بين عامة أهل مصر ، وليتكاثر بنو إسرائيل فيها .
ومن خصائص النبوة قانون ملازمة الدعوة إلى الله النبي والرسول إلى حين مغادرته الدنيا من غير إنحصار في سن معين أو بلد مخصوص .
وهل كان يعقوب النبي عليه السلام من الذين أخذ الله عز وجل الميثاق واشترط عليهم بيانه ، الجواب نعم ، وقد امتثل لأمر الله عز وجل وبيّن الميثاق لأبنائه والناس .
وقد أكرم الله عز وجل يعقوب بأن سماه يعقوب ، وسماه إسرائيل في القرآن ، قال تعالى [كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ) وورد الخطاب متكرراً إلى بني إسرائيل ، ولم يرد بلفظ بني يعقوب لما في اسم إسرائيل صفة التعبد لله ، ومن معانيه عبد الله أو المجاهدة في الله .
وليس من أحد من المسلمين إلا ويقول بأن الإسمين لشخص واحد ، وهو نبي ، وهو من إعجاز القرآن والشواهد على إرتقاء المسلمين في سلم المعارف الإلهية .
ومن معجزات يعقوب عليه السلام ادعيته إذ لجأ إلى الدعاء وانقطع إلى التضرع إلى الله عز وجل لنجاة يوسف عليه السلام .
وتسلح بالصبر المقرون بقصد القربة رجاء الثواب والفرج ، فلم يأته الضرر والكيد من عدو أو من قوم كافرين بل من إخوته ، وهم أولاد يعقوب نفسه ، فحافظ يعقوب على حسن الأبوة معهم ، وورد حكاية عنه في التنزيل [إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
والبث : تفريق الهم والحزن باظهاره ، لقد جاء يعقوب بالميثاق ، وكان يوسف وريثاً له مما سبب حسد إخوته.
معجزات يوسف النبي عليه السلام
لقد خصّ الله عز وجل يوسف النبي بسورة من القرآن جاءت خاصة بقصته ، ويتداولها المسلمون بشغف في كل زمان ، وينشغلون بتأويل وتفسير بعض كلماتها .
وقوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ) من أكثر الآيات التي يتساءل الناس عنها بخصوص البرهان الذي رآه يوسف ولا يعلم اعداد الذين انتفعوا من آية البرهان هذه بالإمتناع عن المعصية ومقدماتها ، أو المعصية بعد تحقق مقدماتها إلا الله عز وجل ، ومن معجزات يوسف عليه السلام :
أولاً : البهاء والجمال الذي يتغشاه ، وقد خلقه الله عز وجل بهيئة آدم عليه السلام ، وقيل أن جمال يوسف عليه السلام هو السبب بدخوله السجن .
ثانياً : رؤيا يوسف عليه السلام في صغره ، وامضاء أبيه يعقوب النبي لهذه الرؤيا كبشارة بتحقق مصداقها في الواقع ، فحضه على عدم إخبار إخوته [فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
ترى لماذا لم يقل له : أضغاث أحلام أو يضعف من موضوع هذه الرؤيا كيلا يهم إخوته بإيذائه ، الجواب من جهات :
الأولى : إنها بشارة من عند الله ، ولا يجوز أن يهّون النبي منها .
الثانية : هي نعمة من عند الله على يعقوب وبنيه .
الثالثة : تتضمن الرؤيا الإخبار بأن الله يؤتي يوسف الملك ، وهل تتضمن وراثة النبوة ، الجواب نعم ، فالآية تشير إليها بسجود أخوته له ، مما يدل على رفعة منزلته ، وإنقيادهم له .
الرابعة : بعث السكينة في نفس يعقوب النبي أن يوسف لم يمت ، وأنه يرجع إليهم ، ويكون له شأن عظيم بين الناس ، وهل هذه الرؤيا التي رآها يوسف عليه السلام من الميثاق أم أن القدر المتيقن من الوحي والتنزيل ، وبلاغ الأنبياء .
المختار أن هذه الرؤيا من الميثاق والعهد ، ووجوب الإخلاص في طاعة الله ، والدعوة إلى الإيمان عندما يكون يوسف في مقام الشأن والرفعة .
وهل كانت هذه الرؤيا مقدمة بطلب يوسف عليه السلام من ملك مصر أن يجعله وزيراً يدير أمور الإقتصاد ، المختار نعم ، وهو من معجزات يوسف عليه السلام ، وعدم تثبيط يعقوب النبي لعزيمته ، إنما يبّبن له يعقوب في إجماله لتأويل الرؤيا أنها أمر واقع وقريب .
ثالثاً : نجاة يوسف عليه السلام من الإلقاء في البئر ، إذ جاءت سيارة وقافلة صدفة بذات الطريق ، فجاء واردهم ليدلو دلوه عسى أن يجد ماء في البئر ، وإن كان بعض إخوته يحتمل مجئ قافلة تمر على البئر ، كما في قوله تعالى [قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ] ( ).
وكان بنو إسرائيل يجتنبوا القتل وسفك الدماء ، ويعدونه أمراً ينذر بالعواقب لذا استجابوا لهذا الإقتراح ،والقوه في البئر ، وقيل أنهم باعوه على رجال القافلة الذين أخرجوه ، وأنه من معاني قول تعالى [وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ] ( ) وكانت عشرين درهماً .
ولم يرد لفظ (درهم) أو (دراهم) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وبصيغة الجمع وورد لفظ دينار في القرآن مرة واحدة [وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ]( ).
وهل حفظ الأمانة في الآية أعلاه من الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على أهل الكتاب ، الجواب نعم.
وعندما أخرج يوسف من البئر جاء إخوته الذين كانوا يرعون في المكان ، وقالوا للذي أخرجه : هذا عبد لنا آبق .
ثم توجهوا إلى يوسف ورطنوا له بلسانه : لئن أنكرت وكذّبت قولنا بانك عبد لنا لنقتلنك .
(أترانا نرجع بك إلى يعقوب عليه السلام ، وقد أخبرناه إن الذئب قد أكلك، قال : يا إخوتاه ، ارجعوا بي إلى أبي يعقوب . فأنا أضمن لكم رضاه ولا أذكر لكم هذا أبداً . فأبوا ، فقال الغلام : أنا عبد لهم) ( ).
رابعاً : زهد وعدم عناية وتمسك السيارة بيوسف النبي لقوله تعالى [وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ] ( ) فلو تمسكوا به لما وصل إلى بيت عزيز مصر ، الذي حينما اشتراه أوصى أمرأته باللطف والعناية به ، وعدم تسخيره لأعمال بيتية قاسية ، أو مهينة ، وكان يرغب في تبنيه لجماله ، كما في قوله تعالى [أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا] ( ).
وتكرر ذات الأمر في فرعون موسى عليه السلام ، كما في قوله تعالى [وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ] ( ) لبيان التباين والتضاد بين امرأة العزيز وإيمان وتقوى امرأة فرعون .
وهل كان صبر وعفة وعصمة يوسف عليه السلام ، وإمتناعه عن الفاحشة سبباً لهداية وعناية امرأة فرعون بموسى عليه السلام بعنوان النبوة ، الجواب نعم ، مع لحاظ أن موسى عليه السلام كان في المهد وليس غلاماً بالغاً .
ولم يتخذ عزيز مصر يوسف ولداً ، فصحيح أن التبني جائز عندهم ، ولكنه ممتنع عن النبي في أن يكون هو المتبني .
وقد أتخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة مولى له ، عندما أختار أن يبقى معه ولا يرجع مع أبيه وعمه إلى ديارهم عندما علموا بمكانه ، وقد تقدم في الجزء السابق أنه كان طفلاً صغيراً أخذته أمه إلى أهلها من طي في زيارة ، فغارت عليهم خيل بني لقين فأخذوه وباعوه في سوق النخاسة في مكة المكرمة ، واشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد ، وعن ابن عباس قال : قال: خرجت سعدي بنت ثعلبة أم زيد بن حارثة وهي امرأة من بني طيء تزور قومها وزيد معها فأغارت خيل لبني القين بن جسر في الجاهلية فمروا على أبيات معن – رهط أم زيد فاحتملوا زيداً وهو يومئذ غلام يفعة فوافوا به سوق عكاظ فعرضوه للبيع فاشتراه منهم حكيم بن حزام بن خويلد لعمته خديجة بنت خويلد بأربعمائة درهم فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له فقبضه( ).
لقد نزل قوله تعالى [ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ) لإبطال التبني بين المسلمين إلى يوم القيامة.
و(عن ابن عمر : أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد .
حتى نزل القرآن { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله }( ) فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنت زيد بن حارثة بن شراحيل) ( ).
خامساً : لقد أفتتنت امرأة العزيز بيوسف عليه السلام وشدة حسنه وجماله ، وبدأت تطري وتثني عليه ، وتتشبب به ، وهو يصدها ويذكرها بالموت ، وما يفعله بالإنسان .
فمثلاً قالت له (يا يوسف ، ما أحسن وجهك .
قال : هو للتراب يأكله) ( ).
وفي هذه الآيات موعظة للمسلمين والناس جميعاً بلزوم عدم ترك الأجنبي مع العيال وانفراده ببعض نساء الأسرة ، ليكون من معجزات الأنبياء دروس مستقرأة تهذب المجتمع ، وتنمي الغيرة ، وتبعث على الإحتراز داخل البيت وخارجه ، وتمنع من إرتكاب المعاصي .
لقد كان من معجزات يوسف عليه السلام الإمتناع عن إجابة امرأة العزيز في شهوتها ولذتها غير الشرعية ، والمخالفة للعرف العام في الأجيال المتعاقبة .
إذ يدل قوله تعالى [وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ) على استهجان الناس في كل زمان للخيانة الزوجية ، وهو من الفطرة التي جعلها الله عز وجل عند الناس ، والميثاق الذي أخذه عليهم في عالم الذر ، بلحاظ أن حفظ وثاق الزوجية من فروع عبادة الله عز وجل في قوله تعالى [قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ] ( ).
سادساً : لجوء يوسف عليه السلام للدعاء وسؤال الله عز وجل النجاة من الفاحشة والإنزلاق في المعاصي ، كما في التنزيل [قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ..] ( ) فهم لم يدعوه إلى الشرك إنما دعوه لأدنى منه إلى الفاحشة ، فأختار السجن .
ترى لماذا لم يختر القتل والموت ، الجواب لقد أراد الإعراض والإبتعاد عن امرأة العزيز ، ولأنها كانت تهدده بالسجن إن لم يستجب لها ، وكانت رؤياه في صباه حاضرة بارتقائه وبلوغه شأناً رفيعاً ، فتحلى بالصبر ، واجتنب الفاحشة ،لبيان أنها كالحجاب والبرزخ دون بلوغ المراتب العالية.
وهل هذا الصبر والإجتناب من الميثاق ، الجواب نعم ، لبيان قانون وهو تجلي مصاديق وشواهد للميثاق في سنة وسيرة الأنبياء الصالحين من أهل الكتاب .
ترى لماذا لم يطلب يوسف النجاة من امرأة العزيز ، ومن السجن أيضاً والله واسع كريم .
لذا قيل أنه ابتلي بالسجن لسؤاله هذا وأن الأولى أن يسأل الله العاقبة( ).
والمختار أن طلب السجن حينئذ بلحاظ الأسباب والقرائن الحالية المحيطة بيوسف عليه السلام ، كما أن يوسف عليه السلام لم يسأل السجن على نحو الحصر والتعيين ، إنما جعل مقارنة بين أمرين ، فلو دار الأمر بين ما يدعون يوسف إليه وبين السجن ، فالسجن أولى .
وقد صار طريقاً لتأويل رؤيا الملك ، وتولي يوسف عليه السلام الوزارة فلو كان تابعاً في بيت العزيز لم يطلع على رؤيا السجينين التي كان تأويلها مقدمة لتأويله لرؤيا الملك ، التي أعجزت الملأ ثم دخوله عليه.
والظاهر أن الذي يدعون يوسف إليه هو دعوة امرأة العزيز للفاحشة ، وصدور دعوات أخرى من قوم مشركين .
وهل سجن يوسف عليه السلام معجزة له ، الجواب لم يثبت هذا فانه ابتلاء ، ليكون مواساة للمسلمين لما ورد في الآية السابقة [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ] ( ) فمع أن يوسف عليه السلام نبي ، وكان آل يعقوب في سعة من العيش وكثرة أموال وأنعام فان يوسف بيع كعبد ورق .
وهل الجدب الذي لحق أرض الشام ومصر يومئذ بسبب استرقاق يوسف ودخوله السجن ، لغضب الله عز وجل على ما لاحق النبي ، الجواب لا دليل عليه ، إنما كان الشرك سائداً في أغلب المجتمعات ، نعم حتى في بيت النبوة هناك كيد ومكر .
والظاهر أن امرأة العزيز حصرت أمر يوسف بين إرتكاب الفاحشة وأمور قبيحة ومنكرة وبين السجن ، فأختار السجن، وقيل كانت ترسله إلى صويحباتها لإغوائه ، لذا فمن معجزات يوسف عليه السلام أمور :
منها العصمة من فعل الفاحشة ، لبيان درس وموعظة للمسلمين ، وهي أن العصمة على أقسام ، ومنها التنزه عن الفواحش ، ومنها الزنا ومقدماته .
ما تجلي معجزات متعددة تدل على نبوة يوسف أقر واعترف بها المشركون ، لقوله تعالى [ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ] ( ) إذ ورد لفظ الآيات بصيغة الجمع والإعتصام من الفاحشة واحد منها .
وأن الأمر بسجن يوسف عليه السلام لم يكن صادرا من امرأة العزيز ، وليس لها أن تتخذ هذا القرار والحكم إنما هي اقترحته .
ولو كانت ذات حال يوسف عليه السلام في قريش من إمتناع عبد عندهم عن إطاعة أوامرهم لقتلوه ، ولم يطلب أحد بدمه ، لذا فمن بديع صنع الله أن بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من أوسط وأرفع أنسابهم ، عندما أرادوا قتله توجهت بنو هاشم ، مؤمنهم وكافرهم نحو شعب أبو طالب ، وأحاطوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وشجعّهم أبو طالب ، إذ كان الرائد في نصرته والذب عنه .
ومع هذا اراد المشركون سجن أو قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأنجاه الله عز وجل من القتل والسجن .
وهاجر إلى المدينة ، وبعد مرور ثمان سنوات على هجرته دخل مكة فاتحاً ، وقام بتكسير الأصنام من غير إيذاء أو أضرار بالذين أرادوا سجنه أو قتله .
وإذا كان الملأ من أهل مصر رأوا الآيات من يوسف قبل دخوله السجن ، فهل كانت هناك آيات ومعجزات ليوسف عليه السلام وهو في السجن ، الجواب نعم ، لقانون وهو مصاحبة المعجزة للنبي .
لقد ورد في التنزيل قول صاحب الرؤيا ليوسف عليه السلام [نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ) والإحسان هنا أعم من التأويل ، إنه من مكارم الأخلاق وسنن النبوة التي تتجلى حتى في السجن ، وهل منها دعوة يوسف عليه السلام وهو في السجن الناس إلى التوحيد ، الجواب نعم .
والسجن مناسبة للتفكر في حقائق الأشياء ، للفراغ عند الإنسان ، وشعوره بالإستضعاف أو الظلم والإمتهان ، وتوجهه إلى الله عز وجل لينجيه من محنته .
ومن معجزات يوسف عليه السلام إتخاذه الرؤيا طريقاً لهداية الناس ، ثم أخبر صاحب الرؤيا بأن أحدهما سيكون ساقي الملك الخاص ، ويقربه الملك ، ويمنحه ثقته في هذا الباب ، أما الآخر فانه سيصلب ويقتل .
ثم سأل يوسف عليه السلام الذي سينجو منهما أن يذكره عند الملك ، ويبين له أن سجنه ظلم وافتراء ، ولكن هذا الفتى نسى ما طلبه يوسف عليه السلام منه إلى أن حدثت واقعة ذات أهمية في البلاط إذ رأى الملك رؤيا هالته وافزعته ، وتدل بذاتها ووقائعها على أنها رؤيا صادقة .
ويحتل تأويل الرؤيا منزلة عند مجتمع مصر أيام الفراعنة ، خاصة رؤيا الملوك إذ تمتزج بالسلطان سواء كانت رؤيا بشارة أو إنذار .
وتجمع رؤيا الملك بينهما ، ويظنون أن الإله يتدخل لتعزيز سلطة الملك وإستدامتها ، وذكر أنه توجد لوحة أثرية بين يدي تمثال الهول بمنطقة الإهرامات بمصر تسمى (الحلم) وضعها الملك تحتمس الرابع لأنه رآى أبا الهول في المنام يبشره بصيرورته ملكاً على مصر سنة 1401 ق.م وسأله أن يزيل الرمال التي تراكمت على تمثاله .
لقد كانت رؤيا الملك أمراً عجيباً جعل ساقي الملك يلتفت ويستحضر تأويل يوسف لرؤياه وصاحبه ووصيته له بأخبار الملك عن حاله وعلمه .
وكان ماء النيل احياناً ينخفض وتحصل مجاعة، كما عثر على لوح كبير من الصخر عليه نقش فرعوني يحكي قصة مجاعة في عهد الملك زوسر سنة (2650 ق.م ) واستمرت سبع سنوات وطلب الملك من رئيس الكهنة تقصي الأمر ، وإيجاد حلول مناسبة .
وكان الملك متحيراً بخصوص رؤياه كيف استطاعت البقرات المهزولة أن تبتلع البقرات السمان ، وتجعلها في بطنها .
