المقدمــــــة
الحمد لله على توالي النعم ، وكل نعمة درع سابغة ، ومدد في أمور الدين والدنيا ، وناطقة بقانون وهو لا يقدر عليها إلا الله ، من جهات :
الأولى : ماهية النعمة .
الثانية : منافع النعمة .
الثالثة : النعمة الشخصية والعامة .
الرابعة : الكم والمقدار للنعمة .
الخامسة : أوان نزول النعمة الأحسن .
السادسة : اللطف الإلهي بهداية العبد للإنتفاع من النعمة .
السابعة : تجدد أفراد النعمة .
الثامنة : تجلي معاني الربوبية المطلقة في كل نعمة من عند الله ، قال تعالى [قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ]( ).
التاسعة : الوقاية من الموانع ، وإزالة الطارئ منها وهو من عمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، وهل الحسد وأذى العاين من هذا الموانع ، الجواب نعم ، لذا يستحب الدعاء للفوز بالنعمة من وجوه :
الأول : إبتداء النعمة.
الثاني : الإنتفاع الأمثل من النعمة .
الثالث : تعدد النعم الظاهرة والباطنة .
الرابع : مجئ النعم على نحو دفعي وتدريجي ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
العاشرة : مضاعفة الله عز وجل النعم على العبد ، وهذه المضاعفة من جهات :
الأولى : استدامة النعمة ومجئ أخرى معها .
الثانية : النماء والبركة في ذات النعمة .
الثالثة : الزيادة في الكم والكيف والعدد في النعم ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
وهل تنحصر زيادة النعم بالشكر لله عز وجل ، الجواب لا ، لسعة رحمته سبحانه ولأن الدنيا دار امتحان واختبار ولأن اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره.
ويدرك العبد هذا التجلي بأدنى تدبر أو تفكر ، وقد لا تصل النوبة إلى هذا التفكر ، إذ أن الحاجة تلحّ على الإنسان لإدراك كل من :
الأول : قانون الحاجة إلى النعمة وتجددها من عند الله .
الثاني : قانون دلالة النعمة على الربوبية المطلقة لله عز وجل .
الثالث : قانون دعوة النعمة الناس للإقرار بالعبودية لله عز وجل.
الرابع : كل نعمة من عند الله سدّ منيع من الإرهاب ، إذ أنها تمنع صاحب النعمة وغيره عن الظلم والتعدي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، في احتجاج الله عز وجل على الملائكة ولطفه تعالى في بيان أهلية الإنسان للخلافة في الأرض بأن من علم الله تعالى أنه يغدق بالنعم على الناس فتكون كل نعمة واقية من الفساد ، وسبباً للإنصراف عن القتل وعن التنافس والنزاع المسلح لتحقيق المكاسب ، قال تعالى [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ]( ).
الخامس : كل نعمة تثبيت لمعالم الإيمان في الأرض .
و(عن عبد الله بن عمرو يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء ، الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله ومن قطعها قطعه)( ).
وقد تقدم قانون وهو الملازمة بين الإيمان والصبر ، وليس من فراق أو بينونة بينهما في النهار أو الليل ، وفي الحضر والسفر والسوق والمسجد والبيت.
ويمكن إستقراء قانون من صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وهو أن ذات الصبر دعوة للناس لدخول الإسلام بلحاظ أن الصبر أسمى معاني الخلق الكريم( ).
لقد أراد الله عز وجل سيادة الرحمة والأخلاق الحميدة في الصلات الخاصة والعامة ، وداخل البيوت ، وفي الأسواق والمساجد.
وعنوان هذا الجزء وهو الرابع والعشرون بعد المائتين هو (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب) ويتضمن الإخبار عن كون القرآن أمراً وجودياً فاعلاً وحاضراً ويدحض ضده ، وما فيه الضرر الخاص والعام .
وقد صدر جزءان أيضاً بهذا الخصوص وهما :
الأول : الجزء الثاني والعشرون بعد المائتين وحرر بتأريخ (10 ذي القعدة 1442 / الموافق 20 حزيران 2021) ومدة تأليفه وتصحيحه ومراجعته عشرون يوماً بلحاظ تأريخ الجزء السابق له والحمد لله.
الثاني : الجزء الثالث والعشرون بعد المائتين وتم تأليفه بثمانية عشر يوماً وصدر في يوم الجمعة 28 ذي القعدة 1442 الموافق /9/7/2021 ،بلحاظ المدة الزمنية المحصورة بين تحرير الجزء أعلاه وبين تحرير هذا الجزء والذي أختتمت مقدمته وفي الصفحة 14 منه بـ(الحمد لله الذي جعل كل جزء من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) فرائد وقلائد بإشراقة وافية) وفي التنزيل [الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا]( ).
علماً بأني وبفضل الله أقوم بالتأليف والمراجعة والتصحيح بمفردي سواء لكتبي في التفسير أو الفقه أو الأصول [وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
الحمد لله الوهاب الذي تجد هباته في كل مكان ، ويهب للناس والخلائق كلها صنوف المنح مما يزيد على حاجتها .
ومن فضل الله إقتران هباته باللطف والرحمة والرأفة ، وفيه موعظة للمؤمنين بالإنزجار عن الإرهاب .
الحمد لله عز وجل على عطاياه التي لا تنقطع ، وفضله الواسع على الناس جميعاً على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم .
وهل من هبات الله عز وجل الأمن للخائف ، وصرف شرور الإرهاب ، الجواب نعم ، وفيه إنذار لمن يريد أن يشيع فلسفة العنف والإرهاب ، ولا يقدر على هذا الأمن إلا الله عز وجل ، وليس من حصر لكيفيته وحضوره ومادته ووسائطه ، قال تعالى [وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا]( ).
وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام ما يدل على الصبر عند الفتن وعدم الرد بما فيه التأجيج والحمية ونحوها ، إذ قال لقيس بن سعد والي مصر عندما قدم عليه (يا قيس إن للمحن غايات لابد أن تنتهي إليها فيجب على العاقل أن ينام لها إلى إدبارها، فإن مكابدتها بالحيلة عند إقبالها زيادة فيها) ( ) .
ومن الإرهاب ما لم يكن ظاهراً للعيان ، ومنه التهديد الخفي ، واستصحاب الناس لتجدد فعل إرهابي وما يسببه من الإحباط والكآبة ، أو الفعل والإرهاب المضاد .
ومن الإعجاز في أحكام الشريعة الإسلامية وجوب قراءة كل مسلم ومسلمة سورة الفاتحة في الصلاة اليومية ، وهذه السورة مدرسة في المعارف الإلهية ، وفيها القوانين العقائدية والأخلاقية والإجتماعية التي تساهم في تنزيه المجتمعات عن الإرهاب.
وإذ جاء هذا الجزء بعنوان (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب) فان سورة الفاتحة وحدها سلاح ضد الإرهاب ، تحاربه وتطرده من النفوس ، وتمنع الجوارح منه ، وليس من سلاح ينفذ إلى شغاف القلوب ، ويأمر وينهى الجوارح إلا آيات القرآن ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل كل مسلم ومسلمة يتلو سورة الفاتحة سبع عشرة مرة في اليوم ، وكل واحدة منها دفع متجدد ، وطرد متعدد للإرهاب ، وهذا التعدد من جهات :
الأولى : قانون تلاوة القرآن على نحو الوجوب إرشاد وهداية لإجتناب الإرهاب .
الثانية : قانون كل آية من سورة الفاتحة باعث للنفرة في النفوس من الإرهاب .
الثالثة : صلاة الجماعة وقراءة القرآن فيها أمان من الإرهاب وانصراف عنه.
و(عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : صلاة الرجل في الجماعة تُضَعَّف على صلاته في بيته وفي سوقه، خمسًا وعشرين ضعفًا. وذلك أنه إذا توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يَخطُ خَطوة إلا رُفع له بها درجة، وحطّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مُصَلاه : اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة)( ).
ومن خصائص الأحاديث النبوية بعثها الشباب المسلم لجني الصالحات من أداء العبادات والفرائض لتدل في مفهومها على إجتناب العنف والإرهاب وعلى لزوم حفظ النفس وحرمة الإنتحار واسالة الدماء ، وإزهاق الأرواح ، لأن استدامة أيام العبد في الحياة الدنيا مناسبة متجددة لإكتناز الحسنات مما يلزم الرأفة العامة بالناس وصيانة النفس عن المخاطر والمهالك.
الرابعة : من خصائص تلاوة القرآن أنها تبعث على التدبر والتفكر في معاني الآيات ولو على نحو الموجبة الجزئية .
الخامسة : تصارع سورة الفاتحة الإرهاب في ذات النفس الإنسانية ، وفي الواقع العملي ، وتظهر منافعها في إختيار الذِكر والإحتجاج والصبر ، وحبس الجوارح عن الأذى ، والإضرار بالغير.
لقد أنزل الله عز وجل آيات القرآن لتبقى درعاً وسيفاً يبعث الطيب والعطر والريحان ، وينبئ عن قانون وهو براءة الإسلام من الإرهاب .
واستقراء حرمة الإرهاب من القرآن توليدي تتفرع عنه مسائل وقوانين وقواعد منها حرمة الإرهاب سواء بخصوص السور المكية أو المدنية ، فان قلت تتصف السور المكية بالقصر وقلة الكلمات ، وكثير من آياتها يتعلق بالإنذار إلى الذين كفروا.
الجواب إن لغة الإنذار في آيات القرآن عامة ، ما دام القرآن ينذر الذين كفروا فان الإرهاب أمر لا أصل ولا نفع له ، إذ يقوم القرآن بهداية الناس باللطف والتقريب الى منازل التوبة ومقامات الإيمان ، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ]( ).
الحمد لله الذي جعل ضياء القرآن يشع على القلوب ، قلوب الأغنياء والفقراء والوجهاء والعامة ، والرؤساء والأتباع في معجزة تأريخية خالدة متجددة في كل زمان إلى يوم القيامة .
الحمد لله الذي جعل كل مسلم ومسلمة يتلو قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : النطق بالحمد مع التسليم بأنه سبحانه ربّ الخلائق كلها.
وهل فيه دعوة للملائكة ونحوها بالدعاء للمسلم لإقراره بأن الله ربه وربهم جميعاً ، الجواب نعم ، لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين ، وترتب الثواب على ذات الإمتثال ، وعلى ما يترشح عنه من النفع الذي يأتي من الغير .
الثانية : الإتيان بالحمد لله بعد البسملة وذكر الأسماء الحسنى : اسم الجلالة ، الرحمن ، الرحيم ، وكأنه من المقدمة والتهيئة للحمد والثناء على الله ، وبيان عظمة ونعمة الحمد لله .
الثالثة : الإتيان بالحمد لله في حال الخشوع والخضوع لله عز وجل ، والوقوف بين يديه في الصلاة.
الرابعة : صفة القرآنية عند القراءة ، وفيه أجر إضافي ، وهو مناسبة للقرب إلى الله عز وجل بتلاوة كلامه تعالى بالحمد والثناء عليه .
الحمد لله الذي قهر كل شئ بقوته ، وجعل عظيم قدرته سبيلاً للرحمة العامة بالخلائق ، وهل خصّ الناس بافراد مستقلة من هذه الرحمة ، الجواب نعم ، فمن بديع صنع الله عز وجل أن لكل مخلوق أفراداً خاصة من الرحمة لم تكن لغيره ، وقد خصّ الناس بالرحمة الدفعية والمتوالية ، فتأتي أفراد من الرحمة للإنسان مرة واحدة ، وتأتيه أفراداً أخرى على نحو التوالي والتعاقب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وقد يتفق مجئ أفراد منها مع الرحمة الدفعية كرماً ولطفاً من عند الله ، وحجة على العباد .
ولتكون دعوة للناس عامة والمؤمنين خاصة للعصمة من الظلم ، ومن إخافة الناس لأنه هذه الإخافة ضد للرحمة العامة والخاصة التي تفضل ويتفضل بها الله عز وجل على الناس .
ومن خصائص الجنس البشري توالي الرحمة عليهم في الآخرة ،وهو أشد حاجة حينئذ لأي فرد من الرحمة ، وليس من راحم يوم القيامة إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ).
فان قلت الشفاعة يوم القيامة رحمة من الشافع للمشفع له ، وهذا صحيح ولكن لا تتم الشفاعة إلا برحمة وإذن من الله عز وجل ، قال تعالى [وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى..]( ) وقال تعالى [لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا..]( ) لتكون الحياة الدنيا مناسبة لأمور تتعلق بالشفاعة منها :
الأول : التحلي بالتقوى وعمل الصالحات ، لتكون مادة وتاهيلاً وإصلاحاً للشفاعة .
الثاني : التنزه عن فعل القبيح والسوء ، وما يكون من أسباب حجب الشفاعة ، ومنه الإرهاب وتخويف الناس .
الثالث : الدعاء في الدنيا بسؤال الشفاعة في الآخرة .
الرابع : الإكثار من تلاوة القرآن ، والعمل بأحكامه ، ليكون شفيعاً لنا يوم القيامة .
وهل يشفع القرآن ليكون المؤمن شافعاً لغيره أم أن القدر المتيقن هو شفاعة القرآن للمؤمن ، المختار هو الأول ، وهو من فضل الله إذ يحضر القرآن يوم القيامة وله لسان .
الحمد لله الذي أنعم عليّ بصدور هذا الجزء وهو الثالث في قانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب ) في آية عقائدية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً ، ومن فضل الله عز وجل أني أقوم بالتأليف والمراجعة والتصحيح بلطف وعون وتيسير من عند الله عز وجل.
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار التخفيف ، ونزل القرآن مرآة ووثيقة سماوية في هذا التخفيف ، ومنه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
و(عن ابن عباس عند تفسير هذه الآية : يقول تعالى: إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال والحرام فلا يضره من ضل بعده، إذا عمل بما أمرته به)( ).
وعن عبد الله بن مسعود في الآية أعلاه قال (ليس هذا بزمانها قولوها ما قبلت منكم فإذا رُدت عليكم فعليكم أنفسكم)( ).
وقال مقاتل بن حيان في الآية (أي: فيجازي كل عامل بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر)( ).
وفي هذه الآية وتأويلها شاهد على حرمة الإرهاب وإخافة الناس ، وبث الرعب بينهم ، إنما على المسلم التحلي بتقوى الله.
ويحرم كل من :
الأول : التخطيط والتدبير للعمل الإرهابي .
الثاني : تمويل العمل الإرهابي والإنفاق عليه .
الثالث : تهيئة مقدمات العمل الإرهابي .
الرابع : إرتكاب الفعل الإرهابي.
ومن خصائص القرآن أنه يمنع من الخطاب الديني المتشدد ويهدم مفاهيم الفكر المتطرف مع محافظته على سنن الإيمان ، وقوانين التوحيد والنبوة ، والحلال والحرام .
ويتضمن هذا السِفر المبارك قانون براءة الإسلام من الإرهاب ، وهو حجة على الذين يؤاخذون القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قيام بعض الأفراد بالإرهاب ، وتلتقي في هذه الحجة كل من :
أولاً : عشرة أجزاء من هذا التفسير بقانون (التضاد بين القرآن والإرهاب ) وهي (179-180-183-191-194-195-198-206-207-216).
ثانياً : أربعة وعشرون جزءً خاصة بقانون (لم يغز النبي (ص) أحداً ) وهذه الأجزاء هي ( 159-160-161-163-164-165-166-167-169-171-172-173-175-176-177-178-182-185-188-192-200-208-212-218).
ثالثاً : ثلاثة أجزاء بقانون (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب).
(وأخرج أحمد عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ، ولا يدخل الجنة حتى يأمن جاره بوائقه) ( ).
والبوائق جمع بائقة وهي الداهية (وباق : جاء بالشر والخصومات) ( ) والنسبة بين البائقة والإرهاب هي العموم والخصوص المطلق ، ولابد أن يأمن الجيران والمواطنون كافة من المسلم على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ، وسوط الإرهاب سبب للخوف والفزع العام ، يحرص عامة المسلمين وفق عقيدتهم على الإبتعاد عنه .
وفي حديث إسناد الأئمة عليهم السلام ورد عن الإمام الرضا عليه السلام إنه قال (حدّثنا أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن عليّ عن أبيه عليّ بن الحسين عن أبيه الحسين بن عليّ عن أبيه عليّ بن أبي طالب عليهم السلام قال : قال رسول الله : عليكم بحسن الخُلق فإنّ حُسن الخُلق في الجنّة لا محالة) ( ) .
ومن معاني السماحة في الشرائع السماوية حضور التخفيف عن المسلمين في باب العبادات والمعاملات .
(عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما لا يحب أن تؤتى معصيته) ( ).
وعن (ابن عمر . أن رجلاً قال له : إني أقوى على الصيام في السفر ، فقال ابن عمر : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الاثم مثل جبال عرفة) ( ).
ومن خصائص التنزيل تعدد قوانين وقواعد التخفيف عن المسلمين والناس سواء في الواجبات أو المحرمات ، ومن التخفيف الإعانة في أمور الدين والدنيا ، وإقالة العثرة ومنه حرمة الإرهاب والتفجيرات.
وسيأتي في هذا الجزء بحث أصولي بعنوان : قاعدة لا ضرر ولا ضرار زاجر عن الإرهاب لبيان عصمة الشريعة الدائمة والمستديمة من الضرر بالذات والإضرار بالغير ، وقد جعل الله عز وجل البدل والعوض من فضله تعالى بصرف وتشتيت الضرر القادم من الكفار ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
ومن شرائط الإيمان الصبر سواء في أداء العبادات أو الصبر عن المعاصي أو الصبر بتحمل الأذى ، ومن بديع صنع الله بالمؤمنين أنه مع الصبر وإجتناب الإرهاب ، ورد الأذى بمثله تتكشف حقائق ، وتتجلى منافع الصبر ، لقانون الصبر خير محض، أما الإرهاب فليس فيه إلا الشر والضرر ذاتاً وعاقبة ، قال تعالى [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]( ).
والصبر عمل وأمر وجودي ، وباب للأجر والثواب (عن سهل بن سعد الساعدي . أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لله عليه وآله وسلم قال لعبد الله بن عباس : ألا أعلمك كلمات تنتفع بهن.
قال : بلى يا رسول الله .
قال : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، جف القلم بما هو كائن ، فلو جهد العباد أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه.
ولو جهد العباد أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه ، فإن استطعت أن تعمل لله بصدق في اليقين فافعل ، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً) ( ).
الحمد لله الفتاح الذي أنعم عليّ بإكمال تأليف ومراجعة وتصحيح الجزء (224) من التفسير بمفردي ، وهو بعنوان (النزاعُ المسلحُ بين القرآن والإرهاب) وهو عروس من عرائس التأريخ وأريج زهور القلوب بنفحات عبير ، ونسائم سلام وأمن ، وروضة ربيع لمناسبة عيد الغدير .
ونسأل الله عز وجل طبعه وترجمته ، قال تعالى [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
وينهى القرآن عن الإرهاب الفكري والترويع للقريب أو البعيد ، والبغي في الأرض ، ويتجلى هذا النهي بمجئ القرآن بالأمر بالصالحات , وبأحسن القصص وضرب الأمثال والتربية السليمة ، والترغيب بالثواب على نشر الأمن , والنهي عن المنكرات , وبالتذكير بعالم الحساب والجزاء ، والتهيء والإستعداد اليومي له بالتقيد بسنن التقوى والتنزه عن التعدي , قال تعالى [وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ] ( ).
حرر 17 ذي الحجة 1442
28/7/2021
قاعدة بيانات (تواريخ صدور الأجزاء الأخيرة)
سألني بعض الأساتذة عن الوقت الذي استغرقه تأليف الجزء الأخير من هذا السِفر وهو الثالث والعشرون بعد المائتين فاجبته (18) يوماً مع أني أقوم بالتأليف والمراجعة والتصحيح بمفردي والحمد لله ، وهذا التأريخ ظاهر بلحاظ الجمع والتفريق ين ضبط تأريخ كل جزء في آخر مقدمته بقولي حرر في…
ولبيان فضل الله علينا وعليكم والشكر له سبحانه وللتوثيق ، أذكر هنا تواريخ ومدة تأليف كل جزء إبتداء من الجزء (201) من هذا التفسير ولغاية هذا الجزء الذي بين أيديكم .
الجزء (205) حرر في 26 شوال 1441 الموافق 18/6/2020 ، كما مبين في مقدمته , ومدة تأليفه (18) يوماً ، وهو بعنوان (آيات الدفاع سلام دائم).
الجزء (206) حرر في اليوم السابع عشر من شهر ذي القعدة سنة 1441 هجرية الموافق 9/7/2020 ، ومدة تأليفه (21) يوماً ، وهو بعنوان (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
الجزء (207) حرر في يوم التروية 1441 الموافق 29/7/2020 ، ومدة تأليفه (20) يوماً ، وهو بعنوان (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
الجزء (208) حرر في 24 ذي الحجة 1441هـ الموافق 14/8/2020 ، ومدة تأليفه (16 يوماً) ، وهو بعنوان (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
الجزء (209) حرر في الحادي عشر من شهر محرم الحرام 1442 الموافق 31/8/2020 ، ومدة تأليفه (17) يوماً ، وهو خاص بتفسير (الآية 185 من آل عمران).
الجزء (210) حرر في التاسع والعشرين من شهر محرم الحرام 1442هـ الموافق 18/9/2020، ومدة تأليفه (18) يوماً وهو بعنوان (التضاد بين القرآن والإرهاب).
الجزء (207) حرر في التاسع والعشرين من شهر صفر الخير 1442هـ الموافق 17/10/2020 ، ومدة تأليفه (29) يوماً ، وهو بعنوان (التضاد بين القرآن والإرهاب).
الجزء (211) حرر في الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول1442هـ الموافق 10/11/2020 ، ومدة تأليفه (23) يوماً ، وهو بعنوان (لم يغزُ النبي أحداَ).
الجزء (212) حرر في الثامن عشر من شهر ربيع الآخر 1442 الموافق 4/12/2020 ، ومدة تأليفه (26) يوماً ، وهو خاص بتفسير (الآية 186 من آل عمران).
الجزء (213) حرر في الحادي عشر من شهر جمادي الأولى 1442 الموافق 26/12/2020 ، ومدة تأليفه (26) يوماً ، وهو بعنوان (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
الجزء (214) حرر في الثلاثين من شهر جمادى الأولى 1442 الموافق 14/1/2021 ، ومدة تأليفه (19) يوماً ، وهو بعنوان (آيات السلم محكمة غير منسوخة).
الجزء (215) حرر في 29جمادى الآخرة 1442 الموافق 12/2/2021 ، ومدة تأليفه (29) يوماً ، وهو بعنوان (لم يغزُ النبي أحداَ).
الجزء (216) حرر في 10 رجب 1442 الموافق 12/3/2021 ، ومدة تأليفه (10) أيام ، وهو بعنوان (احصاء وتوثيق قوانين الأجزاء).
الجزء (217) حرر في 29 رجب 1442 الموافق 23/2/2021 ، ومدة تأليفه (19) يوماً ، وهو بعنوان (آيات الدفاع سلام دائم).
الجزء (218) حرر في 21 شعبان 1442 الموافق 4/4/2021، ومدة تأليفه (21) يوماً ، وهو بعنوان (آيات الدفاع سلام دائم).
الجزء (219) حرر في الخامس عشر من شهر رمضان 1442 الموافق 28/4/2021 ، ومدة تأليفه (20) يوماً ، وهو بعنوان (التضاد بين القرآن والإرهاب).
الجزء (220) حرر في 5 شوال 1442 الموافق 17/5/2021، ومدة تأليفه (19) يوماً ، وهو خاص بتفسير (الآية 187 من آل عمران).
الجزء (221) حرر في 23 شوال 1442 الموافق 4/6/2021 ، ومدة تأليفه (18) يوماً ، وهو بعنوان (لم يغزُ النبي أحداَ).
الجزء (222) حرر في 10 ذي القعدة 1442 الموافق 20 حزيران 2021 ، ومدة تأليفه (عشرة أيام) وهو بعنوان (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب).
الجزء (223) حرر في 28 ذي القعدة 1442 الموافق 9/7/2021 ، ومدة تأليفه (19) يوماً ، وهو بعنوان (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب).
الجزء (224) هو الجزء الذي بين أيديكم وحرر في 17 ذي الحجة 1442 الموافق 28/7/2021 ومدة التأليف والمراجعة والتصحيح هي (19) يوماً وهو بعنوان (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب) والحمد لله .
مسائل:
الأولى : مدة تأليف ومراجعة وتصحيح(22) جزء من هذا السِفر المبارك سنة وعشرة أيام في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
الثانية : أقوم بالتأليف والمراجعة والتصحيح لكتبي الفقهية والأصـولية والكلامية وتفسـيري للقـرآن بمفـردي بفـيض مـن الله عـز وجل.
الثالثة : هذه الأجزاء علوم مستحدثة ومسائل مستقرأة من المضامين القدسية لذات آيات القرآن.
الرابعة : في هذه الأجزاء وحدها نحو ثلاثة آلاف قانون مستنبط من آيات القرآن .
قانون التضاد بين الفطرة والإرهاب
الفطرة لغة : الإنشاء والإختراع والخلق .
وفي الإصطلاح هي الجبلة والسنخية التي خلق الله عز وجل عليها الناس ، قال تعالى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
فهي من ذات الإنسان ، وقوة كامنة في نفسه ،وتنعكس على جوارحه ، وهي واقية ، وتؤثر ، وتتأثر ، ويكون تعاهدها عند الذات والغير بأمور :
الأول : تلاوة التنزيل .
الثاني : اكتساب المعارف .
الثالث : العلوم الشرعية .
الرابع : التربية الحسنة .
الخامس : بيئة التقوى والصلاح بالمباشرة .
السادس : وسائل الإعلام الصالحة ، المرئية أو المسموعة.
السابع : الوقاية من إغواء الشيطان ، وغلبة الهوى .
الثامن : الإحتراز من أسباب الضلالة والتظليل المباشر أو بواسطة .
ترى ما هي النسبة بين نفخ الروح من عند الله في آدم ، بقوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، وبين الفطرة ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق .
فالفطرة فرع هذا هذا النفخ المبارك لذا فهي على وجوه :
الأول : الفطرة نعمة وخير محض .
الثاني : من معاني الفطرة ملكة الإستعداد لقبول عقيدة التوحيد ، وشواهد التنزيل والنبوة ، وفصل وتمييز الحق عن الباطل .
الثالث : الفطرة واعز ذاتي للإقرار بأن الإسلام هو الملة والدين إذ أن عقيدة الأنبياء والمؤمنين من أيام ابينا آدم هو الإسلام والإنقياد إلى الله عز وجل ، قال تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
الرابع : الفطرة باعث لأداء الفرائض والعبادات ، وفيها تنمية لملكة الحرص على أدائها ، ومن معاني هذه الملكة بذل الوسع لأزالة الموانع التي تحول دون هذا الأداء .
الخامس : مجاهدة النفس للغفلة ، وآفة نسيان الواجبات .
السادس : الفطرة الإنسانية حرز من الإرهاب من جهات :
الأولى : عزوف النفس من الإرهاب .
الثانية : التقاء الناس مع إختلاف مشاربهم ومذاهبهم على بغض الإرهاب .
الثالثة : من معاني الفطرة هي الجبلة على الإيمان ، وتتنافى مزاولة الإرهاب ومقدماته مع الإيمان إذ أن الفطرة كيفية نفسانية ركبها الله عز وجل عند كل إنسان لتقريبه إلى منازل الإيمان ، والبر، والإحسان ، وصرفه عن الكفر ، والشرك ، والتعدي .
وهل تخاطب آيات القرآن فطرة الإنسان ، الجواب نعم ، ومنها صيغ الإستفهام التقريري والإستفهام الإنكاري بما يثبت التوحيد ، ويدعو للهداية ، ويدفع آفة الظلم عن المجتمع ليدرك الناس قبحه وضرره العام والخاص .
ومن أصل خمس عشرة مرة ورد فيها لفظ [لَيَقُولَنَّ] في القرآن وردت ثلاث منها في أربع آيات متعاقبات لبيان إقامة الحجة على الذين كفروا [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ * وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ]( ).
وقيل خلق الله عز وجل النفس البشرية وهي مجبولة على المعصية ولا أصل لهذا القول ، وهو مناف لآيات الفطرة وسجية وطينة الصلاح التي خلق الله عز وجل الإنسان بها ولها ، وابتداء عمارة الأرض بشخص النبي آدم عليه السلام ، وزوجه التي سكنت معه في الجنة برهة من الزمن .
لقد أحب الله عز وجل الإنسان ومن حبه له إتخاذه [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فلابد من الشكر العام من الناس لله عز وجل ويتجلى هذا الشكر بالتقوى وتعاهد سنن السلام في الأرض ، والنسبة بينها وبين سنن الإسلام العموم والخصوص المطلق .
وبعث الله عز وجل النبي محمداً بما يلائم ما جبلت عليه النفوس من الميل إلى السلم وحب الخير ، ويتعارض الإرهاب مع حب الخير الذي أراد الله عز وجل له البقاء في الأرض.
قانون التحية والسلام مقدمة لدفع الإرهاب
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] ( ) وقد تفضل الله عز وجل وجعل اسم دين الإسلام مشتقاً من السلام لبيان أنه دين الرحمة والرأفة إلى يوم القيامة ، وأن المسلم يؤجر على إسلامه وعلى إفشائه السلام ، ونشره الأمن والسلام .
ولم ينحصر السلام بذات اللفظ بل وردت معه صيغة النداء للمخاطب بالقول (السلام عليكم ) .
وأول من بدأ السلام من الناس هو آدم عليه السلام ، إذ علّمه الله كيفية السلام على الملائكة .
ليكون السلام عنوان المودة بين الناس ، وهو سبب لنزع الغل والحقد ، ومانع من غلبة النفس الغضبية .
وجاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بافشاء السلام وبيان عظيم ثوابه ، والنهي عن الإمتناع عنه .
وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أبْخَلُ النَّاسِ الَّذِي يَبْخَلُ بِالسَّلامِ) ( ).
