المقدمــــــة
الحمد لله الذي جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وفيه شهادة سماوية متجددة على التأريخ وعلوم الغيب ، وإخبار عن مجئ الأنبياء بالمعجزة فلا تصل النوبة بهم إلى قصد القتال ، وطلب الغزو ، وكانت معجزات الأنبياء حسية ، ورزق الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم المعجزات العقلية والحسية .
وقد بينت في هذا السِفر المبارك أن كل آية من القرآن على وجوه مباركة :
الأول : إنها معجزة عقلية بذاتها .
الثاني : المضامين القدسية للآية القرآنية ، قال تعالى [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ]( ).
الثالث : الغايات الحميدة والمقاصد السامية للآية القرآنية .
الرابع : الإرتقاء البلاغي والإعجاز البياني في الآية القرآنية .
الخامس : التكامل في التشريع القرآني ، وملاءمته لكل زمان بما يمنع الغرر والضرر والفتنة ، وسيأتي مزيد كلام في الجزء الثاني والعشرين بعد المائتين من هذا السِفر إن شاء الله( ).
السادس : العلوم المستنبطة من صلة الآية القرآنية بالآيات( )، وصلتها مع كل آية من آيات القرآن .
وإعجاز هذه الصلة توليدي في الموضوع والمسائل المستقرأة والقوانين المستنبطة منها ، ليتجلى قانون وهو معجزات القرآن من اللامتناهي .
وكانت في كل معركة من معارك الإسلام معجزات متعددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقانون (لم يغز النبي محمد (ص) أحدا) سور الموجبة الكلية في هذه المعارك ، وفي حال السلم.
وفيه حجة ومرآة أمان في زمان العولمة .
وتتضمن الشواهد من القرآن والسنة القولية والفعلية والدفاعية والتدوينية مصاديق لهذا القانون , والملازمة بين الإسلام والسلم اسماً ومسمى أمس واليوم وغداً.
ونقوم بتنضيد وطبع أكثر أجزاء هذا التفسير المتعاقبة على نفقتنا الخاصة مع أنه من أفضل موارد الخمس والزكاة ومبرئ للذمة ، وفيه النماء والبركة [لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ] ( ).
وهل من صلة بين نقل الهدهد كتاب سليمان وايصاله لذات الشخص وبين علوم الإنترنت من هذا الزمان ، الجواب نعم .
(عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِي وَلا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَة إلا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخيرِ وتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَم اللهُ) ( ).
وفي قوله تعالى [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ) قال ابن عباس (ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشقّ عليه من هذه الآية ، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : لقد أسرع إليك الشيب، فقال : شيبتني سورة هود وأخواتها) ( ).
والمراد من أخواتها أي السور المشابهة التي تذكر مواطن وأهوال يوم القيامة ، وشدة عذاب الكافرين يومئذ ، وأسباب الهمّ والأحزان التي تجعل الشيب يسرع إلى الإنسان ، ومن هذه السور هي :
الأولى : سورة الواقعة .
الثانية : سورة المرسلات .
الثالثة : سورة عم يتساءلون.
الرابعة : سورة التكوير .
الخامسة : سورة الإنفطار .
وعن ابن عباس قال (ألظ( ) رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الواقعة والحاقة وعم يتساءلون والنازعات وإذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت فاستطار فيه الفقر فقال له أبو بكر : قد أسرع فيك الفقر ، قال : شيبتني هود وصواحباتها هذه) ( ).
روي عن الإمام الباقر عليه السلام (أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا أكبر منك مولدا وأنت خير مني وأفضل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبلي) ( ).
كما روي (عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال قال اصحابه يعني عجل إليك الشيب يا رسول الله قال شيبتني هود واخواتها) ( ).
وقال الذهبي عن الدارقطني (سمعت أبا سهل بن زياد، سمعت موسى بن هارون يقول في حديث محمد بن غالب، عن الوركاني، عن حماد الابح، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عمران بن حصين: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” شيبتني هود وأخواتها : إنه حديث موضوع.
قلت: يريد: موضوع السند لا المتن) ( ).
ولكن الحديث روي بطرق متعددة ، فمثلاً إذا كان حديث عكرمة عن أبي بكر ضعيفاً بالإرسال( )، لأن عكرمة لم يسمع الحديث من أبي بكر ، وإذا كانت بعض طرق الحديث معتلة بخصوص بعض الرواة ، وورودها بكيفية مختلفة ، فلا يعني هذا أن هذا الحديث المشهور ضعيف .
الحمد لله الذي هو خالق ومالك وملك ونور السموات والأرض ، له المشيئة التامة ، لا تستعصي عليه مسألة ، وتعجز الخلائق عن إحصاء آيات العظمة والسلطان المطلق التي تقع بمشيئته ، وتكون في الدقيقة الواحدة ، وهي رحمة بالخلائق .
فمن معاني قوله تعالى [وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا] ( ) ليس من أحد يشارك الله في الإلوهية ، ومن الجحود القول بتعدد الآلهة ، والله هو الغني لا يحتاج ولياً يدفع عنه ، فهو سبحانه المستحق للحمد وحده .
والقرآن كتاب التوحيد ، وآياته دعوة سماوية للتنزه عن عبادة الأصنام من غير حاجة للغزو ، ولكن المشركين هم الغزاة.
وقال الإمام علي عليه السلام (عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم وحل العقود) ( ).
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ..] ( ).
لذا جمع قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) الشكر لله مع الإقرار بالتوحيد ، ونفي الشريك له سبحانه ، وأوجب الله عز وجل قراءتها سبع عشرة مرة على كل مسلم ومسلمة في سورة الفاتحة في ركعات الصلاة اليومية الواجبة وجوباً عينياً ، وفيه مسائل:
الأولى : الحرب الشخصية على الشرك وعبادة الأوثان من غير أن تصل النوبة لقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغزو ، فقد كانت الأصنام منصوبة في البيت الحرام ، وفي كل بيت تقريباً في الجزيرة ، فجاءت تلاوة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) طرداً لها ، وبعثاً للنفرة منها ، ودعوة لكسرها .
الثانية : من بديع صنع الله مجئ الآية أعلاه بعد البسملة في سورة الفاتحة ، لتكون البسملة واقية لها وللناطقين بها ، وهو الذي تجلى صدقه في توالي وتعاقب الأيام والسنين .
الثالثة : وجوب إجهار المسلمين بقراءة الفاتحة في صلاة الصبح والمغرب والعشاء لتنفذ هذه الآية إلى الأسماع ، وتملي على الناس التفكر والتدبر في معانيها .
الرابعة : يمكن تسمية هذه الآية : آية الحمد والتوحيد ، وليس الحمد وحده ، وتبين الآية أموراً :
الأول : تفقه المسلمين في المعارف الإلهية .
الثاني : أنهم أقروا وآمنوا بالتوحيد .
الثالث: إدراك المسلمين للزوم الحمد لله عز وجل على وحدانيته ، وعلى النعم المترشحة عن التوحيد .
الخامسة : هذه الآية مجلبة للخير والبركة ، وهي من وسائط المعرفة التي تقرب الناس إلى الله ، وتكون سبباً لحبه لهم ورضاه عنهم ، وقد أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) .
السادسة : بيان قانون من الإرادة التكوينية ، وهو تساوي الخلائق في العبودية لله عز وجل ، فيلتقي فيها الملائكة والجن والإنس وغيرهم ، أما التفاضل والإرتقاء في سلّم العبودية فهو أمر آخر ، وهو يتعلق أيضاً بسنخية الخلق وبالإجتهاد بالعبادة ، قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
وهل قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] من التقوى أم أنه مقدمة للتقوى ، الجواب إنه منهما معاً ، لأن التقوى من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
ولقد أغاظ قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( )، كفار قريش خاصة وأنهم يقولونه بالتسليم بأنه كلام الله وأن التنزيل والوحي على قلب النبي مستمر.
وإذا كان قول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]يتضمن الإشارة والتعريض بالذين أشركوا بالله ، فان آيات أخرى نزلت بعدها فيها تصريح من جهات :
الأولى : ذم الذين أشركوا .
الثانية : تقبيح أفعال الكافرين ، قال تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ]( ).
الثالثة : الوعيد بخزي وعذاب الكافرين يوم القيامة ، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
ولم يذكر القرآن بالذم أسماء أشخاص معاصرين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سوى عمه أبي لهب ، قال تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ] ( ).
ومن خصائص آيات القرآن وصولها لشغاف القلوب ، وعدم وجود مانع يحول بين الإنسان والتفكر فيها وإدراك أنها حق وصدق ، فصار رؤساء الشرك بين أمور :
الأول : الإيمان واتباع الرسول ، والتقيد بأحكام الشريعة ، وأداء الفرائض العبادية ، وإجتناب ما نهى الله عنه كالزنا والربا وشرب الخمر .
الثاني : الإنتظار برهة من الزمن حتى يتجلى ميل واختيار الناس ، كما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يطلب من رؤساء قريش أن يخلّوا بينه وبين عامة الناس ، وهذا الطلب صدر أيضاً من بعض رؤساء قريش ، ومنهم عتبة بن ربيعة ، ولكن لم يستمعوا له .
وعن (ابن إسحاق والبيهقي عن محمد بن كعب قال حدثت ان عتبة بن ربيعة قال ذات يوم ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأكلمه فأعرض عليه أمورا لعله ان يقبل منها بعضها ويكف عنا .
قالوا بلى يا أبا الوليد فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر الحديث فيما قال له عتبة وفيما عرض عليه من المال والملك وغير ذلك .
حتى إذا فرغ عتبة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفرغت يا أبا الوليد .
قال نعم .
قال فاسمع مني قال فافعل .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسم الله الرحمن الرحيم [حم * تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا]( )، فمضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأها عليه فلما سمعها عتبة انصت لها وألقى بيديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السجدة فسجد فيها .
ثم قال سمعت يا أبا الوليد قال سمعت .
قال فأنت وذاك ( ).
فقام عتبة إلى اصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به .
فلما جلس إليهم قالوا وما وراءك يا أبا الوليد .
قال ورائي إني والله قد سمعت قولا ما سمعت بمثله قط والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة .
يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ.
فان تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم .
وان يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به .
قالوا سحرك والله يا ابا الوليد بلسانه فقال هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم ) ( ).
الثالث : الممانعة وعدم الإيمان ، ولم يختر أكثر رجال قريش أياً من هذه الأمور ، إنما أظهروا العداوة الشديدة ، وعزموا على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وخططوا لكيفية قتله ، فقرروا اشتراك بطون قريش في قتله باستثناء بني هاشم ، وحددوا ساعة التنفيذ قبيل الفجر من ليلة المبيت ،
فنزل جبرئيل وأمره بالهجرة إلى المدينة ، وأن يأمر الإمام علياً عليه السلام بالمبيت في فراشه ، وفيه مسائل :
الأولى : إنه آية من الرحمة لقريش بالنجاة من سفك دم نبي .
الثانية : نزول العذاب بكفار قريش .
الثالثة : إنذار لهم بالإتعاظ والكف عن تعذيب المسلمين .
ولكنهم أصروا على محاربة النبوة والتنزيل ، فجهزوا الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والزحف على المدينة.
ومن الآيات أن كل مرة تجهز فيها قريش الجيوش وتهجم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تلقى الخيبة وتلحقها الخسارة والخزي لزجرها عن تكرار الهجوم .
فمن خصائص الحياة الدنيا أنها دار الموعظة والعبرة ، ولا تختص هذه النعمة بأهل الإيمان إنما الناس فيها شرع سواء وهو من مصاديق رحمة الله بالناس وعمومات قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وقوله تعالى [لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ]( ).
ففي معركة بدر قُتل من المشركين سبعون وأسر سبعون ، ودخلت فلولهم مكة منهزمين ، وفيه دعوة لقريش للكف عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وترك المعاودة للقتال .
ونزل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) لإخبار قريش بأن هزيمتهم من عند الله ، ليكون من معاني ودلالات الآية أعلاه نصر الله للمؤمنين في المعارك اللاحقة من باب الأولوية لأنهم تخلصوا من حال الذل ، فقد تفضل الله عز وجل عليه بالنصر وهم أذلة ، وقد أنقذهم الله من هذا الحال التي تعني قلة العدد والنقص في الأسلحة والمؤون ، بينما تغشى قريش الخوف .
ومن وجوه ومعاني الآية أعلاه من سورة آل عمران نهي قريش عن طلب الثأر لقتلاهم في معركة بدر لوجوه :
الأول : نسبة قتل أصحابهم إلى الله ، قال تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) .
الثاني: نزول الملائكة مدداً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ) .
الثالث: التسليم بأن الحياة والموت بيد الله عز وجل فتسقط الآية ما في أيديهم .
الرابع : تزجر الآية عن المناجاة بالثأر لقتلاهم في معركة بدر ، ولكنهم تمادوا في الغي ، وجعلوا من هذا الثأر ذريعة للإنتقام والبطش وغزو المدينة ، وهو من الشواهد بأن مشركي قريش هم الغزاة .
وجاءت آيات أخرى تبين الإعجاز في نصر المسلمين وهزيمة المشركين في معركة بدر ، وتذكرهم بنزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الشواهد والمصاديق الواقعية لهذا النزول ومنها ما تناقله رجال قريش الذين شهدوا معركة بدر ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
ومن وجوه تقدير قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) ( وما ترمي إذ ترمي ولكن الله يرمي فيصيب ) فذات الآية والفضل الإلهي متجدد خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع عن كل من :
الأول : عقيدة التوحيد .
الثاني : النبوة .
الثالث : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والمعجزات الحسية التي تجري على يديه ، وهو[وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] ( ) أي آخرهم وليس من نبي بعده .
(عن عرباض بن سارية، قال سمعت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم يقول: “إنّي عِنْدَ اللهِ مَكْتُوبٌ لخَاتِمُ النَّبِيِّينَ، وَإنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وسَأُخبرُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ: دَعْوَةُ أَِبي إبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى بِي، وَالرُّؤْيَا التي رأتْ أُمِّي، وَكَذِلكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ، يَرَيْنَ أَنَّهَا رَأْتْ حِينَ وَضَعَتْنِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ)( ).
الرابع : نزول آيات القرآن ، فقد كانت قريش تعلم أنه إذا قُتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا تنزل آيات قرآنية ، وليس له بديل ، قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا] ( ).
وهل كان خروج قريش إلى معركة أحد عثرة وزلة وسقطة ، الجواب نعم، وكان ظلماً للذات والغير ، وحرباً على الله ورسوله والمؤمنين ، لذا انقلبوا بالخزي من وجوه :
الأول : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل.
الثاني :سقوط (22) من المشركين قتلى في المعركة .
الثالث : عجز المشركين عن القتال لمدة يوم واحد ، إذ إنسحبوا في ذات اليوم الذي بدأت فيه المعركة .
الرابع : تعطيل تجارات قريش نحو سنة كاملة استعداداً لمعركة أحد ، ولم تحمل المعركة هذا الاسم إلا بعد نشوب المعركة .
الخامس : تجلي معجزات متعددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد صارت حديث الفريقين ، وتناقلها الركبان .
ولقد تعجلت قريش في أحد بالقتال في شهر شوال من السنة الثالثة قبل أن تدخل الأشهر الحرم الثلاثة ذو القعدة ، ذو الحجة ، ومحرم .
فجاءت النتيجة بعكس ما يتمنون ، إذ صار موسم الحج في تلك السنة مناسبة لحديث الناس عن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومتابعة آيات القرآن التي نزلت بخصوص معركة أحد .
وهل شعر رجال قريش بالخزي في موسم الحج هذا مثلما شعروا في موسم الحج السابق الذي تعقب معركة بدر ، الجواب نعم ، وإن أظهروا التجلد وادعوا النصر في معركة أحد ، لكن الوقائع تفضحهم .
ويتصف قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) الذي يختص به هذا الجزء بأنه عنوان بِكر من حيث الدراسة والتحقيق وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وكثرة الأجزاء ، إذ صدرت بخصوصه الأجزاء :
الأول : الجزء الرابع والستون بعد المائة .
الثاني : الجزء الخامس والستون بعد المائة .
الثالث: الجزء السادس والستون بعد المائة .
الرابع : الجزء الثامن والستون بعد المائة .
الخامس : الجزء التاسع والستون بعد المائة .
السادس :الجزء السبعون بعد المائة .
السابع :الجزء الواحد والسبعون بعد المائة .
الثامن :الجزء الثاني والسبعون بعد المائة .
التاسع :الجزء الرابع والسبعون بعد المائة .
العاشر :الجزء السادس والسبعون بعد المائة .
الحادي عشر :الجزء السابع والسبعون بعد المائة .
الثاني عشر :الجزء الثامن والسبعون بعد المائة .
الثالث عشر :الجزء الثمانون بعد المائة .
الرابع عشر :الجزء الواحد والثمانون بعد المائة .
الخامس عشر :الجزء الثاني والثمانون بعد المائة .
السادس عشر :الجزء الثالث والثمانون بعد المائة
السابع عشر :الجزء السابع والثمانون بعد المائة .
الثامن عشر : الجزء الثالث والتسعون بعد المائة .
التاسع عشر :الجزء الرابع والتسعون بعد المائة .
العشرون : الجزء السادس والتسعون بعد المائة.
الواحد والعشرون : الجزء الرابع بعد المائتين .
الثاني والعشرون : الجزء الثاني عشر بعد المائتين .
الثالث والعشرون : الجزء السادس عشر بعد المائتين .
وهذا الجزء من التفسير هو الرابع والعشرون في ذات قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) لكشف الحقائق في السنة النبوية القولية والفعلية والدفاعية ، بما يدل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول السلام ، بعثه الله عز وجل لتنزيه الأرض من الفساد ومن سفك الدماء.
الحمد لله الذي جعل القرآن لساناً ناطقاً يأتي على مفاهيم الكفر فيزيحها من المجتمعات ، وهل من موضوعية لآيات القرآن في كسر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (360) صنماً كانت منصوبة في البيت الحرام ، الجواب نعم ، ولا يستطيع أحد إنكار هذه الموضوعية ، فقد كانت آيات القرآن هي السلاح والداعية لجذب الناس لمنازل الإيمان والهدى ، وبعث النفرة في نفوسهم من الكفر والضلالة .
ولآيات القرآن شأن كبير ونفع في إزاحة الظلم وعادات الغزو والنهب والسلب بين القبائل ، وسيبقى منطوقها وتلاوتها بركة ، ومنافع القرآن حاضرة في كل زمان ، لقد هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بآيات الإنذار والوعيد المكية لتنزل عليه آيات الأحكام والتشريع في ذات الوقت الذي يدافع وأصحابه فيه عن بيضة الإسلام ، وعن أنفسهم للإرهاب الشديد من قبل كفار قريش ، إلى أن جاء صلح الحديبية ، فكان نعمة ورحمة من عند الله عز وجل ، ونزل قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
ولتشكر أجيال المسلمين الله عز وجل على كل من النعم :
الأولى : رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعموم هذه الرسالة .
الثانية : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل إلى حين نزول تمام القرآن وبيانه لأحكام الشريعة ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
الثالثة : تمام نزول القرآن وصيروته ممتنعاً عن الزيادة أو النقيصة.
الرابعة : لم يغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا إلا بعد أن كثر عدد المسلمين وصاروا في منعة في حروب الردة وتعددت أماكن سكناهم في المدن والقرى وبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الولاة إليها ، والأمن من غزو وهجوم المشركين ، ومدّعي النبوة .
لبيان معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي أنه أنشأ ورفع الركائز الإيمانية والقدرة الدفاعية عند المسلمين ضد الإرتداد والكفر والإرهاب بعد موته ، قال الله تعالى في الثناء على إبراهيم واسماعيل [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( )، ليكون هذا الرفع مقدمة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورفعه ألوية الإيمان وتثبيته سنن التوحيد في الأرض ولا يضره غزو الكافرين للمدينة وإرادتهم قتله .
ومن مصاديق شكر المسلمين لهذه النعمة الإلهية تعاهد سنن السلم والموادعة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ).
حرر في 23 شوال 1442
4/6/2021
عروض قريش على النبي (ص)
لقد رأى رجالات قريش دخول الأفراد في الإسلام ، ودخول الإسلام في البيوت ، وصيرورة آيات القرآن حديث الركبان وربات الحجال ، وفيها ذم صريح لآلهتهم ، وتقبيح لعبادتها والتزلف إليها ووعيد للكفار ، قال تعالى [ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا] ( ) وذكر أن أسباب نزول الآيات أعلاه نزلت في الوليد بن المغيرة ، إذ خلقه الله عز وجل وحيداً ليس له مال ولا ولد ثم كثرت أمواله وتوسعت تجاراته ، وصار له من الأولاد عشرة في طاعته ، حاضرين عنده ، وهو يطمع أن يزيد الله عز وجل له بالأموال والتجارات ، والأولاد الصلبيين والأحفاد ، ولكن النقصان دبّ في المال والولد والتجارة ، كما في تسخير قريش أموال التجارة والقوافل في محاربة النبوة والتنزيل ومنها أموال الوليد ، فهو معاند جاحد ، وسيلقى العذاب الأليم لمحاربته النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
وعن (أبي سعيد الخدري عن النبي عليه السلام {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} قال : هو جبل في النار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده ذابت وإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت.) ( ).
لقد مشى رجالات قريش إلى أبي طالب أكثر من مرة ليمنع النبي من دعوته مع ترغيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزخارف الدنيا ومنها :
أولاً : المال الوفير والثراء العاجل .
ثانياً : تزويج النبي عشرة من النسوة دفعة واحدة ، ويكون له الخيار من بين بنات قريش( ).
ثالثاً : تنصيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رئيساً على قريش ، بمرآى ومسمع من عموم أهل مكة والقبائل المحيطة بها .
وقد قدمت هذه العروض إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل رؤساء قريش ، وبمحضر وشهادة من عمه أبي طالب ، فما كان جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن قرأ عليهم آيات من القرآن تتضمن التخويف والوعيد على البقاء على الكفر .
مسؤوليات قريش
من خصائص الحياة الدنيا الإمتحان بالتفاضل بين الناس في المرتبة والشأن والجاه وكثرة الأولاد والأموال ، مع تعدد واختلاف أسباب التباين في المرتبة من زمان إلى آخر وعند جيل ما بالنسبة للأجيال الأخر ، وقد يكون هذا التفاضل على نحو القضية الشخصية وقد يكون على نحو القضية النوعية ، ومنه الجاه العريض الذي نالته قريش عند كل من :
الأول : القبائل العربية ونعت بلدهم والبيت الحرام بأنها أم القرى ، وهو من مصاديق [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ]( ).
الثاني : بين أهل مدن الجزيرة مثل الطائف ويثرب واليمن والبحرين .
الثالث : الجاه والشأن لرجال قريش عند أهل الشام وتجارهم .
الرابع : مكان وصول رجال قريش إلى بلاط كسرى ، وتقديم أنفسهم بأنهم سدنة البيت الحرام الذي يحج إليه العرب ويعلم أهل فارس شأن سدنة البيت الحرام عند العرب خاصة وأن بلاد فارس عندهم بيت النار (النوبهار) بمدينة بلخ ولسدنته عندهم منزلة، ومن هؤلاء السدنة أجداد البرامكة الذين تولوا الوزارة في الدولة العباسية من سنة 170-187 هجرية .
قبل أن يفتك بهم هارون الرشيد.
و(النوبهار الذي بناه من وشهر بمدينة بَلْخَ من خراسان على اسم القمر، وكان من يلي سِدَانته تعظمه الملوك في ذلك الصقع وتنقاد إلى أمره وترجع إلى حكمه، وتحمل إليه الأموال، وكانت عليه وقوف( )، وكان الموكل بسدانته يدعي البرمك، وهو سمة عامة لكل من يلي سدانته، ومن أجل ذلك سميت البرامكة؛لأن خالد بن بَرْمَك كان من أول مَنْ كان على هذا البيت)( ).
قال المسعودي : وقد ذكر بعض أهل الرواية والتنقير أنه قرأ على باب النوبهار ببلخ كتاباً بالفارسية ترجمته: قال بوداسف: أبوابُ الملوكِ تحتاج إلى شلاث خصال: عقل، وصبر، ومال وإذا تحته بالعربية: كذب بوداسف الواجب على الحر إذا كان معه واحدة من هذه الثلاث الخصال أن لا يلزم باب السلطان( ).
لقد كانت ولاية البيت الحرام وظيفة متعددة ، وتستلزم بذل الجهود على مدار السنة ، وإنفاق الأموال ، وحراسة البيت ، نعم فيه منافع عظيمة لقريش استثمرتها حتى في التجارة ، فكانت قوافل قريش تقطع الجزيرة العربية ، لا يتعرض لها أحد حتى عندما تمر باراضي القبائل التي تتصف بالجرأة في النهب والسلب ، وهو من الكرامة المترشحة عن سدانة وولاية البيت الحرام ، وجاءت سورة قريش حجة في بيان النعم العظيمة لجوار البيت ولزوم شكر الله عز وجل على هذه النعمة بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهذا التصديق سبيل إستدامة النعم والزيادة فيها ، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
ومن وظائف وأفراد ولاية البيت الحرام :
الأولى : الرفادة ، وهي إخراج رجال قريش جزء من أموالهم في كل موسم حج ليصنع منه طعام يأكله من ليس عنده سعة ممن يحضر موسم الحج ، أي أن قريشاً لا يطعمون كل وفد الحاج ، إنما يطعمون الفقير وابن السبيل ، ومن حضر الموسم وليس عنده مؤونة ، لبيان التخفيف عن الناس في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقيد الإستطاعة الشرعي للذي يجب عليه الحج بقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) .
وعن محمد بن إسحاق ، أن قصي بن كلاب وهو جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال لقريش (يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته الحرام، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم شراباً وطعاماً أيام هذا الحج، حتى يصدروا عنكم.
ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم فيدفعونه إليه، فيصنعه طعاماً للناس أيام منى، فجرى ذلك من أمره على قومه في الجاهلية، حتى قام الإسلام، ثم جرى في الإسلام إلى يومك هذا؛ فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى حتى ينقضي الحج) ( ).
وظاهر كلام قصي بن كلاب أعلاه أنه من الموحدين ، وأنه ليس من أصنام تعبد في البيت الحرام ، وإن استضافة وفد الحاج بقصد القربة إلى الله عز وجل.
ولم ينقطع هذا النداء بموت قصي ، بل صار سنة بدعوة بني هاشم لقريش في بداية الموسم لتخصيص صندوق عام للوفادة ، وعن (محمد بن إسحاق ، أن هاشم بن عبد مناف ، كان يقول لقريش إذا حضر الحج :
يا معشر قريش ، إنكم جيران الله وأهل بيته ، خصكم الله بذلك وأكرمكم به ، ثم حفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره ، فأكرموا ضيافه وزوار بيته .
يأتونكم شعثا غبرا من كل بلد فكانت قريش ترافد على ذلك.
حتى إن كان أهل البيت ليرسلون بالشيء اليسير رغبة في ذلك ، فيقبل منهم ؛ لما يرجى لهم من منفعته) ( ).
وليس من تعيين لمقدار المبلغ الذي يشارك به أي واحد من قريش ، إنما بحسب السعة والغنى والكرم ، إلا أنها ليست اختيارية محضة ، فقد يقع على بعضهم مقدار مائة دينار ذهباً ، والدينار مثقال ذهب عيار (18) حبة.
وكانت الرفادة عند عبد مناف بن قضي ثم صارت (إلى ابنه هاشم بن عبد مناف ، فهي في ولده إلى اليوم)( ).
ومن الوظائف التي وزعتها قريش على بطونها وهي إطعام الحجيج ، وإعانة المحتاج لخدمة الحجيج وزوار مكة إلى جانب السقاية والرفادة ، وهما اصعب وأشرف هذه الوظائف وكل منهما عند بني هاشم .
الثانية : السقاية : وهي توالي القيام بتوفير ماء الشرب للحاج في موسم الحج في كل من :
الأول : فناء الكعبة .
الثاني : منى .
الثالث : في عرفة ، وإن لم تذهب قريش قبل الإسلام إلى عرفة.
في اليوم التاسع من ذي الحجة ، إنما تذهب القبائل الأخرى ، أما قريش ومن كان معها من الحمس فيفيضون من مزدلفة (ويقولون لا نفيض إلا من الحرم)( )، لأمرين :
الأول : قريش جيران البيت الحرام .
الثاني : عرفة ليس من الحرم ، وقريش لا تخرج من الحرم بينما القبائل الأخرى جاءت بالأصل من خارج الحرم .
فجاء الإسلام وذكر عرفات في القرآن بقوله تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ]( ).
وهذا الخطاب عام لكل المسلمين والمسلمات في موسم الحج سواء من كان يؤدي حجة الإسلام ، أو حجاً مندوباً ، أو واجباً بالعرض كالنذر أو النيابة والإستئجار ، ثم أكرم الله عز وجل قريشاً وذكرهم بوجوب أداء مناسك الحج كباقي المسلمين ، فقال تعالى [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ]( )، فشملهم الذهاب إلى عرفات ، والمراد من لفظ الناس في الآية أعلاه على وجوه :
الأول : إبراهيم عليه السلام .
الثاني : الإمام .
الثالث : عامة المسلمين .
لمنع الفرقة والإختلاف في أداء مناسك الحج لذا ورد وعن (جابر بن عبد الله يقول : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرمي على راحلته( )، يوم النحر ، وقال لنا : خذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)( ).
ليكون من معاني قوله تعالى [فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ]( )، أي فاذا قضيتم مناسككم كما أداها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم و(عن مجاهد في قوله [فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ] قال : اهراقه الدماء)( ).
وموضوع الآية أعم إذ أنها تتضمن الإشارة إلى أركان الحج إجمالاً ، ولزوم تعاهدها والحرص على أدائها لأن الإشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.
وتملأ حياض من الأدم أي الجلد بالماء العذب من الآبار ، وتحمل على الإبل لسقي الحجاج ، كما تأتي قريش بالعنب من بساتين لها في مدينة الطائف ، وتشتري كميات أخرى منه ليلقى في بئر زمزم لتحلية مائه ، وكانت السقاية أيام البعثة النبوية عند العباس بن عبد المطلب .
والسقاية والرفادة لعبد مناف بن قصي ، قام بها إلى أن توفى ، فتولى من بعده ابنه هاشم الوفادة والسقاية ، وولي عبد شمس بن عبد مناف القيادة .
وقيل أن الرفادة بيد بني عبد الدار ، ثم أخذها منهم هاشم.
(وكان هاشم بن عبد مناف يطعم الناس في كل موسم بما يجتمع عنده من عطاء قريش ، كان يشتري بما يجتمع عنده دقيقا ، ويأخذ من كل ذبيحة من بدنة أو بقرة أو شاة فخذها ، فيجمع ذلك كله ، ثم يحزر به الدقيق ويطعمه الحاج .
فلم يزل على ذلك من أمره حتى أصاب الناس في سنة جدب شديد .
فخرج هاشم بن عبد مناف إلى الشام ، فاشترى بما اجتمع عنده من ماله دقيقا وكعكا ، فقدم به مكة في الموسم ، فهشم ذلك الكعك ونحر الجزور وطبخه ، وجعله ثريدا ، وأطعم الناس ، وكانوا في مجاعة شديدة حتى أشبعهم ، فسمي بذلك هاشما ) ( ).
قال (ابن الزبعرى السهمي :
كانت قريش بيضة فتفلقت…. فالمخ خالصها لعبد مناف
الرايشين( ) وليس يوجد رايش… والقايلين هلم للأضياف
والخالطين غنيهم بفقيرهم …. حتى يعود فقيرهم كالكاف
والضاربين الكيس تبرق بيضه … والمانعين البيض بالأسياف
عمرو العلا هشم الثريد لمعشر ….. كانوا بمكة مسنتين عجاف
يعني بعمرو العلا هاشما) ( ).
وبعد أن توفى هاشم قام بالوفادة ابنه عبد المطلب ، فلما توفى عبد المطلب تولى الوفادة أبو طالب في كل موسم إلى أن بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث مالاً إلى مكة في الموسم يعمل به الطعام .
الثالثة : عمارة البيت الحرام وتولي التجديد والترميم فيه ، وذكر أن عمارة البيت كانت عند العباس بن عبد المطلب ، وأخرج (عن ابن سيرين قال : قدم علي بن أبي طالب عليه السلام مكة فقال للعباس : أي عم الا تهاجر ، ألا تلحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال : أعمر المسجد الحرام ، وأحجب البيت .
فأنزل الله {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام…}( ) الآية.
وقال لقوم قد سماهم : ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقالوا : نقيم مع اخواننا وعشائرنا ومساكننا ، فأنزل الله تعالى {قل إن كان آباؤكم}( ) الآية كلها .
لبيان صفحة أخرى من جهاد الإمام علي عليه السلام في الدعوة الخاصة والعامة إلى الله.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : افتخر طلحة بن شيبة ، والعباس ، وعلي بن أبي طالب ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت معي مفتاحه .
وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها : فقال علي عليه السلام : ما أدري ما تقولون : لقد صليت إلى القبلة قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد ، فأنزل الله { أجعلتم سقاية الحاج…}( ) الآية كلها .
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الضحاك عليه السلام قال : أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك .
فقال العباس : أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونفك العاني ، ونحجب البيت ، ونسقي الحاج ، فأنزل الله { أجعلتم سقاية الحاج }( ) الآية)( ).
الرابعة : حجابة الكعبة ، والمتولي لها يمتلك مفاتيح الكعبة ، ويفتحه للذي يريدون دخوله الكعبة ، كما تفتح في أشهر معينة من السنة ، منها أيام مخصوصة للنساء .
ويقال (حجب الشئ بحجبه حجباً وحجاباً)
وحجبه : ستره .
والحجاب : البواب .
(عن المغيرة بن شعبة قال إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي جهل يا أبا الحكم هلم إلى الله والى رسوله أدعوك إلى الله فقال أبو جهل يا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت فنحن نشهد أن قد بلغت فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وأقبل علي فقال والله اني لأعلم أن ما يقول حق ولكن (يمنعني) شيء إن بني قصي قالوا فينا الحجابة فقلنا نعم ثم قالوا فينا السقاية فقلنا نعم .
ثم قالوا فينا الندوة فقلنا نعم .
ثم قالوا فينا اللواء فقلنا نعم ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب.
قالوا منا نبي ، والله لا أفعل) ( ).
لقد أخذ جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قصي بن كلاب حجابة البيت من خزاعة ، ثم صارت في بني عبد الدار من ولده ، ومع أنهم كانوا حملة لواء المشركين في معركة بدر وأحد ، فقد أرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة مفتاح البيت الحرام إلى عثمان بن أبي طلحة .
(عن ابن عباس في قوله { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها }( ) قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة دعا عثمان بن أبي طلحة ، فلما أتاه قال : أرني المفتاح .
فأتاه به ، فلما بسط يده إليه قدم العباس فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجعله لي مع السقاية .
فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أرني المفتاح يا عثمان .
فبسط يده يعطيه ، فقال العباس مثل كلمته الأولى .
فكف عثمان يده ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح .
فقال : هاك بأمانة الله .
فقام ففتح باب الكعبة ، فوجد في الكعبة تمثال إبراهيم معه قداح يستقسم بها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما للمشركين – قاتلهم الله ، وما شأن إبراهيم وشأن القداح .
ثم دعا بجفنة فيها ماء ، فأخذ ماء فغمسه ثم غمس بها تلك التماثيل ، وأخرج مقام إبراهيم وكان في الكعبة ، ثم قال : يا أيها الناس هذه القبلة ، ثم خرج فطاف بالبيت ، ثم نزل عليه جبريل فيما ذكر لنا برد المفتاح ، فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه المفتاح ، ثم قال {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}( ) حتى فرغ من الآية)( ).
ولا تزال الحجابة في ولده (وهم بنو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار.
الخامسة : اللواء بيد بني عبد الدار , فلم يزل في ولده إلى أن جاء الإسلام، فقال بنو عبد الدار: يا رسول الله اجعل اللواء فينا.
فقال: الإسلام أوسع من ذلك. فبطل) ( ).
لقد كان أكثر بني عبد الدار من أشد الناس حرباً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم حملة لواء المشركين في كل من :
الأولى : معركة بدر .
الثانية : معركة أحد .
الثالثة : معركة الخندق .
وتدل عليه أخبار ووقائع عديدة منها أن أبا سفيان جاء لهم يوم معركة أحد ، وكان القتال في بداية المعركة يدور حول لواء المشركين ، ليس لأن المسلمين هم الذين هجموا ، فمن المسلمات أن المشركين هم الغزاة في معركة أحد .
فعندما اصطف الفريقان للقتال (قال أبو سفيان لاصحاب اللواء من بنى عبد الدار يحرضهم على القتال يا بنى عبد الدار أنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم وانما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا فاما ان تكفونا لواءنا واما ان تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه فهموا بهوتوعدوه وقالوا نحن نسلم اليك لواءنا ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع وذلك أراد أبو سفيان) ( ) .
أي أراد أبو سفيان شحذ هممهم ، ويدل هذا الخبر على أنهم حملة لواء المشركين في معركة بدر ومعركة أحد .
وتجهزت قريش لمعركة الخندق (وجمعوا أحابيشهم ومن تبعهم من العرب، فكانوا أربعة آلاف، وعقدوا اللواء في دار الندوة، وحمله عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس، وألف وخمسمائة بعير.
وخرجوا يقودهم أبو سفيان ووافتهم بنو سليم بمر الظهران، وهم سبعمائة يقودهم سفيان بن عبد شمس .
وخرجت معهم بنو أسد يقودهم طلحة بن خويلد وخرجت فزارة وهم ألف، يقودهم عقبة بن حصين، وخرجت أشجع وهم أربعمائة يقودهم مسعود بن رخيلة، وخرجت بنو مرة، وهم أربعمائة يقودهم الحارث بن عوف) ( ).
إنما جعل الله عز وجل الإبتلاء طريقاً ذا شعبتين متضادتين إلى الآخرة ، فمن أصلح نفسه للإبتلاء كانت الطريق معبدة له إلى الخلود في النعيم ، ومن عمل وارتكب المعاصي فانها تسوقه إلى النار ، قال تعالى [يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا]( ).
وقد تفضل الله عز وجل على المسلمين والمسلمات فالزم كل واحد منهم على نحو الوجوب تلاوة سورة الفاتحة في الصلاة اليومية سبع عشرة مرة ، ومنها [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) ومن الصراط الإبتلاء في الأموال والنفوس.
ويقوم الذين يتولون الحجابة بتنظيف الكعبة والعناية بها وببنائها وغسلها وتعاهد كسوتها ، وإصلاحها إذا تمزقت والحفاظ على الحجر الأسود ، وموضعه ، ومقام إبراهيم والتحف والهدايا الثمينة التي تهدى للبيت الحرام.
وكان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وذرية إسماعيل يتولون سدانة وحجابة الكعبة إلى أن صارت بيد قبيلة جرهم ، ثم أخذتها منهم قبيلة خزاعة ، ثم رجعت إلى قريش حيث أخذها قصي بن كلاب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من نسل إسماعيل ليكون هذا الأخذ مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وانجب قصي ثلاثة أولاد وهم :
الأول : عبد الدار : وهو أكبرهم ، وهو جد بني شيبة سدنة البيت ، وحملة لواء قريش .
الثاني : عبد مناف : وهو جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : عبد العزي.
اتصف عبد مناف بالحكمة والقوة ، فاعطاه أبوه قصي السدانة ، والسقاية والوفادة.
ثم أخذ أبوه منه السدانة واعطاها لأخيه الأكبر عبد الدار.
السادسة : دار الندوة : وهو بناء مجاور للكعبة فكان مجلساً لشيوخ ووجهاء قريش يجتمعون فيه للتشاور في الأمور العامة والطارئة واتخاذ القرار المناسب .
والذي بنى دار الندوة هو قصي بن كلاب (400-480)م تقريباً، بن مرة بن كعب الجد الرابع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان اسمه زيداً ، ولكنه عاش بعيداً عن قريش إذ أخذته أمه فاطمة بنت سعد معها إلى بني عذرة في أطراف الشام من جهة الجزيرة .
ثم عاد عندما كبر بعد حادثة له مع أولاد من بني عذرة ، وتزوج قصي من حبى بنت حليل بن حبشية الخزاعي (وهو آخر من ولى البيت من خزاعة، ومن يده أخذ البيت قصى بن كلاب.
قال ابن هشام: فولد عبد مناف بن قصى أربعة نفر: هاشما وعبد شمس والمطلب، وأمهم عاتكة بنت مرة بن هلال.
ونوفل بن عبد مناف، وأمه واقدة بنت عمرو المازنية.
قال ابن هشام: وولد لعبد مناف أيضا: أبو عمرو وتماضر وقلابة وحية وريطة وأم الاخثم وأم سفيان.) ( ).
وولد لقصي أولاد متعددون ، وكثر ماله وزاد شأنه ، فأوصى حليل عند وفاته لزوج ابنته قصي بأن يلي شؤون البيت الحرام ، واستتب له الأمر بعد خلاف شديد مع خزاعة .
وكانت دار الندوة مسكناً لقصي ومحلاً لإقامته ، ويلتقي عنده أشراف ووجوه قريش ثم صارت محل اجتماع قريش ولا يحضرها إلا من بلغ سن الأربعين من قريش وقد يستثنى صاحب الفطنة والشجاعة ورجحان الرأي .
وتدار منها شؤون القبيلة وأهل مكة ، ويقصدها الناس من داخل مكة وخارجها للحاجة ، وحلّ الخصومات والتجارة والإقتراض وعند المجئ للحج أو العمرة ، وهو من مصاديق تسمية مكة [أُمَّ الْقُرَى]( )، كما في قوله تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ]( ).
وهل دار الندوة من مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم التقيد بالميثاق ، والتصديق بدعوته ، الجواب نعم ، فمن خصائص هذا التداخل الربط بين هذه الوقائع وبين نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم تكن دار الندوة مجلساً للقبيلة فقط ، إنما كانت كدار الحكم ، ومركز المشاورات ثم إتخاذ القرار وإن لم يكن ملزماً للجميع ويجوز الرجوع عن الرأي سواء على نحو القضية الشخصية أو العامة.
وقيل دخلها أبو جهل ، وعمره ثلاثون سنة ، واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة من بني مخزوم ، والذي قُتل في معركة بدر ، وهو الذي أصر على القتال فيها ، وفيه شاهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن هو الغازي في هذه المعركة.
وذكر أن القرار بالخروج إلى معركة بدر تم في دار الندوة بحجة إنقاذ قافلة أبي سفيان ولإظهار منعة وقوة قريش وانسحب بنو زهرة، بمشورة من الأخنس وهل انسحبوا صبيحة يوم بدر أم من الطريق .
المختار هو الثاني ، فقد رجعوا إلى مكة من الجحفة فعندما جاء رسول أبي سفيان وأخبر عن نجاة القافلة وأنها تتجه صوب مكة بأمان ، وطلب من قريش وهم بالجُحفة العودة قال الأخنس (يَا بَنِي زُهْرَةَ قَدْ نَجّى اللّهُ لَكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَخَلّصَ لَكُمْ صَاحِبَكُمْ مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ وَإِنّمَا نَفَزْتُمْ لِتَمْنَعُوهُ وَمَالَهُ فَاجْعَلُوا لِي جُبْنَهَا وَارْجِعُوا ، فَإِنّهُ لَا حَاجَةَ لَكُمْ بِأَنْ تَخْرُجُوا فِي غَيْرِ ضَيْعَةٍ لَا مَا يَقُولُ هَذَا ، يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ فَرَجَعُوا .
فَلَمْ يَشْهَدْهَا زُهْرِيّ وَاحِدٌ أَطَاعُوهُ وَكَانَ فِيهِمْ مُطَاعًا .
وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ بَطْنٌ إلّا وَقَدْ نَفَرَ مِنْهُمْ نَاسٌ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ ، لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَرَجَعَتْ بَنُو زُهْرَةَ مَعَ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ ، فَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مِنْ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ أَحَدٌ ، وَمَشَى الْقَوْمُ .
وَكَانَ بَيْنَ طَالِبِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ – وَكَانَ فِي الْقَوْمِ – وَبَيْنَ بَعْضِ قُرَيْشٍ مُحَاوَرَةٌ فَقَالُوا : وَاَللّهِ لَقَدْ عَرَفْنَا يَا بَنِي هَاشِمٍ وَإِنْ خَرَجْتُمْ مَعَنَا ، أَنّ هَوَاكُمْ لَمَعَ مُحَمّدٍ فَرَجَعَ طَالِبٌ إلَى مَكّةَ مَعَ مَنْ رَجَعَ)( ) ، ولكنه لم يصل إلى مكة ، ولم يعلم له أثر .
مما يدل على أن قرارات دار الندوة غير ملزمة ، ويجوز الرجوع عنها خاصة مع تبدل الموضوع ، وفيه حجة ودعوة عامة للتراجع عن أسباب المناجاة بمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابعة : السفارة : وهي تمثيل قريش عند الدول ولدى القبائل ، وكان يتولاها بنو عدي .
الثامنة : سدانة الكعبة والعناية بها وبكسوتها ، واصلاح وتجديد هذه الكسوة ، والإحتفاظ بمفتاح الكعبة ، وكان يتولاها بنو عبد الدار .
التاسعة : الأشناق ، وهي مسؤولية تنظيم الديات والبدل والغرامات ، ويتولاها بنو تيم قوم أبي بكر ، وطلحة بن عبيد الله .
العاشرة : القبة : وهي نصب سرادق تجمع فيها الميرة والأسلحة ، وأسباب تجهيز الجيش وهي خاصة ببني مخزوم ، خاصة وأنهم كانوا أصحاب أموال فيمكن أن يتبرعوا.
الحادية عشرة : الأعنة : وهي أمرة الخيل ، وكانت عند بني مخزوم لذا كان خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل على الخيالة يوم معركة أحد وكلاهما من بني مخزوم ، وقد حضرا المعركة بحقد ورغبة بالإنتقام بعد أن قتل المسلمون أبا جهل وأخاه العاص بن هشام وأبا قيس بن الوليد بن المغيرة( )، أخا خالد بن الوليد.
إذ كان لخالد ستة من الأخوة هم : العاص ، أبو قيس ، عبد شمس ، عمارة ، هشام ، الوليد ، وكان أبوه الوليد بن المغيرة من سادة قريش في الجاهلية ، وكان كثير المال والضياع ، وبساتين لاينقطع ثمرها على مدار أيام السنة ، وقد أظهر المغيرة العداء للنبوة والتنزيل ، وفيه نزل قوله تعالى [ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا]( ).
بطش قريش
هل كانت قريش تتولى تعذيب طائفة من المسلمين في ذات الوقت الذي يمشون فيه إلى أبي طالب لمنع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإستمرار بدعوته أم أنهم لجأوا إلى هذا التعذيب بعد أن يئسوا من رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تبليغ الرسالة .
الجواب هو الأول ، فهذا التعذيب مستمر ومتوال من بدايات الدعوة النبوية ، وكان حصار قريش لأهل البيت قد ابتدأ في السنة السابعة للهجرة ، واستمر لثلاث سنوات .
ولم ينقطع أو يفتر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته الناس للتوحيد قبل الحصار وبعده ، قال تعالى [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
ومعنى اصدع : أي انفذ وأرض وبلغ ما تؤمر به من الوحي والتنزيل ، وأقم الصلاة وأتل القرآن .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه الإخبار بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مأمور ، ولم يكن فعله وقوله اجتهاداً من عنده ، وفيه دعوة للناس للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فمن إعجاز الآية أعلاه الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عن المشركين لبعث الناس بالتدبر في آيات القرآن ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذاتها من غير الإلتفات إلى استهزاء وافتراء الكفار بنبوته.
وفي الآية وعد من عند الله عز وجل بكفاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصرف أذى المشركين الذين يسخرون من نبوته ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
وهل تشمل هذه الكفاية الوعد بدفع أضرار حصار قريش لبني هاشم ، ورفع هذا الحصار ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : كبت قريش .
الثانية : زجر الكفار عن مواصلة محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : تقوية قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الرابعة : تجلي أمارة على علو ورجحان كفة الإيمان ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
الخامسة : من الإعجاز في توالي نزول آيات القرآن بعث الخوف والفزع في قلوب المشركين ، إذ صاروا يخافون حتى من آيات الوعد والترغيب بالجنة ، لإدراكهم الحرمان منها إلى جانب خوفهم وفزعهم من آيات الوعيد ، قال تعالى [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ]( ).
لقد كانت لرجالات قريش السلطة والشأن في مكة وما حولها ، فأظهروا القسوة والبطش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، وهو خلاف الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الناس من وجوب تصديق ونصرة الأنبياء ، فنزلت آيات القرآن بانذارهم مع الترغيب العام بالإيمان واتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
خطط حصار بني هاشم
لقد عقدت قريش إجتماعاً للتدارس في كيفية إيقاف دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى التوحيد والتنزيل ، وحرصت قريش على عدم حضور بني هاشم معهم الإجتماع ، لأنهم إنحازوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتصدوا ) ومؤمنهم وكافرهم لمحاولات قريش النيل منه .
وبينما جاء الأنبياء بالميثاق من عند الله كما في قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ]( )، فان قريشاً أجمعوا على كتابة كتاب ووثيقة مقاطعة وحصار لبني هاشم وتشديد هذا الحصار حتى يسلموا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليقتلوه ، وكتب الكتاب (منصور بن عكرمة، أو بغيض بن عامر، فشلت يده، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة هلال المحرم سنة سبع من البعثة)( ).