لقد أراد الملك من الملأ والحكماء استقراء مسائل الإنذار المتكررة في هذه الرؤيا ، إذ أنها لم تختص بالسنابل بل شملت البقرات وإرادة الحرث والنسل ، وعندما عجزوا تذكر ساقي الملك يوسف عليه السلام ، وقدرته على التأويل ، وثبوت صدق تأويله للأحلام ، وحكى للملك كيف أن يوسف عليه السلام أول رؤياه رؤيا صاحبه ، وأثبتت الحوادث صدق تأويله ، وهل أخبره عن دخوله السجن ظلماً لأنه أبى إتيان الفاحشة مع سعي امرأة العزيز لإكراهه عليها .
الجواب لا دليل عليه، ولا يتطرق الساقي إلى مثل هذه الأمور خشية الكيد به ، ولكنه بكى فقال الملك : ما يبكيك .
قال : لا يعلمها إلا الغلام العبراني الذي في السجن ، وقيل أن الملك تغير وجهه .
وقال الملك : إني نسيته ، وما ذكرته منذ سبع سنين ، وهل يدل هذا الخبر على فرض صحته أنه لا يدخل أحد السجن إلا بأمر واذن من الملك ، الجواب نعم.
وتأتي معجزات الأنبياء بما هو من مشهور ومعروف عند أهل الزمان من العلوم والفنون ، وكان تأويل الرؤيا في أيام الفراعنة علماً له قواعد ،وهناك مكاتب خاصة للتأويل .
ويعتني علماء التأويل برؤيا الملوك عناية خاصة ، لأنها جزء من سياسة الحكم ، وهي سبب للكسب والحضوة ومع هذا عجزوا عن تأويل رؤيا الملك ، حينما رآى سبع بقرات سمان خرجن من نهر جاف ليس فيه ماء ، وخرجت باثرها سبع بقرات عجاف مهازيل فابتلعن البقرات السمان ، ورآى سبع سنبلات خضر انعقد حبُها ، وإذا سبع سنبلات يابسات التوت على الخضر .
والسنبلات اليابسات رمز الإدخار لسني الجدب ، وكل سنبلة من الخضر أو اليابسات رمز لسنة واحدة ، وأدرك الملك تعلق الرؤيا بكرسي الملك وحياة عامة الناس .
فاستعبر الكهنة والسحرة فلم يجد عندهم تأويلاً للرؤيا بل ذهب جماعة منهم إلى القول أنها تخاليط أحلام مع إقرارهم بموضوعية الرؤيا ، قال تعالى [قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ] ( ).
وتبين قصة رؤيا الملك قانوناً وهو أن الله عز وجل يتفضل على الأنبياء بمقدمات بيان المعجزة ، فما رآه الملك في منامه باذن من عند الله عز وجل ،وهو شاهد على أن الرؤيا الصادقة حبل ممدود بين الله عز وجل وأرواح العباد ، وأنها لا تختص بالمؤمنين والمؤمنات .
فجاءت رؤيا الملك بكيفية يعجز عن تأويلها الكهنة والعلماء والسحرة ، مثلما أن مصداقها في الواقع يعجز عن تصوره ، وتدبر الحال فيه الملوك والعلماء .
ولم يطلب الساقي من الملك الإفراج عن يوسف أو استدعاءه ، إنما اراد أن يكون تأويله للرؤيا هو السبيل إلى خروجه من السجن ، فطلب إرساله إلى السجن ، ويظهر أنه لا يدخل أحد السجن إلا باذن من السلطة ، وأن السجن ليس قريباً، لذا لم يقل فارسلني في خطاب للملك ، إنما قال الساقي [أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ]( ).
وعن ابن عباس (لم يكن السجن في المدينة) ( ).
مما يعني أنه محاط بحراسة شديدة ، وأن السجناء يعجزون عن الهروب في الصحراء ، إذ يصيرون طعمة للسباع ، كما يمكن لرجال الملك القبض عليهم .
وحينما دخل الساقي على يوسف عليه السلام خاطبه بصفة الصدّيق .
وقال الساقي ليوسف [يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ] ( ).
ولم يذكر خصوص الملك مما يدل على صيرورة هذه الرؤيا إبتلاء عاماً .
وهل هو من الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الناس .
المختار أن تأويلها من الميثاق ، فلذا جاء به نبي من عند الله عز وجل .
ولم يقل الساقي : لإرجع إلى الناس ) إنما قال [لَعَلِّي أَرْجِعُ] بصيغة الرجاء والأمل ، فهل لأنه رآى السجن وذكر أيامه فيه وخشي أن لا يؤذن له بالخروج منه .
المختار لا ، إنما أراد أمكان الوصول إلى الملك مرة أخرى ، وإخباره والملأ بتأويل الرؤيا ، فقد لا يؤذن له بالدخول على الملك مرة أخرى ، وقد يستغني عنه وعن عمله .
وذكر الساقي رؤيا الملك وتأويلها بصيغة الإفتاء [أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ..] ( ) لأنها مسألة عامة تستلزم الفتوى .
أما في رؤيا الساقي وصاحبه ، فلم يذكرا لفظ الإفتاء ، إنما ورد بخصوص رؤيا الساقي وصاحبه في التنزيل [وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ] ( ).
ولم يقل الساقي (افتني ) إنما قال بصيغة الجمع [أَفْتِنَا] أي الملك والملأ ،وحاجة الناس إلى الإفتاء والتأويل النبوي ، ولم يعهد أن يكون تأويل الرؤيا افتاء وحكماً ، ولكنها المعجزة في جذب الناس لقول النبي ، وأن كلامه فتوى ، وفيه إخبار من الساقي بأن الملك والملأ مستعدون للعمل بأحكام التأويل الذي تذهب إليه.
من مصاديق [لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ]( )
لقد كان يوسف في صباه قد أخبر أباه يعقوب عن رؤياه ، وأن الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً يسجدون له .
أما الآن فيوسف عليه السلام ، هو الذي يأول رؤيا الملك التي شغلت الناس ، فهل استحضر يوسف عليه السلام رؤياه في صباه وقام بتأويلها ، الجواب نعم ، وهو من أسرار عدم قيام يعقوب النبي عليه السلام بالتأويل التفصيلي لهذه الرؤيا .
وقال الساقي [لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ] ( ) فتكرر حرف الرجاء [لَعَلّ] مرتين في الآية الكريمة ، ليكون من مصاديق رجحان تعليم وإطلاع الناس في المقام على أمور :
الأول : معجز يوسف عليه السلام في تأويل الرؤيا .
الثاني : الظلم الذي لحق يوسف بسجنه دون حق .
الثالث : لزوم مراجعة حال السجناء واحداً واحداً ، فمنهم من دخل السجن ظلماً ، ومنهم من مضى عليه في السجن مدة أطول مما تستحق جنايته .
الرابع : يعلمون بقصورهم وعجزهم عن تأويل الرؤيا .
الخامس : يعلمون بالتوحيد ولزوم عبادة الله لأنه أول كلام ليوسف مع الساقي وصاحبه هو في التوحيد ، وتجاهره لإتباع ملة آبائه الأنبياء في عبادة الله وحده ، وعدم الشرك به .
السادس : يعلمون معجزة يوسف عليه السلام بعلمه بما يأتيهم من طعام ورزق في اليقظة إلا أخبرهما به قبل أن يصل إليهما ، وعن جماعة المراد طعام في المنام .
(عن مجاهد ، أن يوسف عليه الصلاة والسلام قال لهما حين قالا له ذلك : أنشدكما بالله أن لا تحباني ، فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل علي من حبه بلاء .
قد أحبتني عمتي فدخل علي من حبها بلاء ، ثم أحبني أبي فدخل علي بحبه بلاء ، ثم أحبتني زوجة صاحبي فدخل علي بمحبتها إياي بلاء .
فلا تحباني بارك الله فيكما ، فأبيا إلا حبه وألفه حيث كان ، وجعل يعجبهما ما يريان من فهمه وعقله .
وقد كانا رأيا حين ادخلا السجن رؤيا ، فرأى مجلب أنه رأى فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه ، ورأى نبوا أنه يعصر خمراً ، فاستفتياه فيها وقالا له {نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين }( ) إن فعلت فقال لهما { لا يأتيكما طعام ترزقانه}( ) يقول في نومكما {إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما} ثم دعاهما إلى الله وإلى الإسلام) ( ).
ولكنه خلاف الظاهر وسياق ودلالة الكلام ، إذ جمعت بين أمور :
أولاً : مجئ الطعام ، ولو دار الأمر بين مجئ الطعام في اليقظة والمنام ، فالصحيح هو الأول.
ثانياً : نوع الطعام ، وصلاحيته للأكل .
ثالثاً : وصف الطعام بأنه رزق .
ومن معاني تأويل الطعام أسبابه وأوصافه وأثره .
ليكون إخبار يوسف عليه السلام هذا مقدمة وبشارة ببعثة عيسى عليه السلام ، كما ودر في التنزيل [وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ..]( ).
السابع : يعلمون بملة آبائك التي ألف عليها في حال حاجتهم للإستماع إليك في تأويل الرؤيا , لبيان حقيقة وهي أن معجزة يوسف عليه السلام في تأويل الرؤيا مقدمة للدعوة إلى التوحيد في بلاط الملك ، ووصولها إلى أسماعه بحضور الملأ من قومه ،وليس من أحد أن يقول عنها أنها أضغاث ، لإدراكهم لقانون وهو تأويل رؤيا الملك معجزة لما فيها من السلامة والإنقاذ لكل من :
أولاً : شخص الملك ، لأن المجاعة سبب للفتنة العامة ، فأشار عليهم يوسف بالإستعداد لها وصرفها .
ثانياً : الحفاظ على مصالح ومنافع الملأ من الوزراء والوجهاء .
وهل في تأويل يوسف لرؤيا الملك وحسن ادارته للوزارة حجة على آل فرعون بلزوم استضعاف وإذلال بني إسرائيل ، وإرادة قتل موسى عليه السلام وقومه ومطاردته عندما عبروا البحر ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
لقد جمع يوسف عليه السلام في تأويل الرؤيا بين الحضّ على العناية بين إسرائيل والبشارة بنبوة عيسى عليه السلام ، والإشتراك بينهما في معجزة الإخبار عن الرزق مع التباين في بعض التفاصيل بحسب الحال والزمان .
الثامن : يعلمون بلزوم الإفراج عن يوسف ، وكشف الحقائق .
التاسع : يعلمون بالحاجة إلى الإستماع من يوسف مباشرة تأويله للرؤيا.
العاشر : كأن الساقي يقول ليوسف عليه السلام ، لقد نسيت ذكرك عند الملك ، والآن جاءت الفرصة لبيان علمك عند الملك وحاشيته .
الحادي عشر :لعلهم يعلمون بأن الساقي سبب لتأويل رؤيا الملك فيكرمونه .
لقد أراد الساقي تحقيق سابقة وبناء شأن له في البلاط الملكي .
الثاني عشر : لعلهم يعلمون بأن تأويل رؤيا الملك فتوى .
الثالث عشر : لعل الملك يعلم بقصورهم حين نعتوا رؤياه بأنها أضغاث أحلام .
الرابع عشر : لعلهم يعلمون بمدرسة الرؤيا ، وكيف أنها رزق كريم من عند الله عز وجل .
ولم يرد لفظ [لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ]( )، إلا في الآية أعلاه من سورة يوسف مع ورود لفظ (لعلهم) في القرآن أربعاً وأربعين مرة.
الخامس عشر : لعلهم يعلمون بأحوال السجناء ، فبركات النبوة تتجلى برحمة عامة للناس حتى السجناء.
السادس عشر : لعلهم يعلمون بقبح عبادة الأوثان والصدور عن الكهنة والمنجمين.
السابع عشر : لعلهم يعلمون بوجوب اتباع الأنبياء .
الثامن عشر : لعلهم يعلمون أنك نبي ابن نبي ابن نبي ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)( ).
التاسع عشر : لعلهم يعلمون أن جدك إبراهيم النبي قد جاء إلى مصر ، ورأوا منه الآيات.
وهذا المجئ من أسباب ذكر يوسف له في خطابه مع السجناء ، للأصل بدلالة ذكر الاسم على معرفة المخاطَب به.
العشرون : لعلهم يعلمون بمكر امرأة العزيز والنسوة في المدينة.
الواحد والعشرون : لعلهم يعلمون بالخطأ والتعدي في الحكم عليك بالسجن.
الثاني والعشرون : لعلهم يعلمون موضوع رؤيا الملك ويتخذونه المناسب من الأفعال لإزدهار البلاد.
الثالث والعشرون : لعلهم يعلمون أن هذه الرؤيا حق ، وهي من عند الله ، وليس من إله الأحلام ، إذ كان عند الفراعنة إله خاص للأحلام .
وعند الإغريق مثله ، ويسمونه (مورفيوس) وقد اشتقوا منه اسم المخدر (مورفين) وهذا الإله أحد أبناء إله النوم (هيبنوس).
الرابع والعشرون : لعلهم يعلمون سبل النجاة من رؤيا الإنذار هذه.
الخامس والعشرون : لعلهم يعلمون باتصافك بتأويل الرؤيا تأويلاً صحيحاً.
السادس والعشرون : لعلهم يعلمون أن الرؤيا طريق هداية .
السابع والعشرون : لعلهم يعلمون لزوم التوبة والإنابة إلى الله .
الثامن والعشرون : لعلهم يعلمون الميثاق بواسطة النبي يوسف .
التاسع والعشرون : لعلهم يعلمون وجوب بيان الميثاق.
لقد كان تأويل الرؤيا معجزة ليوسف عليه السلام ، ويبين مسألة وهي من خصائص المعجزة الإنتفاع العام منها ، فهي ليست امراً خارقاً للعادة ومقروناً بالتحدي فقط بل إن لها منافع للناس في الدنيا وفي الآخرة ، مما يدل على أن تعدد معجزات الأبنياء رحمة من عند الله ، وهي من الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الناس إذ يلزم تصديقها.
وهل من صلة بين هذه المعجزة وبين الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الناس في عالم الذر ، الجواب نعم ، فهي من لطف الله لتأكيد ميثاق الذر ، وجذب الناس للعمل بمضامينه في التسليم بالتوحيد.
فالدنيا دار الميثاق ابتدأ الميثاق بهبوط آدم إلى الأرض ، وهو موضوع الحساب في الآخرة إذ تحضر المواثيق يوم القيامة ، وتشهد على الناس ، وتشفع للذين آمنوا.
وهل كانت معجزة يوسف ومعجزات الأنبياء سبباً لهداية طائفة وشطر من الناس ، الجواب نعم.
لقد رجع الساقي إلى الملك وحاشيته وأخبرهم بتأويل يوسف لرؤيا الملك، فأنبهر من دقة التأويل ، ولم يتوجه الملك بالعتاب واللوم إلى حاشيته في إخفاقهم عن تأويل رؤياه، وأحسوا بالشأن الخاص لكل من الملك في رؤياه، ويوسف عليه السلام في التأويل ، وبيان منهاج وتنظيم عمل الدولة في حال طرو آفة أو بلاء .
قد استقرأ يوسف عليه السلام من الرؤيا إنقضاء المحنة بعام جديد بعد سني الجدب السبعة ، كما ورد حكاية عنه في التنزيل [ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ] ( ) لبيان الفرج بعد الشدة ، وبعث الناس للصبر والأمل ، وعدم الإقتتال ، فان عام خير وخصب ينتظرهم ، وهذا الإستقراء من وجوه تثبيت سلطان الملك ، والتعايش السلمي واستقرار المجتمع .
وهل هو حرب على الأرهاب ، الجواب نعم ، وإن كان المجتمع كفاراً لبيان قانون وهو من خصائص أي نبي نشر لواء السلم بين الناس ، وهو من الشواهد على إحتجاج الله عز وجل على الملائكة ، حين قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ] ( ) بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
إذ أن أفراد ومصاديق علم الله عز وجل في الخصال الحميدة للبشر وسنن الأنبياء لا يعلمها إلا هو سبحانه .
ومنها تأويل يوسف النبي لرؤيا الملك مع أن المجتمع كفار وأنهم ألقوه في السجن بسبب عصمته من الزنا .
ومنها نفرة الناس في كل زمان من الزنا والذي يراود طلباً للزنا رجلاً أو امرأة ، والأكثر في هذه المراودة والتعدي هم الرجال ، فجاءت عصمة يوسف عليه السلام لتأديب المسلمين وحصانتهم ، وإجتنابهم مراودة النساء.
فتتحدث هذه الآيات عن تأويل رؤيا الملك إلا أن العصمة من الزنا ومنافعها العظيمة حاضرة ، ولا يعلم منافع سورة يوسف في تنزيه مجتمعات المسلمين من إرتكاب الفاحشة كماً وكيفاً إلا الله عز وجل .
كما أن مضامين سورة يوسف تعضيد لآية التحريم ، وإمتناع الإنسان عن التعدي على محارمه ، قال تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
وهل تدل قصة يوسف على أن الذي يسجن ظلماً وفي سبيل الله يرزق تأويل الرؤيا ، الجواب نعم ،ولو على نحو الموجبة الجزئية ، وفيه شواهد من بيننا .
لقد سأل الملك حاشيته والكهنة بتأويل الرؤيا فعجزوا عنه ، فلما جاءه الساقي بتأويل وفتاوى يوسف عليه السلام بادر الملك إلى طلبه من السجن ،[ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ] ( ) .
فهو لم يستشر الوزراء والحاشية في استدعاء يوسف من السجن ، لبيان قانون وهو أن العلم يرقى بصاحبه إلى مقامات عالية ، ويجعله يتصل بالسلطان والملك والحاكم من غير واسطة .
ولم يستجب يوسف لطلب الملك في الحال بل أمرهم بالرجوع إلى الملك ليسأل النسوة اللائي مكرن به بغير حق .
(وقال وهب بن منبه والسدّي وغيرهما : أتى جبرئيل يوسف وهو في السجن،
فقال : هل تعرفني أيّها الصدّيق؟
قال : أرى صورة طاهرة وريحاً طيّبة .
قال : فإنّي رسول ربّ العالمين .