لبيان الحاجة إلى السلام في العصمة من الضغائن والأحقاد ، والإبتداء بالسلام أمر حسن وبهيج وافتتاح لصلات بالمودة ، وهذا الإبتداء فرع الإبتداء بالبسملة في أول السور ، وقد أمر الله عز وجل بوجوب رد السلام والتحية بمثلها أو أحسن منها ، ليكون كل من السلام ورده صارفاً للإرهاب ومقدماته ، وقد يخشى الإنسان الغائلة فيلجأ إلى السلام لبيان قانون وهو أن السلام مأوى وملجأ جعله الله عز وجل للخائف ، وهل يشفع السلام يوم القيامة لمن يفشيه خاصة وأنه تحية أهل الجنة ، المختار نعم ، وفي التنزيل [تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ]( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم ) ( ).
وبين التحاب والإرهاب تضاد ، ومن التحاب النهي عن الإرهاب ، والمنع من مقدماته .
و(عن عبد الله بن سلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : افشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)( ).
من أسماء الله عز وجل (السلام ) وقد ورد لفظ السلام في القرآن سبع مرات معرفاً بالألف واللام ، واحدة منها أخبرت عن هذا المعنى بقوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ]( )والله عز وجل هو السلام الباقي الدائم السالم من كل عيب أو نقص أو آفة .
والسلام اسم مصدر مثل كلام، والله عز وجل له الأسماء الحسنى ، والكمال المطلق، وكما أن افعاله حكيمة وسالمة من الظلم واللهو ، وكلامه سبحانه سلام ولطف رحمة ، وهو سبحانه وحده الذي له الكمالات المطلقة التي لا يبلغ إدراكها الإنسان حتى في التصور الذهني عن مشابهة صفات المخلوقين .
لقد أحاط الله بكل شئ علماً ، وجعل السلام عمارة للأرض ووسيلة لمغفرة الذنوب، وطريقاً إلى الأمن والسلام يوم القيامة ، سواء بذات السلام أو كونه مقدمة للصلاح ، وحاجزاً من التعدي.
ترى ما هي النسبة بين الرحمة والسلام ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالرحمة أعم، وهل ينقطع السلام بزوال الحياة الدنيا ، الجواب لا ، إذ أنه حاضر يوم القيامة في الصلة بين الملائكة وأهل الجنان ، ليكون من منافع إفشاء السلام في الدنيا تلقيه حال مغادرة الدنيا عند شدة الحاجة إليه ، وفي التنزيل [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ).
وأخبرت آيات القرآن عن كون الله عز وجل يدعو إلى دار السلام وهي الجنة ، وأن الله عز وجل يأمر باشاعة السلام بين الناس [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا..] ( ) وفيه دعوة للتوادد والرحمة بين الناس ونبذ الإرهاب .
كما ورد لفظ (سلام) في آيات عديدة أكثرها في التحية والسلام ، ومنها [سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ]( ) [سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ) [سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ]( ) (يعني آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ) ( ).
(وعن الإمام علي عليه السلام : يس محمد ونحن آل يس) ( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حالما يفرغ من صلاته يلجأ إلى الدعاء ويقول (اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام) ( ).
ولقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بتسمية دين الإسلام ، ليكون هذا الاسم ذخيرة مدخرة لشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أيام آدم عليه السلام ، وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين ، وليكون من البشارات ببعثته تسمية بعض الأنبياء السابقين بصفة الإسلام ، كما في إبراهيم عليه السلام ، قال تعالى [مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ) ومثله في يوسف عليه السلام .
ويحضر الإسلام يوم القيامة كعقيدة وشريعة وأحكام يسأل الله عز وجل السلامة والرحمة للمسلمين .
إذ ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (تجئ الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول : يا رب أنا الصلاة فيقول : إنك على خير ، وتجيء الصدقة فتقول : يا رب أنا الصدقة فيقول : إنك على خير ، ثم يجيء الصيام فيقول : أنا الصيام فيقول إنك على خير ، ثم تجيء الأعمال كل ذلك يقول الله : إنك على خير ، ثم يجيء الإسلام فيقول : يا رب أنت السلام ، وأنا الإسلام فيقول الله : إنك على خير .
بك اليوم آخذ ، وبك أعطي قال الله في كتابه { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } ( ))( ).
وهل تحضر يوم القيامة تحية السلام وقول السلام عليكم ، أو رد التحية (عليكم السلام ) .
الجواب نعم ، وفيه أجر وثواب لما فيه من نشر للأمن والمودة ونبذ للخصومة ، ومنع من العداوة ، وهل تحضر التحية مطلقاً ، الجواب نعم .
ومن إعجاز القرآن عدم إنحصار التحية بلفظ السلام ، إنما جاءت مطلقة ، قال تعالى [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا] ( ) وفي الآية أعلاه دعوة لنشر الأمن والسلام وحرمة الإرهاب .
والتحية : اسم جنس لبيان حسن المحيا واللقاء ، وهي كلمة إكرام ، ودعوة لإستدامة الحياة .
والنسبة بين التحية والسلام العموم والخصوص المطلق ، فكل سلام هو تحية وليس العكس .
والتحية سابقة للإسلام ، وهل هي من تركة الأنبياء ، أم أن الناس توصلوا إليها بالفطرة أو التجربة والوجدان ، الجواب هو الأول ، وفيها إزاحة للغل والكراهية ، وهي وسيلة للتعايش السلمي ونبذ الخصومة .
والتحية زاجر عن الإرهاب ، ومن أداب الإسلام تحمّل السلام كأمانة، وتبليغه للغير وعلى الذي تصله التحية والسلام الرد بالمثل أو الأحسن ، لتكون حرمة الإرهاب إبتداء واستدامة .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينشر ويفشي السلام .
(عن أبي أمامة بن سهل ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قال : السلام عليكم كتبت له عشر حسنات ، ومن قال : السلام عليكم ورحمة الله كتبت له عشرون حسنة ، ومن قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتبت له ثلاثون حسنة) ( ).
لقد أراد الله عز وجل للناس الأمن والسلام في الحياة الدنيا ، فأخبر سبحانه بأنه هو السلام ، وهو الذي أرسل الأنبياء لبسط السلم في الأرض، ومنع الظلم والجور والقتل .
ومن معاني السلام سؤال العافية والسلامة من الآفات ، وقد جعل الله عز وجل السلام خاتمة الصلاة ، وعنوان الخروج منها بالسلام ، وعن الإمام علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ) ( ) .
ولم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا إلا بعد أن جعل السلام إرثاً ، وصلة ود ولطف بين الناس ، وفي هذه التركة المباركة دعوة للمسلمين والناس جميعاً للتنزه عن الإرهاب ، ولإجتناب نشر الخوف والفزع بين الناس ، فهذا النشر ضد للسلام ، فلا يجتمع معه .
ويأبى الله عز وجل إلا بقاء السلام والتحية سائدة بين الناس ، فهي مطلوبة بذاتها وأثرها ونفعها .
والسلام تحية الملائكة ، وتحية أهل الجنان .
وهل في السلام ورده دعاء أم أن موضوعه يختلف عن الدعاء ، الجواب هو الأول ، ليكون من معاني السلام والتحية محاصرة الإرهاب ، وصيرورته خارج المعاملات والصلات بين الناس.
لقد جاءت النصوص باستحباب أداء التحية والسلام استحباباً مؤكداً ، ووجوب رد السلام وجوباً كفائياً ، لترغيب الناس بنزع الكدورة والبغضاء من النفوس بالسلام ورده ، ويمكن انشاء قانون من وجوه :
الأول : قانون السلام عنوان التراحم بين الناس .
الثاني : قانون السلام مانع من الإرهاب ، وصارف له .
الثالث : قانون السلام تأديب وإصلاح للسان والجوارح .
لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسلام وافشاء التحية للألفة بين المسلمين ، وبينهم وبين الناس جميعاً فلا يجتمع السلام والإرهاب ، وإفشاء السلام من الخلق الحميد ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
قانون آيات الصبر حصانة من الإرهاب
قال تعالى [وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ]( ).
لقد جعل الله عز وجل القرآن مدرسة الأجيال المتعاقبة ، ينهل منه الناس في مختلف شؤون الحياة من غير أن ينقص من خزائنه شئ ، بل تزداد درراً وجواهر ، وهو من معاني الإعجازالعقلي للقرآن ، ومنه آيات الصبر ، وهي مع كثرتها وتعدد موضوعاتها فان كل آية منها عصمة من الإرهاب ، تدفع وتصرف الناس عنه ، وتصرفه عنهم .
وهل تدفع الآية القرآنية ذات الإرهاب ، الجواب نعم بفضل من عند الله ، ويدل عليه قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ) إذ أمر الله عز وجل السوء بالإبتعاد عن يوسف والفتنة عن الوصول إليه ، وبين السوء والإفتتان بامرأة العزيز عموم وخصوص مطلق ، فهذا الصرف بشارة العصمة المستديمة للنبي يوسف عليه السلام .
ونسأل الله عز وجل عصمة المسلمين جميعاً من الإرهاب ، إذ أنه ضد للتقوى والمبادئ التي بعث الله عز وجل بها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن آيات الصبر ما توجه فيها الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والمراد المعنى الأعم وأن الأمة مشمولة بذات الخطاب إلا مع القرينة والدليل الصارف لإرادة خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الخطاب ، ومن هذا الخصوص قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ).
وهل قوله تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ] ( ) خطاب خاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم يشمل المسلمين معه.
الجواب هو الثاني لبيان وراثة الأرض بالتقوى ، وتملي هذه الوراثة على المسلمين التحلي بالخلق الحميد والرأفة العامة بالناس ،وهو من مصاديق الصبر .
وتذكر الآية أعلاه المسلمين بالرسل أولي العزم وهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى عليهم السلام ثم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو المخاطب بالآية أعلاه ، ليقتدي المسلمون بهم في صبرهم وتحملهم الأذى وعدم ردهم بمثله ، ليكون الإمتناع عن الإرهاب من باب الأولوية .
ومن خصائص الصبر أنه إحسان للذات والغير ، قال تعالى [وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه قلة كلماتها ، وابتداؤها بفعل الأمر ثم بيان عظيم ثواب الصبر ، وأنه إحسان محض ، والنسبة بين الإحسان والإرهاب هي التضاد بالذات والأثر ، فاذا كان الصبر والإحسان فيه الأجر والثواب فان الإرهاب فيه الأذى والإثم .
والصبر أمر وجودي وفعل يترجل بالخارج على نحو كتم الغيظ وحبس الجوارح من الفعل المنافي للصبر ، والتحمل ، لبيان الخلق الحميد الذي يصاحب الإيمان ، ويزين الفرد ، ويجعل الدنيا خالية من الكدورة والكآبة .
وهناك ملازمة بين الإرهاب والكآبة .
ولا يعلم ما في الصبر من المنافع والخير إلا الله عز وجل ، ليكون من معاني الأمر بالصبر في قوله تعالى [وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ] ( ) إتخاذ الصبر بلغة لتحقيق الغايات الحميدة ، وفيها وعد من الله عز وجل بأن الصبر مفتاح للخير وعموم الهداية والرشاد ، وبيان لترك ما هو ضد الصبر من الإرهاب ونحوه ، وترغيب بتعاهد الفرائض العبادية في أوقاتها ، وأن هذا التعاهد واقية وحرز .
وعن الإمام علي عليه السلام قال (من وثق بالله أراه السرور، ومن توكل عليه كفاه الامور، والثقة بالله حصن لا يتحصن فيه إلا مؤمن أمين .
والتوكل على الله نجاة من كل سوء ، وحرز من كل عدو. والدين عز، والعلم كنز، والصمت نور، وغاية الزهد الورع، ولا هدم للدين مثل البدع، ولا أفسد للرجال من الطمع، وبالراعي تصلح الرعية، وبالدعاء تصرف البلية، ومن ركب مركب الصبر اهتدى إلى مضمار النصر) ( ).
أي أن الصبر سبيل إهتداء ورشاد ، فهو مطلوب بذاته وهو طريق لبلوغ مراتب التوفيق والنصر ، ودحض مفاهيم الشرك والضلالة .
ومع شمول المسلمين بآيات الصبر المتوجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد وردت آيات بالأمر للمسلمين بالصبر ، منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) وهل يدخل شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأمر العام الوارد في هذه الآية ، الجواب نعم ، فهو الإمام في الإيمان .
وهذه الآية هي خاتمة سورة آل عمران التي تضمنت ذكر وقائع معركة بدر ومعركة أحد ، وبيانها لتعدي وظلم الذين كفروا ، وإصرارهم على الهجوم وغزو المدينة وإرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
فأختتمت السورة بدعوة كل المسلمين والمسلمات بالصبر والتواصي به ، كما في قوله تعالى[وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] ( ) ولم تكتف الآية بالأمر والمناجاة والتعاون فيه إنما أمرت بتقوى الله والخشية منه لبيان أن من مصاديق الصبر في المقام التنزه عن الإرهاب .
قانون استقراء حرمة الإرهاب من القرآن
لقد جعل الله عز وجل القرآن ملجأ في حال الرخاء والشدة ، ومفزعاً عند الملمات والفتن ، وهو من أسرار تسميته (كلام الله ) إذ ورد هذا الاسم في ثلاث آيات في القرآن ، وكلها خاصة بالقرآن ، وهو من إعجاز القرآن ومصداق لفضل الله في حفظه سالماً من التحريف .
وهذه الآيات هي :
الأولى :قوله تعالى [ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] ( ).
الثانية : قوله تعالى[وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
وتوزعت هذه الآيات في أول ووسط وآخر القرآن ، وإذا كان المشرك يستأمن ويكون لجوؤه مناسبة وفرصة للإستماع لكلام الله مع ضمان عودته إلى محل أمنه وسلامته .
ليكون من باب الأولوية القطعية إمتناع المسلمين عن الإضرار بالناس في أوطانهم وبلدانهم وبيوتهم ودور العبادة والأسواق ،وفي ظل القوانين الوضعية السائدة والتي تحرم الإرهاب .
لبيان قانون وهو أن الإسلام أول من حارب الإرهاب وحمل المسلمين على الإمتناع عنه ، وعلى التفاخر بهذا الإمتناع وصيرورته شاهداً على تنزههم عن الإرهاب ، وإتخاذ هذا الإمتناع مادة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ويستلزم بيان حرمة الإرهاب من القرآن وقوف العلماء من ذوي الإختصاص في التفسير والكلام والأصول والإجتماع وعلم النفس وغيرها عند كل آية من القرآن ، واستظهار حقيقة نهيها عن الإرهاب سواء في منطوقها أو مفهومها ، ثم الإنتقال إلى غيرها إن لم يكن فيها هذا المعنى جلياً ، وإذا لم تكن كل آية في القرآن وعددها (6236) آية تنهى عن الإرهاب فان أكثر آيات القرآن تنهى عنه ، ونبدأ بالوقوف عند قوله تعالى [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) وهي أول آية في نظم القرآن .
وقد ورد (عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقطع قراءته؛ بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. وهكذا) ( ) رواه الترمذي .
ليكون من معاني قطع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قراءته التدبر في مضامين الآية القرآنية .
وليس من حصر لمعاني الرحمة والرأفة في آية البسملة لبيان أن رحمة الله عز وجل حاضرة عند تلاوة القرآن ، وهل تصاحب قارئ القرآن في ميادين العمل وساعة الإبتلاء والإفتتان ، الجواب نعم .
واسم [الرَّحْمَنِ] بيان لصفة ذاتية لله عز وجل ، وتتعلق صفة [الرَّحِيمِ] برحمة ورأفة الله عز وجل بالخلائق كلها .
وجاء اسم [الرَّحْمَنِ] و[الرَّحِيمِ] في البسملة بعد اسم الجلالة الذي هو علم على الذات الإلهية، وتبعث البسملة السكينة في قلب المسلم عند تلاوته القرآن في المصحف وعن ظهر القلب ، أو ورودها في إفتتاح الكلام والكتاب ، إذ صارت شعاراً إسلامياً لتكون حاضرة في المنع العام والخاص من الإرهاب .
وتدل آية البسملة ومعاني الرحمة فيها على حرمة الإرهاب ، وكذا الآية التي بعدها وهي [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، لبيان انصراف المسلم عن الإرهاب بانشغاله في الحمد والثناء التام على الله عز وجل لأنه الوهاب والمالك لكل شئ في الوجود .
فمن معاني لفظ (العالمين) في الآية جميع الكائنات عدا الله عز وجل وفيه دعوة للمسلم للرأفة بالناس جميعاً لأن الله عز وجل ربهم وخالقهم ، وهو سبحانه لم يتبرأ من ربوبيته للكافر والمشرك ، فهم عبيد مربوبون لله عز وجل .
وجاء الألف واللام في (الحمد) لإستغراق الجنس ، وأن كل المحامد لله عز وجل فكل النعم منه سبحانه ولا يقدر عليها غيره ، وهو سبحانه صاحب الأسماء الحسنى .
ومن النعم التي يحمد المسلم عليها الله عز وجل نعمة الإيمان ، والسعي لاستئصال الإرهاب من الأرض بالتقوى وبالثناء على الله وتعظيمه وإظهار محبته ، وهذا الإظهار حاجب دون الإرهاب والعنف.
إن السياحة العقائدية مع نظم آيات القرآن بخصوص موضوع حرمة الإرهاب أو أي موضوع آخر تبين إعجاز القرآن ، وتفتح آفاقاً من العلم للمسلمين والناس .
وكذا عند الجمع بين كل آيتين من القرآن ، واستقراء المسائل الخاصة بذات الموضوع ، فمثلاً من معاني الجمع بين الآيتين المتعاقبتين قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) و[الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) في حرمة الإرهاب مسائل :
الأولى : إنقطاع المسلم للحمد والشكر لله عز وجل ، وإدراكه منافاة الإرهاب للحمد لله .
الثانية : من رحمة الله عز وجل الإهتداء للحمد لله .
الثالثة : كثرة مصاديق وموضوع الحمد لله ، منه الرحمة العامة .
الرابعة : الحمد لله على رحمة الله بفضح الإرهاب وبيان قبحه .
الخامسة : من رحمة الله تنزه الناس عن الإرهاب .
السادس : من رحمة الله التي يحمد عليها سبحانه صرف أضرار الإرهاب .
السابعة : من رحمة الله عز وجل الهداية إلى الحمد له سبحانه ، ليكون هذا الحمد سداً منيعاً دون إرتكاب الإرهاب أو الإعانة عليه.
الثامنة : إدراك المسلم بأن الله عز وجل رحيم بالناس جميعاً ، وفي تعاهدنا العملي للإقرار بهذه الرحمة أجر وثواب عظيم ، ومن مصاديق الإقرار بهذه الرحمة إجتناب إخافة الناس في أوطانهم وبيوتهم ومنتدياتهم .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” وفي الحديث الآخر : لا يَرْحَم اللهُ من لا يَرْحَم الناس) ( ).
إذ جاء الحديثان أعلاه بصيغة العموم في نشر ألوية الرحمة ، وعدم تقييده بخصوص المسلم أو المؤمن سواء كان راحماً أو مرحوماً ، وتوجه الخطاب النبوي إلى المسلمين ليكونوا أئمة الرحمة بين الناس ، والهداة إليها ، ويدل بالدلالة الإلتزامية والمفهوم على الزجر عن الإرهاب والعنف والتكفير ، وإخافة الناس . وهل هذه الرحمة العامة عمل صالح ، الجواب نعم .
ومن لغة العموم في المقام المناجاة والتعاضد بين المسلمين بالتراحم ، قال تعالى [وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ] ( ) ومن معانيه تواصي المسلمين بالصبر على الأذى ، والتواصي والمناجاة بالإحتراز من إيذاء الذات أو الغير .
ومن قبح الإرهاب أنه إضرار بالنفس والأهل والملة والمجتمع عامة .
قانون الإبتلاء إنصراف عن الإرهاب
قال تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( )، لتبين هذه الآية الإعجاز في تضمن القرآن أخبار الغيب ، وما يقع للمسلمين في مستقبل الأيام ووجوب تحليهم بالصبر ، وإجتياز الإمتحان والإبتلاء ويصبح مقدمة لدخول الجنة ليكون وقوعه شاهداً على صدق القرآن في إخباره عن أهوال يوم القيامة ، وبعث الناس للحساب .
وتتضمن الآية أعلاه الإمتناع عن الظلم والتعدي والسرقة والسلب والإرهاب في كل من :
الأول : حال الخوف : وعدم استضعاف الذي يكون في حال فزع ، وتبين الآية الشدة والعسر والأسى عند اصابة الفرد والجماعة بحال الخوف والفزع ، وفيه دعوة للمسلمين لعدم إدخال الخوف والفزع على المجتمعات بالإرهاب والتهديد بالتفجيرات ، وجعل الناس يتوقعون حدوثها وهذا المعنى من مصاديق الرحمة العامة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
إذ يحذر الله عز وجل المسلمين من حال خوف عام ينزل بهم ، ليرأفوا بالناس ويمتنعوا عن بث الخوف والفزع في المجتمعات ، وهل هذه الرأفة سبب للتخفيف عن المسلمين ، وصرف ضروب من الخوف عنهم بفضل الله .
الجواب نعم ، وهذا الصرف من رحمة الله لذا ورد (عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ارحموا تُرحموا ، واغفروا يُغفر لكم . ويل لأقماع القول يعني الآذان ويل للمصِّرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون)( ).
وليس من سبب مخصوص للخوف ، وقد يأتي من الناس أو من آفة سماوية أو أرضية أو داء ووباء أو حروب طاحنة وأسلحة فتاكة تومئ بامكان حدوث فاجعة أعم وأكبر مثل الإبادة الجماعية مما يدل على دبيب الخوف إلى النفوس ، كما أنه لا ينحصر بالمسلمين ، وقد يلتقي المسلمون وغيرهم من الناس في فرد واحد من الخوف العام ، وفيه دعوة للجميع لإجتناب الإرهاب.
ومن إعجاز الآية ذكرها للإبتلاء بالخوف على نحو السالبة الجزئية [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ]( )، أي لا يستولي الخوف عليكم جميعاً وأنه خوف طارئ وعرضي لا يتغشى وقت المسلم وفيه نكتة وهي الإنقطاع إلى العبادة والذكر وسيلة ومناسبة لدفع هذا الخوف ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، وحتى الذين يخافون فان الخوف لايستحوذ على أذهانهم وأفعالهم ، وفي هذا التبعيض معجزة لبيان أن الخوف الطارئ لا يمنع المسلم من أداء الفرائض العبادية ، كما أنها وسيلة مباركة لجلب الأمن ، وإنصراف الخوف .
وتذكير الآية بتغشي الخوف للمسلمين دعوة لهم للتوكل على الله ، والرضا بقدره ، قال تعالى [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
وفيه دعوة للمسلمين للإتعاظ من الخوف الذي ينزل بهم ، فيجتنبون أسبابه ، ويمتنعون عن إشاعة الخوف بين الناس ، وهذا الإمتناع من شكر المسلمين لله عز وجل على التخفيف من كم وكيف ومدة الخوف النازل عليهم .
وهل الخوف مصيبة ، الجواب نعم ، لذا جاءت الآية التالية للآية أعلاه من سورة البقرة بذكر المصيبة وعطفها على الآية السابقة لفظاً وموضوعاً كما في قوله تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
فالصابرون يسترجعون ويعلنون الإنقياد والتسليم لأمر الله عز وجل ، والإقرار بأنهم يرجعون إليه يوم القيامة ، ويقفون بين يديه ليثيبهم على صبرهم .
والنسبة بين الصابرين وبين الذين تصيبهم مصيبة عموم وخصوص مطلق ، فمن الصبر ما كان في طاعة الله والتحلي بالتقوى في حال الرخاء .
لقد ذكرت الآية نزول المصيبة على المسلمين بما هم مؤمنون لذا التجأوا إلى الإسترجاع والتسليم بقضاء الله وهذا الإلتجاء شاهد على عدم صدور الأذى منهم للغير وعلى وجوب إجتناب الإرهاب لبيان قانون وهو نزول المصيبة بالمسلمين حفظ لهم ولملة التوحيد مع رجاء فضل الله وعمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) فمن المحو صرف المصيبة سواء بالسعي أو الدعاء ، وهل الإرهاب مصيبة ، الجواب نعم ، لوجوه :
الأول : قانون انتفاء السبب الشرعي أو العقلي للإرهاب .
الثاني : مباغتة الفعل الإرهابي للناس .
الثالث : قانون تأذي الناس جميعاً من الفعل الإرهابي المحدود مكاناً وزماناً وأثراً .
الرابع : قانون مصيبة الموت وسقوط القتلى ظلماً في العمل الإرهابي .
الخامس : قانون مخالفة الإرهاب للقواعد الشرعية والقوانين.
وهل تكون المصيبة مقدمة وبرزخاً للإمتناع عن الإرهاب ، الجواب نعم ، لبيان نكتة وهي أن هذا الإبتلاء ليس عقوبة إنما هو امتحان وإختبار ووسيلة لصرف بلاء أشد وضرر على النفس والغير ، فاكثر هذا الإبتلاء رحمة من عند الله عز وجل .
وقد أصاب البلاء الأنبياء ، وفي أيوب ورد قوله تعالى [وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
وعن سعد (أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله أيّ الناس أشدّ بلاء فقال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل من الناس، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان صلب الدين اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقّة فهي على حسب ذلك، ولا يبرح البلاء عن العبد حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيّة)( ).
ليكون من معاني آية البحث الرضا بالبلاء ، وعدم الجزع عند نزوله ، ومن معانيه الرحمة بالناس ، وعدم الإضرار بهم لإدراك الشدة والأذى عند الإبتلاء الخاص .
الثاني : الإبتلاء والإمتحان بالجوع لقوله تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ..]( )،مع رأفة الله عز وجل بالناس جميعاً ، وبالمؤمنين على نحو خاص فانه أخبر عن نزول الإبتلاء منه تعالى للمسلمين بالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات على نحو الإجتماع في هذه الأفراد والإنفراد والتفرق لما فيه من الحكمة وأسباب الصلاح والأجر والثواب .
وهل هذا الإبتلاء مانع وصارف عن الإرهاب ، الجواب نعم لأنه يجعل المسلم يتفكر في ماهية الحياة الدنيا ، ويتطلع إلى رحمة الله ، وينشغل في سد حاجاته ، وصرف الأذى الذي يتعرض له ، فهذا الإبتلاء نجاة للمسلمين والناس جميعاً ، وحرز من الظلم والتعدي سواء الصادرنحو الغير أو القادم منهم ، بالإبتداء أو بهما بالموازاة ورد الفعل والمثلية .
وقد قدمت الآية الإبتلاء بالخوف على الإبتلاء بالجوع ، لبيان الأذى الذي يلقاه المسلمون من الكفار .
وهل تشمل الآية ما يقع بين المسلمين من الوعيد والإقتتال ، الجواب نعم، وهو ظاهر بالوجدان إذ ابتدأ من الخروج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بعد البيعة له .
وهل كان هذا الخروج المتعدد من الإرهاب ، الجواب نعم ، وهو من أسباب الخوف والجوع وتعطيل الأعمال وزهوق الأرواح .
وتحتمل جهة الخطاب في هذه الآية وجوهاً :
الأول : المراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
(عن عطاء في قوله { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع }( ) قال : هم أصحاب محمد عليه السلام) ( ).
الثاني : إرادة آخر الزمان ، وقبل أيام المهدي من آل محمد ، وهو المروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام( ) .
الثالث : تعدد وقوع الإبتلاء مع تعاقب الأحقاب .
الرابع : صفة العموم في الآية ، وشمولها لكل جيل من المسلمين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها دعوة للمسلمين للتحلي بالصبر والدعاء ، وإمساك الجوارح عن الظلم والتعدي .
ومن معاني تقديم الإبتلاء بالخوف على الجوع أن الخوف أشد أذى على الإنسان في نفسه وأدائه للفرائض والعبادات ، وهو سبب قهري أو طوعي لإنشغال الفكر به ليتعظ المسلمون من الخوف الذي يحلّ بساحتهم ، فلا يلحقون الخوف بالناس بالإرهاب والتهديد به ، ووقوع أفراد منه ، تجعل الناس في خيفة وفزع من تجدده وتكرار حدوثه .
وكل من الإبتلاء بالخوف والجوع مناسبة للدعاء وسؤال العفو من عند الله ، ورجاء محو وإزاحة كل من الخوف والجوع .
وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) وهل يمكن القول أن الله عز وجل يبتلي الناس ليتوجهوا له بالدعاء ، الجواب [فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ) ولكن هذا الإبتلاء تمحيص ومناسبة للأجر والثواب (عن صهيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عجباً لأمر المؤمن كله خير إن أصابته سراء فشكر كان خيراً ، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً)( ).
ويدل بالمفهوم على أن الآخرة دار الثواب الخالي من الإبتلاء والإمتحان ، ومن مصاديق الفوز بهذا الثواب التنزه عن الإرهاب ، وعن إدخال الخوف إلى البيوت ، ودور العبادة ، والأسواق ، والمرافق العامة .
الثالث : الإبتلاء بنقص الأموال وضعف التجارة ، وقلة القيمة الشرائية للدينار .
وفي الآية دعوة للصبر عند القحط والجفاف ، وعند كساد التجارات وتعطيل المصانع ، وإصابة الأنعام والمواشي بالأمراض ,وقد يظن المؤمنون أن الله عز وجل ينزل عليهم النعم على نحو دفعي ، وأنهم في منآى من الإبتلاء ، فجاءت هذه الآية لإخبارهم عن قانون من الإرادة التكوينية وهو الإبتلاء الذي لا يعلم منافعه إلا الله عز وجل .
وقد كان للمسلمين أسوة وموعظة بالنبي يونس الذي ظن أنه في منأى من الإبتلاء ولا يصاب بما اُبتلي به قومه من الجوع والخوف ، لأن علة هذا الإبتلاء هو جحودهم بنبوته ، كما في قوله تعالى [فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ).
ولكن الإبتلاء إذا جاء يكون عاماً إلا أن يشاء الله لذا فان من معاني قوله تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ] ( )عدم إنحصار هذا الإبتلاء بالمسلمين ، فقد يصيبهم وأقواماً غيرهم ، وقد ينزل الإبتلاء بأهل الأرض جميعاً لذا أختتمت الآية بقوله تعالى [وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( ).
وأظهر يونس الصبر وألحّ بالدعاء والتوسل إلى الله تعالى إلى أن لفظه الحوت بآية ومعجزة من عند الله ، قال تعالى [وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ) .