واتفق رؤساء قريش ، والوجهاء والملأ منهم على أمور :
الأول : عدم تكليم بني هاشم ، فاذا لقوا فردا من بني هاشم في المسجد الحرام مثلاً فانهم لا يكلمونه ، وإن إبتدأ هو الكلام معهم فانهم لا يجيبونه .
الثاني: عدم مجالسة بني هاشم ، وكانت قريش تلتقي في البيت الحرام ، يطوف الفرد منهم حول الكعبة ثم يجلس مع جماعة من قبيلته أو غيرهم ، ويتبادلون أطراف الحديث ، فاذا جاء أحد بني هاشم ليجلس معهم منعوه أو قاموا عنه .
وكذا في دار الندوة التي كان يجتمع فيها رجالات قريش فانهم منعوا بني هاشم من دخولها وحجبوا عنهم حق إبداء المشورة أو طلبها مع أن جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قصي بن كلاب هو الذي بناها .
الثالث : لقد كان الناس يرغبون بالمصاهرة مع بني هاشم كما يظهر في خطبة وكلمة أبي طالب عند خطبته لخديجة بنت خويلد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
إذ أثنى على قومه وعلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع تقرير وامضاء الحضور لهذا الثناء .
إذ قال (الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضئ معد مضر، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا حكام الناس ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا وإن كان في المال قلا فإن المال ظل زائل وأمر حائل وعارية مسترجعة، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل.
وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة وقد بذل لها من الصداق حكمكم عاجله وآجله اثنتا عشرة أوقية ونشا.
فقال عمرو بن أسد عمها: هو الفحل لا يقدع أنفه( ).) ( ).
لقد أدركت قريش إزدياد رغبة الناس بمصاهرة بني هاشم بعد دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام ، ومبادئ الخلق الحميد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وشيوع بشارات الأنبياء به .
وما نبينه هنا هو أن من أسباب الحصار حسدَ قريش لبني هاشم ، إذ صار الناس يميلون لهم بالمصاهرة والمجالسة والمعاملات التجارية ، بالإضافة إلى إنحياز مسلمي مكة وعوائلهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته .
ليكون هذا الميل من عمومات قوله تعالى [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]( )، إنما الإمتناع من المصاهرة بين القبائل التي في حال حرب وغزو متبادل ، وغالباً ما يكون هذا الإمتناع بعدم تزويج الطرف الآخر ،وليس النكاح والزواج من نسائهم ، بينما لم تكن هناك معركة ، ولم يقع قتال بين بني هاشم وباقي بيوتات قريش ، ومع هذا تعاقدوا على عدم الزواج منهم ، وعدم تزويجهم .
وهل تتأثر قبائل العرب بهذا الحصار الإجتماعي ، فتمتنع عن النكاح في بني هاشم ، الجواب لا دليل عليه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ] ( ) .
لكن الحصار سبب في تضائل صلات بني هاشم مع الناس ، وهذه الصلات مقدمة للمصاهرة .
الرابع : عدم عقد صفقة بيع أو شراء مع بني هاشم ، وكان مجتمع قريش يتصف بأنهم أهل تجارة ، ويعتاشون على البيع والشراء ، واستيراد البضائع من الشام واليمن ، وما يأتي عن طريق اليمن .
وتفد القبائل إلى مكة طيلة أيام السنة ، وتنشط أسواق مكة في موسم الحج ، ويقصدون أسواقاً خاصة بالموسم ، مثل سوق عكاظ ، وسوق مجّنة ، وسوق ذي المجاز ، وكان بعضهم يشتري من بعض لمؤونته ، ولعرضه وبيعه على الوافدين إلى مكة ، لقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
وكما في قافلة أبي سفيان (صخر بن حرب ) التي كان معه فيها ثلاثون رجلاً من قريش منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص ( )، وقيل أربعين وقيل سبعين رجلاً.
(وكان في العير ألف بعير تحمل أموال قريش بأسرها إلا حويطب بن عبد العزى، فلهذا تخلف عن بدر) ( ).
وكان رجال ونساء قريش يبعثون أموالهم مع القوافل المتوجهة إلى الشام ، فهل امتنع رجال قريش عن قبض أموال بني هاشم للتجارة والمضاربة مدة الحصار ، الجواب نعم .
ثم أن بني هاشم بلغوا حالاً من الفاقة يفتقرون معها لأموال التجارة ، ويتعذر عليهم الإقتراض من أجلها ، ومنه نفاذ أموال خديجة أيام الحصار .
الخامس : إمتناع رجال قريش عند الإجتماع مع بني هاشم على أمر ما.
السادس : تعاقد رجال قريش على أن يكونوا يداً واحدة على محمد والذين اتبعوه ، وفيه تحالف من أجل الحرب والقتال ، وشاهد على أن الصحيفة التي كتبوها أعم من أن تنحصر بمقاطعة بني هاشم (الهاشميون) ، والذين انحازوا معهم حمية وهم بنو المطلب(المطلبون) .
والمطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب هو عم عبد المطلب بن هاشم.
وقد شكرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن قسم قسماً بين بني هاشم وبينهم .
وكلّم (عثمان وجبير بن مطعم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سهم ذي القربى، وقسمته قالا: بين بني هاشم وبني المطلب بن عبد مناف ونحن وبنو المطلب إليكم في النسب سواء. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنا وهم لم نزل في الجاهلية شيئاً واحداً، وكانوا معنا في الشعب كذا – وشبك أصابعه)( ).
أي أن النبي محمداً لم ينس ما لاقاه وأهل البيت من الأذى وهم محاصرون في شعب أبي طالب.
السابع : التعاقد على عدم الصلح مع بني هاشم وبني المطلب ، أي أن قريشاً تشدد على لزوم الإمتناع عن إتخاذ قرار إنفرادي باعادة الصلة مع أهل البيت .
الثامن : قطع قريش أواصر صلة الرحم والنسب مع بني هاشم إلا بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( ) .
وهذا من دهاء قريش ، وضبط خططها ، وكأنهم يقولون لبني هاشم سلموا لنا محمداً ، أو خلّوا بيننا وبينه ، لنقتله ، وتعود صلاتكم معنا ، ومقامكم عندنا ، وتزول الفاقة والخصاصة عنكم .
وقام أبو طالب بجمع بني هاشم وأقامهم بين الكعبة واستارها ، وصاروا يدعون الله على ظلمة قومهم .
وحضّ أبو طالب بني هاشم وبني المطلب على حماية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه ، وعدم تسليمه لقريش وقال (اللهم إن قومنا قد آبوا إلى البغي، فعجل نصرنا وحل بينهم وبين قتل ابن أخي.
وقالت قريش: لا صلح بيننا وبين بني هاشم وبني المطلب، ولا رحم، ولا إل، ولا حرمة إلا على قتل هذا الرجل الكذاب السفيه، وعمد أبو طالب إلى الشعب بابن أخيه وبني هاشم وبني المطلب بن عبد مناف، وكان أمرهم واحدا.
وقال: نموت من عند آخرنا قبل أن يوصل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما دخل أبو طالب شعب أبي طالب، خرج أبو لهب إلى قريش فظاهرهم على بني عبد المطلب.
تضييق قريش الحصار
لقد دخل الشعب من كان من هؤلاء مؤمنا أو كافرا) ( ).
وهذا الدخول من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ) وفيه مسائل :
الأولى : حلف وقسم قريش على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سراً أو علانية ليصير هذا الحلف مقدمة لعزمهم على اغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الفراش ، والذي انتهى بمغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ليلته إلى المدينة .
الثانية : رؤية قريش بلوغ أخبار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى القبائل ، وبعض الأمصار كالمدينة وصاروا ينصتون لآيات القرآن ، ويتناقلون أحكام العبادة والحلال والحرام التي جاء بها النبي مع إزدرائهم لمحاربة قريش له ، وفيه تهديد لقوافل قرش .
الثالثة : غيظ قريش من هجرة طائفة من أبنائهم إلى الحبشة بعد أن دخلوا الإسلام ، وملاقاة النجاشي لهم بالحسنى ، وتوفير الأمن لهم .
ودخل بنو هاشم وبنو المطلب في شعب أبي طالب ، الذي يقع بين جبلين ، وهو قريب من جبل الصفا ، وفي هذا الزمان فيه معلم ، وهو مكتبة مكة العامة التي هي محل ولادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكانوا أكثر من أربعين رجلاً عدا النساء والأطفال ، وابتدأ الحصار من الأول من محرم من السنة السابعة للهجرة واستمر لثلاث سنوات .
ولم يكن الحصار مجرداً إنما رافقته خطط وجهود عدوانية وتجسسية من قريش منها :
الأول : بث العيون والجواسيس حول شعب أبي طالب ، كيلا يصلهم طعام ، ومراقبة بني هاشم عند خروجهم من الشعب .
الثاني : تحذير القادمين إلى مكة من المعاملة مع بني هاشم ، ومن مجالسة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإنصات له ، ومن الإختلاط بالمسلمين .
الثالث : شراء قريش الطعام الذي يجلب إلى مكة بسعر زائد كيلا يصل إلى بني هاشم ، واحياناً تقوم قريش بدفع سعر أعلى من القيمة على الطعام المجلوب ليس من أجل شرائه ولكن لحجب صاحبه عن بيعه إلى بني هاشم بسعر مناسب .
وإذا قدمت قافلة وتجارة إلى مكة حضر نفر من بني هاشم لشراء الطعام (فَيَقُومُ أَبُو لَهَبٍ عَدُوّ اللّهِ فَيَقُولُ يَا مَعْشَرَ التّجّارِ غَالُوا عَلَى أَصْحَابِ مُحَمّدٍ حَتّى لَا يُدْرِكُوا مَعَكُمْ شَيْئًا ، فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لِي وَوَفَاءُ ذِمّتِي ، فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا خَسَارَ عَلَيْكُمْ فَيَزِيدُونَ عَلَيْهِمْ فِي السّلْعَةِ قِيمَتُهَا أَضْعَافًا ، حَتّى يَرْجِعَ إلَى أَطْفَالِهِ وَهُمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجَوْعِ وَلَيْسَ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ يُطْعِمُهُمْ بِهِ .
وَيَغْدُو التّجّارُ عَلَى أَبِي لَهَبٍ ، فَيُرْبِحُهُمْ فِيمَا اشْتَرَوْا مِنْ الطّعَامِ وَاللّبَاسِ حَتّى جَهِدَ الْمُؤْمِنُونَ وَمَنْ مَعَهُمْ جَوْعًا وَعُرْيًا ، وَهَذِهِ إحْدَى الشّدَائِدِ الثّلَاثِ الّتِي دَلّ عَلَيْهَا تَأْوِيلُ الْغَطّات الثّلَاثِ الّتِي غَطّهُ جِبْرِيلُ حِينَ قَالَ : اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ فِي الْيَقَظَةِ) ( ).
الرابع : تحذير القادمين إلى مكة من المعاملة والإختلاط مع المسلمين ، وتهديدهم بنهب أموالهم .
ولو كانت البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد بينت للناس ، ووصلت لأهل مكة رجالاً ونساءً قبل البعثة وأثناءها فهل تستطيع قريش إحكام حصارها على بني هاشم ولمدة ثلاث سنوات ، الأقرب لا ، إذ تتصف الدعوة السماوية لبيان هذه البشارات بقوله تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ] ( )بأمور:
الأول : مجئ الأمر بالبيان من عند الله عز وجل وبواسطة الأنبياء .
الثاني : تعدد الجهة وأهل الملة التي تتوجه إليها هذه الدعوة .
الثالث : تجدد الأمر لبيان البشارات في كل زمان ، قال تعالى [قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] ( ).
الرابع : وجود مستمع للبشارات عند بيانها بفضل وهدى من عند الله ، وهو مما يستقرأ من قوله تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ] ( ) ولأخذ الله الميثاق على الناس جميعاً .
اقتران الحصار بالتعذيب
لم تكن وسيلة الحصار للضغط على بني هاشم وايذائهم بديلاً عن تعذيب المسلمين ، بل كانت مصاحبة لها ، لبيان أن قريشاً عازمة على استئصال الإسلام ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وكان بنو هاشم ينفقون من أموال خديجة وأموال أبي طالب وما ادخروه حتى نفدت أموالهم.
ولم يسمح لهم بالخروج ، من شعب أبي طالب إلا في موسم العمرة ، في شهر رجب لأنه شهر حرام ، وفي موسم الحج ، وتبعث قريش العيون حولهم وتضيق عليهم في البيع والشراء ، وتدفع ثمناً وسعراً غالياً في شراء السلعة بما يمنع من وصولها إلى بني هاشم الذين لحقهم الجوع ، وصاروا يأكلون أوراق الشجر ، وصار الصَبيان منهم يقتسمان التمرة الواحدة ، ويفوز من يكون من نصيبه النصف الذي فيه النواة.
ولم ينقطع الوحي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنوات الحصار الثلاثة ، وهو مدد وعون من السماء للنبي والمسلمين وعموم بني هاشم وبني المطلب وبشارة الخروج من الحصار بسلامة وأمن مع جعل الناس يلتفتون إلى الإرهاب الذي تزاوله قريش ، ويستنكرونه منهم.
لقد أدرك عامة الناس حقيقة وهي أن ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مقامات الإيمان مع شدة الأذى الذي يلاقونه شاهد على صدق نبوته ، وهو من حفظ ميثاق التوحيد الذي جعله الله ثابتاً في الأرض ، ولم تكن قريش تتعاهد ميثاقاً إنما كان تعاهداً على الباطل .
لقد كان هذا الحصار من أظهر مصاديق قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ]( ).
وجاء حكيم بن حزام ومعه غلام يحمل طعاماً إلى عمته خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي كانت معه في الشعب وهذا الطعام في الأصل ملك خديجة ، فلقيه أبو جهل فتعلق به ، ومنعه ، وهدده بأن يفضحه ، فجاء أبو البختري بن هشام ، وقال لأبي جهل : خل سبيله ، فهو يبعث طعاماً قليلاً إلى عمته وهي ليس من بني هاشم ولكن أبا جهل أبى عليه ، وأصر على أن لا يصل الطعام إلى الشِعب .
ونال كل واحد من صاحبه فاخذ (أَبُو الْبَخْتَرِيّ لَحْيَ بَعِيرٍ فَضَرَبَهُ بِهِ فَشَجّهُ وَوَطِئَهُ وَطْئًا شَدِيدًا ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ قَرِيبٌ يَرَى ذَلِكَ)( ).
لقد أُجهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة من هذا الحصار وشدته ، حتى أخبر النبي محمد الناس عن أكل الأرضة لوثيقة قريش في الحصار التي علقوها في الكعبة.
وهل كان هذا الحصار مقدمة لغزو قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إذا هاجر وظهر الإسلام في بلدة أخرى ، الجواب نعم.
تأريخ الكعبة
لقد أكرم الله عز وجل الناس جميعاً بوضع بيت له سبحانه في الأرض ، فمن بين نحو (149) مليون كم2 مجموع مساحة الأرض اليابسة كانت مساحة بيت الله (145) م فقط ، ولكن يتوجه له المسلمون في صلاتهم من مشارق الأرض ومغاربها وتشتاق نفوسهم له ، ويشدون له الرحال في الحج والعمرة ، وهو حاضر في الوجود الذهني للناس .
وسميت الكعبة لبنائها مكعبة على هيئة الكعب ولإرتفاعها ، وكان الناس يبنون بيوتهم مدورة تعظيماً للكعبة ، وعدم محاكاة هيئتها ، وأول من بنى بيتاً مربعاً هو حميد بن زهير ، فلم ترض عليه قريش ، وقالت : ربع بن زهير بيتاً ، إما حياة وإما موتاً ( )، وتوفي سنة 25 هجرية .
ومن أسمائها أيضاً :
الأول : بكة ، وقال ابن عباس : إنما سميت بكة لأنه يجتمع فيها الرجال والنساء ، وقيل لبك لتباك الناس أو بكائهم عندها ، وذكر أن بكة موضع البيت ، ومكة البلدة أي المحيط بالكعبة .
وكان شيبة بن عثمان يشرف من على الكعبة فلا يرى بيتاً مشرفاً على الكعبة إلا أمر بهدمه .
الثاني : البيت العتيق ، لأنه معصوم من استيلاء الجبابرة ، وعُتق من الطغاة ، لذى ترى في التأريخ الدول العظمى حوالي البيت دون أن يكون لها سلطان على مكة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا] ( ).
فلا يحصل الأمن المطلوب من السلطان في بقعة تابعة لطاغوت وملك متفرد ، ومن معاني عتق البيت من الجبابرة أنهم يطوفون بالكعبة بخشوع ومن غير تجبر .
وتفيد الآية أعلاه الإطلاق الزماني في هذا الأمن لأن الآية التي قبلها هي [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ) ، ولبيان مسألة وهي أن معنى حرف الجر في قوله [فِيهِ آيَاتٌ]لا ينحصر بالظرفية المكانية ، إنما يشمل الأثر والنفع المترشح عنه ، وعن رفع قواعده ، وقد تقدمت الإشارة لهذا الموضوع في الجزء التاسع والستين الذي يتضمن تفسير الآية 97 من سورة آل عمران( ) .
ويحتمل اسم البيت العتيق وجوهاً :
الأول : إرادة خصوص الكعبة .
الثاني: المراد المسجد الحرام بحدوده أيام النبوة .
الثالث : دخول التوسعات الجديدة في ذات اسم البيت العتيق .
والمختار هو الأول لقوله تعالى [وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ]( )ولقوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ]( ).
وتترشح قدسية الكعبة على إرجاء البيت الحرام ، ومنها التوسعات الجديدة لصدق اسم البيت عليها عرفاً .
والمراد بالآية أعلاه خصوص الكعبة ، وكذا في قوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
والنسبة بين المسجد الحرام والكعبة هو العموم والخصوص المطلق ، فالمسجد الحرام هو الأعم ، وهو البيت الحرام ، والذي يشمل الكعبة ، والمطاف ومقام إبراهيم ، ومحل الصلاة بما يحيطه من الجدران ، وهل يشمل لفظ المسجد الحرام التوسعات المتعاقبة التي جرت عليه ، المختار نعم .
وقد يطلق لفظ (الكعبة) على عموم الحرم لقوله تعالى [هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ]( ).
الثالث : البَنية (يُقالُ: لا وربِّ هذه البَنيّة) ( ).
الرابع : بيت الله .
الخامس : البيت .
السادس :البيت الحرام .
السابع : أول بيت .
وهل من موضوعية لكون البيت الحرام البيت العتيق ، وعصمته والبلدة التي تحيط في سلامة الحرم في الأحقاب المتعاقبة ، الجواب نعم .
من عصمة البيت الحرام هلاك أبرهة
لقد كانت عصمة البيت الحرام من توالي الجبابرة السلطان والحكم عليه معجزة ، وشاهداً على عظيم قدرة الله ، وحفظه لبيته.
وقد كانت الدول العظمى تحيط بمكة والجزيرة دون أن تفرض سلطانها على الجزيرة ، إذ كانت دولة الأكاسرة في بلاد فارس ، ووصل سلطانها في بعض الأزمنة إلى العراق ، والمدائن واليمن.
وسلطان دولة الروم إلى الشام ، وسلطان دولة الحبشة إلى اليمن ، وشاء الله أن يخلد في القرآن قصة أبرهة الأشرم وجيشه العظيم عندما زحفوا لإرادة هدم الكعبة ، ولم تكن عند قريش قوة لصدهم .
فتفضل الله عز وجل وذبّ ودافع عن البيت بأن أهلك أبرهة وجنوده ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ] ( ) .
ومن الآيات أن ذكر قصة أصحاب الفيل لم ينحصر بآيات القرآن ، فقد وردت في أشعار العرب وتواريخهم وديونهم ، إذ كان العرب عامة وأهل مكة خاصة يؤرخون بعام الفيل فيقولون مثلاً : حدث بعد عام الفيل بسنتين ، ويستحق أجل الدين بعد عام الفيل بعشر سنين ، وتؤدى الدية ابتداء من السنة السادسة بعد عام الفيل إلى السنة التاسعة بعده وهكذا .
وقد ولد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عام الفيل لبيان الحاجة إلى نبوته ، وتحقيق المصداق المستديم لعتق الكعبة من الجبابرة إلى يوم القيامة ، ولتنزيه البيت الحرام من عبادة الأوثان ليكون تقدير سورة الفيل على وجوه منها :
الأول : ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ، فلا أصحاب فيل بعدهم .
الثاني : ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل فبعثك الله لعصمة البيت الحرام من سطوة وسلطان الجبابرة .
الثالث : ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل مقدمة لبعثتك ، لذا يجمع بين سورة الفيل وقريش في القراءة في الصلاة لإبتداء سورة قريش بحرف التعليل اللام [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ] ( ) مع الفصل بينهما بالبسملة ، والإجماع على أن كلاً منهما سورة مستقلة .
الرابع : الم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل من حين ولادتك في ذات العام وإلى الآن لن يقع إعتداء على البيت .
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لمنع الإعتداء على مكة الخالية من الأصنام ،التي يطيع أهلها الله عز وجل ، ويكرمون وفد الحاج.
الخامس : ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ، وكذا إذا قامت قريش بغزو مدينة النبوة والتنزيل .
السادس : يا أيها الذين آمنوا ألم تروا كيف فعل ربكم بأصحاب الفيل، فمن خصائص الخطاب القرآني إلى النبي محمد الحاق الأمة به إلا ما دليل الدليل على التخصيص .
وأنى لقريش أن تكون عندهم القوة للدفاع عن البيت الحرام ، وقد نصبوا الأصنام في البيت الحرام لبيان قانون وهو الحاجة إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ليبقى البيت الحرام في مأمن من الجبابرة ، ومن نصب الناس الأصنام فيه ، فلم تكن المخاطر يومئذ تنحصر بسلطان الجبابرة ، إنما عامة الناس والجهلاء نصبوا (360) صنماً في البيت الحرام ، وكان لكل قبيلة صنم في البيت الحرام ، يقفون عنده ويخاطبونه ،ويسألونه وكأنهم يحجون إليه .
ولو استمرت هذه الحال فهل يحتمل نشوب حرب بين القبائل بسبب هذه الأصنام ، وقيامهم بالإستيلاء على البيت ، الجواب نعم ، فبعث الله عز وجل النبي محمداً لمنع هذه الفتن إلى يوم القيامة .
أسماء الأصنام
لقد عبدت العرب الأصنام ، وتزلفت إليها وصاروا يقفون عندها بخضوع لسؤال الحوائج وقد يتفق أن تتحقق الحاجة بقاعدة السبب والمسبب ، والعلة والمعلول ، وبفضل الله عز وجل على الناس ، فمن لطف الله عز وجل بهم عدم صيرورة عبادة الأوثان سبباً لحجب فضله وإحسانه عليهم ، مما قد يكون استدراجاً لهم ، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
فتفضل الله عز وجل برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنجاة العرب وغيرهم من الكفر والتزلف للأصنام ومن الإستدراج والإبتلاء ، ولتنزل عليهم شآبيب الرحمة وبركات الإيمان.
وليس من حصر للأصنام التي كان العرب يعبدونها ولا المادة والكيفية التي تصنع بها هذه الأصنام.
ومع محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الشديدة للأصنام فانه لم يغز قريشاً إنما كانت الآيات تنزل بذم الأصنام وعبادتها ، ومنها الآيات التي ذكرت الأصنام منها [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( )، [وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ]( )، [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ]( )، [إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ]( )، ولم يرد لفظ (التماثيل) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، [وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ]( )، [قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ]( ).
ومن الأصنام أيام البعثة النبوية :
الأول : صنم إساف وصنم نائلة ، بجوار الكعبة ، وكانت قريش تلبسهما ملابس جديدة ، ولا يحق للحائض الإقتراب منهما حتى تطهر، وعُبدا وتزلف إليهما إلى يوم الفتح ، حيث أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باخراجهما من المسجد الحرام وإحراقهما .
وإساف صنم على جبل الصفا ، ونائلة صنم على جبل المروة وهما لقريش والأحابيش (وكانا من جرهم ففجر اساف بنائلة في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما ، ثم عبدا بعد فقال أبو طالب مستجيراً بالحرم ، ومؤكداً عدم تسليمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقريش :
و لما رأيت القوم لا ود فيهم … و قد قطعوا كل العرى و الوسائل
و قد صارحونا بالعداوة و الأذى … و قد طاعوا أمر العدو المزايل
و قد حالفوا قوما علينا أظنة … يعضون غيظا خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة … و أبيض عضب من تراث المقاول و أحضرت عند البيت رهطي وإخوتي . و أمسكت من أثوابه بالوصائل
قياما معا مستقبلين رتاجه … لدى حيث يقضي حلفه كل نافل
و حيث ينيخ الأشعرون ركابهم .. بمفضى السيول من إساف و نائل
موسمة الأعضاد أو قصراتها … مخيسة بين السديس و بازل
ترى الودع فيها و الرخام و زينة … بأعناقها معقودة كالعثاكل
أعوذ برب الناس من كل عاطن … علينا بسوء أو ملح بباطل
و من كاشح يسعى لنا بمعيبة … و من ملحق في الدين ما لم نحاول
و ثور و من أرسى ثبيرا مكانه … و راق ليرقى في حراء و نازل
و بالبيت حق البيت من بطن مكة … و بالله إن الله ليس بغافل
و بالحجر المسود إذ يمسحونه … إذ اكتنفوه بالضحى و الأصائل
و موطئ إبراهيم في الصخر رطبة … على قدميه حافيا غير ناعل
و أشواط بين المروتين إلى الصفا … و ما فيهما من صورة و تماثل
و من حج بيت الله من كل راكب. من كل ذي نذر و من كل راجل
و بالمشعر الأقصى إذا عمدوا له .. إلال إلى مفضى الشراج القوابل
و توقافهم فوق الجبال عشية … يقيمون بالأيدي صدور الرواحل
و ليلة جمع و المنازل من منى … و هل فوقها من حرمة و منازل
و جمع إذا ما المقربات أجزته … سراعا كما يخرجن من وقع وابل
و بالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها … يؤمنون قذفا رأسها بالجنادل
و كندة إذ هم بالحصاب عشية … تجيز بهم حجاج بكر بن وائل
حليفان شدا عقد ما احتلفا له … و ردا عليه عاطفات الوسائل
و حطمهم سمر الرماح و سرحه … و شبرقه و خد النعام الجوافل
فهل بعد هذا من معاذ لعائذ … و هل من معيذ يتقي الله عادل
يطاع بنا أمر العدا ود أننا … يسد بنا أبواب ترك و كابل
كذبتم و بيت الله نترك مكة … و نظعن إلا أمركم في بلابل
كذبتم و بيت الله نبزى محمدا … و لما نطاعن دونه و نناضل
و نسلمه حتى نصرع حوله … و نذهل عن أبنائنا و الحلائل
و ينهض قوم بالحديد إليكم .. نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
وحتى نرى ذا الضغن يركب ردعه.من الطعن فعل الأنكب المتحامل
و إنا لعمر الله إن جد ما أرى … لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
بكفي فتى مثل الشهاب سميدع … أخي ثقة حامى الحقيقة باسل
شهورا و أياما و حولا محرما … علينا و تأتي حجة بعد قابل
و ما ترك قوم لا أبالك سيدا … يحوط الذمار غير ذرب مواكل
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه … ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم … فهم عنده في رحمة و فواضل
لعمري لقد أجرى أسيد و بكره … إلى بغضنا و جزآنا لآكل
و عثمان لم يربع علينا و قنفذ … و لكن أطاعا أمر تلك القبائل
أطاعا أبيا و ابن عبد يغوثهم … و لم يرقبا فينا مقالة قائل
كما قد لقينا من سبيع و نوفل … و كل تولى معرضنا لم يجامل
فإن يلفيا أو يمكن الله منهما … نكل لهما صاعا بصاع المكايل
و ذاك أبو عمرو أبي غير بغضنا … ليظعننا في أهل شاء و جامل
يناجي بنا في كل ممسى و مصبح … فناج أبا عمرو بنا ثم خاتل
و يؤلي لنا بالله ما إن يغشنا … بلى قد نراه جهزة غير خائل
أضاق عليه بغضنا كل تلعة … من الأرض بين أخشب فمجادل
و سائل أبا الوليد ماذا حبوتنا … بسعيك فينا معرضا كالمخاتل
و كنت امرأ ممن يعاش برأيه … و رحمته فينا و لست بجاهل
فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح … حسود كذوب مبغض ذي دغاول
و مر أبو سفيان عني معرضا … كما مر قيل من عظام المقاول
يفر إلى نجد و برد مياهه … و يزعم أني لست عنكم بغافل
و يخبرنا فعل المناصح أنه … شفق و يخفي عارمات الدواخل
أمطعم لم أخذلك في يوم نجدة … و لا معظم عند الأمور الجلائل
و لا يوم خصم إذ أتوك ألدة … أولى جدل من الخصوم المساجل
أمطعم إن القوم ساموك خطة … و إني متى أوكل فلست بوائل
جزى الله عنا عبد شمس و نوفلا … عقوبة شر عاجلا غير آجل
بميزان قسط لا يخيس شعيرة … له شاهد من نفسه غير عائل
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا … بني خلف قيضا بنا و الغياطل
و نحن الصميم من ذؤابة هاشم … و آل قصي في الخطوب الأوائل
و سهم و مخزوم تمالوا و ألبوا … علينا العدا من كل طمل و خامل
فعبد مناف أنتم خير قومكم … فلا تشركوا في أمركم كل واغل
لعمري لقد و هنتم و عجزتم … و جئتم بأمر مخطئ للمفاصل
و كنتم حديثا حطب قدر و أنتم … ألان حطاب أقدر و مراجل
ليهن بني عبد مناف عقوقنا … و خذلاننا و تركنا في المعاقل
( فإن نك قوما نتئر ما صنعتم … و تحتلبوها لقحة غير باهل
( فأبلغ قصيا أن سينشر أمرنا … و بشر قصيا بعدنا بالتخاذل )
( و لو طرقت ليلا قصيا عظيمة … إذا ما لجأنا دونهم في المداخل )
و لو صدقوا ضربا خلال بيوتهم … لكنا أسى عند النساء المطافل )
فكل صديق و ابن أخت نعده … لعمري وجدنا غبه غير طائل )
سوى أن رهطا من كلاب بن مرة … براء إلينا من معقة خاذل )
و نعم ابن أخت القوم غير مكذب.. زهير حساما مفردا من حمائل
أشم من الشم البهاليل ينتمي … إلى حسب في حومة المجد فاضل )
لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد … و إخواته دأب المحب المواصل
فمن مثله في الناس أي مؤمل … إذا قاسه الحكام عند التفاضل )
حليم رشيد عادل غير طائش … يوالى إلاها ليس عنه بغافل )
كريم المساعي ماجد و ابن مجد … له إرث مجد ثابت غير ناصل )
و أيده رب العباد بنصره … و أظهر دينا حقه غير زائل )
فو الله لولا أن أجئ بسبة … تجر على أشياخنا في المحافل )
لكنا تبعناه على كل حالة … من الدهر جدا غير قول التهازل )
لقد علموا أن ابننا لا مكذب … لدينا و لا يعنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد في أرومة … تقصر عنها سورة المتطاول )
حدبت بنفسي دونه و حميته … و دافعت عنه بالذري و الكلاكل
قال ابن هشام : هذا ما صح لي من هذه القصيدة و بعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها
قلت : هذه قصيدة عظيمة بليغة جدا لا يستطيع بقولها إلا من نسيت إليه و هي أفحل من المعلقات السبع ! و أبلغ في تأدية المعنى منها جميعها ) ( ).
وكانوا يلبون الا ان بعضهم كان يشرك في تلبيته فكانت قريش وكان نسكهم لاساف تقول : لبيك اللهم لبيك لبيك، لا شريك لك الا شريك هو لك تملكه وما ملك) ( ).
الثاني : صنم مناف، نصبته قريش في أطراف مكة ، وذكر أنه من أسباب تسمية بعض أبنائهم عبد مناف .
وحينما نزل قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ) قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنادى يا بني عبد مناف ، وهم :
أولاً : بنو هاشم بن عبد مناف ، وفي نسلهم النبوة والسمو والرفعة ، فمن نسل هاشم ولد عبد المطلب بن هاشم ، ومن عبد المطلب ولد عبد الله أبو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : بنو المطلب بن عبد مناف .
ثالثاً : بنو عبد شمس بن عبد مناف .
رابعاً : بنو نوفل بن عبد مناف .
والمناف هو الجبل العالي ، وأناخ البناء ارتفع .
الثالث : هبل ، وهو أكبر صنم منصوب في جوف الكعبة ، وهو على هيئة إنسان مكسور اليد ، ومصنوع من العقيق الأحمر ، ثم جعلت له قريش يداً من ذهب (وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر. وكان يقال له هبل خزيمة.
وكان في جوف الكعبة، قدامه سبعة أقدحٍ.
مكتوب في أولها: صريح والآخر: ملصق فإذا شكوا في مولود، أهدوا له هديةً، ثم ضربوا بالقداح.
فإن خرج: صريح ألحقوه ، وإن خرج: ملصق، دفعوه( ).
وقدح على الميت؛ وقدح على النكاح؛ وثلاثة لم تفسر لى على ما كانت.
فإذا اختصموا في أمرٍ أو أرادوا سفرا أو عملا، أتوه فاستقسموا بالقداح عنده.
فما خرج، عملوا به وانتهوا إليه.
وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله ” والد النبي صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
(وقال ابن إسحاق: كان عبد المطلب قد نذَر حين لقيَ من قريش عند حفر زمزم ما لَقِيَ لئن ، وُلد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتّى يمنعوه لينحرنّ أحدَهم لله عند الكعبة، فلما تموا عشرة عرف أنهم سيمنعونه، فأخبرهم بنذْرِه، فأطاعوه، وقالوا: كيف نصنع؟
قال: يأخذ كل رجل منكم قِدْحاً، ثم ليكتب فيه اسمه، ثم ائتوني به.
ففعلوا، ثم أتوْه فدخل على هُبَل وقال يعني لقيّم الصنم: اضرب بقداح هؤلاء.
وكان عبد الله أصغَر بني أبيه، وكان أحبّهم إلى عبد المطلب.
فلمّا أخذها ليضرب بها ، قام عبد المطّلب عند الكعبة يدعو الله، ثم ضرب صاحبُ القِداح، فخرج القِدْح على عبد الله، فأخذه عبد المطلب بيده، وأخذ الشَّفْرة، ثم أقبل به إلى إساف ونائلة، فقامت إليه قريش من أنديتها، وقالوا: ما تريد أن تصنع؟
قال: أذبحه.
قالوا: لا تذبحه أبدآ حتى تُعذِر فيه، انطلق به فآتِ أبه، عَرَّافة لها تابع فسَلْها.
فانطلق، فقالت له،: كم الدّية فيكم؟
قالوا: عشرة من الإبل.
قالت: فارجعوا ثم قربوا صاحبكم، وقرّبوا عشرآ من الإبل، ثم أضربوا عليه وعليها بالقِداح ، فإن خرجت على صاحبكم فزِيدُوا من الإبل حتى يَرْضى ربكم، فإنْ خرجتْ على الإبل فقد رَضِي ونجا صاحبُكم.
فقرّبوا عبدَ الله وعشراً من الإبل فخرجت على عبد الله، فزادوا عشرآ فخرجت على عبد الله ، فلم يزالوا على هذا إلى أن جعلوها مائةً، فخرج القدح على الإبل.
فقالوا: قد رَضيَ ربك.
فقال: لا والله حتى أضرب عليها وعليه ثلاث مرات.
ففعل فخرج القِدْح على الإبل، فنُحرت، ثم تُركت لا يُصدّ عنها إنسان و لا سَبُعُ ) ( ).
قانون بعث التنزيل النفرة من الأصنام
تزيح آيات القرآن حب الأصنام من النفوس ، وتبعث النفرة من وجودها في البيوت وخارجها .
ومن الإعجاز الحسي لآيات القرآن دخولها البيوت حالما تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة فتحاصر الأصنام ،وتحض الناس على كسرها وإخراجها من البيوت ، وهو من مصاديق قاعدة : الضدان لا يجتمعان ، وهل يختص ذم الأصنام في القرآن بذات الآيات التي تذم الأصنام ، وتقديسها الجواب لا .
ويمكن القول أن كل آية من القرآن حرب على الأصنام وعبادة الطاغوت والسلطان المطلق ومنها آيات الوحدانية والنبوة والهداية والميعاد ، وهو من الشواهد على أمور :
الأول : نزول القرآن من عند الله عز وجل بواسطة الملائكة .
الثاني : كل آية من القرآن تهذيب للمجتمعات ، ووسيلة سماوية لنشر الأخلاق الفاضلة ، وسبب في بعث النفرة من مفاهيم وعادات الضلالة والشرك ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الثالث : سلامة القرآن من التحريف ، والزيادة ، والنقصان ، للحاجة إلى بقائه تشريعاً ودستوراً في تطهير الأرض من الشرك وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في احتجاج الله عز وجل على الملائكة حينما سألوا عن علة جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، مع أنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )،
الثامن : الصنم ذو الكفين وهو صنم قبيلة جرهم .
التاسع : ذو الشرى ، وهو صنم قبيلة دوس ( ).
العاشر : تيم وهو صنم قبيلة مُزينة .
الحادي عشر :عوض ، وهو صنم قبيلة بكر بن وائل .
الثاني عشر : المحرق ، صنم كان بسلَمان لبكر بن وائل وسائر ربيعة، وكانوا قد جعلوا في كل حي من ربيعة له ولداً ، فكان في عَنزَةَ بَلخ بن المحرق، وكان في عمرو غُفيلَة عمرو بن المحرق، وكان سدنته أولاد الأسوَد العِجلِيون( ).
الثالث عشر : عميانس ، وهو صنم قبيلة خولان ، (يَقْسِمُونَ لَهُ مِنْ أَنْعَامِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ قَسْمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللّهِ بِزَعَمِهِمْ فَمَا دَخَلَ فِي حَقّ عُمْيَانِسَ مِنْ حَقّ اللّهِ تَعَالَى الّذِي سَمّوْهُ لَهُ تَرَكُوهُ لَهُ وَمَا دَخَلَ فِي حَقّ اللّهِ تَعَالَى مِنْ حَقّ عُمْيَانِسَ رَدّوهُ عَلَيْهِ)( ).
لبيان أن العرب كانوا يخرجون الحقوق ولكن ليس لله عز وجل والفقراء إنما للأصنام فجاء الإسلام بالزكاة وذكر موارد صرفها.
الرابع عشر : سعير ، وهو صنم قبيلة عنزة .
الخامس عشر : الأقيصر ، وهو صنم قبيلة قُضاعة ، وعاملة ، وجذام ، وغطفان .
السادس عشر :سعد ، صنم بني ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة .
السابع عشر : كعيب ، صنم في القليس (قال ابن إسحاق: ثم إن أبرهة بنى القليس بصنعاء، كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشئ من الارض، وكتب إلى النجاشي: إنى قد بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب.
فذكر السهيلي أن أبرهة استذل أهل اليمن في بناء هذه الكنيسة الخسيسة، وسخرهم فيها أنواعا من السخر، وكان من تأخر عن العمل حتى تطلع الشمس يقطع يده لا محالة، وجعل ينقل إليها من قصر بلقيس رخاما وأحجارا وأمتعة عظيمة، وركب فيها صلبانا من ذهب وفضة، وجعل فيها منابر من عاج وأبنوس، وجعل ارتفاعها عظيما جدا واتساعها باهرا، فلما هلك بعد ذلك أبرهة وتفرقت الحبشة كان من يتعرض لاخذ شئ من بنائها وأمتعتها أصابته الجن بسوء، وذلك لانها كانت مبنية على اسم صنمين، كعيب وامرأته، وكان طول كل منهما ستون ذراعا، فتركها أهل اليمن على حالها.
فلم تزل كذلك إلى زمن السفاح أول خلفاء بنى العباس، فبعث إليها جماعة من أهل العزم والحزم والعلم فنقضوها حجرا حجرا ودرست آثارها إلى يومنا هذا.
قال ابن إسحاق: فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي غضب رجل من النسأة من كنانة، الذين ينسئون شهر الحرام إلى الحل بمكة أيام الموسم، كما قررنا ذلك عند قوله [ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ]( ).
قال ابن إسحاق: فخرج الكناني حتى أتى القليس فقعد فيها ، أي أحدث حيث لا يراه أحد، ثم خرج فلحق بأرضه، فأخبر أبرهة بذلك، فقال من صنع هذا.
فقيل له: صنعه رجل من أهل هذا البيت الذى تحجه العرب بمكة، لما سمع بقولك أنك تريد أن تصرف حج العرب إلى بيتك هذا، فغضب فجاء فقعد فيها، أي أنه ليس لذلك بأهل.
فغضب أبرهة عند ذلك، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت.
ثم سار وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام.
فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريد من هدمه، وإخرابه، فأجابه من أجابه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله.
فهزم ذو نفر وأصحابه، وأخذ له ذو نفر فأتى به أسيرا، فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك لا تقتلني، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من القتل.
فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق وكان أبرهة رجلا حليما)( ).
الثامن عشر : البعبوب ، صنم جديلة طئ (قال عبيد بن الأبرص:
نبِّئتُ أنَّ بَني جَدِيلةَ أوْعَبُوا … نُفَراءَ من سَلْمى لنا وتَكَتَّبُوا
ولقد جَرى لهمُ فلم يتعيَّفوا … تيسٌ قَعيدٌ كالهِرَاوةِ أعضَبُ
وأبو الفِراخ على خشاش هشيمةٍ … متنكِّبٌ إبط الشَّمائل ينْعَبُ
فتجاوزوا ذَاكُمْ إلينا كلَّه … عَدْواً وَقرْطبةً فلما قرَّبوا
طُعِنوا بمُرَّان الوَشيجِ فما تَرى … خلفَ الأسِنّةِ غَيْرَ عِرْقِ يشْخَبُ
وتَبَدَّلوا اليَعْبوبَ بَعدَ إلههِمْ … صَنَماً ففِرُّوا يا جَدِيلَ وأعذِبوا)( ).
التاسع عشر : صنم شمس ، صنم قبيلة عذرة.
العشرون : الجلد ، وذريع ، صنما كندة .
الحادي والعشرون : جهار : وهو صنم تعظمه هوازن في عكاظ.
وتشترك معهم في عبادته بنو محارب ، وسدنته من آل عوف النصريين( ).
الثاني والعشرون : صنما المنطبق ، وعك ، والأول صنم من نحاس أجوف وهو للسلف ، والثاني للشعريين ، وكان (صنما من نحاس، يكلمون من جوفه كلاما لم يسمع بمثله.
الثالث والعشرون : صنم (نهم) وكان لمزينة (وبه كانت تسمى عبد نهمٍ.
وكان سادن نهمٍ يسمى خزاعى بن عبد نهمٍ، من مزينة ثم من بني عداءٍ.
فلما سمع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ثار إلى الصنم فكسره، وأنشأ يقول:
ذهبت إلى نهمٍ لأذبح عنده … عتيرة نسكٍ، كالذي كنت أفعل.
فقلت لنفسي حين راجعت علقها: أهذا إله أيكم ليس يعقل
أبيت، فديني اليوم دين محمدٍ. … إله السماء الماجد المتفضل.
ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم وضمن له إسلام قومه، مزينة. وله يقول أيضا أمية بنم الأسكر:
إذا لقيت راعيين في غنم … أسيدين يحلفان بنهم،
بينهما أشلاء لحمٍ مقتسم، … فامض، ولا يأخذك باللحم القرم)( ).
الرابع والعشرون : صنم (عائم) (وكان لأزد السراة صنم يقال له عائم.
وله يقول زيد الخير، وهو زيد الخيل الطائي:
تخبر من لاقيت أن قد هزمتهم… ولم تدر ما سمياهم، لا، وعائم)( ).
فلما كسرت الاصنام وجدوا فيه سيفا، فاصطفاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فسمى ” مخذما) ( ).
وكانت كل قبيلة تجتمع عند الصنم الخاص بها كل سنة إلى جانب الأصنام التي في ناحيتهم ، ولا يرجعون إلى بيوتهم حتى يمرون عليها ، ويتزلفون إليها ، ويسألونها الحاجات .
محطم الأصنام
لقد كان تحرير مكة من الشرك وعبادة الأصنام حاجة للناس ، وباباً للرزق الكريم ، ومع هذا استمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الناس إلى الإسلام ثلاث عشرة سنة في مكة من حين بداية البعثة إلى الهجرة الإضطرارية من غير أن يكسر الأصنام كما فعل إبراهيم عليه السلام ، كما في قوله تعالى [فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ] ( ).
لقد كان تكسير إبراهيم للأصنام قبل أن يقوم باعادة بناء البيت الحرام ودعوته الناس للحج ، ثم ما لبث الناس أن عادوا إلى عبادة الأوثان ، وهل كان عدم كسر إبراهيم الصنم الكبير علامة على عودة عبادة الأصنام في الأرض ، والحاجة إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
ويدل قيام نمروذ وقومه بجمع الحطب لحرق إبراهيم عليه السلام ، ورميه بالمنجنيق وسط النار على بقائهم على عبادة الأوثان ، وإمكان إعادتهم صنع طائفة منها في ذات بيت الأصنام ، والظاهر أنه من أهم أسباب أخذ إبراهيم هاجر وإسماعيل إلى مكة كمقدمة لبناء البيت ، ودعوة الناس للحج ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
ويسمى إبراهيم عليه السلام محطم الأصنام ، وهذه التسمية صحيحة ، ويمكن القول أن من معجزاته كسره الأصنام وسط قوم كافرين يتخذونها آلهة .
ولكن محطم الأصنام إلى يوم القيامة هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من معجزاته الحسية ، وشاهد على تفضيله.
الإعجاز في كسر إبراهيم (ع) الأصنام
يتصف كسر إبراهيم للأصنام بأمور :
الأول : قيام إبراهيم بكسر الأصنام على حين غفلة من أهل البلدة ، إذ انتهز خروجهم إلى عيدهم بمناسبة الربيع ، وزيادة ماء الفرات ، وعندما تكسو الأرض حلة خضراء بهيجة ، وألوان جذابة كأنها ثوب زفاف ، وولادة جديدة للآمال في دعوة للناس للشكر لله عز وجل على هذه النعمة العامة ، وانصراف الشتاء ،واعتدال الجو ، وتتفتح الزهور عنوان إبتسامة الأرض للذين جعلهم الله عز وجل [خُلَفَاءَ الأَرْضِ] ( ).
فيخرج الناس إلى الحقول والبساتين ليروا الألوان المزركشة للأزهار ، والأردية الزاهية للنباتات الطبيعية والزراعات .
ويستنفر الفلاحون أنفسهم يومئذ خشية تلف المزروعات لكثرة الناس ، ولا يختص هذا العيد بالسومريين ، أو البابليين ، إنما هو عام فيشمل أهل مصر ، وبلاد الهند ، والسند ، والصين ، وغيرها وأن اختلف أوانه .
لقد نغّص إبراهيم عليه السلام على المشركين فرحة العيد لأنه لا أصل لها وخلاف وظيفة الإنسان بوجوب عبادة الله عز وجل.
وعندما امتنع المشركون عن مصاديق الخلافة في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) تصدى لها إبراهيم بالثورة على الشرك ، وسلب فرحة العيد من الكفار ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ] ( )أم أن هذا الخطاب خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
المختار هو الأول خاصة وأن إبراهيم من الرسل الخمسة أولي العزم .
ولم يرد لفظ [اصْدَعْ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، ومن أظهر معاني [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ] ( ) أي بلّغ الرسالة وأمض لما امرك الله سبحانه .
فكان عيد إبراهيم هو كسر الأصنام ، وفي حديث زيد أرقم (قيل : يا رسول الله ما هذه الأضاحي قال (سنة إبراهيم قيل له : فما لنا بها.
قال : بكل شعرة حسنة قيل : فالصوف.
قال : بكل شعرة من الصوف حسنة) أخرجه ابن ماجه وغيره فهذه أعياد المسلمين في الدنيا و كلها عند إكمال طاعة مولاهم الملك الوهاب و حيازتهم لما وعدهم من الأجر و الثواب .
مر قوم براهب في دير فقالوا له : متى عيد أهل هذا الدير ؟
قال : يوم يغفر لأهله ليس العيد لمن لبس الجديد إنما العيد لمن طاعاته تزيد ليس العيد لمن تجمل باللباس و الركوب إنما العيد لمن غفرت له الذنوب في ليلة العيد تفرق خلق العتق و المغفرة على العبيد فمن ناله فمنها شيء فله عيد و إلا فهو مطرود بعيد) ( )( ).
(ومن كلام بعض الأكابر: ليس العيد لمن لبس الجديد إنما العيد لمن آمن من الوعيد.
سئل بعض الرهبان: متى عيدكم.
فقال يوم لا نعصي فيه الله سبحانه فذلك عيدنا ليس العيد لمن لبس الفاخرة، إنما العيد لمن أمن عذاب الآخرة، ليس العيد لمن لبس الرقيق إنما العيد لمن عرف الطريق)( ).
الثاني : قيام إبراهيم عليه السلام بجدال أهل البلد بخصوص عبادتهم الأصنام ، ومع هذا لم تتبعه طائفة منهم .
الثالث : قيام إبراهيم بكسر الأصنام بمفرده ، وعند غياب القائمين على الأصنام وزوارها ، ولو فعله بحضورهم لمنعوه ، وربما قتلوه ، في ساعة غضب عام .