وأنا الروح الأمين .
قال : فما الذي أدخلك حبس المذنبين وأنت أطيب الطيّبين .
ورأس المقرّبين .
وأمين ربّ العالمين .
قال : ألم تعلم يا يوسف أنّ الله يُطهّر البيوت لهؤلاء الطيّبين .
وأنّ الأرض التي تدخلونها هي أطهر الأرضين .
وأنّ الله قد طهّر بك السجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين .
قال : كيف لي بابن الصدّيقين وتعدّني من المخلصين .
وقد أدخلت مدخل المُذنبين .
وسمّيت باسم المفسدين .
قال : لأنّه لم يفتتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربّك فلذك سمّاك الله في الصدّيقين .
وعدّك مع المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين .
قال : هل لك علم بيعقوب أيّها الروح الأمين؟
قال : نعم وهب الله له البلاء الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم .
قال : فما قدر حزنه؟
قال : حزن سبعين ثكلى .
قال : فماذا له من الأجر يا جبرئيل؟
قال : أجر مائة شهيد .
قال : أفتراني لاقيه؟
قال : نعم .
فطابت نفس يوسف .
قال : ما أُبالي ما ألفيته أن رأيته) ( ).
وحينما خرج يوسف من السجن دعا لأهله وقال (اللهمّ اعطف عليهم بقلوب الأخيار وأنعم عليهم الأخبار)( ).
وعندما خرج يوسف من السجن كتب على بابه (هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء)( ).
وذكر مضمون هذه الكتابة ، وهل يمكن القول بتبدل الحال إذ كانت السجون قاسية ومظلمة ، وفيها جوع وعطش وتقييد للأيدي أو للأرجل ، بينما أكثر السجون الآن تراعي فيها ضوابط إنسانية ، الجواب لا ، فذات السجن مصيبة وحزن وأذى في كل زمان لما فيه من سلب للحرية وتقييد ، ومصاحبة أناس قهراً.
بعبارات أخرى مشابهة ، ثم اغتسل ، وتنظف من درن السجن.
(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عجبت لصبر أخي يوسف وكرمه – والله يغفر له – حيث أرسل إليه ليستفتى في الرؤيا ، وإن كنت أنا لم أفعل حتى أخرج ، وعجبت من صبره وكرمه – والله يغفر له – أتى ليخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره ، ولو كنت أنا لبادرت الباب ، ولكنه أحب أن يكون له العذر) ( ).
لقد كان سؤال يوسف عليه السلام هذا ، وإنتزاعه البراءة منهم مقدمة لطلبه الوزارة ، إذ أنه حصل على شهادة حفظ الأمانة وعدم الخيانة ، وهو أهم ما يستلزم في تولي المنصب الرفيع .
ولما أقرت المرأة بذنبها ، خاصة مع تقادم السنين عليه ، وإنشغال البلاط برؤيا الملك ، والحاجة إلى تأويلها الصحيح الذي إنحصر بيوسف عليه السلام ، أرسل الملك إلى يوسف عليه السلام الذي ألتجأ إلى الله قبل الدخول على الملك ، وهو من خصائص النبوة بأن لا ينسى النبي ذكر الله في حال السراء والضراء .
وقال عندما دخل على الملك (اللهم إني أسألك بخيرك من خيره ، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره) ( ).
قال وهب (فلمّا وقف بباب الملك قال (عليه السلام) : حسبي ربي من دُنياي .
وحسبي ربّي من خلقه .
عزّ جاره .
وجلّ ثناؤه ولا إله غيره.
ثمّ دخل الدار .
فلمّا دخل على الملك قال : اللهمّ إنّي أسألك عزّك من خيره .
وأعوذ بك من شرّه وشرّ غيره .
فلمّا نظر إليه الملك سلّم عليه يوسف بالعربية .
فقال له : الملك .
ما هذا اللسان؟
قال : لسان عمّي اسماعيل .
ثمّ دعا له بالعبرانية .
فقال له الملك : ما هذا اللسان؟
قال : لسان آبائي ) ( ) .
قال وهب (وكان الملك يتكلّم بسبعين لساناً .
فكلّما كلّم يوسف بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان.
فأجابه الملك .
فأعجب الملك ما رأى منه) ( ).
ومن المستبعد تكلم الملك بسبعين لغة أو لهجة ، ولكن العرب تتخذ العدد سبعين للمبالغة .
وكان عمر يوسف آنذاك ثلاثين سنة ، فاختبره الملك مرة أخرى أمام الوزراء والكهنة وقال له (إني أحب أن أسمع رؤياي منك)( ).
لقد كان تحد جديد ليوسف عليه السلام ، والمختار أنه لا يعلم تفاصيل رؤيا الإنسان إلا الله عز وجل ، وتجري في هذا الزمان دراسات مختبرية بأجهزة تقنية متطورة توضع على رأس الإنسان لتسجيل رؤياه ، ولم تتوصل إلى شئ ملموس في المقام .
لذا فان يوسف عليه السلام قام باخبار الملك عن تفاصيل رؤياه بوحي من عند الله عز وجل ، وهذا الوحي رحمة لأهل ذلك الزمان ، ونجاتهم من القحط تماماً ، إذ أن الخطر الذي كان يهدد الناس هو الجوع وليس العطش ، وفيه دعوة للناس إلى الهدى والإيمان، وهل دخول يوسف على الملك يومئذ من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ] ( ).
لقد حبس الملك الذي كان يسقيه والذي يخبز له لأكتشاف محاولة لإغتياله ودسّ السم إليه من قبل جماعة بواسطة الساقي والخباز بعد إغرائهم بالمال الوفير .
وأستدرك وقدم الساقي في آخر وقت فنكل ولم يصنع السمع في شراب الملك .
بينما قبل الخباز الرشوة ودسّ السم في الطعام ، فعندما حان وقت الغذاء ، وجلس الملك على المائدة ، قال له الساقي : أيها الملك لا تأكل فان الخبز مسموم أي أنه كشف خيانة الخباز .
فبادر الخباز إلى القول لا تشرب أيها الملك فان الشراب مسموم ، ظناً منه أن الساقي وضع السم أيضاً في الشراب ، ولم يعلم أنه استدرك وامتنع عن وضع السم الذي أعطوه في الشراب .
فقال الملك للساقي : أشرب مما سقيتني للتأكد الفعلي هل هو مسموم أو لا ، فشرب منه الساقي فلم يضره .
والتفت الملك إلى الخباز وقال له : كل من طعامك فأبى أن يأكل ، فجرب الملك وجنوده الذين حضروا الطعام على دابة من الدواب فأكلته فهلكت .
ويبدو أن هذا السم سريع الأثر فأمر الملك بحبسهما حتى كشف خيوط وأطراف المؤامرة .
(وهما غلامان كانا للملك الأكبر الوليد بن الريان .
أحدهما خبّازه صاحب طعامه واسمه مجلِث .
والآخر ساقيه صاحب شرابه واسمه بنو غضب عليهما الملك فحبسهما.
وذلك أنّه بلغه أنّ خبازه يريد أن يسمّه وأنّ ساقيه مالا على ذلك .
وكان السبب أن جماعة من أهل مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله فدسّوا إلى هذين .
وضمنوا لهما مالا ليسُمّا طعام الملك وشرابه فأجاباهم إلى ذلك) ( ).
ليكون في قصة يوسف تحذير لملوك وعلماء المسلمين من القتل غيلة بواسطة الغلمان .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يأكل ما يقدم له من الطعام ، سواء عندما كان في مكة أو بعد أن هاجروا إلى المدينة ، وكان يقبل الدعوة من بيوت الأنصار ، وإذا جاءه الطعام إلى البيت أكل منه ، وحينما وضع السم له في ذراع شاة من امرأة ، وضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقمة منها في فمه ثم قال :
(عن أنس أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسألها عن ذلك .
فقالت: أردت لأقتلك .
قال: “ما كان الله ليسلطكِ على ذلك، أو قال: عليَّ ” ، قال: قالوا ألا نقتلها؟
قال: لا قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ) .
وورد لفظ (قال الملك ) ثلاث مرات في القرآن ، وكل منهما بخصوص ذات ملك مصر أيام يوسف عليه السلام ، وفي الآيات (43-50-54) من سورة يوسف .
لقد كان النبي حديث عهد بخيانة الخباز واكتشاف مؤامرة لدس السم إليه ، ومع هذا إختار يوسف ليكون مقرباً من قبل أن يراه إذ قال [وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي] ( ).
فمن إعجاز النبوة سبق صفة الأمانة للنبي بين الناس قبل رؤيته والمعاملة معه ، لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسمى قبل البعثة (الصادق الأمين ) لبيان الفضائل ومكارم الأخلاق التي يتصف بها في شبابه ، ولتكون هذه الفضائل مقدمة لدعوته الناس للإسلام ، وإخباره عن بعثته من عند الله رسولاً ، وهل هذه الفضائل من الميثاق ، الجواب نعم .
لقد أرتقى يوسف عليه السلام إلى مرتبة عالية بأن أصبح خاصه للملك ، ومستشار له ، وأرسل الملك إلى يوسف خلفه ، وكان بين البلد والسجن أربع فراسخ ، وقيل أن يوسف عليه السلام طلب عفواً عاماً عن السجناء ، وأن الملك استجاب له ، وأخبره بأنه آمن في بلاط الملك .
كما ورد في التنزيل [فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ] ( ) لقد شاهد الملك الرشد والعلم والصدق ، وقد تقدم من يوسف الأمانة والعصمة ، لتكون من الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الناس ، تجلى بعفه يوسف وطهارته .
حينئذ طلب يوسف عليه السلام ، الوزارة بأن يجعله الملك على خزن الطعام وتوالي شراء الفائض عن حاجة الناس في سبع سنين متتالية وإدخاره ، وهل يعني هذا أن يوسف عليه السلام تولى وزارة الزراعة ، الجواب إنما تولى ما هو أعم من أمور :
الأول : إحياء الأرض للزراعة ، وأن لا يبقى أمر صلاح الأرض للزراعة بيد الفلاحين وملاك الأرض وحدهم ، فيتركون نصفها بوراً في كل سنة ، إنما يجب الإنتفاع الأمثل من الأرض والزراعة في سنوات الخصب السبعة في سباق مع الزمن مقرون بالأمانة والإخلاص .
ويدل قوله تعالى [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ] ( ) على أنشاء وزارة الزراعة والنفط ، وفيها بشارة استخراج النفط والذهب والمعادن من أرض مصر ، كما تجلى في هذا الزمان .
فلم تقل الآية باستخراج خزائن الأرض ،إنما يكون يوسف عليه السلام كالأمين عليها ، فيغادر هود الملك الدنيا ، والخزائن موجودة ، وهي للمسلمين في تعاقب السنين ، لذا ورد قوله تعالى [ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل تجلي معجزة النبوة في إصلاح الأرض ، وإدخار الطعام الوفير ، وهل كان يوسف يدخر الخمس عشرة سنة الجواب لا ، انما كان يدخر الطعام بما وفق نظام دقيق مثبت بالتواريخ بحيث يفتح الصوامع الأقدم ثم الأقدم في الخندق ، وسيادة العدل في المجتمع ، وفيه ترغيب للناس بالتوحيد .
الثاني : توالي شطر من أقتصاد البلد ، وإلى اليوم يعتمد شعب مصر على الزراعة .
الثالث : وزارة التجارة ، والإشراف على الأسواق ، وأستيراد المواد الغذائية ، وهل كان يوسف عليه السلام يصدر الطعام والحبوب إلى الأمصار الأخرى أيام سني الخصب ، أم كان يدخر كل ما زاد على المؤونة ، المختار هو الثاني إلا مع حاجة الناس في تلك الأمصار إلى الحبوب للرحمة العامة التي تتغش الناس بالنبوة .
الرابع : لقد طرأ أمر نادر في التأريخ ، وهو أدخار الحنطة والشعير والذرة والعدس والسمسم والخروع ونحوها بعيداً عن السوس والتلف والطير والفئران في صوامع طينية وحجرية .
وتدوين وإحصاء ما يدّخر وقد أوصى يوسف عليه السلام ببقاء القمح والشعير والذرة في سنابله كطريقة مستحدثة في الخزن ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( )، ليكون أهل مصر من الذين اتبعوا المهاجرين والأنصار .
وهل سأل يوسف عليه السلام التوكيل على الأرض كما في قوله تعالى [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ]( )، المختار لا ، إنما طلب وزارة الأرض بما يشمل الزراعة والتسويق وعندما قام يوسف بتخزين الحبوب لسني الجدب أدرك الملك وحاشيته أنه خير من يتولى توزيعها بما يسد الرمق ، ويكفي لسنوات سبع عجاف .
ومن لم يكن عنده مال لشراء الحبوب فهل يعطيه يوسف عليه السلام أن يمنعه الجواب هو الأول وهو من معاني الإطلاق في [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ] نعم هذا الإعطاء قد يكون من باب القرض أو الهبة أو الزكاة والخمس بحسب حال الفرد والأسرة والجماعة .
لقد كان تفويض إدخار وبيع الحبوب لنبي طرداً للمجاعة والموت جوعاً، وهو من آيات الله في العالمين ، وفيه ميثاق عليهم بأن يؤمنوا بالله عز وجل ، ليس بمعنى الإيمان مقابل الغذاء ، فقد أخذ الله عز وجل الميثاق على الناس بالإيمان وهم في عالم الذر.
الخامس : الإشراف في سني الجدب ، فمع تغير الموضوع ليتبدل الحكم ولكن صفة الأمانة مصاحبة ليوسف عليه السلام .
السادس : حفظ يوسف الأرض وخصوبتها وخزائنها للأجيال اللاحقة.
لقد منع يوسف الإرهاب مثلما دفع المجاعة عن الناس ، وفيه دعوة فعلية للإيمان ، فقد أدرك الناس كلهم أن الوزير العبراني لا يشرك بالله شيئاً.
ولم ينفر الملك أو غيره من الأمر لانحصار إنقاذ العرش وعامة الناس به، ومن النادر أن يأتي إنسان غريب فيتعاهد حفظ النظام العام ليكون هذا الأمر معجزة ليوسف عليه السلام .
وهل كانت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شبيهة بما قام به يوسف عليه السلام ، الجواب نعم ، مع مائز في هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ سرعان ما صار هو الإمام والحاكم في المدينة ، ودفع الله به عن أهلها الإقتتال الداخلي والحروب والفتن ، وبدل كان أهلها يتقاتلون باسم الأوس والخزرج صاروا أخوة يجمعهم اسم الأنصار في التنزيل .
وقيل أن الملك استشار يوسف عليه السلام عن كيفية العمل في سني الخصب فقال له يوسف عليه السلام [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ]( ).
والمراد من الأرض في الآية أعلاه أرض مصر والسودان ، ولكن القحط عم مصر وبلاد الشام ونواحيهما وتدل الآية على جواز طلب التولية والنصب مع الكفارة .
ومن الآيات أن يوسف عليه السلام كان يبيع الحبوب على الناس في سني المجاعة بالتقنين ، فلا يبيع أحداً من المحترين أكثر من حمل بعير ولمنع الغلاء والإستغلال مما يدل على تنظيم سجلات ودواوين لضبط أسماء الرجال ، وعدد أفراد كل عائلة ، فأحبه أهل مصر رجالاً ونساءً ن وقيل اشترى حلي الناس ، ودوابهم ، وعقاراتهم ثم أودلاهم ورقابهم ، ثم عرض الرأي على الملك ، فقال له : الرأي رأيت فاعتقهم ورد إليهم أموالهم( ).
ولا أصل لهذا القول ، وهو بعيد عن نهج الأنبياء باسترقاق الناس بسبب الطعام ، وقد جاء إخوة يوسف عليه السلام فملأ لهم ركابهم ولم يسأله جوده وعماله لماذا لم يستقم وبعد آية خزائن الأرض وردت الآية [وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
ولم ينحصر موضوع الرحمة في الآية أعلاه والنجاة من سني الجدب بيوسف عليه السلام ، إنما شملت كلاً من :
الأول : الملك وسلطانه .
الثاني : حاشية الملك ، وما لهم من امتيازات .
الثالث : عموم أهل مصر .
الرابع : أهل الشام .
الخامس : الذراري والأبناء ، الأحياء والذين لم يولدوا بعد ، إذ أن الهلاك العام يقطع النسل .
ترى لماذا انقذ الله عز وجل أهل مصر من المجاعة بيوسف النبي من غير أن يشترط عليهم اتباعه في ملة التوحيد مع أنهم سجنوه سبع سنين ، بينما أهلك الله قوم نوح وصالح ولوط .
الجواب : لقد أهلكهم الله لإصرارهم على الكفر، وبناءهم وامتناعهم عن الإستجابة للنبي مع سعة الحال التي هم عليها ، بينما كانت سني الخصب ثم الجدب مناسبة لتدبر الناس بآيات الله ، وينصتوا ليوسف.
ثم تمر السنين والأحقاب ليأتي فرعون ملكاً على مصر ويدّعي الربوبية ويستضعف بني اسرائيل ، ويسعى في قتل موسى عليه السلام ، فيهلك الله عز وجل فرعون وجنوده في البحر الأحمر و(عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا رأيت الله يعطي العبد ما شاء وهو مقيم على معاصيه ، فإنما ذلك استدراج منه له ثم تلا فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ( ).
وقوله تعالى [فَلَمَّا آسَفُونَا] أي أغصبنا ليكونوا سلفاً لكفار قريش وعبرة للآخرين .
وهل نبوة يوسف وعدله ، وإنقاذه لشعب مصر من المواثيق التي أخذها الله عز وجل عليهم لئن بعث الله عز وجل موسى ليصدقن به ، ولئن بعث الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليصدقن ويؤمنن به ، المختار نعم .
لبيان قانون وهو أن المواثيق التي أخذها الله عز وجل على الناس للتصديق برسالة النبي محمد متعددة من جهات :
الأولى : بشارات الأنبياء .