وهل نجاة يونس من باب الأولوية ، لأن الله عز وجل أنعم على قومه مع جحودهم بنبوته بالنجاة والسلامة من العذاب ، فتفضل الله عز وجل بنجاة يونس من الموت غرقاً أو في بطن الحوت ، الجواب لا دليل على معنى الأولوية في المقام ، ولكنه من سعة فضل الله عز وجل ، وفي التنزيل [وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( ) .
ولقد اختار يونس الإعراض عن قومه بسخط لجحودهم ، وهو يظن نجاته من العذاب الذي سينزل بقومه لأنهم كذبوه ، ولخشيته من قيامهم بقتله فابتلاه الله عز وجل بأن ابتلعه الحوت ، وصرف الله عز وجل العذاب عن قومه للجوئهم جميعاً إلى الله ، وفيه زجر للمسلم عن الإرهاب ، وعن البطش بالآخرين بذريعة أنهم كفار لإمكان توبتهم ، ولأن المسلم لا ولاية له على الناس ، وفي خطاب من الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم [إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ]( )، والوكيل فعيل بمعنى مفعول أي موكول إليه ، وهو الذي يوكل اليه الأمر ، ويقوم به ويكون بمعنى القيّم والكفيل والمدبر لأمر غيره .
وإذ تتضمن الآية انتفاء وكالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الناس فمن باب الأولوية القطعية عدم وكالة وقيمومة المسلم على غيره من الناس .
الرابع : نقص الأنفس : وهو من أشد ضروب الإبتلاء بفقد الأحبة ، سواء في الحروب أو الأوبئة ، وهل منه القحط والجدب ، الجواب لا ، لمجئ القرآن بالنهي عن وأد البنات ، وبالوعد الكريم بالرزق للناس والذراري كما في قوله تعالى [نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا] ( ).
وهل الإرهاب من نقص النفوس ، الجواب نعم ، لذا فمن معاني صيغة الخبر في آية البحث [وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ] ( ) التحذير والإنذار من القصد والسعي لما فيه الموت وزهوق الأرواح ونقص في نفوس المسلمين .
وهل تدل آية البحث على حرمة تحديد النسل لكراهة النقص في النفوس ، وأنه مصيبة وإبتلاء ، الجواب لا ، لورود الأدلة بجواز العزل أي عزل ماء الرجل عن المرأة.
نعم تنفي الآية الأمر بتحديد النسل أي أن هذا التحديد أمر مباح ، وقد يكون بالعنوان الثانوي مستحباً أو مكروهاً .
ومن نقص النفوس موت الفجأة ، ومن مصاديقه حوادث السيارات والطائرات والقطارات ومن النادر أن يخرج الإنسان من بيته بمفرده أو هو وأسرته ليأتي الخبر بعد ساعة أو ساعات بافادة مقتلهم وموتهم بحادث قضاءً وقدراً ، ليشكر الذي تخلف عن الخروج معهم الله عز وجل ، ويتجدد هذا الشكر بعمل الصالحات .
ويجب أن يكون المسلم وغيره عوناً للناس في التقليل من حوادث موت الفجأة ، وليس زيادتها بالإرهاب الذي يختلف عن الحوادث أعلاه بسبقه بالخوف العام وترتب هذا الخوف عليه .
وفي إخبار الآية عن نقص الأنفس وعد للمسلمين للموادعة والألفة مع غيرهم من أهل الملل ، وحضّ لهم للتعايش السلمي وحسن الجوار مع الناس جميعاً ، قال تعالى [وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا] ( ).
وتشمل هذه الوجوه الأربعة مجتمعة ومتفرقة النهي عن الإرهاب والتفجيرات العشوائية ، وزهوق الأرواح ، وإصابة بعض الناس بالجراحات والعاهات وفقد بعض الحواس ، وهو من الفساد المنهي عنه ، قال تعالى [وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ]( ).
وكل فرد من أفراد الإبتلاء التي ذكرتها الآية [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ] ( ) من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وهو كل من :
الأول : الخوف ، فقد يكون الخوف عاماً أو خاصاً ، شديداً أو ضعيفاً ، طويلاً في مدته أو قصيراً ، ليكون الدعاء والصدقة سبيلاً لصيرورته خاصاً وضعيفاً وقصير المدة وإلى زوال .
الثاني : الجوع ، ومن مصاديقه القحط والجدب وحبس السماء المطر ، والنقص في الأموال ، والعجز عن مواصلة التجارة التي تستلزم اليد العاملة وأموال التجارة والمضاربة .
الثالث : نقص الأموال كماً وكيفاً وقيمة في السوق .
الرابع : نقص النفوس بالإبتلاء والحروب .
الخامس : نقص الثمرات وقلة الريع.
ولم يرد لفظ [لَنَبْلُوَنَّكُمْ] في القرآن إلا مرتين إحداهما في آية البحث أعلاه ، والأخرى في قوله تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ] ( ) .
وهل من صلة بين الآيتين سواء في الموضوع أو الحكم ، الجواب نعم ، وبينهما عموم وخصوص مطلق إذ جاءت الآية أعلاه على نحو الإطلاق ، ولبيان تعدد وكثرة مصاديق الإبتلاء ، ولتأكيد الأجر والثواب على الصبر والتحمل ، ومن الجهاد ما هو جهاد النفس ، ومنعها من إيذاء الذات والغير ، ومن أفراد هذا الإيذاء الإرهاب ، وما يسمى بالعملية الإنتحارية .
لقد كانت آيات الإبتلاء مدداً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الصبر على أذى الكفار ، وفي الدفاع عن النبوة والتنزيل في ميادين القتال ، والمصابرة في مجاهدة أحوال الحياة اليومية ، وإظهار وإبراز تقوى المسلمين ، وحسن سمتهم بما يكون فيه الحجة على ، لتكون سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس شاهداً على التنزه عن الإرهاب ، وعلى حرمة الفساد مطلقاً.
لقد أخبر القرآن عن قانون وهو أن البلاء والمصيبة لا تنزل إلا بإذن الله عز وجل ، وفي التنزيل [مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ]( ).
لبيان مسألة وهي دعوة المسلمين للإجتهاد بالدعاء لصرف المصائب المنظورة التي تهيأت مقدماتها ، وغير المنظورة التي من علم الغيب .
وقال ابن جزي (وبشر الصابرين بشيء من الخوف من الأعداء والجوع بالجدب ونقص من الأموال بالخسارة والأنفس والثمرات بالجوائح وقيل ذلك كله بسبب الجهاد)( ).
ولكن الآية أعم في موضوعها وهي متجددة في الأزمنة المختلفة ، وصحيح أن عددا من الشهداء سقطوا في المعارك الدفاعية للمسلمين , ولكنها كانت سبباً للغنائم أحياناً , وفيه خزي للمعتدين الذي كفروا .
وقد نزلت آية الإنفال بخصوص معركة بدر ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
وقد ترك المشركون يومئذ خلفهم الإبل والخيل والمؤن والأسلحة ، كما أسر الصحابة منهم سبعين ، وكان عوض وبدل فك أسر كل واحد منهم أربعة آلاف درهم فضة ، أي أربعمائة دينار ذهب ، كل دينار مثقال ذهب عيار (18) حبة ، وبالإمكان حسابه بالعملة الورقية في هذا الزمان .
أما في معركة حنين والتي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فيها أيضاً في حال دفاع واضطرار للقتال ، فقد غنم فيها المسلمون غنائم كثيرة منها :
الأول : ستة آلاف من الأسرى والسبايا .
الثاني : أربعة آلاف أوقية فضة ، وتساوي الأوقية 200 غراماً تقريباً ، وتساوي أوقية الذهب نحو 30 غراماً.
الثالث : أربعة وعشرون ألفاً من الإبل ، ومما يدل عليه ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أعطى مائة من الإبل لكل واحد من المؤلفة قلوبهم.
وذكر أن الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤلفة قلوبهم من نصيبه من الخمس( )، وقيل من خمس الخمس.
الرابع : أكثر من أربعين ألف رأس من الغنم( ).
وقد يتبادر إلى الذهن أن النبي محمداً وأصحابه قصدوا ديار هوازن غزواً وهجوماً ، ولكن رئيس هوازن مالك بن عوف حين أراد مهاجمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أمر قومه وجيشه من هوازن وثقيف باخراج أموالهم وعوائلهم معهم إلى الميدان ليدافعوا عنهم.
الخامس : نقص الثمرات : من خصائص التوجه إلى الدعاء إجتناب الفساد والإرهاب ، إذ يدرك الذي ينشغل بالدعاء حاجته إلى صفاء النية ، والتنزه عن الإضرار بالغير ، كما أنه في شغل عن هذا الإضرار باصابة الأشجار بالجوائح ، وقلة الريع ، أو حالات الجفاف ، واحتباس المطر ، والآفات السماوية أو الأرضية .
والمراد من الثمرات الحبوب والغلات والتمور والخضروات والفواكه مطلقاً.
وليس المراد المعنى الخاص للثمرات جمع ثمرة ، وهو ما تحمله الشجرة ، ، من الثمار كالتمر والعنب والتين ، قال تعالى [ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ]( ) .
وهل كل الثمار التي ذكرت في القرآن كانت تزرع في الجزيرة ، المختار أنها أعم ، وقد ذكر في القرآن ، التمر والعنب والتين والزيتون والرمان ، واليقطين ، قال تعالى [وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ]( )، والمراد شجرة الزيتون ، وقال تعالى [فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ]( ).
لقد ابتلى الله عز وجل فرعون وقومه بالعقوبة بالجدب والقحط ونقص الثمار والغلات ، قال تعالى [وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ]( ).
أما إبتلاء المؤمنين الذي تذكره آية البحث فهو ليس عقوبة ، إنما هو امتحان واختبار ، ونوع وسيلة للأجر والثواب ، وهو من سنن الحياة التي تصيب الناس البر والفاجر ، وجاء الإخبار من عند الله عز وجل بصيغة المستقبل [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ]( )، ليكون تقدير الآية على وجوه : ( )
الأول : ياأيها الذين آمنوا لنبلونكم.
الثاني : ولنبلونكم رحمة منا .
الثالث : ولنبلونكم لتثابوا وتؤجروا .
الرابع : ولنبلونكم ونبلو غيركم من الناس .
الخامس : ولنبلونكم لترحموا أنفسكم والناس .
السادس : ولنبلونكم فاجتنبوا الظلم والإرهاب .
السابع : ولنبلونكم فتعاهدوا التقوى ليمحو الله الإبتلاء .
الثامن : ولنبلونكم ابتلاء عرضياً زائلاً .
فمن معاني قوله تعالى [َلَنَبْلُوَنَّكُمْ] أن الإبتلاء خلاف الأصل الذي هو استدامة النعم ، وتقدير الآية (ولنبلونكم فاستعدوا للإبتلاء).
التاسع : ولنبلونكم فاصبروا .
وهل ينحصر الإبتلاء في الدنيا بالأفراد الخمسة التي ذكرتها آية البحث [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( ).
الجواب لا ، إنما ذكرت هذه الأفراد من باب المثال الأهم ، وإلا فان الدنيا دار الإمتحان والإبتلاء وقد تبتلى طائفة بالمتعدد من هذه الوجوه التي ذكرتها الآية أو بعضها ، وقد تنجو من هذا الإبتلاء طائفة أو جيل من المسلمين ، وهو من معاني كون الإبتلاء عرضاً زائلاً.
قانون الإرهاب من الفساد ومن سفك الدماء
لقد هبط آدم إلى الأرض بعد أن احتجت الملائكة على قيام شطر وأفراد من ذريته بعد هذا الهبوط بأمور :
الأول : الفساد .
الثاني : القتل ، وسفك الدماء .
الثالث : الجمع بين الفساد وسفك الدماء ، كما ورد في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ولم تحدد الآية الكم والكيف في كل من الفساد وسفك الدماء فهو علم خاص بالله عز وجل ، ومن مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، بعث الأنبياء والمسلمين في كل زمان ومن أيام آدم إلى الدعاء والتضرع إلى الله بمحو أفراد كثيرة من الفساد ، ودفع القتل عن الناس ، وهل هذا الدعاء خاص بزمانه وخصوص مسألته .
الجواب لا ، فمن فضل الله عز وجل مغادرة المؤمن الدنيا ولكن دعاءه باق بين الناس في ذاته وموضوعه ومنافعه.
ليكون من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، أي ادعوني لأنفسكم وذراريكم والأموات والأجيال اللاحقة ، وفي أمور الدنيا والآخرة ، فليس من حد أو رسم لموضوع الدعاء ، فقد فتح الله عز وجل بابه للناس جميعاً ، والحد في إصطلاح الفلسفة هو اللفظ الدال على ماهية الشئ ، كتعريف الإنسان بالخليفة لقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) أما الرسم فهو الوصف ، فهو تعريف الشئ بصفاته العرضية التي تفصله وتميزه عن غيره مثل العاقل ، أو الجامع للثروة أو الضاحك بالنسبة للإنسان .
وهل من مصاديق الدعاء السؤال بالتنزه العام عن الإرهاب ومطلق الفساد ، الجواب نعم ، فنسأل الله عز وجل أن يعصم كل مسلم ومسلمة منه ، وأن يملأ نفوس المسلمين بالنفرة منه ومن التفجيرات والقتل العشوائي.
لقد سقط كثيرون قتلى وشهداء بسبب الإرهاب ، فهو من سفك الدماء بغير حق ، وهو من الفساد لما فيه من الإضرار بالقواعد العامة في استقراء المجتمعات وعمارة الأرض وإزدهار التجارة والصناعة .
ولقد كان قتل قابيل لأخيه هابيل بن آدم مثالاً للإرهاب ، وفرد جامع بين الفساد وسفك الدماء ، ليكون باعثاً للنفرة في نفوس المسلمين من الإرهاب .
قانون دعاء الملائكة لصرف الإرهاب
من معاني إخبار الله عز وجل الملائكة عن جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) زرع حب الناس في نفوس الملائكة ، وجعلهم مدداً للناس في مسالك الهداية والرشاد ، وسبباً لمنعهم من الفساد والإرهاب ، وهو الذي تجلى برد الملائكة على إخبار الله عز وجل لهم بخلافة الإنسان في الأرض بقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
ومن معانيه سؤال الإذن من الله عز وجل لإعانتهم للإنسان لدفعه عن الفساد ، وعن سفك الدماء ، ويدل نزولهم بالوحي والكتب على الأنبياء على تفضل الله عز وجل بالإستجابة لهم .
ومن مصاديق نفخ الله من روحه في آدم كما في قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، جعل النفوس تكره القتل ، ولا تميل إليه ولا يعلم ما صرف من القتل وضروب الإرهاب عن الناس إلا الله عز وجل ، وأيهما أكثر القتل الذي صرفه الله عز وجل وكتب استدامة أيام الذي أريد قتله متحداً أو متعدداً مع الهمّ بايقاعه ، وتحقق مقدماته ، أم القتل الحادث بالفعل .
الجواب هو الأول ، وفي التنزيل [وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ]( ).
والإرهاب مبغوض لأنه جامع للفساد والقتل ويشمله تنبيه الملائكة في الآية المتقدمة في أول البحث ، وذكرنا مبحثاً مستحدثاً في المقام وهو أن الملائكة لم يحتجوا على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وليس لهم أن يحتجوا ، وليس من دأبهم إلا الطاعة والإنقياد التام لأوامر الله ، والإنقطاع إلى التسبيح والتهليل ، وقد شكروا الله عز وجل إكرامه لهم باخبارهم عن خلافة الإنسان في الأرض .
ومن معاني هذا الشكر دعاؤهم بتنزه الناس عن الفساد ، وعن القتل وسفك الدماء ، ليكون من معاني وتقدير قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، وجوه :
الأول : دعاء الملائكة للناس لعمارة الأرض بذكر الله وأداء الفرائض العبادية .
الثاني : شكر الناس لله على خلافتهم للأرض بالتقوى والصلاح، حتى على القول باختصاص هذه الخلافة بالأنبياء فانها نعمة على الناس جميعاً .
الثالث : سؤال الملائكة الله عز وجل أن يجعل الناس يتنزهون عن الفساد ، وعن اشاعة القتل بينهم .
الرابع : إستعداد الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، كما في قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ) وفيه تذكير من الله عز وجل لأجيال المسلمين باستغاثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالله عز وجل يوم معركة بدر ، للسلامة والنجاة من الكفار الذين أرادوا استئصالهم ، وفيه دعوة لأجيال المسلمين للتنزه عن الإرهاب، وللإمتناع عن الفساد .
الخامس : دعاء الملائكة لتنزيه الأرض من الإرهاب والفساد .
وهل سأل الملائكة الله عز وجل بامتناع الناس عن الإرهاب بمفهومه في هذا الزمان ، أم أنهم لم يطلعوا عليه .
المختار هو الأول ، لذا تفضل الله عز وجل باجابتهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل تفضله تعالى بصلاح النفوس والمجتمعات وإنحسار الإرهاب ، وانقطاعه ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من مصاديق الرحمة والعفو ، ولزوم التقيد بسنن التقوى ، وإدراك المسلمين والناس جميعاً معارضة ومنافاة الإرهاب للتقوى ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا]( ).
لتبين هذه الآية الأخوة الإنسانية ، ولزوم جعل إتحاد الأب وهو آدم للناس جميعاً مادة وقاعدة للألفة العامة ونبذ الحروب والإرهاب ، والعداوة والإقتتال .
والإرهاب سبب للإنفاق الهائل على الأمن ونشر العيون والرجال وكثرة السجون مع الخسارة في الأرواح التي تأتي على الكبير والصغير ، لذا فان الله عز وجل تفضل وأخبر الملائكة عن خلافة الإنسان في الأرض.
ليتناجى الناس بالصلاح ، وتثبيت قواعده ومفاهيمه في الأرض ، وهذا التثبيت حرز من الإرهاب ، وصار هذا الحرز في هذا الزمان حاجة للناس ، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أولى الناس بالناس ، ورسالته رحمة للأجيال ، وقد اجتهد في إقامة شعائر الله ، وترك خلفه من الفرائض العبادية وضبطها ومن الصحابة ما لم يتركه نبي أو رسول غيره ، وهو من مصاديق تفضيله على الأنبياء السابقين.
قانون العداوة بين الإنسانية والإرهاب
المراد من الإنسانية الصبغة الخاصة بالجنس البشري بما يميزه عن الأجناس الأخرى ، وما فيه تفضيل له عن المخلوقات الأرضية ، وأبهى صفات الإنسانية خلافة الإنسان في الأرض ، وتترشح عن مفهوم الإنسانية مبادئ وقيم حميدة مثل ، الأخوة ، الإحسان ، التراحم ، الأمانة ، وتتجلى الإنسانية بالآيات القرآنية بخصوص الخلق الحميد والسنة النبوية .
و(عن أبي الدرداء قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ما شيء أثقل في الميزان من خُلق حسن)( ).
ولقد تفضل الله عز وجل وأخبر الملائكة عن خلق آدم وإتخاذه [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وتكاثر وتعاقب ذريته في الأرض ، وهو المستقرأ من معنى الخلافة إذ أنها تعني الإستدامة ، أي إستدامة وجود الإنسان في الأرض بصفة الخلافة ، وهذا الإخبار إكرام لآدم وذريته ، ثم تفضل الله عز وجل و[علم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( )وأمر آدم أن يعلمها للملائكة لبيان منزلة آدم عليه السلام عند الله ، وأهليته للخلافة في الأرض ،قال تعالى [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ] ( ).
للبشارة بأن صفة الإنسانية مصاحبة للناس ، وتقي من المزالق ، وتحول دون تفشي الإرهاب .
ليكون هذا الإكرام نوع عهد بين الله عز وجل والناس في التنزه عن الكفر ومفاهيم الضلالة ، وعن الإرهاب والظلم والتعدي ، فمن خصائص الخليفة الحكم بالعدل والحق ، ومنها الخلافة على الذات .
ومنه (قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع في مسجد الخيف: إني فرطكم وأنتم واردون علي الحوض، حوض عرضه مابين بصرى وصنعاء، فيه قدحان من فضة عدد النجوم) ( ).
فيكون الإنسان رقيباً على جوارحه وضابطاً لجوارحه ، وممتنعاً عن الإرهاب وإدخال الرعب في قلوب الناس .
ليكون من معاني تلقي إكرام الله عز وجل للإنسان بالخلافة الشكر لله عز وجل بإجتناب الإرهاب ، وإفزاع الناس ، والإضرار بالإبرياء والشيوخ والنساء والأطفال بالتفجيرات ونحوها .
وعن الإمام علي عليه السلام :
دواؤك منك ولا تشعر … وداؤك منك ولا تبصر
وتزعم أنك جرم صغير … وفيك انطوى العالم الكبير .
والخلافة مصاحبة للإنسان مما يترتب عليه حضورها وموضوعيتها في عالم الأفعال ، فهي جزء من الوجدان العام والخاص ، وباعث إلى الهدى ، ونشر ألوية الأمن في الأرض ، قال تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
ومن إعجاز القرآن مجيؤه بالنهي العام عن الفساد ، والنهي الخاص عن مصاديق وأفراد من الفساد ليتعاضدا في إصلاح الناس كل من :
الأول : الأمر الإلهي بالصالحات وفعل الخيرات ، وأداء الفرائض العبادية .
الثاني : الواجب الخاص بعبادة معينة نهي عن الفساد والإرهاب والظلم سواء جاء الواجب بصيغة الأمر كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ]( ) أو بصيغة الجملة الخبرية كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
الثالث : النهي من عند الله عن القبائح والمنكر ، قال تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ]( ).
الرابع : النهي عن فعل حرام مخصوص كما في قوله تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً] ( ).
ويكون الفعل على وجوه :
الأول : خير محض وصلاح .
الثاني : ما كان النفع أرجح من الضرر .
الثالث : التساوي بين طرفي النفع والضرر .
الرابع : رجحان الضرر من الفعل .
ويكون الحكم في الوجه الثالث والرابع أعلاه المنع ، لأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة ، أما في الأول والثاني فيستحب الفعل .
وقد يجب بحسب الحال ، لتقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة .
وصفة الإنسانية سور الموجبة الكلية الجامع للناس ، ليعيشوا بأمن وسلام وحفظ لحقوق الإنسان الخاصة والعامة.
وهل كان للنبوة موضوعية في بناء الحياة الأسرية والإجتماعية العامة ولغة التخاطب ، الجواب نعم .
ومن إعجاز القرآن ذكره للصداقة وما يترتب عليها من المستحبات ، قال تعالى [لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا]( ).
لذا كان آدم نبياً رسولاً ، ومن الأسماء التي علمه الله الحقوق والواجبات وحسن العشرة ويكون الإرهاب ضداً لها فهو مجلبة للضرر العام إلى جانب الخسارة الخاصة من الفعل الإرهابي.
قاعدة لا ضرر ولا ضرار زاجر عن الإرهاب(بحث أصولي) ( )
من الأحاديث النبوية التي عليها إجماع علماء الإسلام ، والتي تكون حاضرة في كل زمان ، حديث (لا ضرر ولا ضرار) وهو قاعدة سيالة من باب الطهارة إلى باب الديات .
و(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : لا ضرر ولا ضرار من ضار ضار الله به ومن شاق شاق الله عليه)( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : قضى رسول الله صلى الله عليه واله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع نقع الشئ، وقضى بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء، وقال: لا ضرر ولا ضرار( ).
ومنها (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام).
وورد الحديث بطرق أخرى ، وقد ألفت كتب كثيرة بخصوص هذا الحديث وتخريجه ، ونناقشه من وجهة سامية ، وهي استقراؤه من القرآن ومناسبة موضوع الكتاب فهذا الحديث مقتبس من آيات القرآن ، وهو إصلاح ومناسبة لوقائع ومنها :
الأول : الطلاق ولزوم إجتناب ظلم المرأة وحجب حقوقها أو دفعها إلى البذل والعطاء بغير حق ، قال تعالى [وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الثاني : أحكام الإرث كما في آيات المواريث إذ ورد قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ]( ).
الثالث : إنتفاء الحرج في الدين ، ومنع التشديد على النفس ، قال تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( ).
الرابع : المنع من الفساد ، وإشاعة الفوضى ، ولحوق الأذى بالناس قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ]( )، ويجمع الإرهاب بين هذه الأفراد الثلاثة التي ورد المنع عنها ، لذا فان الله عز وجل لا يحب الإرهاب.
الخامس : آيات العدل ، قال تعالى [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ]( )، والإرهاب ضد للعدل ومحاولة لحرفه ، لذا تجد عامة الناس يستهجنون الإرهاب ، ولا يرضون بفعله وإن أُدعي أنه موافق لمطالبهم.
السادس : الخلق الحميد الذي جاء به القرآن ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، ويتنافى الإرهاب مع هذا الخلق .
السابع : لزوم الإنصاف عند تعارض المصالح الشخصية أو الدولية في حال حصوله .
الثامن : النهي عن الغبن والتدليس في المعاملات والمكاسب ، مع الناس جميعاً ، وعن الإمام الصادق عليه السلام : غبن المؤمن حرام.
التاسع : النهي عن الضرر مطلقاً سواء جاء عن قصد أو من دون قصد.
العاشر : قبض اليد عما فيه إضرار بالغير حسن ، وإن كان نفعاً للذات.
الحادي عشر : تنمية ملكة الأخلاق الحميدة عند المسلمين وإشاعتها بين الناس ، وجعل الإنسان رقيباً على نفسه ، ساعياً في الإصلاح ، يتجنب الإضرار بالغير.
الثاني عشر : إجتناب الإضرار بالوصية وامضائها ، كما في الإنتقاص منها أو إنكارها أو تحريفها ، أو قيام الشاهد عليها بانكارها، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثالث عشر : لا ضرر ولا ضرار في الجوار ، وهو موضوع حديث لا ضرر .
الرابع عشر : من مصاديق عدم الإضرار الحرص على أداء الأمانة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]( )، ومنها الوفاء بالعقود ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]( ).
ترى ما هي النسبة بين الضرر والفساد ، المختار هو العموم والخصوص المطلق ، فالضرر أعم ، فجاء الحديث النبوي للمنع من الفساد ، ومقدماته ، ومن إثارة النعرات والأحقاد والضغائن والضرر وإيذاء الغير ، وهو ضد النفع .
أما الضرار فهو فعال من الضر ، ومن معانيه المجازاة بالضرر ، فمن تلقى الضرر عليه أن يصبر ويعفو ، ويطلب حقه من غير إضرار بالآخر .
يقال (ضره ضرراً وضاره ضراراً ” ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، وأضر به، واستضررت به، ولحقه ضرر ومضرة ومضار)( ).
ومن معاني الإضرار إلحاق الضرر بالغير من غير جلب النفع للذات ، ومنه الإرهاب فليس فيه نفع للذات إنما يكون ضرراً للذات ، وإضراراً بالغير.
وقد ذكرت في علم الأصول (ومن معاني الهجرة إلى الحبشة أن المسلم يجتنب الإضرار بالآخرين .
ومن إعجاز السنة الغيري في هجرة الحبشة التخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين بقوا في مكة , ومناجاة قريش باجتناب التمادي في إيذائهم , فإن قلت قد ترغب قريش بهجرتهم , والجواب لا , بدليل أنهم أرسلوا رجالاَ في طلب المهاجرين حالما سمعوا بمغادرتهم مكة).
وهل في قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : لا ضرر ولا ضرار، وعد بتنزيه الأرض من الإرهاب ، الجواب نعم.
وفيه دعوة للمسلمين لحفظ الممتلكات العامة والخاصة ، وللإبتعاد عن الإضرار ، بالغير سواء كان مسلماً أو غير مسلم.
قانون كل آية قرآنية تنهى عن الظلم
ورد ذكر هذا القانون في الجزء الأربعون بعد المائة من هذا السِفر المبارك( )، كما ورد فيه كل من :
الأول : بيان آيات القرآن لقانون وهو أن الظلم سوء وشر.
الثاني : بيان قانون وهو أن ظلم الظالم لا يحجب عن العباد رزقهم ، وما كتب الله عز وجل لهم من الخير والصحة وطول العمر.
الثالث : قانون نزول الملائكة في بدر مدد للمسلمين في أُحد.
الرابع : قانون الإعجاز الغيري لنداء الإيمان.
الخامس : جاء نداء الإيمان بذات صيغة البعيد لبيان قانون وهو شموله للإجيال غير المتناهية من المسلمين.
السادس : قانون نداء الإيمان باعث للسكينة.
وهذا الجزء من بين أجزاء من خذا السِفر أختصت بتفسير نداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الذي ورد في القرآن تسعاً وثمانين مرة ، وهذه الأجزاء هي :
الأول : الجزء الخامس والثلاثون بعد المائة ، وهو القسم الأول من تفسير (نداء الإيمان ).
الثاني : الجزء السادس والثلاثون بعد المائة .
الثالث : الجزء السابع والثلاثون بعد المائة .
الرابع : الجزء الثامن والثلاثون بعد المائة .
الخامس : الجزء التاسع والثلاثون بعد المائة .
السادس : الجزء الأربعون بعد المائة .
و(الظَّلْم: مصدر ظلمتُه أظلِمه ظَلْماً، والظُّلْم، بالضم؛ الاسم. وأصل الظُّلْم وضعُك الشيءَ في غير موضعه، ثم كثر ذلك حتى سُمّي كل عَسْف ظُلماً. وظلمتُ السِّقاءَ أظلِمه ظُلْماً)( ).
و(ظَلَمَهُ يَظْلِمُهُ ظُلْماً ومَظْلِمَةً. وأصله وضعُ الشيء في غير موضعه. ويقال : من أشبهَ أباه فما ظَلَمَ . وفي المثل: من استَرعى الذئبَ فقد ظَلَمَ.
والظُلامَةُ والظَليمَةُ والمَظْلِمَةُ: ما تطلبه عند الظالم، وهو اسمُ ما أُخِذَ منك. وتَظَلَّمَني فلان، أي ظَلَمَني مالي. وتَظَلَّمَ منه، أي اشتكى ظُلْمَهُ. وتَظالَمَ القوم. وظَلَّمْتُ فلاناً تَظْليماً، إذا نسبتَه إلى الظُلْمِ، فانْظَلَمَ، أي احتمل الظُلْمَ. قال زهير:
هو الجوادُ الذي يعطيك نائِلَهُ … عفواً ويُظْلَم أحياناً فَيَنْظَلِمُ
قوله: يُظْلَمُ أي يُسأل فوق طاقته. ويروى: فيَظَّلِمُ أي يتكلَّفه. والظِلِّيمُ بالتشديد: الكثير الظُلْمِ. والظُلْمَةُ: خلافُ النور. والظُلُمَةُ بضم اللام: لغةٌ فيه، والجمع ظُلَمٌ وظُلُماتٌ وظُلْماتٌ)( ).