الرابع : لم يكسر إبراهيم عليه السلام الأصنام التي في بيت العبادة كلها ، إنما أبقى كبيرهم للإحتجاج عليهم .
الخامس : عندما عاد أهل البلدة ورأوا الأصنام قد كسرت أشاروا بأصبع الإتهام إلى إبراهيم ، واقتادوه للمساءلة والمحاكمة ، وكانت مناسبة ليحتج عليهم إبراهيم عليه السلام ، ومما ورد في التنزيل ، قال [قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ) .
وكلمة [أُفٍّ] نوع تضجر ، وأسف على إختيارهم الضلالة وهي طريق للنار ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ] ( ).
وفي أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان المشركون يقولون لطائفة من المسلمين أف لكم لإتباعكم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من الأذى الذي كان يلقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وفي قوله تعالى [وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ] ( ) قال الكعبي (أنهم أناس من أهل الكتاب لم يكونوا يهوداً ولا نصارى وكانوا على دين أنبياء الله وكانوا ينتظرون بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما سمعوا بظهوره بمكة قصدوه ، فعرض عليهم القرآن وأسلمواْ .
وكان أبو جهل ومن معه من كفار قريش يلقونهم فيقولون لهم : أفٍّ لكم من قوم منظور إليكم تبعتم غلاماً قد كرهه قومه وهم أعلم به منكم فإذا ذلك لهم أعرضوا عنهم) ( ).
السادس : ومن فضل الله سبحانه أنه لم يحرق من إبراهيم إلا وثاقه مع أنه وسط النيران الملتهبة التي يقع فيها الطير من شدة وارتفاع لهبها، فعندما يدعو النبي بمفرده الله عز وجل أو معه أنصار ، فان المدد يأتي من عند الله عز وجل سبحانه ، قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
وهل كان جدال إبراهيم عليه السلام مع المشركين من الوحي أم هو إجتهاد منه ، إذ ورد قوله تعالى [قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ] ( ) .
المختار أنه من الوحي أجراه الله على لسان إبراهيم وسط أمة كافرة تتصف بالقوة والبطش ، وكانوا يتخذون من نمروذ إلهاً ، وأنه هو مالك الأرض ، وبيده حياة وموت ، لأنه يقتل من يشاء ، ويعفو عمن يشاء ، ويستحوذ على أرض وأموال من يشاء .
وعن مجاهد (ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين، والكافران: بختنصر ونمرود بن كنعان، لم يملكها غيرهم) ( ).
وهذا القول يحتاج إلى دليل ، فيأبى الله عز وجل أن يملك الأرض كلها كافر ، ومن فضل الله عز وجل على الناس أنه يجعل متسعاً للناس في الهجرة وطلب الرزق ، ويدل عليه قوله تعالى [أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا] ( ).
ومن معاني هذه الآية ارضي واسعة لا يتملكها سلطان .
(عن زيد بن أسلم: أول جبار كان في الأرض نمرود، . فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار، فإذا مر به ناس قال: من ربكم .
قالوا: أنت!
حتى مر إبراهيم، قال: من ربك .
قال: الذي يحيي ويميت .
قال: أنا أحيي وأميت .
قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب .
فبهت الذي كفر.
قال: فرده بغير طعام.
قال: فرجع إبراهيم على أهله .
فمر على كثيب أعفر، فقال: ألا آخذ من هذا، فآتي به
أهلي، فتطيب أنفسهم حين أدل عليهم .
فأخذ منه فأتى أهله.
قال: فوضع متاعه ثم نام، فقامت امرأته إلى متاعه، ففتحته، فإذا هي بأجود طعام رآه أحد ، فصنعت له منه، فقربته إليه، وكان عَهِد أهلَه ليس عندهم طعام، فقال: من أين هذا .
قالت: من الطعام الذي جئت به .
فعلم أن الله رزقه، فحمد الله. ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن بي وأتركك على ملكك .
قال: وهل رب غيري .
فجاءه الثانية، فقال له ذلك، فأبى عليه.
ثم أتاه الثالثة فأبى عليه، فقال له الملك: اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام!
فجمع الجبار جموعه، فأمر الله الملك، ففتح عليه بابا من البعوض، فطلعت الشمس، فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم، وشربت دماءهم، فلم يبق إلا العظام، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء.
فبعث الله عليه بعوضة، فدخلت في منخره، فمكث أربعمئة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه وضرب بهما رأسه. وكان جبارا أربعمئة عام، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه، وأماته الله. وهو الذي بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد) ( ).
والحديث ضعيف دلالة ، ولم يرفعه زيد بن اسلم ، وهو تابعي (مولى عمر بن الخطاب توفي سنة ست وثلاثين ومائة أو نحوها) ( ).
وقيل (إنما الضحّاك استعمل نمروذ على السواد وما اتصل به يمنة ويسرة وجعله وولده عمّالاً على ذلك) ( ).
وكان إبراهيم عليه السلام في ذات بلدة نمروذ ، وهي بابل ، ولم يذكر نمروذ في القرآن بالاسم ، ولكنه ذكر في التوراة بالاسم ، وفي سفر التكوين
(10: 8 و كوش ولد نمرود الذي ابتدا يكون جبارا في الارض
10: 9 الذي كان جبار صيد امام الرب لذلك يقال كنمرود جبار صيد امام الرب ( ).
10: 10 و كان ابتداء مملكته بابل و ارك و اكد و كلنة في ارض شنعار
10: 11 من تلك الارض خرج اشور وبنى نينوى ورحوبوت عير وكالح).( ).
لقد كان جهاد إبراهيم من أجل نيلهم الحرية باختيار سبل الهدى والرشاد ، والتنزه عن عبادة الأصنام ، لذا فان نمروذ حينما أمر بقتله كان يخشى على سلطانه وملكه المطلق .
ولا بأس بمقارنة بين ظلم فرعون وظلم نمروذ ، والجامع بينهما أدعاء الربوبية ، وفضل الله ببعث نبي رسول لكل منهما .
صنم العزى
من أشهر أصنام الجزيرة (العزى) ، وكانت قريش تزور العزى وتقدم لها النذور والهدايا ، وتعبد لها بنو سليم وغطفان ، وجشم ونصر ، وسعد بن بكر ، وخزاعة .
(وكان العزى ثلاث شجرات سمرات بنخلة ، وكان أول من دعا إلى عبادتها عمرو بن ربيعة والحارث بن كعب ، وقال لهم عمرو : إن ربكم يتصيف باللات لبرد الطائف ، ويشتو بالعزى لحر تهامة .
وكان في كل واحدة شيطان يعبد ، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بعث بعد الفتح خالد بن الوليد إلى العزى ليقطعها فقطعها ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما رأيت فيهن ؟
قال : لا شيء .
قال : ما قطعتهن ، فارجع فاقطع .
فرجع فقطع ، فوجد تحت أصلها امرأة ناشرة شعرها ، قائمة عليهن ، كأنها تنوح عليهن ، فرجع فقال : إني رأيت كذا وكذا .
قال : صدقت) ( ).
لذا ورد عن ابن عباس قال ( كانت العزى شيطانةً تأتي ثلاث سمراتٍ ببطن نخلة.
فلما افتتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد، فقال له: إيت بطن نخلة، فإنك تجد ثلاث سمراتٍ، فاعضد الأولى ، فأتاها فعضدها.
فلما جاء إليه عليه السلام ، قال: هل رأيت شيئاً .
قال: لا.
قال: فاعضد الثانية.
فأتاها فعضدها.
ثم أتى النبي عليه السلام ، فقال : هل رأيت شيئا .
قال: لا.
قال: فاعضد الثالثة .
فأتاها. فإذا هو بحبشية نافشةٍ شعرها، واضعةٍ يديها على عاتقها، تصرف بأنيابها، وخلفها دبية بن حرمى الشيباني ثم السلمي، وكان سادنها. فلما نظر إلى خالدٍ قال:
أعزاء، شدى شدةً لا تكذبي … على خالدٍ ألقى الخمار وشمرى
فإنك إلا تقتلى اليوم خالداً … تبوئى بذل عاجلاً وتنصرى.
فقال خالد:
يا عز كفرانك لا سبحانك… إنى رأيت الله قد أهانك.
ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة. ثم عضد الشجرة، وقتل دبية السادن.
ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخبره.
فقال: تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب .
أما إنها لن تعبد بعد اليوم) ( ).
وقيل إنها امرأة كان السادن يخفيها في مكان خفي لتجيب على اسئلة الناس افعل أو لا أفعل , وعلى فرض صحة هذا الإحتمال فهي شيطانة من شياطين الإنس ، قال تعالى [ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ] ( ).
ومن معاني وأسباب نزول قوله تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( )، أنه (مرض أبو أحيحة وهو سعيد بن العاص بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف مرضه الذي مات فيه.
فدخل عليه أبو لهبٍ يعوده، فوجده يبكي. فقال: ما يبكيك، يا أبا أحيحة .
أمن الموت تبكي، ولا بد منه .
قال: لا.
ولكني أخاف أن لا تعبد العزى بعدي.
قال أبو لهب: والله ما عبدت حياتك لأجلك، ولا تترك عبادتها بعدك لموتك .
فقال أبو أحيحة: الآن علمت أن لي خليفة .
وأعجبه شدة نصبه في عبادتها.
فلما كان عام الفتح ، دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد، فقال: انطلق إلى شجرةٍ ببطن نخلة، فاعضدها.
فانطلق فأخذ دبية فقتله، وكان سادنها.
فقال أبو خراش الهذلي في دبية يرثيه:
ما لدبية منذ اليوم لم أره … وسط الشروب ولم يلمم ولم يطف
لو كان حياً، لغاداهم بمترعةٍ … من الرواويق من شيزى بني الهطف.
ضخم الرماد، عظيم القدر، جفنته…حين الشتاء كحوض المنهل اللقف.
أمسى سقام خلاءً لا أنيس به … إلا السباع ومر الريح بالغرف.
قال أبو المنذر: بطيف من الطوفان، من طاف يطيف؛ والهطف بطن من بني عمرو بن أسدٍ؛ اللقف الحوض المنكسر الذي يضرب أصله الماء فيتثلم، يقال: قد لقف الحوض.
قال أبو المنذر: وكان سعيد بن العاص أبو أحيحة يعتم بمكة.
فإذا اعتم لم يعتم أحد بلون عمامته) ( ).
وكان لكل قبيلة تلبية (فكانت تلبية من نسك للعزى : لبيك اللهم لبيك لبيك وسعديك ما احبنا اليك) ( ).
هدم الفُلُس
الفُلُس : هو صنم طي ، بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام فهدمه( ).
ففي شهر ربيع الآخر من السنة التاسعة للهجرة توجه الإمام علي عليه السلام ومعه مائة وخمسون من المهاجرين والأنصار لدعوة قبيلة طي للإسلام وهدم الصنم الفُلُس ، الذي يسمى أحياناً (صنم بَليّ) ( ).
وكان عدي بن حاتم الطائي في ديار طي ولكنه حالما علم برايات المسلمين قد أطلت عليهم هرب بزوجته وأولاده إلى جهة الشام مما يدل على أن الإمام علي عليه السلام لم يغزهم ، ولم يباغتهم بالهجوم ، إنما قصد هدم الصنم ، ومنع عبادة الأوثان.
(ووجدوا في خزانة الفلس ثلاثة أسياف وثلاثة أدراع)( ).
وهذه الأسياف هي (رسوب والمخذم – كان الحارث بن أبي شمر قلده اياهما – وسيف يقال له اليماني وثلاثة أدرع.
واستعمل علي عليه السلام على السبي أبا قتادة واستعمل على الماشية عبد الله بن عتيك.
فلما نزلوا ركك اقتسموا الغنائم وعزلوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم صفيا رسوبا والمخذم، ثم صار له بعد السيف الاخر، وعزل الخمس، وعزل آل حاتم فلم يقسمهم حتى قدم بهم المدينة)( ).
والرسوب من رسب الماء ، لأن ضربته تغوص في المضروب به المخذم : القاطع.
(كان الحارث بن أبى شمر قد نذرهما لذلك الصنم(الفُلُس))( ).
وكان في السبي بنت حاتم الطائي واسمها (سفّانة) بفتح السين وتشديد الفاء .
ووضعت في حظيرة بباب المسجد كانت النساء تحجز فيها وليس هو سجناً ، لامكان خروج النساء منها (فمر بها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقامت إليه و كانت امرأة جزلة فقالت : يا رسول الله هلك الوالد و غاب الوافد فامنن علي منّ الله عليك
قال : [ و من وافدك ؟ ] .
قالت : عدي بن حاتم قال : [ الفار من الله و رسوله ] .
وفيه رسالة أمن لعدي ودعوة له لدخول الإسلام .
قالت : ثم مضى و تركني حتى إذا كان الغد مر بي فقلت له مثل ذلك و قال لي مثل ما قال بالأمس
قالت : حتى إذا كان بعد الغد مر بي و قد يئست فأشار إلي رجل خلفه أن قومي فكلميه قالت : فقمت إليه فقلت : يا رسول الله هلك الوالد و غاب الوافد فامنن علي من الله عليك
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : [ قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة ، حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني ] .
فسألت عن الرجل الذي أشار إلي أن كلميه فقيل لي : علي بن أبي طالب . ويبدو أنها لم تره في الطريق إلى المدينة وهي في السبي مع أنه كان هو أمير السرية .
قالت : و أقمت حتى قدم ركب من بلي أو قضاعة قالت و إنما أريد أن آتي أخي بالشام فجئت فقلت : يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة و بلاغ .
قالت : فكساني و حملني و أعطاني نفقة فخرجت معهم حتى قدمت الشام .
ويدل قولها فجئت على أنها لم تكن محبوسة .
قال عدي : فو الله إني لقاعد في أهلي فنظرت إلى ظعينة تصوب إلى قومنا .
قال : فقلت ابنة حاتم قال : فإذا هي هي
فلما وقفت علي انسحلت تقول : القاطع الظالم ! احتملت بأهلك و ولدك و تركت بقية والدك عورتك ؟ قال : قلت : أي أخية لا تقولي إلا خيرا فو الله ما لي من عذر لقد صنعت ما ذكرت
قال : ثم نزلت فأقامت عندي فقلت لها و كانت امرأة حازمة : ماذا ترين في أمر هذا الرجل ؟
قالت : أرى و الله أن تلحق به سريعا فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله و إن يكن ملكا فلن تذل في عز اليمن و أنت أنت قال : فقلت : و الله إن هذا لرأي .
قال : فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم المدينة فدخلت عليه و هو في مسجده فسلمت عليه فقال : من الرجل ؟ فقلت : عدي بن حاتم .
فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و انطلق بي إلى بيته فو الله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها قال قلت في نفسي : و الله ما هذا بملك!
قال : ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفا فقذفها إلي فقال : [ اجلس على هذه ] .
قلت : بل أنت فاجلس عليها قال : [ بل أنت ]
فجلست و جلس رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بالأرض قال قلت في نفسي : و الله ما هذا بأمر ملك
ثم قال : إيه يا عدي بن حاتم ، ألم تك ركوسيا.
قلت : بلى .
قال : أولم تكن تسير في قومك بالمرباع.
قلت : بلى قال (فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك) .
قلت أجل و الله
قال : وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل.
ثم قال : لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم فو الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه .
و لعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم و قلة عددهم فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف .
و لعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك و السلطان في غيرهم و ايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم.
قال : فأسلمت
فكان عدي يقول : مضت اثنتان و بقيت الثالثة و الله لتكونن و قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت و رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت و ايم الله لتكونن الثالثة ليفيضن المال حتى لا يوجد من يأخذه) ( ).
وحينما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمراء والعمال على الصدقات (بعث عدي بن حاتم الطائي على صدقات طيء وأسد، وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة.
وجعل الزبرقان بن بدر وقيس بن عاصم على صدقات سعد بن زيد مناة بن تميم .
وبعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين.
وبعث علي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم وجزيتهم ويعود، ففعل وعاد، ولقي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بمكة في حجة الوداع، واستخلف على الجيش الذي معه رجلاً من أصحابه، وسبقهم إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فلقيه بمكة .
فعمد الرجل إلى الجيش فكساهم كل رجل حلة من البز الذي مع علي .
فلما دنا الجيش خرج علي ليتلقاهم فرأى عليهم الحلل، فنزعها عنهم، فشكاه الجيش إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فقام النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، خطيباً فقال (أيّها النّاس لا تشكو عليّاً فوالله إنه لأخْشَنُ في ذات الله وفي سبيل الله)( ).
ويدل تعيين عدي بن حاتم الذي أٍسلم حديثاً عاملاً على الصدقات على قبيلته ، وقبيلة بني أسد وهو رئيس قبيلة طي على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يكرم الذوات ، وأنه لم يغز أحداً إنما كان يدعو الناس إلى الإيمان وإلى إخراج الزكاة وجعلها في سبيل الله ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التوجه وأصحابه نحو القبائل لهدم الأصنام ، فتعرض القبيلة ورؤساؤها الإسلام من غير غزو أو قتال .
الصنم مناة
التي ورد ذكرها في القرآن ، قال تعالى [ أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( ).
وكانت مناة صنما لهذيل وخزاعة (وكانت قريش وجميع العرب تعظمها.
فلم يزل على ذلك حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة سنة ثمانٍ من الهجرة، وهو عام فتح الله عليه.
فلما سار من المدينة أربع ليالٍ أو خمس ليالٍ، بعث علياً إليها فهدمها وأخذ ما كان لها.
فأقبل به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان فيما أخذ سيفان كان الحارث بن أبي شمرٍ الغساني ملك غسان أهداهما لها: أحدهما يسمى مخذماً والآخر رسوباً. وهما سيفا الحارث اللذان ذكرهما علقمة في شعره ، وقد تكرر اسمي السيفين واسم الحارث في قصة الصنم الفُلُس والأرجح أنهما للفلس،ذكرها علقمة في شعره فقال :
مظاهر سربالى حديدٍ عليهما … عقيلا سيوفٍ: مخذم ورسوب.
فوهبهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام ) ( ).
كسر ذي الخلصة
ذو الخلصة ، وهو بيت أصنام بتبالة بين مكة واليمن ، وأقرب إلى اليمن على مسيرة سبع ليالي من مكة ، وكان مروة بيضاء ومنقوشة عليها كهيئة التاج ، وتبالة الآن إحدى مراكز محافظة بيشة وسميت بتبالة نسبة إلى تبالة بنت مكنف (وكان سدنتها بنو أمامة من باهلة بن أعصر.
وكانت تعظمها وتهدى لها خثعم وبجيلة وأزد السراة ومن قاربهم من بطون العرب من هوازن.
ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة.
قال رجل منهم:
لو كنت ياذا الخلص الموتورا…مثلى وكان شيخك المقبورا)( ).
وبالإسناد عن عبد الحميد بن جعفر ، عن أبيه قال (قدم جرير بن عبد الله البجلي سنة عشر ومعه من قومه مائة وخمسون رجلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يطلع عليكم من هذا الفج من خير ذي يمن على وجهه مسحة ملك ، فطلع جرير على راحلته ومعه قومه فأسلموا وبايعوا.
قال جرير: فبسط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده فبايعني وقال: على أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتنصح للمسلمين، وتطيع الوالي وإن كان عبداً حبشياً ” فقال: نعم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأله عما وراءه، فقال: يا رسول الله، قد أظهر الله الإسلام، وأظهر الله الإسلام، والآذان في مساجدهم وساحاتهم وهدمت القبائل أصنامها التي كانت تعبد، قال: ” فما فعل ذو الخلصة.
مما يدل على معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأسماء أصنام العرب ، حتى إذا ما أظهره الله عز وجل فانه صار يأمر بهدمها ، ويذكرها بالأسماء لإسئتصال عبادة الأوثان في الجزيرة.
قال : هو على حاله، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى هدم ذي الخلصة وعقد له لواء، فقال: إني لا أثبت على الخيل، فمسح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدره، وقال: ” اللهم اجعله هادياً مهدياً ” فخرج في قومه وهم زهاء مائتين، فما أطال الغيبة حتى رجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” أهدمته .
قال: نعم، والذي بعثك بالحق، وأحرقته بالنار، فتركته كما يسوء أهله، فبارك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ على خيل أحمس ورجالها.)( ).
وورد الخبر عن جرير نفسه وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له، ألا تريحني من ذي الخلصة ، فقلت بلى ، إلى أن قال فبارك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات .
لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً ، إنما كان يبعث مائة وخمسين ومائتين من أصحابه ، ويبعث الإمام علي عليه السلام وبعض أصحابه لكسر الأصنام من غير التعرض للذين كانوا يعبدونها ، بلحاظ أن الأصنام فتنة تستأصل بالهدم ، وهل في هدم الأصنام حرب على الإرهاب ، الجواب نعم ، وهو قانون يأتي بيانه في الجزء الثاني والعشرين بعد المائتين من هذا السٍفر ، والذي هو بعنوان (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب ) .
ويدل بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم السرايا كثيرة العدد لهدم كل صنم على منزلة الأصنام عند العرب ، واحتمال قيامهم بالدفاع عنها .
ولإيصال رسالة إلى عبدة الصنم أن القادمين كلهم ينكرون عبادة الأصنام ولا يرضون بها.
وإذ كسر إبراهيم عليه السلام أصناماً في بيت واحد وأبقى كبيرهم فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث السرايا لكسر الأصنام في أنحاء الجزيرة.
ولم يدع إلى تأديبهم وقتلهم ، إنما قال لجرير مثلاً : إلا تريحني من ذي الخلصة)( )، أي من ذات الصنم ، والأصنام الموجودة في ذات بيت الأصنام.
ولما كسر جرير وهو وأصحابه الصنم بعث رسولاً إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكنى أرطأة ليحمل البشارة بكسر الصنم ، لما فيه من تحول نوعي في عقائد الناس نحو التوحيد ، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أنه لا ينشأ ويصاغ صنم آخر بديلاً له إلى يوم القيامة .
ويدل ذهاب سرية من مائتين من الصحابة لكسر صنم على توارث ورسوخ عبادة الأصنام عند الناس ، وإحتمال قتالهم من أجل بقاء الصنم.
قانون ذم الأصنام جهاد
لقد نزلت آيات القرآن في ذم الأصنام وعبادتها ، وهذا الذم على أقسام :
الأول : ذم عبادة بعض الأمم السابقة لعبادة الأصنام كما في قوم نوح ، وما ورد بخصوصهم في التنزيل [وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا]( )، وهذه الأصنام أسماء علماء وقوم صالحين ، ولما ماتوا نصبوا في مجالسهم أوثاناً وسموها بأسمائهم ومنها الأصنام التي كان يعبدها قوم إبراهيم عليه السلام .
الثاني : الأصنام التي صارت عند العرب من الأمم السابقة فبعث الله عز وجل النبي محمداً وهي موجودة تزار وتُقدس ويتزلف إليها ، و(عن ابن عباس قال : صارت الأصنام والأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ، أما ودّ فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع فكانت لهذيل .
وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان .
وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع .
وكانوا أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ، ففعلوا فلم تعبد حتى إذ هلك أولئك ونسخ العلم عبدت)( ).
الثالث : الأصنام التي استحدثتها قريش ، وقبائل العرب ، وصاروا يختصون بها ، ويحرصون على سلامتها .
ومنها : هبل ، وغبغب ، والبعبوب .
وصنم بكر بن وائل (المحرق) ، ومئات الأصنام التي نصبت في البيت الحرام ، وهناك الأصنام الخاصة بالبيوت ونزل القرآن بذم الأصنام مطلقاً ، وبيان جهاد الأنبياء السابقين في محاربتها وهدمها .
ليكون هذا الجهاد سور الموجبة الكلية الذي يلتقي عنده الأنبياء جميعاً ، وقد ثبت عدم قيام الأنبياء بالغزو ، كما في سيرة النبي نوح ، وإدريس ، وصالح ، وشعيب ، ويونس ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، عليهم السلام.
نعم أخبر القرآن عن قيام الأنبياء بالقتال كما في قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( )، مما يدل على حمل قتال الأنبياء على الدفاع ، والسعي في هدم الأصنام.
سعت قريش ليتوقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذمها وكانت حجتهم أن في هذا الذم شتماً لآبائهم لأنهم كانوا يعبدونها وقولهم هذا مغالطة ، إنما كانوا متمسكين بعبادة الأوثان بحجة أن آباءهم كانوا يعبدونها ، قال تعالى [قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ]( ).
ومشى أشرافهم إلى أبي طالب ليكلم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ثم مشوا إليه ليسلمه إليهم ، فأبى عليهم أبو طالب وذبّ عن النبي ، ولم يمنعه من ذم الأصنام .
ولا يستطيع منعه ، إذ كانت آيات القرآن تتوالى بذم الأصنام ، وعبادة الأوثان فتدخل الى كل بيت في مكة وخارجها ، وهذا الدخول من مصاديق تسمية مكة [أُمَّ الْقُرَى]( ).
ومن خصائص البعثة النبوية قانون الملازمة بين النبي والجهاد ، فتبقى صفة النبوة مصاحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يغادر الدنيا إلى الرفيق الأعلى لا تسلب منه النبوة ، والله عز وجل إذا أنعم على عبد بنعمة فإنه أكرم من أن يرفعها ، ولأن نعمة النبوة لشخص النبي نعمة على الناس جميعاً .
وهل كل الأنبياء كان في زمانهم وبلدتهم أصنام تعبد ، الجواب لا ، إلا أنه لا يمنع من مجئ كل نبي بالنهي بسلامة الناس من عبادة الأصنام .
وورد حكاية عن إبراهيم في التنزيل (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ( ).
بين الأصنام والأوثان
تحتمل النسبة بين الأصنام والأوثان وجوهاً :
الأول : التساوي ، وبه قال جماعة .
الثاني : العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
الثالث : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الأصنام أعم من الأوثان .
الثانية : الأوثان أعم من الأصنام .
الرابع : هما مما إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا .
المختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثالث أعلاه ، والوجه الرابع أيضاً، وقيل أن الوثن هو كل ما له جثة مصنوعة من الأرض أو من الخشب أو المعادن ، كما في صورة إنسان ، والصنم الصورة بلا جثة .
وقال تعالى في ذم المشركين [إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( ).
وورد لفظ [أَصْنَامٍ] خمس مرات في القرآن أكثرها بخصوص جهاد إبراهيم عليه السلام ، ليكون هذا الجهاد مقدمة لجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، لتطهير مكة والجزيرة منها إلى يوم القيامة .
منها قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ] ( ) وورد لفظ [أَوْثَانً] ثلاث مرات في القرآن ، اثنتين في إبراهيم عليه السلام ، وواحدة في ذم المشركين من قريش وغيرهم.
وفي تنزيه المسلمين من مفاهيم الشرك ، كما في قوله تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ]( ).
و(الصنمة والنصمة الصورة التى تعبد)( ).
دخول العبيد الإسلام
لقد كان عامة رجال قريش يلتقون في البيت الحرام حول الكعبة ، وفي دار الندوة ، ويستعرضون أحوال القبائل ويعتنون بشأن عامة قريش ، ويذكرون الوقائع والأحداث ، وأشعار المدح والذم ، والشجاعة والكرم .
ويستقرأون منها المواعظ والعبر ، حتى إذا داهمهم أمر فيه نفع أو ضرر اجتمعوا للتدارس ، وإتخاذ قرار مناسب ، ولكنهم مدة الحصار امتنعوا عن إشراك بني هاشم في مثل هذه القرارات لأنهم كانوا يتدارسون كيفية البطش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتذاكرون في تضييقهم على بني هاشم ، وفي تعذيبهم لعدد من المسلمين رجالاً ونساءً .
وكانوا يذكرون باخفات إخلاص المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسماء الذين دخلوا الإسلام حديثاً من قريش خاصة ، وعموم أهل مكة والقبائل والعبيد عامة .
وصحيح أن العبيد ليس لهم شأن عند قريش في الرأي والقرار ، ولكن حينما بُعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم صاروا ينظرون إلى العبيد بأهمية من جهات :
الأولى : الذين دخلوا الإسلام من العبيد .
الثانية : فتوة العبيد الذين دخلوا الإسلام .
الثالثة : فقد قريش لرجال كانوا يقاتلون دونهم ويطيعونهم في حال الحرب والسلم ويحرسون القوافل .
الرابعة : قيام الحجة على عامة الناس بدخول العبيد الإسلام ، إذ أنهم أدركوا صدق النبوة مع أن قريشاً تنظر لهم بأنهم أدنى وأقل شأناً ، وأنه لا قرار أو اختيار لهم .
الخامسة : حاجة قريش للعبيد لتقديمهم في قتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإغرائهم بالجوائز والمال.
ويمكن إستقراء أهمية العبيد العسكرية بخصوص وحشي بن حرب الحبشي (من سودان مكة مولى لطعيمة بن عدي .
ويقال : هو مولى جبير بن مطعم بن عدي كذا قال ابن إسحاق وأكثرهم قال يكنى أبا دسمة وهو الذي قتل حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وكان يومئذ وحشي كافرا استخفى له خلف حجر ثم رماه بحربة كانت معه وكان يرمي بها رمي الحبشة فلا يكاد يخطئ واستشهد حمزة حينئذ ثم أسلم وحشي بعد أخذ الطائف وشهد اليمامة ورمى مسيلمة بحربته التي قتل بها حمزة وزعم أنه أصابه وقتله .
وكان يقول : قتلت بحربتي هذه خير الناس وشر الناس) ( ).
وكان أول من أسلم من العبيد بلال بن رباح ، ومن الإماء سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر ، ومن الموالي زيد بن حارثة .
لقد وجد العبيد والموالي ضالتهم في الإسلام لأنه جاء إلى جانب المعجزات بالمساواة بين المسلمين ، وتكون مادة الترجيح التقوى والخشية من الله ، قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الأحرار لم يمتنعوا عن دخول الإسلام بسبب مساواته للعبيد معهم ، مع أن المجتمع آنذاك مجتمعاً قبلياً يتقوم بالتفاخر بالآباء والأنساب ، وإزدراء الأدنى والضعيف.
وهل بلغ الميثاق العبيد ، الجواب نعم ، فقد كانت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ميثاقاً .
ومن الآيات أن العبيد من الصحابة نالوا الشرف العظيم في النشأتين إذ تحملوا أشد الأذى في جنب الله ، ويذكرهم كل جيل من أجيال المسلمين بالفخر والإمتنان وهو من مصاديق الآية أعلاه وأن الإكرام عند التقوى لا يختص بعالم الآخرة إنما يشمل عالم الحياة الدنيا ، قال تعالى [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
أسماء أصحاب بيعة العقبة الثانية
تمت بيعة العقبة الثانية في السنة الثالثة عشرة للبعثة النبوية ، فقد حضرها ثلاثة وسبعون رجلاً ، ومن الخزرج اثنان وستون رجلاً وهم :
الأول : أسيد بن حضير أحد النقباء.
الثاني : أبو الهيثم بن التيهان بدري أيضا.
الثالث : سلمة بن سلامة ابن وقش بدري.
الرابع : ظهير بن رافع.
الخامس : أبو بردة بن نيار.
السادس : نهير بن الهيثم بن نابي بن مجدعة بن حارثة.
السابع : سعد بن حيثمة أحد النقباء بدري وقتل بها شهيداً.
الثامن : رفاعة بن عبد المنذر بن زنير نقيب بدري.
التاسع : عبد الله بن جبير بن النعمان بن أمية بن البرك بدري وقتل يوم أحد شهيداً أميرا على الرماة.
العاشر : معن بن عدي بن الجد بن عجلان بن الحارث ابن ضبيعة البلوى حليف للأوس شهد بدراً وما بعدها وقتل باليمامة شهيداً.
الحادي عشر : عويم بن ساعدة شهد بدراً وما بعدها.
الثاني عشر : أبو أيوب خالد بن زيد وشهد بدراً وما بعدها ومات بأرض الروم زمن معاوية شهيداً.
الثالث عشر : معاذ بن الحارث.
الرابع عشر : أخوه عوف بن الحارث .
الخامس عشر : معوذ بن الحارث .
وهم بنو عفراء بدريون.
السادس عشر : عمارة بن حزم شهد بدراً وما بعدها وقتل باليمامة.
السابع عشر : أسعد بن زرارة أبو أمامة أحد النقباء مات قبل بدر.
الثامن عشر : سهل بن عتيك بدري.
التاسع عشر : أوس بن ثابت بن المنذر بدري.
العشرون : أبو طلحة زيد بن سهل بدري.
الحادي والعشرون : قيس بن أبي صعصعة واسم ابي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف ابن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار( )، كان أميرا على الساقة يوم بدر.
الثاني والعشرون : عمرو بن غزية.
الثالث والعشرون : سعد بن الربيع أحد النقباء شهد بدرا وقتل يوم أحد.
الرابع والعشرون : خارجة بن زيد شهد بدراً وقتل يوم أحد.
الخامس والعشرون : عبد الله بن رواحة أحد النقباء شهد بدراً وأحداً والخندق وقتل يوم مؤتة أميرا.
السادس والعشرون : بشير بن سعد بدري.
السابع والعشرون : عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه شهد العقبة وهو بدري ، وذكر أنه رآى في السنة الأولى للهجرة الأذان في النوم وأخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً أن يؤذن بالفصول التي رآها عبد الله بن زيد ، وعلى فرض صحة الرواية فانه لا يتعارض مع قانون تلقي وامضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأذان بالوحي ، وتشريع الأذان من عمومات قوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( )وهو من مصاديق قوله تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ] ( ) . وفي الأذان دعوة متجددة إلى الله خمس مرات في اليوم في مشارق الأرض ومغاربها ، وهذا الإطلاق من الشواهد على بيان الميثاق لعموم الناس . الثامن والعشرون : خلاد بن سويد بدري أحدي خندقي وقتل يوم بني قريظة شهيدا طرحت عليه رحى فشدخته فيقال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن له لأجر شهيدين. التاسع والعشرون : أبو مسعود عقبة بن عمرو البدري قال ابن إسحاق: وهو أحدث من شهد العقبة سنا ولم يشهد بدراً. الثلاثون : زياد بن لبيد مهاجري أنصاري إذ(خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأقام معه بمكة حتى هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فكان يقال : لزياد مهاجري أنصاري . شهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستعمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حضرموت) ( ) . الحادي والثلاثون : فروة بن عمرو بن وذفة. الثاني والثلاثون : خالد بن قيس بن مالك بدري. الثالث والثلاثون : رافع بن مالك أحد النقباء. الرابع والثلاثون : ذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق وهو الذي يقال له مهاجري أنصار لأنه أقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة حتى هاجر منها وهو بدري قتل يوم أحد. الخامس والثلاثون : عباد بن قيس بن عامر بن خالد بن عامر بن زريق بدري. السادس والثلاثون : أخوه الحارث بن قيس بن عامر بدري أيضا . السابع والثلاثون : البراء بن معرور أحد النقباء وأول من بايع فيما تزعم بنو سلمة وقد مات قبل مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وأوصى له بثلث ماله فرده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ورثته. ، وابنة بشر بن البراء وقد شهد بدرا وأحدا والخندق ومات بخيبر شهيدا من أكلة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تلك الشاة المسمومة. الثامن والثلاثون : سنان بن صيفي بن صخر بدري. التاسع والثلاثون : الطفيل ابن النعمان بن الخنساء بدري قتل يوم الخندق. الأربعون : معقل بن المنذر بن سرح بدري. الحادي والأربعون : يزيد بن سنان. الثاني والأربعون : المنذر بدري. الثالث والأربعون : مسعود بن زيد بن سبيع. الرابع والأربعون : الضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بدري. الخامس والأربعون : زيد بن خذام بن سبيع. السادس والأربعون : جبار بن صخر بن أمية بن خنساء بن سنان بن عبيد بدري. السابع والأربعون : الطفيل بن مالك بن خنساء بدري. الثامن والأربعون :كعب بن مالك. التاسع والأربعون : سليم بن عامر بن حديدة بدري. الخمسون : قطبة بن عامر بن حديدة بدري. الحادي والخمسون : أخوه أبو المنذر يزيد بدري أيضاً. الثاني والخمسون : أبو اليسر كعب بن عمرو بدري. الثالث والخمسون : صيفي بن سواد بن عباد . الرابع والخمسون : ثعلبة بن غنمة بن عدي بن نابي بدري واستشهد بالخندق. الخامس والخمسون : أخوه عمرو بن غنمة بن عدي. السادس والخمسون : عبس بن عامر بن عدي بدري. السابع والخمسون : خالد بن عمرو بن عدي بن نابي. الثامن والخمسون : عبد الله بن أنيس حليف لهم من قضاعة. التاسع والخمسون : عبد الله بن عمرو بن حرام أحد النقباء بدري واستشهد يوم أحد. الستون : ابنه جابر ابن عبد الله ولم يشهد جابر معركة بدر وأحد امتثالاً لأمر أبيه بالبقاء مع أخوته ، ولكنه خرج إلى حمراء الأسد بعد مقتل أبيه في معركة أحد بيوم واحد ، روى عن جابر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نحو (1500) حديث ، وتوفى في السنة الثامنة والسبعين للهجرة . الحادي والستون : معاذ بن عمرو بن الجموح بدري. الثاني والستون : ثابت بن الجذع بدري وقتل شهيداً بالطائف. الثالث والستون : عمير بن الحارث بن ثعلبة بدري. الرابع والستون : خديج بن سلامة حليف لهم من بلى. الخامس والستون : معاذ بن جبل شهد بدراً وما بعدها ومات بطاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب . السادس والستون : عبادة بن الصامت أحد النقباء شهد بدراً وما بعدها. السابع والستون : العباس بن عبادة بن نضلة وقد أقام بمكة حتى هاجر منها فكان يقال له مهاجري أنصاري أيضا وقتل يوم أحد شهيدا. الثامن والستون : أبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم حليف لهم من بني غصينة من بلى. التاسع والستون : عمرو بن الحارث بن لبدة. السبعون : رفاعة بن عمرو بن زيد بدري. الحادي والسبعون : عقبة ابن وهب بن كلدة حليف لهم بدري وكان ممن خرج إلى مكة فأقام بها حتى هاجر منها فهو ممن يقال له مهاجري أنصاري أيضا. الثاني والسبعون : سعد بن عبادة بن دليم أحد النقباء. الثالث والسبعون : المنذر بن عمرو نقيب بدري أحدي ، وقتل يوم بئر معونة أميراً وهو الذي يقال له : أعتق ليموت . و أما المرأتان : الأولى : فأم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار المازنية النجاري . قال ابن إسحاق : و قد كانت شهدت الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و شهدت معها أختها و زوجها زيد بن عاصم بن كعب و ابناها حبيب و عبد الله و ابنها حبيب هذا هو الذي قتله مسيلمة الكذاب حين جعل يقول له : أتشهد أن محمدا رسول الله . فيقول : نعم فيقول : أتشهد أني رسول الله . فيقول : لا أسمع فجعل يقطعه عضوا عضوا حتى مات في يديه لا يزيده على ذلك فكانت أم عمارة ممن خرج إلى اليمامة مع المسلمين حين قتل مسيلمة ورجعت وبها اثنا عشر جرحا من بين طعنة وضربة. الثانية : أم منيع أسماء ابنة عمرو بن عدي بن نابي بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة) ( ). ثلاث وقائع باسم (بدر) قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ). من إعجاز القرآن ، ومصاديق كونه [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ذكره لمعارك الإسلام الأولى بالأسماء والوقائع وهي : الأولى : معركة بدر : ووقعت في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة. الثانية : معركة أحد : ووقعت في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، ولم تذكر في القرآن بالاسم ، ولكن وقائعها وردت في القرآن ، ومنها [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( )، وأكثر ما ذكرت وقائع هذه المعركة في سورة آل عمران . الثالثة : معركة الخندق : وهي معركة الأحزاب ووقعت في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ويلاحظ وقوع هذه المعارك في شهر رمضان أو شوال لتعجل المشركين بالقتال قبل دخول الأشهر الحرم الثلاثة التي تبدأ بشهر ذي القعدة. إذ زحف عشرة آلاف رجل من المشركين من مكة وما حولها ليحيطوا بالمدينة بغية اقتحامها فصدهم الله عز وجل ، وقام الإمام علي عليه السلام بقتل فارس قريش عمرو بن ود العامري في منازلة خالدة يذكرها كل جيل من المسلمين بفخر واعتزاز ، ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ). ولا يفخر المسلمون بالقتل ، ولكن عمرو بن ود زحف من مكة وقطع مسافة 450 كم مع جيش المشركين ، ثم عبر الخندق وتحدى المسلمين للمبارزة ، وعندما برز له الإمام علي عليه السلام شهر عمرو سيفه ، فكانت شعلة من نار ، وفيه إرهاب وإخافة للناس ، فأخزاه الله بقتل الإمام علي عليه السلام له في الميدان ، لبيان قانون وهو : الخزي عاقبة الجمع بين الكفر والإرهاب . وأرسل الله عز وجل الريح والملائكة لبعث قريش على الفرار بعد طول مدة الحصار ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا]( )، كفأت الملائكة والريح القدور واسقطت الخيم وكأنها طرد لهم وإيذان بالرحيل ، وهذه الكيفية وعدم قتل الملائكة لطرف وطائفة من المشركين يومئذ من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ). فلم تمر ثلاث سنوات إلا وقد دخل هؤلاء العشرة آلاف في الإسلام تباعاً ومن بقي منهم بعيداً عن الإسلام أعلن اسلامه في فتح مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة إلا القليل ، ومنهم المؤلفة قلوبهم . ونصر المسلمين في معركة بدر ، وفتح مكة فيه من مصاديق بركة هذا الشهر. وجاء وصف جنود المشركين بصيغة التأنيث (وجاءتكم) للتخفيف عن المسلمين ، وقد ذُكرت وقائع هذه المعركة في سورة الأحزاب التي سميت باسمها. الرابعة : معركة حنين : والتي وقعت في شهر شوال من السنة الثامنة وبعد فتح مكة ، وورد ذكرها في القرآن بالاسم مرة واحدة ، مثل اسم معركة بدر ، قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( )، وذكرت وقائع هذه المعركة في سورة التوبة.
الخامسة : كتيبة تبوك : بأطراف الشام من جهة الجزيرة وهي أبعد موضع وصل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة ، قال تعالى [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
وكان عدد الصحابة مع النبي ثلاثين ألفاً ، وقيل أكثر ، ومنهم من أوصلهم إلى سبعين ألفاً ، وتسمى هذه الكتيبة بغزوة العسرة لوجوه :
الأول : عسرة الظهر : أي قلة الإبل والخيل التي كان المسلمون يركبونها.
الثاني : عسرة الزاد : لقلته.
الثالث : عسرة الماء : للنقص فيه مع طول المسافة ، وكثرة أفراد جيش المسلمين الذين مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : شدة الحر : إذ كانت في الصيف .
الخامس : وعورة الطريق.
السادس : العسرة بسبب إرجاف المنافقين في المدينة ، لذا حضّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين على عدم التخلف عنها.
وعن جابر الأنصاري قال : عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء( ).
ومن الآيات أنه لم تقع معركة فيها بل رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من غير أن يلقوا قتالاً .
وكانت المعجزة تصاحب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل كتيبة ومعركة ،وكانت سبباً لإنقاذ أفراد الجيش .
وبالإسناد عن (فضالة بن عبيد الأنصاري قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوة تبوك، فجهد الناس جهداً شديداً، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بظهرهم من الجهد، فتخير لهم مضيقاً سار الناس فيه، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : مروا باسم الله فمروا، فجعل ينفخ بظهرهم وهو .
يقول : اللهم احمل عليها في سبيلك، فإنك تحمل على القوي والضعيف، والرطب واليابس، في البر والبحر ” قال: فما بلغنا المدينة حتى جعلت تنازعنا أزمتها. قال فضالة: فقلت هذه دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على القوي والضعيف، فما بال الرطب واليابس .
قال : فلما قدمنا الشام غزونا غزوة قبرس في البحر، ورأيت السفن وما تحمل فيها، عرفت دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
وحتى في طريق العودة إلى المدينة عطش المسلمون فتجلت معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (وروى محمد بن عمر، وأبو نعيم عن جماعة من أهل المغازي قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسير منحدرا إلى المدينة، وهو في قيظ شديد، عطش العسكر بعد المرتين الاوليين عطشا شديدا حتى لا يوجد للشفة ماء قليل ولا كثير .
فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فارسل أسيد بن الحضير في يوم صائف، وهو متلثم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عسى أن تجد لنا ماء .
فخرج أسيد وهو فيما بين تبوك والحجر في كل وجه فيجد راوية من ماء مع امرأة من بلي ، فكلمها أسيد ، وأخبرها خبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : فهذا الماء.
فانطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد وصفت له الماء وبينه وبين الطريق هنيهة، فلما جاء أسيد بالماء دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعا فيه بالبركة .
ثم قال : هلم أسقيتكم ، فلم يبق معهم سقاء إلا ملئوه، ثم دعا بركابهم وخيولهم، فسقوها حتى نهلت، ويقال إنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بما جاء به أسيد فصبه في قعب عظيم من عساس أهل البادية فادخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه يده، وغسل وجهه ويديه ورجليه، ثم صلى ركعتين، ثم رفع يديه مدا، ثم انصرف وإن القعب ليفور، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للناس : ردوا .
فاتسع الماء وانبسط الناس حتى يصنف عليه المائة والمائتان فارتووا، وإن القعب ليجيش بالرواء، ثم راح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مبردا مترويا)( ).
وكل فرد من هذه الوقائع يشار له باسم واحد إلا معركة الخندق فانها تسمى معركة الأحزاب ووردت سورة كاملة في القرآن باسمها.
وقد ذكرت هذه المعارك والوقائع في كتب أهل السير بعنوان الغزوات ، فيقال غزوة بدر ، غزوة أحد ، غزوة الخندق ، غزوة حنين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه لم يغز ولم يهجم على بلدة أو قرية فيها ، إنما كان المشركون هم الغزاة.
ومع أن معركة بدر واحدة وهي التي ذكرت في القرآن بهذا الاسم فان المؤرخين وكتاب السير يذكرون ثلاثة كتائب كل واحدة منها باسم غزوة بدر مع التقسيم فيها وهي :
الأولى : كتيبة بدر الأولى ، وهي بسبب إغارة كُرز بن جابر الفِهريّ ، إذ أغار على سرح المدينة أي إبل ومواشي أهل المدينة التي كانت تسرح في المراعي واستاقها ( )، وكانت في شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة أي قبل معركة بدر بستة أشهر ، حينئذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في طلبه ولم يدركه.
الثانية : بدر القتال : وهي التي ورد ذكرها لوقوع القتال فيها بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين المشركين وبه سميت في القرآن ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وتسمى أيضاً باسماء :
الأول : بدر الثانية ( ).
الثاني : بدر البطشة : لأن الله عز وجل بطش بالمشركين مع أنهم هم الذين أصروا على القتال ، وهم الذين ابتدأوه.
الثالث : معركة بدر لإطلاق الاسم عليها وحدها في القرآن.
الرابع : بدر الكبرى.
وقتل في هذه المعركة رئيسا جيش قريش عتبة بن ربيعة ، وأبو جهل عمرو بن هشام وثمانية وستون آخرون من جيش المشركين وأُسر منهم سبعون.
الثالثة : كتيبة بدر الموعد ، وتسمى ايضاً بأسماء :
الأول : بدر الآخرة .
الثاني : بدر الصغرى .
الثالث : بدر الثانية ( ).
وقال مجاهد وطائفة أن قوله تعالى [إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( )، نزلت في هذه الكتيبة( ).
والصحيح نزول الآية في كتيبة حمراء الأسد ، وقد تقدم البيان في الجزء السابق وهو العشرون بعد المائتين( ).
وسبب وموضوع هذه الكتيبة هو أن جيش المشركين لما أرادوا الإنسحاب من معركة أحد أطلّ أبو سفيان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ونادى بأعلى صوته (موعد ما بيننا وبينكم بدر الصفراء، رأس الحول، نلتقي فيها فنقتتل)( ).
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد أصحابه أن يجيبهم (نعم بيننا وبينكم موعد) ( ).
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اكتفى بقول : نعم
وعندما رجع أبو سفيان والجيش إلى مكة ، أخبروا الناس في مكة بموعد القتال الجديد ، ليستعدوا ويتهيؤا له .
والمراد من الصفراء ، وادي الصفراء وهو طويل ، وحدد موضع اللقاء في بدر وهو جزء من الصفراء ، والصفراء أيضاً قرية فوق ينبع كثيرة النخل والمزارع.
ويقام في بدر الصفراء سوق للعرب في شهر ذي القعدة من كل سنة .
تقوم لهلال لذي القعدة وكل سنة إلى ثمان ليالي منه ، ثم يتفرق الناس ، فمنهم من يذهب إلى مكة ليؤدي الحج ، ومنهم من يعود إلى بلاده.
وشهر ذي القعدة من الأشهر الحرم ، أما موعد أبي سفيان فكان على رأس الحول فيكون في شهر شوال من السنة الرابعة للهجرة.
وجمعت قريش للموعد الرجال والخيل والإبل والسلاح ، وكانوا يمنون أنفسهم بنصر إذا كانت الجولة لهم في نهايات معركة أحد ، وطمعوا بالظفر في بدر الموعد.