الثانية : ذكر الكتب السماوية السابقة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : النعم الدنيوية التي يتفضل بها الله عز وجل على الناس .
الرابعة : أيام الضراء والشدة ، وانتظار الفرج معها .
وقد أهل الشام الجدب وقلة الأمطار وسمع أولاد يعقوب بأن عزيز مصر يمير الناس الطعام ، وأنه يزود أهل الشام به مثلما يعطي لأهل مصر ، ويبيع على التجار ، فاستأذنوا من أبيهم يعقوب النبي فاذن لهم ، إذ أن البلاء يعم الناس ولا يستثنى منه النبي مع عظيم منزلته عند الله عز وجل ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً]( )، الجواب لا ، فالأمر ليس فتنة ، إنما هو بلاء نزل بأهل الأرض لحكمة من الله ، وجذب للناس إلى منازل الهدى ، ومنع الفتنة ، فمن بديع صنع الله أن البلاء الخاص أو العام قد يكون برزخاً دون الفتنة .
و(عن ابن عباس قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟
قلت : بلى .
قال : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وأن ما أخطأك لم ليصيبك ، وإن الخلائق لو اجتمعوا على أن يعطوك شيئاً لم يرد الله أن يعطيكه لم يقدروا على ذلك ، أو أن يصرفوا عنك شيئاً أراد الله أن يعطيكه لم يقدروا على ذلك ، وأن قد جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فإذا سألت فسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، وإذا اعتصمت فاعتصم بالله ، واعمل لله بالشكر في اليقين ، واعلم أن الصبر على ما تكره خير كثير ، وأن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا)( ).
وقد ورد ذكر يوسف (26) مرة في القرآن منها (24) مرة في سورة يوسف وحدها , ومرة واحدة في سورة الأنعام ، وواحدة في سورة غافر وهو قوله تعالى [وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ]( ).
وهو عدد كثير تستقرأ منه مسائل وقوانين عقائدية وأخلاقية.
لقد كانت سيرة النبي يوسف عليه السلام ترجمة عملية للميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الناس في عالم الذر ، وإعانة متجددة لأهل الكتاب للعمل بالميثاق الذي أخذه الله عز وجل عليهم ، ومقدمة لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة متقدمة زماناً وبأكثر من ألف سنة لأهل مصر للتصديق بنبوته ورسالته .
لقد عاد بصر يعقوب له عندما القي عليه قميص يوسف فهل عودة البصر هذه معجزة وإذا كانت معجزة فهل تخص يعقوب أو يوسف ، المختار أنها معجزة لهما معاً ، إذ أن يوسف عليه السلام أخبر إخوته بأن بصره يعود إليه كما ورد في التنزيل [اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
ومع نيل يوسف مرتبة الوزارة والتصرف المطلق في أقتصاد بلاد مصر ، ومجئ أبيه يعقوب النبي إلى جواره في مصر ، فانه لم يدع إلى نفسه إنما وفى وأخلص إلى الملك الذي فوضه الأمور ، ومن غير أن يتعارض هذا الوفاء مع عقيدة التوحيد ، بينما بعث الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إماماً وحكماً مطلقاً اقترن حكمه بوجوب جذب الناس إلى عقيدة التوحيد ، وكان ينادي (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) .
ولم يغادر الدنيا إلا وأهل الجزيرة كلهم مسلمون ، ولا عبرة بالقليل النادر الذي انقرض وخلف أولاداً مسلمون .
وأختتمت سورة يوسف بقوله تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ) لبيان أن قصة يوسف لم تختص به وحده ، إنما كانت مدرسة جامعة وقعت من جهات :
الأولى : قصة النبي يوسف عليه السلام .
الثانية : أولاد الأنبياء .
الثالثة : دبيب المكر والكيد حتى بين أبناء الأنبياء .
الرابعة : التذكير بقصة قتل قابيل لأخيه هابيل ، وأن الله عز وجل خفف عن يوسف وإخوته ، فلم يقتلوا يوسف إنما القوه في البئر ، ليزداد التخفيف أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فتمرد قريش لتقتله أو تسجنه ، فينجيه الله عز وجل بالهجرة المباركة ، وينشأ المساجد في المدينة المنورة بتسارع بهيج ، وهذا التسارع في بناء المساجد في المدينة معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : حال الفسوق والفحشاء في بعض بيوت الذين كفروا ، ووقوفها بالتقوى وتحمل الأذى بسبب الصبر .
السادسة : مدرسة البشارة والإنذار في علم الرؤيا لعامة الناس ، وعدم حصرها بالذين آمنوا
السابعة : حب الله عز وجل للناس جميعاً بصرف البلاء منهم ، وحيث أنهم سجنوا النبي أطراف مدينة منفس أو ممفيس في الجيزة ، وهي عاصمة الفراعنة فان الله عز وجل لم يحبس عنهم سبل النجاة من القحط والبلاء ، نعم أكرم النبي بأن جعل نجاتهم على يده من وجوه متعددة ، وكل فرد منها معجزة مستقلة وهي :
الأول : تأويل الرؤيا .
الثاني : الصبر في السجن .
الثالث : النجاة في السجن ، في دعوته للتوحيد بين قوم كافرين ، فقد يتعرض إلى القتل في السجن ممن يظهر الولاء المطلق للملك وغيره ، إذ كان يوسف يصرح ويعلن عن عقيدة التوحيد ، وهو في السجن كما ورد في التنزيل [يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ] ( ).
والأصل أن يتخذ يوسف التقية من باب الأولوية القطعية لأن أخوته ابناء النبي يعقوب أرادوا قتله وهو في السجن بين قوم كافرين ، لتكون نجاته منهم مع إيمانه معجزة له ، ورحمة بالناس جميعاً .
ولو تنزلنا وقلنا أنهم قتلوا يوسف في السجن أو قبله أو بعده فهل ينجو الناس من وباء القحط والجوع في سبع سنين خاصة وأن هناك ممالك انقرضت بسبب الجفاف والقحط أم أن الله عز وجل ينعم على الناس بآية ومعجزة أخرى .
الجواب هو الثاني .
الثامنة : وجود ممالك في الأرض إلى جانب النبوة وجهاد الأنبياء في نشر مبادئ التوحيد .
التاسعة : شخص النبي خير محض ، ونعمة على أهل الأرض ،مؤمنهم وكافرهم ذكوراً وأناثاً .
معجزات أيوب عليه السلام
لقد بيّن القرآن علم الإحصاء وموضوعية الترتيب فيه بذكر طائة من أسماء الأنبياء مع بيان نسبهم .
فذكر القرآن أن يوسف بن يعقوب ، وان يعقوب بن اسحاق ، وإن إسحاق وإسماعيل ولدا إبراهيم عليه السلام ، وكل واحد منهم نبي .
وذكر القرآن اسم النبي أيوب وأنه من ذرية إبراهيم عليه السلام ، قال تعالى [وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ]( ).
والضمير الهاء في [وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ] يعود إلى إبراهيم عليه السلام .
وهو المشهور والمختار ، وذكر جماعة عودة الضمير إلى نوح لأن لوطاً ابن أخيه ، وليس من ذريته ، ولكن لابن الأخ كالأبن .
و (أيوب بن (أموص بن رانزخ بن) روح ابن عيصا بن إسحاق بن إبراهيم) ( ).
ومن معجزات القرآن أن كل مسلم ومسلمة يدركان الملازمة بين أيوب والصبر ، وربما أختار بعضهم هذا الاسم لابنه بسبب مالاقاه من الأذى في حياته ، ومع أن الاسم غير المسمى فان ذات اسم يعقوب يدل على الفرج وزوال النعمة بالصبر والتقوى .
وهل تم اختيار اسم النبي أيوب لهذا المعنى ، المختار نعم ، لأنه من بيت نبوة ، وكان لأختيار الاسم موضوعية ودلالة .
ومن إعجاز القرآن جعله أيوب أسوة للمسلمين في الصبر والتحمل في القضية الشخصية ، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو الأسوة في الصبر بالقضية الشخصية والعامة ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
(عن سعد بن أبي وقاص قال : قلت : يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟
قال : النبيون ، ثم الأمثل من الناس ، فما يزال بالعبد البلاء حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة) ( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : هل أخذ الله سبحانه الميثاق على الأنبياء بالصبر .
الثانية : هل الصبر من الميثاق الذي ذكرته آية البحث .
والجواب في المسألة الأولى هو الإيجاب ، وأن ذكر القرآن لصبر أيوب لبيان قانون عام وهو ملازمة الصبر للنبوة ، لإتصاف الصبر بأمور :
الأول : مع النبوة والدعوة العامة للإيمان يأتي الصبر .
الثاني : الصبر فرع الإبتلاء والبلاء .
الثالث : التناسب الطردي بين مراتب الإيمان ودرجة الصبر ، فكلما ازداد إيمان الإنسان إحتاج إلى الصبر .
الرابع : قانون الصبر طريق النجاة .
وأما المسألة الثانية فالجواب نعم , فالصبر من الميثاق في موضوعه وبيانه والعمل بأحكامه .
ومن معجزات أيوب التي جعلها الله عز وجل ضياءَ وأملاً للمسلمين مجئ العوض والبدل عما فُقد وضاع ، ويأتي هذا العوض باجتماع أمور :
الأول : الصبر .
الثاني : الثبات في مقامات الإيمان وعدم مغادرتها .
الثالث : الإجتهاد بالدعاء والتسبيح ، قال تعالى [وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ] ( ).
ومن معاني خاتمة الآية أعلاه وجوه :
الأول : الوعد من الله عز وجل .
الثاني : الترغيب بطاعة الله سبحانه .
الثالث : تبكيت الذين كفروا .
وهل يختص مجئ العوض والبدل للعبد فيما فقده بابتلاء عرضي كما في أيوب ، أو بما كسبت يداه بالمؤمن أم قد يشمل الكافر أيضاً ,
المختار هو الثاني للإطلاق في رحمة الله عز وجل .
سواء تدرك هذا الكافر التوبة أو يتجلى الإيمان في ذريته ، ومن الشواهد ما تقدم في قصة يوسف عليه السلام بنجاة الكفار من الهلاك جوعاً ببركة النبي يوسف عليه السلام .
لتكون هذه النجاة مقدمة لتحلي أهل مصر في زماننا هذا بأبهى حلل الإيمان ، والحرص على تعاهد الصلاة ، وأداء الفرائض العبادية بشوق ، والتنزه عن التكفير والإرهاب .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (ابتلي أيوب سبع سنين بلا ذنب) ( ).
وهل هو من الشواهد على عصمة الأنبياء ، الجواب نعم .
فذات الضر والأذى يكون إختياراً من عند الله ، ويكون محنة ، وقد يكون عقوبة في الدنيا للنجاة في الآخرة من ذات موضوع العقوبة .
لقد رزق الله عز وجل أيوب الزوجة الصالحة ، وكثرة الولد والمال وملكية أراض واسعة وقطعان الماشية ، فكان في نعيم متصل ، وكان يجتهد بالدعاء إلى الله عز وجل بين الناس ، وكان يكثر من مساعدة الفقراء والمساكين ، ثم ابتلاء الله عز وجل بمصائب وهي :
الأول : فقد وموت أولاده كلهم .
الثاني : فقدان الأموال .
الثالث : ضياع الأراضي والأملاك .
الرابع : هلاك وخسارة المواشي والأنعام , والعبيد .
الخامس : الإبتلاء بمرض جلدي شديد أنهك جسده ، وجعل الناس ينفرون منه خشية العدوى .
ولم يبق معه إلا زوجته في أخلاصها وتفانيها ، واسمها ( ليا ) وهي من ذرية يوسف عليه السلام .
وفي عنايتها به وهو في أشق الأحوال دعوة لإكرام المرأة والظن الحسن بالزوجة في حال الشدة والرخاء ، وبعد تلك النعم ، وبعد أن أطبق الفقر عليه قامت بالعمل خادمة في بعض البيوت لتوفر لقمة لأيوب وهو في مرضه ، ثم ما لبث الناس أن امتنعوا عن عملها خشية دبيب العدوى .
و(عن ابن عباس : أن الشيطان عرج إلى السماء قال : يا رب سلطني على أيوب عليه السلام قال الله : قد سلطتك على ماله وولده ، ولم أسلطك على جسده .
فنزل فجمع جنوده فقال لهم : قد سلطت على أيوب عليه السلام ، فأروني سلطانكم ، فصاروا نيراناً ، ثم صاروا ماء ، فبينما هم بالمشرق إذا هم بالمغرب ، وبينما هم بالمغرب إذا هم بالمشرق ، فأرسل طائفة منهم إلى زرعه ، وطائفة إلى أهله ، وطائفة إلى بقره ، وطائفة إلى غنمه ، وقال : إنه لا يعتصم منكم إلا بالمعروف .
فأتوه بالمصائب بعضها على بعض .
فجاء صاحب الزرع فقال : يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على زرعك عدوّاً ، فذهب به .
وجاء صاحب الإِبل فقال : يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على إبلك عدواً ، فذهب بها ، ثم جاءه صاحب البقر فقال : ألم تر إلى ربك أرسل على بقرك عدواً ، فذهب بها ، وتفرد هو ببنيه جمعهم في بيت أكبرهم .
فبينما هم يأكلون ويشربون اذهبت ريح ، فأخذت بأركان البيت ، فألقته عليهم ، فجاء الشيطان إلى أيوب بصورة غلام فقال : يا أيوب ألم تر إلى ربك جمع بنيك في بيت أكبرهم ، فبينما هم يأكلون ويشربون اذهبت ريح ، فأخذت باركان البيت ، فألقته عليهم ، فلو رأيتهم حين اختلطت دماؤهم ولحومهم بطعامهم وشرابهم .
فقال له أيوب : أنت الشيطان ، ثم قال له أنا اليوم كيوم ولدتني أمي ، فقام فحلق رأسه ، وقام يصلي ، فرن إبليس رنة سمع بها أهل السماء ، وأهل الأرض ، ثم خرج إلى السماء فقال : أي رب انه قد اعتصم ، فسلطني عليه ، فإني لا أستطيعه إلا بسلطانك قال : قد سلطتك على جسده ، ولم أسلطك على قلبه .
فنزل فنفخ تحت قدمه نفخة قرح ما بين قدميه إلى قرنه ، فصار قرحة واحدة ، وألقي على الرماد حتى بدا حجاب قلبه ، فكانت امرأته تسعى إليه حتى قالت له : أما ترى يا أيوب نزل بي والله من الجهد والفاقة ما أن بعت قروني برغيف . فأطعمك ، فادع الله أن يشفيك ويريحك.
قال : ويحك ، كنا في النعيم سبعين عاماً ، فأصبري حتى نكون في الضر سبعين عاماً ، فكان في البلاء سبع سنين ، ودعا فجاء جبريل عليه السلام يوماً ، فأخذ بيده ، ثم قال : قم .
فقام فنحاه عن مكانه وقال [ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ]( )، فركض برجله ، فنبعت عين فقال : اغتسل .
فاغتسل منها ، ثم جاء أيضاً فقال { اركض برجلك }( ) فنبعت عين أخرى.
فقال له : اشرب منها ، وهو قوله {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب}( ) وألبسه الله تعالى حلة من الجنة ، فتنحى أيوب ، فجلس في ناحية ، وجاءت امرأته ، فلم تعرفه فقالت : يا عبدالله أين المبتلي الذي كان ههنا لعل الكلاب ذهبت به ، والذئاب ، وجعلت تكلمه ساعة .
فقال : ويحك ، أنا أيوب قد رد الله عليّ جسدي ، ورد الله عليه ماله وولده عياناً [وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ]( )، وأمطر عليهم جراداً من ذهب ، فجعل يأخذ الجراد بيده ، ثم يجعله في ثوبه ، وينشر كساءه ، فيجعل فيه فأوحى الله إليه : يا أيوب أما شبعت ، قال : يا رب من ذا الذي يشبع من فضلك ورحمتك)( ).
ولم يبق عضو من جسم أيوب سالماً إلا قلبه ولسانه ، فكان يلهج بذكر الله عز وجل في الليل والنهار ، ولم تشغله شدة الألم عن صلاته ، وطال مرض أيوب ، وعزف عنه الناس ، وأخرجوه من البلدة ، والقوه خارجها ، وانقطعوا عنه ولم يكن عنده ولد يأتيه ، فلم تبقى إلا زوجته تحنو عليه ، تأتي فتفرش الرماد تحته لتخفف عنه سقوط الجلد واللحم ، وتساعده في قضاء حاجته ، وتأتي له بما تيسر من الطعام ، فقد كانت تذكر عنايته بها أيام السعة والسراء .
وحرصت على تعاهد وظائفها الزوجية مع إرادة الأجر والثواب من عند الله ، وهل كانت تعلم أن أيوب نبي المختار نعم ، فلم يصبها اليأس والقنوط ، وفي التنزيل [وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ).
و(عن ابن عباس أن امرأة أيوب قالت : يا أيوب إنك رجل مجاب الدعوة ، فادع الله أن يشفيك فقال : ويحك ، كنا في النعماء سبعين عاماً ، فدعينا نكون في البلاء سبع سنين)( ).
ولما لم تجد مالاً تشترى به طعاماً لأيوب قامت بقص إحدى ظفيرتيها ، وباعتها لأحدى بنات الأشراف واشترت بالثمن طعاماً لأيوب ، فقال لها من أين لك هذا الطعام ، قالت : خدمت أناساً ، خشيت امتناعه عن أكل الطعام .
ثم قصت الظفيرة الثانية واشترت به طعاماً وجاءت به اليه ، فاقسم ألا يأكله حتى تخبره من أين أتت به خاصة وان أهل البلدة امتنعوا عن تشغيلها في بيوتهم خشية العدوى .