ومن الإعجاز في خلافة الإنسان في الأرض معرفة الناس بالظلم وأفراده بالفطرة والعقل ، وكيف أنه تجاوز للحد ، وتعد على حق الغير .
وجاء القرآن بقانون وهو ظلم الكافر والمعتدي لنفسه لأن الدنيا مزرعة الآخرة ، وأخبر عن فتح باب التوبة للظالمين ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا]( ).
ليكون من إعجاز القرآن وجوه :
الأول : قانون ضرر الظلم على ذات الظالم .
الثاني : قانون العذاب الأليم على الظلم .
الثالث : قانون التدارك بالإستغفار .
والنسبة بين الظلم والإرهاب العموم والخصوص المطلق فكل إرهاب هو ظلم وليس العكس ، وقد يكون أحدهما مقدمة للآخر ، ونتيجة له .
لذا فان إجتناب الإرهاب نجاة في النشأتين ، وسلامة من الظلم والتعدي ، ويمكن القول بقانون وهو كل آية من القرآن تنهى عن الظلم والتعدي والإرهاب من جهة أو أكثر من الجهات الآتية :
الأولى : منطوق الآية .
الثانية : مفهوم الآية .
الثالثة : دلالة الآية .
الرابعة : الجمع بين الآية القرآنية وغيرها من آيات القرآن .
فقد لا تجد في آية قرآنية إشارة للظلم ، ولكن عند جمعها مع غيرها من آيات القرآن يتبين بجلاء معنى القبح الذاتي للظلم .
و(عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)( ).
لقد تضمن القرآن أكثر من خمسمائة آية من آيات الأحكام ، وكل آية حرز من الظلم والإرهاب ، وحصانة للناس جميعاً ، فيتقيد المسلم بأحكام الآية القرآنية فيسلم من ظلمه القريب والبعيد ، مثلاً في النهي عن أكل أموال اليتامى ، قال تعالى [وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا]( )، فيحفظ اليتيم وماله في الإسلام للإحتراز من الظلم ، وليكون من باب الأولوية إجتناب الإرهاب لما فيه من الضرر من وجوه :
الأول : صيرورة الأبناء أيتاماً بسبب قتل الأب بالإرهاب.
الثاني : تعرض الايتام للقتل بالإرهاب .
الثالث : فاجعة الأبوين والأهل بفقد الشباب في الإرهاب والتفجيرات .
الرابع : الفزع والخوف الذي يتغشى الأيتام وأولياءهم من الإرهاب.
الخامس : من وجوه الظلم بالإرهاب تلف الأموال وشلّ حركة التجارة والسِفر ، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ]( ).
نداء الإيمان حاجز دون الإرهاب
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والمسلمات وشهد لهم في كلامه الباقي في الأرض إلى يوم القيامة بالإيمان إذ قال سبحانه في نداء الإكرام [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
نعم النسبة بين الذين آمنوا والمؤمنين عموم وخصوص مطلق ، فالذين آمنوا أعم والمراد الذين آمنوا بالله والربوبية المطلقة له سبحانه ، ونطقوا بالشهادتين ووقفوا في صفوف المصلين ، أما الإيمان فهو اعتقاد بالجنان ، وقد تكرر النداء أعلاه في القرآن تسعاً وثمانين مرة ويحتمل وجوهاً :
الأول : نداء الإيمان شهادة متحدة من عند الله عز وجل .
الثاني : إنه شهادة متعددة ، وكل فرد منها شهادة مستقلة .
الثالث : ليس في نداء الإيمان هذا شهادة من عند الله .
والصحيح هو الثاني أعلاه ، قال تعالى [لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( )، وهو إكرام إضافي للمسلمين ، ودعوة للمنافقين للإستحياء من الله ، والتنزه عن النفاق وفيه حث للمسلمين لإجتناب الظلم والتعدي.
وليس من حصر لمنافع نداء الإيمان في إصلاح حال المسلمين ، وتأهيلهم لعالم الحساب بسنن التقوى ، ومن خصائص استدامة وتجدد الشهادة بحسن سمت المسلمين ، وبعثهم على العمل بسنن الإيمان ، وهو حرب على الإرتداد ، ودليل على عصمتهم( ).
ومن معاني تعدد شهادة الله للمسلمين بالإيمان في نداء الإيمان تعدد الموضوع والحكم في آيات هذا النداء فتجد في كل آية أمراً أو أكثر ، كما في في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، وكما في آية الوضوء وتعدد أجزائه( ).
أو يتعدد النهي في الآية كما في قوله تالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، أو تكون آية نداء الإيمان جامعة للأوامر والنواهي كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
ومن إعجاز القرآن قانون موضوع آية النداء أعم منها ، إذ أنه يشمل في الغالب آيات تأتي بعدها وتكون معطوفة عليها بحرف عطف كالواو ، كما في قوله تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ]( ).
أو تكون معطوفة عليها بالمعنى ووحدة الموضوع في تنقيح المناط ليصاحب هذا النداء المسلم في تلاوته لآيات القرآن.
وقد تأتي آيتان متجاورتان كل واحدة منهما تبدأ بنداء الإيمان.
ونسبة آيات النداء التسعة والثمانين إلى مجموع آيات القرآن نحو 1/70 ولكن موضوعها في الآيات المعطوفة على النداء يضيق هذه النسبة إلى نحو 1/40 من مجموع آيات القرآن.
وقد جاء في الجزء الواحد والأربعين بعد المائة من هذا التفسير باب اسمه (العطف على نداء الإيمان) ( ).
ومن خصائص نداء الإيمان تفاخر الملائكة بالمؤمنين وعباداتهم ، وذكرهم لله ، وهو مقدمة لنزولهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر وأحد والخندق وحنين ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
وهذا الإفتخار الملكوتي دعوة للمسلمين مجتمعين ومتفرقين لإجتناب الظلم والتعدي سواء فيما بينهم ، أو مع غيرهم ، وهو الذي تجلى باستنكار عامة المسلمين لظاهرة الإرهاب في هذا الزمان ، فلا تجد له ناصراً لذا فانه إلى إنحسار وزوال ، ليبقى نداء الإيمان يطل على المسلمين في الليل والنهار ، وفي الصباح والمساء ويأخذ بأيديهم إلى مراتب الرفعة والعز.
ترى كيف يكون نداء الإيمان زاجراً عن الإرهاب فيه مسائل :
الأولى : تقدير الآية : ياأيها الذين آمنوا اطيعوا الله والرسول باجتناب الإرهاب .
الثانية : ياأيها الذين آمنوا يتنافى الإرهاب مع الإيمان والهدى.
الثالثة : ياأيها الذين آمنوا انتم القادة في الزجر عن الإرهاب ، وهل من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، للتضاد بين الخير والتفضيل وبين الإرهاب .
الرابعة : ياأيها الذين آمنوا بان رسالة النبي محمد مانع من الإرهاب إلى يوم القيامة .
الخامسة : ياأيها الذين آمنوا تعاونوا في دفع الإرهاب عن المجتمعات .
السادسة : ياأيها الذين آمنوا احترزوا بالتقوى وأداء الفرائض من آفة الإرهاب .
السابعة : ياأيها الذين آمنوا لا يحل لكم الإرهاب والتفجيرات .
الثامنة : ياأيها الذين آمنوا تعاهدوا الإيمان باجتناب الإرهاب .
التاسعة : ياأيها الذين آمنوا بالتضاد بين الإسلام والإرهاب .
العاشرة : ياأيها الذين آمنوا بنزاع القرآن المسلح ضد الإرهاب .
وقد تقدم كل من :
الأول : قانون نداء الإيمان زجر عن السيئات.
الثاني : قانون تقدير نداء الإيمان في كل آية من القرآن.
الثالث : قانون تقدير نداء الإيمان في كل آية من آيات القرآن أن القرآن نزل هداية للمسلمين ، وبياناً وموعظة لهم ، ولا يتعارض هذا التقدير مع مضامين الآية القرآنية وإن جاءت خطاباً لغير المسلمين ( ).
قانون نداء الإيمان سلام
لقد جعل الله عز وجل القرآن لواء ودرع السلام في الأرض وصحيح أنه خطاب خاص في مقابل الخطاب العام في القرآن للناس جميعاً كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ]( ) إلا أن بركاته تترشح على الناس من وجوه :
الأول : في القرآن رسماً وتلاوة أمن وسلام للمسلمين، لأنه من الشواهد على الأخوة بينهم من جهات:
الأولى : إنبساط وتغشي نداء الإيمان لكل المسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، إذ يدل على أنهم أمة واحدة تتزين بلباس الإسلام ، ومنه العصمة من الإرهاب.
الثانية : في نداء الإيمان ندب للمسلمين جميعاً للتعاون في العمل بأحكام التنزيل، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ) والنسبة بين العدوان والإرهاب عموم وخصوص مطلق .
الثالثة : الإتحاد والتشابه في أداء الفرائض والعبادات التي تضمنت آية النداء وجوبها، وهل هذا الأداء من مصاديق الأخوة بين المسلمين ، الجواب نعم .
الرابعة : التعاون والتآزر بين المسلمين في الإمتثال للأوامر والنواهي الواردة في آيات نداء الإيمان.
لقد آخى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار بعد هجرته إلى المدينة وقبل معركة بدر الدفاعية المحضة لبيان مصداق يتجلى على نحو يومي في الأخوة الإيمانية بالتعاون بين كل أخوين ، وقد تقدم ذكر هذه المؤاخاة( ).
لتكون نواة للأخوة بين المسلمين بدليل قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، وأيهما أكثر نفعاً في حياة أجيال المسلمين الآية القرآنية أعلاه ، أم مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه ، الجواب هو الآية القرآنية أعلاه ، فمع قدسية وموضوعية السنة النبوية في حياة المسلمين إلا أن الآية القرآنية أعظم أثراً وأكثر نفعاً من السنة النبوية ، وهو من إعجاز القرآن وكونه معجزة عقلية حاضرة في كل زمان ، وهذا الحضور أمر وجودي ، ومؤثر في الوقائع والأحداث.
الثاني : تضمنت آيات النداء أحكام الأمن والسلام بين الناس، ومنها حكم القصاص كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ]( )، للزجر عن الظلم والتعدي، كأن الآية تستصرخ المسلمين وتندبهم إلى الإمتناع عن إشاعة القتل والفتك بالناس.
الثالث : من دلالات ومعاني تكليف المسلمين بالعبادات الإنشغال بذكر الله والعزوف عن إيذاء الغير .
الرابع : نداء الإيمان باعث للمسلمين للإنصراف عن الظلم والتنزه عن الإرهاب ، لانبساط الإيمان على الجوارح والأركان بالخشية من الله عز وجل ، والرضا بما قسم ، ورجاء فضله وإحسانه.
الخامس : تكرار وتعدد نداء الإيمان في القرآن عون للمسلمين في باب المعاملات وحسن الخلق والتهذيب وصيغ المودة مع الناس بالذات والمقابلة بالمثل ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
والنسبة بين معنى الآية أعلاه وسبب نزولها العموم والخصوص المطلق ، إذ أن سبب نزولها هو المودة للإمام علي عليه السلام .
فقد ورد عن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام : قل : اللهم اجعل لي عندك عهداً ، واجعل لي عندك ودّاً ، واجعل لي في صدور المؤمنين مودة فأنزل الله [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( )، قال : فنزلت في علي.
وأخرج الطبراني وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : نزلت في علي بن أبي طالب [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( )، قال : محبة في قلوب المؤمنين( ).
أما معنى الآية فهو أعم إذ ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال (سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله [سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا] ما هو ، قال : المحبة ، في قلوب المؤمنين ، والملائكة المقربين . يا علي ، إن الله أعطى المؤمن ثلاثاً . المنة والمحبة والحلاوة والمهابة في صدور الصالحين)( ).
ومن الشكر لله عز وجل على ود الناس الذي يأتي من الغير إبتداء عدم صدور الأذى من المسلمين إلى الناس ، قال تعالى [هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ]( )، بلحاظ أن هذا الود من الإحسان ، فان قيل هذا الود للمؤمنين فضل من عند الله ، وكيفية يقذفها الله في نفوس الناس ، فهل فيه إحسان منهم .
الجواب نعم ، وهو من فضل الله عز وجل فلابد أن يقابله المؤمنون بنشر ألوية السلم والأمن في الأرض ، وأن يطمئن الناس للمسلم في ميدان العمل وفي السوق وفي المنتديات ، فلا يخشون غائلته وغدره ، ليكون من معاني قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، وجوه:
الأول : اطمئنان وسكينة قلب الذاكر لله عز وجل.
الثاني : نزول الطمأنينة على المستمع لذكر الله ، وتلاوة القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثالث : اطمئنان الناس لقارئ القرآن ، والمسلم الذي يقيم الصلاة ، وهو من الإعجاز في وجوب قراءة المسلم القرآن في الصلاة لأنها باعث للطمأنينة في قلوب أهل الكتاب والناس جميعاً من المسلمين ليترتب عليه قانون عصمة المؤمنين من الظلم والإرهاب ، ترى ما هي النسبة بين ذكر الله وتلاوة القرآن.
الجواب إنها العموم والخصوص المطلق ، فكل قراءة للقرآن هي ذكر لله عز وجل وليس العكس ، لبيان قانون وهو مصاحبة ذكر الله لوجود الإنسان في الأرض ، وأول من أدى الصلاة هو آدم عليه السلام ، وكل من ذكر الله في الصلاة وقراءة القرآن مانع من أمور :
الأول : الفساد .
الثاني : الظلم .
الثالث : الإعتداء .
الرابع : الإرهاب .
وقد تقدم في الجزء الثامن والثلاثين بعد المائة من هذا التفسير (بين الفساد والإعتداء عموم وخصوص مطلق ، فالفساد هو الأعم ، ومن علم الله تعالى أنه ينزل قانون بغضه للمعتدين في القرآن ليكون هذا القانون إنذاراً للناس جميعاً من الإعتداء ، وبشارة للذين يُعتدى عليهم بأن الله عز وجل ينتقم من المعتدين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ) في خطاب من الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قانون سكن آدم في الجنة نهي عن الإرهاب
من معاني ملك الله عز وجل للسموات والأرض تجلي النعم على الخلائق فيها ، ومنها الإنسان ، إذ خصه الله عز وجل بإكرام خاص ، منه سكن آدم في الجنة ، وإتصال هذا السكن بخلق آدم ، وخلق الله عز وجل زوجته حواء لتسكن معه في الجنة آنآما ، مع إباحة الأكل لهما ، قال تعالى [وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ).
وأختلف هل الجنة التي سكنها آدم هي في السماء أم في الأرض ، ومنهم من أختار الثاني للفظ [اهْبِطُوا] أعلاه والتمييز بينه وبين لفظ النزول ، وكونها من جنات الدنيا لا يعني أنها في الأرض على نحو الحصر ، فالسموات بهيئتها وطبقاتها من الدنيا لذا قال تعالى بخصوص يوم القيامة [يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ]( ).
لقد منع الله عز وجل الملائكة من إجتناب الإختلاط بآدم لأنه من جنس غير جنسهم ، أو لأنه مخلوق من الطين ، أو لأنه مركب من عقل وشهوة ، وهم عقول إيمانية محضة ، إذ تفضل الله وأمر آدم بتعليم الملائكة الأسماء [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( ).
وهو من مصاديق إكرام الله عز وجل لآدم وذريته بابتداء إختلاط آدم وحواء بالملائكة ، بالعلم والمعرفة ، وبيان الأهلية للخلافة في الأرض ، ومن مصاديق هذه الأهلية الإبتعاد عن الإرهاب ، والنفرة العامة والخاصة منه ، وهو الذي يتجلى في كل زمان بخصوص الوقائع المعاصرة أو التأريخ ، وكان القرآن الإمام في هذا العلم ، إذ ذكر قصص الأنبياء وبعثهم بالرحمة والرأفة ، وقصص الجبارين والطواغيت ، وهلاكهم وجنودهم.
وكان موضوع الهلاك الكفر والجحود والظلم من موقع الرياسة والسلطة.
وهل يمكن القول بأن عقوبة الجمع بين الكفر والظلم من منازل الرياسة والأمرة تكون سريعة وقاصمة ، الجواب نعم ، فالذي يتولى الرياسة بين الناس يجب أن يجتنب التجاهر بالكفر ، ويمتنع عن الإسراف في سفك الدماء ، فهو من الظلم للذات والغير ، وباب لإفتتان العامة ، قال تعالى [كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ] ( ).
لقد تكررت قصة سكن آدم وحواء في الجنة في القرآن ، كما وردت في بعض الكتب السماوية السابقة ، وفي سفِر التكوين .
(2: 16 و اوصى الرب الاله ادم قائلا من جميع شجر الجنة تاكل اكلا
2: 17 و اما شجرة معرفة الخير و الشر فلا تأكل منها لانك يوم تاكل منها موتا تموت) ( ).
(3: 3 و اما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تاكلا منه و لا تمساه لئلا تموتا .
3: 4 فقالت الحية للمرأة لن تموتا .
3: 5 بل الله عالم انه يوم تاكلان منه تنفتح اعينكما و تكونان كالله عارفين الخير و الشر.
3: 6 فرات المرأة ان الشجرة جيدة للاكل و انها بهجة للعيون و ان الشجرة شهية للنظر فاخذت من ثمرها و اكلت و اعطت رجلها ايضا معها فاكل .
3: 7 فانفتحت اعينهما و علما انهما عريانان فخاطا اوراق تين و صنعا لانفسهما مازرا.
3: 8 و سمعا صوت الرب الاله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار فاختبا ادم و امراته من وجه الرب الاله في وسط شجر الجنة
3: 9 فنادى الرب الاله ادم و قال له اين انت
3: 10 فقال سمعت صوتك في الجنة فخشيت لاني عريان فاختبأت) ( ).
وعن الحسين بن بشار عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (سألته عن جنة آدم .
فقال: جنة من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الخلد ما خرج منها أبدا) ( ).
لقد رآى آدم وحواء إخلاص الملائكة في عبادة الله ليصفها الله عز وجل للناس في القرآن بقوله تعالى [يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ]( )، ولم يرد لفظ (لا يفترون) في القرآن إلا في الآية أعلاه، لبيان أن الله عز وجل يخفف عن الناس فهم لا يرتقون إلى عبادة الملائكة وانقطاعهم إلى التسبيح ، ولكنهم يذكرون الله ويؤدون الفرائض بما يحجبهم عن الفساد والإرهاب .
ولو اجتهد آدم وحواء في مما كان الملائكة بالتسبيح والذكر لما أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها ، وكذا المؤمن إذا واظب على التسبيح فذه المواظبة تنزه عن الفساد وعصمة من الإرهاب.
قانون الهبوط إنذار من الإرهاب
قيل ان مادة هبط وردت بخصوص الإنتقال والتحول من موضع إلى آخر في الأرض كما في قوله تعالى [قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( )وقوله تعالى [قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ..] ( ).
أما النزول فقد ورد بخصوص النزول من السماء كما في قوله تعالى [وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا] ( ) وقوله تعالى [وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ..] ( ) ومنه قوله تعالى [ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] ( ) ومنه قوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ *لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ] ( ).
ومنها آيات نزول القرآن منها قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً] ( ).
ولكن هل يمكن حمل لفظ الهبوط بأنه من العلو إلى الأسفل ، ومرادفاً النزول ، الجواب نعم .
قال الجوهري (هَبَطَ هُبوطاً: نزل. وهَبَطَهُ هَبْطاً، أي أنزله، يتعدَّى ولا يتعدّى. يقال: اللهم غَبْطاً لا هَبْطاً) ( ).
وقال الفيروز أبادي (هَبَطَ يَهْبِطُ ويَهْبُطُ هُبوطاً نَزَلَ. وهَبَطَهُ، كنَصَرَهُ أنْزَلَهُ، كأَهْبَطَهُ) ( ).
لقد اقتبس آدم وحواء من سنن الملائكة واجتهادهم في طاعة الله عز وجل إذ أنهم مجبولون عليها ، قال تعالى [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( )، لينعكس هذا الإقتباس في سيرة آدم ، ويجعله تركة وميراثاً لذريته ، فيكون مدداً في الصلاح ومعاني الأخاء الإنساني وإجتناب المعاصي والسيئات وأفراد الظلم والإرهاب.
لقد رآى آدم عليه السلام معصية إبليس وإزلاله له ولزوجته ليحذر وذريته منه إلى يوم القيامة ، والفساد والظلم من إغراء وإغواء إبليس لبني آدم .
ومن معاني سكن آدم في الجنة الإتعاظ واللجوء إلى الإستشارة والتفكر ، وقيل أن الملائكة سألوا الله عز وجل عن وجه الحكمة في جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، مع أنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، والمختار عدم ثبوت هذا المعنى والإجتهاد في التأويل .
إذ أنهم يسلمون بمصاحبة الحكمة العالية للمشيئة الإلهية ، وليس في الآية نوع مشورة لأن الله عز وجل لا يستشير أحداً ، لذا قال سبحانه [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ) .
لقد أختلف في محل وموضع هبوط آدم وحواء اختلافاً كثيراً ، ويتجدد هذا الإختلاف ، وتستحضر الأقوال بخصوصه في كل زمان ، ومنها :
الأول : هبط آدم وحواء إلى الهند .
الثاني : هبط آدم إلى الهند ، وحواء إلى جدة ، وأهبطت الحية إلى أصفهان عن الحسن البصري( ) ، ومن عمومات لفظ [جَمِيعًا] في قوله تعالى [اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا] ( ) التقارب في موضع الهبوط إلا أن يشاء الله .
الثالث : هبط آدم على جبل الصفا لذا سمي بهذا الاسم لأن صفوة الله نزل عليه .
وأهبطت حواء على جبر المروة ، فاقتبس اسمه من اسم المرأة ، وهو الوارد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ( ).
و(عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: “أُهْبِطَ آدَمُ بِالصَّفَا، وَحَوَّاءُ بِالْمَرْوَةِ”)( ).
الرابع : عن ابن عباس (قال : أهبط آدم إلى أرض يقال لها دجنا ، بين مكة والطائف) ( ).
ولابد من التحقيق في أمور :
الأول : علة وأسباب هبوط آدم وحواء .
الثاني : الغايات من الهبوط من الجنة .
الثالث : حاجة الناس إلى هذا الهبوط .
الرابع : النسبة والصلة بين الهبوط والتكليف ، قال تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ر بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ] ( ).
الخامس : عدم حصول هبوط آدم وحواي من الجنة إلا بعد أن احترزا من الفساد ، وسفك الدماء ، لتكون سيرتهما زاجراً عن الإرهاب .
وهل من صلة بين أكل آدم وحواء من الشجرة وبين قيام قابيل بقتل أخيه هابيل بن آدم ، الجواب لا ، وفي حديث طويل عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (إن آدم عليه السلام بقي على الصفا أربعين صباحا ” ساجدا ” يبكي على الجنة وعلى خروجه من جوار الله عزوجل، فنزل عليه جبرئيل عليه السلام فقال: يا آدم مالك تبكي ؟
قال: يا جبرئيل مالي لا أبكي وقد أخرجني الله من جواره وأهبطني إلى الدنيا، قال: يا آدم تب إليه، قال: وكيف أتوب ؟
فأنزل الله عليه قبة من نور في موضع البيت فسطع نورها في جبال مكة فهو الحرم) الحديث .. ( ).
لقد كان بكاء آدم على الجنة والبشارة بالعودة إليها بالتوبة والصلاح ترغيب بالعمل الصالح ونهي عن الإرهاب ، وتخويف منه ، ومن إضراره .
لقد عصى آدم وحواء بالأكل من الشجرة ، فاخرجهما من الجنة وأهبط إلى الأرض ، ومعهما رأس الفتنة إبليس ، ليكون هذا الخروج وسببه زاجراً للمسلمين والناس جميعاً عن المعصية مطلقاً ، وإذا كان الأكل من الشجرة وحده سبب للخروج من الجنة ، والهبوط والإبتلاء ، فكيف بالإرهاب وسفك الدماء ، والتفجيرات ، وإخافة الكبار والصغار ، والرجال والنساء في الأمصار .
قانون التضاد بين البركة والإرهاب
البركة هي النماء والزيادة وثبوت الخير بلطف من عند الله ، وهي خير محض ، ونعمة ظاهرة قد لا تجد لها سبباً إلا فضل الله ، وحضور مشيئته في جلب الزيادة والكثرة لأفراد الخير والصلاح ، وصرف النقص والمحق وأسبابه، ومنها الخصب والولد ، وصلاحه ، وصحة البدن.
(والبَرَكَةُ: النماءُ والزيادةُ. والتَبْريكُ: الدعاءُ بالبَرَكَةِ. وطعامٌ بَريكٌ، كأنه مبارَكٌ. ويقال: بارَكَ الله لك وفيك وعليك، وبارَككَ. وقال تعالى بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ( ).
والمختار أن البركة ليست النماء والزيادة وحدهما ، فحيثما كانت البركة فانها بمشيئة وفضل وإحسان ورأفة من عند الله عز وجل ، لذا قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
(وفي حديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبارِكْ على محمد وعلى آل محمد أي أَثْبِتْ له وأدم ما أعطيته من التشريف والكرامة)( ).
(والعرب تقول باركَكَ الله وبارَكَ فيك)( ).
لبيان أن البركة نعمة ، ويأتي الدعاء لسؤالها ، ومن معاني التضاد بينها وبين الإرهاب أن الإرهاب سبب للنقص والخسارة في الأنفس والأموال ، وضياع للوقت وتلف للأعيان ، وهل من البركة سكينة النفوس والطمأنينة ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ]( ).
إذ تبعث تلاوة القرآن السكينة في النفس ليكون من فضل الله عز وجل بتلاوة القرآن سبع عشرة مرة في الصلاة على نحو الوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة وسيلة ومناسبة لنزول البركة عليهما ، وعوائلهما ومن حولهما من الجيران وغيرهم ، ليتجلى التضاد بين البركة التي تشع وتتفرع من الصلاة وبين الظلم والقهر في الإرهاب ، وهو من مصاديق عنوان هذا الجزء وهو (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب).
فالبركة أحد الأسلحة التي ينازع ويحارب بها القرآن ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، وليس عند الإرهاب سلاح نافع يحارب به .
قانون أسلحة القرآن ضد الإرهاب
لقد تجلت في هذا السِفر علوم مستحدثة ، ولكنها مقتبسة من آيات القرآن ، والآف كثيرة مستنبطة من مضامينها القدسية ، لأُبين للاجيال المتعاقبة أن علوم القرآن من اللامتناهي ، وأنها تدعو العلماء والمحققين إلى بذل الوسع في استقراء القوانين والمسائل من آيات القرآن متحدة ومتداخلة ومترابطة .
وقد صدرت لي والحمد لله أجزاء خاصة بالجمع بين آيتين ،أو أكثر لتثوير علوم التفسير والتأويل ، وفيه دعوة لأهل الإختصاصات المختلفة للإشتراك في تفسير كل آية من القرآن ، وهذه الأجزاء هي :
- الجزء السادس والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 64-69 من سورة آل عمران.
- الجزء السابع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات70-77 من سورة آل عمران.
- الجزء الثامن والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 78-84 من سورة آل عمران.
- الجزء التاسع والسبعون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 85-93 من سورة آل عمران.
- الجزء الثمانون ، ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 94-102 من سورة آل عمران .
- الجزء الواحد والثمانون ،ويختص بصلة الآية 110 بالآيات 101-109 من سورة آل عمران .
- الجزء السادس والعشرون بعد المائة ، ويختص بصلة الآية (152) بالآية التي قبلها من سورة آل عمران.
- الجزء السابع والعشرون بعد المائة وهو القسم الأول من تفسير الآية153 ,ويختص بصلة شطر من الآية 153 بشطرمن الآية 151 من سورة آل عمران.
- الجزء التاسع والعشرون بعد المائة , وهو القسم الأول من تفسير الآية 154 , ويختص بصلة شطر من الآية بشطر من الآية 153 من سورة آل عمران.
- الجزء الواحد والخمسون بعد المائة ، ويختص بالصلة بين شطر من الآية 161 بشطر من 164 من سورة آل عمران .
- الجزء الواحد والتسعون بعد المائة , ويختص بالصلة بين الآية 180 والآية 181 من آل عمران .
ومن أسلحة القرآن ضد الأرهاب ما يتجلى في أسماء القرآن مثل : مباركاً للتنافي والتباين بين البركة والإرهاب .
وقد تعددت الآيات التي تصف القرآن بأنه تنزيل وأنه مبارك لبيان أن القرآن خير محض ويأتي بالبركة عند تلاوته والعمل باحكامه وسننه .
ومن بركة القرآن اهتداء كثير من الناس ودخولهم الإسلام بالإقرار بأنه تنزيل وفوق كلام البشر .
ومن خصائص بركة القرآن تجددها وتواليها ، وتجليها في كل زمان في الأقوات والأوقات وفي حال الرخاء والشدة ، والسراء والضراء ، وعند الإبتلاء والفتن ، وحينما تبرز ظاهرة الإرهاب تتوجه إليها بركة التنزيل فتحاصرها وتفضحها ، بالحجة والبرهان من وجوه :
الأول : بركة الأرض إذ تلفظ الإضرار العام ، قال تعالى [وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ]( ) .
الثاني : بركة البيت الحرام ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : بركة القرآن وهو من أسرار قراءة المسلمين له كل يوم في الصلاة وخارجها ، وسلامته من التحريف ، وهل هذه السلامة من البركة التي جعلها الله في القرآن ، الجواب نعم .
الرابع : بركة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحكام الشريعة السمحاء التي جاء بها .
وهل يستطيع غير الله عز وجل أن يبارك بالأشياء ، الجواب لا , إلا بفضل من الله .
وهو من معاني [تبارك الله ]أي تعالى وتقدس وتعاظم ، وهو الذي يهيل ويهب البركة ، وفي التنزيل [اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] ( ) .
وفيه ترغيب للناس باللجوء إلى الله عز وجل للفوز بالبركة والإنتفاع منها لأمور الدين والدنيا ، والإعراض عن أسباب حجب البركة عن الظلم والتعدي والإرهاب.