وعندما اقترب الموعد أظهر عدد من رؤساء قريش التشاؤم والتذمر ، مع التعريض بأبي سفيان لضربه موعداً للقتال مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
فَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّكُمْ قَدْ وَعَدْتُمْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لِهَذَا الْوَقْتِ وَفَارَقُوكُمْ عَلَيْهِ فَفُوا لَهُمْ بِهِ لَا يَكُونُ هَذَا كَمَا كَانَ وَعَدْنَا مُحَمّدًا بَدْرَ الصّفْرَاءِ فَلَمْ نَفِ بِمَوْعِدِهِ وَاجْتَرَأَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ وَقَدْ كُنْت كَارِهًا لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ( ).
وكان صفوان بن أمية من رؤساء جيش قريش في معركة أحد ، فأخبر أنه كره هذا الموعد من يوم نطق به أبو سفيان ، في إشارة إلى أنه لم يشاور قادة جيش المشركين بتعيين موعد جديد للقتال ، سواء في أصل ذات الموعد أو في أوانه وموضعه.
وعندما حان الموعد خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ألف وخمسمائة من أصحابه ومعهم عشرة أفراس أي أكثر من ضعف عددها في معركة أحد لبيان الكثرة والمنعة التي صارت عند المسلمين في مدة سنة ، وشوق المسلمين للدفاع.
وحمل اللواء الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، ووصلوا إلى بدر واقاموا فيها ثمانية أيام يقيمون الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة.
وخرج أبو سفيان من مكة بألفين من المشركين (ومعهم خمسون فرساً)( ).
ولما انتهوا إلى مًرّ الظهران ويبعد عن مكة نحو (50)كم، ويسمى وادي فاطمة أعلن أبو سفيان عزمه على الرجوع إلى مكة لأن العام كان عام جدب وقحط وقال للجيش (إنّ الْعَامَ عَامُ جَدْبٍ وَقَدْ رَأَيْتُ أَنّي أَرْجِعُ بِكَمْ فَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ وَأَخْلَفُوا الْمَوْعِدَ فَسُمّيَتْ هَذِهِ بَدْرَ الْمَوْعِدِ وَتُسَمّى بَدْرَ الثّانِيَةِ)( ).
مسألتان في بدر
هناك مسألتان :
الأولى : ذكرت ثلاث وقائع باسم غزوة بدر على النعت الذي يفصل بينها ، وقد تلتقي اثنان منها باسم واحد مثل بدر الثانية ، كما يطلقه المشهور على بدر الموعد ، ويصف به بعضهم معركة بدر الكبرى.
والأصل أن كتيبة بدر واحدة وهي التي ذكرها الله عز وجل في القرآن ، وبالإمكان تسمية الواقعتين الأخريين باسمين مختلفين.
الثانية : كل واحدة من الوقائع الثلاثة التي سميت باسم بدر تسمى غزوة ، فيقال غزوة بدر الأولى وغزوة بدر الثانية ، وغزوة بدر الثالثة ، ويكاد يكون عليه اجماع علماء السيرة والمؤرخين ، وليس فيها غزوة واحدة ، ولم يحدث القتال في الأولى ولا الثالثة.
إنما وقع فقط في معركة بدر التي ذكرها الله عز وجل في القرآن والتي تسمى بدر الكبرى ، والمختار تسميتها كتيبة وليس غزوة ، إنما كان المشركون هم الغزاة ، ولم يرد لفظ (غزوة) في القرآن.
وتجد فرداً أو شيئاً له عدة أسماء مع أن المسمى واحد ، وقد ذكر عدد من الأنبياء في القرآن ، ومنهم من ذكر بأكثر من اسم مثل يعقوب النبي وهو إسرائيل وعيسى عليه السلام إذ ورد ذكره باسم المسيح أيضاً ، قال تعالى [إِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ]( )، كما ورد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باسم أحمد في قوله تعالى [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
ولكن لا تجد الاسم متحداً والمسمى متعدداً إلا أن يكون باضافة نعت وصفة لكل منهما يختلف بها عن الآخر ، وفي موضوع البحث ورد اسم (بدر) بخصوص واقعة معينة ، فالأولى أن تسمى غيرها باسم آخر ، فبدل بدر الأولى يذكر اسم ليس فيه لفظ بدر خاصة وأن هذه التسمية لم ترد في السنة النبوية القولية.
وهل تحمل الحواريون البشارة بالرسالة كما في قوله تعالى [وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ] ( ) المختار نعم ، من جهات :
الأولى : الإقرار بالميثاق فرع الإيمان بالله سبحانه وتعالى التي تذكره الآية أعلاه .
الثانية : دلالة التصديق برسالة عيسى عليه السلام على التقيد بالميثاق ، والعهد الذي أخذه الله باعلان البشارة برسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : اختتام الآية أعلاه بالعهد من قبل الحواريين بانتسابهم إلى الإسلام .
آيات الطلاق
جاءت آيات بخصوص الطلاق لما فيه من تنظيم شؤون المجتمع ، وتدارك ومنع مقدمات الطلاق ، وإجتناب الشقاق والكدورة ولبيان سعة الإختيار في الشريعة ، منها قوله تعالى [وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ) وفيه بيان للحاجة إلى إظهار الميثاق والبشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما في ثبوته من تهذيب للنفوس ، وحسن العشرة ، والسلامة من الأمراض النفسية اليومية ، والفتنة داخل الأسرة ، لبيان قانون وهو تجلي الميثاق للناس خير محض ورحمة بالناس جميعاً ، منها :
الأولى :قوله تعالى [وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثانية : قوله تعالى [الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا]( ).
الخامسة : قوله تعالى [فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ]( ).
السادسة : قوله تعالى [وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ]( ).
السابعة : قوله تعالى [وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ]( ).
الثامنة : قوله تعالى [لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ]( ).
التاسعة : قوله تعالى [وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ]( ).
العاشرة : قوله تعالى [وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ]( ).
الحادية عشرة : قوله تعالى [وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا] ( ).
الثانية عشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا]( ).
الثالثة عشرة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ]( ).
الرابعة عشرة : قوله تعالى [عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ]( ).
وتبين هذه مسألة وهي أن الطلاق مكروه ذاتاً مع تجلي فضل الله عز وجل بتضائل كراهته ، وفتح أبواب من رحمة الله عز وجل حتى في حال الطلاق .
ومن الميثاق والوحي تنظيم أحكام وقواعد الطلاق، كما في أحكام عدة المطلقة وعدم جواز طلاق الحائض ، ووجوب وقوع الطلاق في طهر لم يجامع فيه الرجل زوجته .
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
العدد: 971
التاريخ: 13/9/2013
م/عدة المطلقة اليائس
قال تعالى[وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ]
الحمد لله الذي أنعم علي بالشروع هذه الأيام بطباعة الجزء الرابع بعد المائة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) في آية واحدة من سورة آل عمران( )، وطوبى لمن إقتنى أو إطلع على نسخة منه.
وفي سبب نزول الآية أعلاه ورد عن أبي بن كعب قال: قلت: يا رسول اللَّه إنّ ناساً من أهل المدينة لما نزلت الآيات التي في البقرة في عدة النساء قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكرن في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل، فأنزل اللَّه: {اللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر }( ) ، { واللائي لم يَحِضْنَ } يعني كذلك عدتهن ثلاثة أشهر).
وقيل بضعف خبر أبي وأنه منقطع، ولكن موضوع الخبر متعدد في جهته وصحيح.
وقيل لما بيّن الله تعالى عدة ذوات القروء وذوات الحمل في سورة البقرة، وبقيت اليائس والتي لم تحض إرتاب أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمرهما فنزلت هذه الآية، والمشهور نزول سورة الطلاق بعد سورة البقرة.
وذكر قول ثان في الآية وهو إتحاد موضوع اليأس والإرتياب فإن إرتبتم أو إرتبن هن يكون الإعتداد بثلاثة شهور ، ونسب سقوط العدة عن الآيس إلى داود الظاهري ولم تثبت هذه النسبة.
وإذا كانت المطلقة آيسا فإن الآية الكريمة لا تنفي العدة عنها، وتحتمل الآية حذفاً وتقديرها: اللائي يئسن وإن إرتبتم) لإرادة أن عدة المرتابة بالشهور وليس إنتظار الحيض الذي يغيب مدة الشهرين والثلاثة ولمرات قبل إنقطاعه نهائياً، لذا لم تقل الآية (إن إرتبتن) بل تعلق الإرتياب بالأزواج.
ومشهور الإمامية هو أن الآيس لا عدة عليها، وإجماع المذاهب الأربعة أن عليها العدة ثلاثة أشهر، وبعدما ذكر الشيخ الطوسي أحكام طلاق الصغيرة ، وأنها إذا حاضت بعد مضي ثلاثة أشهر ثم طهرت لا يقع بها طلاقلأنها بانت بالشهور قال (وهكذا حكم الآيسة هي رجعية فإن راجعها فهي زوجة فإن عاودها حيض صحيح طلقت كل طهر طلقة، وإن لم يراجعها فإما أن يعاودها الحيض قبل مضي ثلاثة أشهر أو بعدها، فإن عاودها قبلها طلقت كل قرء طلقة، وإن عاودها بعد مضي ثلاثة أشهر لم يعتد بذلك، لأنها بانت قبل أن يعاودها الدم) ( ).
وأطلق اصطلاح عدة الآيسان وفي التي انقطع عنها الحيض لغير عارض كالمرض أو رضاع ، قال (تحتاج أن تستأنف عدة الآيسات بعد العلم ببراءة رحمها، وهو ما قلناه من ثلاثة أشهر) ( ).
وجاء التقييد بإنتفاء العدة صريحاً في القرآن بخصوص غير المدخول بها، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا] ( )، ليكون مدار العدة على الدخول بالمرأة فإذا دخل بها يلزم طلاقها العدة إلا ما خرج بالدليل , وهي على جهات:
الأولى : عدة التي لم تبلغ الحيض، ومثلها لا تحيض.
الثانية : التي تحيض وعدتها ثلاثة أقراء على إختلاف في معنى القرء والمختار والمشهور أنه الطهر الحاصل بين حيضتين.
الثالثة : التي إرتفع حيضها ومثلها تحيض وعدتها ثلاثة أشهر.
الرابعة : الحامل، وعدة طلاقها وضع حملها.
الخامسة : التي لا تحيض ومثلها تحيض، وعدتها بالأشهر ثلاثة أشهر، وحدد جمع من الفقهاء عمرها بأنه أقل من خمسين سنة.
السادسة : المرتابة التي إنقطع حيضها قبل سن اليأس.
السابعة : طلاق الآيس المدخول بها.
وتحتمل الآية أعلاه من سورة الطلاق بالدلالة التضمنية لزوم العدة على الآيس.
واليأس هو إنقطاع الرجاء بالحيض، والمرتابة هي التي قاربت سن اليأس وترجو الحيض ولا يجتمع المتضادان أي وجود الرجاء وإرتفاعه، وموضوع اليأس والإرتياب واحد وهو متعلق الحيض بالنسبة للمطلقة، وجعل المرتضى متعلق الإرتياب هو الجهل في أصل الحكم، وقال بأن حكم اليائسة الإعتداد ثلاثة أشهر، وبه قال أيضا إبن سماعة وإبن شهرآشوب وإحتاط فيه إبن زهرة.
ووردت نصوص عن الإمام الصادق عليه السلام , وهي على قسمين، قسم منها يبين لزوم العدة على الآيس منها , حسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا ينبغي للمطلقة أن تخرج إلا بأذن زوجها حتى تمضي عدتها ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر إن لم تحض) وجاء الحديث مطلقاً وتخرج غير المدخول بها بالتخصص.
وعن داود بن سرحان عن الصادق عليه السلام قال: عدة المطلقة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر إن لم تكن تحيض)، وأستدل على إنتفاء العدة عن اليائس بنصوص منها حسنة زرارة عن الصادق عليه السلام في الصبية التي لا تحيض مثلها والتي قد يئست من المحيض ليس عليها عدة وإن دخل بها) ( ).
وفي صحيحة حماد بن عثمان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن التي يئست من المحيض يطلقها زوجها قال: بانت منه، ولا عدة عليها).
ومع التعارض بين الروايات نرجع للأصل وهو الآية القرآنية وموضوع الآيس عام البلوى من أيام التنزيل والنبوة والخلافة وأيام أمير المؤمنين والحسن والحسين وزين العابدين والباقر عليه السلام، فلابد أن هناك حكماً متسالماً ومتعارفاً عليه وهو على الظاهر الملازمة بين الدخول والعدة فمن دخل بها زوجها ثم فارقها ، فلابد من عدة تعتدها مع موضوعية الإحتياط في الفروج في المقام التي تتجلى بالعدة.
وقد وردت النصوص بالتوارث بين الزوج والزوجة أثناء العدة الرجعية لأنها ملحقة بالزوجة، واليأس من الحيض ليس علة تامة للحرمان من هذا الحق ما دام قد حصل دخول وذاق كل منهما عسيلة الآخر، وليس اليأس مثل البينونة في الطلاق كما في التي طلقت ثلاثاً ، خصوصاً وإن الحكمة من عدة المطلقة على وجوه:
الأول : عدم إختلاط ماء أكثر من واطئ.
الثاني : العدة فرصة وحق للزوج بالرجوع بالمرأة بالتدارك أو الندم.
الثالث : موضوعية المهر والإنفاق والعشرة بين الزوجين.
الرابع : إطلاق وإستصحاب قوله تعالى[وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً] ( ).
الخامس : شأن وموضوعية عقد الزواج والرابطة المترشحة عنه.
السادس : إصلاح المجتمعات وبث روح الألفة والمودة فيها، والأسرة نواة المجتمع , ودفع أبغض الحلال بالإنابة والوئام ، وهل يشمل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) الجواب نعم .
السابع : حق الزوجة في الرجوع مدة العدة وان كانت آيساً مادامت مدخولاً بها، والتدارك وإزاحة أسباب النفرة، لذا يجب أن تبقى المطلقة الرجعية مدة العدة في بيتها وتتزين لزوجها.
الثامن : حق الولد إن وجد والأقارب في سلامة العلقة الزوجية خصوصاً في سن اليأس.
التاسع : تجلي التكامل في قوانين الشريعة الإسلامية وصيغ الإنصاف فيها والمختار والظاهر من الآية القرآنية وجوب العدة على اليائس، وهو موافق لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وقاعدة نفي الحرج في الدين وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا) وقال: إذا حدثتم الناس عن ربهم، فلا تحدثوهم بما يفزعهم ويشق عليهم) ( ).
ومن الإعجاز المستحدث في قوله تعالى[وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ] ( ) الإرتقاء في علوم الطب وإمكان حمل الآيس اليوم أو غدا، فيكون من الريب والشك إحتمال أخذها لعلاج الحمل، ولكن هذا الأمر ليس علة تامة للمختار وهو الحكم بالعدة بالشهور للمطلقة الآيس، ونصدر هذه الفتوى والجزء الرابع بعد المائة من التفسير في مراحله الأخيرة والحمد لله، مع إكرامي للفقهاء والعلماء الذين يفتون بعدم العدة على الآيس، والعلم عند الله.
حرر في النجف الأشرف
5 ذي القعدة 1434 هـ)
قانون إزدهار التجارة أيام النبوة
من معاني ومضامين سورة قريش دعوة رؤساء قريش لتعاهد التجارة أيام بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدم قطعها وإبدالها بتجهيز الجيوش بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) .
إذ تقول لهم السورة بأن الله أهلك أبرهة وجنوده لوجوه :
الأول : تعاهد قريش لوحدتها.
الثاني: التآلف في عبادة الله .
الثالث : هيبة القبائل لقريش ، ولا تأتي الهيبة العامة من فراغ ، لذا تدل مضامين قوله تعالى [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( )على إجتماع مسائل لتحقق الهيبة وهي :
الأولى : جوار قريش للبيت الحرام .
الثانية : ولاية قريش للبيت الحرام .
الثالثة : قانون الملازمة بين ولاية البيت الحرام وعبادة الله والتقوى ، قال تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
الرابعة : قانون وجوب تصديق مجاوري البيت الحرام بالنبوة والتنزيل .
الرابع : إشتياق الناس للبيت الحرام ولقياكم بسلام وأمن ، وفي دعاء إبراهيم ، قال تعالى [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] ( ) ومن الشكر لله عز وجل التصديق بمعجزات النبوة ، ونزول القرآن من عند الله عز وجل .
ومنه الإمتناع عن إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن غزوة في المدينة .
الخامس : الإمتناع عن تحريض على محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وببركة بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعيش أهل الجزيرة بأمن ، ويتقيدون بقواعد الحج ، ولا يتعرضون لقوافلكم وتجاراتكم .
مع لزوم التصديق بالرسالة والتقيد بأحكام الشريعة ، فلو آمنت طائفة من قريش بالرسالة ، وجحدت بها طائفة أخرى ، فلا يتحقق الإيلاف ، سواء على القول بأن [لِإِيلاَفِ] ( ) متعلق بما قبله من خاتمة سورة الفيل [فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ] ( ) أو أنه متعلق بقوله تعالى [فَلْيَعْبُدُوا] ( ) بلحاظ أن إفادة الفاء معنى الشرط وأنها ليست عاطفة، فلو كانت عاطفة يصح عطف ما بعد الفاء ، على ما ورد قبلها .
والمختار تعلقه بخاتمة سورة الفيل ، لبيان فضل الله في صرفه الإرهاب ومقدماته عن البيت الحرام ومجاوريه ، لبيان قانون وهو قبح الإرهاب مطلقاً ، فمن الشكر لله عز وجل إمتناعهم عن إرهاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد خلق الله عز وجل آدم في الجنة ، ولو شاء لخلقه في الأرض لأن موضوع خلقه وهو الخلافة فيها لقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، ولابد من معاني ودلالات لخلق آدم في الجنة ومنها سعي الناس للإنتفاع من النعم في الدنيا ، والتعاضد والتعاون للبث الدائم في نعيم الجنة في الآخرة ، ولا يصل المعتدون لهذا اللبث إذ أخبر الله عز وجل بأنه لا يحبهم ولا يرضى عليهم .
ترى لماذا صار المشركون معتدين .
الجواب لاتباعهم الشهوات ، وانعدام الخشية من الله في قلوبهم، فتوالت آيات القرآن لبيان مسائل :
الأولى : ذم الإعتداء ، والنسبة بين الإعتداء والإرهاب هي العموم والخصوص المطلق ، فالإعتداء أعم .
الثانية : الإخبار عن خيبة المعتدين .
الثالثة : بيان قانون وهو أن الإعتداء ظلم ، قال تعالى [وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ] ( ).
الرابعة : تأكيد قانون : تعاهد الميثاق آمن من الظلم والتعدي.
ومن خصائص بعثة النبي أو الرسول نزول البركات على الناس ، ومنها نشاط الأسواق ، وإزدهار التجارات ، وكثرة الزراعات والريع ، وفي صلاة الجمعة ، قال تعالى [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
أي حتى يوم الجمعة ليس من قعود عن الكسب والسعي في طلب الرزق ، ولكن قريشاً عندما بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سعت في محاربته وحشدت الجيوش لقتاله ، واختارت تعطيل التجارات والمكاسب .
ليكون من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )تحقق صلح الحديبية كفرصة لتنشيط التجارات ، ومنع الكساد بفضل من الله عز وجل ، لذا سمّى الله عز وجل هذا الصلح فتحاً مبيناً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ) .
ولكن قريشاً أستمرت بالعدوان ، فكان فتح مكة طريقاً ومقدمة لعمارة الأسواق والإرتقاء بالمعاملات ، لتكون حرمة الربا في الإسلام مانعاً من الإستغلال والغرر ، مع إشتداد البيع والتجارة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) ( ).
قانون المشركون هم المعتدون
من معاني قوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) ولا تعتدوا كما يعتدي المشركون فان الله لا يحب المشركين ، لتكون الألف واللام في المعتدين للتخصيص والعهد وإرادة المشركين الذين يهجمون على المدينة ، ويسعون في قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
وهو لا يتعارض مع المعنى العام والظاهر للآية ، وإرادة الإطلاق في بغض الله عز وجل للمعتدين سواء كان الإعتداء على نحو القضية الشخصية أو الإعتداء العام كما في إصرار المشركين على القتال في معارك الإسلام الأولى.
وهل استعداد قريش للمعارك من هذا الإعتداء أم أنه مقدمة له، المختار هو الأول .
وفي ذم المشركين قال تعالى [لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ] ( ) ولا دليل في الآية على الخطاب بالإجهاز على المشركين ، إنما جاءت لأمور :
الأول : بيان الخصال المذمومة التي يتصف بها المشركون .
الثاني: حاجة المشركين وأهل الأرض للإيمان .
الثالث : إنذار المشركين من الغدر والإرهاب .
الرابع : تحذير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الكفار .
فلا يحفظ المشركون عهداً ، ولا يقيمون وزناً للنسب والقرابة ، فما دام الإنسان أختار الإيمان فأنهم يحاربونه بكل السبل ، كما في فرضهم الحصار على بني هاشم لثلاث سنوات ، ومن السنة السابعة إلى السنة العاشرة للبعثة النبوية ، وقبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن الذين خضعوا لهذا الحصار وذاقوا مرارته ليسوا بمسلمين ولكنهم اصطفوا وانحازوا إلى شعب أبي طالب نصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنكاراً لقبح فعل قريش ، وهل هذا الحصار عدوان ، الجواب نعم ، وهو عدوان على كل من :
الأول : النبوة .
الثاني : التنزيل .
الثالث : البيت الحرام وتأريخه .
الرابع : المسلمون .
الخامس : قبائل العرب .
السادس : بنو هاشم .
إذ أرادت قريش الإعلان الفعلي والقيام بتبليغ رسالة عملية للقبائل بأنهم حرب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يرضون بدخول أفراد القبائل في الإسلام ، فهذا الحصار إنذار ووعيد للقبائل ، وتخويف لهم من الحرمان من حج وعمارة البيت الحرام ، وكأنهم يقولون إننا لا نسمح بالذي يدخل الإسلام بزيارة البيت الحرام .
وتدل الآية أعلاه على أن من خصال المشركين الإعتداء بعدم مراعاة العهود ، لتحذير المسلمين من فتك المشركين بهم .
وفيه دعوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للإستعداد لمعركة بدر ، وأحد ، وإن لم تكن هناك أمارات ظاهرة لهما ، مثل تجهيز قريش الجيوش ، إذ أنها جهزت جيش معركة بدر على نحو مفاجئ ، وفي ثلاث أيام عندما جاءهم رسول أبي سفيان يخبرهم بأن قافلته عرضة لسلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لها .
ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان بصدد العزم على التعرض لقافلة أبي سفيان ، وتدل الوقائع والأخبار على أن أبا سفيان أعتمد خبر الواحد من الكفار المبني على الحدس، وهو ليس بحجة ، إذ ورد عن (عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ مَوْلَى الْمِسْوَرِ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ لَمّا لَحِقْنَا بِالشّامِ أَدْرَكَنَا رَجُلٌ مِنْ جُذَامٍ، فَأَخْبَرَنَا أَنّ مُحَمّدًا كَانَ عَرَضَ لِعِيرِنَا فِي بَدْأَتِنَا، وَأَنّهُ تَرَكَهُ مُقِيمًا يَنْتَظِرُ رَجْعَتَنَا. قَدْ حَالَفَ عَلَيْنَا أَهْلَ الطّرِيقِ وَوَادَعَهُمْ.
قَالَ مَخْرَمَةُ فَخَرَجْنَا خَائِفِينَ نَخَافُ الرّصَدَ فَبَعَثْنَا ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو حِينَ فَصَلْنَا مِنْ الشّامِ .
وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يُحَدّثُ يَقُولُ لَمّا كُنّا بِالزّرْقَاءِ – وَالزّرْقَاءُ بِالشّامِ بِنَاحِيَةِ مَعَانَ مِنْ أَذْرِعَاتٍ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ – وَنَحْنُ مُنْحَدِرُونَ إلَى مَكّةَ ، لَقِينَا رِجَالًا مِنْ جُذَامٍ.
فَقَالَ قَدْ كَانَ عَرَضَ مُحَمّدٌ لَكُمْ فِي بَدْأَتِكُمْ فِي أَصْحَابِهِ.
فَقُلْنَا: مَا شَعَرْنَا .
قَالَ بَلَى.
فَأَقَامَ شَهْرًا ثُمّ رَجَعَ إلَى يَثْرِبَ ، وَأَنْتُمْ يَوْمَ عَرَضَ مُحَمّدٌ لَكُمْ مُخْفُونَ فَهُوَ الْآنَ أَحْرَى أَنْ يَعْرِضَ لَكُمْ إنّمَا يَعُدّ لَكُمْ الْأَيّامَ عَدّا، فَاحْذَرُوا عَلَى عِيرِكُمْ وَارْتَأَوْا آرَاءَكُمْ فَوَاَللّهِ مَا أَرَى مِنْ عَدَدٍ وَلَا كُرَاعَ وَلَا حَلْقَةٍ.
فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ فَبَعَثُوا ضَمْضَمًا، وَكَانَ فِي الْعِيرِ وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ مَرّتْ بِهِ وَهُوَ بِالسّاحِلِ مَعَ بُكْرَانِ لَهُ فَاسْتَأْجَرُوهُ بِعِشْرِينَ مِثْقَالًا.
وَأَمَرَهُ أَبُو سُفْيَانَ أَنْ يُخْبِرَ قُرَيْشًا أَنّ مُحَمّدًا قَدْ عَرَضَ لِعِيرِهِمْ وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْدَعَ بَعِيرَهُ إذَا دَخَلَ وَيُحَوّلَ رَحْلَهُ وَيَشُقّ قَمِيصَهُ مِنْ قُبُلِهِ وَدُبُرِهِ وَيَصِيحَ الْغَوْثَ الْغَوْثَ وَيُقَالُ إنّمَا بَعَثُوهُ مِنْ تَبُوكَ.
وَكَانَ فِي الْعِيرِ ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ) ( ).
فبادر رجال قريش إلى إعلان النفير العام والعزم على القتال ، وهو من الإعتداء ومقدمة للتعدي ، لذا أظهر بعض سادات قريش الكراهة للخروج ، وحاولوا المنع منه ، ولكن ضجيج التعدي حال دون سماع صوتهم .
فمثلاً أمتنع أمية بن خلف عن الخروج إلى بدر في البداية لما بلغه به الصحابي سعد بن معاذ بأنه سمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقول (لَأَقْتُلَن أُمَيّةَ بْنَ خَلَف ” قَالَ أُمَيّةُ أَنْتَ سَمِعْته؟
قَالَ قُلْت: نَعَمْ) ( ).
قال سعد نعم ، وكان سعد ينزل في العمرة ضيفاً على أمية بن خلف .
ولم يقل سعد هذا إلا بعد أن تعدى عليه أبو جهل في القول ، إذ خاطب أمية بن خلف بحضور سعد (أَتَنْزِلُ هَذَا، وَقَدْ آوَى مُحَمّدًا) ( ) فلما جاء النفير إلى أمية بن خلف استحضر قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه سيقتله لشدة إيذئه للنبي ، وهو في مكة ولعدد من المسلمين .
فأبى أمية الخروج مع قريش إلى معركة بدر ، ولكن أتاه (عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَأَبُو جَهْلٍ. وَمَعَ عُقْبَةَ مِجْمَرَةٌ فِيهَا بَخُورٌ وَمَعَ أَبِي جَهْلٍ مُكْحُلَةٌ وَمِرْوَدٌ.
فَأَدْخَلَهَا عُقْبَةُ تَحْتَهُ وَقَالَ تَبَخّرْ.
فَإِنّمَا أَنْتَ امْرَأَةٌ وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ اكْتَحِلْ.
فَإِنّمَا أَنْتَ امْرَأَةٌ قَالَ أُمَيّةُ ابْتَاعُوا لِي أَفْضَلَ بَعِيرٍ فِي الْوَادِي. فَابْتَاعُوا لَهُ جَمَلًا بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ نَعَمِ بَنِي قُشَيْرٍ فَغَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ.
فَصَارَ فِي سَهْمِ خُبَيْبِ بْنِ يَسَافٍ)( ).
فمن تجاهر بكارهته للخروج إلى بدر الحارث بن عامر بن نوفل ، وهو من وجهاء وأشراف قريش ، فحينما سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم سقاة قريش عشية بدر (فمن فيهم من أشراف قريش؟
قالا:
الأول : عتبة بن ربيعة .
الثاني : شيبة بن ربيعة .
الثالث : أبو البختري بن هشام.
الرابع : حكيم بن حزام .
الخامس : نوفل بن خويلد .
السادس : الحارث بن عامر بن نوفل.
السابع : طعيمة بن عديبن نوفل .
الثامن : زمعة بن الأسود .
التاسع : أبو جهل بن هشام .
العاشر : أمية ابن خلف .
الحادي عشر: نُبيه ومنبه ابنا الحجاج .
الثاني عشر : سهيل بن عمرو .
الثالث عشر : عمرو بن عبد ود العامري .
فأقبل عليه الصلاة والسلام على الناس قائلاً : هذه والله مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها) ( ).
وقال الحارث بن عامر وهم في مكة قبل الخروج إلى بدر (لَيْتَ قُرَيْشًا تَعْزِمُ عَلَى الْقُعُودِ وَأَنّ مَالِي فِي الْعِيرِ تَلِفَ وَمَالَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَيْضًا.
فَيُقَالُ إنّك سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِهَا، أَفَلَا تَزَعَهَا عَنْ الْخُرُوجِ؟
قَالَ إنّي أَرَى قُرَيْشًا قَدْ أَزْمَعَتْ عَلَى الْخُرُوجِ وَلَا أَرَى أَحَدًا بِهِ طِرْقٌ تَخَلّفَ إلّا مِنْ عِلّةٍ وَأَنَا أَكْرَهُ خِلَافَهَا، وَمَا أُحِبّ أَنْ تَعْلَمَ قُرَيْشٌ مَا أَقُولُ الْآنَ.
مَعَ أَنّ ابْنَ الْحَنْظَلِيّةِ رَجُلٌ مَشْئُومٌ عَلَى قَوْمِهِ مَا أَعْلَمُهُ إلّا يُحْرِزُ قَوْمَهُ أَهْلَ يَثْرِبَ.
وَلَقَدْ قَسَمَ مَالًا مِنْ مَالِهِ بَيْنَ وَلَدِهِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنّهُ لَا يَرْجِعُ إلَى مَكّةَ) ( ).
وفي الطريق إلى بدر جاء ضمضم بن عمرو وهو الذي بعثه أبو سفيان لندب قريش للذب عن القافلة ، وكانت للحارث أياد عند ضمضم ، فقال للحارث (أَبَا عَامِرٍ رَأَيْت رُؤْيَا كَرِهْتهَا، وَإِنّي كَالْيَقْظَانِ عَلَى رَاحِلَتِي، وَأَرَى كَأَنّ وَادِيَكُمْ يَسِيلُ دَمًا مِنْ أَسْفَلِهِ إلَى أَعْلَاهُ.
قَالَ الْحَارِثُ مَا خَرَجَ أَحَدٌ وَجْهًا مِنْ الْوُجُوهِ أَكْرَهَ لَهُ مِنْ وَجْهِي هَذَا.
قَالَ يَقُولُ ضَمْضَمٌ لَهُ وَاَللّهِ إنّي لَأَرَى أَنْ تَجْلِسَ.
فَقَالَ الْحَارِثُ لَوْ سَمِعْت هَذَا منك) ( ).
وقتل الحارث بن عامر يوم بدر قتله خبيب ليشترى أخوه فيها ، بعد خبيباً ليُقتل صبراً وظلماً (وقال ابن إسحاق: وابتاع خبيباً حجير بن أبي إهاب التميمي حليف لهم وكان حجير أخا الحارث بن عامر لأبيه فابتاعه لعقبة بن الحارث ليقتله بأبيه.) ( ).
(عن عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: الذي قتل خبيبا أبو سروعة عقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل ) ( ).
وهل كراهة الحارث بن عامر ونفر من قريش الخروج تبرئة لهم من التعدي والظلم وإرادة غزوهم للمسلمين ، الجواب لا ، لأن الكراهة كيفية نفسانية ، بينما خرجوا للغزو للقتال .
ولو تعارض القول والفعل فالمدار على الفعل إلا أن يكون القول أبلغ وأكثر أثراً .
ومن معاني المجاز في قول النبي (هذه – والله – مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها) ( ).
أي أن هؤلاء الذين ذكرهم السقاة هم لباب قريش ، وقلبها وأهل الرياسة فيها ، وفيه لوم لقريش برمي هؤلاء في محرقة محاربة النبوة والتنزيل ، وأن قريشاً تعرض نفسها للوهن والضعف والهلاك .
والأفلاذ : جمع فلذ ، وفلذة ، وهي القطعة من اللحم تقطع طولاً ويستعمل خاصة في الكبد.
(في أَشراط الساعة وتقيء الأَرض أَفْلاذَ كبدها وفي رواية تلقي الأَرض بأَفلاذها وفي رواية بأَفلاذ كبدها أَي بكنوزها وأَموالها) ( ).
وفيه اشارة إلى إستخراج النفط والغاز والمعادن من باطن الأرض بوسائل تقنية حديثة تصل إلى أعماق الأرض ، وفي الأمصار المختلفة ، فلم يكن هذا الإستخراج منحصراً بالمعادن القريبة من سطح الأرض .
فهذا الإستعداد اعتداء على الذات والغير ، وبث للخوف والفزع في نفوس المسلمين والمسلمات وإرباك الناس ، وتعطيل التجارات ، وهو من الإرهاب الذي دأب المشركون عليه .
تمادي قريش في العدوان
لقد كثرت جراحات أهل البيت والصحابة في معركة أحد ، فمثلاً ترس أبو دجانة وهو سماك بن أوس (دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه، يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه حتى كثر فيه النبل) ( ) .
وقاتل أبو دجانة يوم معركة أحد بعد أن أعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيفاً ، والتأمت جراحات أبي دجانة يومئذ ، وأستشهد في اليمامة في السنة الحادية عشرة للهجرة (عن ثابت عن أنس قال : رمى أبو دجانة بنفسه في الحديقة يومئذ فانكسرت رجله فقاتل حتى قتل .
وقد قيل : إنه عاش حتى شهد مع علي بن أبي طالب عليه السلام صفين والله أعلم)( ).
وقد سادت وطغت حال الخوف الذي أصاب عموم أهل المدينة من الرجال والنساء عند زحف قريش واحلافها ، لولا الإيمان وحسن التوكل على الله ، وحضور شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فعندما يتناقل الناس أن ثلاثة آلاف رجل من المشركين مدججون بالسلاح أقبلوا للإغارة على المدينة لا ترى منهم إلا عيونهم وهم على الجياد الأصيلة ، ومنها مائتان لم تركب ظهورها في الطريق بين مكة والمدينة لتكون جاهزة لدخول المعركة والإغارة وأخذ زمام المبادرة ، فان الفزع يدب في نفوس أهل المدينة رجالاً ونساءً خاصة مع بث المنافقين والمنافقات في المدينة أسباب التخويف والقعود ، ومن صفاتهم :
الأولى : إثارة الفتنة .
الثانية : الحلف كذباً .
الثالثة : الحسد للمؤمنين .
الرابعة : الخداع والخيانة .
الخامسة : التواطؤ مع الكفار .
السادسة : الإفساد في الأرض ، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] ( ).
ثم يرون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج لقتالهم بألف من أصحابه ، والمنافقون يرجفون في المدينة ، فيخاف الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من فتك المشركين ، خاصة وأنهم زحفوا نحو المدينة لأخذ الثأر مما لحقهم في واقعة بدر .
لقد كان رجالات قريش يتصفون بالحكمة والهيبة ومنها خبر دخول عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أبرهة وإكرامه له حالما رآه .
وكانت دار الندوة المجاورة للبيت الحرام التي أنشأها قصي بن كلاب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم محلاً للحوار وتبادل الآراء بينهم ، واستعراضهم للوقائع التأريخية ، ومعرفة أحوال القبائل والأمم وقوتها ، وضعفها ، وغناها وفقرها ، وشأن رجالاتها ، لإقتباس الدروس والمواعظ منها ولكنهم تخلوا عن الحكمة وتغشتهم الجهالة بعبادة الأوثان والصدود عن التنزيل فصاحبتهم الغفلة والخيبة .
فكان الأولى بقريش اتخاذ معركة بدر وخسارتهم فيها مع كثرة عددهم ورجحان كفتهم في العدة والسلاح موعظة وعبرة ، والإمتناع عن إعادة الكرة بطلب القتال ، ولكنهم من الذين قال الله فيهم [ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ *خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ] ( ) .
كان الأجدر بهم العكوف في مكة ، والعودة لمزاولة التجارة ، وتسيير سير القوافل إلى الشام واليمن والرضا بالذل الذي لحقهم بسبب هزيمتهم في معركة بدر ، لقانون وهو طلب قريش الثأر وبال عليهم ، وإن كانوا يمنون أنفسهم بالنصر ، ويشيعون بين أهل مكة والناس أنهم سيقتلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويأسرون عدداً من أصحابه ، ويأتون بالمهاجرين مكتفين بالحبال في أزقة مكة ،وفيه شاهد على أنهم هم الغزاة في معركة أحد ، ومن الحكمة اعتماد اصل الإستصحاب ، وهو دليل عقلائي قبل أن يكون مسألة أصولية .
وقد تمادوا في الغي والظلم والتعدي من جهات :
الأولى : حالما وصلت فلول جيش قريش إلى مكة قادمين من معركة بدر بدأوا الإستعداد لمعركة الثأر .
الثانية : منع رؤساء قريش عوائل القتلى من البكاء والنياحة عليهم ، لأنها تصير سبباً لشماتة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولكن لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاضراً في مكة ، إنما كانت قريش تقصد المسلمين والمسلمات الذين في مكة ، وتخلفوا عن الهجرة لأسباب متعددة ، وتريد أيضاً منع الناس من دخول الإسلام ، وهذا المعنى من أسباب إعلانهم الإستعداد لمعركة الثأر .
الثالثة : قيام رؤساء قريش بطلب الإذن لإنفاق أموال قافلة أبي سفيان على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لَمّا أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ كُفّارِ قُرَيْشٍ أَصْحَابِ الْقَلِيبِ ، وَرَجَعَ فَلّهُمْ إلَى مَكّةَ ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِعِيرِهِ مَشَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ ، فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، مِمّنْ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَكَلّمُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ .
وَمَنْ كَانَتْ لَهُ فِي تِلْكَ الْعِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةٌ فَقَالُوا : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّ مُحَمّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ ، وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ فَلَعَلّنَا نُدْرِكُ مِنْهُ ثَأْرَنَا بِمَنْ أَصَابَ مِنّا ، فَفَعَلُوا) ( ).
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لو كان قد استولى على قافلة أبي سفيان لهاجت قريش وحلفاؤها ، ولوجدوا عذراً لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشدة ، أما وإن تركها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تتجه نحو مكة بسلام ، فان المشركين سخروها في الباطل ، ولم ينتفع منها أهلها ، إنما لحقهم الإثم بتسخيرها في محاربة الله ورسوله ، وجاءت الغنائم للمسلمين يوم بدر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
فكانت أموال هذه القافلة حاضرة للضرر والإضرار يوم أحد من جهات:
الأولى : تسخيرها في شراء الخيل والسلاح .
الثانية : إنفاق الأموال في استمالة القبائل .
الثالثة : البذل على الرؤساء والشعراء .
الرابعة : استئجار قريش المحاربين في معركة أحد .
التضاد والتباين في الانفاق
من مستلزمات القتال العدة والخيل والمؤن ، وتنشط صناعة السيوف والدروع واصلاحها عند مقدمات القتال والغزو.
وكانت قريش تنفق الأموال الطائلة في هذا الباب ، وصحيح أن عندهم وفرة من المال ، ولكن توالي الإنفاق على معركة بدر ثم معركة أحد ثم الخندق أرهق قريشاً ، وجعل الديون تركبهم إلى جانب النقص الظاهر في عدد القوافل التي يسيّرون إلى الشام ، وقلة الإبل والبضائع فيها .
فبعد أن كانت قريش تسيّر ألف بعير في القافلة الواحدة صارت عاجزة عن تسيير هذه الأعداد ، لكثرة الإنفاق على محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغزوهم المدينة ، وأرادت قريش من إنفاقها على القبائل بقاء ولائها لقريش ، وعدم إختيارهم الإيمان [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
وفي قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
قال سعيد بن جبير : نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أُحد ألفين من (الأحابيش) يقاتل بهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (سوى) من أشخاص من العرب.
وفيهم يقول كعب بن مالك :
فجينا إلى موج البحر وسطه
أحابيش منهم حاسر ومقنع
وفينا رسول الله نتبع قوله
إذ قال فينا القول لاينقطع
ثلاثة الألف ونحن نظنه ثلاث
مئين أن كثرن فاربع( ).
لبيان التضاد في أثر الإبتلاء في الأموال والأنفس بين المؤمنين والمشركين ، فيبتلى النبي وأصحابه في أموالهم وأنفسهم فيرزقهم الله عز وجل الأجر والثواب مع العوض المضاعف ، وينزل الملائكة لنصرتهم ، وتكون أموال القافلة مع هذا النزول وبالاً على أهلها ، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
ويتجلى التضاد والتباين بين إنفاق الذين كفروا وإنفاق المسلمين في القتال من جهات :
الأول : إنفاق المشركين للهجوم والغزو ، بينما إنفاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة للدفاع.
الثاني : إنفاق المشركين اختياري لعدم وجود هجوم أو غزو عليهم ، بينما إنفاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للدفاع والضرورة .
(ذلك أن أهل الطائف أمدِّو قريشاً بالأموال ليقوّوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعداوته) ( ).
الثالث : في إنفاق المشركين الإثم واللوم فيما بينهم ، وفي الآخرة العقاب والعذاب الأليم .
الرابع : إنفاق قريش الأموال الطائلة في غزوهم المدينة ، وقلة ما ينفقه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الخامس : ذهاب ما ينفقه المشركون هباء ، وعدم ترتب النفع عليه ، بينما يأتي النصر للمؤمنين ، والثواب العظيم في الآخرة ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
السادس : إنفاق المشركين لمنع وصدّ الناس عن الإسلام سواء الذين ينفقون عليهم أو ذويهم ، أو عامة الناس ، أما إنفاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فهو دعوة للإيمان والصلاح .
السابع : الإيمان والإنفاق في سبيل الله واخراج الحقوق الشرعية رحمة وسبيل للبركة ، قال تعالى [وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمْ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا]( ).
قانون عناية قريش بالخيل فجأة
لقد أنفقت قريش الأموال الطائلة على إعداد وتجهيز جيش قوامه ثلاثة آلاف رجل ، ومؤنهم وعلف خيولهم وإبلهم ، والأصل اعتناء قريش بالإبل واكثارهم منها لأنها وسيلة التجارة بين مكة والشام ، وبين مكة واليمن وهو الذي وثّقه قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( )، ومن قوافل قريش ما كان مجموع الإبل فيها ألفاً وخمسمائة بعير ، ومنها ألفا بعير ، وكانت قافلة أبي سفيان التي نشبت بسببها معركة بدر تتألف من ألف بعير محملة بالبضائع .
و(ثم أقبل أبو سفيان بن حرب في عير لقريش من الشام ومعها سبعون راكباً من بطون قريش كلها وفيهم مخرمة بن نوفل ، وعمرو بن العاص ، وكانوا تجاراً بالشام ومعهم خزائن أهل مكة ، ويقال : كانت عيرهم ألف بعير ولم يكن لأحد من قريش أوقية فما فوقها إلا بعث بها مع أبي سفيان إلا حويطب بن عبد العزى ، فلذلك كان تخلف عن بدر فلم يشهده)( ).
وبعد معركة بدر توجه رجال قريش إلى اقتناء الخيل للإغارة والهجوم بها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وعلى المدينة وفيه استنزاف لخيرات قريش خاصة وأن الخيل الأصلية غالية الثمن ، ولا ينتفع منها في نقل التجارة والبضائع ، ليكون اقتناؤهم هذا من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
وفي معركة أحد هناك مائتان من الخيل مع قريش وحلفائها لن تركب ظهورها في الطريق لتشارك في المعركة بقوتها ، وكانت خيلهم أصيلة .
ويختار العرب الخيل الذكور في الميدان لأنها أكثر قوة وجرأة وثباتاً من الإناث ، ويقاتل الحصان مع راكبه بذكاء .
أما إناث الخيل فغالباً ما تستخدم في الغارة في الليل لأنها لا تصهل ولا تظهر صوتاً ، فلا ينكشف أمر الغزاة ، كما أنها تتصف بسرعة الجري ، ودفع البول أثناء الجري من غير أن تتوقف عنه بخلاف الحصان الذي يحسر إذا كانت مسافة الجري طويلة .
وكانت العرب تميل إلى إتخاذ الحصان الذي تم إخصاؤه لأنه أكثر صبراً ، ولا يميل إلى الجياد إذا كانت قريبة منه .
ويتجنبون ركوب إناث الخيل في الميدان ، ومنه المبارزة ، والكر والفر ، حذراً من ميلها إلى الفحل ، ففي دورة الشبق تستعرض الفرس أمام الحصان ، وإن كان مركوب الخصم .
وقد ذكرت الخيل في مواضع من القرآن وهي :
الأولى : قوله تعالى [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ]( ).
الثانية : قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
الثالثة: قوله تعالى [وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولاَدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا]( ).
الخامسة : قوله تعالى [وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
قانون نجاة الأنبياء معجزة متجددة
قد تقدم في الجزء السابق الإشارة إلى هذا القانون( )، ومع أن النبوة أختتمت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومغادرته إلى الرفيق الأعلى ، فان معجزات الأنبياء مجتمعين ومتفرقين متصلة ومتجددة ، وهو من مصاديق البركة التي تصاحب النبوة ، والفيض الذي يترشح عنها.
ويمكن القول بأن الحياة الدنيا دار النبوة والتنزيل ، إذ أن التنزيل مصاحب لأهل الأرض ، كما في وجود القرآن بأيدي المسلمين ، وكل واحد منهم ذكراً أو أنثى يتلو القرآن سبع عشرة مرة في اليوم بعدد ركعات الصلاة ، لأن في كل ركعة تلاوة للقرآن ، أما أن تكون جهرية كما في صلاة الفجر والمغرب والعشاء ، وأما أن تكون إخفاتاً كما في صلاة الظهر والعصر .
ومن خصائص الأنبياء مجئ كل نبي بالمعجزة المتعددة التي تدل على صدق نبوته ، ولا تفارق النبوة والوحي النبي إلا عند موته، وهو من فضل الله في إكرام الأنبياء ، ومنع الإختلاط أو العزوف عنهم ، وفيه تحد آخر للذين كفروا ، إذ كانوا ينعتون أي نبي يأتيهم، بالسحر أو الجنون ، قال تعالى [كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ] ( ) أي أن الناس يكونون في تلقي النبوة وأحكامها على أقسام :
الأول : الذين يؤمنون بالنبوة ، ويصدقون بالنبي ، ويتبعونه .
الثاني : الذين يقولون أنه ساحر .
الثالث : الذين يقولون أنه مجنون .
الرابع : الذين ليس لهم رأي في المقام ، ومنهم المستضعفون .
فتتوجه المعجزة إلى جميع هؤلاء لجذبهم للإيمان ، وهل يمكن القول أن الرسل أولي العزم هم أكثر الأنبياء في تحمل الأذى من المشركين ، الجواب نعم ، وفي نوح عليه السلام قال قومه [إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ] ( ) إذ نعتوه بأنه أصيب بالجنون ، أو هناك جنّ مسه ، فاصبح في حال خبال .
وهل ينقطع إفتراء الكفارعلى النبي عند وفاته ، الجواب لا ، إنما يستمر كلامهم ، ويتناقله الأبناء من بعدهم ، فتفضل الله عز وجل وخلّد معجزات الأنبياء في الكتب السماوية من التوراة والإنجيل والقرآن لإبطال الإفتراء ، وفضح المغالطة .
قانون الثناء على الأنبياء
يبقى الثناء على الأنبياء إلى يوم القيامة ، وهو من إكرام الله عز وجل للأنبياء أحياء وأمواتاً ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ]( ) ، فتتغشى رحمة الله عز وجل الأنبياء من وجوه :
الأول : قبل ولادتهم ، وبخصوص آدم قبل خلقه ، ومنه إخبار الله للملائكة عن خلقه ولزوم سجودهم له تكريماً وتحية ، وإقراراً ببديع صنع الله عز وجل.
وليهبط إلى الأرض ، والملائكة على استعداد لنصرته والذب عنه ، وهل من صلة بين سجود الملائكة لآدم وقوله تعالى في معركة بدر [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الجواب نعم ، لبيان قانون وهو سجود الملائكة لآدم مقدمة لهبوط الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (روى عكرمة عن ابن عبّاس أنه قال : لما خلق الله الملائكة قال : إني خالق بشراً من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له .
قالوا : لا نفعل. فأرسل عليهم ناراً فأحرقهم.
ثمّ خلق ملائكة فقال : إني خالق بشراً من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له، فأبوا، فأرسل الله عليهم ناراً فأحرقهم.
ثمّ خلق ملائكة فقال : إني خالق بشراً من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له، قالوا : سمعنا وأطعنا إلاّ إبليس كان من الكافرين)( ) والحديث ضعيف سنداً ودلالة .
فمن خصائص الملائكة الإمتثال لأمر الله عز وجل ، قال تعالى [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
الثاني : بعد الولادة ولحين البعثة النبوية يحفظ الله النبي من الأذى ، وكيد الفجار ، مع عصمته من فعل الذنوب والمعاصي ، قال تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ…]( ).