(قيل: إنها باعت ضفيرتها بخبز فأطعمته إياه فلامها على ذلك وحلف إن شفاه الله ليضربنها مائة جلدة. وقيل: لغير ذلك من الأسباب)( ).
ووقف شخصان من أصحاب أيوب مسافة عنه إجتناباً لرائحته النتنة وقال أحدهما لصاحبه ، لو علم الله من أيوب خيراً لما ابتلاه وقيل (كانا أخوين لأيوب) ( ).
بالفقر وموت الأولاد وداء صار له ثماني عشرة سنة وقيل سبع سنوات( )، وأدرك أن الناس يقولون أن هذا الإبتلاء عقوبة من الله ، وساده بيع زوجته ظفيرتها ، وأخذته إلى الكنيف لقضاء حاجته ، وأبطأت عليه ، وقيل أن الدود قصدت إلى لسانه وقلبه فخشي أن يعجز عن الذكر عندئذ توجه بالدعاء إلى الله عز وجل رجاء الشفاء والفرج فاستجاب له الله عز وجل وكشف مابه من ضر ، قال تعالى [وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
وكان عدد أولاده الذين ماتوا ثلاثة عشر ، فوهب الله عز وجل له (ستة وعشرين ابنا من ذات زوجته (ليا)) ( ).
وفي قوله تعالى [ارْكُضْ بِرِجْلِكَ]( )، أي دُس واضرب الأرض بقدمك ، فداسها فنبعت عين ماء صافية فاغتسل فذهب المرض الجلدي والبرص من جلده ، ثم شرب منه فنقى باطنه من الأوجاع .
وكان قد حلف بالله أن يضرب زوجته مائة سوط ، واختلف في سبب هذا اليمين ، وقال تعالى [وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ]( )، أي قبضة واحدة من السنابل أو الحزمة الرطبة من الآس التي فيها مائة عودة ليضربها مرة واحدة ضربة خفيفة.
ومن أفراد الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الأنبياء والمؤمنين والناس جميعاً الصبر والذِكر فجمع بينهما أيوب في أشد الأحوال ليكون أسوة للناس ، فان قلت إنما يقتبس من مدرسة الصبر هذه الذين آمنوا على نحو الخصوص ز
والجواب إن المورد لا يخصص الوارد.
فمن إعجاز القرآن قانون عدم إنحصار النفع منه بالمسلمين فليس من طائفة أو أهل ملة إلا وينهلون المواعظ من القرآن ، بالإضافة إلى أن قصة أيوب ، وكونه رائداً في الصبر والرضا بقضاء الله لم يختص بالقرآن ، فقد ذكرته الكتب السماوية السابقة وفي التوراة سفر باسم سفر أيوب ، والذي يبدأ :
1: 1 كان رجل في ارض عوص اسمه ايوب و كان هذا الرجل كاملا و مستقيما يتقي الله و يحيد عن الشر
1: 2 و ولد له سبعة بنين و ثلاث بنات
1: 3 و كانت مواشيه سبعة الاف من الغنم و ثلاثة الاف جمل و خمس مئة فدان بقر و خمس مئة اتان و خدمه كثيرين جدا فكان هذا الرجل اعظم كل بني المشرق
1: 4 و كان بنوه يذهبون و يعملون وليمة في بيت كل واحد منهم في يومه و يرسلون و يستدعون اخواتهم الثلاث لياكلن و يشربن معهم
1: 5 و كان لما دارت ايام الوليمة ان ايوب ارسل فقدسهم و بكر في الغد و اصعد محرقات على عددهم كلهم لان ايوب قال ربما اخطا بني و جدفوا على الله في قلوبهم هكذا كان ايوب يفعل كل الايام)( ).
وكانت خاتمة هذا السٍفر :
42: 16 و عاش ايوب بعد هذا مئة و اربعين سنة و راى بنيه و بني بنيه الى اربعة اجيال .
42: 17 ثم مات ايوب شيخا و شبعان الايام)( ).
لقد اثنى الله عز وجل على أيوب في القرآن ووصفة الله بأنه [عَبْدَنَا]( )، [نِعْمَ الْعَبْدُ]( )، [صَابِرًا]( )، [أَوَّابٌ] ( ).
معجزات موسى عليه السلام
لقد نزل القرآن بالإخبار عن تعدد معجزات موسى عليه السلام بالعدد ، إذ قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا]( )وكانت معجزاته على مرآى ومسمع من الناس ، لتكون حجة لأهل الإيمان ، وزاجراً لفرعون في إدعائه الربوبية ، ومانعاً من إيذائه لموسى عليه السلام .
ولا تنحصر معجزات موسى عليه السلام بما لاقى به فرعون من الدلائل الواضحة على صدق نبوته ، فكانت هناك معجزات موسى عليه السلام لبني إسرائيل عند وجوده في مصر ، وأخرى بعد مغادرتها إلى أرض فلسطين وموسى عليه السلام من ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم و(هو موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب) ( ).
والظاهر أن عدد الآباء بين موسى ويعقوب أكثر بدليل ما ورد في عدد بني إسرائيل الذين خرجوا مع موسى عليه السلام (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أصحاب موسى الذين جاوزوا البحر اثني عشر سبط ، فكان في كل طريق اثنا عشر ألفاً كلهم ولد يعقوب عليه السلام) ( ).
أي يكون المجموع (144000) ومن المستبعد أن تكون هذه الكثرة في خمس بطون من اثني عشر ولداً من يعقوب عليه السلام ، الذي جاء إلى مصر بطلب يوسف عليه السلام عندما تولى الوزارة في مصر ، وحتى على فرض مجئ أبناء عيصو معهم لما ورد حكاية عن يوسف عليه السلام [اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ] ( ).
وكان يعقوب قد دخل مصر ومعه نيف وسبعون من ذريته فتوالدوا ، وحتى على فرض زواج يعقوب مرة أخرى عند مجيئه إلى مصر وعودة بصره إليه .
ولم يرد لفظ [أَجْمَعِينَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، لبيان وحدة وتماسك الأسرة ، آنذاك عند بني إسرائيل ، وفيه أن الأذى الذي يقع على أحدهم من قبل فرعون وجنوده يتألم له الجميع ، وأنهم كانوا متلهفين للنجاة من شدة عذابه ، لذا رزقهم الله عز وجل نبوة موسى عليه السلام ، وأمره بالخروج بهم من مصر ، وعن ابن عباس قال (أوحى الله إلى موسى : أن اسر بعبادي ليلاً إنكم متبعون .
فأسرى موسى ببني إسرائيل ليلاً ، فاتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الاناث ، وكان موسى في ستمائة ألف ، فلما عاينهم فرعون قال { إن هؤلاء لشرذمة قليلون ، وإنهم لنا لغائظون ، وإنا لجميع حاذرون }( ) فاسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر فالتفتوا فإذا هم برهج دواب فرعون فقالوا : يا موسى { أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعدما جئتنا }( ) هذا البحر أمامنا ، وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه قال : { عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون }( ) فأوحى الله إلى موسى : أن اضرب بعصاك البحر ، وأوحى إلى البحر : أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك .
فثاب البحر له أفكل يعني رعدة لا يدري من أي جوانبه يضرب .
فقال يوشع لموسى : بماذا أمرت؟
قال : أمرت أن أضرب البحر .
قال : فاضربه : فضرب موسى البحر بعصاه فانفلق فكان فيه اثنا عشر طريق كل طريق كالطود العظيم ، فكان لكل سبط فيهم طريق يأخذون فيه ، فلما أخذوا في الطريق قال بعضهم لبعض : ما لنا لا نرى أصحابنا؟
فقالوا لموسى : إن أصحابنا لا نراهم؟
قال : سيروا فانهم على طريق مثل طريقكم قالوا : لن نؤمن حتى نراهم قال موسى : اللهم أعني على أخلاقكم السيئة .
فأوحى الله إليه : أن قل بعصاك هكذا وأومأ بيده يديرها على البحر . قال موسى بعصاه على الحيطان هكذا فصار فيها كوات ينظر بعضهم إلى بعض ، فساروا حتى خرجوا من البحر .
فلما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون على البحر هو وأصحابه ، وكان فرعون على فرس أدهم حصان ، فلما هجم على البحر هاب الحصان أن يقتحم في البحر ، فتمثل له جبريل على فرس أنثى ، فلما رآها الحصان اقتحم خلفها ، وقيل لموسى { اترك البحر رهوا }( ) قال : طرقاً على حاله . ودخل فرعون وقومه في البحر ، فلما دخل آخر قوم فرعون وجاز آخر قوم موسى أطبق البحر على فرعون وقومه فأغرقوا .) ( ).
وإذ ا كان ابن عباس يروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن عددهم هو (144000) فكيف يحدّث بأن عددهم هو ستمائة ألف أي نحو أربعة أضعاف ما رواه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن ابن مسعود قال : إنما اشتري يوسف عليه السلام بعشرين درهماً ، وكان أهله حين أرسل إليهم بمصر ثلثمائة وتسعين إنساناً ، رجالهم أنبياء ، ونساؤهم صديقات ، والله ما خرجوا مع موسى عليه السلام حتى بلغوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً) ( ).
ولم يثبت أن رجالهم أنبياء ، وعن مجاهد والسدي أن الذرية والنساء لا تعد من الستمائة ألف (خرج موسى ببني إسرائيل ليلاً والقبط لا يعلمون ، وألقى على القبط الموت فمات كل بكر رجل منهم ، فأصبحوا يدفنونهم فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس ، وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألفاً . لا يعدون ابن عشرين لصغره ، ولا ابن ستين لكبره ، وإنما عدوا ما بين ذلك سوى الذرية) ( ).
وفي ذهاب آل يعقوب لمصر ،والنجاة من الفقر والفاقة والقحط دعوة لهم لتعاهد الميثاق ، والمحافظة عليه ، وإظهار البشارة بالنبوات شكراً لله عز وجل على النعم .
وكانت ثقة موسى عليه السلام بعظيم قدرة الله ، ويتجلى في قول وفعل موسى عليه السلام التسليم بأن الله عز وجل قادر على كل شئ ، وأنه لن يخذل موسى ، لذا لم يكن يخشى بطش فرعون الذي يدعي الربوبية ، فدخل موسى عليه السلام إلى بلاطه والتقى به ، وكان موضوع اللقاء هو الدعوة إلى الله ، فاستكبر فرعون وأبى التصديق بالنبوة مع أنه رآى الآيات والمعجزات تترى على يد موسى ، واستمر فرعون بقهر وإذلال بني إسرائيل.
ومن أظهر معجزات موسى عليه السلام العصا ، وهي معجزة حسية متجددة كل يوم ، ووظائفها متعددة ، فهي آلة قهر السحرة ، وداعية لهم للإيمان ، وهي التي أخاف بها فرعون في قصره وأمام وزرائه ، وهي التي ضرب بها البحر فانفلق وعبر منه بنو إسرائيل ، قال تعالى [فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ]( ) لتتوالى الآيات البينات في آل فرعون بما يدعوهم إلى التصديق برسالة موسى عليه السلام ، والتخفيف عن بني إسرائيل لأنهم كانوا يومئذ الأمة المؤمنة بالتوحيد والنبوة ، قال تعالى [فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ] ( ).
وفيه زجر لقريش وحلفائهم من الكفار بعدم إيذاء المسلمين واستضعافهم وقهرهم لأن الله عز وجل ينتقم من الذين يظلمونهم ، ولرحمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقومه هاجر إلى المدينة ، ولكن قريشاً كانوا يصرون على قتله في كل معركة ، فأخزى الله قريشاً في كل معركة وغزواتهم نحو المدينة ، كما في معركة بدر ، وأحد، والخندق مع سبق البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجئ المعجزات العقلية والحسية على يديه ، فمن لم تصله بشارة الميثاق ، ومن لم يصدق بها ، فان المعجزات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعوة سماوية ملحة للإيمان .
وهل عصا موسى عليه السلام من الميثاق الذي آتاه الله عز وجل بني إسرائيل ، الجواب إنها تأكيد للميثاق ، وشاهد عليه ، ودعوة سماوية للتقيد به بمضامينه شكراً لله عز وجل .
وسيأتي إن شاء الله في جزء لاحق بيان لمعجزات موسى عليه السلام .
لقد بشّر موسى عليه السلام برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وورد ذكرها في التوراة ، وهل سمع آل فرعون بالبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق موسى عليه السلام وأتباعه عندما كان موسى في مصر ، أم أن هذه البشارة كانت خاصة لبني إسرائيل ، المختار هو الأول ،وهو مقدمة لدخول الإسلام إلى مصر ونواحيها بيسر ولطف من عند الله سبحانه .
وفي كتابي الموسوم (تفسير سورة يوسف ) والمسجل في دار الكتب والوثائق في بغداد برقم (272 لسنة 1991 ) ذكرت في قوله تعالى [ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ] ( ).
ومن معجزات موسى عليه السلام أن الله عز وجل كلّمه قُبُلا ، وورد في التنزيل [وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ] ( ).
وذكرت الآية الليل دون النهار مع التوالي في كل منهما أي أربعين ليلة ويوماً متصلة متعاقبة ، ووضع العرب تواريخ الأيام والشهور على سير القمر ، ويبدأ الشهر من حين إطلالة الهلال في الليل ، ويدل عليه قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ) ولخلق الليل قبل النهار ، كما هو المستقرأ من قوله تعالى [وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ]( ).
وهل هذه المواعدة من معجزات موسى عليه السلام ، الجواب نعم ، لقد صام موسى عليه السلام هذه الأيام الأربعين في الطور ، بعد هلاك فرعون وهي شهر ذي القعدة وعشرة أيام من شهر ذي الحجة ، مقدمة لمناجاة الله عز وجل ، ولتنزل عليه التوراة في ألواح ، وهي من الميثاق الذي تذكره آية البحث ، وتتضمن البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيانها .
معجزات عيسى عليه السلام
نزل القرآن بنسبة عيسى عليه السلام إلى أمه مع التسليم بأنه رسول من عند الله عز وجل ، قال تعالى [مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ] ( ).
وكانت هذه النسبة سبباً بايمان كثير من الناس بنبوته ، لأنه ولد بمعجزة ومن غير أب ، وأجتهد عيسى بالسياحة في الأرض في دعوة إلى الله ، وتثبيت للميثاق , وفرار من الذين كفروا .
وتكشف قصص الأنبياء عن قانون الهجرة وأن الأنبياء كانوا يهاجرون بدينهم ، ليس فقط طلباً للسلامة ، ولكن دعوة إلى الله ، وتبليغ أكبر عدد من الناس بوجوب عبادة الله وحده ، وبالبشارة بتجدد النبوة واختتامها بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يَرَيْن) ( ).
وكما كان خلق آدم من غير أب وأم معجزة فكذا ولادة عيسى إلا أن عيسى ولدته مريم من غير أب ، ولكنهما لم يسلما من الإفتراء .
ومن الإعجاز في نبوة عيسى والحاجة إلى تصديق القرآن لهذه المعجزة عدم إضرار هذا الإفتراء برسالة عيسى وشخص القديسة مريم ، ويمكن القول بأن القرآن سبب لقطع هذا الإفتراء ، أو التقليل منه وتضاؤله .
لذا أخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أولى الناس بعيسى عليه السلام .
(وروى أبو هريرة عن النبّي صلى الله عليه وآله وسلم قال : الأنبياء إخوة لعلاّت شتّى ودينهم واحد، وأنا أولى النّاس بعيسى بن مريم ؛ لأنّه لم يكن بيني وبينه نبّي، وإنّه عامل على أُمّتي وخليفتي عليهم، إذا رأيتموه فاعرفوه فإنّه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كأن شعره ممطر وإن لم يصبه بلل، بين ممصّرتين يدقّ الصليب ويقتل الخنزير ويفيض المال .
وليسلكنّ الروحاء حاجّاً أو معتمراً أو كلتيهما جميعاً، ويقاتل النّاس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملك كلها ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الكذّاب الدجّال، ويقع في الأرض الأمنة حتى يرتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الأغنام، ويلعب الصبيان بالحيّات لا يضرّ بعضهم بعضاً، ويلبث في الأرض أربعين سنة) ( ).
ومن الآيات في النبوة قانون تعضيد المعجزة لأختها ، فحينما ولد عيسى عليه السلام من غير أب فان الله عز وجل رزقه الكلام ومحادثة الناس وهو في المهد .
لم تستعن مريم بقابلة عند الولادة ، ولم تبق في بيتها ، بل استندت إلى جذع نخلة ، وتعلقت به لتسهل الولادة ، وتمنت الموت حياء من الناس ، وخشية الفضيحة مع أنها تثق بنفسها بأنها باكر ، ولم يقربها رجل ، وكثير من الناس من يتمنى الموت عند الفتنة في أقل من هذا بكثير ، ولكن الله عز وجل رحم مريم ، ونزل قوله تعالى [فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا] ( ).
والمنادي جبرئيل , وقيل الذي نادها هو عيسى عليه السلام .
وهو من اللطف الإلهي بالناس عامة ، وبالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والنصارى واليهود خاصة .
ولبيان مسألة عقائدية وهي أن قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) أن فيوضات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سابقة لأوانها ومصاحبة لها ، ومتأخرة عنها .
وتتجلى في قوله تعالى [إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ] ( ) معجزات متعددة لعيسى عليه السلام , منها :
الأولى : خطاب الله عز وجل لعيسى على نحو الخصوص والتعيين بالوحي ، فقوله تعالى [يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ] تشريف وإكرام لعيسى ، ومن الشواهد على نبوته لما فيه من ذكر لنعم خاصة كل واحدة منها آية في العالمين.
الثانية : تسمية الله عز وجل لعيسى باسم أمه لبيان طهارة مولده ، ومريم هي المرأة الوحيدة التي ورد اسمها في القرآن .
الثالثة : نعم الله الخاصة على عيسى عليه السلام .