ومن خصائص النبوة مصاحبة البركة لها ، وفي عيسى عليه السلام ورد في التنزيل [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا]( ) .
وهل هذه البركة مصاحبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أينما كان بلحاظ قانون وهو ما رزقه الله عز وجل الأنبياء السابقين رزقه للنبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
ومع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بركات القرآن والبيت الحرام ، وكان الأنبياء يوصون ابناءهم بالصلاة وطاعة الله لأنها مجلبة للبركة.
وفي يعقوب عليه السلام ورد في التنزيل [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
(قال الكلبي : لمّا دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيران فجمع ولده وخاف عليهم ذلك ) ( ).
لقد جعل الله عز وجل كل فرد من أفراد طاعته واقية من الإرهاب ، و من طاعة الله عز وجل تلاوة القرآن ، وهل يساهم علم التفسير في نبذ الظلم والإرهاب .
الجواب نعم ، وهو من بركة القرآن والإفاضات التي تترشح عنه في مختلف أبواب العلم والمجتمع ، وفيه حجة على العلماء.
قانون القرآن مانع من المجتمع الموازي
من خصائص القرآن أنه يمنع من المجتمع الموازي وهو التنظيم الذاتي للأقلية الدينية أو العرفية ، وعادة ما يكون في الطوائف المهاجرة إلى بلدان ومجتمعات واسعة لطرد الوحشة وأسباب الإحباط أو الغربة والإقصاء والتباين في الثقافة والمعتقد .
ويحض القرآن على التقيد بأحكام الدستور والقوانين والسنن واحترام الضوابط التي تجعلها الدول لتنظيم الحياة الإجتماعية والإقتصادية.
ليبدع المسلم في أداء واجباته العامة ، ويكسب مودة عامة الناس.
فلابد من الإندماج بالمجتمعات مع تعاهد وحفظ القيم الإسلامية ، فليس من تعارض بينها ، وهو من الإعجاز في الشرائع السماوية ، بملائمتها لكل زمان ، والقوانين والأنظمة الوضعية.
لقد أخبر الله عز وجل عن حصر عدم المغفرة بالشرك ، قال سبحانه [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( )، مما يدل على التقيد بالقوانين سواء في البلدان الإسلامية أو الغربية .
ومن خصائص القرآن تأكيده على الصبر وملازمته للإيمان ، كما أمر الله عز وجل بجعل الصبر مادة يتواصى بها المسلمون ، قال تعالى [إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ]( )، وقال تعالى [مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ]( ).
وورد عن ابن عمر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله : [مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ]( ) قال : الذي مأواه المزابل( ).
وهو من الإعجاز في السنة النبوية ، وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إلى هذا الزمان ، وما تنقله وسائل الإعلام من لجوء بعض الناس إلى المزابل وموضع جمع النفايات للحصول على لقمة العيش ، وهو لا يتعارض مع معنى الآية بإرادة الفقير شديد الفقر الذي ليس له بيت يأويه ويقيه التراب والعجاج.
ولا يختص التواصي بالمرحمة في الآية أعلاه فيما بين المسلمين إنما هو مطلق ، وتشمل توصية المسلم أخاه بالمرحمة على المسلم والكتابي وغيرهما ، لذا ورد (عن ابن عباس [وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ]( )، يعني بذلك رحمة الناس كلهم)( ).
لتكون التوصية بالصبر ، والتوصية بالرحمة واقية من العزلة ومن المجتمع الموازي ، فيدخل المسلم المجتمعات بأمور :
الأول : تقوى الله والخشية منه .
الثاني : الرأفة والرحمة العامة ، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (مَنْ يَرْحَمِ النَّاسَ ، يَرْحَمُهُ الله تَعَالَى)( ).
الثالث : الإحسان للغير .
الرابع : بذل الوسع في إعانة الآخرين .
الخامس : التقيد بضوابط المواطنة ، ومنع بناء جدار من العزل بين الأقلية المسلمة وعامة المجتمع ، فالمواطنة خيمة ، وسور الموجبة الكلية الذي يجمع الناس ، ويجب بذل الوسع من السلطان لمنع التهميش والدونية ، والبطالة عن الأقليات لقطع ذريعة واهية من ذرائع الإرهاب والعنف .
وجاءت الآيات أعلاه بالتواصي بالصبر والمرحمة لبيان أنه حتى مع شدة الأحوال ، وضغط هذه المفاهيم وأسباب العزلة فيجب على المسلم تعاهد سنن التراحم مع الناس جميعاً ، ومقابلة التقصير معه بالإحسان ، للفوز بالأجر العظيم كما ورد في الآية التالية التي تقدم الصبر على أداء الفرائض ، وتأمر بالإحسان على كل حال ، قال تعالى [وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ]( ).
ليكون إحسان المسلم إلى غيره مادة لمضاعفة الأجر والثواب ، قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ).
لتتضمن الآية أعلاه الزجر عن الإرهاب من وجوه :
الأول : الترغيب بالعمل الصالح .
الثاني : التحلي بالأخلاق الحميدة .
الثالث : إظهار العفو واللطف مع الآخرين والصفح عنهم .
الرابع : الأجر والثواب على العفو والصفح ، قال تعالى [فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ( ).
وهل تضمن القرآن النهي عن المجتمع الموازي ولو على نحو الكراهة ، الجواب نعم ، وتدل عليه آيات التعاون والمودة والرأفة ، وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] ( ) ومن التقوى والسعي لبلوغ مراتب الإكرام من عند الله والملائكة والناس ، التنزه عن الإرهاب .
قانون أيام السلم أكثر أيام العنف والحرب
من فضل الله عز وجل على الناس أنه جعل أيام السلم أكثر من أيام الحرب والعنف والإرهاب ، سواء بالنسبة للأفراد أو القبائل أو الدول ، فان قلت قد ذكر في التأريخ أن حرب البسوس استمرت أربعين سنة ، وكذا حرب الرهان داحس والغبراء ، والجواب أن تلك المعارك بين قبائل معينة وليس بين كل القبائل ، وفي بقعة محصورة من الأرض .
وكانت الحرب في أيام مخصوصة وليس كل أيام السنة ، وقد خفف الله عز وجل عن الناس وجعل ثلث أيام الناس حرماً لا يصح فيها الإقتتال وسفك الدماء والإرهاب والتفجيرات ، لتكون سبباً لإستدامة الحياة وبيان لذة وحلاوة السلم ، ولعقد الصلح فيه ، ومنه صلح الحديبية ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ) ، وقد تقدمت الإشارة والبيان بخصوص حرب البسوس التي وقعت بين قبيلتين وطائفتين من المشركين وهم بكر بن وائل ، وتغلب بن وائل ، وفيها مسائل :
الأولى : طرفا الحرب أبناء عمومة ، مما يدل على حاجة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت بالأخوة الإيمانية .
الثانية : سبب هذه الحرب نحر ناقة ، إذ قتل الملك كليب بن ربيعة ناقة خالة جساس .
وقيل كليب لقبه ، واسمه وائل ، ولد سنة 440م وكان قتله سنة 494م ثم استمرت الحرب أربعين سنة بعد هذا القتل أي أنها كانت قريبة من أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : كانت الحرب منقطعة تقع في أيام محدودة ثم تجري شبه هدنة مع ترصد وغارات متفرقة ولكن يكون الناس طيلة تلك المدة في حال فزع وخوف وحراسة في الليل والنهار ، وخشية من السفر على الذات في الجادة العامة ، وعلى العيال لإحتمال تعرضهم للإغارة من قبل العدو ، ومن أيام حرب البسوس ، يوم النهى وهي أول واقعة لهم (ثم التقوا بالذنائب، وهي أعظم وقعة كانت لهم، فظفرت بنو تغلب وقتلت بكراً مقتلة عظيمة)( ).
ويوم عنيزة ، ويوم واردات ، ويوم الحنو كان لبكر على تغلب، ويوم القصيبات أنتصرت فيه تغلب( ) ، ثم كانت أيام أدنى منها .
وتتجلى شراسة هذه الحرب وما فيها من كثرة الخسائر والقتلى بخطاب المهلهل وهو أخو كليب ملك تغلب لقومه بكر بن وائل إذ قال وهو ينوي الرحيل عنهم إلى اليمن (وقد أتت على حربكم أربعون سنة وما لمتكم على ما كان من طلبكم بوتركم، فلو مرت هذه السنون في رفاهية عيش لكانت تمل من طولها، فكيف وقد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد ونائحة لا تزال تصرخ في النواحي، ودموع لا ترفأ، وأجسادٌ لا تدفن، وسيوف مشهورة، ورماح مشرعة)( ).
الرابعة : كانت الأسلحة في تلك المعارك بدائية من السيف والرمح ، وكانت أحياناً على نحو المبارزة الفردية ، يتقدم اثنان كل واحد من جمع وطرف للمبارزة ، والصفوف تنتظر وتتطلع ، وقد تستغرق المبارزة الواحدة نصف ساعة أو أكثر ، وقد تكون بعدها فترة ومهلة ، أما أسلحة الحرب في هذا الزمان فهي فتاكة مع التسابق الدولي في تطويرها مما يلزم التهدئة والحرص العام على السلم ، ويجب إجتناب الإرهاب حتى على نحو القضية الشخصية لمنع غلبة النفس الغضبية ، والمناجاة بالإنتقام والبطش .
وقال ابن خلدون (أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله. وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، ويتعصب لكل منها أهل عصبيته. فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان إحداهما تطلب الإنتقام والأخرى تدافع، كانت الحرب وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل) ( ).
ولكن الأصل في الخليفة وعمارة الإنسان للأرض هو السلم والتراحم ، ولا تعدو أيام الحرب أن تكون من أيام الحياة الدنيا باحتساب صغر رقعة الحرب بالنسبة لمجموع الأمصار والأرض المعمورة بلحاظ أن الحرب تقع منقطعة ، وفي أجزاء قليلة من الأرض ، فتقع الحرب بين قبيلتين أو بلدتين وباقي القبائل والدول ترفل بالأمن والسلم لبيان القبح الذاتي للحرب والإرهاب .
قانون دروس أيام العرب لدفع الإرهاب
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الموعظة ، وليس من حصر لضروب الموعظة فيها إذ أنها تشمل الإقتباس من الماضي والحاضر والمستقبل ، ومن القريب والبعيد ، وكما يتعظ الفرد والجماعة من الذات والتجربة ، ومن الحكمة الإتعاظ من الغير والإجتناب عن المعاصي والسيئات ، ومنه إدراك قانون قبح الإرهاب وانه لا يجلب لأهله إلا الضرر الشديد.
ومن الإعجاز في خلق الله عز وجل الناس أن المواعظ في خلق آدم وإقامته المحدودة وحواء في الجنة ثم هبوطهما إلى الأرض بحكم وجزاء موعظة لم تستوف الدراسات والعبر التي تقتبس منها .
وفي كل زمان ترى الناس مندهشين من قتل أحد ولدي آدم لأخيه مع أنهما ابنا نبي سكن الجنة ونقل لهما أحوالهما وأخبار الملائكة بما يفوق التصور الذهني ، لبيان مسألة وهي لزوم الإنتفاع الأمثل من الموعظة .
والمختار أنه ليس من ملك في الجزيرة العربية ببركة البيت الحرام ، فأكثرهم قبائل رحل ، وكل قبيلة مستقلة بمشيئتها ، وتتصدع وتتفرع تلك المشيئة على نحو متعاقب، وكليب بن ربيعة الذي قيل أنه ملك إنما ترصده جساس حتى وجده بمفرده فقتله ، وطلب شربة ماء فامتنع أن يعطيه ، (ولم يزل جساس يطلب غرة كليب، فخرج كليب يوماً آمناً فلما بعد عن البيوت ركب جساس فرسه وأخذ رمحه وأدرك كليباً، فوقف كليب.
فقال له جساس: يا كليب الرمح وراءك ؟!
فقال: إن كنت صادقاً فأقبل إلي من أمامي، ولم يلتفت إليه، فطعنه فأرداه عن فرسه، فقال: يا جساس أغثني بشربة من ماء، فلم يأته بشيء، وقضى كليب نحبه. فأمر جساس رجلاً كان معه اسمه عمرو بن الحارث بن ذهل بن شيبان فجعل عليه أحجاراً لئلا تأكله السباع) ( ).
وقيل لم يكن ملك في العرب ، سواء من قحطان أو عدنان إلا اثنين ، كليب بن ربيعة ، وزهير شيخ قبيلة عبس ، وليس لهما وارث في الملك لشدة الحروب والمعارك وقتل كل واحد منهما ، إذ كانت لزهير بن خديجة أتاوة على قبيلة هوازن يأخذها كل سنة في سوق عكاظ ، وكان يؤذي هوازن ويتعالى عليهم ، فخنقوا عليه ، حتى وقعت الحرب بين زهير وبين عامر ، فمالت هوازن إلى جانب بني عامر ضد زهير ، وقتل زهير الملك في المعركة ، قتله خالد بن جعفر بن كلاب ، فحمل أولاد زهير جثة أباهم إلى بلادهم ، وقال ابنه ورقة بن زهير يتوعد خالداً هذا :
(فَطِر خالد إِن كنت تسطيع طيرة … ولا تقعن إِلا وقلبك حاذر
أتتك المنايا إِنْ بقيت بضربة … تفارق منها العيش والموت حاضرُ)( ).
وخشي خالد بن جعفر على نفسه ، وعرف أنه مطلوب ، فالتجأ إلى النعمان ملك الحيرة واستجار به ، فأجاره ، ونصب له قبة ، وانتدب الحارث بن ظالم للثأر من خالد ، وسافر إلى الحيرة ، وتظاهر أنه جاء بطلب حاجة من النعمان ، ولكنه تسلل في الليل إلى قبة خالد ، وقتله وانهزم.
وقالوا أيام العرب ثلاثة وهي :
الأول : يوم جَبله : بين بني تميم وبني عامر بن صعصعة ، وروي أنه كان قبل الإسلام بثلاثين عاماً أو أربعين ، وقيل كان عام ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( )، وبه قال الطبري( ) وهو بعيد .
الثاني : يوم الكلاب الثاني : وكان قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسببه (إن رجلاً من بني قيس بن ثعلبة قدم أرض نجران على بني الحارث بن كعب، وهم أخواله، فسألوه عن الناس خلفه فحدثهم أنه أصفق على بني تميم باب المشقر وقُتلت المقاتلة وبقيت أموالهم وذراريهم في مساكنهم لا مانع لها.
فاجتمعت بنو الحارث من مذحج، وأحلافها من نهد وجرم بن ربان، فاجتمعوا في عسكر عظيم بلغوا ثمانية آلاف، ولا يعلم في الجاهلية جيش أكثر منه ومن جيش كسرى بذي قار ومن يوم جبلة، وساروا يريدون بني تميم، فحذرهم كاهن كان مع بني الحارث واسمه سلمة بن المغفل)( ).
ولم يستمعوا له ، وكمن لهم رجال تميم والحقوا الهزيمة بهم في حرب طاحنة قتل فيها الرؤساء.
الثالث : يوم ذي قار : بين بكر بن وائل وكسرى ملك فارس.
وروي أنه كان بعد يوم بدر بشهرين( ).
أما حروب العرب الكبرى ، فكانت ثلاثة :
الأولى : حرب البسوس : واستمرت نحو أربعين سنة ، وتسمى حرب الناب.
الثانية : حرب داحس : وتسمى أيضاً حرب الرهان بين عبس وذيبان بني بغيض ، وقيل احتربوا أربعين سنة .
الثالثة : حرب بُعاث : فيما بين بني قيلة وهما الأوس والخزرج ، ولم ينطفئ فتيل هذه الحرب إلا بدخولهم الإسلام في بيعة العقبة ، وهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
ولم تذكر حرب الفجار لقريش في هذه الحروب مع شدتها .
وتبين هذه الحروب حقيقة وهي شيوع الإقتتال والإرهاب في الجزيرة ، ويصل بعضها إلى الإبادة الجماعية وسبي النساء والصبيان ، وكل إنسان يقرأ قصص حرب الجزيرة يفكر بحال النساء والصبيان عندما يصبحون سبايا تسوقهم الخيل ويضربون بالسياط للتعجيل بالمشي مع قلة الزاد ويباعون في أسواق النخاسة .
فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لقبائل العرب والناس جميعاً ليقطع الإقتتال بين القبائل ويستأصل السبي إلى يوم القيامة ، ومن الأمم والشعوب ما عندها من صيغ القتال وسوء المعاملة ما هو أشد مما عند العرب ، وليس عندهم أشهر حرم ، فقد يتصل الأقتتال بينهم ، وليصاحب نبوته النهي عن الإرهاب من جهات :
الأولى : نزول آيات القرآن ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
الثانية : السنة النبوية القولية والفعلية .
الثالثة : إجماع علماء الإسلام على حرمة التعدي والإرهاب .
وقد ذكرت أعلاه ثلاثة أفراد من كل من أيام العرب ، وحروب العرب ، كمثال ومناسبة للإتعاظ والشكر لله عز وجل على نعمة الإسلام ، وإنتفاع الناس منها ، ومن وجوه هذا الإنتفاع استئصال الإرهاب ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل كل مسلم ومسلمة يتلوان قوله [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) سبع عشرة مرة في اليوم .
وقد ورد هذا العدد في الدعوة إلى الله والخشية منه سبحانه ، والإستعداد لعالم الآخرة ، وكل فرد منها ينهى عن الإرهاب ، إذ ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال (أشد ساعات ابن آدم ثلاث ساعات: الساعة التي يعاين فيها ملك الموت، والساعة التي يقوم فيها من قبره، والساعة التي يقف فيها بين يدي الله تبارك وتعالى) ( ).
وإذا أختلف الموضوع تبدل الحكم ، فلقد أبدل الله عز وجل أيام الجاهلية والإققتال برسالة الإسلام بالسلام ، فيجب أن يحرص المسلم على تعاهد الأمن والسلم في ديرته ، وهذا التعاهد طريق إلى الجنة بالذات ،وبلحاظ أنه وسيلة ووعاء لأدائه وغيره الواجبات العبادية .
النسبة بين القرآن والسنة
النسبة بين القرآن والسنة هي العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة مباركة للإلتقاء ، وأخرى للإفتراق ، ومادة الإلتقاء هو الوحي ، وأصل الوحي هو الكلام الخفي ، وفي الإصطلاح هو ما يخص الله عز وجل به الأنبياء والرسل من الكلام والآيات ورؤيا النبوة ، والمختار أن هذه الرؤيا أرقى من الرؤيا الصادقة ، فقد يرى النبي رؤيا صادقة مثل باقي الناس إذ لا تنحصر هذه الرؤيا بالمؤمنين ، ولكن النبي يفرق بين رؤيا النبوة والرؤيا الصادقة .
إذ يثبت الله عز وجل قلب النبي عند الرؤيا بما يجعله يدرك أنها بلاغ سماوي سواء كانت بصيغة الحكم أو البشارة أو الإنذار .
ومادة الإلتقاء بين القرآن والسنة من جهات :
الأولى : كل منهما نازل من عند الله ، قال تعالى بخصوص قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الثانية : كل من القرآن والسنة حرب على الإرهاب .
الثالثة : في العمل بالكتاب والسنة أجر وثواب ، لذا قرن الله عز وجل طاعة الرسول بطاعته ، قال سبحانه [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ).
وهل من معاني الحذر في الآية أعلاه الحيطة والحذر من الإرهاب وإرتكابه ، الجواب نعم .
الرابعة : بقاء العمل بالقرآن والسنة إلى يوم القيامة .
أما مادة الإفتراق فهي متعددة من جهات :
الأولى : ينفرد القرآن بكونه كلام الله ، قال تعالى [سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
الثانية : نزول كلمات القرآن بالنص والتقييد فلا يقوم جبرئيل ولا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتغيير حرف منه ، أما السنة فهي وحي عام بخصوص القول والفعل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لذا قيل : السنة ظنية الصدور.
الثالثة : نزل القرآن إلى السماء الدنيا مرة واحدة ، ثم صار ينزل نجوماً ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ] ( ).
الرابعة : وجود ضوابط وقواعد في تبليغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن منها حالما تنزل الآية أو الآيات يقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوتها وبالأمر إلى الكتّاب بتدوينها ، ويتلاقفها أهل البيت والصحابة حفظاً وتلاوة وتفسيراً .
الخامسة : وجوب قراءة القرآن في الصلاة ، ولا تجوز السنة القولية فيها .
السادسة : يقسم القرآن إلى سور مستقلة وعددها (114) سورة ، وكل سورة تقسم إلى آيات بينها عطف وتواصل وتداخل موضوعي.
السابعة : لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ومنه بيان القرآن للسنة النبوية .
الثامنة : السنة النبوية تفسير للقرآن وليس العكس .
التاسعة : سلامة القرآن من التحريف والزيادة والنقصان إلى يوم القيامة.
العاشرة : في القرآن محكم ومتشابه ، وناسخ ومنسوخ ، وعام وخاص ، ومطلق ومقيد .
الحادية عشرة : في القرآن آيات الأحكام ،وحياة الأسرة والمواريث .
الثانية عشرة : نزول القرآن بالإجابة على الأسئلة التي توجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكما في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
الثالثة عشرة : يتعبد المسلم بقراءة القرآن ، وفي كل حرف منه عشر حسنات (عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له به حسنة . لا أقول { بسم الله } ولكن باء ، وسين ، وميم ، ولا أقول { الم } ولكن الألف ، واللام ، والميم) ( ).
الرابعة عشرة : يتصف القرآن بأنه منقول بالتواتر ومنقوش في صدور المؤمنين ، وكان جبرئيل يعارض ويتدارس مع النبي القرآن مرة كل سنة ، وفي السنة التي انتقل فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى عارضه مرتين .
الخامسة عشرة : إعجاز القرآن في ألفاظه وبلاغته ورسمه ، وهو سبب لدخول كثير من الناس الإسلام .
السادسة عشرة : اقتباس المواعظ واستنباط الأحكام والقوانين من الجمع بين آيتين أو أكثر من القرآن .
السابعة عشرة : جمع آيات وسور القرآن بين الدفتين في المصحف .
الثامنة عشرة : القرآن قطعي الثبوت والصدور .
التاسعة عشرة : حضور القرآن في القبر ، ويوم القيامة شاهداً ومشفعاً ، ومن رحمة الله تآزر القرآن والسنة لبيان قبح وأضرار الإرهاب ، ومحاصرته في حال وجوده .
وهل كانت آيات القرآن والسنة النبوية ناظرة إلى مفهوم الإرهاب في هذا الزمان أم أنه قواعد عامة تطبق على المصاديق ، الجواب هو الأول ، ويكون الثاني في طوله .
قانون الإضرار الاقتصادية للإرهاب
الإقتصاد : هو سعي الناس في معاملات الإنفاق والتدبير الوسط بين الإسراف والتبذير ، وهو في الإصطلاح البيع والشراء والإنتاج الزراعي والصناعي ، وتبادل السلع وكيفية تدبير الموارد وإدارتها والإستثمار وإجتناب هدر الأموال ، والتأخر عن تصريف وتسويف البضاعة.
وقد وردت آيات قرآنية عديدة في الإقتصاد منها [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، ومنها [لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا]( )، ومنها [وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ]( )، ومنها حسن التصرف في أموال اليتامى ، وعدم تلفها ، وعدم تركها من غير الإنتفاع منها ، قال تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ) ( ) ، وقال تعالى [وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
وهل تصح المضاربة والإستثمار في مال اليتيم ، الجواب نعم إذا كان فيه حفظ لأصل المال ، ونماء ووفرة وعدم الغبن والحيف.
ويضر الإرهاب اليتامى في أشخاصهم وأموالهم على نحو القضية الشخصية أو بسبب الأضرار العامة التي تلحق الإقتصاد والمجتمع ، وما يسمى بالإقتصاد الجزئي والإقتصاد الكلي .
واخص من الإقتصاد علم الإقتصاد الذي هو من العلوم الإجتماعية وفيه دراسة واحصاء الموارد والكلفة والتسويق والغايات والأهداف ، وعلم الإقتصاد مصاحب للإنسان من الأيام الأولى لعمارته الأرض ، وقد دخل الإرهاب في الإقتصاد ، وصار سبباً لأضرار إجتماعية ، وعقوبة أخروية .
وفي الإرهاب قتل وفساد ، وأضرار إجتماعية وإقتصادية لا تنحصر في أوانها ، إذ يخلف الإرهاب اليتامى والأرامل .
ترى ما هي الإضرار التي تنتج عن الإرهاب ، فيه وجوه :
الأول : الإضرار في الأرواح بحدوث القتل وهو أشد الأضرار .
الثاني :تلف الأموال العامة والخاصة .
الثالث : العاهات والجراحات التي تصيب الناس من الإرهاب والتفجيرات ، وتشمل هذه الجراحات الرجال والنساء ، والكبار والصغار ، والقريب والبعيد ، مما يزيد في الأضرار المادية والنفسية للإرهاب .
الرابع : تعرض الذي يقوم بالإرهاب للأذى والضرر ، وقد يكون فيه تلف حياته .
الخامس : لحوق الأذى والضرر لأهل وذوي وأقارب الذي يقوم بالإرهاب .
السادس : الأضرار الآنية واللاحقة .
السابع : العقاب الأخروي على الإرهاب ، وإزهاق الأرواح ، وإخافة الناس .
الثامن : تجنيد الأفراد والضباط ، وإنشاء دوائر مختصة لمحاربة الإرهاب وبناء السجون ومؤسساتها .
التاسع : إنفاق الأموال الطائلة من قبل الدول والمؤسسات والأفراد على الحذر والحيطة من الإرهاب .
وهو أمر يسبب الحنق العام ، إذ يجتمع على الناس الخوف العام من الإرهاب ، ووقوع أفراد منه ، وإنفاق الأموال للحذر منه ، ومن الظواهر في المقام أن هذه الأموال والجهود التي تبذل لا تحول دون وقوع الإرهاب والقضايا الفردية منه.
العاشر : الجهود المضنية والإنفاق والبذل في وسائل الإعلام ، وتأليف الكتب ، وإعداد الدراسات عن الإرهاب وقبحه ولزوم إجتنابه والتوقي منه .
قانون علم السؤال في القرآن
هذا إصطلاح وعلم مستحدث تقدمت الإشارة إليه في الجزء الثامن عشر بعد المائتين ، وأكثر أفراد موضوع هذا القانون هو توجه المسلمين إلى سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أمور الدين والدنيا .
وقد ورد لفظ [يَسْأَلُونَكَ] في القرآن خمس عشرة مرة ، كل فرد منها مدرسة في العلوم ، ومادة لإستنباط القوانين والمسائل ، ولإجتماع عدد منها أسرار وذخائر .
وهل كان الصحابة يعلمون بأن الله عز وجل سيوثق اسئلتهم في القرآن ، المختار لا ، لبيان التشريف والإكرام من عند الله للذين يلجأون إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مسائلهم ، ويسعون في معرفة أحكام الشريعة .
ومن خصائص قول [يَسْأَلُونَكَ] أن كل فرد منها مناسبة للتفقه في الدين ، فالذي يسأل واحد أو جماعة ليأتي الجواب من عند الله ، فينتفع منه ملايين المسلمين في القول والعمل ، ويتجنبون معه الإضرار بأنفسهم أو بغيرهم .
ولم يرد لفظ [يَسْأَلُونَكَ] في القرآن إلا خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن الناس يوجهون له السؤال ، ليأتي الجواب من عند الله بلفظ (قل) ، وأيهما أعظم في إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في هذه الوجوه :
الأول : ورود وتكرار لفظ [يَسْأَلُونَكَ] في القرآن .
الثاني : تعدد موضوع وأحكام آيات [يَسْأَلُونَكَ] .
الثالث : تفضل الله عز وجل بالإجابة عن هذه الأسئلة بلفظ [قل] .
الرابع : صبغة القرآنية لهذه الأسئلة وتوثيقها إلى يوم القيامة .
والجواب كل من هذه الوجوه نعمة عظمى تدعو للهدى وتزجر عن الإرهاب .
والمختار أن لفظ (قل) هو أعظمها نعمة .
كما في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ] ( ) وقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) إذ تكرر لفظ [يَسْأَلُونَكَ] في كل من هاتين الآيتين مرتين .
ويتعلق السؤال في الآية الأولى أعلاه بخصوص الحياة الدنيا والتكاليف وأحكام الحلال والحرام ، وفي الثانية بخصوص عالم الآخرة .
لبيان قانون وهو إنصراف المسلمين عن فكرة الغزو والهجوم ، وعن الإرهاب ، إذ أدركوا والناس جميعاً أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير محض ، وملاكها الرحمة ونشر ألوية الإحسان بين الناس ، وهو من أسرار سرعة إنتشارها ، فليس من نبي من بين مائة وأربعة وعشرين ألف نبي قد غادر الحياة الدنيا ، وله مثل عدد صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما قيل في قصة موسى عليه السلام وبني إسرائيل ، وهروبهم من فرعون وظلمه ، وقد أكرم الله عز وجل الذين هربوا مع موسى عليه السلام وسمّاهم أصحاب موسى ، كما في قوله تعالى [فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ] ( ).
لبيان حقيقة وهي أن فرعون وجنوده تصرفوا بإرهاب وإرادة استضعاف وقتل بني إسرائيل الذين إختاروا الإعراض عن الإرهاب والأذى الشديد ، ولقد أطلق الله عز وجل كلاً من إسم المهاجرين والأنصار ، قال تعالى [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ] ( ) لبيان إختصاصهم بهذين الاسمين إلى يوم القيامة ، وليكون هذا الإختصاص ترغيب لأجيال المسلمين بالإيمان وسنن التقوى ، والعفة والتنزه عن الإرهاب .
وحينما يتوجه السؤال إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحتمل كيفية الإجابة وجوهاً :
الأول : مباردة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإجابة .
الثاني : إنتظار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للوحي ليجيب على السؤال .
الثالث : نزول جبرئيل بآية قرآنية تتضمن الجواب .
الرابعة : إعراض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن السؤال .
والصحيح هو الوجه الثاني والثالث أعلاه ، أما الثاني فلقوله تعالى [وَمَا ينطق عن الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
وهل في هذه الآيات دعوة للمسلمين للعناية بموضوع هذه الآيات خاصة وأن الله عز وجل تفضل بالإجابة عليها ، الجواب نعم ، لتكون هذه العناية صلاحاً وإصلاحاً لعالم القول والفعل ، وإبتعاداً عن الظلم والإرهاب ، لذا جاء القرآن بحضّ المسلمين والمسلمات على سؤال الله عز وجل الحاجات ، ويتجلى الوعد في المقام بقوله تعالى [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا] ( ).