الثالث : تغشي رحمة الله عز وجل لكل نبي من حين بعثته بالمعجزة ،ووجود الناصر ، وصرف ضرر الكفار ، ولعمومات قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى..] ( ) .
فصحيح أن هذه الآية خطاب للمسلمين إلا أنها تشمل الأنبياء من باب الأولوية القطعية ، بلحاظ أنها قانون لأهل الإيمان من الإرادة التكوينية .
الرابع : جعل قربى النبي يميلون إليه ، ويتدبرون في معجزاته ، ويذبون عنه ، ويدل عليه قوله تعالى [وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ).
ويتجلى مصداق هذا الوجه من جهات :
الأولى : إسلام خديجة والإمام علي عليهما السلام في أول وثاني يوم لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : إسلام زيد بن حارثة الذي كان يكنى زيد بن محمد.
الثالثة : ذبّ أبي طالب عم النبي عنه .
الرابعة : إجتماع بني عبد المطلب وبني المطلب في شعب أبي طالب نصرة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما فرضت عليهم قريش الحصار الأقتصادي والإجتماعي والسياسي والنفسي لمدة ثلاث سنوات .
فان قلت كان أبو لهب عم النبي هو وزوجته يؤذيان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أشد الأذى ، والجواب هذا صحيح ولكن لا عبرة بالقليل النادر وقد أخزاه الله عز وجل بقوله تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ).
وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باسلام العرب من قبائل شتى ودفاعهم تحت لوائه مع إجهار عمه أبي لهب بالكفر وإنكار نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : إسلام عدد من رجالات ونساء قريش وهو من رشحات قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ).
السادسة : دخول أفراد وجماعات من قبائل شتى الإسلام ، وكذا من مدينة يثرب من الأوس والخزرج.
الخامس : من رحمة الله عز وجل بالأنبياء بعد وفاتهم ذكر القرآن لهم من جهات :
الأولى : ذكر أسماء خمسة وعشرين نبياً من القرآن .
الثانية : توثيق معجزات عدد من الأنبياء ، وفيه دلالة على قانون كل نبي له معجزة .
الثالثة : نجاة وسلامة الأنبياء من القوم الظالمين .
الرابعة : الشهادة من الله عز وجل للأنبياء باخلاص العبودية لله ، وقيامهم بالتبليغ على الوجه الأكمل ، قال تعالى [وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ).
ولا يعلم دلالات ومنافع ثناء الله عز وجل على الأنبياء في القرآن إلا الله عز وجل.
السادس : كثرة الآيات القرآنية بخصوص الأنبياء وقصصهم ، منها :
الأول : قوله تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الثاني : قوله تعالى [تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ]( ).
الثالث : قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ]( ).
الرابع : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا]( ).
الخامس : قوله تعالى [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا]( ).
السادس : قوله تعالى [مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ]( ).
السابع : قوله تعالى [يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ]( ).
الثامن : قوله تعالى [وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ]( ).
التاسع : قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
العاشر : قوله تعالى [يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ]( ).
الحادي عشر : قوله تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ]( ).
الثاني عشر :قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
الثالث عشر : قوله تعالى [ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ *قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ]( ).
الرابع عشر : قوله تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ]( ).
الخامس عشر : قوله تعالى [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
السادس عشر : قوله تعالى [وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا]( ).
السابع عشر : قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ]( ).
الثامن عشر : قوله تعالى [وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا]( ).
التاسع عشر : قوله تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ]( ).
العشرون : قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
الحادي والعشرون : قوله تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ]( ).
الثاني والعشرون : قوله تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ]( ).
الثالث والعشرون : قوله تعالى [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَامَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ومن هذه الآيات ما هو خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قانون التفاضل في قول (الحمد لله)
هل هناك تفاضل في [الْحَمْدُ لِلَّهِ] بين أهل الأديان والملل وعموم أهل الأرض ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : الكم وعدد المرات التي ينطق بها الفرد والجماعة والأمة بـ[الْحَمْدُ لِلَّهِ].
الثانية : الكيف وتعدد صيغ [الْحَمْدُ لِلَّهِ] في القول مثل الشكر والثناء على الله سبحانه .
وفي العمل بالمبادرة لعمل الصالحات وتعاهد النعمة بالإحسان والعفة ، وفي وصف المؤمنين ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ] ( ).
الثالثة :المناجاة والتواصي والندب للحمد لله .
الرابعة : إجتناب المعاصي حمداً لله عز وجل على النعم .
الخامسة : التباين في عدد النطق بالحمد لله في أفراد الواجب والمستحب.
ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) مواظبة ودأب المسلمين والمسلمات على قول الحمد لله، فكل واحد منهم ينطق به سبع عشرة مرة في الصلاة اليومية الواجبة ، فان قيل ليس كل المسلمين يؤدون الصلاة .
والجواب من جهات :
الأولى : عمارة المساجد في كل بلدة ، وقرية وأداء الصلاة فيها، وفي البيوت .
الثانية : توجه الخطاب التكليفي لكل مسلم ومسلمة بوجوب أداء الصلاة ، فالتقصير والتخلف عن أدائها لا يحجب تجدد الخطاب من الله للمسلمين بوجوب أدائها ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الثالثة : الإتصاف الإجمالي والعموم المجموعي للمسلمين بأدائهم الصلاة.
الرابعة : كل فرد يصلي اليومية آمر بالفعل بأداء الصلاة وناه عن التخلف عنها.
الخامسة : بعث تلاوة القرآن في الصلاة المسلمين والمسلمات على أداء الصلاة ، وفي التنزيل [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ]( ).
و(عن أبي قتادة بن ربعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال الله تبارك وتعالى : إني افترضت على أمتك خمس صلوات ، وعهدت عندي عهداً أنه من حافظ عليهن لوقتهن أدخلته الجنة في عهدي ، ومن لم يحافظ عليهن فلا عهد له عندي .
وأخرج أبو داود عن فضالة الليثي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمني ، فكان فيما علمني أن قال : وحافظ على الصلوات الخمس في مواقيتهن.
وعن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : خمس صلوات كتبهن الله تبارك وتعالى على العباد ، فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن ، وفي لفظ : من أحسن وضوءهن ، وصلاتهن لوقتهن ، وأتم ركوعهن وخشوعهن ، كان له على الله تبارك وتعالى عهد أن يغفر له ، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)( ).
السادسة : ينطق المسلمون بالحمد لله خارج الصلاة ، وهذا النطق أعم من أن يختص بالمصلين .
وكأن فيه تداركاً للقصور في النطق بالحمد لله إذا شاء الله، ومن خصائص أهل التوحيد النطق بالحمد لله في الصلاة وخارجها .
ومما ورد في التوراة بخصوص الحمد :
16: 7 حينئذ في ذلك اليوم اولا جعل داود يحمد الرب بيد اساف و اخوته
16: 8 احمدوا الرب ادعوا باسمه اخبروا في الشعوب باعماله
16: 9 غنوا له ترنموا له تحادثوا بكل عجائبه
16: 10 افتخروا باسم قدسه تفرح قلوب الذين يلتمسون الرب
16: 11 اطلبوا الرب و عزه التمسوا وجهه دائما
16: 12 اذكروا عجائبه التي صنع اياته و احكام فمه
16: 13 يا ذرية اسرائيل عبده و بني يعقوب مختاريه
16: 14 هو الرب الهنا في كل الارض احكامه
16: 15 اذكروا الى الابد عهده الكلمة التي اوصى بها الى الف جيل( ).
وفي انجيل برنابا (أما الذين كانوا جالسين بجانب يسوع فلما رأوا الحقيقة نهضوا عن المائدة واحتفوا به قائلين : حقا انك قدوس الله ونبي صادق مرسل الينا من الله ، حينئذ آمن به تلاميذه ، وعاد كثيرون إلى أنفسهم قائلين : الحمد لله الذي أظهر رحمة لإسرائيل وافتقد بيت يهوذا بمحبته تبارك اسمه الاقدس)( ).
الكتابة والهدى
الحمد لله [الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( )، لقد علم الله عز وجل آدم الأسماء كلها قبلاً من غير واسطة ملك ، ثم تفضل وعلم ذريته الكتابة بالقلم على الحجر والألواح وجريد النخل والورق ، ثم جاءت في هذا الزمان الكتابة على الآلة الحاسبة من غير قلم ولا ورق وهو من مصاديق الآية أعلاه في عمومات القلم ، وتعليم الإنسان ما لم يعلم .
ليشكر الناس الله عز جل ، ويجعلوا هذا العلم في طاعته ، وليكون فضاء واسع ومتجدد لعلوم القرآن في التدوين والبيان وفي الوصول إلى الشخص فتجد مكتبة بمساحة مدينة تختزن في قرص صغير .
وهل كان اختراع الكتابة دفعياً ومرة واحدة ، أم على نحو التدريج وعلى مراحل متعددة عبر الأزمنة المتعاقبة.
الجواب لا تعارض بين الأمرين وكلاهما صحيح ، فالأول بالوحي والمعجزة للأنبياء ، وفيه رحمة بقومهم والناس ، وهداية لهم ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ أن بعثة الأنبياء رحمة ومنها تعلم الناس الكتابة.
لذا قيل أول من خط بالعربي إسماعيل عليه السلام ،وقيل يعرب بن قحطان ( ).
و(عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله كم الأنبياء ، قال : مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفاً . قلت : يا رسول الله كم الرسل منهم ، قال : ثلثمائة وثلاثة عشر جم غفير . قال : يا أبا ذر أربعة سريانيون : آدم ، وشيث ، ونوح ، وخنوخ وهو إدريس ، وهو أوّل من خط بقلم.
وأربعة من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك ، وأوّل نبي من أنبياء بني إسرائيل موسى ، وآخرهم عيسى ، وأوّل النبيين آدم ، وآخرهم نبيك)( ).
ولا تعارض بين كون إدريس اول من خط بالقلم ، والقول بان إسماعيل هو أول من خط بالعربية لأن لسان إدريس كان سريانياً .
وذكر أن إدريس (ابن برد بن مهليل بن قنين بن يانش بن شيث بن آدم، عليه السلام)( ).
وسمي إدريس لكثرة دراسته الكتب ، وأنزل الله عز وجل عليه ثلاثين صحيفة .
وتدل قلة البطون بين آدم وإدريس على أن تعلم الكتابة ليس متأخراً عن أوان هبوط آدم إلى الأرض بزمن طويل ، لبيان رحمة الله بالناس في تدوين الوحي والتنزيل ، وبشارات النبوة من الأحقاب الأولى لعمارة الأرض لتكون حجة على الناس .
وما قيل بأن الكتابة أول ما بدأت بالرسم للتعبير عن الأشياء كرسم الطير والحية والنهر وآلة الزراعة والسيف ، وهو لا يتعارض مع قدم الكتابة ، فكون إدريس تعلم الكتابة بالمعجزة لا يعني أنه علم أهل زمانه كلهم ، نعم من خصائص الأنبياء نشر الكتابة والقراءة لأنه وسيلة لحفظ الوحي والتنزيل .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر أسرى المشركين في معركة بدر من الذين يعرفون القراءة والكتابة بتعليم كل واحد منهم عشرة من صبيان أهل المدينة القراءة والكتابة ، وهذا التعليم بدل لأسرهم ، وعلة لإنفكاكهم من الأسر.
وكانت الكتابة قليلة عند العرب (وقيل: إن أول من تعلمه من الأنبار قوم من طيئ من قرية هناك يقال لها: بقة، ثم هذبوه ونشروه في جزيرة العرب فتعلمه الناس. ولهذا قال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا عبد الله بن محمد الزهري، حدثنا سفيان عن مجاهد عن الشعبي قال: سألنا المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا: من أهل الحيرة. وسألنا أهل الحيرة: من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا: من أهل الأنبار)( ).
وبقيت آثار كتابة أهل الحيرة ظاهرة عند أهل الحجاز ، فمثلاً كلمة (الربا) يكتبونها بالواو ( الربوا) لأنهم تعلموا الكتابة من أهل الحيرة ولغتهم الربوا ( ).
قانون انتفاء سبب القتال
من إعجاز القرآن بيانه لقانون عدم الحاجة إلى القتال ، وما يترشح عنه من إسالة الدماء ، وهذا القانون نطق به الملائكة حالما أخبرهم الله عز وجل بأنه سيخلق آدم ويجعله وذريته خلفاء في الأرض ، قال تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً…] ( ) .
وهل علم آدم عليه السلام بعد وهو في الجنة بقول الملائكة هذا ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) إلى جانب إختلاط آدم وحواء وهما في الجنة بالملائكة.
وفي خلق الملائكة قبل الجن والإنس ، وصيرورتها تطوف حول العرش ، وهي منقطعة إلى العبادة والتسبيح مع القيام بأعمال عظيمة لا يقدرعليها جنس الجن والإنس دعوة للإنسان للخضوع والخشوع لله عز وجل ، وإدراك إبتناء الأكوان على ملايين العلل والمعلولات ، وهو من بديع قدرة الله سبحانه وعظيم سلطانه.
وهل الملائكة علة لخلق الإنسان ، الجواب لا ، إنما خلق الإنسان بفضل من عند الله ، وتشمل الرحمة في خلق الإنسان وبعث الأنبياء الملائكة ، وتتجلى لهم آيات من بديع صنع الله عز وجل وتزيين الناس الأرض بالذكر عن إختيار وشوق .
وفي التنزيل [وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ] ( ) ومن المؤكد أن الملائكة [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
وقد جعل الله سبحانه الملائكة ذوي قدرات خارقة تفوق التصور الذهني للبشر ، ولهم أجنحة ويتشكلون بهيئات متعددة تتصف بالحسن (عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أُذِنَ لي أن أُحدّث عن ملك من ملائكة الله من حملة عرشه ما بين شحمة أُذنه إلى عاتقه مسيرة سبع مائة عام)( ).
وسرعتهم فائقة ، وهل هي أسرع من الضوء ، الجواب نعم ، إذا شاء الله ، فلا يزيد الملك من سرعته ، ومقدار هذه الزيادة إلا باذن من الله عز وجل ، ومع هذا فانهم يستحيون من الله يشعرون بالتقصير في عبادته ، ولا يحصي عدد الملائكة وأماكن وجودهم إلا الله ، ولكل سماء ملائكة ، وهذا لا يمنع من تداخل الوظيفة ، وتنقل الملائكة في السموات ، ومن خصائص الملائكة عدم الدعوة إلى القتال ،ولكنهم ينصرون الأنبياء لأن هذا النصر من علل تعاهد سنن التوحيد في الأرض ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
وقد نزلوا على آدم عندما هبط إلى الأرض ، ولما قتل ابنه قابيل أخاه هابيل لم يقم آدم الحد والقصاص على قابيل .
ونزل الملائكة على إبراهيم وموسى وعيسى والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الملائكة على الأنبياء أعم من الوحي ،فقد ينزلون لصرف القتال ، والحيلولة دون تحقق مقدماته ، ولا ينحصر هذا الصرف بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل هو مصاحب لحياة الناس في الأرض ، فيصرف الملائكة القتال بين عامة الناس ، وإن كانوا كفاراً حيث يشاء الله .
وتفضل الله عز وجل وجعل جبرئيل ينزل بالقرآن لهداية المسلمين إلى إتخاذ الصلح بين المؤمنين سبيلاً للوئام ، ومنهاجاً للحياة ، قال تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ( ).
عاقبة المستهزئين بالتنزيل
وعن عروة بن الزبير كان من عظماء المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (خمسة نفر، وكانوا ذوى أسنان وشرف في قومهم: الاسود بن المطلب أبو زمعة، دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : اللهم أعم بصره وأثكله ولده…الحديث)( ).
وفي قوله تعالى [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ]( ) وعد من الله عز وجل للكفاية والعصمة من الذين عادوا الرسول واستهزوا بنبوته وبالتنزيل ، وجميعهم من قريش وهم :
(الأول : الوليد بن المغيرة .
الثاني :عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكان رأسهم .
الثالث :العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم.
الرابع : الأسود بن المطلب بن الحرث بن (أسد) بن عبد العزى أبو زمعة وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد دعا عليه فقال : اللهم أعم بصره وأثكله بولده .
الخامس : الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة.
السادس : الحرث بن قيس بن الطلاطلة فإنه عيطل.
فأتى جبرئيل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمستهزئون يطوفون بالبيت، فقام جبرئيل وقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جنبه فمرّ به الوليد بن المغيرة .
فقال جبرئيل : يا محمّد كيف تجد هذا .
قال : بئس عبد الله.
قال : قد كفيت وأومأ إلى ساقه ويده، فمرّ برجل من خزاعة (نبّال) يريّش نبلاً له وعليه برد يمان وهو يجر إزاره فتعلقت شظّية من نبل بإزاره فمنعه الكبر أن يطمئن ونبذ عمامته وجعلت تضرب ساقه فخدشته فمرض منه ومات.
وقال الكلبي : تعلّق سهم بثوبه فأصاب أكحله فقطعه فمات.
ومرَّ به( ) العاص بن وائل،
فقال جبرئيل : كيف تجد هذا يا محمّد؟
قال : بئس عبد الله.
فأشار جبرئيل لأخمص رجله وقال : قد كفيت ، وقد خرج على راحلته ومعه اثنان يمنعانه فنزل شعباً من تلك الشعاب فوطيء على شرقة فدخلت منها شوكة في أخمص رجله.
فقال : الوقت لدغت.
فطلبوا ولم يجدوا شيئاً فأنتفخت رجله حتّى صارت مثل عنق بعير فمات مكانه.
ومرَّ به الأسود بن عبد المطلب .
فقال جبرئيل : كيف تجد هذا يا محمّد؟
قال : عبد سوء فأشار إلى عينه .
وقال : قد كفيت فعمى .
قال ابن عبّاس : رماه جبرئيل بورقة خضراء فذهب بصره ووجعت عينه .
فجعل يضرب برأسه الجدار حتّى هلك.
وفي رواية الكلبي : أتاه جبرئيل وهو قاعد في ظل شجرة ومعه غلام له فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك وإستغاث بغلامه،
فقال غلامه : لا أرى أحداً يصنع بك شيئاً غير نفسك حتّى مات وهو يقول : قتلني ربّ محمّد.
ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث فقال جبرئيل : كيف تجد هذا؟
فقال : بئس عبد الله .
على أنه خالي .
فقال : قد كفيت .
وأشار إلى بطنه فشقّ بطنه فمات حينها.
وفي رواية الكلبي : أنه خرج من أهله فأصابه السموم فاسودّ حتّى عاد حبشياً فأتى أهله فلم يعرفوه فأغلقوا دونه الباب وهو يقول : قتلني ربّ محمّد.
ومرَّ به الحرث بن قيس،
فقال جبرئيل (عليه السلام) : يا محمّد كيف تجد هذا؟
قال : عبد سوء فأومأ إلى رأسه وقال : قد كفيت .
فأمتخط قيحاً فقتله.
وقال ابن عبّاس : إنه أكل حوتاً مالحاً فأصابه العطش فلم يزل يشرب عليه من الماء حتّى اتّقد بطنه فمات .
فذلك قوله تعالى {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ}( ) يعنى بك وبالقرآن)( ).
أم حكيم بنت الحارث
وعندما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة أعطى أماناً للناس جميعاً (إلا أربعة أنفس: عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح) ( ).
وأسلمت أم حكيم بنت الحارث بن هشام زوجة عكرمة وهي ابنة عمه يوم الفتح ، واستأمنت لزوجها عكرمة بن أبي جهل وكان قد فرّ الى اليمن فأعطاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمان.
لبيان سعة الرحمة النبوية ، فحالما أسلمت صارت تشفع وتطلب الأمان لشخص هو من ألدّ أعداء الإسلام وأكثرهم إيذاء للمسلمين وخرجت في طلبه وردته ، وثبتا على نكاحهما .
وتزوج عكرمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتيلة بنت قيس أخت الأشعث بن قيس ، وأراد أبو بكر أن يضرب عنقه لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تزوجها ولا يصح زواج أمهات المؤمنين لقوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا]( )، فقال عمر لأبي بكر (أن رسول الله صلى الله عليه وآلهه وسلم لم يفرض لها، ولم يدخل بها ، وارتدت مع أخيها ، فبرئت من الله ورسوله ، فلم يزل به حتى كف عنه)( ).
علماً بأن إرتداد المرأة لا يمنع حكم حرمة نكاحها إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تزوجها .
وعندما قُتل عكرمة في اجنادين سنة 634 في أرض فلسطين قريباً من مدينة الرملة اعتدت أم حكيم عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة.
وخطبها يزيد بن أبي سفيان خطبها بعد انقضاء عدتها ، وكان خالد بن سعيد يرسل اليها اثناء العدة يتعرض للخطبة لحرمة التصريح بالخطبة مدة العدة ، فتزوجت خالد بن سعيد ، وكان أمير الجيش .
ولا بأس بالتعريض والتلميح ليتيسر للمعتدة الإختيار بين الخطّاب الذين يقدرون على خطبتها بعد العدة ، فقد لا تعلم بالأحسن والأفضل لها مع رغبته بالزواج منها ، ولكنه لا يبادر الى خطبتها بعد انقضاء العدة ، ويبادر لها غيره فترضى به ، قال تعالى [وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( )، ومن أمثلة التعريض اثناء العدة :
الأول : إني أرغب بالزواج .
الثاني : أسال الله زوجة صالحة .
الثالث : أحب الزواج من امرأة تتصف بكذا وكذا من الخصال الحميدة ، ويشير إلى صفاتها.
وكذا يجوز التعريض في المرأة المبتوتة أي (البتة) وهي المطلقة ثلاثاً بخلاف المطلقة الرجعية فلا يجوز التعريض بخطبتها مدة العدة لأنها ملحقة بالزوجة.
الصحابية فاطمة بنت قيس
ولما طلقت فاطمة بنت قيس من قبل زوجها أبي عمرة بن حفص ثلاث تطليقات ، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبرته (فَقَالَ لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ ” فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدّ فِي بَيْتِ أُمّ شَرِيكٍ ثُمّ قَالَ ” تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي اعْتَدّي عِنْدَ ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ فَإِنّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَك فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي .
قَالَتْ فَلَمّا حَلَلْت ذَكَرْت لَهُ أَنّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَمّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ وَأَمّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ” فَكَرِهْته ثُمّ قَالَ ” انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ” فَنَكَحْته فَجَعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا وَاغْتَبَطْتُ)( ).
واشكل على القول بعدم النفقة والسكن على الزوجة مدة العدة بضعف الحديث لعمومات قوله تعالى [لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ]( ).
و(كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ إذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ حَدِيثُ فَاطِمَة بِنْتِ قَيْسٍ قَالَ مَا كُنّا نُغَيّرُ فِي دِينِنَا بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ)( ).
وفاطمة بنت قيس بن خالد القرشية الفهرية أخت الضحاك بن قيس (وهي أسن منه بعشر سنين)( ).
(كانت من المهاجرات الأول وكانت ذات جمال وعقل وكانت عند أبي بكر بن حفص المخزومي فطلقها فتزوجت بعده أسامة بن زيد)( ).
وقد روت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعة وثلاثين حديثاً.
(وفي بيتها اجتمع أهل الشورى لما قتل عمر) ( ).
وعاشت فاطمة بنت قيس إلى أيام معاوية.
ومات أسامة سنة أربع وخمسين ، وكان أسامة أسود اللون افطس الأنف ، أخذ السواد من أمه أم أيمن حاضنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أما معاوية فقد مات سنة (60) للهجرة .
والظاهر أن فاطمة بنت قيس ماتت قبل أسامة بن زيد الذي كان عمره يوم توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشرين سنة .
مخاطبة المسلمين بآيات النبوة
كل آية من القرآن هي خطاب للمسلمين وإن جاءت بصيغة الجملة الخبرية ، وهناك آيات تتضمن قصص الأنبياء وموجه فيها المعنى والخطاب للمسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
وتدل الآية أعلاه على أن العبرة والموعظة من قصص الأنبياء في القرآن لا تختص بالمسلمين والمسلمات ، إنما هي عام للعقلاء ، وفيه شاهد على أن الناس جميعاً ينتفعون من وجوه :
الأول: إغتراف العلوم من القرآن .
الثاني: مصاديق وشواهد آيات القرآن وأسباب النزول .
الثالث: تلاوة كل مسلم القرآن خمس مرات في الصلاة اليومية.
الرابع : سماع الناس للقرآن .
ومن الآيات التي ذكر فيها الأنبياء والرسل.
الأولى : قوله تعالى [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
الرابعة : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا]( ).
الخامسة : قوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ]( ).
السادسة : قوله تعالى [شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ]( ).
السابعة : قوله تعالى [أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ]( ).
ويستقرأ من المضامين القدسية لهذه الآيات بخصوص عنوان هذا الجزء (لم يغز النبي (ص) أحدا ) وجوهاً :
الأول : قانون إنقطاع الأنبياء إلى العبادة والذكر والتبليغ .
الثاني : قانون قيام الأنبياء بالتبليغ بالطرق السلمية التي تتجلى مصاديقها بالبرهان والحجة والإحتجاج .
الثالث : قانون تحلي الأنبياء بأعلى مراتب الصبر .
الرابع : دفاع الأنبياء عن عقيدة التوحيد ، ومن الشواهد على أنهم في حال دفاع نصرة الله لهم على نحو العموم الإستغراقي ، وتدل عليه صيغة الإطلاق في قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ( ).
الخامس : قانون وجوب إقتداء المؤمنين بالأنبياء .
السادس : العز والفخر للأنبياء وأتباعهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ]( ).
قانون من الإستطاعة إحراز السلامة
هل يجب تحصيل هذه السلامة في طريق الحج وأداء المناسك على نحو القطع الجواب لا ، إنما يكفي الظاهر والظن المعتد به ، مثلاً الأمن بعدم وجود قطاع طرق ينهبون أموال الحاج ، فاذا احتمل طرو أمر منه على نحو عرضي فلا يمنع من الحج ، وإذا كان راجحاً تعرض قطاع الطرق للحاج المنفرد فيجب أن يسير وفد الحاج بقوافل وجماعات تمتنع بالسلاح عن السلب.
ومن الإستطاعة سلامة السرب والأمن ، وجاءت السنة النبوية بحصر وجوب الحج بمرة واحدة في العمر ، وعليه إجماع علماء الإسلام.
(وقال الإمام علي عليه السلام وأبو أمامة الباهلي : خطب بنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وقال : إن اللّه كتب عليكم الحج.
فقام رجل من بني أسد يقال له عكاشة بن محسن فقال : أفي كل عام يا رسول اللّه؟
فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثاً،
فقال (عليه السلام) : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم،
واللّه لو قلت نعم لوجبت،
ولو أوجبت ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني كما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء،
فأتوا منه ما استطعتم،
فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) ( ).
وهذا المورد من كفاية المرة الواحدة في أداء الواجب لو دار الأمر بينها وبين التكرار.
وقد تحول الحوادث والغلاء دون حج أهل مصر من الأمصار أو ينحصر إمكان الحج بأهل الحجاز ، ومن مصاديق قوله تعالى [إِنْ شَاءَ اللَّهُ] ( ) في أداء الحج في هذا الزمان الأمن وسلامة الطريق ، وتيسير التغلب على الأوبئة بالوقاية وبالعلاج ، والإحتراز وإتباع الأوامر والشروط الصحية ، ورصد حالات المرض ، فلا تكون هذه الأوبئة مانعاً من أداء الحج.
ومن معاني التعليق على المشيئة في الآية ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (حجّوا قبل أن لا تحجوا) ( ) ويدل عليه عمومات قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
قانون التقوى دفاع
لقد ابتدأت سورة الأحزاب بنداء التشريف والإكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ).
وهناك مسائل :
الأولى : هل المراد بالآية خصوص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم الخطاب أعم.
الثانية : هل الآية مقدمة وتحذير من معركة الأحزاب .
الثالثة : ما هي موضوعية التقوى في صدّ هجوم المشركين .
الرابعة : ما هي الصلة بين تقوى الله وعدم طاعة الكفار والمنافقين .
الخامسة : ما هي وجوه الإلتقاء بين الكافرين والمنافقين في المقام وذكر الآية لهم مجتمعين .
السادسة : لماذا قدمت الآية الكافرين .
أما المسألة الأولى فالخطاب أعم إذ يشمل بالإلحاق كلاً من :
الأول : المهاجرون ذكوراً واناثاً .
الثاني : الأنصار ذكوراً واناثاً .
الثالث : التابعون .
الرابع : عموم أجيال المسلمين إلى يوم القيامة.
الخامس : من مفاهيم النداء القرآني إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إكرامه وبعث الخيبة في قلوب المنافقين والكفار ودعوتهم للتوبة والإنابة .
وأما المسألة الثانية فالجواب نعم ، وفيه دعوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة للإحتراز من كيد وهجوم المشركين.
وبيان قانون وهو من كيدهم ومكرهم إرادة جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمع قولهم ويطمئن لهم ، وهم في ذات الوقت يخططون للهجوم على المدينة ، ويسعون في استئصال الإسلام ، فنزل القرآن بفضحهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للإحتراز منهم ، ونزول العذاب بهم ، قال تعالى [بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ]( ).
وعن ابن عباس في الآية (قال : إن أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة ، دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن قوله على أن يعطوه شطر أموالهم ، وخوفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه ، فأنزل الله يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ( ).
وهو من مصاديق الآية الكريمة ، والمراد من الأمر بتقوى الله عام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ولا تختص التقوى بالإمتناع عن طاعة المنافقين والمشركين ، إنما تشمل أداء الفرائض العبادية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإجتناب فعل السيئات .
و(عن ابن جريج {ولا تطع الكافرين} أبي بن خلف {والمنافقين} أبو عامر الراهب ، وعبد الله بن أُبي بن سلول ، والجد بن قيس)( ).
والآية أعم وقد بيّنا في هذه السِفر قانوناً وهو أن صيغة الجمع وإرادة الفرد منها منحصرة بالله عز وجل ، أما إذا ورد لفظ جمع في القرآن فيحمل على معناه الظاهر فالمراد من الكافرين جمع حتى بخصوص أسباب النزول ، وكذا المراد من المنافقين جمع .
أما المسألة الثالثة فان التقوى سلاح ضرورة للمسلمين لصدّ هجوم وغزو المشركين ليدافع الصحابة بقصد القربة ، وطلب رضا الله ، ورجاء ثوابه ، وفضح مقاصد السوء للذين كفروا وتعديهم المتجدد ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
وأما المسألة الرابعة فان الصلة بينهما هي العموم والخصوص المطلق إذ أن التقوى أعم ، وقد أغاظ الكفار امتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن طاعتهم ومحاكاتهم والسكوت عن عبادتهم الأوثان فقاموا بشن الغزوات على المدينة لإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ومن التقوى الصبر في منازل الدفاع .
وأما المسألة الخامسة فقد أراد الكفار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مداهنتهم وسعوا في إرتداد طائفة من المسلمين ، وأما المنافقين فقد أرادو من الصحابة القعود عن الدفاع ، وعدم الضرب في الأرض ، وبذا صار المنافقون عوناً للكفار من داخل مجتمع المسلمين ، قال تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ]( ).
وجاءت آية قرآنية أخرى بالأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم طاعة الكافرين والمنافقين مع لزوم ترك أذاهم والصبر عليهم ، قال تعالى [وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً]( ).
ومن معاني ترك أذى المشركين عدم مقابلة الغزو بمثله ، وعندما كانت خيل المشركين تهاجم أطراف المدينة يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لمطاردتهم حتى يطمئنوا لإبتعادهم عن المدينة ثم يعودون من غير ملاحقتهم إلى مكة وأطرافها ، كما في كتيبة السويق.
أذى بني سُلَيم
لقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأذى من بني سُليم قبل أن يدخلوا في الإسلام ، إذ بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم يحشدون القوات لغزو المدينة ، فسار إليهم بعد عودته من معركة بدر بسبع ليال ليقطع على قريش المدد والإعانة لبني سليم لغزو المدينة .
ويعلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمكر ودهاء قريش عند نزول مصيبة الخسارة بهم ، ولأنهم أصحاب أموال فيشترون الرؤساء والوجهاء بالأموال ، هبة وهدايا وقرضاً مع وعدهم بما هو أكثر من الأموال والمزايا .
واصطحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم معه مائتين من أصحابه ، وكان حامل لوائه الإمام علي عليه السلام ، وباغتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ماء اسمه (الكُدر) ففر بنو سُليم ، ترى لماذا باغتهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الجواب انه من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، لإرادة منع الإقتتال وسفك الدماء ، ولبيان أن معركة بدر التي جرت قبل نحو عشرة أيام إنما هي باعتداء واصرار من قريش وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد قتال حتى الذين يهّمون بغزو المدينة ، ويسعون في قتله ومع هذا تسمى هذه الكتيبة غزوة للنبي باسم غزوة الكدر وتسمى قرقرة الكدر مع أنه لم يقع قتال ، ولم يقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم دور وقرى بني سليم إنما اكتفى برد الوصول لى ماء (الكُدر).
قال ابن إسحاق وأبو عمر وغيرهما بلغ النبي (أن بهذا الموضع جمعا من سليم وغطفان، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أم مكتوم، وحمل لواءه علي بن أبي طالب، وكان أبيض، فسار إليهم، فبلغ مأمن مياههم، يقال له: الكدر، فلم يجد في المحال أحدا، وأرسل نفرا من أصحابه في أعلى الوادي واستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بطن الوادي: فوجد رعاء فيهم غلام يقال له: يسار .
فسأله عن الناس، فقال: لا علم لي بهم، إنما أورد لخمس، وهذا يوم ربعي والناس قد ارتفعوا إلى المياه، ونحن عزاب( )، في النعم، فأقام صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال وقد ظفر بالنعم، فانحدر إلى المدينة فاقتسموا غنائمهم بصرار، على ثلاثة أميال من المدينة، وكانت النعم خمسمائة بعير)( ).
وأخرج الخمس وهو خمسون بعيراً ، وقسمت الباقي على الصحابة فأصاب كل واحد منهم بعيران ، وصار يسار في سهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجده يصلي فاعتقه في الحال واقام في المدينة بقية شوال وشهر ذي القعدة ، وأطلق وأفدى أكثر اسرى معركة بدر في هذه المدة القصيرة .
لقد قطع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمسيره نحو بني سليم رافداً لقريش في عدوانها ، وإن كان هذا المسير سبباً في زيادة حقد وحنق بني سليم ، ولكن الإيمان يدب ضياؤه في صفوفهم وآيات القرآن تصدح في منتدياتهم ، وتدخل إلى بيوتهم ، لذا فلا يصح النظر إلى الأمور بلحاظ العداء والثأر وحده ، إنما كان المدد يأتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهداية القلوب ، وتجلي المعجزات وتلاوة آيات القرآن والتدبر في معانيها ودلالتها.
وأثر آيات الوعد والوعيد في النفوس ، وهو من مصاديق الإعجاز الغيري للقرآن ، قال تعالى [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ]( ).
وحينما هجم المشركون في معركة الخندق في السنة الخامسة كان معهم من بني سليم أربعمائة رجل .
وتمر الأيام سريعاً ، ويخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى فتح مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة ويكون معه عشرة آلاف من أصحابه ، نفس ذات العدد الذي هجم به المشركون في غزوهم في معركة الخندق ولكن مع الفارق .
وكان معه (من بنى سليم سبعمائة ، ويقول بعضهم : ألف)( ).
ورجح ابن حزم أنهم ألف رجل ( ).
وهل من بين هؤلاء من جاء مع المشركين عندما أحاطوا بالمدينة في معركة الخندق ، الجواب نعم ، وقال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
مكر إبليس
تحتمل كيفية إزلال وإغواء إبليس لآدم وحواء وجوهاً :
الأول : كلّم إبليس آدم وحواء ، ودعاهما للأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها .
الثاني : مشافهة إبليس لأحدهما ، كما لو تقرب إلى حواء .
الثالث : لم يخلص إبليس إلى أحدهما إنما وسوس لهما ، والقى شهوة البقاء في نفسيهما ، خاصة وأنه لم يسجد لآدم ، وباء بغضب من الله سبحانه .
المختار هو الأول أعلاه ، وهو المشهور ، ويدل عليه قوله تعالى [وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ] ( ) .
(وروي عن ابن عباس أنه قال : لما رأى إبليس آدم في النعمة حسده ، واحتال لإخراجه منها ، فعرض نفسه على كل دابة من دواب الجنة أن يدخل في صورتها فأبت عليه .
حتى أتى الحية وكانت أعظم وأحسن دابة في الجنة خلقاً، وكانت لها أربعة قوائم ، فلم يزل يستدرجها حتى أطاعته .
فدخل ما بين لحييها وأقام في رأسها ، ثم أتى باب الجنة وناداهما وقال (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين)( )، يعني أن هذه الشجرة شجرة الخلد ، فمن أكل منها يبقى في الجنة أبداً)( ).
وهو من الإعجاز في الآية أعلاه لجمعها بين أمور :
الأول : إزلال إبليس لآدم وحواء ودفعهما إلى إرتكاب الخطأ ، وترك الأولى .
الثاني : خروج آدم وحواء من نعم عظيمة ومقام رفيع في الجنة ، وظاهر الآية أن هذا الإخراج قبل الهبوط إلى الأرض ، لأن الآية أخبرت عنه ثم ذكرت بصيغة العطف [قُلْنَا اهْبِطُوا] ( ) .
الثالث : لم يهبط آدم وحواء إلى الأرض إلا بعد أن أخبرهما الله عز وجل بوجوب طاعته وعبادته ، وهي طريق للعودة إلى الجنة ، وهذا الإخبار ونحوه من الميثاق الذي نزل به آدم إلى جانب ميثاق عالم الذر .
(عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لما أهبط الله آدم إلى الأرض قام وجاء الكعبة فصلى ركعتين ، فألهمه الله هذا الدعاء : اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي ، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي ، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنبي .
اللهم أسألك إيماناً يباشر قلبي ، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لا يصيبني إلا ما كتبت لي ، وأرضني بما قسمت لي ، فأوحى الله إليه : يا آدم قد قبلت توبتك ، وغفرت ذنبك ، ولن يدعوني أحد بهذا الدعاء إلا غفرت له ذنبه ، وكفيته المهم من أمره ، وزجرت عنه الشيطان ، واتجرت له من وراء كل تاجر ، وأقبلت إليه الدنيا راغمة وإن لم يردها) ( ).
عن الحسن البصري (عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس، كأنه نخلة سَحُوق. فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته.
فلما نظر إلى عورته جعل يَشْتَد في الجنة، فأخذتْ شعرَه شجرة، فنازعها، فنادى الرحمن: يا آدم، منِّي تفر ، فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب، لا ولكن استحياء أرأيت إن تبت ورجعت، أعائدي إلى الجنة .
قال: نعم ، فذلك قوله {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}( ))( ).
ليكون الميثاق نبراساً وضياءً يهتدي بنوره آدم وحواء ، ويؤدبان ذريتهما للعمل بمضامينه وأحكامه .
ويمكن القول بقانون وهو لم يهبط آدم إلا ومعه مدد من عند الله عز وجل ، ومنه الميثاق الذي يتجلى بالوحي والتنزيل ، بالإضافة إلى عدم إنقطاع صلة بعض الملائكة مع آدم عندما هبط إلى الأرض .
ولم يغادر آدم وحواء الحياة الدنيا إلا بعد أن تركا عقيدة التوحيد منهاجاَ وصراطاً لأبنائهما وأحفادهما .
لبيان قانون وهو الأصل في فطرة الإنسان التوحيد (عن عياض بن حمار المجاشعي قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : إنّ الله أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم ممّا علّمني في يومي هذا وأنّه قال : إن كلّ مال نحلته عبادي فهو لهم حلال وإنّي خلقت عبادي كلّهم حنفاء فأتتهم الشياطين فاحتالتهم عن دينهم وحَرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم وأَمَرتُهُم أنْ يشركوا بي ما لم أُنزّلْ به سلطاناً) ( ).
وهل يشمل التحذير من إغواء ابليس الإنذار من وسوسته بترك الميثاق ، والإعراض عنه ، الجواب نعم ، إذ أن إظهار وإعلان الميثاق حرب على ابليس وجنوده ، وفي خطاب للناس جميعاً قال تعالى [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ] ( ) .
منع قريش النياحة على قتلاهم في بدر
حينما رجعت فلول المشركين من معركة بدر ، وعلم أهل مكة بكثرة القتلى والأسرى من جمعهم وأسماءهم كثرت النياحة فيها ، وصار الناس بين من نصب مأتماً للعزاء ، ومن يطوف على أهل العزاء مواسياً باكياً ، رجالاً ونساءً ، ولما كان عدد القتلى منهم سبعين ، فيلزم الفرد المواسي ذكراً وأنثى عدة أيام لزيارة بيوت القتلى ، ومواساتهم ، ثم زيارة أهل الأسرى ، ولا تختص المواساة بالتعزية ، إنما بالأسى على فقد ربّ الأسرة الذي يكد من أجل المعيشة ، وزيادة الأرامل والأيتام في مكة ، وكان البكاء يصدح في أزقة مكة.
وهذا البكاء على أمور :
الأول : كثرة القتلى من قريش وربما كان في البيت الواحد ثلاثة من القتلى ، كما في أولاد الأسود بن عبد المطلب .
الثاني : الرؤساء الذين قتلوا .
الثالث : كثرى الأسرى ، والجهل بما يصيبهم وما يأمر به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيهم ، خاصة وأن قريشاً هم المعتدون يوم بدر ، ومدة ما قبل الهجرة .
الرابع : هزيمة قريش ، وفرارهم من ميدان المعركة بذل .
الخامس : كثرة الإبل والمؤن التي خلفتها قريش في ميدان المعركة.
السادس : عدم وجود سبب عقلائي لعدوان قريش ، فكان الأولى بهم الرجوع إلى مكة حالما وصلهم رسول أبي سفيان الذي أخبرهم بسلامة القافلة وأنها متوجهة إلى مكة بأمان.
مما يملي على رؤساء قريش عدم المغامرة والهجوم مرة أخرى ، ولكن العناد والكفر استحوذ عليهم ، فأصدروا أمراً إلى أهل مكة بقطع البكاء على القتلى.
عن (عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ قَالَ : نَاحَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهُمْ ، ثُمّ قَالُوا : لَا تَفْعَلُوا فَيَبْلُغُ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِكُمْ وَلَا تَبْعَثُوا فِي أَسْرَاكُمْ حَتّى تَسْتَأْنُوا بِهِمْ لَا يَأْرَبُ عَلَيْكُمْ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ فِي الْفِدَاءِ) ( ).
وكان ثلاثة من أولاد الأسود بن المطلب قد قتلوا من ضمن قتلى المشركين يوم بدر ، وهم :
الأول : زمعة بن الأسود (أبو حكيمة ) وكان من وجوه قريش.
الثاني : عقيل بن الأسود .
الثالث : الحارث بن زمعة ، وكان الحارث قد أسلم ، ولكن أباه حبسه ، وفتنه ، وحمله على ترك الإسلام ، ثم أخرجه إلى معركة بدر معه ، فقتل فيها ، وقيل هو من الذين نزل فيهم قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] ( ).
(عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة اسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر ، فأصيب بعضهم وقتل بعض.
فقال المسلمون : قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم ، فنزلت هذه الآية { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}( ) إلى آخر الآية .
قال : فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية وأنه لا عذر لهم فخرجوا ، فلحقهم المشركون فاعطوهم الفتنة ، فأنزلت فيهم هذه الآية { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله }( ) إلى آخر الآية .
فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فحزنوا وأيسوا من كل خير ، فنزلت فيهم { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم }( ) فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجاً فاخرجوا ، فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقُتل من قتل .
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن جرير عن عكرمة في قوله { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم }( ) إلى قوله { وساءت مصيراً }( ) قال : نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبي العاص بن منبه بن الحجاج ، وعلي بن أمية بن خلف .
قال : لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وعير قريش من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وأن يطلبوا ما نالوا منهم يوم نخلة ، خرجوا معهم بشبان كارهين ، كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير موعد ، فقتلوا ببدر كفاراً ورجعوا عن الإسلام )( ).
وكان الأسود بن عبد المطلب يحب أن يبكي على بنيه ، وأن يرثيهم بالشعر ، ولكنه يخشى قريشاً التي منعت البكاء مطلقاً ، ولم تستثن الآباء أو الأمهات ، ولا الذي فقد ثلاثة من بنيه .
وفي أحدى الليالي سمع الأسود نائحة في ظلمة الليل حيث الهدوء ، وسماع الصوت ، وكان قد ذهب بصره فقال لغلامه (اُنْظُرْ هَلْ أُحِلّ النّحْبُ هَلْ بَكَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا.
لَعَلّي أَبْكِي عَلَى أَبِي حَكِيمَةَ يَعْنِي زَمَعَةَ فَإِنّ جَوْفِي قَدْ احْتَرَقَ .
قَالَ فَلَمّا رَجَعَ إلَيْهِ الْغُلَامُ قَالَ إنّمَا هِيَ امْرَأَةٌ تَبْكِي عَلَى بَعِيرٍ لَهَا أَضَلّتْهُ) ( ).
فقال الأسود يرثي أولاده الثلاثة بالأسماء ، وليبين ظلم قريش:
(تُبَكّي أَنْ يَضِلّ لَهَا بَعِيرٌ … وَيَمْنَعُهَا مِنْ النّوْمِ السّهُودُ
فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ … عَلَى بَدْرٍ تَصَاغَرَتْ الْخُدُودُ
فَبَكّي إنْ بَكَيْت عَلَى عَقِيلٍ … وَبَكّي حَارِثًا أَسَدَ الْأُسُودِ
وَبَكّيهِمْ وَلَا تَسَمِي جَمِيعًا … وَمَا لِأَبِي حُكَيْمَةَ مِنْ نَدِيدِ
عَلَى بَدْرٍ سَرَاةِ بَنِي هُصَيْصٍ … وَمَخْزُومٍ وَرَهْطِ أَبِي الْوَلِيدِ
أَلَا قَدْ سَادَ بَعْدَهُمُ رِجَالٌ … وَلَوْلَا يَوْمُ بَدْر لَمْ يَسُودُوا) ( ).
ويدل خبر البكاء أعلاه على إصابة الأسود بالعمى قبل واقعة بدر ، وهو موافق لذات الترتيب في دعاء النبي بتقديم العمى (أعم بصره وأثكل بولده ) وأنه قام يضرب رأسه في الجدار فيما بعد .
إلقاء معركة بدر الأسى على أهل مكة
مشت نساء قريش إلى هند زوجة أبي سفيان للمواساة (فَقُلْنَ أَلَا تَبْكِينَ عَلَى أَبِيك وَأَخِيك وَعَمّك وَأَهْلِ بَيْتِك؟
فَقَالَتْ حَلْقَى، أَنَا أَبْكِيهِمْ فَيَبْلُغُ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِنَا، وَنِسَاءُ بَنِي الْخَزْرَجِ لَا وَاَللّهِ حَتّى أَثْأَرَ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ وَالدّهْنُ عَلَيّ حَرَامٌ إنْ دَخَلَ رَأْسِي حَتّى نَغْزُوَ مُحَمّدًا.
وَاَللّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنّ الْحُزْنَ يُذْهِبُ مِنْ قَلْبِي بَكَيْت; وَلَكِنْ لَا يُذْهِبُهُ إلّا أَنْ أَرَى ثَأْرِي بِعَيْنِي مِنْ قَتَلَةِ الْأَحِبّةِ.
فَمَكَثَتْ عَلَى حَالِهَا لَا تَقْرَبُ الدّهْنَ وَمَا قَرِبَتْ فِرَاشَ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ يَوْمِ حَلَفَتْ حَتّى كَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ.
وهل كان هذا الفعل منها تحريض لأبي سفيان وغيره للسير لمعركة أحد ، الجواب نعم ، وكان الأجدر بهم الإتعاظ والحلم وعدم الإنجرار وراء العواطف.
وَبَلَغَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ، وَهُوَ فِي أَهْلِهِ وَقَدْ كَانَ شَهِدَ مَعَهُمْ بَدْرًا، أَنّ قُرَيْشًا بَكَتْ عَلَى قَتْلَاهَا، فَقَدِمَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَقَدْ خَفّتْ أَحْلَامُكُمْ وَسَفِهَ رَأْيُكُمْ وَأَطَعْتُمْ نِسَاءَكُمْ وَمِثْلُ قَتْلَاكُمْ يُبْكَى عَلَيْهِمْ.
هُمْ أَجَلّ مِنْ الْبُكَاءِ مَعَ أَنّ ذَلِكَ يُذْهِبُ غَيْظَكُمْ عَنْ عَدَاوَةِ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ الْغَيْظُ عَنْكُمْ إلّا أَنْ تُدْرِكُوا ثَأْرَكُمْ مِنْ عَدُوّكُمْ. فَسَمِعَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْب كَلَامَهُ فَقَالَ يَا أَبَا مُعَاوِيَةَ غُلِبْت وَاَللّهِ مَا نَاحَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ عَلَى قَتِيلٍ لَهَا إلَى الْيَوْمِ وَلَا بَكَاهُنّ شَاعِرٌ إلّانَهَيْته، حَتّى نُدْرِكَ ثَأْرَنَا مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ. وَإِنّي لَأَنّا الْمَوْتُورُ الثّائِرُ قُتِلَ ابْنِي حَنْظَلَةُ وَسَادَةُ أَهْلِ هَذَا الْوَادِي، أَصْبَحَ هَذَا الْوَادِي مُقْشَعِرّا لِفَقْدِهِمْ) ( ).