الرابعة : النعم الخاصة على مريم عليها السلام .
الخامسة : ذكر عيسى لنعم الله عز وجل عليه وعلى والدته مريم ، وفيه تأكيد نبوي متجدد لعفة وطهارة مريم عليها السلام .
السادسة : فضل الله بتأييده لعيسى بروح القدس ، وفي آية أخرى قال تعالى [وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ] ( ) إذ أعانه الله سبحانه بروح القدس .
ومن مصاديق هذا التأييد تعضيد جبرئيل لعيسى عليه السلام في البشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابعة : فضل الله عز وجل بآية في العالمين لم تكن من قبل في ولد آدم، وعي قدرة عيسى عليه السلام على الكلام وهو في المهد .
وعن ابن عباس (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم) ( ) .
(عن ابن عباس في قوله { وشهد شاهد من أهلها }( ) قال : صبي في المهد) ( ).
الثامنة : موضوع كلام عيسى عليه السلام وهو في المهد ، لتأكيد ميثاق الله سبحانه الذي أخذه على الذين أوتوا الكتاب سواء بالنسبة لأتباع الرسول موسى عليه السلام وهم اليهود الذين بعث الله عز وجل عيسى عليه السلام بين ظهرانيهم أو النصارى أتباع عيسى في رسالته .
فحينما تكلم عيسى في المهد [قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ] ( ) وعهد هو حجر مريم .
والنسبة بين الكتاب والميثاق هو العموم والخصوص المطلق ، ليكون من معناه أن عيسى عليه السلام يبلغ الناس بالميثاق ولزوم التقيد به ، وهو في المعهد .
وهل بشارة عيسى عليه السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته وهو في المهد أم عندما كبر وساح في القرى والمدن .
المختار هو الثاني .
وإن كانت كلمة [آتَانِي الْكِتَابَ]مطلقة تتضمن البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن الإتيان أعم من التبليغ في ذات الوقت ، وفي خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا] ( ).
التاسعة : الإخبار من الله عز وجل حين ولادة عيسى عن تكليمه للناس وهو في المهد وهو كهل أيضاً ، ولما تحققت معجزة تكليمه للناس وهو في المهد اطمأنت مريم وغيرها بأن عيسى لن يقتل في صباه وعند البلوغ وسن الشباب ، إذ أن المقصود من الكهولة ما بعد انتهاء أيام الشباب .
وأستدل بهذه الآية على نزول عيسى في آخر الزمان لأنه رفع إلى السماء قبل أن يكتهل.
(الكَهْلُ: الرَّجُلُ إذا وَخَطَه الشَّيْبُ وله بَجَالَةٌ، وامرأةٌ كَهْلَةٌ شَهْلَةٌ، وقد اكْتَهَلَ وكاهَلَ، وهُمُ الكُهُوْلُ والكُهَّلُ) ( ).
ورد لفظ [كَهْلاً] مرتين في القرآن إحداهما بصيغة الخطاب في هذه الآية ، والأخرى بلغة الغائب في قوله تعالى [وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ] ( ).
العاشرة : فضل الله عز وجل في نزول الوحي على عيسى عليه السلام ، وعلمه الله الكتاب وآيات التنزيل .
ترى ما هي النسبة بين الكتاب الذي تذكره الآية أعلاه وبين الإنجيل ، المختار هو العموم والخصوص المطلق .
والنسبة بين كل منهما والميثاق هو العموم والخصوص المطلق .
المراد من الكتاب علم الكتاب عن ظهر قلب .
(عن ابن عباس في قوله { ويعلمه الكتاب } قال : الخط بالقلم) ( ).
(عن أبي سعيد الخدري وابن مسعود مرفوعاً قال : إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه فقال له المعلم : اكتب بسم الله قال له عيسى: وما بسم .
قال له المعلم : ما أدري .
قال له عيسى : الباء بهاء الله ، والسين سناؤه ، والميم مملكته ، والله إله الآلهة ، والرحمن رحمن الآخرة والدنيا ، والرحيم رحيم الآخرة .
أبو جاد : الألف . الآء الله ، والباء بهاء الله ، جيم جلال الله ، دال الله الدائم . هوَّزَ : الهاء الهاوية ، واو ويلٌ لأهل النار واد في جهنم ، زاي زين أهل الدنيا ، حطي ، حاء الله الحكيم ، طاء الله الطالب لكل حق يرده ، أي أهل النهار وهو الوجع .
كلمن : الكاف الله الكافي ، لام : الله القائم ، ميم ، الله المالك ، نون الله البحر ، سعفص : سين ، السلام ، صاد الله الصادق ، عين الله العالم ، فاء الله ذكر كلمة صاد الله الصمد .
قرشت قاف الجبل المحيط بالدنيا الذي اخضرت منه السماء ، راء رياء الناس بها ، سين ستر الله ، تاء تمت أبداً . قال ابن عدي : هذا الحديث باطل بهذا الإسناد لا يرويه غير اسمعيل بن يحيى) ( ).
والميثاق الذي أخذه الله عز وجل عليهم من الكتاب ،وهو حكمة خالصة ، وكذا فان حفظ العباد له من الحكمة ، ليكون من معاني تعليم الله عز وجل عيسى عليه السلام الحكمة تعليمه الميثاق والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولزوم القيام بالتبليغ بواسطة وكيفية هي من الحكمة ، وتبين هذه الآية حب الله عز وجل لعيسى ، وأسراراً من خلافة الإنسان في الأرض ، وإحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
وهل هذه الحكمة تكون خاصة عند عيسى أن تترشح على أنصاره ، وأهل شريعته ، الجواب هو الثاني ، فاذا أنعم الله عز وجل نعمة فانه أكرم من أن يرفعها , وإذا أنعم نعمة على عبد من عباده فان الذين ينتفعون منها كثير ، وفي أكثر من زمان وأهل طبقة من أهل الأرض ، لذا أخبر الله عز وجل عن تفضله برزق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحكمة أيضاً ، وأنه يقوم بتعليمها لأمته ، وهو دعاء إبراهيم عليه السلام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، كما ورد في التنزيل [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
وهل الحكمة التي علمها الله عز وجل النبي محمداً هي ذات الحكمة التي علمها عيسى عليه السلام من جهة الماهية والكم والكيف .
المختار الإتحاد من جهة الماهية أما الحكم والكيف فان الله عز وجل آتى النبي محمداً مصاديق أخرى من الحكمة ، فقد كان الرسول والحاكم ، والإمام لأهل الأرض ، وكانت كل آية من القرآن حكمة بذاتها ، وتترشح مصاديق من الحكمة بالجمع بينها وبين آيات القرآن الأخرى .
ويمكن القول بأن الحياة الدنيا هي (دار الحكمة ) ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) إذ يتلقى الإنسان الحكمة ويتصرف الخليفة في الأرض بحكمة تحفظ المواثيق والعهود ، وإقامة الفرائض والإمتناع عن المعاصي والسيئات .
وتعليم الله لعيسى الحكمة معجزة له عليه السلام ، خاصة وأنه تلقاه في صغره ، وقيل أنه امسك عن الكلام في صباه .
إذ ورد (عن ابن عباس ، أن عيسى ابن مريم أمسك عن الكلام بعد إذ كلمهم طفلاً حتى بلغ ما يبلغ الغلمان ، ثم أنطقه الله بعد ذلك بالحكمة والبيان ، فأكثر اليهود فيه وفي أمه من قول الزور ، فكان عيسى يشرب اللبن من أمه ، فلما فطم أكل الطعام ، وشرب الشراب ، حتى بلغ سبع سنين أسلمته أمه لرجل يعلمه كما يعلم الغلمان ، فلا يعلمه شيئاً إلا بدره عيسى إلى عمله قبل أن يعلمه إياه .
فعلمه أبا جاد فقال عيسى : ما أبو جاد .
قال المعلم : لا أدري .
فقال عيسى : فكيف تعلمني ما لا تدري .
فقال المعلم : إذن فعلمني .
قال له عيسى : فقم من مجلسك فقام ، فجلس عيسى مجلسه فقال عيسى
: سلني فقال المعلم : فما أبو أبجد .
فقال عيسى : الألف الآء الله ، باء بهاء الله ، جيم بهجة وجماله . فعجب المعلم من ذلك ، فكان أول من فسر أبجد عيسى ابن مريم عليه السلام .
قال وسأل عثمان بن عفان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله ما تفسير أبي جاد؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تعلموا تفسير أبي جاد فإن فيه الأعاجيب كلها ، ويل لعالم جهل تفسيره .
فقيل يا رسول الله وما تفسير أبي جاد؟
قال : الألف آلاء الله ، والباء بهجة الله وجلاله ، والجيم مجد الله ، والدال دين الله .
هوَّز الهاء الهاوية ويل لمن هوى فيها ، والواو ويل لأهل النار ، والزاي الزاوية يعني زوايا جهنم .
حطي : الحاء حط خطايا المستغفرين في ليلة القدر وما نزل به جبريل مع الملائكة إلى مطلع الفجر ، والطاء طوبى لهم وحسن مآب وهي شجرة غرسها الله بيده ، والياء يد الله فوق خلقه .
كلمن : الكاف كلام الله لا تبديل لكلماته ، واللام إلمام أهل الجنة بينهم بالزيارة والتحية والسلام وتلاوم أهل النار بينهم ، والميم ملك الله الذي لا يزول ودوام الله الذي لا يفنى ، ونون { نون والقلم وما يسطرون }( ) صعفص : الصاد صاع بصاع ، وقسط بقسط ، وقص بقص ، يعني الجزاء بالجزاء ، وكما تدين تدان ، والله لا يريد ظلماً للعباد .
قرشت : يعني قرشهم فجمعهم يقضي بينهم يوم القيامة وهم لا يظلمون) ( ).
ومن حكمة عيسى تأدبه بأخلاق الأنبياء ، وصبره وجهاده في سبيل الله بالموعظة والعفو ، والصلاة والزكاة ، وكان ينطق بالحكمة .
ومن الإعجاز في الحكمة أنها واقية من الذين كفروا ، ومانع من اعتدائهم عليه وقتله إلى الأجل الذي رفعه الله عز وجل به ، وهناك حكم كثيرة لعيسى منها : (قال عيسى عليه السلام للحواريين :
أولاً : كما ترك لكم الملوك الحكمة فكذلك اتركوا لهم الدنيا .
ثانياً : عن يونس بن عبيد قال : كان عيسى ابن مريم عليه السلام يقول : لا يصيب أحد حقيقة الإيمان حتى لا يبالي من أكل الدنيا .
ثالثاً : عن ثابت البناني قال: قيل لعيسى عليه السلام لو اتخذت حماراً تركبه لحاجتك؟ فقال : أنا أكرم على الله من أن يجعل لي شيئاً يشغلني به .
رابعاً : عن مالك بن دينار قال : قال عيسى : معاشر الحواريين إن خشية الله وحب الفردوس يورثان الصبر على المشقة ، ويباعدان من زهرة الدنيا .
خامساً : وأخرج ابن عساكر عن عتبة بن يزيد قال : قال عيسى ابن مريم : يا ابن آدم الضعيف اتّق الله حيثما كنت ، وكل كسرتك من حلال ، واتخذ المسجد بيتاً ، وكن فيه الدنيا ضعيفاً ، وعوّد نفسك البكاء ، وقلبك التفكر ، وجسدك الصبر ، ولا تهتم برزقك غداً فإنها خطيئة تكتب عليك.
سادساً : عن محمد بن مطرف . أن عيسى قال : فذكره .
سابعاً : عن وهيب المكي قال : بلغني أن عيسى عليه السلام قال : أصل كل خطيئة حب الدنيا . ورب شهوة أورثت أهلها حزناً طويلاً).
الحادية عشرة : مما رزق الله عز وجل عيسى عليه السلام معجزة بلوغه مرتبة الحكمة ، وصيرورته حكيماً من صغره ، ليكون كلام عيسى في المهد معجزة متعددة منها أن كلامه يومئذ حكمة ، فمن باب الأولوية أن يكون حكمة أيضاً عندما يكبر ، وعندما يهبط إلى الأرض .
وهل يعني هذا أنه لم يتعلم علوماً إضافية ، ومصاديق من الحكمة عندما بلغ سن الشباب ، وعندما يكون في السماء ، الجواب لا ، إنما كانت حياة عيسى عليه السلام كلها حكمة وتعلم للحكمة ، وحينما يهبط من السماء في آخر الزمان يأتي بعلوم سماوية مستحدثة , ويصاحبه الوحي .
وهل الحكمة التي يتلقاها ويتعلمها الناس من الكلي المتواطئ أم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، الجواب هو الثاني ، وأسمى وأعلى درجات الحكمة هي التي تعلمها وأتصف بها الأنبياء .
ومن خصائص الإيمان ملازمة الحكمة له .
ومن فضل الله عز وجل على مريم إخبارها قبل أن تلد عيسى بأن الله عز وجل سيعلمه الكتاب والحكمة ، كما في قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ] ( ) مع بشارة بأن عيسى عليه السلام سيأتي بشريعة مبتدأة .
الثانية عشرة : تعليم الله عز وجل لعيسى عليه السلام التوراة ، وهو معجزة له ، إذ أن التوراة إنزلت على موسى عليه السلام وأتباعه اليهود ، وبين موسى وعيسى عليهما السلام بعث الله عز وجل أنبياء متعددين يدعون إلى شريعة موسى ، ويبشرون بعيسى والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فجاءعيسى بشريعة مستحدثة ، ومع هذا فان الله عز وجل علّمه شريعة الرسول الذي سبقه ،وهو أسمى تعليم ، ويتصف بخلو من الزيادة أو النقص أو التأويل خلاف النص .
ومن آيات التوراة البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لبيان أن ما ورد على لسان عيسى [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( )، إنما هو فرع بشارة التوراة برسالته ، ومجئ الإنجيل بذات المعنى والبشارة أيضاً .
الثالثة عشرة والرابعة عشرة : إبراء عيسى عليه السلام للأعمى وإعادة بصره إليه ، وإبراء الأبرص المصاب بمرض جلدي.
لقد كان الغالب في زمان عيسى عليه السلام الطب فاظهر الله عز وجل المعجزة على يد عيسى عليه السلام بهذا الباب.
ومن الآيات الى الآن هناك أمراض جلدية مستعصية ، ولكن قوله تعالى [وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ]( )، يدل على تحقق هذه النعمة في الأرض بالمعجزة ، وهو مقدمة وأمارة على تحقق هذه النعمة والشفاء بالعلم المكتسب ، ليجتهد الأطباء في بلوغه , كما يدل عليه قوله تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
إذ جاءت الآية أعلاه بحرف العطف الفاء في قوله تعالى [فَهُوَ] لبيان تعقب الشفاء للمرض من غير فترة بينهما .
وهل من صلة بين هاتين المعجزتين وبين الميثاق الجواب نعم ، فمن خصائص النبي أنه يُعلم الناس الحكمة ومنها وجوب التقيد بالميثاق.
وكان عيسى يعالج مرضاه بالدعاء لتنمية ملكة الإيمان عند الناس ولتجديد الميثاق والدعوة لتعاهده .
و(عن وهب بن منبه قال : كان دعاء عيسى الذي يدعو به للمرضى ، والزمنى ، والعميان ، والمجانين ، وغيرهم . اللهم أنت إله من في السماء وإله من في الأرض لا إله فيهما غيرك ، وأنت جبار من في السماء وجبار من في الأرض لا جبار فيهما غيرك ، أنت ملك من في السماء وملك من في الأرض لا ملك فيهما غيرك ، قدرتك في السماء كقدرتك في الأرض ، وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء ، أسألك باسمك الكريم ، ووجهك المنير ، وملكك القديم ، إنك على كل شيء قدير . قال وهب : هذا للفزع والمجنون يقرأ عليه ، ويكتب له ، ويسقى ماؤه إن شاء الله تعالى)( ).
ويقصد عيسى بعض المرضى في قراهم ، ويزورهم في بيوتهم ليعالجهم ويتماثلون للشفاء ، ومعها يدعوهم لأمور :
الأول : الإيمان بالله وحده ، ونبذ الشرك .
الثاني : التصديق برسالة عيسى عليه السلام ، وهو من أسباب محاربة الرؤساء له .
الثالث : الميثاق ، ووجوب حفظه والعمل به .
الرابع : البشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : أحكام التوراة وما نسخ في شريعة موسى عليه السلام ، فمن خصائص أحكام الشريعة أنها صالحة لكل زمان ومكان .
الخامسة عشرة : لقد كان عيسى عليه السلام رسولاً من أولي العزم ، وهم نوح ، إبراهيم ، موسى ، عيسى عليهم السلام ، والرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة عشرة : إحياء عيسى عليه السلام لبعض الموتى باذن الله ، وفي خطاب إلى عيسى عليه السلام ، قال تعالى [وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي]( )، أي أن عيسى يخرج الميت من قبره حياً .
ويدل هذا الإخراج على إعادة الحياة للمتبادر من معنى الخروج وفي التنزيل [إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ]( )، ولما ورد على لسان عيسى عليه السلام في القرآن [وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
والنسبة بين هذه الآية وآية الإخراج أعلاه عموم وخصوص مطلق ، فقد يكون الأحياء لميت قبل أن يدفن ، قال الكلبي : كان عيسى يُحْيي الموتَى بـ( يا حَيُّ يَا قَيُّومُ ، أخي عَازَرَ) وكان صديقاً له ، ودعا سام من نوح من قبره فخرج حَيًّا ، ومرَّ على ابن عجوز ميت ، فدعا الله عيسى ، فنزل عن سريره حَيًّا ، ورجع إلى أهله وبقي ووُلِدَ لَهُ ، وبنت العاشر أحياها ، وولدت بعد ذلك . وأما العازر فإنه كان تُوُفِّي قبل ذلك بأيام فدعا الله ، فقام – بإذن الله – وَودَكُه يَقْطُر ، وعاش ، ووُلِدَ له .