وتدل الآية أعلاه على السعة والغنى بفضل الله ، وإتخاذ هذا الأسئلة بلغة لتحقيق الغايات الحميدة من غير اللجوء إلى إيذاء النفس والغير بالتعدي والظلم والعنف .
وقد ترد الآيات بالنهي عن السؤال فيما هو ليس بنافع كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( ).
قانون [لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ] ( ) بالإرهاب
من إعجاز القرآن مجئ أول الآية في أمر وموضوع أو حكم ، ووسط الآية في غيره ، وكذا خاتمة الآية القرآنية ، لتتجلى معجزة للقرآن وهو حضوره في كل زمان ومكان , وقوله تعالى [لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ] ( ) ، وشطر من آية قرآنية وهي [وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ) ووردت هذه الآية بخصوص القبلة وتعيينها بالبيت الحرام .
وصحيح أن موضوع النزول هو تحويل القبلة إلى البيت الحرام ، والصبر عما يقوله مشركو قريش وغيرهم بهذا الخصوص ، إذ قال مشركو قريش (أنّ محمّداً قد تحيّر في دينه فتوجّه إلى قبلتنا وعلم إنّا أهدى سبيلاً منه وانّه لا يستغني عنّا ويوشك أن يرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا) ( ).
وعن (قتادة في قوله { إلا الذين ظلموا منهم } قال : الذين ظلموا منهم مشركو قريش ، إنهم سيحتجون بذلك عليكم ، واحتجوا على نبي الله بانصرافه إلى البيت الحرام ، وقالوا : سيرجع محمد إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا ، فأنزل الله في ذلك كله {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين}( ) ) ( ).
ومن الإعجاز في الآية ورود لفظ الناس ليكون عنواناً جامعاً للمسلمين وأهل الكتاب والكفار إذ يلزم المسلم التقيد بأحكام الشريعة في إجتناب الظلم والتعدي ، وما نهى الله عز وجل عنه حتى لا تكون حجة للغير عليه ، ولا يجلب الإرهاب إلا النفرة والكراهة والبغض لمن يفعله ، وقد يتعدى هذه النفرة إلى المذهب الذي يحمله فاعله ، ويعلم الناس أن الإسلام برئ من الإرهاب ، إذ نزل القرآن بعصمة الدماء ، ومنع الظلم والجور .
ومن الإعجاز في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحمله وأهل بيته وأصحابه شتى صنوف الأذى ومقابلته لهذا الأذى بالصبر والعفو، وهذا العفو ليس إجتهاداً من النبي محمد إنما هو بأمر من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
لتقتدي أجيال المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنن الصبر ، وسنخية العفو التي اتخذها منهاجاً في حياته.
ومن خصائص الصبر والعفو إقامة الحجة على الناس ، وإمتناع إقامتها على الذي يتحلى بالصبر والعفو وهو من أسباب دخول الناس في الإسلام لأنهم رأوا توالي المعجزات على يدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومع هذا يلقى الأذى الشديد من المشركين ، فيقابله بالصبر ثم يتبع الصبر بالعفو ، قال تعالى [وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( )، لبيان أن الإحسان مطلقاً سبب للمعافاة وإزالة الكدورات ، وهجران الشقاق أما إذا كان الإحسان رداً على الإساءة فانه أبلغ في النفع وأعم في الأثر والبركة.
ولم يكتف القرآن بدعوة المسلمين إجتناب إقامة أهل الكتاب وعامة الناس الحجة عليهم ، إنما أمرهم بالخطاب الحسن ، وتهذيب المنطق مع عامة الناس وفي التنزيل [وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه توجه الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليخبر الناس جميعاً بوجوب القول الحسن ، إذ أن النسبة بين لفظ (عبادي) والمسلمين هو العموم والخصوص المطلق ، فالعباد أعم لتكون هذه الآية من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، مع بيان ماهية الرسالة وأنها على وجوه :
الأول : الرسالة نعمة وسبيل صلاح .
الثاني: الرسالة حرب على الشيطان .
الثالث: هي درء للفتنة بين الناس ، إذ ينشط الشيطان عند حدوث فعل إرهابي لينزغ بين الناس ، ويظهر الأحقاد والبغضاء.
قانون حفر الخندق موعظة لإجتناب الإرهاب
لقد وقعت معركة الخندق في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة على المشهور والمختار ، وقيل في الرابعة .
ولقد كانت امتحاناً ومحنة للمسلمين ، لولا فضل الله عز وجل ، إذ زحف عشرة آلاف من المشركين نحو المدينة ، ولم يكن مجموع عدد المسلمين في المدينة يومئذ بمقدار ثلث هذا العدد من القادرين على حمل السلاح وغيرهم .
لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة أحد على بعد (5) كم من المسجد النبوي حين علموا بقدوم جيوش المشركين ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) أما في معركة الخندق فقد أحاط جيش المشركين بالمدينة وفوجئوا بحفر الخندق، وهناك مسألتان :
الأولى : هل كان جيش المشركين يومئذ وهو برئاسة أبي سفيان كما قيل ينوي اقتحام المدينة أم أنهم كانوا يأملون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى موضع معركة أحد.
الثانية : أيهما فيه ترجيح لكفة المشركين ، هجومهم على المدينة أم وقوع المعركة عند جبل أحد وقريباً منه .
أما المسألة الأولى فالظاهر أن جيش المشركين أراد القتال على أبواب المدينة ، وأنهم عازمون على اقتحامها بعد قتل وأسر طائفة من المسلمين في الميدان .
لقد كانوا يسعون لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء في الميدان أو عند إنسحابه إلى داخل المدينة ، ولم يكن سبيل للتخفي والإختفاء في المدينة لانكشاف بيوتها ، ولوجود فئة المنافقين والحساد وغيرهم .
لقد كان اقتحام المدينة فكرة تراود رؤساء قريش عند قدومهم إلى معركة أحد ، وكذا عند رجوعهم منها خائبين ، إذ أظهر بعض قادتهم مثل عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ندمهم على الإنسحاب يومئذ ، وأعلنوا الرغبة في الكرة مرة أخرى على المدينة .
ويدل عليه ما وقع عند إنسحاب المشركين من معركة أحد ، ففي الطريق إلى مكة ، وعندما كانوا بالروحاء والتي تبعد عن المدينة (80) كم ، وهي المحطة الثانية للقوافل المتوجهة من المدينة إلى مكة لذا سميت بالروحاء لأن المسافرين يستريحون فيها .
تناجى المشركون بالعودة للإغارة على المدينة ، إذ ورد عن ابن عباس قال : لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمدا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا.
فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فندب المسلمين، فانتدبوا( ).
أما المسألة الثانية فالظاهر هو أن خروج المسلمين خارج المدينة للقائهم أهون للمشركين في الهجوم والقتال وبلحاظ النصر في معركة بدر فان نصر الله عز وجل مصاحب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء عند جبل أحد أو على أسوار المدينة وأنه تعالى يتفضل بنزول الملائكة لنصرته في الحالتين .
فكان حفر الخندق في معركة الأحزاب ، وبقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المدينة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في منع الإقتتال ، وسفك الدماء الغزيرة ، وسيبقى الخندق شاهداً على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رجل السلم الذي يدعو المسلمين والناس للإقتداء بسيرته في التراحم ، وصرف الشر وإلا فان الملائكة الذين نزلوا في معركة بدر ومعركة أحد حضروا بفضل من الله عز وجل في القتال حتى في معركة الخندق ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرأف بالمشركين ، ويرجو لهم دخول الإسلام.
ومن معاني حفر الخندق كراهة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للمعان السيوف ، وجريان الدماء ، وفيه حضّ للمسلمين لإجتناب الإقتتال والإرهاب ومقدماته.
ولو تدبرت دراسة جغرافية المدينة ، وحفر الخندق في بعض جهاتها ، والعجلة والهمّة ، وقلة أيام مدة حفر الخندق لتجلت معجزة غيرية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي إمتناع عشرة آلاف من المشركين عن اقتحام الخندق معجزة ، إذ لم تكن هناك أسباب مادية قاهرة تمنع هذا الجيش العرمرم من إقتحامها ، ولكن الله عز وجل بعث الخوف والرعب في قلوبهم ، لقد بعث الله عز وجل الخوف في قلوب المشركين المعتدين الغزاة لسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي نزول القرآن واستدامة الإسلام ، فيجب إلا يخيف المسلم الناس الآمنين سواء في مشارق الأرض أو في مغاربها .
ويمكن تقسيم هذا الخوف من جهات :
الأولى : الخوف العام الملازم للكفر وعبادة الأوثان ، وهو الذي تجلى بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
الثانية : ترشح خوف المشركين من هزيمتهم في معركة بدر وعدم تحقق أي غاية من غاياتهم في معركة أحد .
الثالثة : إدراك مشركين قريش لإنفاق وفقد الأموال على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن تحقيق أي فائدة ، وكذا بالنسبة للإرهاب فان الأموال التي تنفق عليه لا تؤدي إلى تحقيق الغايات إنما تكون وبالاً على أصحابها وغيرهم .
الرابعة : لقد تفاجئ المشركون بحفر الخندق حول المدينة ، نعم هذه المفاجئة لم تمنع من التفكير بحيلة ومكر لإقتحامه خاصة مع استمرار حصارهم للمدينة أكثر من عشرين ليلة.
الخامسة : الخوف الخاص في واقعة الخندق ، إذ عبر نفر من المشركين الخندق برئاسة عمر بن ود العامري الذي تقدم لمبارزة المسلمين الذين خلف الخندق وتحداهم على نحو متكرر.
فبرز له الإمام علي عليه السلام وقتله ، وانهزم أصحاب عمر بن ود فقتله ، ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ) .
وهل هذه الكفاية خاصة بمعركة الخندق ، الجواب لا ، فمن الإعجاز في الآية أعلاه عدم تحقق هجوم وغزو واسع آخر من المشركين ، ليتم صلح الحديبية بعد معركة الخندق بسنة.
وهل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق عندما إنسحبت الأحزاب (الآن نغزوهم ولا يغزونا نسير إليهم) الوارد بالإسناد عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، وسليمان بن الصرد تفسيراً للآية أعلاه ، الجواب نعم.
كما ورد عن قتادة قال : قال ذكر لنا ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم الاحزاب لن يغزوكم المشركون بعد اليوم فلم تغزهم قريش بعد ذلك( ).
والنسبة بين الخبرين عموم وخصوص مطلق ، أحدهما في طول الآخر ، فحديث قتادة يختص بالبشارة بعدم غزو المشركين للمسلمين، دون الإخبار عن سير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم.
ويمكن إنشاء قانون الإعجاز في تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن.
فهذا القول من الإعجاز في تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه من علم الغيب ومن الآيات تحقق السير بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعمرة ، فكان صلح الحديبية ، فقد كان مسير سلم وأمان لأهل الأرض وهو من الشواهد على قانون (لم يغز النبي محمد(ص) أحداً) والذي صدرت بخصوصه أربعة وعشرين جزءً من هذا التفسير والحمد لله.
وفي الحديثين أعلاه شاهد على أن المشركين هم الغزاة ، وأنه لا يصح تسمية غزوة بدر وغزوة أحد ، وغزوة الخندق ، ونسبتها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، إنما كانوا في حال دفاع ، واضطرار للقتال ، ومع قيام المشركين بالغزو فقد نعتوا بالإرهاب ، والذي يتنزه عنه المسلمون .
قراءة في بدايات الجزء (220) من هذا التفسير
لقد أختص هذا الجزء بتفسير الآية (187) من سورة آل عمران وهو قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ]( )، وقد صدر الجزء الواحد والتسعون بعد المائة في الصلة بين الآية .
ومن فضل الله عز وجل أن يكون بين تفسير الآية السابقة وهي الآية (186) من آل عمران في الجزء (213) من هذا السِفر المبارك وبين تفسير هذه الآية أجزاء وكلها تأويل واستنباط واستقراء من المضامين القدسية ، وتأسيس لقوانين في علم التفسير والكلام والأصول في دعوة لتثوير علوم القرآن.
وجاءت عناوين هذه الأجزاء كالآتي :
الجزء 214 قانون آيات السلم محكمة غير منسوخة.
الجزء 215 قانون آيات السلم محكمة غير منسوخة .
الجزء 216 قانون لم يغز النبي (ص) أحداً .
الجزء 217 قانون آيات الدفاع سلام دائم .
الجزء 218 قانون آيات الدفاع سلام دائم .
الجزء 219 قانون التضاد بين القرآن والإرهاب .
وابتدأ الجزء 220 بمقدمة من (12) صفحة تتضمن الثناء على الله عز وجل على توالي النعم العامة والخاصة ، وبيان خصائص الميثاق الذي أخذه الله عز وجل على الناس .
وبلحاظ هذا الجزء المبارك وهو الرابع والعشرون بعد المائتين فهل من هذا الميثاق النهي عن الإرهاب ، الجواب نعم ، ومن الميثاق أمور:
الأول : وجوب الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
الثاني : التقيد بأداء الفرائض والعبادات ، قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
الثالث : التسليم بالنبوة والتنزيل والمعاد .
الرابع : إتخاذ الإحتجاج والبرهان وسيلة بيان واثبات الحق .
الخامس : الإمتناع عن إخافة الناس ، وبعث الرعب في المجتمعات ، فان قلت قد القى الله الرعب في قلوب المشركين في معركة أحد كما في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
والجواب جاءت الآية بحرف الإستقبال (السين) لبيان أنها على جهات :
الأولى : إنذار الذين كفروا .
الثانية : البشارة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالثة : زجر مشركي قريش عن تكرار غزو المدينة ، وعن الإرهاب والتعدي .
وبين قيام المشركين بالإرهاب وقيامهم بالغزو عموم وخصوص مطلق ، فقد مارس مشركو قريش الإرهاب من حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول آيات القرآن إذ أصابهم الحنق والغيظ من نزول كل من :
الأولى : آيات التوحيد ومنها سورة الإخلاص [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ]( ).
الثانية : آيات ذم عبادة الأصنام , وقد أوّل المشركون هذه الآيات بأنها سبّ وشتم لآبائهم لأنهم عبدوا الأصنام ( ).
وبعد المقدمة ذكرت نص الآية التي يختص بتفسيرها هذا الجزء وهي الآية (187) من سورة آل عمران ، وهي آخر آية وفق نظم القرآن أقوم بتفسيرها ، ثم جاء باب الإعراب واللغة في خمس صفحات من الصفحة 14-18 ، ثم باب (في سياق الآيات) في صلة هذه الآية بالآية السابقة.
ومن فضل الله أن يطل كل جزء من التفسير مختصاً بآية واحدة من القرآن تتجلى فيه ذخائر من العلوم التي في ثنايا الآية والصلة بينها وبين الآيات المجاورة لها .
أما الصلة بينها وبين عموم آيات القرآن الأخرى فهو علم مكنون يستلزم تسخير مؤسسات علمية للتحقيق والغوص في بحاره لإستخراج الدرر واللآلئ منه .
ووقفت في باب سياق الآيات الذي جاء بعد الإعراب واللغة في الجزء (217) عند صلة هذه الآية بالآية السابقة لها ، وهو قوله تعالى [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( )، وكان فيها ست مسائل على التفصيل.
ومن معاني الجمع بين الآيتين لزوم الصبر ، وتحمل الإبتلاء في الأموال ، وعدم اللجوء إلى القتال والعنف مطلقاً ولبيان قانون وهو إبتلاء المسلمين بالأموال والأنفس من الميثاق الذي أخذه الله على الناس .
إذ أخذ الله سبحانه على عامة الناس التصديق بالنبوة والتنزيل، وعدم محاربتها ، وأخذ على المؤمنين الصبر عند تلقي الظلم والإرهاب .
ومن معاني الجمع بينهما إظهار الحق ، ودلائل النبوة حتى مع الإبتلاء ما لم يصل الى التقية في الأموال والأنفس .
ثم جاء باب إعجاز الآية الذاتي والإعجاز في خلق الإنسان وأخذ الله عز وجل المواثيق على الناس قبل خلق آدم عليه السلام.
ليكون الميثاق من مصاديق ما ورد في الحديث القدسي ، عن عمرو بن عبسة قال : سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله [وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ]( )، ما كان النداء.
وما كانت الرحمة .
قال : كتاب كتبه الله قبل أن يخلق خلقه بألفي عام ، ثم وضعه على عرشه ، ثم نادى : يا أمة محمد سبقت رحمتي غضبي ، أعطيتكم قبل أن تسألوني ، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدي ورسولي صادقاً أدخلته الجنة( ).
ويمكن تسمية آية البحث آية أمانة الميثاق ، وأنه عهد ووثيقة يجب أن يحفظها الناس ، وتكون عنوان الألفة والمحبة بينهم .
وتتضمن الإنذارمن هجران الميثاق والإعراض عنه .
ولم يرد لفظ (نبذوه) في القرآن إلا في آية البحث ، وفيه اشارة إلى وجود أمة في كل زمان تتعاهد الميثاق السماوي .
إن دعوة القرآن لتعاهد وحفظ الميثاق سلاح سماوي ضد الإرهاب وحصر وتضييق له ، وباعث للتعاون في طرده من المجتمعات لأنه لا أصل له في أصل العقيدة .
وهل ذات الميثاق جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم ، وبرسالته تمت أحكام الشريعة ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ومن تمامها تعاهد الميثاق بأداء الفرائض والعبادات ، ونشر ألوية السلم في الأرض ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]( )، وتبين هذه الآية أن السلم من الميثاق ، فهو أمانة عقائدية عند كل مسلم وكتابي .
وورد باب إعجاز الآية الغيري في تفسير آية البحث .
لبيان قدسية الميثاق واقترانه بلزوم البيان لعامة الناس ، ومنه البشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من الرحمة العامة ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن رحمة الله هذه الأمن العام للناس وقد تجلت مصاديق هذا الأمن في السنين الأولى للبعثة باستئصال الوأد ، وانقطاع أسباب الغزو بين القبائل ، لجمعهم تحت راية الإيمان ، ومعاني الأخوة في الله ، ومن معاني هذه الأخوة وجوه :
الأول : قانون الأخوة الإيمانية شعبة من الميثاق .
الثاني : قانون الأخوة الإيمانية برزخ دون الإرهاب .
الثالث : ذات الأخوة الإيمانية بيان للميثاق للناس ، ليكون من وجوه تقدير قوله تعالى [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ]( )، وجوه :
الأول : لتبيين وجوب الإيمان للناس .
الثاني : لتبيين الميثاق والعهد مع الله للناس بالبينة والبرهان .
الثالث : لتبيين للناس قبح الكفر والظلم والتعدي.
قانون الميثاق واقية من الإرهاب
تدل الآية على التضاد بين الميثاق السماوي والإرهاب إذ يتقوم الميثاق بالبيان والتحلي بالحكمة ، واستحضار البرهان ، كما ورد في آية البحث [لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ]( )، ومن المسائل التي لم أذكرها في الجزء (220) الخاص بتفسير هذه الآية هي هل من مخاطَب بهذه الآية ، الجواب من وجوه :
الأول : مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : مخاطبة المسلمين ، وبعثهم على التفقه في الدين والعمل بسنن الميثاق ، وسنن التقوى ، ومنها التنزه عن الإرهاب .
الثالث : مخاطبة أهل الكتاب ، ودعوتهم لتعاهد الميثاق والأمن ، قال تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( ).
الرابع : مخاطبة الناس جميعاً ، لبيان قانون وهو وجود ميثاق وعهد نزل به الأنبياء السابقون وتركوه وديعة عند أتباعهم فيجب العمل به .
الخامس : مخاطبة كل إنسان على نحو مستقل ، وهو من أسرار القرآن بعدم وجود واسطة بين الإنسان والتكليف السماوي ، وهو من الإعجاز في بقاء القرآن غضاً طرياً إلى يوم القيامة .
وهذا الميثاق سور الموجبة الكلية للناس جميعاً لإلتقاء الناس في الإقرار بالعبودية لله عز وجل ، وإتيان سنن الطاعة ، والتقيد بأحكام الحلال والحرام ، هذه الأحكام التي صاحبت الإنسان من يوم هبط آدم إلى الأرض ، لتكون برزخاً دون الإرهاب والإقتتال بين الناس .
ومن معاني وقاية الميثاق من الإرهاب إنه باعث على المودة والتآلف بين الناس ، وهل هو سبب لنزول الرحمة من عند الله ، الجواب نعم .
فحينما جعل الله عز وجل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، أنزل عليه ضروباً من الرحمة والرأفة ومنها الميثاق فهو لطف بالعباد، وقد نال أهل الكتاب منزلة خاصة عند الله عز وجل بتصديقهم بالأنبياء السابقين ، ومن هذا التصديق وجوب العمل بالميثاق الذي جاء به الأنبياء والذي يتقوم بالتوحيد واتباع الحق ونبذ الشرك والضلالة والمنع من الإقتتال والإرهاب ، قال تعالى [سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
والميثاق آية بينة نزل على الأنبياء وبلغوه لأصحابهم ووصل إلى إتباعهم ، لذا هو باق إلى يوم القيامة ، ويجب على المسلمين وأهل الكتاب والناس المحافظة عليه بجعل الأرض دار التوحيد والإيمان ، ومحل الأمن والسلام.
قانون تلألؤ التنزيل مع حرب الرؤساء عليه
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الوحي والتنزيل ، إذ صاحب الإنسان من حين هبوط آدم ، واستمر نزوله على مائة وأربعة وعشرين ألف نبي كانوا متعاقبين في زمانهم ومتفرقين في أماكن بعثتهم وهجرتهم ، وفيه رحمة بالناس جميعاً ، وحجة على الذين كفروا ، ولم يكن تعاقب بعثة الأنبياء وهجرتهم أمراً اجتهادياً ، ولم يحدث صدفة واتفاقاً ، إنما كان يتم بنظام دقيق لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( ).
لقد جعل الله عز وجل موانع دون الإرهاب ، وحواجز تدفع مقدماته، لحرمة المقدمة لحرمة ذيها ، ومن هذه الموانع :
الأول : حب الله عز وجل للناس ، ومنه نعتهم بأنهم عباده ، وإخباره عن رحمته بهم جميعاً ، قال تعالى [نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ).
الثاني: تفضل الله عز وجل بالنفخ من روحه في آدم ، وهل حصل ذات النفخ بالنسبة للملائكة ، الأقرب لا ، نعم لا تحيط الخلائق بصيغ إكرام الله عز وجل للمخلوقات ، والملائكة من أشرفها وأسناها رتبة .
الثالث : تنصيب الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الرابع : تفضل الله عز وجل على الإنسان بأن رزقه العقل للتمييز بين الحق والباطل ، والصدق والكذب ، والحسن الذاتي للأمن ودفع الخوف وأسبابه.
فمن خصائص العقل التمييز والفصل بين أطراف التضاد ، والإختلاف بينها ، وأطراف التضايف وحسن الصلة بينها، والنسبة بين الإيمان والإرهاب التضاد ، مما يدل على بقاء أحدهما ، وهو الإيمان ، وهو من أسرار خلافة الإنسان في الأرض ونزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لم تكن حرب الرؤساء على الأنبياء والتنزيل أمراً جديداً في تأريخ النبوة بدليل قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( )، وكان قتال الأنبياء دفاعاً ، وضد الظلم والإرهاب ولاسئتصاله من الأرض ، ووردت فيه أخبار من السنة النبوية .
وقال عبد الله بن مسعود : لقد رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يحكي نبياً من الأنبياء وهو يقول : اللهمَّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون( ).
ومن الأنبياء الذي لاقوا الأذى نوح عليه السلام ، وكان الكفار يضربونه حتى يغمى عليه ، وعندما يفيق يدعو الله بهداية قومه .
ومنهم إبراهيم عليه السلام الذي جمع قومه الحطب ليحرقوه في النار فانقذه الله بالمعجزة ، بقوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( )، فخرج من وسطها سالماً ، وكل هذا الأذى من الظلم والإرهاب ليستخلف الله عز وجل المسلمين في الأرض فيمتنعوا عن الظلم والإرهاب .
ومن ظلم الرؤساء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ملاحقتهم له في طريق الهجرة وإرادة منعه من الوصول إلى المدينة سواء بالقتل أو الإعادة القهرية إلى مكة وحبسه تم الإجهاز عليه وقتله .
ومن خصائص النبوة مساواة الناس أمام أحكام الشريعة ليس من فارق بينهم سواء في أداء العبادات أو في المعاملات وهو الأمر الذي لا يرضاه الرؤساء ، ولكن الله أبى إلا [أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( )، بأن نصر الأنبياء وأظهرهم على الدين وأن يقترن هذا الظهور بحفظ أتباع الأنبياء السنن النبوة ومنها السلام وتعاهد الأمن في الأرض ، والإمتناع عن الظلم والتعدي.
بين الوأد والإرهاب
قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ) وفيه توثيق من السماء لحال الوأد وذبح البنات صغاراً ، ولا يعلم ضرر استدامته إلا الله عز وجل ، فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستئصال الوأد من جهات :
الأولى : قبح القتل وسفك الدماء ، وكان العربي يقتل ابنته ، ويغذو ويطعم كلبه ، وهل يتوجه السؤال للمؤودة يوم القيامة ما هو الذنب الذي قتلوك بسببه ، أم أنها هي التي تسأل قاتلها ، الجواب لا تعارض بين الأمرين ، لإرادة توبيخ القاتل ، وبيان مقابلته مع المقتول ذكراً كان أو أنثى ، وإذا كانت البنت صغيرة أو الرضيعة تُسأل عن وأدها ، فكيف بالذي يُقتل ظلماً وبالإرهاب .
لذا فان آية الوأد تحذير من الظلم مطلقاً ومن التفجيرات العشوائية ، وهو من الشواهد على بقاء الآية القرآنية غضة طرية إلى يوم القيامة.
الثانية : يمكن تسمية (الوأد) بالإرهاب الأسري ، فكان يقع داخل الأسرة ، ويحزن الأم وأفراد الأسرة ، بل يحزن ذات الأب الذي يقوم بالوأد كما في بعض الأخبار .
واختلف في الذين ابتدأ عندهم الوأد هل هم بنو تميم أم ربيعة ، وقيل أول من وأد قيس بن عاصم من زعماء تميم ، إذ امتنعت تميم عن دفع الأتاوة للنعمان بن المنذر ملك الحيرة ، فأرسل إليهم جيشاً ، فاستاقوا النعم ، وسبوا الذراري ، فوفدت قبيلة تميم على النعمان ، وتصالحوا وعادت النساء إلا ابنة لقيس بن عاصم اختارت الذي سباها ، ولم ترجع إلى قومها ، فنذر قيس ألا تولد له ابنة إلا قتلها ، وقد وأد عدة بنات ولدن له .
وهذا بعيد لأن قيس بن عاصم من المعاصرين لأيام النبوة ودخل الإسلام وجعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة العاشرة للهجرة (على صدقات سعد بن زيد مناة بن تميم) ( ).
وعادة الوأد متقدمة زماناً على أيام النبوة وكان قيس بن عاصم يتصف بالحلم.
قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم، قال: من قيس بن عاصم المنقري، لقد اختلفنا إليه في الحكم كما نختلف إلى الفقهاء في الفقه، بينما نحن عند قيس بن عاصم، وهو قاعد في قبائه محتب بكسائه أتته جماعة فيهم مقتول ومكتوف، فقالوا: هذا ابنك قتله ابن أخيك، فوالله ما حل حبوته حتى فرغ من كلامه ثم التفت إلى ابن له في المسجد، فقال: أطلق عن ابن عمك ، ووار أخاك ، واحمل إلى أمه مائة من الإبل، فإنها غريبة، وأنشأ يقول:
إني امرؤ لا شائن حسبي … دنس يغيره ولا أفن
من منقر في بيت مكرمة … والغصن ينبت حوله الغصن
خطباء حين يقول قائلهم … بيض الوجوه أعفة لسن
لا يفطنون لعيب جارهمُ … وهمُ بحسن جواره فطن( ).
والمختار عدم إنحصار بداية الوأد بشخص أو واقعة معينة ، خاصة مع تعدد أسبابه من الغزو وخشية السبي ، ومن الفقر والجوع ، واحتمال الفاقة للإنفاق على الولد والبنت وأن البنات ليس فيهن نفع في العمل والمعارك.
والوأد قديم عند العرب ، وكانوا يمرون أحياناً بسني جدب وقحط يظنون معها ندرة تهيئة الطعام للأسرة فيختارون التخفيف بقتل البنات ، لتكون بعثة النبي محمد من أعظم النعم على النساء لتأسيس علوم متفرعة عن [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وفيه بيان لحاجة الناس إلى الأنبياء ، ومنها نعمة الله عز وجل على أهل مصر بنبوة يوسف عليه السلام وتوليه الوزارة في مصر ، وهذه الوزارة معجزة حسية له ، وشاهد على قانون وهو دفع الفتن بالنبوة وقد أنعم الله عز وجل على الناس برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمنع الفتن وصرف ضروب الإرهاب عن الناس.
لقد نزل القرآن ليقضي على الإرهاب داخل الأسرة وخارجها ، ويمنع منه بين الأفراد والطوائف والأمم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا]( ).
الثالثة : النسبة بين الإرهاب والوأد عموم وخصوص مطلق ، قال تعالى [فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ]( ).
ولم يكتف القرآن بذم الوأد والإرهاب داخل الأسرة بل جاء بوجوب صلة الرحم ، والرأفة لذوي القربى ، واستئصال الإرهاب.
و(عن عمرو بن عبسة قال : أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول ما بعث ، وهو بمكة فقلت : ما أنت ، قال : نبي . قلت : بم أرسلت ، قال : بأن تعبد الله وتكسر الأصنام وتصل الأرحام بالبر والصلة)( ).
وسيأتي قانون (صلة الرحم واقية من الإرهاب).
الرابعة : العناية بالبنت وسلامتها من أبهى مصاديق صلة الرحم، وفيه الأجر والثواب .
لقد طرأ أمر جديد على القيم والأخلاق في المجتمعات برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو قانون موضوعية الجزاء في الآخرة في تعيين وضبط السلوك والفعل الخاص والعام .