ومنع قريش البكاء على القتلى في مكة من الخوف والإرباك الذي أصابهم رجالاً ونساءً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم شارك نساء بني عبد الأشهل البكاء على قتلاهن عند رجوعه إلى المدينة من معركة أحد مع كثرة جراحاته ، وهم صحابة من الأنصار (قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِدَارِ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَظَفَرٍ فَسَمِعَ الْبُكَاءَ وَالنّوَائِحَ عَلَى قَتْلَاهُمْ.
فَذَرَفَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَبَكَى ، ثُمّ قَالَ لَكِنّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ .
فَلَمّا رَجَعَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَمَرَا نِسَاءَهُمْ أَنْ يَتَحَزّمْنَ ثُمّ يَذْهَبْنَ فَيَبْكِينَ عَلَى عَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ عَبّادِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ بَعْضِ رِجَالِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَ لَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بُكَاءَهُنّ عَلَى حَمْزَةَ خَرَجَ عَلَيْهِنّ وَهُنّ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ يَبْكِينَ عَلَيْهِ فَقَالَ ارْجِعْنَ يَرْحَمْكُنّ اللّهُ فَقَدْ آسَيْتُنّ بِأَنْفُسِكُنّ) ( ).
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إخبار الأنصار رجالاً ونساءً أنه مثلهم فقد أصيب بعمه حمزة بن عبد المطلب وقد مثّل به المشركون وشقوا بطنه .
وقد فهم الأنصار رجالاً ونساءً رسالة المواساة هذه فقبلوا ورضوا بها ، وأرسلوا النساء لمواساة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن الهاشميات بعيدات في مكة.
ومع شأن حمزة بن عبد المطلب في قريش فليس من نسوة تجتمع للبكاء عليه ، وقد كانت في المدينة فاطمة الزهراء عليها السلام ، وصفية بن عبد المطلب أم الزبير ، وكل منهما كانت في معركة أحد .
مكر قريش بعد بدر
وأظهرت قريش المكر بعد معركة بدر مباشرة وعندما دخلت فلول المشركين مكة بخيبة وهوان ، وقد فقدوا قادتهم منهم :
الأول : أبو جهل عمرو بن هشام .
الثاني : عتبة بن ربيعة .
الثالث : أمية بن خلف .
الرابع : حنظلة بن أبي سفيان .
الخامس : العاص بن سعيد بن العاص .
السادس : عبيدة بن سعيد بن العاص .
السابع : عقبة بن أبي معيط .
الثامن : طعيمة بن عدي بن نوفل .
التاسع : زمعة بن الأسود بن المطلب .
العاشر : أبو البختري بن هشام .
الحادي عشر : نوفل بن خويلد بن أسد وهو أخو خديجة أم المؤمنين وكان من شياطين قريش ، وقتله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، وذكر أنه (لما أسلم أبو بكر وطلحة بن عبيد الله أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية فشدهما في حبل واحد فلم تمنعهما بنو تيم وكان نوفل بن خويلد يدعى أسد قريش فلذلك سمي أبو بكر وطلحة القرينين)( ).
الثاني عشر : النضر بن الحارث وهو من بني عبد الدار ، وكان حامل لواء المشركين ، وكان من أكثر الناس إيذاءً للمسلمين .
الثالث عشر : العاص بن هشام بن المغيرة ، وهو وأبو جهل خالا عمر بن الخطاب إذ أن أمه هي حنتمة بنت هاشم بن المغيرة من بني مخزوم ، وكل من أبي جهل والعاص بن هشام عم خالد بن الوليد بن المغيرة ، أما أم خالد بن الوليد فهي لبابة بنت الحارث أخت ميمونة بنت الحارث زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأخت أم الفضل بنت الحارث زوج العباس بن عبد المطلب .
ولم يشهد خالد معركة بدر ، ولكنه خرج في خيل المشركين في معركة أحد والخندق ، ولاقى منه المسلمون يومئذ الأذى الكثير.
ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة وأبا قيس بن الفاكه بن المغيرة ، قتلهما الإمام علي عليه السلام ، وقتل في المعركة حذيفة وهشام ابنا أبي حذيفة بن المغيرة( ).
وأبو حذيفة هو الذي أشار على قريش بأن يرفعوا باب الكعبة فلا يدخلها إلا الذي يريدون ، إذ كان الباب ملصقاً بالأرض.
وكان عمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ خمساً وعشرين سنة ، إذ قال (ابُو حُذَيْفَة بنُ المُغِيرة : يا قَوْمُ ، ارفعُوا باب الكَعْبَةِ حتَّى لا يَدْخُلَ أحدٌ إلاَّ بسُلَّمِ ، فإنَّه لا يدخلها حينئذٍ الآنَ إلاَّ ما أَرَدْتُمْ ، فإن جاء أحَدٌ ممن تَكْرَهُون ، رَمَيْتُم به فَسَقَطَ ، وصار نكالاً لمن يَرَاهُ ، ففعلت قُرَيْشُ ذلك ، وكان سببُ بِنَائها أنَّ الكَعْبَة استُهْدِمَتْ وكانَتْ فَوْقَ القَامَةِ ، فأرَادُوا تَعْلِيَتَهَا)( ).
وارتفاع باب الكعبة عن الأرض في الوقت الحاضر 2,25 م أما إرتفاع سقف الكعبة فهو 14 م .
وقتلى بني مخزوم يوم معركة أحد أكثر قتلى قبائل قريش يومئذ السبعون ، وفيما يلي بيان أعدادهم :
الأول : (24) عدد قتلى بني مخزوم وحلفائهم .
الثاني : (14) عدد قتلى بني عبد شمس بن عبد مناف .
الثالث : (7) قتلى بني سهم بن عمرو ، وهم عشيرة عمرو بن العاص منهم الأخوان منبه .
الرابع : (4) قتلى بني تيم بن مرة ، منهم مالك بن عبيد الله بن عثمان ، وهو أخو طلحة بن عبيد الله أسر فمات في الأسر( )، ومنهم عثمان بن مالك بن عبيد الله .
الخامس : (4) قتلى بني عبد الدار بن قصي ، وفيه إنذار لهم بعدم الإندفاع والمناجزة يوم أحد ، ولكنهم لم يتعظوا.
السادس : (2) قتلى بني نوفل بن عبد مناف .
السابع : (7) قتلى بني أسد بن عبد العزى .
الثامن : (2) قتلى بني عامر بن عوف .
التاسع : (4) قتلى بن جمح بن عمرو ، وأشهرهم أمية بن خلف بن وهب .
وإذ دخل خالد بن الوليد الإسلام قبل فتح مكة واشترك في فتحها ، فان عكرمة بن أبي جهل أصر على التصدي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ومقاتلتهم عند دخولهم مكة .
وكان عكرمة بن أبي جهل قد قام وجماعة ممن قُتل آباؤهم أو اخوانهم أو ابناؤهم يوم بدر بالطواف على أهل الأموال في قافلة أبي سفيان وقالوا (يا معشر قريش، إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه – يعنون عير أبي سفيان ومن كانت له في تلك العير تجارة – لعلنا أن ندرك منه ثأراً، فأجابوه لذلك، فباعوها، وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار، وفيهم ، كما قال ابن إسحاق وغيره أنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ( ).
وكان عكرمة على ميسرة خيل المشركين في معركة أحد وخالد بن الوليد على الميمنة ، وكان خالد هو الذي بادر بالهجوم على الرماة من خلفهم بعد أن أمرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدم مغادرة موضعهم بأي حال ، وكان عددهم خمسون ، واستعمل عليهم عبد الله بن جبير من بني عوف من الأنصار وهو بدري ، وأوقفهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على جبل عينين وهو جبل بقناة مجاور لجبل أحد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( )، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
(قوموا على مصافكم هذا فاحموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، فلما انهزم المشركون وتبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حيث شاؤوا وينهبون عسكرهم ويأخذون الغنائم .
فقال بعض الرماة لبعض: ما تقيمون ها هنا في غير شيء فقد هزم الله العدو فأغنموا مع إخوانكم. وقال بعضهم: ألم تعلموا أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: لكم احموا ظهورنا؟ فلا تبرحوا مكانكم.
فقال الآخرون: لم يرد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هذا وقد أذل الله العدو وهزمهم.
فخطبهم أميرهم عبد الله بن جبير، وكان يومئذ معلما بثياب بيض، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم أمر بطاعة الله وطاعة رسوله وأن لا يخالف لرسول الله أمر، فعصوا وانطلقوا فلم يبق من الرماة مع عبد الله بن جبير إلا نفير ما يبلغون العشرة فيهم الحارث بن أنس بن رافع، ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله فكر بالخيل فتبعه عكرمة بن أبي جهل فانطلقا إلى موضع الرماة فحملوا على من بقي منهم فرماهم القوم حتى أصيبوا .
ورمى عبد الله بن جبير حتى فنيت نبله، ثم طاعن بالرمح حتى انكسر، ثم كسر جفن سيفه فقاتلهم حتى قتل. فلما وقع جردوه ومثلوا به أقبح المثل، وكانت الرماح قد شرعت في بطنه حتى خرقت ما بين سرته إلى خاصرته إلى عانته، فكانت حشوته قد خرجت منها)( ).
وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة (خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسُلَيم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة، وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت)( ).
وكان ممن قاتل خالد بن الوليد عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وصفوان بن أمية (في جمع من قريش بالخندمة، فمنعوه من الدخول وشهروا السلاح ورموا بالنبل فصاح خالد في أصحابه وقاتلهم فقتل رجالاً من قريش وأربعة نفر من هذيل ، وانهزموا أقبح الإنهزام.
ومن معجزات النبي محمد أن خالد بن الوليد كان مع عكرمة بن أبي جهل في خيل المشركين يوم معركة أحد ، وأضرا جيش المسلمين أكثر من غيرهما إذ هجما على الجيش من الخلف بعد قتلهما من بقي من الرماة في موضعه ، ليقاتل خالد بن الوليد وهو على رأس فرقة من خيل المسلمين عكرمة بن أبي جهل في فتح مكة ، فيفر وينهزم عكرمة ولو تسنى لخالد قتل عكرمة في الميدان فهل يقتله أم يعزف ويصرف عنه ، ويهيئ له أسباب الإنسحاب الجواب فيه تفصيل بحسب الحال ولأصل هو كفاية الإنسحاب.
فلما ظهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على ثنية أذاخر رأى البارقة ، فقال : ألم أنه عن القتال؟ فقيل: خالد قوتل فقاتل، فقال: قضاء الله خير.
وقتل من المسلمين رجلان أخطأ الطريق وهما :
الأول : كرز بن جابر الفهري .
الثاني : خالد الأشقر الخزاعي .
وضربت لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبة من أدم بالحجون فمضى الزبير بن العوام برايته حتى ركزها عندها .
وجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فدخلها فقيل له: ألا تنزل منزلك ، فقال: وهل ترك عقيل لنا منزلاً)( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه حينما (قتل عكرمة بن أبي جهل صخراً الأنصاري فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فضحك ، فقال الأنصار يا رسول الله أتضحك أن قتل رجل من قومك رجلاً من قومنا ، فقال: ما ذاك أضحكني ولكنه قتله وهو معه في درجته في الجنة)( ).
وفي رواية أن اسم المقتول هو مجذر الأنصاري وأن القتل وقع في الخندق( )، مما يدل على أن عكرمة كان من قادة جيش المشركين حتى في معركة الخندق .
إشاعة قتل النبي (ص) في معركة أحد
من بين آيات القرآن والتي عددها (6236) آية هناك آيات كثيرة تبين السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعارك الإسلام الأولى .
وكانت هذه الآيات مدداً وعوناً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الثبات وصدّ غزوات المشركين ، فمثلاً في معركة أحد تفرق أكثر الصحابة ، وفرّ عدد منهم من ميدان المعركة ، ومنهم من وصل إلى المدينة خاصة مع إعلان قريش في الميدان عن قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبلوغ هذا الإعلان لجميع الذين في ميدان المعركة ، وقد كانت حينئذ طائفة قليلة من أهل البيت والصحابة تحيط بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ويعلمون أنه لم يقتل ، ولم يتعجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأبطال وبيان زيف وكذب هذا الإعلان ، ويحتمل إشاعة خبر قتل النبي يوم أحد وجوهاً :
الأول : لقد قتل ابن قمِئة مصعب بن عمير وظنّ أنه قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد يكون هذا الظن بسبب كثرة الجراحات التي أصابت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سيف ابن قمِئة وغيره .
(فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ قَتَلْت مُحَمّدًا .
فَلَمّا قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ اللّوَاءَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، وَقَاتَلَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَرِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ) ( ).
الثاني : حالما سمعت قريش إعلان ابن قمِئة بأنه قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذاعوا الخبر ، ونودي به في جنبات الوادي .
الثالث : كان إعلان قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان مكراً وخديعة من قريش ، إذ أنها تعلم أن الذي قُتل هو صاحب اللواء ، وليس القائد ، إذ كان عند جبهة المشركين حملة اللواء هم بنو عبد الدار ، وليس أبا سفيان قائد الجيش .
وقد قتل الإمام علي عليه السلام عدداً من حملة اللواء.
وقتل الصحابة عدداً آخر حتى سقط لواء المشركين ورفعته امرأة ، ومصعب بن عمير حامل لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أيضاً من بني عبد الدار ، وحالما قتُل حامل لواء المسلمين رفعه الإمام علي عليه السلام ، وكان يتصف بحمل اللواء والتقدم به ، والقتال وسط الميدان .
وعن ابن هشام قال (لَمّا اشْتَدّ الْقِتَالُ يَوْمَ أُحُدٍ ، جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ تَحْتَ رَايَةِ الْأَنْصَارِ ، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى عَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ أَنْ قَدّمْ الرّايَةَ .
فَتَقَدّمَ عَلِيّ ، فَقَالَ أَنَا أَبُو الْفُصَمِ وَيُقَالُ أَبُو الْقُصَمِ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فَنَادَاهُ أَبُو سَعْدِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، وَهُوَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ هَلْ لَك يَا أَبَا الْقُصَمِ فِي الْبَرَازِ مِنْ حَاجَةٍ .
قَالَ نَعَمْ .
فَبَرَزَ بَيْنَ الصّفّيْنِ فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ عَلِيّ فَصَرَعَهُ ثُمّ انْصَرَفَ عَنْهُ وَلَمْ يَجْهَزْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ أَفَلَا أَجْهَزْت عَلَيْهِ .
فَقَالَ إنّهُ اسْتَقْبَلَنِي بِعَوْرَتِهِ ، فَعَطَفَتْنِي عَنْهُ الرّحِمُ وَعَرَفْت أَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ قَتَلَهُ) ( ).
ومن عادة الجيوش آنذاك أنهم إذا سمعوا بقتل القائد مع رجحان كفة العدو فانهم ينسحبون بانتظام أو يفرون من ميدان المعركة ، ويعمل بهم السيف ، لذا أشاعت قريش خدعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عسى أن ينهزم الصحابة ، ولم تعلم أن حال المسلمين أمر مختلف ، إذ أنهم يدافعون عن عقيدة التوحيد والتنزيل .
الرابع :الصارخ قُتل محمد هو الشيطان لإرادة الفتنة (ويقال : إن ذلك الصارخ إبليس لعنه الله فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوا الناس ويقول : إليَّ عباد الله إليَّ عباد الله فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين) ( ).
والمختار أن قيام قريش باشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانت خطة مدروسة ومكراً مقصوداً .
قانون ثبات النبي في الميدان
لقد استمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته للإسلام في مكة من حين بعثته إلى ثلاث عشرة سنة من غير أن يحمل سيفاً ، ولكن أذى قريش كان يشتد عليه ويزداد ، وهل كانت قريش تعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيهاجر إلى المدينة ويجهزون الجيوش لغزوه ، الأقرب لا ، إلا عندما اقترب أوان الهجرة ، ولعله من أسباب إرادتهم قتله في الفراش ليلة المبيت.
وعندما نشبت المعارك بينه وبين المشركين الغزاة فانهم كانوا يأملون فراره وإنسحابه من المعركة وشددوا من الهجوم عليه وقاموا برميه بالحجارة والسهام خاصة في معركة أحد ، ولكنه لم ينسحب من ميدان المعركة ، مع كثرة جراحاته ، وسقوط القتلى من أصحابه .
وهو من أسباب استمرار شدة القتال وعدم فتوره ، وإنسحاب قريش في ذات يوم المعركة .
(ولما نال عبد الله بن قمئة من رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ما نال رجع وهو يقول قتلت محمدا وصرخ الشيطان أزب العقبة( )، يومئذ بأبعد صوت ألا ان محمدا قد قتل فحصل بهتة عظيمة في المسلمين واعتقد كثير من الناس ذلك وصمموا على القتال عن جوزة الاسلام حتى يموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم) ( ).
ونزل قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً]( )وسرعان ما انتشر خبر قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الجمعين.
وقال بعض أصحاب الصخرة ، وهم الذين كانوا يحتمون عند صخرة عظيمة : ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان .
وكان عبد الله بن أبي بن أبي سلول قد انخزل بثلث جيش المسلمين وسط الطريق إلى معركة أحد ، وهو من رؤساء الخزرج ، ولابد أن أبا سفيان يحفظ هذا له أو أنه كان بينهم نوع إتفاق .
وفي قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ] ( ) أي من هزيمة المشركين ، وتجلي شآبيب النصر عليهم (قال الزبير بن العوام : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هاربات ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا ، وصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم) ( ).
فمع أن خبر قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا أصل له ، وهو إشاعة مغرضة فقد حصل التفكك في جيش المسلمين.
وقد تبينت شواهد كثيرة من جهاد الصحابة يوم أحد تدل على الإخلاص والتفاني في طاعة الله ، وفي الذب عن رسوله ،وكان النبي مع الشدة التي هو فيها يتفقد أصحابه ، ويدعوهم إليه ، ويسأل عنهم فمثلاً قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وبعد أن خفّ القتال (من يأتيني بخبر سعد بن الربيع فإني رأيت الأسنة قد أشرعت إليه . فقال أبي بن كعب : أنا) ( ).
فذهب يطوف بين القتلى فوجده وبه رمق فقال له أبي بن كعب (لآتيه بخبرك . قال : فاذهب إليه فأقرأه مني السلام وأخبره أني قد طعنت اثنتي عشرة طعنة وأني قد أنفذت مقاتلي . وأخبر قومك أنهم لا عذر لهم عند الله إن قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم وواحد منهم حي) ( ).
وسعد بن الربيع ممن شهد بيعة العقبة الأولى والثانية ،وشهد بدراً إلى أن استشهد يوم أحد .
ومثلاً أنس بن النضر عم أنس بن مالك الذي انتهى إلى (عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله، في رجال من المهاجرين والانصار، وقد ألقوا بأيديهم فقال: فما يجلسكم ؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: فما تصنعون بالحياة بعده ! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم استقبل فقاتل حتى قتل، وبه سمى أنس بن مالك.
وعن أنس بن مالك قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته، عرفته ببنانه.) ( ).
لقد كانت إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد فتنة عظيمة ، وكادت أن تعرض جيش المسلمين إلى خسارة كبيرة ، وإلى قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه ، لو لا حفظ الله له بمعجزة .
إذ يبقى مع ثلة قليلة من أهل بيته وأصحابه فيجهز عليه المشركون خاصة وقد وصلت حجارتهم له، وكانت جراحاته شديدة وبالغة ، إذ ضربه ابن قمِئة بالسيف .
وعن الزبير في حديث عن معركة أحد (فكان يوم بلاء وتمحيص أكرم الله من أكرم بالشهادة، وكان من المسلمين في ذلك اليوم لما أصابهم فيه من شدة البلاء ثلاثاً: فثلث قتيل، وثلث جريح وثلث منهزم، قد لقيته الحرب حتى ما يدري ما يصنع، حتى خلص العدو إلى رسو لالله صلى الله عليه وآله وسلم، فقذف بالحجارة حتى رقع لشقة، وأصيب رباعيته وشج في وجنتيه، وكلمت شفتاه، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين غشيه القوم: من يشتري لنا نفسه)( ).
وفيه شاهد على قيام المشركين بالغزو والتمادي في التعدي وسفك الدماء .
ولكن صرفت شرور الكفار بفضل ولطف من عند الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا]( ).
قانون درء الإشاعة معجزة
إن صرف شرور إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم معجزة له، وموضوع هذه المعجزة لا ينحصر بذات يوم المعركة إنما هو متجدد من جهات :
الأولى : بطلان الإشاعات التي تبثها قريش ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثانية : تسلح الصحابة بعدم الإلتفات إلى الإشاعات .
الثالثة : إدراك قانون حفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أشق الأحوال .
الرابعة : مع كل إشاعة من قريش يزداد إيمان المسلمين بالنصر ، ويتجلى قانون وهو ضعف ووهن قريش في سوح المعارك .
الخامسة : إنقطاع سلاح قريش وهو الإشاعة الزائفة ، وعجزهم عن إتخاذها سلاحاً سواء في حال الحرب أو السلم ، فقد أدرك المسلمون والناس كذب المشركين ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يُقتل ، إنما خرج في اليوم الثاني لمعركة أحد خلف المشركين مع كثرة جراحاته وأصحابه حتى وصل وأصحابه إلى حمراء الأسد (التي تبعد عن المدينة ثمانية أميال) ( ).
لقد كانت معركة أحد يوم السبت النصف من شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية ، وبلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في مساء ذات اليوم أن رؤساء جيش المشركين ندموا على إنسحابهم دون أن يحققوا أي غاية لهم ، فلم يقتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يؤسروا من الصحابة ، ولم يسبوا النساء ، فلما بلغوا بعض الطريق (ندموا فقالوا: بئس ما صنعتم، إنكم قتلتموهم، حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم! ارجعوا فاستأصلوهم)( ).
لقد أراد قادة جيش قريش قطع عودتهم إلى مكة ليكّروا على المدينة وتقتحمها ، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع مائتين ونيف من أصحابه في طلبهم في اليوم الثاني للمعركة ، وهو يوم الأحد السادس عشر من شهر شوال .
لتتجلى مسألة وهي إرتداد أضرار الإشاعة على قريش وحلفائها من الكفار أنفسهم ، فعندما علموا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حي ولم يقتل لحقتهم الخيبة وأحسوا بالإنكسار ، والكبت وإنصراف المشركين باذلال من ميدان المعركة من عمومات قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حمراء الأسد ثلاثة أيام ، وهي أيام الإثنين والثلاثاء والأربعاء ، ونزل قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ).
وقد تكرر لفظ [النَّاسُ] في الآية أعلاه وليس بينهما إلا الحرف المشبه بالفعل [إِنَّ] مع التباين في الموضوع والمسمى ، فلفظ [النَّاسُ]الأول هم قوم نقلوا خبر عزم أبي سفيان مع جيشه على العودة لغزو المدينة ، وذكر أنه سألهم أن يثبطوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
أما لفظ [النَّاسُ] الثاني فقيل (هم أبو سفيان وأصحابه من قريش، الذين كانوا معه بأحد) ( ).
المختار أنه أعم ، وقد ذكرت في تفسير هذه الآية (إذ يدل هذا الإنذار[قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ]( ) عدم وجود أناس آخرين ينصرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهو من الإعجاز في ذكر الناس بالتعريف بالألف واللام ، وهو وإن كان من العهد ، وليس الجنس والإطلاق إلا أنه يدل بالدلالة التضمنية على تسليم الناس بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه منفردون ، يستطيع العدو الكافر الإجهاز عليهم فبينت آية البحث إظهارهم حسن التوكل على الله المترشح عن صدق الإيمان، والسعي في رضوان الله)( ).
لينتفي التفرد بلحاظ أن التوكل على الله عز وجل عضد وعون وسبيل للمدد.
وهل يحتمل أن المراد من الناس [إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ]هو أعم من جيش أبي سفيان ، الجواب نعم بلحاظ أن الخسارة التي لحقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وفقد سبعين شهيداً أطمعت الأعراب وعامة المشركين بالمسلمين .
والظاهر أنه من أسباب حشد قريش عشرة آلاف رجل في غزوهم المدينة في معركة الخندق .
ومن خصائص الأنبياء أنهم أمناء على الناس والشريعة ليتصفوا بأسمى معاني الصبر والتحمل ، مع المواظبة على الدعوة إلى الله بالحكمة والبرهان .
قانون الإستئذان
ورد (عن زيد بن أسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم وهو مستقبل العدو : لا يقاتل أحد منكم ، فعمد رجل منهم ورمى العدو وقاتلهم ، فقتلوه ، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم استشهد فلان فقال : أبعد ما نهيت عن القتال ، قالوا : نعم . قال : لا يدخل الجنة عاص)( ).
لبيان تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عدم الإبتداء بالقتال أو الهجوم ، وأن هذا الإبتداء خلاف أوامر الرسول فتنة وظلم للنفس ، لأن أوامر الرسول وحي من عند الله عز وجل.
لقد أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إخبار المسلمين عن كراهة إبتداء القتال دون أمره ، وأنه لا يريد الشروع بالقتل ولمعان السيوف ، لأن معجزاته دعوة عقلية وحسية للناس للإيمان والهدى.
وفي قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ]( )، أي لم يتفرقوا ولم ينصرفوا إلا أن يأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالإنصراف .
وقال الواحدي (نزلت في حفر الخندق ، كان المنافقون ينصرفون بغير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)( ).
وموضوع الآية أعم بدليل قوله تعالى [أَمْرٍ جَامِعٍ] والمشهور شمول الآية حال الدفاع وصلاة الجمعة ، وصلاة عيد الفطر والأضحى (النحر) ولا يشمل الإستئذان انقضاء صلاة الجمعة والعيدين لأن الله عز وجل يقول [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، إلا أن يكون هناك أمر طارئ يتم التبليغ عنه.
و(عَنْ عَطَاءٍ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ, قَالَ[إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] ( )، إِلَى قَوْلِهِ [يَتَرَدَّدُونَ]، فَنَسَخَتْهَا الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ( ).
ولكن هناك تباين جهتي بين موضوع ومناسبة الآيتين فموضوع الآية أعلاه من سورة التوبة أعم ويختص بالإنفاق في سبيل الله ، والجهاد بالأموال والأنفس ، لذا ورد التخصيص والبيان في الآية التالية لها .
والآيتان المتعاقبتان هما [لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ]( )، إذ يدرك المؤمنون أن الدفاع واجب ، وأن أداء الصلاة وإخراج الزكاة واجب فلا يحتاج كل منهما إلى إذن.
ونزلت آيات سورة النور في الإستئذان في معركة الخندق في السنة الخامسة ، بخصوص استئذان نفر من المؤمنين للإنصراف من مواضع القتال خلف الخندق لبعض شؤون بيوتهم ، على نحو مؤقت ثم العودة ، وقد أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما قوله تعالى [لاَ يَسْتَأْذِنُكَ] فقد ورد عن ابن عباس أنها نزلت بعد غزوة تبوك( ).
ولا تمنع طول المدة في نزول الآيتين في النسخ بينهما إذا ثبت بالدليل ، وكانت الآية الناسخة متأخرة زماناً عن الآية المنسوخة.
وتبعث آيات الإستئذان المؤمنين للمبادرة للدفاع ، ومنع الحرج من الإستئذان من النبي عند الحاجة إلى الإنصراف ، والله عز وجل أولى بالعذر ، إذ تدل الرخصة في الإستئذان ومصاديقها في واقعة الخندق على أن الله عز وجل هو ناصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصارف كيد المشركين .
وتبين آيات الإستئذان سعة الرخصة في الإسلام ، وعدم التشديد على النفس ، وتفضح المنافقين الذين يستأذنون من أجل الفرار واضعاف جبهة المسلمين ، كما تلقي هذه الآيات الرعب في قلوب المشركين لما فيها من الدليل على الضبط وتقيد المسلمين بالأحكام الشرعية .
وقد جاء القرآن بتنمية ملكة الإستئذان في حال السلم والحرب وفي الآداب العامة ، وما ينمي الصلات والأخلاق الحميدة ، ويطرد الفتنة والإفتتان ، منها عدم دخول البيوت إلا بالإستئذان من أهلها ، وأداء التحية والسلام عليهم كما في قول : السلام عليكم أأدخل ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( ).
كما ورد لزوم الإستئذان داخل البيت نفسه ، وفي أوقات مخصوصة كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
وكذا إذا بلغ الأطفال الأحرار سن الإحتلام فليطلبوا الإذن عند الدخول ، و(عن ابن عباس في قوله [لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ]( )، قال : إذا خلا الرجل بأهله بعد العشاء فلا يدخل عليه خادم ولا صبي إلا باذنه حتى يصلي الغداة ، وإذا خلا بأهله عند الظهر فمثل ذلك ، ورخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن وهو قوله [لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ]( )، فاما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا باذن على كل حال . وهو قوله [وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ]( ).
وأخرج أبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن عن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن فقال ابن عباس : ان الله ستير يحب الستر ، وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ، ولا حجال في بيوتهم ، فربما فاجأ الرجل خادمه ، أو ولده ، أو يتيمه في حجره ، وهو على أهله . فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله ، ثم جاء الله بعد بالستور ، وبسط الله عليهم في الرزق ، فاتخذوا الستور ، واتخذوا الحجال ، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به)( ).
لقد كان لمسألة الإستئذان في معركة الخندق موضوعية وشأن في الدفاع ، إذ كان المسلمون في حال استضعاف ، ويقف حول الخندق عشرة آلاف من المشركين يريدون اقتحام المدينة ، ولا يحيط الخندق بالمدينة من كل الجهات.
ولو علم جيش المشركين بكثرة الإستئذان في صفوف الصحابة فهل يكون سبباً لإغرائهم بالهجوم وعبور الخندق ، الجواب نعم ، لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي عجز المشركين عن معرفة وجوه الضعف خلف الخندق مع أنه ليس ساتراً أو جداراً عازلاً.
معجزة الإنسحاب المبكر
بخصوص معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة إختار ثلاثة آلاف من المشركين الإنسحاب من الميدان الذي هو على مشارف مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذات اليوم الذي نشبت فيه ، مع أن الجولة كانت لهم .
وهذا الإنسحاب معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية ، إذ كانت الغاية من هجومهم يومئذ هو قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقتل عدد من أصحابه ، وأسر عدد آخر منهم يدخلون بهم مكة موثقين بالحبال ثاراً ليوم بدر ، واستعدوا لهذه الغاية مدة سنة كاملة ، ومع أن ثلثي جيش المشركين مستأجرون فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتخذ معهم خططاً وصيغ حرب النفس الطويل والجلد ، إنما خرج إليهم مع أصحابه ، وحالما تقدم حملة لواء المشركين من بني عبد الدار للمناجزة ،وطلبوا المبارزة خرج الإمام علي عليه السلام فقتل حامل اللواء .
(إن أبا سعد بن أبي طلحة خرج بين الصفين فنادى : أنا قاصم من يبارز برازا فلم يخرج إليه أحد .
فقال : يا أصحاب محمد زعمتم أن قتلاكم في الجنة ، وأن قتلانا في النار ، كذبتم واللات لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلي بعضكم فخرج إليه علي بن أبي طالب فاختلفا ضربتين فضربه علي فقتله)( ).
وكان ممن قاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ مصعب بن عمير فقتله إبن قِمئة ،وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجع إلى معسكر قريش وهو ينادي : قتلت محمداً .
لقد كانت بداية المعركة لصالح المسلمين ، ولكن ترك الرماة مواضعهم جعل خيل المشركين تأتي من خلف المسلمين ، وتعمل فيهم السيوف .
وكان عدد جيش المشركين أكثر من أربعة أضعاف أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين في الميدان ، إذ كانوا ثلاثة آلاف مقابل سبعمائة ، إلى جانب رجحان كفة جيش المشركين في العدة والأسلحة والخيل والإبل والمؤون .
وصعد أبو سفيان الجبل ، وصرخ بأعلى صوته (الحرب سجال، يوم بيوم بدر، أعل هبل، أي ظهر دينك، ولما انصرف أبو سفيان ومن معه، نادى إِنَّ موعدكم بدراً العام القابل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لواحد قل : هو بيننا وبينكم.
ثم سار المشركون إِلى مكة) ( ).
ترى ماذا لو استمرت معركة أحد عدة أيام وأسابيع أو أشهر ، الجواب: يصاب الذين كفروا بالخسارة والخيبة ،ويدل عليه قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
والنسبة بين القطع الذي تذكره الآية أعلاه وبين نزول الملائكة يوم أحد هو العموم والخصوص المطلق ، فنزول الملائكة فرع هذا القطع ، ومصداق له .
لقد كانت معركة أحد غزواً ، والأطراف هي :
الأول : الغازي : وهم كفار قريش وكانوا يتوعدون ويبعثون رسائل التهديد الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحاب مدة سنة كاملة ، وفيه شاهد على عزمهم على الغزو.
الثاني : جيوش الغزو : وهم ثلاثة آلاف من المشركين ، قطعوا مسافة ( 450 ) كم من مكة فصاروا على مشارف المدينة ، وهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة يعلمون بمسيرهم .
الجواب نعم فقد كانت تصل الأخبار بخصوص استعدادهم ثم خروجهم من مكة بصهيل الخيل ، وجعجعة السلاح وأشعارهم ، وأهازيج النسوة اللائي معهم .
الثالث : المغزي : وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المدينة المنورة.
الرابع : وقوع القتال بابتداء المشركين به.
درس من أُحد
لا يعلم كثرة الدروس التي اقتبسها المسلمون من معركة أحد ، كماً وكيفاَ إلا الله عز وجل ، ومنها دروس إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيام أحد المسلمين من أصحاب الصخرة بوضع سهم في قوسه ليرمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما رآه متوجهاً صوبهم لأن وجهه كان مغطى بالمغفر والحديد .
فقال النبي حينئذ (أنا رسول الله).
ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا ) ( ).
(وأخرج احمد والبيهقي عن ابن عباس قال ما نصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في موطن كما نصر يوم أحد فانكروا ذلك فقال ابن عباس بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله إن الله يقول في يوم أحد (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه) ( ).
قال ابن عباس والحسن (حتى إذا فشلتم) الآية وإنما عنى بهذا الرماة وذلك ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقامهم في موضع ثم قال احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا.
فلما غنم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأباحوا عسكر المشركين اكب الرماة جميعا في العسكر ينتهبون وقد التقت صفوف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فهم هكذا وشبك اصابع يديه واتشبوا( ).
فلما اخلت الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا وقتل من المسلمين ناس كثير وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة وصاح الشيطان قتل محمد فلم يشك أنه حق حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين السعدين نعرفه بتكفيه إذا مشى ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا فرقى حولنا وهو يقول اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقول مرة اخرى اللهم ليس لهم أن يعلونا ) ( ).
وعبد الله بن عباس لم يكن حاضراً معركة أحد، إنما كان صبياً في مكة مع أبيه العباس بن عبد المطلب الذي كان اسيراً عند المسلمين في معركة بدر .
وأما الحسن فهو الحسن البصري وهو من التابعين .
فلابد أن الحديث أعلاه يروى عن أحد الصحابة الذين حضروا معركة أحد ، وقد سقط اسمه ، أو أن الحديث في الأصل بصيغة الغائب ، وتقديره : ففرحوا حتى وكأنه لم يصبهم ما أصابهم.
لما ورد فيه (وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أول النهار).
أو أنه حصل جمع بين حديثين الأول عن ابن عباس والآخر عن أحد الصحابة والذي يبدأ من (فلم يشك أنه حق حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين السعدين)( ).
والمختار أن الحديث كان من رواية عبد الله بن عباس ، وإن اسم أحد الصحابة الذين شهدوا أحداً قد سقط سهواً أو اختصاراً.
وأخرج (عن سعد بن أبي وقاص قال رأيت يوم أحد عن يمين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده يعني جبرئيل وميكائيل)( ).
وتعيين شخصي الملكين من قبل سعد بن أبي وقاص ، هل هو من باب الحدس والترجيح ، أن بتلقي الخبر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذكرها ، المختار هو الثاني .
ومن دروس معركة أحد لزوم تجلي المسلمين بالصبر على الأذى ، وعدم ملاقاة الإرهاب بمثله ، فحينما غزا المشركون المدينة في السنة الثالثة للهجرة في معركة أحد ، لم يباغتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ذات السنة أو السنة الرابعة بالهجوم على مكة وغزوها ، إنما صبروا حتى إذا حلّت السنة الخامسة للهجرة زحف مرة أخرى المشركون لغزو المدينة ، ولكن بعدد أكبر من الجيوش ، إذ احاطوا بالمدينة عشرة آلاف من المشركين بغية اقتحامها وقتل أو سبي أهلها ، وهو من ، وهو من الإرهاب وإرادة سفك الدماء ، فانعم الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخزيهم ليسود السلم في الأرض .
آيات معركة الخندق
ستبقى معركة الخندق معجزة حسية وعقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وشاهداً على المدد والعون له من عند الله عز وجل ، فقد زحف عشرة آلاف مقاتل من قريش وقبائل شتى نحو المدينة ، ووصلوها من غير أن تعترضهم وتشغلهم قوة وكيد في الطريق عن هدفهم .
ولم يبعث أو يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحرب عصابات وإغارة فردية عليهم ومباغتة لهم في الطريق ، وإلا فبامكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرسل رماة يتخذون مواقع على الجبال ليرموهم بوابل من السهام وعلى نحو متعدد في الموضع بما يوقع قتلى كثيرين منهم .
لبيان قانون وهو أن النبي محمداً لم يكتف بالإمتناع عن الغزو ، إنما كان لا يكيد للذين يغزون المدينة في الطريق ، مع قدرته على هذا الكيد ، ووجود صحابة مطيعين لله ورسوله ، قال تعالى [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
قانون أحزاب قريش في الخندق
تسمى معركة الأحزاب أيضاً معركة الخندق ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حفروا خندقاً حول المدينة لمنع إجتياح المشركين لها ، وتسمى غزوة الخندق( ) ، وكأن النبي هو الغازي ، إذ تذكر في كتب السيرة النبوية مع غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعند تعدادها ، ولا أصل له ، إنما كان المشركون هم الغزاة .
أما عنوان هذا القانون فهو أعم ، والمراد منه خيبة الأحزاب التي تآلفت على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكأنهم ألقوا بأنفسهم في الخندق ، فلاقوا الخزي ، إذ رجعوا إلى مكة بخيبة وخزي لعجزهم عن تحقيق أي غاية من غاياتهم الخبيثة.
وأختلف في أوان وقوعها على وجوه :
الأول : في شهر شوال من السنة الرابعة للهجرة ، قاله ابن كثير( )، ولكنه عاد وقال (والصحيح قول الجمهور: أن أحدا في شوال سنة ثلاث، وأن الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة)( ).
أما ابن حزم فبعد أن ذكر أن قول أصحاب المغازي هي في شوال من السنة الخامسة ، قطع بأنها في شوال من السنة الرابعة ، واستدل بحديث عبد الله بن عمر (عرضت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني، ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني.
فصح أنه لم يكن بينهما إلا سنة واحدة فقط، وأنها قبل دومة الجندل بلا شك) ( ).
ولا تكفي مسألة رواية أحد المسلمين على تعيين أوان المعركة مع موضوعيتها ، ونزول آيات من القرآن بخصوصها ، وعناية الصحابة في الحديث عنها .
الثاني : في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ، قاله ابن إسحاق ( ).
الثالث : في شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة عن إبن سعد ، أي في شهر حرام .
والمختار أن معركة الخندق وقعت في شهر شوال من السنة الخامسة ، وهو المشهور .
لقد أمضت قريش سنة كاملة بعد معركة بدر وجهزوا جيشاً من ثلاثة آلاف مع أنهم كانوا متلهفين للثأر والإنتقام من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لما لحق قريش من الخسارة والذل في معركة بدر ، وانسحب من ميدان معركة أحد في نفس اليوم الذي نشبت فيه في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، مع أن الجولة كانت لهم .
وحينما زحفت قريش بعشرة آلاف رجل في معركة الخندق لابد أنهم بذلوا جهوداً ووقتاً أطول لإعداد جيش أكثر من ثلاثة أضعاف جيشهم في معركة أحد .
ولم يكن بين معركة الخندق وصلح الحديبية إلا ثلاثة عشر شهراً
ليتجلى الإعجاز بخصوص معركة الخندق من وجوه :
الأول : معركة الخندق خيبة للمشركين ، وسبب لاستحواذ القنوط والوهن عليهم ، وهو من الإعجاز في استمرار موضوع ومصداق ما نزل في معركة أحد ، ومنه قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) وهو من الإعجاز بمجئ الآية أعلاه بصيغة المضارع [لِيَقْطَعَ].
الثاني : تجلي قانون وهو عجز عشرة آلاف رجل عن اقتحام المدينة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة مع قلة أصحابه ، وإرجاف المنافقين وعدم حضور شطر منهم المعركة ، وطلب شطر آخر منهم الرخصة لمغادرة موقع المعركة بحجة أن بيوتهم مكشوفة ، وغير حصينة ، ومما يلي العدو أو يطالها السراق ويخشون على عيالهم وأموالهم ، ويدل عليه قوله تعالى [وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ]( ).
وعن حذيفة قال (لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ، ونحن صافون قعود ، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا ، وقريظة اليهود أسفل نخافهم على ذرارينا ، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ، ولا أشد ريحاً منها ، أصوات ريحها أمثال الصواعق ، وهي ظلمة ما يرى أحد منا اصبعه .
فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون { إن بيوتنا عورة وما هي بعورة } فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له ، يتسللون ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك ، إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً رجلاً حتى مر علي ، وما علي جنة من العدو ، ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ، ما يجاوز ركبتي.
فأتاني وأنا جاث على ركبتي فقال : من هذا؟
قلت : حذيفة فتقاصرت إلى الأرض .
فقلت : بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم .
فقال : قم . فقمت فقال : إنه كان في القوم خبر ، فأتني بخبر القوم قال : وأنا من أشد الناس فزعاً ، وأشدهم قراً .
فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم احفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوقه ، ومن تحته .
قال : فو الله ما خلق الله فزعاً ولا قراً في جوف إلا خرج من جوفي ، فما أجد منه شيئاً ، فلما وليت قال : يا حذيفة لا تحدث في القوم شيئاً حتى تأتيني ، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم ، نظرت في ضوء نار لهم توقد ، واذا برجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ، ويمسح خاصرته ويقول : الرحيل . . . الرحيل . . .
ثم دخل العسكر فإذا في الناس رجال من بني عامر يقولون : الرحيل . . . الرحيل يا آل عامر لا مقام لكم ، وإذا الرحيل في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبراً فوالله أني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم ، ومن بينهم الريح يضربهم بها .
ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما انتصفت في الطريق أو نحو ذلك ، إذا أنا بنحو من عشرين فارساً متعممين ، فقالوا : اخبر صاحبك أن الله كفاه القوم .
فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يشتمل في شملة يصلي ، وكان إذا حزبه أمر صلى ، فأخبرته خبر القوم أني تركتهم يرتحلون ، فأنزل الله يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ( ).
الثالث : التباين في الفعل والأثر بين جهاد المسلمين ، وظلم واعتداء المشركين .
الرمي بالسهام في الخندق
لما علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزحف عشرة آلاف من المشركين نحو المدينة قام بمشاورة أصحابه ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
وعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بقائه وأصحابه في المدينة لأن قتال هذا الجيش العرمرم في ساحة مكشوفة سبب لكثرة القتلى من الفريقين ، وتنزل الملائكة لتبطش بالذين كفروا ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رحيم بالناس جميعاً فقبل اقتراح سلمان المحمدي بحفر الخندق حقناً للدماء .
وسيبقى حفر الخندق شاهداً تأريخياً على حقيقة وهي أن كفار قريش وحلفاءهم هم الغزاة ، ودليلاً على محاربته الإرهاب ولدفع مقدماته .
لقد حاصرت جيوش المشركين لأكثر من عشرين ليلة ، وصاحب هذا الحصار التعدي المتعدد من المشركين ولم تنحصر المواجهة والقتال بالمبارزة الشخصية إنما كان هناك رمي السهام والنبال وهجوم من المشركين .
(وذكر ابن عائذ أن المشركين جهزوا نحو رسول الله عليه الصلاة والسلام كتيبة عظيمة غليظة فقاتلوهم يوما إلى الليل فلما حضرت العصر دنت الكتائب فلم يقدر النبي عليه الصلاة والسلام ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا الصلاة على ما أرادوا فانكفأت مع الليل فزعموا أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال شغلونا عن صلاة العصر ملا الله بطونهم وقبورهم نارا)( ).
(قال ابن اسحاق : واستشهد من المسلمين يوم الخندق ثلاثة من بنى عبد الاشهل، وهم سعد بن معاذ .
وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو، وعبد الله بن سهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة الجشميان السلميان.
وكعب بن زيد النجارى، أصابه سهم غرب فقتله.
قال : وقتل من المشركين ثلاثة وهم: منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبدالله بن المغيرة اقتحم الخندق بفرسه فتورط فيه فقتل هناك وطلبوا جسده بثمن كبير.
وعمرو بن عبد ود العامري، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام .
قال ابن هشام: وحدثني الثقة أنه حدث عن الزهري أنه قال: قتل علي يومئذ عمرو بن عبد ود وابنه حسل بن عمرو.
قال ابن هشام: ويقال عمرو بن عبد ود.
ويقال عمرو بن عبد)( ).
ورمى حبان بن العرقة أحد بني عامر بن لؤي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل ، وهو عِرق في اليد يُفصد .
(ويسمى الأكحل : عِرق الحياة)( ).
إذ أنه لا يرقى إذا نزف آنذاك ، ويعالج في هذه الأزمنة بسهولة لإرتقاء الطب باصلاح وتصنيع الشريان المصاب ، وعودة تدفق الدم إلى الطرف المصاب .
وكما في وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحمى التي استمرت عدة أسابيع إذ كان يتعرق بشدة ويسعى لتبريد الجسم ، ويمكن معالجتها في هذا الزمان بالمضادات الحيوية وبخافض الحرارة ، والأرجح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات بأثر السم بعد عام من أكله من شاة مسمومة ، وحتى هذا يمكن معالجته فقد غادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا وعمره ثلاث وستون سنة ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
وقد يأتي الأجل من سبب بسيط حتى مع إرتقاء الطب.
وكذا بالنسبة للإمام علي عليه السلام فان ابن ملجم ضربه بسيف مسموم عاش بعدها ثلاثة أيام ويمكن تطهير وتنظيم الجرح وخياطته هذه الأيام ، والارتقاء في التعقيم ، ولكن الأجل نفسه حيث يشاء الله .
وهل كانت السهام ترمى من طرف واحد وهم المشركون ، الجواب لا ، إنما كان المسلمون يرمون بالنبل من يقترب منهم ويحاول عبور الخندق ، ليدرك المشركون أن العبور لا يتم إلا على نحو القضية الشخصية مما يسهل على المسلمين رميه وقتله لو عبر ومع هذا استطاع عمرو بن ود العامري ومعه نفر من عبور الخندق فكان فيه حتفه لبيان أن هذا الخندق من جنود الله.
دعاء النبي (ص) يوم الخندق
لقد انتاب الخوف الصحابة من مجئ الجيوش من مكة وقبائل وجهات متعددة.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من الدعاء في حال السلم أوالدفاع ، واجتهد بالدعاء في حصار الخندق فانتفع المسلمون من دعائه ، وعن سعيد بن المسيب (لما كان يوم الأحزاب حصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضع عشرة ليلة حتى خلص إلى كل امرىء منهم الكرب ، وحتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم أنك إن تشأ لا تعبد)( ).
فجاء نعيم بن مسعود بن عامر بن غطفان وهو مؤتمن بنقل الحديث عند المسلمين والمشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال (يا رسول الله إنّي قد أسلمت وإنَّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت .
فقال له رسول الله صلّى الله عليه : إنّما أنت فينا رجل واحد.
فخَذِّل عنّا إنْ استطعت فإنّ الحرب خدعة.
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة.
وكان لهم نديماً في الجاهلية.
فقال لهم : يا بني قريظة ، قد عرفتم ودّي إيّاكم وخاصّة ما بيني وبينكم.
قالوا : صدقت لست عندنا بمتّهم.
فقال لهم : إنّ قريشاً وغطفان جاءوا لحرب محمّد ، وقد ظاهرتموهم عليه ، وإنّ قريشاً وغطفان ليسوا (كهيئتكم) البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أنْ تحولوا عنه إلى غيره ، وإنّ قريشاً وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره ، وإنْ رأوا نهزة وغنيمة أصابوها.
وإنْ كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إنْ خلا بكم.
فلا تقاتلوا القوم حتى تأخذوا رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أنْ يقاتلوا معكم محمّداً حتى تناجزوه.
فقالوا : لقد أشرتَ برأي ونصح. ثمّ خرج حتى أتى قريشاً ، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : يا معشر قريش قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّداً، وقد بلغني أمر رأيت أنَّ حقّاً عليَّ أنْ أبلّغكموه نصحاً لكم فاكتموا عليَّ. قالوا : نفعل.
قال : تعلمُون أنَّ معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا في ما بينهم وبين محمد ، وقد أرسلوا إليه ، أنْ قد ندِمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك عنّا أنْ نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم (فنعطيكم) فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك على من بقي منهم.