وأما ابنُ العجوزِ ، فإنه مر به محمولاً على سريره ، فدعا الله ، فقام ، ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه إلى أهله ، وأما ابنة العاشر فكان أتى عليها ليلة ، فدعا الله ، فعاشت بعد ذلك ، وولد لها . فلما رأوا ذلك قالوا : إنك تُحْيي من كان موتُه قريباً ، ولعله لم يمت ، بل أصابتهم سكتة فأَحْيِ لنا سام بن نوح ، فقال : دلوني على قبره ، فخرجوا وخرج معهم ، حتى انتهى إلى قبره ، فدعا الله ، فخرج من قبره ، قد شاب رأسُهُ ، فقال له عيسى : كيف شاب رأسُك ولم يكن في زمانكم شَيْبٌ؟ فقال : يا رُوحَ اللهِ ، إنك دعوتني ، فسمعت صوتاً يقول : أجِبْ رُوحَ اللهِ ، فظننت أن القيامة قد قامت ، فمن هَوْل ذلك شاب رأسي( ).
وفي إنجيل بوضا (الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي بل بالذي أرسلني ، والذي يراني يرى الذي أرسلني)
والإرسال يدل على التعدد وكثرة الأطراف وهي :
الأول : المرسِل الذي يقوم بارسال غيره .
الثاني : الرسول .
الثالث : موضوع الرسالة .
الرابع : الذين يُرسل إليهم ، سواء كانوا طائفة أو أمة أو جماعة أو دولة .
والمرسِل هو الله عز وجل وهو غير الرسول وهو عيسى .
وهل الميثاق الذي تذكره آية البحث من مادة وموضوع الإرسال ، ومنه البشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي هذا الإنجيل قال بعض اتباع المسيح له : أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه .
السابعة عشرة : طهارة ونقاء وعصمة عيسى عليه السلام وتفضل الله بوقايته وحصانته من شرور الشيطان ، فلم يكن له سبيل عليهما مجتمعين ومتفرقين.
الثامنة عشرة : من معجزات عيسى عليه السلام رفعه الى السماء ، وفي التنزيل [وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا]( )، ولم يرد لفظ (ما قتلوه) في القرآن إلا مرتين وفي الآية أعلاه بخصوص عيسى عليه السلام لتأكيد سلامته من القتل.
التاسعة عشرة : إخبار عيسى للناس بما يدخرون في بيوتهم ، مما لا يعلمه غيرهم .
العشرون : كثرة أتباع عيسى في كل زمان ، وهو معجزة له عليه السلام ، فأكبر نسبة لأهل الملل والأديان في هذا الزمان هو الديانة المسيحية ، ومن بين نحو ستة مليارات ونصف المليار تقريباً مجموع سكان الأرض هناك 2,13 مليار من النصارى أي بنسبة 02،31% و8،1 مليار مسلم أي بنسبة 24% من سكان الأرض .
ثم الديانة الهندوسية 1، 1مليار أي يعادل 15% من سكان الأرض .
ثم الديانة البوذية نحو 500 مليون بوذي ، وعدد أهل الديانة اليهودية نحو 14 مليون يهودي .
وهل يشمل هؤلاء جميعاً الميثاق الذي ذكرته آية البحث ، الجواب نعم ، أما بالقيام ببيانه أو تلقيه بالقبول والرضا ليعم السلام الأرض ، وتعمر بالدعاء وأداء الصلاة ولهج الناس بالحمد لله في مشارق ومغرب الأرض.
من معجزات النبي محمد (ص)
تتصف المعجزة بأمور :
الأول : المعجزة هي الأمر الخارق للعادة ، الذي يأتي أكبر وأعظم من قاعدة السبب والمسبَب .
الثاني : إقتران المعجزة بالتحدي فلا يستطيع فرد أو جماعة أو طائفة الإتيان به ، وإن اجتمعوا .
ومن إعجاز الآية القرآنية قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( ).
ولم يرد لفظ [اجْتَمَعَتْ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وقال تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ) .
الثالث : سلامة المعجزة النبوية من المعارضة ، إذ يعجز سائر الناس عن معارضة المعجزة القرآنية ، والإتيان بما يقابلها سواء في ذات موضوع المعجزة أو غيره ، لبيان إنفراد النبي الذي يبعثه الله عز وجل بعلامة ودلالة على صدق نبوته .
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه جاء بالمعجزات العقلية والحسية ، ليكون التصديق بها من الميثاق الذي تذكره آية البحث .
ومن معاني بيان أهل الكتاب للميثاق والبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جريان المعجزات على يديه لتعضيد نبوته ، وهو من فضل الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً .
وقد ذكرتُ في أجزاء هذا التفسير معجزات كثيرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها عشرات مستقرأة لم تذكر في كتب التفسير والسنة النبوية كمعجزة .
ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قسمين :
الأول : المعجزات العقلية : ومن أظهرها آيات القرآن من جهات :
الأولى : كل آية قرآنية معجزة مستقلة .
الثانية : صلة الآية القرآنية بالآية القرآنية الأخرى معجزة ، بما يدل على أن إعجاز القرآن من اللامتناهي .
الثالثة : الدلالة المتجددة للآية القرآنية في كل زمان معجزة .
الرابعة : حال التهذيب والصلاح التي تترشح عن قراءة آيات القرآن للفرد والمجتمع ، وهو من أسرار وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلوات اليومية الخمس ، وهو من منافع قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الخامسة : الصدور العام في الأحكام ، والتشريع والسنن عن القرآن وآياته .
السادسة : سلامة القرآن من الزيادة والنقصان إلى يوم القيامة ، فليس من هرطقة في الإسلام ، والهرطقة هي التبديل والتغيير في العقيدة ، أو ادخال أمور جديدة عليه لا توافق المبدأ ، والهرطقة مصطلح أقرب إلى الزندقة .
السابعة : بلاغة وفصاحة القرآن ، وإجتماع الإيجاز مع كثرة معاني اللفظ القرآني ، مع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أمي .
الثامنة : مجئ القرآن بعلوم الغيب ، وتحقق مصاديق منها كما في الروم ، قال تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ…] ( ).
التاسعة : لم يكن التحدي في القرآن بالإخبار عن نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وظهور دولته ، قال تعالى [لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ]( ).
وقد ظهرت في الأزمنة المعاصرة نظرية الإنفجار العظيم التي تتعلق بعلم الفيزياء الفلكية ، لبيان كيفية تكون ونشأة الكون ، وقيل هي أنه بدأ من نقطة مفردة شديدة الكثافة أخذت تتسع مدة ( 13،8) مليار سنة واستمرت بالتبريد والإستقرار حتى انتهت إلى النجوم والكواكب ، ولم تثبت هذه النظرية ومدة السنين أعلاه مع أنها لا تبعد كثيراً عن آيات القرآن التي نزلت قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة .
والكتب السماوية الأخرى ، ولكن نشأت معالم الكون بالكاف والنون ، وليس على نحو التدريج وحده في الأحقاب المتعاقبة في الجرم الواحد ، وقد جاءت آيات قرآنية متعددة في بيان كيفية نشأت الأكوان ، منها قوله تعالى [أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ] ( ) .
وقوله تعالى [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ] ( ).
وقوله تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] ( ).
الثاني : المعجزات الحسية , وهي كثيرة ومتجددة , ومتعددة في الموضوع والنفع , ومنها :
الأولى : إنشقاق القمر ودلائل الإنذار فيه ، قال تعالى [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ] ( ).
الثانية : الإسراء إلى بيت المقدس والمعراج إلى السماء في ليلة واحدة .
الثالثة : إعلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبوته في مكة حيث البيت الحرام ، وإنحراف الكفار بتقديسهم الأصنام ، ومع وجود شأن وأثر لليهودية والنصرانية ، وأيضاً للمجوسية والمانوية في المجتمعات .
وتفرعت المانوية عن ديانة البابليين الذين كانوا يقدسون الكواكب .
وتنسب المانوية إلى ماني بن فاتك الذي ولد سنة (216) م في مدينة بابل من العراق .
ثم رحل في سن الرابعة مع والده إلى ميسان جنوب العراق ، وهناك نشأ ماني على مذهب المندائية ، وفي سن الحادية والعشرين مال إلى الديانة المسيحية وشغله صلب السيد المسيح ، وما لاقاه من الأذى ، وما وقع عليه من الظلم , ثم عاد مع والده إلى بابل، وفي سن الرابعة والعشرين أعلن ماني بن فاتك نبوته وأن الوحي والملاك نزل عليه من عند الله ، وانه نبي النور ، والمنبر العظيم .
وأدعى أنه مخلص الإنسانية ، وأنه خاتم الأنبياء ، وبعث تلامذته الاثني عشر إلى البلدان لنشر دعوته .
إلى ان تم صلب ماني على أحد أبواب مدينة جنديسابور في الأهواز من قبل السلطان الفارسي (وفي أيام سابور ظهر ماني الزنديق وادعى النبوة، وتبعه خلقٌ كثير، وهم الذين يسمون المانوية.) ( ).
وقال أبو الفداء أمر (أنو شروان بقتل مردك، فقتل بين يديه، وأخرج وأحرقت جيفته، ونادى بإباحة دماء المردكة، فقتل منهم في ذلك اليوم عالم كثير، وأباح دماء المانوية أيضاً، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وثبّت ملة المجوسية القديمة .
وكتب بذلك إلى أصحاب الولايات، وقوي الملك بعد ضعفه، بإدامة النظر وهجر الملاذ، وترك اللهو، وقوي جنده بالأسلحة والكراع، وعمر البلاد، ورد إلى ملكه كثيراً من الأطراف التي غلبت عليها الأمم بعلل وأسباب شتى) ( ).
ثم حرمت المانوية في أوربا بقرار من البابا (ليون العظيم )سنة 445 م ثم صدر القرار من الأمبراطور جوستان سنة 526 م باعدام جميع اتباع المانوية خشية على المسيحية منها .
وانتمى أفراد من أهل الجزيرة العربية قبل الإسلام إلى المانوية لتجارتهم مع الحيرة ، وصارت تسمى أيضاً الزندقة ، إذ لا أصل لإدعاء ماني النبوة ، وباطل ما أملاه على أتباعه ، وان كان أخذ بعضه عن الديانات الأخرى ، وعن البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لذا جاءت آية البحث بالتأكيد على الميثاق ، ووجوب بيانه للناس ، لمنع الإفتراء وأدعاء النبوة ، إذ أن التخلف في هذا البيان مع وجوبه يغري بعض الذين في قلوبهم مرض للإفتراء وإدعاء ما ليس بحق ، ومن فضل الله عز وجل رمي هؤلاء بالخزي ، فلا ينحصر تثبيت عقيدة التوحيد ببيان طائفة من الناس للميثاق والعهد الذي أخذه الله عز وجل عليهم ، إنما هناك آيات وبراهين متجددة لجذب الناس إلى النبوة والتنزيل ، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
الرابعة : حنين الجذع ، وسلام الحجر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : نبع الماء بين أصابع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتكثير الماء ، في مناسبات متعددة منها في الحديبية ، ومنها في ماء عين تبوك ، ومنها في بئر بقباء( ) .
السادسة : كفاية الطعام القليل للجماعة الكثيرة بدعاء وبركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (عن جابر بن عبد الله قال: كنا يوم الخندق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعرضت كدية شديدة .
فجاؤوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: هذه كدية من الجبل عرضت .
فقال: ” أنا نازل ” ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المعول فضرب فعادت كثيبا مهيلا.
فقلت يا رسول الله، ائذن لي إلى البيت، فأذن لي فقلت لامرأتي: إني رأيت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمصا شديدا ما في ذلك صبر فعندك شئ ؟
فأخرجت لي جرابا فيه صاع من شعير ولنا عناق فذبحتها وطحنت ففرغت إلى فراغي وقطعتها في برمتها والعجين قد انكسر والبرمة بين الاثافي قد كادت أن تنضج ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبمن معه، فجئته فساررته فقلت: اطعم لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان قال ” كم هو .
فذكرت له، قال: ” كثير طيب “، قل لها: لا تنزع البرمة والخبز من التنور حتى آتيكم واستعر صحافا ” ثم صاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال: ” يا أهل الخندق إن جابرا صنع لكم سؤرا فحيهلا بكم “.
فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله عز وجل فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقدم الناس حتى جئت امرأتي .
فقلت: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمهاجرين والانصار ومن معهم .
فقالت: هل سألك ؟
قلت: نعم .
فقالت: الله ورسوله أعلم، قال: فكشفت عني غما شديدا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ” ادخلوا ولا تضاعفوا فأخرجت له عجينا فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك .
ثم قال: ” يا جابر، ادع خبازة فلتخبز معك واقدح من برمتكم ولا تنزلوها ” .
وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبرد ويغرف اللحم ويخمر هذا ويخمر هذا فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين ويعود التنور والقدر أملا ما كانا فكلما فرغ قوم جاء قوم حتى صدر أهل الخندق وهم ألف حتى تركوه، وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليختبز كما هو ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” كلي وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة ” فلم نزل نأكل ونهدي يومنا) ( ).
السابعة : نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بطش قريش مع إرادتهم قتله والتخطيط لهذا القتل .
الثامنة : حسن قيادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمعارك الدفاع وامتناعه عن الفرار مع شدة هجوم الغزاة المشركين .
التاسعة : تهيئة الأنصار في المدينة مقدمة لهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها .
العاشرة : هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذات الليلة التي أراد المشركون اغتياله وقتله فيها .
الحادية عشرة : عدم مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا إلا بعد تمام نزول القرآن .
واسأل الله عز وجل أن يوفقني لأصدار جزء مستقل أو أكثر عن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة .
ترى ما هي النسبة بين الميثاق الذي تذكره آية البحث وبين معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب من وجوه :
الأول : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إحياء للميثاق .
الثاني : بيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لميثاق الذين أوتوا الكتاب .
الثالث : تأكيد البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي وردت على لسان الأنبياء السابقين .
الرابع : تكافل الميثاق والبشارات والمعجزات في تثبيت عقيدة التوحيد في الأرض ، ومنع القتال والإرهاب .
الخامس : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرآة للميثاق ، وبيان عملي متجدد له .
قوله تعالى [فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ]
تبين الآية قانوناً وهو إظهار الميثاق والبشارة بالنبوة والتنزيل حق ، وليس من ثمن يعادله ، فكل ثمن يطمع فيه الإنسان مقابل إخفاء الميثاق هو ضئيل ولا قيمة له ، ويكون سبباً للحرمان من الأجر والثواب الذي يترشح عن تعاهد الميثاق ، وطريقاً إلى البلاء والعذاب .
وتتضمن الآية في دلالتها ذم الحسد وكتمان الحق ، والنكوص عن وجوب التبليغ خوفاً من فقدان المنافع الشخصية والرياسات .
وتبين الآية أنها لا اعتبار لها ، وهي إلى زوال ، فمن معاني قوله تعالى [فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ] الوعيد بتلف وزوال هذه المنافع.
ومن إعجاز القرآن أن كلاً من المدح على العمل الصالح ، والذم على الفعل القبيح ينمي ملكة التقوى ، والحفاظ على المواثيق والعهود ، والتفقه في الدين .
وهل في الآية تبكيت وإنذار ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : وجوب الحفاظ على الميثاق ، وعدم إخفائه .
الثانية : دلالة الآية على حدوث كتمان ، وإخفاء الميثاق طواعية وبالإختيار .
الثالثة : الخسران وعدم تحقق أي ربح في إخفاء الميثاق ، وعدم بيان البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم يرد لفظ [بِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ] ( ) في القرآن إلا في آية البحث .
ومن إعجاز الآية إخبارها عن الشراء والثمن بصيغة الفعل الماضي [وَاشْتَرَوْا بِهِ] بينما وردت خاتمة الآية بصيغة المضارع مما يدل على أن الذي يشترون أعم في موضوعه ، وعدم انقطاعه , والإنذار يمنع منه ولو على نحو الموجبة الجزئية.
وقد ورد لفظ [يَشْتَرُونَ]خمس مرات في القرآن ، واحدة في مدح طائفة من أهل الكتاب في قوله تعالى [وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ] ( ) أما الأربعة الأخرى فجاءت بصيغة الذم .
وآية البحث واحدة منها ، أما الثلاثة الأخرى فهي :
الأولى : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
الثالثة : قوله تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ]( ).
قانون الصبر بالإتعاظ
من معاني الجمع بين آية البحث والآية السابقة لها حضّ المسلمين على تحمل الأذى ، والصبر على البلاء ، إذ تدعوهم آية السياق إلى الصبر والتقوى ، وكل فرد منها يدفع البلاء ، ويعين العبد على أداء وظائفه العبادية ، ومنها الصلاة والزكاة والصيام .
وتدعو الآية المؤمنين إلى الإتعاظ من الأمم السابقة ،من جهات :
الأولى : لزوم بيان أحكام الشريعة .
الثانية : الإجتهاد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) .
الثالثة : التعاون والمناجاة في عمل الصالحات وتدارس القرآن .
الرابعة : بيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية ، من غير أن تصل النوبة إلى الإقتتال ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) .
فان قيل قد وقعت معارك في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين ، والجواب من جهات :
الأولى : سبق الدعوة النبوية بالحكمة والموعظة الحسنة قبل واثناء وبعد وقوع هذه المعارك ، فكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الناس للإسلام، وهو في مكة ثلاث عشرة سنة .
ويدل عليه الإطلاق المكاني والزماني بصبغة وصيغة الدعوة الإسلامية بقوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] ( ) .
والآية أعلاه من الميثاق والعهد بين الله والأنبياء ، وهل تنهى عن الإرهاب , الجواب نعم .
الثانية : لم يهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا في الليلة التي أراد المشركون فيها قتله في فراشه .