وسيأتي قانون الجزاء الأخروي زاجر عن الإرهاب .
وهل الموؤدة من مصاديق إحتجاج الملائكة يوم أراد الله عز وجل أن يجعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) إذ قالوا بصيغة الإستفهام الإنكاري [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) الجواب نعم ، هو من أقبح أنواع سفك الدماء ، فأخبرهم الله عز وجل بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
ومن علم الله عز وجل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإستئصال الوأد بآية قرآنية واحدة ، ووقف الموؤدة يوم القيامة تشكو ربها وتسأل الحساب والعقاب للذي قتلها ، وهل من صلة بين الوأد والإرهاب ، الجواب نعم .
وفي هذه الشكاية يوم القيامة نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على فضل الله عز وجل على الناس ببعثته ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
تقدير [الْتَقَى الْجَمْعَانِ]
من معجزات القرآن اللفظية والموضوعية صيغة اللقاء هذه التي وردت في ثلاث آيات من القرآن وهي :
الأولى : قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( ).
الثانية : قال تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثالثة : قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
ومن مفاهيم قوله تعالى [الْتَقَى الْجَمْعَانِ] الذي تكرر ثلاث مرات في القرآن ، وهي تخص معركة بدر ومعركة أحد ، لبيان غلبة الإيمان والهدى على سيف الظلم والإرهاب ، وفيه دعوة للصبر .
كما ورد لفظ [الْجَمْعَانِ] في آية أخرى بخصوص قوم موسى، وجيش فرعون ، كما في قوله تعالى [فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ] ( ) إذ خرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل ليلاً فراراً من فرعون وقومه بعد أن لاقوا منهم أشد أنواع الإستضعاف ، فخرج خلفهم فرعون بجيوش عظيمة تفوق عددهم .
وعن ابن عباس في حديث (وخرج فرعون ومقدمته خمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب) ( ).
لقد كان اللفظ [الْجَمْعَانِ] بخصوص موسى وقومه وهم عزل من السلاح ، وجيش فرعون من جهة أخرى آية تبين جهاد وصبر الأنبياء وقومهم ، وأنهم يفرون من الإرهاب ، ويجتنبون ملاقاة الطغاة ، فينزل الفرج والنصر من عند الله سبحانه ، وفيه مواساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لما يلاقونه من تجهيز قريش الجيوش لغزو المدينة.
لقد خشي بنو إسرائيل من لحوق فرعون وجيشه بهم ، وإشاعة القتل بهم ، وإرجاع من بقي منهم وإضطهاد آل فرعون لهم.
فأخبر موسى عليه السلام بأن الله عز وجل معه وهو الذي ينجيهم من آل فرعون ، إذ أنه لم يخرج إلا بأمر من الله عز وجل ، [قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِي] ( ) .
وضرب موسى عليه السلام البحر فانفلق شعبتين ، لتصبح كتلة الماء في كل جهة منهما كالجبل لبيان قوة الماء ، وإن كان مجتمعاً راكداً ، وفي التنزيل [فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ] ( ).
لبيان موعظة للناس بأن عاقبة إرهاب الدولة إلى محق وزوال ، وان الإرهاب جملة وتفصيلاً أمر مبغوض ، وليس فيه إلا الضرر المحض ، ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : يوم التقى الجمعان جمع النبوة ، وجمع الكفر .
الثاني : يوم التقى الجمعان جمع لواء السلم ، ولواء الشرك والإرهاب .
الثالث : يوم التقى الجمعان فجعل الله النصر لجمع الإيمان لنشر الأمن في الأرض .
الرابع : يوم التقى الجمعان فبقي جمع النبوة والإيمان إلى يوم القيامة ، وانقطع جمع الكفر والضلالة ، ومعه يزول الإرهاب من الأرض .
الخامس : يوم التقى الجمعان يوم مشهود نزل الملائكة فيه لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : يوم التقى الجمعان ، جمع يدافع عن النبي والتنزيل ، وجمع غاز معتد لا يتورع عن الإرهاب .
السابع : يوم التقى الجمعان جمع له الأجر والثواب تحت لواء النبوة ، وجمع يبوء بالآثام لمحاربته النبوة والتنزيل .
الثامن : يوم التقى الجمعان جمع ينادي بكلمة التوحيد ويزجر عن الإرهاب ، وجمع يعبد الأصنام .
التاسع : يوم التقى الجمعان جمع يواظب على الصلاة والفرائض العبادية ، وجمع يتبع الهوى ، فلا يمتنع عن الإرهاب والقتل العشوائي ، برمي السهام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
العاشر : يوم التقى الجمعان جمع يكون المقتول منهم شهيداً لأنه في حال دفاع عن النبوة والتنزيل ، لذا ورد قيد [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] في قوله تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( )، وجمع يبوء الذي يقتل منهم باثمه وتكون عاقبته إلى النار.
في التضاد بين القرآن والإرهاب
لقد صدر الجزء السابق وهو الحادي العشرون بعد المائتين في ذات القانون الذي صدر به هذا الجزء وهو (النزاع المسلح بين القرآن والإرهاب).
وهو موضوع وقانون علمي محض تتجلى فيه شذرات وخزائن من القرآن ، ومناسبتها لكل زمان ومكان ، وقهرها للظواهر المنافية لها ، وللأعراف العامة المتوارثة ذات الصلاح .
ولا يقف القرآن عند هذا القهر بل إنه يجدد المفاهيم العقائدية السلمية ، ويزجر عن الظواهر القبيحة ، وهو من إعجاز القرآن في بناء الإنسان ، وإصلاح المجتمعات .
ويدل نزول القرآن وأحكامه على حب الله عز وجل للناس ، لذا قال سبحانه [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الحمد لله الذي جعل كلمة [الحمد لله] تركة يحرص المسلم على بقائها إرثاً وتركة لأبنائه من بعده ، وقد تكون التركة للأعم من الأبناء في ذات الفعل الذي هو سبب الحمد ، وفي الحمد لله نفسه ، كما في قولنا الحمد لله على نعمة صدور الجزء التاسع عشر بعد المائتين من تفسيري للقرآن .
والذي يتعلق موضوعه بمسألة ابتلائية ، وظاهرة في هذا الزمان وهو الإرهاب والتضاد بينه وبين القرآن.
وهو العاشر من هذه السلسلة الخاصة بعنوان (التضاد بين القرآن والإرهاب )وهو أمر ليس سهلاً خاصة إذا علمت أنه جهد فردي.
والحمد لله الذي [يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
وهذا التفسير تعظيم لشعائر الله وبيان لحضور كنوز القرآن في زمن العولمة وإعانة المسلمين والناس بدفع ورفع الظواهر التي هي خلاف الصراط المستقيم إذ يدعو المسلمون والمسلمات كل يوم [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )، ونسأل الله عز وجل أن يجعل نفعه عاماً.
وقول الحمد لله وحده عبادة .
والتضاد هو استحالة إجتماع كليين أو شيئين في محل واحد مع إمكان ارتفاعهما ، كالسواد والبياض ، فهما لا يجتمعان ، ويرتفعان بحلول اللون الأحمر أو الأصفر مثلاً في المحل الذي كان فيه أحدهما.
أما المتناقضان فهما الكليان أو الشيئان اللذان لا يجتمعان ، ولا يرتفعان مثل الليل والنهار ، والذكر والأنثى ، والحياة والموت ، والملكة والعدم ، والإيجاب والسلب .
فان قيل هناك ساعة الفجر التي هي ليست من الليل ولا من النهار ، وهناك الخنثى ، الذي هو ليس بذكر أو أنثى ، والجواب هذا من النقاش في الأمثلة ، وهو ليس من دأب المحصلين إذ أن الخنثى فرد نادر ولا عبرة بالقليل النادر ، ثم قد يكون أقرب للذكر أو الأنثى ، وفي باب الميراث يحسب الخنثى المشكل ، ولم يعلم هل هو ذكر أو انثى ولو بالوسائل العلمية الحديثة أو بالرجوع إلى الأمارات الواردة بالنصوص مثل : البول من أحد فرجي الذكر أو الأنثى ، أو السبق فيه فيحسب عند التعذر على تعيين جنسه ، مرة ذكراً فتخرج له حصة ذكر ، وأخرى أنثى فتخرج له حصة أنثى .
ثم يجمعان ويقسمان على اثنين ، أي تكون حصته خمسة وسبعين من المائة من حصة الذكر .
ويتضمن الجزء (219) شرحاً تفصيلياً لإثنين وثلاثين قانوناً في المقام تبدأ بقانون العصمة الغيرية لبيان عصمة الأنبياء بدفع الشرور عنهم وامتناعهم عن الظلم والإرهاب .
ويمكن القول أن الأنبياء أرأف الناس بالناس ، مما يدل على أهليتهم للإمامة بفضل وإصلاح ولطف من عند الله ، قال تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
والنسبة بين قانون (التضاد بين القرآن والإرهاب) وقانون هذا الجزء ، هو العموم والخصوص المطلق لأن التضاد أعم في ماهيته وموضوعه وحضوره في الجدال والإحتجاج ونحوه من النزاع المسلح الذي أذكره في عنوان هذا الجزء .
وكل منهما مستمر وهو من الإبتلاء ، وهو من الإعجاز في سلامة القرآن من التحريف ، وحاجة المسلمين والناس إلى هذه السلامة لذا تفضل الله وتولى بنفسه حفظ القرآن ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
وفي هذا الحفظ بشارة بحفظ الله عز وجل لأحكام الشريعة لتفرعها عن القرآن وتقريب الناس من العمل بها ، أو منع الحواجز دونها ، وهل إشاعة الإرهاب من هذه الحواجز ، الجواب نعم ، لما فيه من الإرباك والخوف العام ، وبعث حال الكآبة واليأس والفزع بين الناس ، لذا فانه لا يستديم في الأرض ، وهو إلى زوال لمراتب التفقه العام التي جعلها الله عز وجل عند المسلمين .
ومن معاني التضاد بين القرآن والإرهاب يعمل الناس بالفطرة إلى القرآن وهو من الشواهد على كونه كتاب الله ، ونفرتهم من الإرهاب لقبحه ولأنه خلاف الفطرة الإنسانية.
قانون التضاد بين البيت الحرام والإرهاب
قد تقدم في الجزء السابق وهو الثالث والعشرون بعد المائتين ذكر اسم هذا القانون( ).
وقد خلق الله عز وجل البيت الحرام للناس قبل خلق آدم ، وهو من الإعجاز في قدسية البيت الحرام ، وأبى الله عز وجل أن يكون خالياً أو مهجوراً ، إذ كانت الملائكة تطوف حوله.
و(عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : كان موضع البيت في زمن آدم عليه السلام شبراً أو أكثر علماً ، فكانت الملائكة تحج إليه قبل آدم ، ثم حج فاستقبلته الملائكة قالوا: يا آدم من أين جئت.
قال : حججت البيت .
فقالوا : قد حجته الملائكة قبلك بألفي عام)( ).
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كان البيت قبل هبوط آدم ياقوتة من يواقيت الجنة ، وكان له بابان من زمرد أخضر ، باب شرقي وباب غربي ، وفيه قناديل من الجنة ، والبيت المعمور الذي في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه إلى يوم القيامة حذاء الكعبة الحرام ، وأن الله عز وجل لما أهبط آدم إلى موضع الكعبة وهو مثل الفلك من شدة رعدته ، وأنزل عليه الحجر الأسود وهو يتلألأ كأنه بيضاء فأخذه آدم فضمه إليه استئناساً ، ثم أخذ الله من بني آدم ميثاقهم فجعله في الحجر الأسود ، ثم أنزل على آدم العصا.
ثم قال : يا آدم تخط . فتخطى فإذا هو بأرض الهند ، فمكث هناك ما شاء الله ثم استوحش إلى البيت .
فقيل له : احجج يا آدم . فأقبل يتخطى ، فصار كل موضع قدم قرية وما بين ذلك مفازة حتى قدم مكة ، فلقيته الملائكة فقالوا : بر حجك يا آدم ، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام .
قال : فما كنتم تقولون حوله .
قالوا : كنا نقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، وكان آدم إذا طاف بالبيت قال هؤلاء الكلمات ، وكان آدم يطوف سبعة أسابيع بالنهار)( ).
وفيه دعوة للإيمان للناس جميعاً متقدمة زمانا على خلقهم والإقتداء بالملائكة بالتقوى ، لأن حج الملائكة للبيت الحرام برهان وعنوان للإستجابة لأمر الله عز وجل .
وتتحقق بحج البيت الجرام مصاديق من التقوى لا تجدها في غيره إلى جانب أن الحاج يجمع بين الحج والصلاة في هذه البقعة المباركة.
ومنها قوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( )، إذ ينهى الله عز وجل عن الجدال في الحج لبيان كراهيته ، وليدل هذا النهي بالأولوية القطعية على حرمة الإرهاب ، والنهي عنه ، وأنه خلاف التقوى ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا]( ).
و(عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الإسلام علانية ، والإيمان في القلب.
قال : ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ، ثم يقول : التقوى ها هنا ، التقوى ها هنا)( ).
ومن الآيات تجدد الحج كل عام واستغراق مدة الحج كما في الآية أعلاه لثلاثة اشهر من السنة ، وهي :
الأول : شهر شوال .
الثاني : شهر ذي القعدة .
الثالث : شهر ذي الحجة .
لبيان أن الإرهاب حرام في أشهر الحج وفي الأشهر الحرم ، وفي أيام السنة كلها ، وفيه دعوة للرجوع إلى السنة النبوية في نشر لواء السلم والمهادنة .
والحج تجلية وتحلية وتخلية إذ تتجلى في الحج معاني الإيمان والزهد ، والإنقطاع إلى الله ، وهو تحلية وتطهير للنفس وإرتقاء في سلم المعرفة بأداء الأركان والجوارح .
وفي الحج توبة عملية ، وتوسل لغفران الذنوب ، أما التخلية فالحج شاهد على المجاهدة والصبر والتخلي عن الرذائل والقبائح .
لقد تفضل الله عز وجل بوضع البيت الحرام للناس جميعاً ليكون برزخاً دون الظلم والإرهاب ، إذ أنه يتضمن الدلالة والإخبار عن الإتحاد في الخلق والفطرة بين الناس جميعاً .
ليكون من يحج سبباً للبركة واستدامة النعم على الذين لا يحجون وهو من مصاديق لفظ الناس ، ووصف البيت الحرام في الآية أعلاه بأنه (مبارك) فمن معاني بركته تغشيها للناس جميعاً بأمر ومشيئة من الله تتجلى بتفضله بوصف البيت بأنه للناس وأجيالهم المتعاقبة .
وليكون هذا الوصف زاجراً عن الإرهاب ضد أي فئة أو طائفة من الناس.
تقدير آية (أول بيت) في حربها على الإرهاب
ليكون من معاني قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ عنوان هذا الجزء من التفسير على وجوه :
الأول : إن أول بيت وضع بصفة جنس الإنسانية والبشر للمسلم والكتابي والكافر .
الثاني : إن أول بيت وضع للناس للتآخي بينهم ، ونبذ الحروب.
الثالث : إن أول بيت وضع للناس لإجتناب الظلم بينهم .
الرابع : إن أول بيت وضع للناس لمنع الإرهاب والتعدي لبيان أن حرمة الإرهاب سابقة لخلق آدم.
الخامس : إن أول بيت وضع لأمن وسلامة الناس من الإرهاب للذين ببكة ، ليكون وضع البت الحرام حجة على كل مسلم في نبذ الإرهاب والإبتعاد عنه .
السادس : إن أول بيت وضع للناس ليكون معلماً وشاخصاً مباركاً يزجر عن الإرهاب ، ويذكر كل مسلم بلزوم إجتناب ظلمه لأي فرد من الناس .
السابع : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً ومن بركات البيت تغشي الأرض بالرحمة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جوار البيت الحرام.
وهل من بركة البيت الحرام نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأغلب أصحابه من إرهاب وبطش قريش ، الجواب نعم ، فاذا قام الإنسان تجهيز قريش الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وتجهيزها ثلاث آلاف رجل في معركة أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة ثم عشرة ألآف رجل في شوال من السنة الخامسة للهجرة ، وقيل السنة الرابعة علمنا الإعجاز والحفظ الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند اقامته في مكة مدة ثلاث عشرة سنة من بداية البعثة النبوية وإلى حين الهجرة النبوية المباركة إلى المدينة ، مع أن رؤساء قريش كانوا في حال غيظ وحنق وبغض للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات التنزيل التي تذم عبادة الأوثان تدعو إلى التوحيد وهجران الشرك .
الثامن : إن أول بيت وضع للناس بمكة مباركاً ومن بركات البيت فضحه للإرهاب والبينونة بينه وبين معالم الحنيفية السمحاء ، أمس واليوم وغداً .
التاسع : لقد أمر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام بدعوة الناس لحج البيت لقوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( )، ليكون أداء الحج كل سنة تهذيباً للنفوس.
العاشر : قد وصفت الآية أعلاه من سورة آل عمران بأن وضع البيت الحرام للناس [وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( )، لبيان قانون وهو سبق الهدى للناس من يوم خلق آدم في الجنة ، وتكليم الله عز وجل له قبلاً وتعليمه الأسماء كلها .
ثم تفضل الله عز وجل وجعل البيت الحرام ملاذاّ وأماناً وسبباً للهداية ، وجذب الناس إلى الإيمان .
لبيان التعارض بين الوظائف العقائدية المتصلة للبيت الحرام وبين الإرهاب وما يبعثه من الفزع والخوف في قلوب الناس ويؤدي إليه من النفرة والغضاضة والكدورة .
ولابد أن تكون النتيجة هي انتصار البيت الحرام على العوائق التي تحول هدايته للناس وبعثه ضياء الرشاد والأمل والسلم.
الحادي عشر : من معاني [هُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ) في وصف البيت الحرام ، التقاء الناس في مسالك السلام والإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، ومنها سلامة البيت الحرام من جور الطغاة كما حصل لأبرهة وجنوده عندما اهلكهم الله عز وجل بآية من عنده ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ]( ).
الثاني عشر : من مصاديق قوله تعالى [وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً]( )، التحلي بالتقوى ، والحرص على إظهار الأخلاق الحميدة ، والتنزه عن الإرهاب والخيانة ، وقد يتداخل الإرهاب مع كل من الضرر والخيانة فيكون قبحه أشد وأبين للناس عامة ، لذا فان إجتنابه وظيفة عقائدية وشرعية وأخلاقية ، وهذا الإجتناب من سنن وقواعد المواطنة والجمع بينها وبين الإيمان بلحاظ قانون وهو عدم التعارض بين الإيمان والمواطنة ، وإن كانت في بلاد غير إسلامية.
قانون الرؤيا دعوة للأخلاق الحميدة
الرؤيا ما يراه الإنسان وهو نائم من الأحداث ، أو الأماني ، أو الأوهام سواء كانت محبوبة أو مكروهة ، والجمع رؤى .
ومن خصائص الأنبياء اتخاذ الرؤيا سلاحاً ، سواء الرؤيا الشخصية التي هي شعبة من الوحي ، أو رؤيا الصحابة وعامة الناس ، لكن الحجة تتعلق في المقام بشرطين :
الأول : رؤيا النبي نفسه .
الثاني : صبغة الوحي في الرؤيا .
فقد يرى النبي أضغاث أحلام ، وعن قتادة (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الرؤيا الصالحة من الله ، والحلم من الشيطان ، فمن رأى شيئا يكرهه ، فلينفث عن شماله ثلاث مرات ، وليتعوذ من الشيطان ، فإنها لا تضره ، وإن الشيطان لا يتراءى بي)( ).
وقد يرى النبي أي نبي رؤيا صالحة بشارةً أو إنذاراً ، والنسبة بين الرؤيا الصادقة ورؤيا الوحي عموم وخصوص مطلق ، إذ يختص الأنبياء بالأخيرة منها .
والنفث أقرب إلى النفخ ، وفي الحديث إخبار بأن الشيطان لا يأتي للإنسان في الرؤيا بصورة وهيئة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وحينما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم سخر له من الأعوان والأسلحة ما لم يعلم عددها وكثرتها إلا هو سبحانه، ومنها رؤيا الوحي والرؤيا الصادقة عنده وعند الناس ، وهل تزجر الرؤيا الصادقة في هذا الزمان الناس عن الإرهاب ، الجواب نعم .
لتكون هذه الأسلحة عوناً للناس لهدايتهم ، وهي واقية من الفسوق والمعاصي ، ومن محاربة النبوة زمان التنزيل وما بعده إلى يوم القيامة.
وذكرت في كتابي (فلسفة الرؤيا في الإسلام)( )، أن الدعاء يمحو رؤيا الإنذار ، ويقرب مصداق رؤيا البشارة لبيان أن الرؤيا نعمة من عند الله عز وجل مع الناس جميعاً متفرقين ومجتمعين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، ولا يستطيع الإنسان عدّ النعمة بخصوص الرؤيا من جهات :
الأولى : منافع نوم الإنسان ، وبقاء مداركه العقلية حال النوم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
الثانية : زيارة الرؤيا للإنسان في منامه .
الثالثة : المنافع النفسية والجسدية للرؤيا مما لم يسلط عليها العلم بالدقة إلى الآن .
الرابعة : قانون الرؤيا الصالحة تبصرة ليتجلى مصداق لقوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( )، بزائر كريم لروح الإنسان في المنام رجاء أن تكون الرؤيا سبباً للهداية والرشاد.
الخامسة : قانون الرؤيا زاجر عن الظلم بالمنع منه أو من مقدماته، أو بيان أحواله ، أو هداية الإنسان لما فيه الإنصراف عنه.
السادسة : لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً رسولاً للناس ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، وليس من إنسان إلا ويرى الرؤيا الصالحة وغيرها ، لتكون الرؤيا مدداً للرسالة .
السابعة : كان في البيت الحرام يوم بعث الله عز وجل النبي محمداً ثلاثمائة وستون صنماً لتكون (رؤيا الهداية) مقدمة لكسرها وإزاحتها ، وزوال عبادتها إلى يوم القيامة .
الثامنة : الرؤيا الصالحة طريق للتوبة والإنابة والتنزه عن الظلم ، والكف عن نية السوء .
التاسعة : الرؤيا صلة بين عالم الأحياء في الدنيا والأموات ، وهو من الشواهد على حياة الناس في عالم البرزخ ، وليدل بالدلالة التضمنية على البعث والنشور والوقوف بين يدي الله عز وجل.
ومن الأموات من يطلب في الرؤيا قضاء دينه سواء ما كان لله كالصلاة والصيام والحج والزكاة والخمس ، أو ديون الناس ، أو الوصية بأمر ، أو الإخبار عن شئ ، ومنه ما يتضمن الرضا أو عدمه على بعض الأولاد والأرحام ، مع وجود القرينة الدالة عليه ، فمن خصائص إخبار الموتى في المنام عدم الكذب لأنهم من عالم الخلود.
ولكن هذه الرؤى ليس بحجة ، ولا يجب العمل بها ، نعم هو مستحب خاصة مع القرينة التي قد تكشف عن الصدق إلا أن يكون معارضاً بقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، وهذه الرؤى من لطف الله ، وفيها تنبيه وتحذير وإنذار وتذكير بعالم الآخرة ، لذا فهي دعوة لإجتناب الإرهاب ، والإضرار بالناس ، فمادام الناس أحياء في عالم الآخرة فان الإنسان يحترز من قتلهم بغير حق ، أو الإضرار بهم وبعوائلهم بما يجعلهم يشكون إلى الله عز وجل ، وهم في عالم البرزخ ويوم القيامة .
(عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) ( ).
ويصل ثواب الدعاء والإستغفار إلى الميت ، ومن خصائص الرؤيا أنها عون للإنسان في سبل الصلاح ، والإحتراز من السيئات والمعاصي .
وكانت الرؤيا مدداً للصحابة في الثبات على الهدى والإيمان .
وفي معركة بدر عندما قُتل أبو جهل قيل وضع عبد الله بن مسعود رجله على عنقه ، وذكر عياض (ان ابن مسعود انما وضع رجله على عنق أبي جهل لتصدق رؤياه، قال ابن قتيبة ذكر ان ابا جهل قال لابن مسعود لاقتلنك فقال والله لقد رأيت في النوم اني اخذت حدجة حنظل فوضعتها بين كتفيك ورأيتني اضرب كتفيك بنعلي ولئن صدقت رؤياي لاطأن على رقبتك ولاذبحنك ذبح الشاة)( ).
(عن عمرو ابن مرة الجهني أنه كان يحدث قال : خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية فرأيت في المنام وأنا بمكة نورا ساطعا من الكعبة حتى أضاء في جبل يثرب وأشعر جهينة فسمعت صوتا في النور وهو يقول : انقشعت الظلماء وسطع الضياء.
وبعث خاتم الأنبياء ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة وأبيض المدائن فسمعت صوتا في النور وهو يقول : ظهر الإسلام وكسرت الأصنام ووصلت الأرحام.
فانتبهت فزعا فقلت لقومي : والله ليحدثن في هذا الحي من قريش حدث وأخبرتهم بما رأيت .
فلما انتهينا إلى بلادنا جاءنا رجل فأخبرنا أن رجلا يقال له أحمد قد بعث فأتيته( ) فأخبرته بما رأيت فقال (يا عمرو بن مرة إني المرسل إلى العباد كافة أدعوهم إلى الإسلام وآمرهم بحقن الدماء وصلة الأرحام وعبادة الله ورفض الأصنام وحج البيت وصيام شهر من اثني عشر شهرا وهو شهر رمضان ، فمن أجاب فله الجنة ومن عصي فله النار فآمن يا عمرو بن مرة يؤمنك الله من نار جهنم.
فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله آمنت بكل ما جئت من حلال وحرام وإن أرغم ذلك كثيرا من الأقوام ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به وكان لنا صنم وكان أبي سادنا له فقمت إليه فكسرته ثم لحقت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أقول :
شهدت بأن الله حق وأنني … لآلهة الأحجار أول تارك
وشمرت عن ساقي إزار مهاجر … إليك أدوب الغور بعد الدكادك
لأصحب خير الناس نفسا ووالدا … رسول مليك الناس فوق الحبائك
فقال النبي صلى الله عليه وآله و سلم : مرحبا بك يا عمرو بن مرة ، فقلت : يا رسول بأبي أنت وأمي ابعث بي إلى قومي لعل الله أن يمن بي عليهم كما منّ بك علي فبعثني إليهم.
وقال : عليك بالقول السديد ، و لا تكن فظا ولا متكبرا ولا حسودا( ) فأتيت قومي فقلت لهم : يا بني رفاعة ثم يا بني جهينة إني رسول من رسول الله إليكم أدعوكم إلى الجنة وأحذركم النار وأمركم بحقن الدماء وصلة الأرحام وعبادة الله ورفض الأصنام، وحج البيت ، وصيام شهر رمضان شهر من اثني عشر شهرا .
فمن أجاب فله الجنة ومن عصى فله النار يا معشر جهينة : إن الله وله الحمد جعلكم خيار من أنتم منه وبغض إليكم في جاهليتكم ما حبب إلى غيركم من الرفث لأنهم كانوا يجمعون بين الأختين ويخلف الرجل على امرأة أبيه والترات في الشهر الحرام.
فأجيبوا هذا النبي المرسل صلى الله عليه وآله وسلم من بني لؤي بن غالب تنالوا شرف الدنيا وكرامة الآخرة سارعوا سارعوا في ذلك يكون لكم فضيلة عند الله فأجابوا إلا رجلا منهم قام.
فقال : يا عمرو بن مرة أمر الله عليك عيشك أتأمرنا أن نرفض آلهتنا ونفرق جماعتنا بمخالفة دين آبائنا إلى ما يدعو هذا القرشي من أهل تهامة ، لا ولا مرحبا و لا كرامة ثم أنشأ يقول :
( إن ابن مرة قد أتى بمقالة … ليست مقالة من يريد صلاحا )
( إني لأحسب قوله وفعاله … يوما وإن طال الزمان رياحا )
( أنسفه الأشياخ ممن قد مضى … من رام ذلك لا أصاب فلاحا
فقال عمرو بن مرة : الكاذب مني ومنك أمر الله عيشه وأبكم لسانه وأكمه بصره .
قال عمرو بن مرة : والله ما مات حتى سقط فوه وكان لا يجد طعم الطعام و عمى و خرس .
و خرج عمرو بن مرة ومن أسلم من قومه حتى أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرحب بهم وحباهم وكتب لهم كتابا هذه نسخته : (بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله على لسان رسول الله بكتاب صادق وحق ناطق مع عمرو بن مرة الجهني لجهينة بن زيد : إن لكم بطون الأرض وسهولها وتلاع الأودية وظهورها ترعون نباته وتشربون صافيه على أن تقروا بالخمس وتصلوا الصلوات الخمس و في التبعة و الصريمة شاتان إن اجتمعتا وإن تفرقنا فشاة شاة ليس على أهل الميرة صدقة ليس الوردة اللبقة).
وشهد من حضرنا من المسلمين بكتاب قيس بن شماس وذلك حين يقول عمرو بن مرة :
ألم تر أن الله أظهر دينه … وبين برهان القرآن لعامر)
كتاب من الرحمن نور لجمعنا … وأخلافنا في كل باد وحاضر
إلى خير من يمشي على الأرض كلها … وأفضلها عند اعتكار الضرائر
أطعنا رسول الله لما تقطعت … بطون الأعادي بالظبي والخواطر )
فنحن قبيل قد بنى المجد حولنا … إذا اجتلبت في الحرب هام الأكابر
بنو الحرب نقريها بأيد طويلة … وبيض تلالا في أكف المغاور
ترى حوله الأنصار تحمي أميرهم … بسمر العوالي و الصفاح البواتر
إذا الحرب دارت عند كل عظيمة … ودارت رحاها بالليوث الهواصر
تبلج منه اللون وازداد وجهه … كمثل ضياء البدر بين الزواهر ( ).
والرؤيا حبل من رحمة الله ممدود إلى روح الإنسان يتصل بنفسه ، ويؤثر في جوارحه ، وقد أولتها الأمم والشعوب السابقة عناية خاصة ، وذكرت في مواطن من القرآن ، في قصص الأنبياء ، وفي سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكانت مقدمة للفتح في صلح الحديبية ، قال تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ]( ).