فأرسل إليهم أنْ نَعَم، فإن بعث إليكم اليهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً.
ثمّ خرج حتّى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحبّ الناس إليَّ ولا أراكم تتّهموني.
قالوا : صدقت .
قال : فاكتموا عليَّ قالوا : نفعل .
ثمّ قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم، فلمّا كانت ليلة السبت في شوّال سنة خمس، وكان ممّا صنع الله برسوله.
أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان .
فقالوا لهم : إنّا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتّى نناجز محمّداً ونفرغ ممّا بيننا وبينه.
فأرسلوا إليهم : إنّ اليوم السبت، وهو يوم لا يُعمل فيه شيئاً، وكان قد أحدث بعضنا فيه حدثاً فأصابه ما لم يخفَ عليكم ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّداً، فإنّا نخشى إنْ (ضرستكم) الحرب واشتدّ عليكم القتال تسيروا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمّد.
فلمّا رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة.
قالت قريش وغطفان : تعلمون والله إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ، فأرسلوا إلى بني قريظة، إنّا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال، فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ، ما يريد القوم إلاّ أنْ تقاتلوا، فإنْ وجدوا فرصة انتهزوها، وإنْ كان غير ذلك إنشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل في بلادكم، فأرسلوا إلى قريش وإلى غطفان : إنّا والله لا نقاتل معكم حتّى تعطونا رهناً، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم، وبعث الله تعالى عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد، حتّى انصرفوا راجعين والحمد لله ربّ العالمين)( ).
لبيان موضوعية الدعاء في تحقيق النصر والغلبة ، ولأن الحرب خدعة ، وأسباب رجوع وأنصراف المشركين أعم من سعي نعيم بن مسعود بينهم .
عبور نفر الخندق
جاءت فكرة حفر الخندق على عجل باقتراح من سلمان الفارسي عندما بلغ المسلمين زحف جيوش قريش ، فقابل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا الإقتراح بالقبول والشروع الفوري بالتنفيذ ، فباشر وأصحابه بحفر الخندق.
وكان حفر الخندق خطة متبعة عند الفرس ، واستمر حفر الخندق ستة أيام وقيل أكثر ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في العمل فمرة يضرب بالمعول ، وتارة يغرف التراب بالمسحاة، وأخرى يحمل التراب في المكتل ، وكان يقول :
(اللّهُمّ إنّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَهْ … فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ
اللّهُمّ الْعَنْ عَضْلًا وَالْقَارَهْ … فَهُمْ كَلّفُونِي أَنْقُلُ الْحِجَارَهْ)( ).
ويومئذ قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : سلمان منا أهل أهل البيت .
بعد أن قال المهاجرون سلمان منّا ، وقالت الأنصار سلمان منا.
وكان طول الخندق 5,5كم، وعرضه خمسة أمتار ، بحيث يتعذر على الفارس عبوره بقفز فرسه.
وعبر يومئذ فارس قريش عمرو بن ود العامري الخندق ، ومعه نفر من أصحابه ، وطلب المبارزة وهابه الصحابة لما يعرفون من شجاعته وبطشه ،فبرز له الإمام علي عليه السلام .
وورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال (قُتل علي عليه السلام وهو إبن ثمان وخمسين رضى الأبرار ) ( ) وقد استشهد في شهر رمضان سنة أربعين للهجرة (661)م .
فيكون عمر الإمام علي عليه السلام يوم واقعة الخندق (23) سنة .
ولقد تصدى الإمام علي عليه السلام لإرهاب قريش ، وذبّ بسيفه عن الإسلام والرسالة وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع حفظه للقرآن وقد قرأ عليه (أبو عبد الرحمن السلمي وأبو الأسود الدؤلي وعبد الرحمن بن أبي ليلى)( ).
وكانت سيرته ونزاهته وعدله ونسكه والصحابة تمنع من تنامي الإرهاب ، وتزجر عنه .
روي أن معاوية قال لضرار يا ضرار، صف لي علياً.
قال: أعفني يا أمير المؤمنين.
قال معاوية: لتصفنه.
قال ضرار: أما إذ لابد من وصفه: كان – والله – بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً .
وتتفجر ينابيع العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه.
يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس إلى الليل ووحشته .
كان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا ولقربه( ) منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله .
وأشهد لقد رأيته في بعض مرافقه – وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه – قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول :
يا دنيا غري غيري، إلي تعرضت أم إلي تشوقت، يا صفراء اصفري، ويا بيضاء بيضي، هيهات قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وخطرك حقير،،آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق .
قال : فبكى معاوية ، وقال : رحم الله أبا حسن كان – والله – كذلك، فكيف حزنكم عليه يا ضرار ، قال: حزن من ذبح واحدها في حجرها.
وأخرج الدولابي وأبو عمرو قال ابن عباس: أعطى علي تسعة أعشار العلم، ووالله لقد شاركهم في العشر الباقي، وإذا ثبت لنا الشيء عن علي لم نعدل عنه إلى غيره ( ).
لقد قطع جيش المشركين (450) كيلو متر ليحاصروا المدينة ، ثم برز عمرو بن ود العامري ، وصار يتحدى المسلمين مجتمعين ومتفرقين بكيفيات متعددة منها :
الأولى : إشهار سيفه ، وهو معروف عند العرب ، واسمه (الملد) وقال عمرو فيه :
(إن الملد لسيف ما ضربت به … يوماً من الدهر إلا حز أو كسرا
كم من كبير سقاه الموت ضاخية … ويافع قط لم يدرك كبرا)( ).
وقيل كان عمره يوم الخندق تسعين سنة ، فبرز له الإمام علي عليه السلام وقتله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) إذ كان مقتله خزياً لقريش ، وسبباً لبعث الخوف في قلوبهم ، وهروب الذين عبروا الخندق مع عمرو بن ود العامري ، ومنهم من قتله المسلمون عند هروبه ولم يأخذ الإمام علي عليه السلام سلب عمرو بن ود.
الثانية : إلحاح عمرو بن ود بطلب المبارزة في الميدان ، إذ نادى ثلاث مرات : هل من مبارز .
ولم يعلم عمرو أن الإمام علي عليه السلام كان يستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج لمبارزته في كل نداء ، ولكن أراد الله عز وجل أن تقوم عليه الحجة .
الثالثة : تعريف عمرو بالمسلمين إذ قال (أَلَا رَجُلٌ يُؤَنّبُهُمْ وَيَقُولُ أَيْنَ جَنّتُكُمْ الّتِي تَزْعُمُونَ أَنّهُ مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ دَخَلَهَا ، أَفَلَا تُبْرِزُونَ لِي رَجُلًا ، فَقَامَ عَلِيّ ، فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ ” اجْلِسْ إنّهُ عَمْرٌو ” ثُمّ نَادَى الثّالِثَةَ) ( ).
الرابعة : ثم قال عمرو شعراً :
(وَلَقَدْ بَحِحْت مِنْ النّدَا … ءِ بِجَمْعِكُمْ هَلْ مِنْ مُبَارِزْ
وَوَقَفْت إذْ جَبُنَ الْمُشَ … جّعُ مَوْقِفَ الْقِرْنِ الْمُنَاجِزْ
وَكَذَاك إنّي لَمْ أَزَلْ … مُتَسَرّعًا قَبْلَ الْهَزَاهِزْ
إنّ الشّجَاعَةَ فِي الْفَتَى … وَالْجُودَ مِنْ خَيْرِ الْغَرَائِزْ) ( ).
وحينما قتله الإمام علي عليه السلام بعث المشركون للرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لشراء جثته بعشرة آلاف ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبى أن يأخذ شيئاً ، وقال لا نأكل ثمن الموتى ، وقال إدفعوا إليهم جيفته .
ولما قتله الإمام علي عليه السلام أنشد ما فيه تعظيم شعائر الله إذ قال :
أعليّ تقتحم الفوارس هكذا … عني وعنهم أخبروا أصحابي
اليوم يمنعني الفرار حفيظتي … ومصمّمٌ في الرأس ليس بنابي
آدى عميرٌ حين أخلص صقله … صافي الحديدة يستفيض ثوابي
وغدوت ألتمس القراع بمرهفٍ … عضبٍ مع البتراء في أقرابي
آلى ابن عبدٍ حين شدّ أليّةً … وأليت فاستمعوا من الكذّاب
ألاّ أصدّ ولا يهلّل فالتقى … رجلان يضطربان كل ضراب
فصددت حين تركته متجدّلاً … كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثوابه ولو أنّني … كنت المقطّر بزّني أثوابي
عبد الحجارة من سفاهة عقله … وعبد ربّ محمدٍ بصواب
ثم أقبل علي نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووجهه يتهلل، فقال عمر بن الخطاب: هلاّ سلبته درعه ، وإنه ليس للعرب درع خير منها، فقال: ضربته فاتقاني بسواده، فاستحييت ابن عمي أن أسلبه، وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق( ).
وعبر نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي الخندق وقال (لأقتلن محمداً! فوثب فرسه الخندق فاندقت عنقه فيه. فقال المشركون: ادفعه إلينا ونعطيك ديته ، فقال : دعوه فإنه خبيث خبيث الدية)( ).
وذكر أن الإمام علي هو الذي قتله ، وقيل قتله الزبير بن العوام.
[إِنْ شَاءَ اللَّهُ] معجزة متجددة
سيبقى قوله تعالى[إِنْ شَاءَ اللَّهُ] ( ) مدرسة عقائدية في الإقرار بأن مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل ، وأن تفويض الأمور له سبحانه ، هدى وفلاح ، وطريق نجاة في النشأتين ، ومن ذخائر لفظ [إِنْ شَاءَ اللَّهُ] وتعليق الأمور على المشيئة ، ورد بخصوص الحج معجزة للنبي .
ومن بديع نظم القرآن ودلالة آياته ورود لفظ [إِنْ شَاءَ اللَّهُ] في القرآن ست مرات ، واحدة فقط بخصوص المسلمين في سورة الفتح ، والباقي بخصوص الأنبياء والأمم السابقة ، وهذه الآيات هي :
الأولى :قوله تعالى [قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ]( ).
الثانية : قوله تعالى فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ
الثالثة : قوله تعالى [قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا]( ).
الرابعة : قوله تعالى [قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ]( ).
الخامسة : قوله تعالى [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ]( ).
السادسة : قوله تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
كما وردت آيات المشيئة بصيغ أخرى ، منها ما فيه ترغيب بتعليق الفعل على المشيئة ان الله يفعل ما يشاء ، ومنها ما فيه ذم للذين كفروا كما في قوله تعالى [مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ] ( ).
وسيأتي ذكر لآيات أخرى تتعلق بالمشيئة في الجزء الثاني والعشرين بعد المائتين ( ).
لقد جعل الله عز وجل تعليق الأعمال على المشيئة الإلهية زاجراً للناس عن الظلم والتعدي ، ولم يكن مشركوا قريش يعلقون أعمالهم على المشيئة الإلهية ، إنما أتخذوا العصبية والعناد حرباً على الإسلام ، لبيان قانون الملازمة بين الإيمان والتعليق على المشيئة لأن هذا التعليق فرع التوكل على الله ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] ( ).
وهل يخص موضوع آية البحث [لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ] ( ) حج البيت وحده ، أم أنها أعم ، الجواب هو الثاني ، إذ تدعو الآية إلى الأمن وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأمراء بتأمين الطرق إلى الحج ومطلقاً ، والمنع من النهب والسرقة ومن الإرهاب والإقتتال ، وتبين الآية مسائل :
الأولى : موضوعية وشأن البيت الحرام في حياة المسلمين .
الثانية : بيان فضل الله عز وجل في عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة ودخوله المسجد الحرام بأمان ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
الثالثة : تجلي مصداق لقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ) باحاطة آلاف المسلمين حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند دخوله مكة من غير أن يتخلى عن خصال التواضع العامة .
الرابعة : دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد الحرام بصفة الرسالة ، وهي ذات الصفة التي غادره فيها (عن عبدالله بن عدي بن الحمراء قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على ناقته واقف بالحزورة يقول لمكة : والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أخرجت منك ما خرجت) ( ).
من معاني [آمِنِينَ]
من مصاديق قول تعالى [آمِنِينَ] في قوله تعالى [ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا] ( )جهات:
الأولى : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين على أنفسكم.
الثانية : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله في الطريق إلى الحج ، قال تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ] ( ).
الثالثة : في كل مرة من حج أو عمرة وإلى يوم القيامة لا تدخلون المسجد الحرام إلا بفضل ولطف ومشيئة من عند الله عز وجل ، قال سبحانه [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ] ( ).
الرابعة : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين من فتنة الشرك ، فليس من أصنام في البيت الحرام .
الخامسة : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين في فتح مكة.
السادسة : لتدخلن المسجد الحرام ومعكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن شاء الله آمنين .
السابعة : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه بشارة للمسلمين ، فقد تخشى طائفة منهم إنقلاب بعض العرب على الإسلام عند مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكما حدث فعلاً في الردة وحروبها ، ليكون من معاني آية البحث وذكر المشيئة دحر وخزي المرتدين ، قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( ).
الثامنة : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين من غير حاجة إلى الغزو .
التاسعة : لتدخلن المسجد الحرام كل سنة وإلى يوم القيامة بأمان وسلام .
العاشرة : لتدخلن المسجد الحرام آمنين كل عام ، فتعاهدوا الأمن والسلم في الأرض شكراً لله عز وجل .
وسيأتي مزيد كلام في قانون (آمنين ) دعوة لنشر السلم .
قانون حضور الملائكة في الصلح
عندما عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلح في الحديبية مع كفار قريش بشروط قاسية منهم ، لم يرض عنها عدد من الصحابة ، ونزل جبرئيل بتسمية هذا الصلح فتحاً ، وأنه جلي وواضح ومتصل في منافعه ، قال تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
ليكون من وصف هذا الصلح بأنه مبين بخصوص الملائكة وجوه :
الأول : تهيئة الملائكة لمقدمات هذا الصلح .
الثاني : منع الملائكة غلبة التشديد والعناد وأسباب المنع من الصلح ، لإدراك الملائكة الحاجة العامة للصلح لأنه فتح مبين .
وتحتمل الحاجة للصلح التي يعلم بها الملائكة جهات :
الأولى : صلح الحدبيبة حاجة لخصوص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الثانية : إرادة النفع والسلامة لعموم أهل المدينة فقد أجهدهم غزو المشركين لها.
الثالثة : الصلح حاجة للبيت الحرام وعماره .
الرابعة : صلح الحديبية حاجة للقبائل التي هي حول مكة وقريبة منها .
الخامسة : هذا الصلح حاجة للناس على نحو العموم الإستغراقي .
السادسة : من مصاديق وصف صلح الحديبية بأنه فتح مبين أنه حاجة للأجيال .
والمختار عدم التعارض بين هذه الجهات ، إذ تدرك الملائكة أكثر من الناس ما في صلح الحديبية من النعم .
وهل كانت الملائكة يوم عقد الصلح تعلم بأن الذين يدخلون الإسلام في السنتين اللتين تلتا صلح الحديبية سيكون أكثر من الذين دخلوا مدة تسع عشرة سنة السابقة للصلح من حين البعثة النبوية ، الجواب نعم .
ولا يدل قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، على عدم إحاطة الله سبحانه للملائكة على أمور ووقائع من الغيب تحدث للناس مجتمعين ومتفرقين ، إنما يطلعهم الله عز وجل عن حوادث وأمور سوف تقع تبين أهلية الإنسان للخلافة في الأرض ، ويأذن لهم بالنزول لإصلاح أحوال الناس بما يثبت هذه الخلافة.
ومن وجوه تقدير الآية أعلاه (أني اعلم ما لاتعلمون وسأخبركم عن جانب من هذا العلم بما يدل على أهلية الإنسان للخلافة في الأرض) ، لبيان فضل الله عز وجل في تعليمه للملائكة على نحو متصل ومتجدد .
الثالث : تدخل الملائكة بأذن من الله في منع الإقتتال بين النبي والصحابة من جهة وبين كفار قريش من جهة أخرى ، مع كثرة تعرض خيل قريش للمسلمين وهم في الحديبية ، ورميهم بالسهام حتى قتل أحد الصحابة غدراً وهو ابن زنيم إذ أطلع الثنية من الحديبية فرماه المشركون ، أي ارتقى الثنية فصار بارزاً بمرمى العدو.
(وفي مَثَل : هو على مَطْلَع الثنِية : أي ظاهِرٌ بارِز) ( ) .
ولم يثأر له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة عندما أسر أصحابه اثني عشر فارساً من قريش بعد أن تراموا بالحجارة والسهام ، فأطلقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لا يريد حرباً ، ولم يتخذ هؤلاء رهائن لحمل قريش على الرضا بدخوله وأصحابه إلى مكة متعمرين .
والظاهر أن قتل ابن زنيم في بدايات الإتفاق على صلح الحديبية وحصول الأمن والإختلاط بين المسلمين والمشركين في ذات موضع الحديبية .
إذ روي عن سلمة بن الأكوع أنه قال (إن المشركين من اهل مكة ارسلونا في الصلح فلما اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض اتيت شجرة فاضطجعت في ظلها، فأتاني اربعة من مشركي اهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فابغضهم وتحولت الى شجرة اخرى، فعلقوا سلاحهم واضطجعوا .
فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من اسفل الوادي يا للمهاجرين، قتل ابن زنيم فاخترطت سيفي فاشتددت على اولئك الاربعة وهم رقود، فاخذت سلاحهم، وجعلته في يدي .
ثم قلت : والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يرفع احد منكم رأسه الا ضربت الذي في عينيه، ثم جئت بهم اسوقهم الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له مكرز من المشركين يقوده حتى وقفناه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: دعوهم يكون لهم بدء الفجور وثنياه.
فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانزل الله تعالى (وهو الذي كف ايديهم عنكم وايديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم) ( )) ( ).
لبيان أن الملائكة حاضرون في الحديبية والفصل بين الفريقين ، ومن هذا الحضور وساطة نزول الوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا الحضور من معاني الوعد الإلهي في قوله تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] ( ).
الرابع : استبشار الملائكة بالصلح ، لما فيه من حقن الدماء ، فمن معاني الإستفهام الصادر منهم في خطابهم لله عز وجل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) الرجاء بحقن الدماء ، وإمتناع الناس عن قتل بعضهم بعضاً ، فكيف وأن القتال بين النبي والمشركين سبب في كثرة القتل ودخول المشركين النار ، ولا يختص هذا الدخول بمن قتل في المعركة منهم بل يشمل الذين أعانوهم وقاتلوا إلى جانبهم ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين يموتون وهم كفار ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] ( ).
سلاح الراكب
من خصائص مفاوضات صلح الحديبية خلوها من لغة التهديد والوعيد من قبل قريش ، فقد كانت قريش ومن الأيام الأولى للبعثة النبوية تطلق التهديد والوعيد إلى النبي وأهل بيته وأصحابه ، وتقوم بتنفيذ تهديدها ووعيدها ، ومنه تجهيز الجيوش العظيمة والسير بها إلى المدينة لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنها توجه عشرة آلاف من المشركين إلى المدينة في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ، في معركة الخندق ، وقد سمّى الله عز وجل هذه الآلاف[الأَحْزَابَ ] كما في قوله تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ] ( ).
ليخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدها بثلاثة عشر شهراً متوجهاً صوب مكة بغزو يختلف في ماهيته عن غزو المشركين للمدينة ، فقد توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى مكة بلباس الإحرام ، وإنتفاء أصوات وجعجعة السلاح ، فلا يسمع إلا التكبير والتهليل والتلبية ,
ألف وخمسمائة من الصحابة كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينادون بصوت جهوري واحد ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ) لتهتز الأصنام التي في البيت من هذا النداء من حين صدوره من مسجد الشجرة محل الإحرام للحج القادم من المدينة ، والذي يبعد عن مكة نحو (440) كم، إذ تستحب التلبية وهي زينة الحجاج ، والإكثار منها في موارد :
الأول : إقبال النهار .
الثاني : عند غروب الشمس .
الثالث : عند السحر بعد إنقضاء صلاة الفريضة اليومية على خلاف فيها .
الرابع : عند القيام والقعود ، وعند الركوب والنزول .
وتسمى التلبية ، التلبيات الأربعة وهي (لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك ) مع سؤال الله عز وجل الحاجات والمغفرة بعد التلبية .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله إذا صعد شرفاً أي باتجاه مكان مرتفع فيقول ، الله أكبر ، وكذا إذا هبط إلى الوادي ، فيقول سبحان ربي الأعلى ، وعن عبد الله بن عمر قال (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً عِنْدَ مَسْجِدِ ذِى الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ فَقَالَ : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ) ( ).
وتنقطع التلبية عند رؤية بيوت مكة ، ولا تلبية في البيت الحرام وعند الطواف ، ولا في السعي بين الصفا والمروة للإنشغال بعبادة أخرى ، وذات الطواف عبادة .
وأصل التلبية من لبَّ الرجل بالمكان وألبّ به : إذا قام فيه ولزمه ، لبيان دلالة التلبية على لزوم طاعة الله ، وهي نوع عهد عند البيت الحرام بالبقاء في منازل الإيمان ، والتحلي بالتقوى ، وجاءت تثنية التلبية للتكثير ، وتأكيد هذا البقاء وتغشيه لأفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل .
لقد اشترطت قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه دخول مكة في عمرة القضاء بسلاح الراكب ، وهي سيوف في أغمادها لا تسل ولا يظهر لمعانها .
وهل هذا الشرط خشية من المسلمين أم لحرمة مكة والشهر الحرام ، وهو شهر ذي القعدة ، المختار هو الأول ، وفيه مسائل :
الأولى : كثرة عدد الصحابة الذين مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : فزع قريش من موضوع إرتفاع أصوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالتكبير والتهليل عند دخولهم مكة والبيت الحرام ، وترديد جبال مكة ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ] ( ).
ويسمي العرب الصدى ابنة الجيل( ) (فأما قولهم: صَمي ابنة الجبل، يريد الصدَى الذي يُسمع في الجبل. وإنما يقال هذا أن يسمع الرجل الشيءَ الفظيع الذي يخافه فيقول: صَمي ابنةَ الجبل، أي لا أسمع) ( ).
الثالثة : خشية قريش من الإلتقاء والتعاضد بين المسلمين الذين في مكة وبين الصحابة الذين يدخلون مكة ، واستيلائهم على مكة .
الرابعة : حسد قريش للنبي وأصحابه .
الخامسة : إذا أحضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أسلحتهم فان الخوف يدب في قلوب المشركين ، ويقرون بالعجز عن محاربتهم.
السادسة : إرادة قريش بعث الخوف في نفوس الصحابة ، وامتناعهم أو شطر منهم عن حضور عمرة القضاء.
وقد تقيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بهذا الشرط.
لقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بأخذ أسلحتهم من السيوف والدروع والخوذ والسهام والقوس والنبال معهم خشية مداهمة وهجوم قريش في الطريق إلى مكة أو داخل مكة .
وعندما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حدود الحرم أمر بابقاء الأسلحة خارج حدود الحرم ، وجعل عليها حراساً من أصحابه .
وفيه مسائل :
الأولى : بعث الخوف في قلوب المشركين .
الثانية : درء الفتنة .
الثالثة : منع القتال .
الرابعة : فيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية ، وشاهد على أنه لم يغز أحداً ، وأنه لا يريد القتال ، ويعلّم أصحابه الإحتياط والإحتراز منه ودفعه .
وهو من الإعجاز والتعليم والتأديب في قوله تعالى [وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا]( )، وصحيح أن الآية أعلاه نزلت في صلاة الخوف ، وفي كتيبة ذات الرقاع ونحوها ، إلا أن موضوعها أعم ، إذ تخبر عن سجية عند الكفار وهي تمني حصول ثغرة وإيجاد غرة عند المسلمين فيشدون عليهم ، ويكثرون القتل فيهم .
فاستحضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه هذه الآية في المسير إلى الحديبية والى عمرة القضاء مع الوهن والضعف الذي لحق قريشاً ، وتقاعدها عن الغزو وإدراكها أنه لم يجد نفعاً ، وأن قلوب العامة صارت تميل إلى الإسلام ، لبيان قانون وهو استئصال الغزو بآيات القرآن.
وفي تحذير الله عز وجل للمسلمين في الآية أعلاه مسائل :
الأولى : بيان فضل الله عز وجل على النبي والمسلمين.
الثانية : الإخبار عن علم الغيب ، واستقراء ما يدور في خلد المشركين ، وما يخططون له من المكر والخديعة مما لا يعلمه إلا الله عز وجل وبخصوص أسباب نزول آية صلاة الخوف أن المشركين رأوا اصطفاف المسلمين خلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الظهر ، في حال خشوع وكأن على رؤوسهم الطير ، فندموا لتفويت الفرصة في الإغارة عليهم اثناء الصلاة ، فقال بعضهم : دعوهم فان لهم صلاة أحب اليهم من آبائهم وأبنائهم أي صلاة العصر ، فنزل جبرئيل بهذه الآية ، فكانت معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسبباً باسلام عدد من المشركين في الذين كانوا حاضرين في الميدان وغيرهم ممن نقلت له الواقعة.
لبيان أن دخول الناس بالإسلام لم يكن بالغزو ، إنما بمحاربة القرآن للغزو .
و(عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة له فلقي المشركين بعسفان ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه ، قال بعضهم لبعض : لو حملتم عليهم ما علموا بكم حتى تواقعوهم . فقال قائل منهم : إن لهم صلاة أخرى هي أحب إليهم من أهليهم وأموالهم ، فاصبروا حتى تحضر فنحمل عليهم جملة . فأنزل الله[وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ]( )، إلى آخر الآية . وأعلمه بما ائتمر به المشركون ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر وكانوا قبالته في القبلة ، جعل المسلمين خلفه صفين ، فكبر فكبروا معه جميعاً ، ثم ركع وركعوا معه جميعاً ، فلما سجد سجد معه الصف الذين يلونه ، ثم قام الذين خلفهم مقبلون على العدو ، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سجوده وقام ، سجد الصف الثاني ثم أقاموا ، وتأخر الصف الذين يلونه وتقدم الآخرون ، فكانوا يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما ركع ركعوا معه جميعاً ، ثم رفع فرفعوا معه ، ثم سجد فسجد معه الذين يلونه ، وقام الصف الثاني مقبلين على العدو ، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سجوده وقعد ، قعد الذين يلونه وسجد الصف المؤخر ثو قعدوا ، فسجدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم عليهم جميعاً ، فلما نظر إليهم المشركون يسجد بعضهم ويقوم بعض قالوا : لقد أخبروا بما أردنا)( ).
وهل أدى هؤلاء الحراس العمرة أم لا ، الجواب هو الأول لأن مدة بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة ثلاثة أيام ، والمسافة بين البيت الحرام والتنعيم الذي هو خارج الحرم(7) كم فيستطيع البدلاء الوصول إليه على الإبل في ساعة واحدة.
السادسة : تقوية قلوب الصحابة ، والتخفيف عنهم ، إذ وطأت أقدامهم أرض مكة في هذه العمرة ، ولم يدخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة معتمرين ملبين بكلمة التوحيد وليسوا غزاة أو مقاتلين أو طالبين لثأر الذين قتلوا في مكة تحت التعذيب مثل سمية وياسر والدي عمار بن ياسر , وخبيب بن عدي وزيد بن الدثنة ، ولا انتقاما لغزوات قريش المتكررة على المدينة ، وقتل عدد كبير من أهل البيت والصحابة .
منهم سبعون في معركة أحد وحدها التي جرت في السنة الثالثة للهجرة ، ولم يدخلوا مكة لزجر قريش وحلفائها عن الهجوم على المدينة مرة أخرى ، إنما دخلوها لأداء العمرة بأذن مسبق من قريش ، وهو من الشواهد على أن النبي محمداً لم يغز أحداً ، ولم يسع للغزو مع قدرته عليه.
معجزات النبي (ص) في عمرة القضاء
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصاحبة المعجزة له ، من وجوه :
الأول : مصاحبة المعجزة لتعاقب الأيام والليالي من عمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ففي كل يوم أو يومين ومن حين البعثة النبوية تطل معجزة جديدة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنها نزول آية أو آيات القرآن .
فمن الإعجاز في المقام نزول آيات القرآن على نحو التدريج والتوالي والنجوم مدة ثلاث وعشرين سنة.
الثاني : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحل والترحال ، وعند الإقامة في مكة وفي طريق الهجرة ، وبعد الهجرة.
وأيهما أكثر في دلائل النبوة الأولى المعجزات المكية أي من حين البعثة النبوية إلى هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة أم المعجزات المدنية مما بعد الهجرة ، المختار هو الثاني.
الثالث : معجزات طريق الهجرة ، ومنها في غار ثور ، أو النجاة من سراقة بن مالك ، وغوص أرجل فرسه بالرمل ، أو المعجزات بخصوص خيمة وشياه أم معبد التي مرّ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
(حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ قَالَ وَأَخْبَرَنِى عُثْمَانُ الْجَزَرِىُّ أَنَّ مِقْسَماً مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِى قَوْلِهِ [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ]( ).
قَالَ تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ. يُرِيدُونَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلِ اقْتُلُوهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ أَخْرِجُوهُ. فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَبَاتَ عَلِيٌ عَلَى فِرَاشِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ اللَّيْلَةَ.
وَخَرَجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى لَحِقَ بِالغَارِ وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا يَحْسَبُونَهُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ فَلَمَّا رَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللَّهُ مَكْرَهُمْ.
فَقَالُوا أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا.
قَالَ لاَ أَدْرِي .
فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ خُلِّطَ عَلَيْهِمْ فَصَعِدُوا فِى الْجَبَلِ فَمَرُّوا بِالغَارِ فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ .
فَقَالُوا لَوْ دَخَلَ هَا هُنَا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ. فَمَكَثَ فِيهِ ثَلاَثَ لَيَالٍ) ( ).
وحسّن ابن حجر الحديث مع قوله بضعف عثمان الجزري ، ويسمى أحياناً عثمان الشاهد ، أو عثمان الجزري الشاهد( ) .
وورد الحديث بطرق واسناد متعدد .
وعن (احمد بن حنبل سئل عن عثمان الجزري فقال روى أحاديث مناكير زعموا انه ذهب كتابه ، وعن عبد الرحمن قال سألت أبي عن عثمان الجزري فقال لا اعلم روى عنه غير معمر والنعمان) ( ).
وقد وردت أخبار مستفيضة في نسج العنكبوت بيتاً لها على خم الغار وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا] ( )، وقيل المراد بالجنود الملائكة لأن المسلمين لا يرونهم والعنكبوت يراه الناس ، ولكن اثبات شي لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، وتقدير الآية : وأيده بجنود لم تروها وجنود تروها ، ثم أن المسلمين لم يروا العنكبوت الذي سد باب الغار والخطاب في الآية موجه لهم ، وفي رواية أنه مع العنكبوت حمامتان .
وفي بحار الأنوار (قال الزهري: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وأبو بكر الغار أرسل الله زوجا من الحمام حتى باضا في أسفل الثقب ، والعنكبوت حتى نسج بيتا، فلما جاء سراقة بن مالك في طلبهما فرأى بيض الحمام وبيت العنكبوت قال: لو دخله أحد لانكسر البيض وتفسخ بيت العنكبوت فانصرف، وقال النبي صلى الله عليه وآله : اللهم أعم أبصارهم ” فعميت أبصارهم عن دخوله، وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار. وقال أبو بكر: لو نظروا إلى أقدامهم لرأونا)( ).
(واخرج ابن سعد وابن مردويه والبيهقي وأبو نعيم عن أبي مصعب المكي قال أدركت انس بن مالك ، وزيد بن أرقم ، والمغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدثون ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الغار أمر الله بشجرة فنبتت في وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فسترته .
وأمر الله العنكبوت فنسجت في وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسترته .
وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار ، وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل بعصيهم وهراويهم وسيوفهم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقدر أربعين ذراعا جعل رجل منهم ينظر في الغار فرأى حمامتين بفم الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا له ما لك لا تنظر في الغار .
فقال رأيت حمامتين بفم الغار فعلمت أنه ليس فيه أحد فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قال فعرف أن الله قد درأ بهما عنه فدعا لهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسمت عليهن وفرض جزاءهن وانحدرن في الحرم فأفرخ ذلك الزوج كل شيء في الحرم) ( ).
لبيان بقاء بركة وأثر معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى : توثيق معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : الصلة الدائمة والمتجددة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجيال المسلمين .
الثالثة : حضور السنة النبوية في الواقع اليومي للمسلمين .
قانون عمرة القضاء لواء سلام
من خصال الأنبياء رفعهم لأولوية السلام في الدعوة إلى الله ، وفي الإحتجاج وهل الصبر على أذى الكفار من هذه الألوية الجواب نعم ، لذا فان الأذى الذي تحمله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، دعوة للسلم ، والتغاضي والسماحة والعفو المتكرر ، قال تعالى [فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثالثة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال)( ).
ومن معاني عمرة القضاء أنها عنوان انقطاع الحروب والغزوات في الجزيرة .
لقد كانت القبائل يغزو بعضها بعضاَ لأسباب شخصية بسيطة أو طمعاً وسلباً وظلماً ، بما يجعلها في مهب الريح إذ يتعرض الغازي والمغزي للضعف والتشرذم ، وصار العرب على وشك التفرق والتشتت والدخول في سلطان الدول العظمى آنذاك كدولة الروم ، ودولة الأكاسرة ، مما يعني محو استقلال الشأن للتابع المنقاد.
فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالعرب والناس ولكن قريشاً صارت تغزوه وهو غزو عصبية واستكبار ولكن ليس العصبية القبلية ، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وسط قريش نسباً وشأناً ، ولكنها عصبية الجاهلية والوثنية .
فصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في منازل الدفاع وسوح القتال ، ومن الدليل عليه قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) ( ).
ونزلت الآية أعلاه في معركة أحد ، وهي شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في حال الدفاع الإضطراري ، ليجني وأصحابه ثمار الصبر بعدها بثلاث سنوات بصلح الحديبية ثم بعده بسنة كانت عمرة القضاء وهي مرآة لتغشي ألوية الأمن والسلام ربوع الجزيرة بافاضات رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي نزول آيات القرآن قبل هذه العمرة واثناءها وبعدها.
والمراد من عمرة القضاء هي التي أداها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وألفان من أصحابه في شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة ، بعد أن صدّتهم قريش في السنة السادسة ، فكان صلح الحديبية الذي سمّاه الله عز وجل فتحاً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
وأختلف في المراد من الفتح في الآية أعلاه على قولين :
الأول : صلح الحديبية .
الثاني : فتح مكة .
والمشهور والمختار هو الوجه الأول أعلاه ، وهو لا يمنع من احتساب فتح مكة فتحاً مبيناً ونصراً عظيماً.
و(عن عبد الرحمن بن أبي علقمة، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول : لما أقبلنا من الحُديبية أعرسنا فنمنا، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت، فاستيقظنا ورسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم نائم، قال: فقلنا أيقظوه .
فاستيقظ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم فقال: افْعَلُوا كمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ، فكذلك من نام أو نسي.
قال: وفقدنا ناقة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم، فوجدناها قد تعلَّق خطامها بشجرة، فأتيته بها، فركب فبينا نحن نسير، إذ أتاه الوحي، قال: وكان إذا أتاه اشتدّ عليه; فلما سري عنه أخبرنا أنه أُنزل عليه (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)( ).
عن أنس بن مالك، قال : لما رجعنا من غزوة الحديبية، وقد حيل بيننا وبين نسكنا .
قال : فنحن بين الحزن والكآبة، قال: فأنزل الله عزّ وجلّ (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) أو كما شاء الله .
فقال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم: لَقَدْ أُنزلَتْ عَليَّ آيَةٌ أحَبُّ إلي مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعا)( ).
وهل عمرة القضاء من الفتح المبين الذي تذكره آية البحث ،الجواب نعم ، ليفتح هذا المعنى باب الدراسات في تعدد مصاديق الفتح الذي تذكره الآية أعلاه .
والشواهد التي تدل على أنه فتح وأنه مبين وجلي ، وتجدد وتوالي المعجزات والوقائع التي ترشحت عنه ، وعن بنود الإتفاق مع المشركين .
ويحتمل هذا الإتفاق بلحاظ مضمون الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : إنه شرط من شروط صلح الحديبية من الفتح المبين .
الثاني : هو شطر من بنود الصلح من الفتح دون الشطر الآخر.
الثالث : الشروط التي اشترطها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قريش من الفتح المبين .
وبخصوص صلح الحديبية قال ابن إسحاق (ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ اُكْتُبْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ .
فَقَالَ سُهَيْلٌ لَا أَعْرِفُ هَذَا ، وَلَكِنْ اُكْتُبْ بِاسْمِك اللّهُمّ .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ اُكْتُبْ بِاسْمِك اللّهُمّ فَكَتَبَهَا .
ثُمّ قَالَ اُكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدٌ رَسُولَ اللّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو .
فَقَالَ سُهَيْلٌ لَوْ شَهِدْت أَنّك رَسُولُ اللّهِ لَمْ أُقَاتِلْك ، وَلَكِنْ اُكْتُبْ اسْمَك وَاسْمَ أَبِيك .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ اُكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو ، اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَنْ النّاسِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهِنّ النّاسُ وَيَكُفّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ) ( ).
وفيه (باسمك اللهم، هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه لا إسلال ولا إغلال ، وأن بيننا عيبةً مكفوفة)( ).
و(لا إسلال) أي لا تجوز السرقة من أي طرف للآخر ، و(لا إغلال) أي لا خيانة.
وفيه شرط (أَنّ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ مُحَمّدٍ ، وَعَقْدِهِ دَخَلَ)( ).
(وأن محمداً يرجع عنا عامه هذا بأصحابه، ويدخل علينا قابل في أصحابه فيقيم ثلاثاً، لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر، السيوف في القرب.
شهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفان وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد بن مسلمة، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص بن الأخيف؛ وكتب ذلك على صدر هذا الكتاب .
فلما كتب الكتاب قال سهيل: يكون عندي .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بل عندي .
فاختلفا فكتب له نسخةً، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب الأول وأخذ سهيل نسخته، وكان عنده .
ووثبت من هناك خزاعة فقالوا: نحن ندخل في عهد محمدٍ وعقده، ونحن على من وراءنا من قومنا.
ووثبت بنو بكر فقالوا: نحن ندخل مع قريشٍ في عهدها وعقدها)( ).
ولابد أن أفراداً من قبائل أخرى قد حضروا الصلح ، ولم يختاروا الطرف الذي يميلون إليه ، ليختار أكثرهم عهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
إن الإتفاق على وقف الحرب لمدة عشر سنوات نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفتح للمسلمين ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينادي قبلح صلح الحديبية (خلوا بيني وبين الناس).
وحينما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عسفان في طريقهم إلى الحدبيبة (لقيه بسر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعوا بمسيرك فاجتمعوا بذي طوىً يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبداً، وقد قدموا خالد بن الوليد إلى كراع الغميم.
وقيل : إن خالداً كان مع النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، مسلماً، وإنه أرسله، فلقي عكرمة بن أبي جهل فهزمه؛ والأول أصح ، إذ أسلم خالد بعد صلح الحديبية .
ولما بلغه بسر ما فعلت قريش قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم : يا ويح قريش قد أكلتهم الحرب .
ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا،وإن أظهرني الله دخلوا في الإسلام وافرين،والله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة)( ).
وأعاد ذات الكلام في الحديبية قبيل الصلح ، وحينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الحديبية يرجون الإذن لدخول الحرم ، وأداء العمرة (أتاهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه خزاعة، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من تهامة .
فقال : تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا أعداد مياه الحديبية وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنا لم نأت لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن شاءت قريش ماددناهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي( ).
فانطلق بديل إلى قريش فأعلمهم ما قال النبي، صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: إن هذا الرجل عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، دعوني آته. فقالوا: ائته. فأتاه وكلمه)( ).
ولكن حينما جاء عروة هذا إلى النبي وهو في الحديبية تكلم بكلام مغاير ، وقال جئت بأوشاب الناس ، أي أناس متفرقون من قبائل متعددة يريد المهاجرين والأنصار وأنه جاء بهم لأهله وقبيلته.
(الأَوْشابُ الأَخْلاطُ من الناس والأَوْباشُ واحدُهم وِشْبٌ يقال بها أَوباشٌ من الناس وأَوْشابٌ من الناس وهم الضُّروبُ المُتَفَرِّقون ، وفي حديث الحُديبية .
قال له عُرْوةُ بن مسعود الثَّقَفيُّ وإِني لأَرى أَشْواباً من الناس لخَلِيقٌ أَن يَفِرُّوا ويَدَعُوك)( ).
وهذه مغالطة وحسد من عروة ، ومحاولة منه لصدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن البيت الحرام وهو يعلم أن هؤلاء الصحابة قاتلوا معه في معركة بدر وأحد والخندق .
ولعله كان يشير إلى فرار كثير من الصحابة يوم معركة أحد ، ولم يعلم أن بين معركة أحد وصلح الحديبية ثلاث سنوات وتتصف بأمور من الفتح المبين وهي :
الأول : إزدياد عدد المسلمين .
الثاني : نزول آيات وسور قرآنية خلال هذه السنوات الثلاث .
الثالث : تثبيت قلوب الصحابة .
الرابع : تجلي معجزات متعددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها .
وأحدث غزو عام للمشركين للمدينة في معركة الخندق والتي سمًاها الله في القرآن (الأحزاب) كما في قوله تعالى في ذم المنافقين [يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
تجليات السلام في عمرة القضاء
لقد أصرّ رجالات قريش على إرجاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية في السنة السادسة ، وسعوا لإثارة فتنة بين المسلمين ، وبعث اليأس في نفوسهم.
ولكن الله عز وجل شدّ عضدهم ، وزاد من ايمانهم بكلمتين نزلتا من عنده بقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
لتبقى هذه الآية ملاك دراسة عمرة الحديبية والتحقيق فيها ، للمنع من التحريف في التأويل ، أو احتسابها انكساراً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إنما تبعث هذه الآية العلماء والمستشرقين إلى استقراء المنافع ووجوه الفتح والنصر في صلح الحديبية ، فهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
ومن معجزات النبي في هذه العمرة وجوه :
الأول : لقد قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة بأداء عمرة القضاء ، ومعه ألفان من الصحابة ، وهذه العمرة راية سلام نبوية خالدة ، ومقابلة للغزو من قبل المشركين بنسك عبادي .
وتحتمل تسمية هذه العمرة بعمرة القضاء وجوهاً :
الأولى : إنها قضاء واجب لما فات من عمرة الحديبية .
الثانية : إنها قضاء وحكم .
الثالثة : المراد المقاضاة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقريش .
والمختار هو الأخير ، ويصح الأول على المعنى والمجاز.
إنما يكون قضاء ما فات من حجة الإسلام ومنه إبطالها بالتلذذ ، وترك الإركان ، ولا قضاء في العمرة ، والمختار أن العمرة المفردة مستحبة .
الثاني : هذه العمرة مقاضاة وتبكيت لقريش ، لقد اضطرت قريش في صلح الحديبية الذي عقد في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة للقبول بمجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للعمرة في قابل ، إذ قالت قريش (أَنّك تَرْجِعُ عَنّا عَامَك هَذَا ، فَلَا تَدْخُلُ عَلَيْنَا مَكّةَ ، وَأَنّهُ إذَا كَانَ عَامُ قَابِلٍ خَرَجْنَا عَنْك فَدَخَلْتهَا بِأَصْحَابِك ، فَأَقَمْتَ بِهَا ثَلَاثًا ، مَعَك سِلَاحُ الرّاكِبِ السّيُوفُ فِي الْقُرُبِ لَا تَدْخُلُهَا بِغَيْرِهَا) ( ).
الثالث : دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة مع خروج المشركين منها ، لتكون من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا]( ).
فمن مصاديق الإعجاز دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة لأداء عمرة القضاء غياب المشركين ومغادرتهم مكة رغماً عنهم ، وإن كانت هذه العمرة لا تخلو من حيطة وخوف في الجملة ، وخشية الذين تخلفوا في المدينة وعوائل الصحابة من غدر قريش .
لكن الخوف من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، وكان هذا الخوف أخف كثيراً من حالاته وكيفيته عند غزو قريش للمدينة وأطرافها ، وحتى من الخوف والخشية في صلح الحديبية .
الحوار مع كسرى
لقد توجه المسلمون إلى فارس يدعون أهلها إلى الإيمان ، ووقعت معركة القادسية (قال بعض من حضر هذا اليوم ممن سبي في القادسية ثم حسن إسلامه لما كان هذا اليوم الذي قدم فيه وفود العرب على يزدجرد ثاب إليهم الناس ينظرون إليهم فلم أر عشرة قط يعدلون في الهيئة بألف غيرهم وخيلهم تخبط ويوغر بعضها بعضا وجعل اهل فارس يسؤهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس وكان سيء الأدب.
فكان أول شيء دار بينه وبينهم أن قال لترجمانه سلهم ما يسمون هذه الأردية.
فسأل النعمان بن مقرن وكان على الوفد ما تسمي رداءك ، قال البُرد.
فتطير لموافقة هذا الاسم اسم شيء متطير به عندهم وتغيرت ألوان فارس وشق ذلك عليهم ثم قال سلهم عن أحذيتهم فسأله فقال النعال.
فتطير أيضا لمثل ذلك ثم سأله عن الذي في يده فقال سوط والسوط بالفارسية الحريق.
فقال أحرَقوا فارس أحرقهم الله.
وكان تطيره على أهل فارس ثم قال لترجمانه سلهم ما جاء بكم وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا أمن أجل انا أجممناكم وتشاغلنا عنكم اجترأتم علينا.
فقال لهم النعمان بن مقرن( )، إن شئتم أجبت عنكم ومن شاء آثرته.
قالوا بل تكلم وقالوا للملك كلام هذا الرجل كلامنا.
فتكلم النعمان فقال إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به ويعرفنا الشر وينهانا عنه ، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة.
فلم يدع لذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين ، فرقة تقاربه ، وفرقة تباعده ، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص.
فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب ، ويبدأ بهم ففعل فدخلوا معه جميعا على وجهين مكره عليه فاغتبط وطائع أتاه فازداد فعرفنا جميعا فضل ما جاءنا به على ما كنا عليه من العداوة والضيق.
ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف فنحن ندعوهم إلى ديننا وهو دين حسنّ الحسن ، وقبح القبيح ، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون ما آخر شر منه الجزاء.
فإن أبيتم فالمناجزة فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله وأقمناكم عليه وعلى أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم فإن اتقيتمونا بالجزاء( )، قبلنا منكم ومنعناكم( )، وإلا قاتلناكم.
قال فتكلم يزدجرد فقال إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم( )، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفونناكم لا تغزوكم فارس ، ولا تطمعون أن تقوموا لهم فإن كان عدد لحق فلا يغرنكم منا وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتا وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم ، وملكنا عليكم ملكا ، يرفق بكم)( ).
ثم اجابوه على تعييره لهم بحالتهم السابقة للإسلام فقالوا : قد وصفتنا فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أحد أسوأ حالا منا وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات فنرى ذلك طعاما.
وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم.
ديننا أن يقتل بعضنا بعضا ويغير بعضنا على بعض.
فإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامنا( ).
فكانت حالتنا قبل اليوم على ما ذكرت لك وبعث الله إلينا رجلا معروفا نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده( ) فأرضه خير أرضنا( ) وحسبه خير احسابنا وبيته اعظم بيوتنا وقبيلته خير قبائلنا وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا واجملنا( ).
وصية النبي (ص) للولاة رحمة عامة
يدل تعيين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولاة على الأقاليم والأمصار على ثبوت الحكم النبوي , والعمل بضوابط الشريعة السمحاء ونشر السلم والعدل.
وقد ولّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة كندة والصدف.
وولى زياد بن لبيد البياضي الأنصاري حضرموت .
وولى أبا موسى الأشعري زبيد وعدن ورمع والساحل.
وولى معاذ بن جبل الجند.
وولى عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس مكة وإقامة الموسم والحج بالمسلمين سنة ثمان، وهو دون العشرين سنة.
وولى يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب على تيماء.
وولى خالد بن سعيد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس على صنعاء بعد قتل شهر بن باذان، وقتل شهر بن باذان، رحمة الله عليه، الأسود العنسي الكذاب لعنه الله.
وولى أخاه عمرو بن سعيد على وادي القرى.
وولى أخاهما الحكم بن سعيد على قرى عرينة ، وهي فدك ونحوها.
وولى أخاهم أبان بن سعيد على مدينة الخط( )، وهي التي تنسب إليها الرماح.
وولى العلاء بن الحضرمي حليف بن سعيد بن العاص على القطيف بالبحرين.
وولى عمرو بن العاص على عمان وأعمالها.
وولى عثمان بن (أبي) العاصي الثقفي على الطائف.
وولى محمية بن جزء بن عبد يغوث بن عويج بن عمرو بن زبيد الزبيدي على الأخماس التي بحضرته، صلى الله عليه وآله وسلم، قيل: وهو حليف بني جمح.
وولى علي بن أبي طالب عليه السلام على الأخماس باليمن، والقضاء بها.
وولى معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي حليف بني أمية بن عبد شمس على خاتمه صلى الله عليه وآله وسلم.