فان قلت لماذا لم يكتف بمغادرة فراشه إلى مكان آخر تلك الليلة ، والجواب تدل الوقائع والقرائن على عزم المشركين على قتله في الليل أو النهار ، غيلة أو علانية ، فاضطر إلى الهجرة ، ومن الأدلة على هذا العزم أنهم جعلوا يومئذ مائة ناقة لمن يأت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حياً أو ميتاً .
(وقال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار ثلاثا ومعه أبو بكر، وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن رده عليهم) ( ).
فطمع بعض الرجال والفرسان في الجائزة ، وخرجوا في الجهات الأربعة حول مكة يتبعون الأثر .
ومنهم سراقة بن مالك بن جعشم الذي استطاع أن يدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه يومئذ بعد أن علم أنه توجه إلى يثرب .
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال (اللهم أكفنا سراقة، فساخت قوائم فرسه فصاح: يا ابن أبي قحافة، قل لصاحبك أن يدعو الله بإطلاق فرسي، فلعمري لئن لم يصبه مني خير لا يصبه مني شر.
فلما رجع إلى مكة خبرهم الخبر فكذبوه، وكان أشدهم له تكذيبا أبو جهل، فقال سراقة:
أبا حكم والله لو كنت شاهداً … لأمر جوادي حيث ساخت قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمداً…رسول وبرهان فمن ذا يكاتمه)( ).
الثالثة : لا يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للميدان إلا عندما يعلم مجئ جيوش المشركين واصرارهم على القتال .
الرابعة : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينادي قبل بدء القتال (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) وهذا القول معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على صبغة السلم في رسالته والنفرة من سفك الدماء ، والتي تتجلى بقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وهل الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والحجة من البيان الذي تذكره آية البحث [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ] الجواب نعم ، فعندما تتخلف طوائف من الناس عن وظائفها في الدعوة إلى الله ، وذكر البشارة والإنذار يتولى المؤمنون هذه الدعوة بصبر وتقوى .
وفي سورة المؤمنون والتي تسمى سورة الفلاح لإبتدائها بقوله تعالى[قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ] ( )وردت خصال حميدة لصفاتهم منها تعاهد الميثاق والعهد مطلقاً ، قال تعالى [وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ] ( ) .
لقد اتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الصبر جلباباً ، وهل كان إتعاظهم مستقرأ من الأمم السابقة على نحو الحصر .
الجواب إنما يقتبسون الصبر من آيات القرآن أيضاً ، والمواثيق الإلهية من سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين ومنهاج النبوة وقواعد التنزيل وقصص الأمم السابقة ، قال تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ]( ) .
ويمكن تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الصابر).
قانون انتشار الأنبياء في عموم الأرض
لم يخلق الله عز وجل آدم إلا بعد أن أخذ الميثاق عليه وعلى ذريته ذكوراً وأناثاً في عالم الذر ، ولم يخرج آدم وحواء من الجنة إلا بعد أن أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عز وجل عنها أشد النهي بقوله تعالى [وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ) ونعتهما بالظلم من شدة النهي في المقام .
ولم يرد لفظ [فَتَكُونَا] في القرآن إلا مرتين( ) ، وكلاهما في ذات قصة آدم وحواء ، وهل هذا التكرار من شدة النهي أم أنه إخبار للنبي محمد والمسلمين عن واقعة .
الجواب هو الأول خاصة مع تعدد الموضوع والدلالة بلحاظ آيات السياق ، ففي الآية (34) من سورة البقرة بيان لكفر وجحود إبليس وامتناعه عن السجود لآدم عليه السلام ، لما في قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ] ( ) ومع هذا فحينما هبط آدم وحواء إلى الأرض كان آدم رسولاً نبياً لبيان مصداق لقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ويتجلى هذا المصداق في المقام بأن الخلافة ملازمة لوجود الإنسان في الأرض ، وهي سبب لإستدامة الحياة في الأرض من وجوه :
الأول : قانون النبوة ركن ومرتكز للحياة .
الثاني : قانون تجدد ميثاق عالم الذر بوجود النبي .
الثالث : قانون وراثة النبوة من بعد آدم .
ومع أن قابيل بن آدم قتل أخاه هابيل ، وفقد كل منهما النبوة أما هابيل فقد فارق الدنيا ، وأما هابيل فان قتله أخاه حجب عنه النبوة [فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ] ( ), فان شيث بن آدم ورث النبوة وبيان الميثاق .
ولم يرد لفظ النادمين أو النادمون في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان هول الجريمة التي قام بها ، نعم تبين الآية قانوناً وهو أن سفك الدم يورث الندم ، وأنه ليس من قاتل إلا ويندم على فعله ، ويقول مع نفسه لو عادت الأيام لما أقدمت على القتل ، والندم في الآخرة أشد وأطول.
نعم النسبة بين النادمين عامة وبين الذين يندمون على فعل مخصوص عموم وخصوص مطلق ، ففعل المعصية مجلبة للندم .
ومن خصائص الخلافة في الأرض فتح الله عز وجل باب التوبة للناس .
ولقد نال مرتبة النبوة بعد آدم ابنه شيث وهو هبة الله ، وعندما كثر الناس ، وانتشروا في أرجاء الأرض تفضل الله عز وجل وبعث لهم الأنبياء ، ليصلوا إلى القرى ويقوموا بأشخاصهم بالتبليغ ، قال تعالى [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] ( ) إلى جانب الآيات الكونية التي هي مدد يومي حاضر للأنبياء .
وقال تعالى [وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ] ( ) .
و يعني أنه في كل قرية أو بلدة وفي كل زمان هناك نبي أو تابع لنبي يقوم بتبليغ أهلها ، فقد تكون هناك فترة بين الأنبياء في بلدة مخصوصة ، أنظر إلى ما قالت قريش [مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ] ( ).
وفي الآية أعلاه ورد عن ابن عباس (يعني: النصرانية قالوا: لو كان هذا القرآن حقا أخبرتنا به النصارى) ( ).
كما يأتي التبليغ بواسطة أصحاب النبي ، وتنقلهم في الأمصار بقصد الدعوة إلى التوحيد .
وقد بعث عيسى عليه السلام رسلاً للتبليغ ، قال تعالى [وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ] ( ) أي الرسل الذي بعثهم رسول الله عيسى بن مريم ، إذ بعث (رسولين من الحواريين إلى أنطاكية،
فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات وهو حبيب صاحب (ياس).
فسلما عليه .
فقال الشيخ : من أنتما .
قالا : رسولا عيسى يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرَّحْمن. فقال : أمعكما آية .
قالا : نعم .
نشفي المرضى ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله.
فقال الشيخ : إنّ لي ابناً مريضاً صاحب فراش منذ سنين. قالا : فانطلق بنا إلى منزلك نتطلع حاله.
فأتى بهما إلى منزله .
فمسحها ابنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحاً .
ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على يديهما كثيراً من المرضى .
وكان لهم ملك يقال له سلاحين .
وقال : وهب اسمه ابطيحيس .
وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام .
قالوا : فانتهى الخبر إليه فدعاهما .
فقال لهما : من أنتما .
قالا : رسولا عيسى. قال : وما آيتكما .
قالا : نبرئ الأكمه والأبرص .
ونُشفي المرضى بإذن الله. قال : وفيم جئتما .
قالا : جئناك ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يُبصر إلى عبادة من يسمع ويُبصر. فقال الملك : أو لنا إله سوى آلهتنا .
قالا : نعم من أوجدك وآلهتك. قال : قوما حتى أنظر في أمركما. فتتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما في السوق)( ).
(قال مقاتل : هما تومان وطالوس { فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } يعني : قويناهما بثالث وهو شمعون) ( ) .
وكان حبيب النجار من رسل عيسى عليه السلام .
(قال ابن إسحاق : وكان من بعث عيسى بن مريم عليه السلام من الحواريين والأتباع الذين كانوا بعدهم في الأرض : بطرس الحواري ومعه بولس وكان بولس من الأتباع ولم يكن من الحواريين إلى رومية وأندرائس ومنتا إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس وتوماس إلى أرض بايل من أرض المشرق وفيلبس إلى أرض قرطاجنة وهي أفريقية ويحنس إلى أفسوس قرية الفتية أصحاب الكهف ويعقوبس إلى أوراشلم وهي إيلياء قرية بيت المقدس وابن ثلماء إلى الأعرابية وهي أرض الحجاز وسيمن إلى أرض البربر ويهوذا ولم يكن من الحواريين جعل مكان يودس) ( ).
ومن الأنبياء من لم يرد اسمه في القرآن، ولكن ورد ذكره في الحديث النبوي ، فمثلاً هناك نبي من بني عبس وهو خالد بن سنان ، الذي ذكره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقال (نبي ضيعه قومه)( ).
وقد ورد ذكر لتلامذة عيسى عليه السلام في كتب التأريخ ، كما ذكرت الأناجيل الأربعة أسماء الرسل الذين بعثهم ، قال ابن خلدون وأختار عيسى (تلامذته الاثنى عشر سمعان بطرس وأخوه اندراوس ويعقوب بن زيدي وأخوه يوحنا وفيلبس وبرتولوماوس وتوما ومتى العشار ويعقوب ابن حلفا وتداوس وسمعان القنانى ويهوذا الاسخريوطى وشرع في اظهار المعجزات ثم قبض هيردوس الصغير على يوحنا وهو يحيى بن زكريا لنكيره عليه في زوجة أخيه فقتله ودفن بنابلس ثم شرع المسيح الشرائع من الصلاة والصوم وسائر القربات وحلل وحرم وأنزل عليه الانجيل وظهرت عليه يديه الخوارق والعجائب وشاع ذكره في النواحى واتبعه الكثير من بنى اسرائيل)( ).
وكان جماعة الكهنوت قد بعثوا العيون في طلب عيسى عليه السلام ، فأخذوا شمعون وهو من الحواريين ، فتبرأ منه فتركوه ، وجاء يهوذا الأسخر يوطي نافق وجحد ، فأوشى بعيسى عليه السلام ، وبايعهم على الدلالة عليه بثلاثين درهماً ، وقيل هو الذي ألقى الله عليه شبه عيسى فتم صلبه .
وفي انجيل متى (10: 2 و اما اسماء الاثني عشر رسولا فهي هذه الاول سمعان الذي يقال له بطرس و اندراوس اخوه يعقوب بن زبدي و يوحنا اخوه
10: 3 فيلبس و برثولماوس توما و متى العشار يعقوب بن حلفى و لباوس الملقب تداوس
10: 4 سمعان القانوي و يهوذا الاسخريوطي الذي اسلمه
10: 5 هؤلاء الاثنا عشر ارسلهم يسوع و اوصاهم قائلا الى طريق امم لا تمضوا و الى مدينة للسامريين لا تدخلوا
10: 6 بل اذهبوا بالحري الى خراف بيت اسرائيل الضالة
10: 7 و فيما انتم ذاهبون اكرزوا قائلين انه قد اقترب ملكوت السماوات
10: 8 اشفوا مرضى طهروا برصا اقيموا موتى اخرجوا شياطين مجانا اخذتم مجانا اعطوا
10: 9 لا تقتنوا ذهبا و لا فضة و لا نحاسا في مناطقكم
10: 10 و لا مزودا للطريق و لا ثوبين و لا احذية و لا عصا لان الفاعل مستحق طعامه
10: 11 و اية مدينة او قرية دخلتموها فافحصوا من فيها مستحق و اقيموا هناك حتى تخرجوا
10: 12 و حين تدخلون البيت سلموا عليه
10: 13 فان كان البيت مستحقا فليات سلامكم عليه و لكن ان لم يكن مستحقا فليرجع سلامكم اليكم) ( ).
(26: 14 حينئذ ذهب واحد من الاثني عشر الذي يدعى يهوذا الاسخريوطي الى رؤساء الكهنة
26: 15 و قال ماذا تريدون ان تعطوني و انا اسلمه اليكم فجعلوا له ثلاثين من الفضة
26: 16 و من ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه) ( ).
وكان موسى عليه السلام أدم البشرة أي شديد السمرة ، كما ورد في حديث أم هانئ ، قالت (بات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة أسري به في بيتي، ففقدته من الليل، فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن جبريل، عليه السلام، أتاني فأخذ بيدي فأخرجني، فإذا على الباب دابة دون البغل وفوق الحمار، فحملني عليها، ثم انطلق حتى انتهى بي إلى بيت المقدس، فأراني إبراهيم يشبه خلقه خلقي، ويشبه خلقي خلقه، وأراني موسى آدم طويلا سبط الشعر، شبهته برجال أزد شنوءة، وأراني عيسى ابن مريم رَبْعة أبيض يضرب إلى الحمرة، شبهته بعروة بن مسعود الثقفي، وأراني الدجال ممسوح العين اليمنى، شبهته بقطن بن عبد العزى) ( ).
وتدل آيات القرآن على أن الأنبياء بعثوا في أرجاء الأرض ، فحيثما كانت هناك كثافة من السكان فان الله عز وجل يرأف بهم ، ويبعث لهم رسولاً إن شاء .
وفي بعثة يونس عليه السلام وعدد القوم الذين بعثه الله عز وجل إليهم بعد نجاته من الحوت ، ورد (عن أُبيّ بن كعب قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون}( ) قال : يزيدون عشرين ألفاً)( ).
وكأنه لبيان متوسط عدد أفراد الطائفة أو الأمة الذين يبعث الله لهم الرسول ، مع أنه من الأنبياء من يبعث إلى أسرته وهو لا يمنع من موضوعية ومنافع هذه البعث لما هو أعم من الأسرة والأصحاب.
ومع كثرة الأنبياء وأن عددهم هو مائة وأربعة وعشرون ألفاً فانه لم يكن عدد الرسل من العرب إلا أربعة ، وهم :
الأول : هود عليه السلام .
الثاني : صالح عليه السلام .
الثالث : شعيب عليه السلام .
الرابع : الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن أبي أمامة (قلت : يا نبي الله كم الأنبياء؟
قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً) ( ).
وفيه أمارة على كثرة القوميات والأمم التي ينتمي إليها الأنبياء .
ومجموع الأنبياء الذين ذكر القرآن أسماءهم خمسة وعشرون نبياً ورسولاً ، فلابد أن الأنبياء الآخرين منتشرون في الأرض لإقامة الحجة على الناس ، وهدايتهم إلى الإيمان .
ترى لماذا ذكر القرآن عدداً من أنبياء بني إسرائيل على نحو الخصوص ، فيه وجوه:
الأول : لقد ذكر القرآن أسماء أنبياء من الأمم السالفة مما قبل إسرائيل وهو إسحاق ، ومنهم إبراهيم الذي هو أبو إسحاق ، ومنهم إسماعيل ، وهو أخو إسحاق ، قال تعالى [مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ) كما ذكر القرآن آدم وهو أبو البشر ، وذكر نوحاً وعيسى .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قال : يا أبا ذر أربعة سريانيون : آدم ، وشيث ، ونوح ، وخنوخ وهو إدريس ، وهو أوّل من خط بقلم) ( ).
الثاني : كانت منطقة سواحل البحر الأبيض المتوسط وبلاد الرافدين والشام ومصر والجزيرة محل عدد من الحضارات ، وعاشت وتكاثرت فيها أقوام ووقعت فيها معارك وحروب طاحنة .
الثالث : التشابه في قصص أنبياء منطقة بلاد الشام ومصر والجزيرة مع قصص الأنبياء في أمصار الأرض الأخرى .
الرابع : إرادة العبرة والموعظة التي تكفي فيها قصص الأنبياء الذين ذكرهم القرآن ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
الخامس : لقد كان العرب يعتنون بالقصة والرواية ، وهناك أفراد مختصون بها يسمون القصاصين ، وكانت قصص هؤلاء الأنبياء معروفة عند العرب .
السادس : وجود اليهود والنصارى بين ظهراني العرب ، ومن العرب من تهود أو تنصر ، فاقتبس العرب قصص أنبياء بني إسرائيل منهم ، وكذا من عرب اليمن من تهود .
لذا في قوله تعالى [وَالَّذِينَ هَادُوا] ( ) أي دخلوا في اليهودية ، يقال : هاد يهود فهو هائد .
وذكر النصرانية والدخول إليها ، ومن معاني [الصَّابِئِينَ]في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى….] ( ) لغة من صبأ أي خرج من دين وعدل عنه .
وهناك عدد من أبناء الأنصار وهم عرب لأب وأم من الأوس والخزرج تهودوا ، وعندما غادر بنو النضير المدينة خرجوا معهم .
(عن سعيد بن جبير في قوله { لا إكراه في الدين }( ) قال : نزلت في الأنصار خاصة .
وكانت المرأة منهم إذا كانت نزورة أو مقلاة تنذر : لئن ولدت ولداً لتجعلنه في اليهود تلتمس بذلك طول بقاءه ، فجاء الإِسلام وفيهم منهم ، فلما أجليت النضير قالت الأنصار : يا رسول الله أبناؤنا وإخواننا فيهم ، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت { لا إكراه في الدين } فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم ، فأجلوهم معهم) ( ).
السابع : بيان إعجاز القرآن بأن يأتي بقصص أنبياء معدودين لتكون مرآة لقصص مائة وأربعة وعشرين ألف نبي ، وبما يفيد الكفاية في الإتعاظ والتدبر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
الثامن : التخفيف عن المسلمين بالجمع بين قصص الأنبياء المحدودة والغايات الحميدة والمنافع العظيمة منها .
وقد تقدم أنه ورد ذكر ثمانية عشر نبياً في موضع واحد من القرآن( ) .
التاسع : لم يبق من أتباع الأنبياء إلا اليهود والنصارى ، ومن بقي على حنيفية إبراهيم عليه السلام ، كما ذكر القرآن المجوس والصابئين في آية واحدة مع المسلمين واليهود والنصارى ، ومعهم الذين أشركوا ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).