وولى عدي بن حاتم على صدقات بني أسد.
وولى مالك بن نويرة اليربوعي على صدقات بني حنظلة بن زيد مناة بن تميم.
وولى قيس بن عاصم المنقري، والزبرقان بن بدر على صدقات بني سعد ابن زيد مناة بن تميم.
وولى عمر بن الخطاب على بعض من الصدقات أيضاً، وجماعة كثيرة على الصدقات أيضاً، لأنه كان على كل قبيلة وال يقبض صدقاتها)( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يختار الأمراء والولاة بالوحي ، وهو من أسباب نشر العدل والإنصاف بين الناس ، وكان يوصيهم عدة وصايا ، وهذا الوصايا من الوحي ، وملاكها الرحمة بالناس واحقاق الحق .
وعن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في بيتي هذا اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به( ).
وفيه وعد ووعيد للحكام ، وعد للصالح ووعد للظالم .
وكان النبي يدعو أصحابه للزهد بالإمارة ، ويحضهم على عدم اللهث وراءها وعدم الأنصات للأهل والأتباع الذين يلحون في طلبها لسيدهم.
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ بعث سرية سأل عن سيرة أميرها عند عودتهم.
بما يفيد في نشر الإستقامة والعدل وإنفاذ وصاياه وكان يدعو الأمراء إلى الإكتفاء بالشهادتين من الناس ، وبالمهادنة والجزية مع أهل الكتاب ، وإذا بلغه وقوع خطأ في السرايا تداركه بدفع الدية مع توجيه اللوم لصاحب الخطأ.
وعن الحسن البصري (أَنَّ أُنَاساً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ذَهَبُوا يَتَطَرَّقُونَ فَلَقُوا أُنَاساً مِنَ الْعَدُوِّ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ، فَهَزَمُوهُمْ، فَشَدَّ مِنْهُمْ رَجُلٌ فَتَبِعَهُ رَجُلٌ يُرِيدُ مَتَاعَهُ، فَلَمَّا غَثَّهُ بِالسِّنَانِ قَالَ: إِنِّي مُسْلِمٌ إني مسلم، فَأَوْجَزَهُ بِالسِّنَانِ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ مُتَّبِعِيهِ .
فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لِلْقَاتِلِ: أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ إِنِّي مُسْلِمٌ .
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: قَالَهَا مُتَعَوِّذاً .
قَالَ: شَقَقْتَ قَلْبَهُ ، قَالَ لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَال َ: لَتَعْلَمَ أَصَادِقاً هُوَ أَوْ كَاذِباً .
قَالَ: وَكُنْتُ عَالِماً ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: إِنَّمَا كَانَ يُعَبِّرُ عَنْهُ لِسَانُهُ، إِنَّمَا كَانَ يُعَبِّرُ عَنْهُ لِسَانُهُ.
قَالَ: فَمَا لَبِثَ الْقَاتِلُ أَنْ مَاتَ فَحَفَرَ لَهُ أَصْحَابُهُ فَأَصْبَحَ وَقَدْ وَضَعَتْهُ الأَرْضُ، ثُمَّ عَادُوا فَحَفَرُوا لَهُ فَأَصْبَحَ وَقَدْ وَضَعَتْهُ الأَرْضُ إِلَى جَنْبِ قَبْرِهِ.
قَالَ الْحَسَنُ : فَلا أَدْرِي كَمْ قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَمْ دَفَنَّاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً كُلُّ ذَلِكَ لا تَقْبَلُهُ الأَرْضُ، فَلَمَّا رَأَيْنَا الأَرْضَ لا تَقْبَلُهُ أَخَذْنَا بِرِجْلَيْهِ فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الشِّعَابِ .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا]( )، أَهْلَ الإِسْلامِ إِلَى آخِرِ الآيَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا ذَاكَ إِلا بِكَوْنِ الأَرْضِ تُجِنُّ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَلَكِنْ وَعَظَ اللَّهُ الْقَوْمَ أَلا يَعُودُوا)( ).
التباين بين فتح مكة والغزو
الغزو هجوم مسلح ، واقتحام لبلدة أو قرية يصاحبه قتل وسلب ونهب، فالأصل مقابلة الغازي بالدفاع مباغتته للعدو في أرضه في الهجوم وشراسته واستماتة أفراده لأنهم يكونون بين أمرين إما الغلبة أو قتلهم من أسباب ترجيح كفة الغازي في كثير من الأحيان .
أما فتح مكة فيتصف بأمور :
الأول : ليس من جيش وعدو مقصود للقتال .
الثاني : حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على التنزه عن السلب أو النهب ، ويدل عليه قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة (من أغلق بابه فهو آمن)( ).
الثالث : لم تفتح مكة عنوة ولم تفتح صلحاً لأنه لم يصالح أهلها في الدخول .
إنما كان دخوله لها واجباً وحقاً وبالأمن والأمان لأهلها ، ويدل عليه قوله تعالى [إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ]( )، ومن معاني المعاد في الآية أعلاه رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة .
ونزلت الآية أعلاه على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في طريق الهجرة بين مكة والمدينة ، فهي ليست مكية ولا مدنية.
الرابع : مع أن مكة هي مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودار صباه ، وأمضى فيها ثلاثاً وخمسين سنة من عمره الشريف فانه لم يبق فيها عند الفتح إلا (تسع عشرة ليلة)( ).
وهذا البقاء للصلاح والإصلاح ، وتثبيت سنن الإيمان وتلقي البيعة من أهل مكة رجالاً ونساءً مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توجه إلى مكة نصرة لحلفائه قبيلة خزاعة بعد غدر قريش بهم وإعانتهم بني الديل في قتالهم معهم ، خلافاً ونقضاً من قريش لبنود صلح الحديبية .
ومن الدلائل على أن دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة ليس بغزو تأكيد على عدم القتال ، وجعله الأمراء من أهل مكة ومن قريش وهم :
الأول : الزبير بن العوام ، وأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدخل مكة من أعلاها ، ومعه راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي ضربت له قبة هناك ليكون مكانه معلماً يصله الناس ، وأصحاب الحاجات ، وفيه شاهد على الأمان ورسالة النبي العامة ، وعدم حواجز بينهم وبين عامة الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الثاني : خالد بن الوليد ، إذ أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدخل مكة من أسفلها ، وكان على المُجنَّبة( ) اليمنى وفيها عدة قبائل من العرب منها أسلم وسُليم وجهينة وغِفار ومُزينة وغيرها.
الثالث : أبو عبيدة بن الجراح (اسمه عامر بن الجراح، وقيل: عبد الله ابن عامر بن الجراح والصحيح أن اسمه عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال ابن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشي الفهري. شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم وما بعدها من المشاهد)( )، وكان على الرجالة والحسر الذين ليس لديهم سلاح .
وروي الخبر عن أبي هريرة وذكره القرطبي من غير إسناد إذ قال (ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث خالدا بن الوليد يوم الفتح وقال : احصدهم بالسيف حتى تلقاني على الصفا حتى جاء العباس فقال : يا رسول الله ذهبت قريش فلا قريش بعد اليوم)( )، ولا دلالة على هذا الخبر .
وفيه مسائل :
الأولى : الخبر ضعيف سنداً ودلالة ، ولو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خاطب به الأنصار ، وهم يومئذ بالآلاف لشاع ولكان من المتواتر .
الثانية : معارضة هذا الخبر بالحديث المشهور عند المسلمين ، وهو اعلان وإعطاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأمان وقبل أن يدخل مكة لكل من :
الأول : الذي يغلق عليه باب داره .
الثاني : الذي يدخل المسجد الحرام .
الثالث : الذي يدخل دار أبي سفيان .
الرابع : الذي يدخل دار حكيم بن حزام( ).
عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (عن أبيه عليهما السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه واله يوم فتح مكة لم يسب
لهم ذرية، وقال: من أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن) ( ) وليس في الخبر أعلاه ذكر لدار أبي سفيان .
الثالثة : نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه عن القتال والقتل في فتح مكة ، وسؤاله الإنكاري عند القتل في جهة خالد بن الوليد .
الرابعة : حب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقومه ، ومعرفته بحرمة مكة ، وسعيه لجعل الصحابة وأجيال المسلمين يحرصون على تعاهد حرمتها.
الخامسة : مجموع ما قتل من قريش يوم فتح مكة اثنا عشر وقيل اربعة وعشرون ، ومن المسلمين ثلاثة ، فيأتي جيش من عشرة آلاف مسلم ، قد وتر كثير منهم من كفار قريش ، ومع هذا لم يقتل إلا اثنا عشر من بين جماعة تصدوا لجيوش المسلمين فهو شاهد على أن فتح مكة ليس بعزو وهو الذي تحقق في عمرة القضاء ، وفي فتح مكة ، فلم يكن هذا الفتح غزواً ، ولم يجر فيه قتال شديد ومبارزة ولمعان سيوف، كما في معركة بدر ، وأحد ، والخندق حيث غزا المشركون المدينة ، وقابلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وقال تعالى بخصوص معركة بدر [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، وقال تعالى بخصوص معركة أحد [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ] ( )وقال تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
لبيان قانون في عموم لقاء وقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ضد المشركين ، وأنه لم تصبهم خسارة إلا بإذن الله ، وليكون تمحيصاً للمؤمنين من جهات :
الأولى : الذين استشهدوا في المعركة ، قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).
الثانية : الذين أصيبوا بالجراحات .
الثالثة : الذين قاتلوا في ميدان المعركة .
الرابعة : عامة المؤمنين والمؤمنات ، خاصة وأنه كانت الزهراء عليها السلام وصفية عمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعض النسوة من الأنصار في المعركة لمداواة الجرحى ، ونقل الماء والمؤون ، ثم قاتلت أم عمارة عندما رأت المشركين يحيطون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل يصح تقدير الآية : دافعوا في سبيل الله لتدخلوا المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ، الجواب نعم ، لبيان مسألة وهي من معاني المشيئة في الآية أعلاه .
التاسعة : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين بإنقطاع وإنتهاء غزو ومحاربة المشركين لكم .
العاشرة : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ، فأشكروا الله عز وجل على هذه النعمة .
الحادية عشرة : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين فتعاهدوا هذا الأمان ، واجتنبوا الفرقة والشقاق ، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
الثانية عشرة : لتدخلن المسجد الحرام وهو [أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ]( ).
الثالثة عشرة : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين فانتم أولى الناس به ، وليبقى مفتوحاً على مدار السنة للناس ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
الرابعة عشرة : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين في دخوله في ولايتكم له ، قال تعالى [وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
الخامسة عشرة : لتدخلن المسجد الحرام شكراً من الله لكم على صبركم ، وتحمل الأذى في طاعة الله.
ومن الإعجاز في المقام ذكر القرآن لاسم (شاكر) و(عليم) من الأسماء الحسنى في آية من آيات الحج ومناسكه، قال تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ] ( ).
السادسة عشرة : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ، فلا موضوعية أو أثر مستديم لمنع المشركين لكم من البيت الحرام.
السابعة عشرة : لقد جاء قوله تعالى [إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ] مرتين في القرآن إحداهما في قوله تعالى [فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ]( )، بخصوص يوسف عليه السلام وخطابه لأبيه يعقوب النبي وإخوته الأحد عشر ، وواحد منهم من أمه وأبيه ، وهو بنيامين ، والعشرة الأخرون من أمهات متعددة .
والآية الثانية في آية البحث لبيان أن النعم التي كانت عند الأنبياء حسية ومؤقتة ، أما التي عند المسلمين فهي عقلية ، وتتغشى أجيال المسلمين جميعاً .
ولذا ورد في التكاليف العبادية أن الصوم فرض على الأنبياء ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) ليفرض على عموم المسلمين والمسلمات إلا الذين لا يقدرون على الصوم من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس ، قال تعالى [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ] ( ).
لقد دخل آل يعقوب مصر بأمان ليفتحها ويدخلها المسلمون بأمان ، ويتوجه أهل مصر كل عام إلى حج البيت الحرام وإلى اليوم فان أهل مصر من أكثر الناس شوقاً للبيت الحران وتعاهداً للحج والعمرة.
وكانت كسوة الكعبة تحاك في مصر أيام المماليك وتزف مرة في السنة بموكب مهيب ومعها كسوة غرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شوارع القاهرة ، وهي على الجمال والخيول والناس تكبر وتهلل وتصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زمن المماليك ، ويحضرها السلطان وكبار رجال الدولة .
وبدأت كسوة الكعبة في الإسلام أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن احترقت كسوتها بخطأ وغفلة من امرأة كانت تقوم بتبخيرها ، فكساها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده بحبرات يمانية بيضاء ، وقباطي مصرية .
وأول من كساها من المماليك السلطان بيبرس سنة 661 هجرية.
ثم قام الملك إسماعيل بن الملك الناصر بن قلادون بوقف ثلاث قرى كاملة لتغطية نفقات كسوة الكعبة.
ثم قام السلطان العثماني سليمان بن سليم الأول بضم ريع وخراج سبع قرى أخرى إليها سنة (947) هجرية ، واستمرت مصر ترسل كسوة الكعبة في كل عام لتبدل صبيحة يوم عرفة إلى سنة 1961 م.
قانون الميثاق في الآخرة
قد تقدمت الإشارة لهذا القانون في الجزء السابق ، فقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار المواثيق والعهود ، فلم يخلق الله الناس إلا بعد أن أخذ عليهم الميثاق وهم في عالم الذر ، قال تعالى [مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ]( ).
وهل قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )ميثاق وهل هو ميثاق عام أم قضية عين خاص بآدم ، الجواب إنه ميثاق عام ومتجدد.
وتجلى في الحال وقبل هبوط آدم من الجنة بتعليمه الأسماء للملائكة ، ويدل عدم معرفة الملائكة لها على صعوبتها وأنها من الأمور الغيبية ، وقد تكلف آدم تعليمها للملائكة ، ليدل حفظه لها وقيامه بتبليغها على الميثاق .
وفي التنزيل [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( ).
ليدل هذا التعليم على تكليف آدم بتعليم ذريته الميثاق ، ووجوب عقيدة التوحيد من باب الأولوية القطعية ، فاذا كان آدم قد تلقى التعليم من عند الله عز وجل ، وقام بتعليم الملائكة مع عظيم شأنهم وسعة إطلاعهم ، وشرف منزلتهم ، فلابد أن يقوم بتعليم الأبناء والأحفاد الأحكام التكليفية بما يجعلهم يدركون الواجبات والنواهي ، وهو من الميثاق ، ويقال وثقت الشئ أي أحكمته .
وواثقه أي عاهده وعاقده ، فيأتي الميثاق على وجوه :
الأول :العهد .
الثاني : العقد .
الثالث : الوعد .
الرابع : التثبيت .
الخامس : الحلف واليمين .
ويدل الميثاق بين الله عز وجل والناس على الربوبية المطلقة لله عز وجل ، ويحتمل الميثاق وجهين :
الأول : الصلة التكوينية بين الله والناس .
الثاني : الصلة التشريعية بين الله عز وجل والناس .
وهذا التقسيم استقرائي فالميثاق جامع لهما ، ولا يختص بالوجه الأول أعلاه ، ولا بمخاطبة العقل وحده ، لذا تفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء للناس على اختلاف مشاربهم ، قال تعالى [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا] ( ).
وتقدير الآية في المقام رسلاً مبشرين للذين يعملون بالميثاق ، ومنذرين للذين يعرضون عن الميثاق ولا يعملون به .
فكيف بالذين يحاربون الأنبياء ، كما في كفار قريش الذين يصدق عليهم اسم الإرهاب .
ويدل قوله تعالى [لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ] على بلوغ مفاهيم التكليف للناس جميعاً ، ومنهم قريش .
لبيان أن وجود فترة ستمائة سنة تقريباً بين رسالة عيسى عليه السلام ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خالية من الأنبياء ليس مانعاً من إقامة الحجة على قريش بلزوم الإقرار بالتوحيد ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والإمتناع عن تقديس الأصنام ، وعن نصبها في البيت الحرام .
وهل من حضور الميثاق في الآخرة إقامة الحجة على قريش بأن بامكانهم منع نصب الأصنام في البيت الحرام ، خاصة وأنهم أولياء البيت ، والقائمون بشؤونه ، ولا تستطيع القبائل نصب أصنام خاصة لها في البيت الحرام إلا باذنهم ورضاهم .
الجواب نعم ، لبييان المسؤولية المتعددة لقريش في عبادتهم للأصنام ، وفي تهيئة مقدمات تقديس القبائل للأوثان ، وعدم نهيهم عنه ، وهم أبناء إبراهيم عليه السلام الذي تعرض للحرق بالنار بسبب كسره الأصنام ، وفي التنزيل [قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ] ( ).
وهل يحضر يوم القيامة ذات الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الناس في عالم الذر ، الجواب نعم ، مثلما تحضر الأنبياء معهم مواثيقهم وجهادهم في تبليغ الرسالة .
وتشهد بدر وأحد والخندق ، وحنين على أن المشركين هم الغزاة ويقرون هم بهذه الحقيقة ، قال تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( )، ويشهد عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة ، ترى ما هو حال الذي حضروا المعركة في جمع المشركين ثم تابوا وأحسنوا اسلامهم ، من جهة الشهادة يوم القيامة ، فيه وجوه محتملة :
الأول : يقر هؤلاء على أنفسهم بأنهم غزاة يوم كانوا مشركين ، ويسألون الله عز وجل الصفح .
الثاني : يقف هؤلاء التائبون مع الصحابة في الشهادة على الذين كفروا ، وقد يقومون بمخاطبة هؤلاء ألم تكونوا معنا في بدر وأحد ، ألم تأمروننا بالقتال ، فيقولون نعم ، ولكننا تبنا إلى الله عز وجل فرزقنا هذه المنزلة .
الثالث : يخفف الله عز وجل المسلم التائب الذي حضر مع المشركين معارك الإسلام الأولى فلا يسأله الشهادة .
الرابع : يكون التائب في موقف مستقل ليدلي بشهادته وكونه كان مع المشركين وأنهم كانوا الغزاة ، ثم يلتحق بموقف المسلمين.
والمختار هو الثاني ، وهو من فضل الله وسعة مغفرته.
ومن مصاديق الحجة في الآية أعلاه من سورة النساء ( 165) حضور المواثيق من جهات :
الأولى : المواثيق بين الله والأنبياء.
الثانية : المواثيق والعهود بين الله وأهل الكتاب .
الثالثة : المواثيق بين الله والمسلمين .
الرابعة : المواثيق بين الله سبحانه وعامة الناس .
الخامسة : المواثيق والعهود بين الأنبياء واتباعهم وعموم الناس.
السادسة : المواثيق بين الناس .
السابعة : المواثيق الباطلة بين الرؤساء والأتباع من الذين كفروا، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ *وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ] ( ).
ولم يرد لفظ [الَّذِينَ اتَّبَعُوا] في القرآن إلا في الآيتين أعلاه ،إذ ورد فيهما ثلاث مرات .
ومن هذه المواثيق الأحلاف التي عقدتها قريش فيما بينها وبين القبائل في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ،وإرادة إجهاض وإستئصال الإسلام .
إذ تحضر مقدمات غزو المشركين للمدينة ، ويعلم أهل المحشر جميعاً أن المشركين هم الغزاة ، كما تحضر المشاهد والوقائع لتبين مصاديق متعددة لقانون (لم يغز النبي (ص) أحداً) الذي اختص به هذا الجزء ، وهو الواحد والعشرين بعد المائتين من تفسيري للقرآن .
كثرة جراحات النبي (ص) يوم أحد
لقد كثرت جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في معركة أحد ، وهو من الإبتلاء في النفوس ، وما يصيب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو ابتلاء للمسلمين جميعاً .
وهل يختص هذا الإبتلاء والأذى بالمسلمين الذين كانوا في ميدان المعركة أم أنه شامل لغيرهم ، الجواب هو الثاني ، ومن الآيات أن المسلمين في كل جيل يحزنون لما لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد .
لذا كانت آية البحث ومضامينها القدسية والعمل بالميثاق دفعاً لهذا الأذى وفي التنزيل [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
وما يصيب المسلمين هو إبتلاء وامتحان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي معركة أحد كسروا رباعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم اليمنى واليسرى من أسنانه ، وشُج رأسه ، ورماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة .
فوقع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشقه في أحد الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق ،وضربه ابن قمِئة على عاتقه بالسيف ضربة شديدة ، فبقى يشكو لأجلها أكثر من شهر ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ محترزاً ، إذ كان قد ظاهر بين درعين فلم يستطع السيف هتكهما .
وجاءت حجارة إلى وجنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فدخلت حلقات من المغفر في وجنته ، وسال الدم من وجهه .
(عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ وَاَللّهِ إنّي لَأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ جُرْحَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَمَنْ كَانَ يَسْكُبُ الْمَاءَ وَبِمَا دُووِيَ كَانَتْ فَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَغْسِلُهُ وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَسْكُبُ الْمَاءَ بِالْمِجَنّ فَلَمّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدّمَ إلّا كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا فَأَلْصَقَتْهَا فَاسْتَمْسَكَ الدّمُ) ( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسوله ، ونزل قوله تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ] ( ) فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه بالدعاء (وقال : رب أغفر لقومي فانهم لا يعلمون ) ( ).
وهو ذات دعاء نوح عندما كان قومه يضربونه (حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ( ).
و(عن ابن مسعود قال : كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحكي نبياً من الأنبياء قد ضربه قومه وهو يمسح الدم عن جبينه ، ويقول: اللهمَّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ( ).
القطع المتعدد لأطراف من المشركين
من معاني قتل الله للمشركين قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
والظاهر أن النسبة بين [لِيَقْطَعَ طَرَفًا]وبين موضوع الآية أعلاه هو العموم والخصوص المطلق ، فقطع الطرف أعم وأكثر كماً وكيفاً ومناسبة ، لذا جاءت الآية بصيغة المضارع [لِيَقْطَعَ] بينما وردت الآية أعلاه بصيغة الماضي التي نزلت بخصوص معركة بدر ، وإن كان موضوعها أعم.
وعن (محمد بن كعب القرظي قال : لما دنا القوم بعضهم من بعض، أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم، وقال : شاهت الوجوه.
فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقتلونهم ويأسرونهم، وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنزل الله (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ( )، الآية، إلى(إن الله سميع عليم)) ( ).
ويأتي قطع طرف من الكفار من جهات :
الأولى : رمية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغيرها ، ومنه نزول الملائكة لإخافة وقتل عدد من المشركين .
الثانية : سيف الإمام علي عليه السلام وسيوف المهاجرين والأنصار في معركة بدر ، وأحد ، والخندق (وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ هذا الحرف { وكفى الله المؤمنين القتال }( ) بعلي بن أبي طالب) ( ).
الثالثة : إنذار المشركين من مواصلة محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ففي كل مرة يقاتلونه يقطع الله طرفاً منهم ، لبيان قانون وهو قطع طرف وهلاك طائفة من الذين يحاربون النبوة والتنزيل .
الرابعة : تكرار هذا القانون في كل معركة من اللطف الإلهي ، وهو من الشواهد على أن المشركين هم الغزاة في معارك الإسلام الأولى .
وطرف الشئ جانبه ، وحدّه الذي ينتهي إليه من احدى الجهات ، ويصح استعماله في الأجسام والأطوال والأوقات ، قال تعالى [وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ] ( ).
الخامسة : قطع طرف من الذين أشركوا بدخول طائفة من الناس الإسلام ، سواء من الأتباع أو من الرؤساء ، إذ يحصل النقص في صفوف المشركين، وهذا النقص ليس بالعدد فقط ، إنما بفقدان أشخاص بأسمائهم وعناوينهم ، وعندما يسلم أحد قادة المشركين يسعون لإختيار غيره ليحل محله ، وفيه تبكيت لهم ، لذا قال تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ.
السادسة : من معاني الطرف في الآية قتل بعض فرسان وشجعان قريش في المعارك ، إذ تعد قريش بعض فرسانها كالطرف في المعركة ،والإغارة والهجوم والمبارزة .
ومن أسرار مجئ الآية بصيغة المضارع [لِيَقْطَعَ طَرَفًا] سقوط عدد من أبطال المشركين في كل معركة هجموا فيها على المسلمين والمدينة المنورة .
ويمكن تقسيم قطع الطرف في هذه الآية إلى أقسام :
الأول : القطع اللطيف بدخول أفراد ، وطائفة من المشركين الإسلام .
الثاني : عجز جماعة من المشركين عن القتال ، وابتلاؤهم بالمرض ونحوه .
الثالث : قتل طائفة من الكفار في ميدان القتال وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( )، خاصة وأن المشركين هم الذين تزحف جيوشهم للقتال ، ويصرون على الإبتداء به .
والقسم الأخير أعلاه هو المقصود من آية قطع الطرف ويكون القسمان الآخران في طوله .
فصحيح أن المراد من الطرف الطائفة إلا أنه لا يتعارض مع إحتساب بعض الفرسان كالطرف ، وهو الذي تجلى بقتل عمرو بن ود العامري في معركة الخندق ، وصيرورته سبباً لوهن قريش .
ليجتمع الأمران من تبكيت ، وعقاب المشركين العاجل من وجوه :
الأول : قتل طائفة من المشركين في كل معركة من معارك الإسلام الأولى.
الثاني : إدراك الناس جميعاً بأن المشركين هم الذين قاموا بالغزو والقتال.
الثالث : سقوط أشهر فرسان قريش قتلى في الميدان ، مثل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، وأبي جهل وأمية بن خلف وغيرهم في معركة بدر.
ومثل حملة لواء قريش السبعة من بني عبد الدار في ساعة من نهار يوم معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وكما في السقوط المدوي لقريش بقتل فارسها عمرو بن ود العامري في معركة الخندق ، إذ قتله الإمام علي عليه السلام ، ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
ترى هل من صلة بين قطع طرف من الذين كفروا وبين الميثاق الذي تذكره آية البحث ، الجواب نعم فان بيان الميثاق سبب للهداية ، ونوع طريق لدخول الإسلام ، لذا وردت الآية بالعموم في قوله تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ] ( ).
قانون أضرار معركة أحد على المشركين
لقد لحق المشركين في معركة أحد الذل والضعف والإستضعاف من جهات :
الأولى : تراكم الديون على قريش ،وتخلفهم عن تسديدها في آجالها وهو مانع من التسوق من جديد .
الثانية : عجز قريش عن إقراض القبائل بالربا والفائدة التي كانت من موارد كسبهم ، فقد جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتحريمه بآيات متعددة ، وإذ حاربوه بسبب هذا التحريم فأنهم عجزوا عن هذه المعاملات .
والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار ، وهو من المصاديق العامة قوله تعالى [يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ]( ).
الثالثة : لقد كان رجالات قريش يعدون أهل مكة بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وجلب المهاجرين أسرى موثقين بالحبال في اعناقهم وأرجلهم ، لإرادة أمور :
الأول : التدارك القولي لخسارة قريش في معركة بدر ، فلقد أدعت قريش النصر في معركة أحد ،وهذا الإدعاء نوع مغالطة وخلاف الواقع.
الثاني:التغطية على إنسحاب المشركين من ميدان المعركة بوهن وخذلان
الثالث : مواساة أهل الذين قتلوا في معركة بدر خاصة وأنهم حرموا عليهم البكاء .
الرابع : إخافة القبائل والناس من دخول الإسلام .
الخامس : رشحات المكر الذي يتصف به المشركون والدعاية العامة المغرضة ، لذا نزل الأمر من عند الله الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر ، قال تعالى [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ]( ).
الرابع : تجلي قانون وهو أن الله يحول بين الكافرين وتحقيق آمالهم وغاياتهم الخبيثة ، وإن أوجدوا العلة والسبب لها ، لتكون هذه الحيلولة من معجزات النبوة ، وقد تكون خلاف قاعدة العلة والمعلول ، كما أنها من عمومات قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ] ( ) فمن باب الأولوية أن اله يجول بين الكافر والغاية من مكره .
هجوم هوازن على النبي (ص) وأصحابه
لقد غادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة متوجهاً إلى المدينة بعد فتحها ، وأخذ البيعة من أهلها رجالاً ونساءً ، وتنصيب عامل عليها من أهلها هو عتاب بن أسيد وفي الطريق كانت معركة حنين التي هاجمت فيها هوازن وثقيف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن كان معه من المسلمين وعددهم اثنا عشر ألفاً.
لبيان قانون وهو لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة عند الفتح ولم يغز الطائف في معركة حنين ، بل كانت هوازن وثقيف هم المعتدون الغزاة .
والأصل أن يمتنعوا عن القتال بعد فتح مكة ، وهذا الإمتناع من أسرار قوله تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ]( ).
ليكون من معاني الآية أعلاه قانون وهو لا يلقي الهجوم على النبي وأصحابه وغزو المدينة إلا الفشل ولحوق الخزي باهله وان كان بغتة وغدراً.
ولم يلحق بجيش أو طائفة هاجمت وحاربت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مثلما لحق هوازن وثقيف من هزيمة نكراء ووقوع رجالهم ونسائهم وصبيانهم في الأسر والسبي .
إذ تركوهم بالعراء وولوا منهزمين ، وبقاء أموالهم وأموالهم التي تركوها في ميدان المعركة وهي كالآتي :
الأول : ستة آلاف رأس من السبي .
الثاني : أربعة وعشرون ألف من الإبل .
الثالث : أربعون ألف شاة .
الرابع : أربعة آلاف أوقية فضة ، وكمية أقل من الذهب .
و(اسْتَأْنَى بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَقْدَمُوا عَلَيْهِ مُسْلِمِينَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً)( ).
معركة الخندق شاهد على قانون هذا الجزء
لقد تدرجت معارك الإسلام الأولى من وجوه :
الأول : الإزدياد المطرد في أعداد جيش المشركين من جهات :
الأولى : عدد جيش المشركين في معركة بدر والتي جرت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة نحو ألف رجل .
الثانية : عدد جيش المشركين في معركة أحد والتي جرت في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ثلاثة آلاف رجل.
الثالثة : وفي معركة الخندق التي جرت في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة كان عدد جيش المشركين عشرة آلاف رجل (فيهم سبعمائة دارع ومائتان فرس)( )، (والظعن خمس عشرة امرأة)( ).
الثاني : الزيادة القتالية في العدة والعتاد والمؤن.
الثالث : إزدياد عدد القبائل التي تنضم لقريش في المعارك ، فمثلاً في معركة الخندق قامت بغزو المدينة كل من :
أولاً : قريش ومن تبعهم، وعقدوا اللواء في دار الندوة، وحمله عثمان بن فلحة.
ثانياً : الأحابيش : وخرجوا مع قريش من مكة.
وكان مجموع قريش أربعة آلاف ، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس ، ومعهم ألف وخمسمائة بعير.
ثالثا : بنو سُليم : والتقوا مع جيش قريش في مرّ الظهران الذي يبعد عن مكة (22) كم .
ويسمى الآن وادي فاطمة وكان عددهم سبعمائة برئاسة (سفيان بن عبد شمس حليف حرب بن أمية وهو أبو أبي الأعور السلمي الذي كان مع معاوية بصفين)( ).
رابعاً : بنو أسد : ويقودهم طلحة بن خويلد الأسدي.
الرابع : إقتراب المشركين من المدينة ، فكل معركة لاحقة يقتربون فيها أكثر من المدينة ، وهو شاهد على أنهم هم الغزاة ، ويقومون بالإرهاب وإخافة الناس عن عمد وهذا الإقتراب كالآتي:
الأول : وقعت معركة بدر عند ماء بدر الذي يبعد عن المدينة مائة وخمسين كيلو متراً .
الثاني : حدثت معركة أحد عند سفح جبل أحد الذي يبعد (5) كم عن المدينة المنورة ، ومن الشواهد على إجتناب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القتال ، وعدم طلبه أنه لم يخرج بأصحابه للقاء المشركين إلا عندما وصلوا إلى جبل أحد ، وصاروا على مشارف المدينة وأخذوا يتعرضون لمن يخرج منها أو يدخل إليها ، ويبعثون الرسائل والإشارات بانهم ينوون إقتحامها وفيه شاهد ومصداق لعنوان هذا الجزء من التفسير وهو (لم يغز النبي (ص) أحداً.
الثالث : إحاطة عشرة آلاف من المشركين بالمدينة في معركة الخندق وهم يرومون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
طليحة بن خويلد
وفي آخر أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ادّعى طلحة بن خويلد النبوة .
وكان قد قدم في السنة التاسعة للهجرة مع وفد بني أسد الى المدينة وبايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان عددهم عشرة.
(فيهم حضرمي بن عامر وضرار بن الأزور ووابصة بن معبد وقتادة بن القائف وسلمة بن حبيش وطليحة بن خويلد ونقادة بن عبد الله بن خلف)( ).
وقال حضرمي بن عامر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : آتيناك نتدرع الليل البهيم في سنة شهباء ولم تبعث إلينا بعثاً فنزلت [يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا] ( ) ( ).
ووابصة بن معبد يكنى أبا شداد والذي روى أحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً رآه يصلي خلف الصف وحده أن يعيد الصلاة)( ).
سكن الكوفة ثم تحول الى الرقة ، ومات فيها.
وكذا ورد في حديث ابن عباس قال : جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا يا رسول الله : أسلمنا وقاتلك العرب ولم نقاتلك ، فنزلت هذه الآية يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا.
وعن الحسن البصري قال : لما فتحت مكة جاء ناسٌ ، فقالوا يا رسول الله : إنا قد أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان ، فأنزل الله يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا.
وكانت خصومة بينهم وبين قبيلة طي التي تجاورهم فصالحهم رسول الله ، وجعل عليهم عاملاً قضاعي بن عمرو وكتب لهم كتاباً (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي إلى بني أسد سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فلا تقربن مياه طئ وأرضهم فإنه لا تحل لكم مياههم ولا يلجن أرضهم إلا من أولجوا وذمة محمد صلى الله عليه و سلم بريئة ممن عصاه وليقم قضاعي بن عمرو وكتب خالد بن سعيد)( ).
ثم شهد قضاعي فتح مكة .
وقال جعونة بن مرثد الأسدي هو مخضرم في طلحة بن خويلد لما ادعى النبوة
بني أسد قد ساءني ما فعلتم … وليس لقوم حاربوا الله محرم
فإني وإن عبتم علي سفاهة…حنيف على الدين القويم ومسلم( ).
وحينما ادعى طليحة النبوة في نجد تبعته طائفة من العوام ونزل بسميراء ، فكتب سنان بن أبي سنان إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخبره بما ادعاه وحاله ، وأرسل طليحة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ابن أخيه خبالاً ، يطلب الموادعة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال الذي يأتيه بالوحي اسمه ذو النون.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخبال (قتلك الله)( ).
ولم يتعرض له النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما اكتفى برده ، فقتل خبال في معارك الردة .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك الأمر ، إنما أرسل إلى (عوف أحد بني نوفل بن ورقاء، وإلى سنان بن أبي سنان وقضاعي أن يجادلوا طليحة، وأمرهم أن يستنجدوا رجالاًَ قد سماهم لهم من تميم وقيس، وأرسل إلى أولئك النفر أن ينجدوهم، ففعلوا ذلك .
ولم يشغل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن مسيلمة وطليحة غير مرضه، وأن جماعة من المسلمين حاربوا طليحة ، وضربه مخنف بن السليل يوماً بسيف فلم يهلك، لكنه غشي عليه .
فقال قوم : إن السلاح لا يحيك في طليحة، فصار ذلك فتنة .
وما زال في نقصان والمسلمون في زيادة إلى أن جاءت وفاة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فتناقص أمر المسلمين وانفض جماعة إلى طليحة مع عيينة بن حصن)( ).
ولم يدع طليحة الى عبادة الأوثان ، وكذا الذين تنبأوا كذباً في أيام الردة ، مما يدل على استئصال عبادة الأوثان في الجزيرة ببعثة وبركة وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان طليحة فارساً شجاعاً ، وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتل طليحة وأخوه كلاً من الصحابي :
الأول : عكاشة بن حصن .
الثاني : ثابت بن أقرم ( ).
وهل هذا القتل من الإرهاب الجواب نعم ، إذ كان يسيران منفردين ، وهما طليعة جيش المسلمين.
و(من كلام طليحة: إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم ولا فتح أدباركم شيئاً، فاذكروا اللّه قياماً.
ومن كلامه: والحمام واليمام. والصرد الصوام، قد ضمن من قبلكم أعوام ليبلغن ملكنا العراق والشام، واللّه لانسحب ولا نزال نضرب حتى نفتح يثرب)( ).
وهذا ما كان ينقله عند أصحابه بعد هزيمتهم وقتل عدد منهم.
لبيان التهديد الكبير الذي كان يواجه الصحابة بعد فقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن المشركين والذين ادعوا النبوة يسعون للإغارة على المدينة المنورة وقتل المسلمين.
وسار إليه المسلمون بقيادة خالد بن الوليد ، والتقوا في بزاخة.
(فجاء عيينة إلى طليحة فقال: ويلك، جاءك الملك .
قال: لا فارجع فقاتل فرجع، فقاتل، ثم عاد فقال: جاءك الملك.
قال: لا فعاد فقال: جاءك الملك.
قال: نعم قال ما قال.
قال: إن لك حديثاً لا تنساه، فصاح عيينة: الرجل والله كذاب، فانصرف الناس منهزمين، وهرب طليحة إلى الشام فنزل على كلب فبلغه إن أسداً وغطفان وعامر قد أسلموا فأسلم)( ).
وأظهر عدي بن حاتم قبل المعركة صدق الإيمان ، وبذل الوسع في جمع أفراد قبيلة طي وإعادة الذين كانوا مع طليحة منهم وضمهم إلى جيش المسلمين بحسن تدبيره وصبره إذ خرج (خالد فازوار عن البزاخة( ) وجنح إلى أجأ( ) وأظهر أنه خارج إلى خيبر ثم منصب عليهم فقعد ذلك طيئا وبطأهم عن طليحة وقدم عليهم عدى فدعاهم فقالوا لا نبايع أبا الفصيل أبدا .
فقال لقد أتاكم قوم ليبيحن حريمكم ولتكننه بالفحل الاكبر فشأنكم به فقالوا له فاستقبل الجيش فنهنهه عنا حتى نستخرج من لحق بالبزاخة منا فانا إن خالفنا طليحة وهم في يديه قتلهم أو ارتهنهم .
فاسقبل عدي خالدا وهو بالسنح فقال يا خالد أمسك عني ثلاثا يجتمع لك خمسمائة مقاتل تضرب بهم عدوك وذلك خير من أن تعجلهم إلى النار وتشاغل بهم ففعل فعاد عدي إليهم وقد أرسلوا إلى إخوانهم فأتوهم من بزاخة كالمدد لهم ولولا ذلك لم يتركوا.
فعاد عدي بإسلامهم إلى خالد وارتحل خالد نحو الانسر يريد جديلة .
فقال له عدي إن طيئا كالطائر وإن جديلة أحد جناحي طيئ فأجلني أياما لعل الله أن ينتقذ جديلة كما انتقذ الغوث ففعل فأتاهم عدي فلم يزل بهم حتى بايعوه فجاءه بإسلامهم ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب فكان خير مولود ولد في أرض طيئ وأعظمه عليهم)( ).
وانصرف بنو فزارة عن طليحة ، وانهزم أكثر أصحابه ، فركب على فرس كان قد أعدها ، وأركب امرأته النوار على بعير له ، وانهزم وهي معه إلى الشام ، ونزل على بني كلب ، قال ابن الأثير عن طليحة (كان من أشجع العرب وكان يعد بألف فارس)( ).
ثم أسلم ، وخرج في جيوش المسلمين ، وقتل في معركة نهاوند مسلماً سنة (21) للهجرة.
إسلام الطفيل
وهو الطفيل بن عمرو الدوسي ، وكان من أشراف قبيلة دوس وله شأن عندهم ، فقدم مكة ورحب به رؤساء قريش ثم حذروه من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن سماع كلامه إلى أن ايقنوا بأنه يُعرض عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا ينصت له.
إذ كان الوافد إلى مكة يجلس في البيت الحرام ، ويتفق له أحد أمور :
الأول : سماع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ القرآن وهو يرتله ترتيلاً من غير عجلة ، ولا إبطاء زائد وكأن قراءته للآية تفسير لها .
وعن الإمام علي عليه السلام : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسن الصوت ، ماداً ليس له ترجيع .
و(عن قتادة قال : سألت أنسا عن قراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : كان يمد مدا إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم( ).
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا قَرَأَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ( ).
الثاني : رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي في البيت الحرام ، وقد أعرض عن الأصنام وعبادتها ، يقوم بالركوع والسجود ، وفي حال خشوع .
الثالث : جلوس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجانب الوافد إلى مكة فيسأله عن نسبه والجهة التي قدم منها ثم يدعوه إلى الإسلام ويتلو عليه آيات القرآن .
وقد تجتمع هذه الأمور للوافد ، وهو من البركة في البيت الحرام ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ) ليكون من وجوه تقدير الآية : وضع للناس ليسمعوا تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن ودعوته للإسلام .
وقد يأتي زائر إلى البيت الحرام فلا يرى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المرة الأولى أو الثانية ، ولكنه يراه في الثالثة أو الرابعة خاصة وأن الركبان كانوا ينقلون أنباء نبوته ، وآيات القرآن التي أنزلت عليه ، ويكون القادم إلى مكة متلهفاً لرؤيته ولعل تحذير قريش للطفيل من هذا الباب وأنهم ادركوا الرغبة العامة عند الوافدين إلى مكة لرؤية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسماع منه .
فحالما حذروه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرر الإمتناع عن الإستماع له من غير أن يسألهم عن صفاته وتحديد هيئته لكي يحذره .
قال الطفيل (فو الله ما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئا و لا أكلمه حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شئ من قوله و أنا لا أريد أن أسمعه.
قال فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي عند الكعبة)( ).
فابتعد الطفيل قليلاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليمتنع عن سماع صوته ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرص على أن يسمعه القرآن وهو في حال القيام بين يدي الله ، وهل من فرق بين قراءة القرآن في الصلاة وخارجها .
الجواب نعم ، فالقراءة في الصلاة أكثر نفعاً وأجراً وهو من بركات الصلاة ، وأثرها على التالي وعلى المستمع والسامع.
فنفذت آيات القرآن إلى شغاف قلب الطفيل ، وأدرك أنه يسمع كلاماً حسناً ، ورآى أمراً مغايراً لما ادّعته قريش ، فحرص على عدم تفويت الفرصة ، وأراد الإستماع من النبي مثلما سمع من قريش ، حتى إذا رآه قد خرج من المسجد الحرام ، تبعه الطفيل ورآه يدخل بيته ، فاستأذن ودخل عليه.
فأخبر الطفيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما قالته قريش من الإفتراء عليه ، وإنكار نبوته ، والتحذير من الإنصات له ولآيات التنزيل والتي تتضمن التكاليف والوعد والوعيد ، ثم قال الطفيل : يا محمد أعرض علي أمرك والدين الذي جئت به .
حينئذ أخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن ملكاً من عند الله يأتيه بالوحي وأن القرآن يشهد لنفسه بالحجة ، ثم تلا عليه آيات منه ، ودعاه إلى الإسلام والنطق بالشهادتين.
فاسلم وخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة ، فحينما دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى البيت قال : يا محمد ، أما حينما أسلم فاختلف الخطاب .
إذ يروي الطفيل (فقلت: يا نبي اللهّ إني امرؤ مطاع في قومي، وإني راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام، فادع اللّه أن يكون لي عوناً عليهم، فقال : اللهم اجعل له آية .
فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر وقع نور بين عيني مثل المصباح .
فقلت : اللهم في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنوا بي مُثْلًةَ وقعتَ في وجهي لفراق دينهم، فتحول النور فوقع في رأس سوطي، فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق)( ).
ودوس قبيلة عربية وهي بطن من شنوءة من الأزد القحطانية.
وحينما وصل الطفيل إلى قومه جاءه أبوه فرحاً بقدومه سالماً وهو شيخ كبير ، فقال له الطفيل : إليك عني .
قال : ولم يا بني ، قال : لقد اسلمت واتبعت دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان أبوه يعرف رجاحة عقله ، وحسن إختياره فقال (أَيْ بُنَيّ فَدِينِي دِينُك ، قَالَ : قَالَ فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ وَطَهّرَ ثِيَابَهُ . قَالَ ثُمّ جَاءَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ)( ).
ثم جاءت زوجته فقال لها : إليك عني ، فقد فرق الإسلام بيني وبينك ، واتبعت دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
مما يدل على أن المسلمين قبل الهجرة يدركون التفريق بين الزوجين بسبب التباين بين ملة الإسلام وعبادة الأوثان .
والمختار جواز زواج الكتابية( ).
فقالت : فديني دينك ، فقلت اذهبي فتطهري من حمى الصنم ذي الشرى والميل إليه للتضاد بين الإيمان والشرك .
ليبين الطفيل للناس أن الله عز وجل بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للقضاء على عبادة الأوثان ، ولتوجد أمة مؤمنة تتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وخارج مكة .
ثم صار الطفيل يدعو قومه وهم قبيلة دوس إلى الإسلام فتباطأوا عليه ، فجاء الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يزال في مكة قبل الهجرة فاخبره ، يقول الطفيل .
(فقلت: يا رسول الله، إنه قد غلبني على دوس الزنا، فادع الله عليهم ، قال : اللهم اهد دوسا، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم)( ).
فرجع الطفيل إلى قومه ، وصار يدعوهم بالحجة والبرهان وبرفق .
وحينما تم فتح مكة بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السرايا ليس لحمل الناس على دخول الإسلام ، ولكن لكسر وتهشيم الأصنام فبعث الطفيل بن عمرو الدوسي إلى صنم ذي الكفين وأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يندب رهطاً من قومه لإعانته في تهشيم الصنم ، فخرج الطفيل مسرعاً ، وندب جماعة من قومه معه ، بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقام بهدم ذي الكفين ، وجعل يحشي النار في وجهه ويحرقه وهو يقول :
(يا ذا الكفين لست من عباد كا
ميلادنا أقدم من ميلاد كا
أنا حششت النار في فؤادكا)( ).
ثم انحدر ومعه أربعمائة من قومه متوجهين نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسرعين بعد واقعة حنين ، وبعد أن وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى الطائف بأربعة أيام (وقدم بدابة ومنجنيق وقال يا معشر الازد من يحمل رايتكم فقال الطفيل: من كان يحملها في الجاهلية قالوا النعمان بن الرازية اللهيى قال أصبتم)( ).
واستشهد الطفيل في اليمامة في السنة الحادية عشرة للهجرة في حروب الردة في قتال المسلمين لمسيلمة الكذاب .
لقد جمع مسيلمة لهذه المعركة من قومه أربعين ألفاً حضروا حمية وعصبية وكثير منهم كان يقول : محمد رسول الله ، ومسيلمة كذاب، وكان القتال شديداً ، وكاد المسلمون أن ينهزموا لولا النداءات التي صدرت من بعض كبار الصحابة ، وثباتهم في الميدان.
ونادى أبو حذيفة (يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالأفعال، وحمل فأنفذهم حينئذ وقتل)( ).
وكان مع الطفيل ابنه عمرو الذي قطعت يده في ذات المعركة.
قال الطفيل (حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضت بدر وأحد والخندق، ثم قدمت بمن أسلم من قومي ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً من دوس، ولحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فأسهم لنا مع المسلمين، وقلنا: يا رسول اللّه اجعلنا في ميمنتك، واجعل شعارنا مبرور، ففعل)( ).
آخر الكتاب
وفي ختام هذا الجزء وهو الواحد والعشرون بعد المائتين من تفسيري للقرآن أذكر ما ورد من الدعاء في ختم القرآن ، إذ ورد عن أبي جعفر الباقر عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام (يذكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا ختم القرآن حمد الله بمحامده وهو قائم ، ثم يقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ]( )، [لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ]( )، وكذب العادلون بالله ، وضلوا ضلالاً بعيداً ، لا إله إلا الله ، وكذب المشركون بالله من العرب والمجوس واليهود والنصارى والصابئين ومن دعا لله ولداً أو صاحبة أو نداً أو شبيهاً أو مثلاً أو سمياً أو عدلاً ، فأنت ربنا أعظم من أن تتخذ شريكاً فيما خلقت.
والحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً [وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا]( )، الله الله الله أكبر كبيراً [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا * فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا * إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا * أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاَءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا]( ).
[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ]( )، [الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( )، [الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ]( )، بل الله خير وأبقى وأحكم وأكرم وأعظم مما يشركون ، فـ[الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
صدق الله وبلغت رسله ، وأنا على ذلك من الشاهدين.
اللهم صلّ على جميع الملائكة والمرسلين وارحم عبادك المؤمنين من أهل السموات والأرضين .
واختم لنا بخير ، وافتح لنا بخير ، وبارك لنا في القرآن العظيم ، وانفعنا بالآيات والذكر الحكيم [رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
وأخرج ابن الضريس عن عبد الله بن مسعود قال : من ختم القرآن فله دعوة مستجابة .
وأخرج ابن مردويه عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال : جميع سور القرآن مائة وثلاث عشرة سورة المكية خمس وثمانون سورة ، والمدنية ثماني وعشرون سورة .
وجميع آي القرآن ستة آلاف آية وست عشرة آية .
وجميع حروف القرآن ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألف حرف وستمائة حرف وأحد وسبعون حرفاً)( ).