لتكون الرؤيا عنواناً ومثالاً لنجاة النفوس من وطأة الإرهاب بأن تمتلأ بحب السلم ، وتميل إلى الموادعة والألفة ويجب على الذي يعبر الرؤيا النظر إليها بعين الصلاح والإصلاح ، وصلة الرحم والمودة.
إكرام القرآن لأهل البيت
لقد نزل القرآن بالثناء على أهل البيت ، ومنه قوله تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( )، وقوله تعالى [قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى]( ) وسؤال المودة لأهل البيت دعوة سماوية للألفة والتراحم بين المسلمين والتحلي بأخلاق النبوة وأهل البيت في الصبر والإنقطاع إلى الذكر والإمتناع عن الإرهاب .
وهل آية المباهلة من هذا الثناء، الجواب نعم، قال تعالى [فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( )، وكذا قوله تعالى [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ]( ).
و(عن أبي ذر : أنه كان يقسم قسماً إن هذه الآية [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ] ( ) نزلت في الثلاثة والثلاثة الذين تبارزوا يوم بدر وهم: حمزة بن عبد المطلب ، وعبيدة بن الحارث ، وعليّ بن أبي طالب .
وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة .
قال علي : أنا أول من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة)( ).
عن عبيد بن أبي رافع عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته( ) يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : ما أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ( ).
إذ جاءت السنة النبوية بياناً ومرآة للقرآن ، وهي المصدر الثاني للتشريع ، وإجماع علماء المسلمين على حجية السنة القولية والفعلية.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أيها الناس إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي أمرين . أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وأنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض) ( ).
وقال ابن كثير في تفسيره (و قد ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في خطبته بغَدِير خُمّ : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي، وإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض)( ).
وقد ذكرتُ في أجزاء متعددة من تفسيري أن خديجة وعلياً عليه السلام أول من آمنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي من بعدي .
وعندما آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار ، اختار علياً أخاً له .
وقال (والذي بعثني بالحق ، ما أخرتك إلا لنفسي فأنت عندي بمنزلة هارون من موسى ووارثي .
فقال : يا رسول الله ، ما أرث منك .
قال : ما ورثت الأنبياء .
قال : وما ورثت الأنبياء قبلك؟
قال : كتاب الله وسنة نبيهم ، وأنت معي في قصري في الجنة ، مع فاطمة ابنتي وأنت أخي ورفيقي ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية [إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ]( )، الاخلاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض)( ).
وقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ (بين أبي بكر وخارجة بن زيد بن الحارث؛ وآخى بين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك من بني سالم)( ).
أما مفتاح الكعبة فلأن جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرابع قصي بن كلاب وزع وظائف ولاية البيت على ابنائه فصارت السدانة والمفتاح لابنه عبد الدار ، فثبتها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذريته .
وقد تقدم في الجزء (221) من هذا التفسير باب مسؤوليات قريش من الرفادة والسقاية واللواء والسدانة ، ونحوها( ).
إنما طلب العباس المفتاح ، فهذا ابن القيم الجوزية يروي عن (سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ أَنّ الْعَبّاسَ تَطَاوَلَ يَوْمَئِذٍ لِأَخْذِ الْمِفْتَاحِ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَرَدّهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ)( ).
لقد أكرم الله عز وجل أهل بيت الرسالة بالمودة العامة لهم من قبل المسلمين والمسلمات ، وقد تجلى جهاد وصبر أهل البيت بدفاع الإمام علي عليه السلام وحمزة عن النبوة والتنزيل ، ثم جاءت آية المباهلة [فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( ).
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه ، وأحبوني لحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي)( ).
لقد أراد الله عز وجل نشر ألوية المحبة بين المسلمين لتكون واقية من الإرهاب والإقتتال.
مقارنة بين حروب قريش في الجاهلية وضد النبوة والتنزيل
لقد كانت الحروب متجددة في الجزيرة العربية قبل الإسلام ، ولجأت قريش إلى الأحلاف لضمان بقائها في مكة ، وولاية البيت الحرام ثم تأمين طرق تجارتها إلى الشام ، واليمن ، فعقدت حلف الأحابيش .
وهو حلف انعقد قبل الإسلام بين قريش وعدة قبائل حول مكة ضد بني بكر بن عبد مناة الذي كانوا ناقمين وساخطين على قريش منذ أن أخرجهم قصي بن كلاب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ، هم وخزاعة ، وقام بتقسيمها رباعاً ، وخططاً بين بطون قريش .
ولما علم عبد المطلب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن بني بكر يهمّون باخراج قريش من الحرم ، وأن يقاتلوهم حتى يستولوا عليه ، ويتولوا شؤون البيت الحرام ، وعدت بنو بكر على أنعام لبني الهوى من بن خزيمة وسأقوها غنائم ، وصار كل فريق يستعد للقتال .
(وعقد عبد المطلب الحلف بين قريش والأحابيش ، وهم بنو الحارث بن عبد مناة وبنو الهون بن خزيمة بن مدركة ، وبنو المصطلق من خزاعة، فلقوا بني بكر ومن انضم إليهم ، وعلى الناس عبد المطلب، فاقتتلوا بذات نكيف، فانهزم بنو بكر وقتلوا قتلاً ذريعاً ، فلم يعودوا لحرب قريش .
قال ابن شعلة الفهري :
فللّه عينا من رأى من عصابة … غوت غيّ بكر يوم ذات نكيف
أناخوا إلى أبياتنا ونسائنا … فكانوا لنا ضيفاً بشرّ مضيف)( ).
وكان عدد جيش قريش وحلفائهم ألف رجل من بني عبد مناف والأحابيش (وقائد الناس يومئذ المطلب بن عبد مناف) ( ).
والتحبيش : التجمع.
لقد ضمنت قريش بهذا الحلف لنفسها ولاية البيت ، ونالت الشأن والرفعة بين العرب والأحابيش هم :
الأول : بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة .
الثاني : بنو المصطلق من خزاعة .
الثالث : بنو الهون من خزيمة .
الرابع : عضل والقارة وبطونها .
وتبين سنخية المعارك قبل الإسلام إرادة الإبادة العامة بينهم لشدة الحمية والجهالة مع أنهم أبناء عمومة واحدة ، ومن الشواهد عليه يومئذ :
الأول : كانت قريش وحلفاؤها من الأحابيش وغيرهم ألف رجل ، وكان بنو بكر أكثر منهم عدداً .
الثاني : قول بلعاء بن قيس رئيس بني بكر (لقومه ارموهم فإذا فنيت النبل سلوا السيوف مكراً بالقوم، فقالت القارة وكانت رماة: أنصف القارة من راماها، فذهبت مثلاً)( ) .
والقارة قبيلة ، سموا قارة لإجتماعهم وامتناعهم عن التفرق والتشتت وقال (رجل منهم:
دعونا قارةً لا تنفرونا … فنجفل مثل إجفال الظليم)( ).
وهم رماة العرب والظاهر أن المراد من المثل أعلاه أن الذي يرامي القارة يصبح في ورطة لأنهم رماة الحدق .
الثالث : قيام المطلب بن عبد مناف بحضّ قومه على القتال .
الرابع : أخذ حطمط بن سعد أحد بني الحارث بن عبد مناة وهو رئيس الأحابيش يحض أصحابه على القتال ، فحطموا جفون السيوف ( ).
الخامس : اقتتل الفريقان قتالاً شديداً حتى انهزمت بنو بكر .
السادس : لم تكف عنهم قريش عند الهزيمة فكان (مطعم بن عدي يومئذ مصلت بالسيف في آثارهم يقول: لا تدعوا لهم زفراً واستأصلوا شوكتهم، وجعل حرب بن أمية يحض أصحابه ويقول: لا تبقوا عليهم، فقتلت قريش يومئذ بني بكر، قتلاً ذريعاً حتى دخلوا الحرم متعوذين به وأخرجت قريش بني بكر)( ).
وفي دراسة مقارنة بين شراسة وشدة هذه المعارك ، ومعارك قريش وحلفائها ضد النبوة والتنزيل في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، تتجلى معجزات النبوة في صرف شرور المشركين وعجزهم عن الإبادة العامة للمسلمين وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنهم يخرجون وهم عازمون عليه ، ولكن الله عز وجل يشل أيديهم.
وحضرت الأحابيش مع قريش في معركة أحد ، فمثلاً اجتاز الحليس (بن زبان سيد الأحابيش وهو يضرب في شدق حمزة بزج الرمح ويقول: ذق عقق .
فقال الحليس : يا بني كنانة هذا سيد قريش يصنع بابن عمه كما ترون. فقال أبو سفيان: اكتمها عني فإنها زلة)( ).
أي أن الحليس لم يرض على فعل أبي سفيان ، ولم يسكت وصار يروي للناس قبيح ما يفعل أبو سفيان للشهادة والتوثيق.
كما حضرت طائفة من الأحابيش مع عكرمة بن أبي جهل في فتح مكة لصدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن دخولها .
ومن وجوه المقارنة بين حروب العرب في الجاهلية ، وقتال قريش وحلفائها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور :
الأول : التباين في علة القتال ، إذ تكون أسباب القتال في الجاهلية شخصية بسيطة ، بينما قاتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لمجيئه بلواء التوحيد ، وحمل الناس على نبذ الشرك وعبادة الأوثان .
الثاني : قامت قريش ومن أجل محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتحالف مع أعدائهم في الجاهلية وهو من الإرهاب وبث الخوف العام .
الثالث : كانت الحمية والمباغتة والغدر في الجاهلية تتغشى طرفي النزاع ، أما في محاربتهم النبي فانه صلى الله عليه وآله وسلم لا يبدأ قتالاً ولا غدراً.
وجوه التباين في القتال
التباين بين معارك العرب قبل الإسلام ، وقتالهم ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الوجه الأول : قطع المشركين مسافات طويلة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فلم يعهد عرب الجزيرة قطع ثلاثة آلاف رجل كما في معركة أحد أو عشرة آلاف رجل كما في معركة الخندق (450) كم بين مكة والمدينة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وكانت بعض القبائل التحقت بهم في الطريق إلى ساحة المعركة .
إذ كانت المعارك بين أطراف في مناطق وأماكن متقاربة ومتجاورة ، وعلى أسباب شخصية من الحمية والثأر أو المصالح المحدودة ، فكانت بعض القبائل تختار النزوح والهجرة للإبتعاد عن مواطن وأسباب القتال ، وجاء الإسلام لبسط الأمن ونشر السلام .
فقد وقعت حرب البسوس التي استمرت نحو أربعين سنة وقيل أربعاً وعشرين سنة بسبب قتل كليب بن ربيعة التغلبي لناقة ضيف عند البسوس بنت منقذ واسمه سعيد بن شمس الجرمي ، لأن الناقة كانت ترعى مع نوق كليب والبسوس امرأة من بني تميم متزوجة عند بني تغلب ، وكليب هو الملك .
فقام جساس بن مرة الشيباني البكري ابن أخت البسوس بقتل الملك كليب ،وقد تقدم البيان والتفصيل
وجرت حرب بين طرفي أبناء عمومة وهم :
الأول : قبيلة تغلب بن وائل وحلفاؤها .
الثاني : بنو شيبان من قبيلة بني بكر بن وائل وحلفاؤها.
لبيان حاجة الناس واستدامة الحياة في الجزيرة العربية بأمان وسلام ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي قضى على الإرهاب والإقتتال، مما يلزم المسلمين تعاهد نعمة الأمان التي بعث الله عز وجل بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثبتها في الجزيرة .
ففي الوقت الذي استأصل فيه الإرهاب في الحزيرة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجب ألا يهاجر الإرهاب إلى خارج الجزيرة ، وهذا الوجوب للجمع بين قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )وقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) وآيات القرآن الأخرى ، وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية .
الوجه الثاني : حاجة الجيوش إلى كل من :
الأولى : الأسلحة من السيوف والدروع والخوذ والسهام والنبال ونحوها.
الثانية : الظهر من الخيل أو الإبل .
الثالثة : مستلزمات التمرين على القتال .
الرابعة : بقاء نفقة مناسبة للعيال ، لأن الخروج في جيش تعطيل للعمل.
وكانت قريش أهل تجارة ، وليس من زراعة كثيرة حول مكة ، فلابد أن يكون تجهيز عوائل المحاربين من تجارة قريش من الحنطة والشعير ونحوها مما يجلب من الشام أو بني حنيفة واليمن .
الخامسة : الأموال التي تدفعها قريش للمقاتلين ، إذ أنها استأجرت في معركة أحد ألفي رجل ، ولما كان عدد أفراد الجيش هو ثلاثة آلاف ، فلابد أن قريشاً استأجرت أضعاف هذا العدد في معركة الخندق التي جهزت لها قريش عشرة آلاف رجل مما يعني أكبر استنزاف لأموال قريش إلى جانب تعطيل تجارتها .
لقد تحملت قريش أعباء كبيرة ، وخسائر فادحة في قتالها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
الوجه الثالث : تكرار الغزو من طرف واحد ، فلقد كانت قبائل العرب بعضها يغزو بعضاً بما يشبه التناوب للثأر والمباغتة ، ولا يستريحون إلا في الأشهر الحرم ، وهي :
أولاً : شهر ذي القعدة .
ثانياً : شهر ذي الحجة .
ثالثاً : شهر محرم .
رابعاً : شهر رجب .
والثلاثة الأولى أعلاه سرد متصلة ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ) أما بخصوص القتال بين المشركين والنبي وأصحابه فقد كان الغزو من طرف واحد وهم المشركون ، وعلى نحو متكرر ، فهم الغزاة في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية مسائل:
الأولى : إعراض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الإرهاب ، وهل هذا الإعراض بالوحي أم بالإجتهاد ، ورياضة النفس ، الجواب هو الأول ، فان قلت إن منهاج الإستقامة الذي يتصف به الوحي يؤدي إلى نماء ملكة الإستقامة والإجتهاد فيها ، فهل يشاطر هذا الإجتهاد الوحي في قول وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحيث يتكلم مرة بالوحي وأخرى بالإجتهاد ورياضة النفس ، الجواب لا ، لملازمة الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه غنى عن الإجتهاد والرأي .
الثانية : مقابلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغزو بالجمع بين الدفاع والصبر .
ومن معاني هذا الجمع أنه لا يلاحق جيش المشركين إذا فروا من الميدان ، كما في تركه لهم يفرون في معركة بدر ، أو عند اختيارهم الإنسحاب كما في معركة أحد .
الثالثة : عدم قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرد على المشركين بالمثل من الغزو وحرق النخيل والزروع التي حول المدينة ، وهو من مصاديق قانون (لم يغز النبي (ص) أحداً ) .
قانون سيرة المسلمين واقية من الإرهاب
لقد ورد نداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تسعاً وثمانين مرة في القرآن ويتوجه للمسلمات والمسلمين جميعاً في كل زمان ومكان ، فيطل على أهل الأرض في كل يوم ليتفرع إلى نداءات وخطابات بعدد المسلمين والمسلمات ، ليكون نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]سبباً لديمومة الحياة الإنسانية على الأرض ، فلما كانت علة خلق الناس هي العبادة كما في قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) تفضل الله عز وجل بشهادة كل يوم بوجود أمة مؤمنة تطلع عليها شمسه ، وهي تستحق الحياة ، ويكون الناس تبعاً لهم وملحقين بهم ، وهو من رأفة الله عز وجل بالناس ، قال تعالى [وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى]( ).
فمن زينة الحياة الدنيا ، وعلامات البهاء والجمال فيها أن يتكرر في كل دقيقة النداء النازل من عند الله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ويسمع صداه في مشارق الأرض ومغاربها , فان قلت إبتداء الإسلام في مكة ثم المدينة ، ونزلت أغلب آيات النداء في المدينة المنورة ، وقيل نزلت كلها في المدينة المنورة ، ولم يتسع آنذاك الإسلام في البلدان والأمصار الأخرى .
فهل تختص إطلالة هذا النداء المبارك على المدينة ومواضع إنتشار الإسلام, الجواب لا, إنما تعم أقطار الأرض كلها , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
واتصفت معجزات الأنبياء السابقين بأنها حسية مثل سفينة نوح، وناقة صالح ، وعصا موسى ، قال تعالى [وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً]( ) أي جلية وبينة وتنفرد بخصائص غير موجودة عند غيرها من الحيوانات.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها نسبت البصر والإبصار إلى ذات الناقة إذ وردت الآية بصيغة المبني للفاعل وليس المبني للمجهول .
وفي موضوع نزول الآية أعلاه ورد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم، وإن شئت أن نُؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكتُ من كان قبلهم من الأمم: قال: “لا بل استأن بهم”. وأنزل الله: { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً })( ).
وعدم تحقق الآية التي سألتها قريش لا يعني عدم وجود آيات حسية للمسلمين ، ولكن المشركين يريدون في كل شيء آية ، وكل واحد منهم يريد آية حسية مستقلة يراها بأم عينه.
فتفضل الله عز وجل وجعل القرآن معجزة عقلية لهم وللناس جميعاً ، وكما أن إعجاز القرآن متجدد في كل زمان ومكان ، وفي باب الموضوع والحكم فان الله تفضل وجعل سيرة وأفعال المسلمين شاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة تتجلى في كل زمان .
فمثلاً وقوف المسلمين بين يدي الله عز وجل خمس مرات في اليوم في صلاة الجماعة وفرادى معجزة يومية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبرهان على نفاذ الشعائر التي جاء بها إلى شغاف القلوب ، لينظر الناس إلى المسلمين في صلاتهم وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاضر بين ظهرانيهم ، وهو من مصاديق قوله صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) , ومن وجوه الإستدلال من المعلول إلى العلة والذي يسمى البرهان الإني كما سيأتي في البحث المنطقي.
ولم يعلم أحد أن من مصاديق الحديث أعلاه دعوة المسلمين لبيان معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل يوم خمس مرات في اليوم ، وفي كل موضع من الأرض ، أنه من أسرار قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) فيأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بأمر يكون فيه خير الدنيا والآخرة , ويصبح معجزة متجددة كل يوم تدعو الناس إلى الإسلام ، فمع أن الصلاة واجب عيني على كل مسلم ومسلمة فهي طريق للهداية , وزاجر للناس عن التعدي على حرمات المسلمين وثغور الإسلام .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام أن الصلاة خضوع ومسكنة لله عز وجل , ويقف المسلمون في صفوف متراصة يؤدون ذات أجزاء الصلاة في آن واحد غير ملتفتين إلى ما حولهم ، وهو من أسرار تسمية تكبيرة إفتتاح الصلاة بتكبيرة الإحرام ، وهذه المسكنة والإعراض عن الدنيا أثناء الصلاة تنمية لملكة الرحمة ونفاذها إلى عالم القول والفعل ومنه الإمتناع عن الإرهاب .
وهل هو من مصاديق ما ورد عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول (أعطيت ثلاثاً لم يعطهن نبي قبلي ولا فخر. أحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي ، كانوا يجمعون غنائمهم فيحرقونها.
وبعثت إلى كل أحمر وأسود ، وكان كل نبي يبعث إلى قومه . وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، أتيمم بالصعيد ، وأصلي فيها حيث أدركتني الصلاة قال الله تعالى{أن تقوموا لله مثنى وفرادى}( ). وأعنت بالرعب مسيرة شهر بين يدي)( ).
الجواب نعم ، إذ أن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعموم الناس رحمة من الله بهم ولابد أن يتعاهد الشباب المسلم هذه الرحمة.
ومن الآيات ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أعلاه آية تخفيف تخص الصلاة وإقامتها في أوقاتها لبيان أن ذات الصلاة وكيفية أداء المسلمين لها , وحرصهم على محاكاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أدائها دعوة للصلاح والألفة بين الناس ، وسلام في الأرض يتجدد كل يوم .
وهل الصلاة من سيرة المسلمين ، الجواب نعم ، وهي من مفاخر حياة الإنسان في الأرض ، إذ تتجلى معالم التقوى في مقدمات الصلاة ومنها الوضوء ، وفي أداء الصلاة وفي أثرها وموضوعيتها في عالم الأفعال.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سيرة المسلمين إجتنابهم الربا ، ومناجاتهم بلزوم التنزه عن الفائدة الربوية المحرمة قبضاً وإعطاءً .
ومن الإعجاز في نبوته صلى الله عليه وله وآله وسلم إخباره عن توجه اللعنة في الربا إلى أربعة أطراف :
الأول : الذي يقبض المال الربوي والفائدة الربوية .
الثاني : الذي يعطي المال والزيادة الربوية .
الثالث : الشاهد على المعاملة الربوية .
الرابع : كاتب الربا , ليكون إمتناع كل طرف عن المعاملة الربوية زاجراً للآخرين عن إجراء معاملته وإتمام عقده فاذا إتفق شخصان على معاملة ربوية ووجدا الكاتب الذي يكتب بينهما أو كان أحدهما هو الكاتب فأنهما يحتاجان إلى الشهادة المتعددة ، فلابد من شاهدين لقوله تعالى [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ] ( ) فيتعذر عليهم إيجاد الشاهدين , ويأتي الذم والنهي عن المعاملة الربوية , وحتى إذا وجدوا شاهداً , فلابد من الشاهد الآخر .
وهل يدل قوله تعالى [وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى] على إحتمال نسيان المرأة الشاهدة حرمة الربا ، وهل تشهد المرأتان حتى على المعاملة الربوية ، الجواب لا ، فهناك مائز وفارق كبير بين حرمة الربا وعلم المسلمين به لأنه من الأحكام العامة التي ترد على المسلمين والمسلمات كل يوم ، وهو من أسرار تلاوة المسلمين القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب خمس مرات في اليوم , وعلى نحو متكرر بين القيام والركوع في كل ركعة من ركعات الصلاة .
وأيهما أشد ضرراً الإرهاب أم المعاملة الربوية ، الجواب هو الأول ، لذا فان التقيد بأحكام الشريعة باعث للسلم ، وللتنزه عن الربا.
ومن سيرة المسلمين التي هي معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ آية البحث أمور:
الأول : توجه النداء العام للمسلمين (يا أيها الذين آمنوا) إذ أنه شهادة سماوية ببلوغ المسلمين مرتبة الإيمان، وعن ابن عباس في قوله تعالى{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف}( ) يقول: تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، والإقرار بما أنزل الله ويقاتلونهم عليه. ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف {وتنهونهم عن المنكر} والمنكر هو التكذيب وهو أنكر المنكر)( ).
ليكون من مصاديق نداء الإيمان وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حق.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بوجوب قيامكم بالأمر بالمعروف ونهيكم عن المنكر، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بحاجة الناس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع : يا أيها الذين آمنوا بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للرزق الكريم، وسبيل إلى الثواب العظيم.
الخامس : يا أيها الذين آمنوا بأن السلم معروف والإرهاب منكر.
السادس : يا أيها الذين آمنوا بأن النهي عن المنكر والإرهاب والتفجيرات وسفك الدماء بغير حق واجب .
وهذا النهي من مصاديق الصراط المستقيم، لذا تفضل الله عز وجل على المسلمين بأن يقوم كل واحد منهم بتلاوة قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، عدة مرات في اليوم بصيغة الوجوب، مع عدم إستثناء المرأة من هذا الحكم لأنه نعمة عظمى تتجدد كل يوم.
ليكون من معاني سيرة المسلمين كمعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها تقودهم إلى الخلود في النعيم، قال تعالى[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( ).
إن منهاج المسلمين في الصالحات ودلالته على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
لتكون معجزة عقلية وحسية يومية تطل على المسلمين وأهل الأرض ، فتزيد إيمان المسلمين ، وتدعو الناس إلى الهدى ونشر شآبيب الرحمة ونبذ العنف والقتال بينهم ، فمن وجوه الإبتلاء في الحياة الدنيا الإقتتال بين الناس ومقدماته وأسبابه ، ونزغ الشيطان بينهم , وإستحواذ النفس الغضبية على الناس في ذروة العصبية ورشحات الفتنة .
وسيبقى صدور المسلمين عن القرآن والسنة سبيلاً لنشر مفاهيم السلام والأمن بين الناس ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ).
لقد أراد الله عز وجل لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التجدد في أفراد الزمان الطولية ، وفي الأمصار المختلفة ، والمواضيع المتعددة , والأحكام السماوية الساطعة لتكون سيرة المسلمين مرآة للنبوة في الموادعة والتحلي بالصبر على الأذى ، وبالإكتفاء بالبيان والإحتجاج.
ويبقى نداء الإيمان منبعاً للخيرات , وضياء ينير مسالك الرشاد والفلاح بتوفيق من عند الله عز وجل ، والمناجاة بالمعروف وسنن التقوى ، وكف الأذى ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( ).
قانون التضاد بين التقية والإرهاب
التقية هي حفظ النفس في مواطن عدم الكشف عما يدور في الخلد والمبنى ، وهي تختلف عن النفاق وعن الكذب ، ولا تعني إظهار الكفر وإخفاء الإيمان ، فهذا نادر في هذا الزمان والأزمنة السابقة واللاحقة ، وإن كان من مصاديق التقية ، قال تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ] ( ).
وموضوع التقية أعم مما جاء في الآية أعلاه ، ومن أسباب نزول هذه الآية إيذاء كفار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وبذلهم الوسع في تعذيبهم لجعل المسلم على أحد أمرين:
الأول : القتل .
الثاني : التظاهر بموافقة الكفار فيما يقولون .
والتقية أعم ومنها التقية المداراتية بين المسلمين وعامة الناس ، والإرهاب ضد التقية لما فيه من تعريض النفس للأذى والشر ، بينما من أركان التقية حفظ النفس ، وإذا كنت التقية أمراً واجباً فان ضدها وهو الإرهاب أمر محرم لما فيه من الضرر على الذات والغير .
واذا كانت الآية أعلاه تتضمن الرخصة في ولاية المؤمن للكافر تقية لإجتناب شره وأذاه مع تعاهد العقيدة ، ونقاء الباطن ، فان المسلم في هذا الزمان يؤدي وظائفه العبادية ، ويتلو القرآن ، ويحافظ على دينه في عموم الأمصار والبلدان من غير إكراه على ما يخالفها فلابد من الشكر لله عز وجل والمخلوق بالعصمة من الإرهاب .
وهل في تعاهد القوانين الوضعية في هذا الزمان تقية ، الجواب لا، لقد طرأ نظام جديد وهو عنوان المواطنة وتغشي القوانين للناس جميعاً ، ويلزم هذا العنوان التقيد بها .
وفي هذا التقيد فخر للمسلم ، وترغيب بالإسلام ، ودفع للإرهاب ومفاهيمه عنه وعن القرآن وعامة المسلمين ، فلا تصل النوبة عند التقيد بالقوانين إلى التقية لأنها أحكام وضعية ، اجتهد بوضعها المشرعون لما فيه نفع الناس جميعاً ، ومنع الضرر عنهم ، مع أن القوانين في القرآن إلهية تفيد الإنبساط والملائمة لكل الأزمنة والبلدان .
ومن التقية إجتناب الخصومة في الجدال ، وما فيه النفرة وأسباب الحقد والكراهية .
لقد أدى نظام العولمة وكثرة التنقل بين البلدان وتغيير أماكن السكن بالهجرة شرقاً وغرباً .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين حسن التعايش مع غيرهم من أهل الملل والنحل ، فجاءت أحكام التقية وهي فرع من التقوى والخشية من الله لما فيها من خصائص حسنة منها :
الأولى : التقية طاعة لله عز وجل لأنها عن إذن من عند الله ، قال تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ) ويدل تشريع وأحكام التقية على لزوم الصبر وإجتناب الإرهاب والعنف والبطش لما فيها من معاني السلم والموادعة .
الثانية : في التقية اقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يتحمل الأذى من الذين كفروا بصبر ، وحينما طلب المشركون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدون الله عز وجل سنة جاء المنع والنهي من عند الله [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ]( ).
الثالثة : التقية موافقة لإدراك العقل الذي يحكم بلزوم دفع الضرر عن النفس ، ويجلب الإرهاب هذا الضرر للنفس والأهل والغير .
الرابعة : التقية نوع معاشرة الناس بالحسنى والصبر على الأذى ، فهي حسنة ذاتاً وفيها أجر وثواب .
الخامسة : في التقية حفظ للذات والمال ، ولا تعني التقية إرتكاب المحرمات ، وترك ضرورة من ضرورات الدين .
ومن وجوه الحجة على الإنسان عدم التعارض بين الحفاظ على ضروريات الدين وإجتناب الإرهاب في أي بلد وأزاء أي طائفة من الناس ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قانون حجة الوداع زاجر متجدد عن الإرهاب
لقد كانت حجة الوداع مناسبة لإتقان المسلمين مناسك الحج ، وعدم اختلاف أجيالهم المتعاقبة فيها ، لتكون جهة الخطاب لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ (خذوا عني مناسككم) ( ) كل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة ، من استطاع الحج أو من لم يستطع فلابد أن يحرص المسلمون على عدم تغيير وتبديل هذه المناسك ، لذا أختتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطبته في منى (ليبلغ الشاهد الغائب فإنه رُبَّ مبلغ أسعد من سامع) ( ).
شاء الله عز وجل أن تكون حجة الوداع مناسبة لإحصاء عدد الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبلباس التقوى وأداء فريضة الحج إلى جانب الصلاة اليومية ، وهو من الإعجاز في قانون علم الإحصاء السماوي ، واختلف في عددهم على أقوال :
الأول : (وقد كان معه عليه السلام في حجة الوداع قريب من أربعين ألفا)( )
الثاني : في رواية (وَحَجّ مَعَهُ نَحْوٌ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ)( ).
الثالث : (فَقَدْ تُوُفّيَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَنْ أَكْثَرِ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ عَيْنٍ كُلّهُمْ قَدْ رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ)( ).
وهل كانت حجة الرسول هذه تسمى حجة الوداع في أوانها أو في مدة أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، المختار إنما ورد هذا الاسم لها بعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وهو مستقرأ من كلام وخطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع .
ولم يغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا إلا بعد أن نزلت جميع آيات وسور القرآن ، وجاءت السنة النبوية بكل من :
الأول : قانون تحريم الإرهاب .
الثاني : قانون الأجر والثواب في الإمتناع عن الإرهاب .
الثالث : قانون بيان السنة النبوية للقبح الذاتي للإرهاب .
الرابع : إنذار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس من الفساد وسفك الدماء .
الخامس : قانون تعاضد القرآن والسنة النبوية في النهي عن الإرهاب وتقليل أضراره كماً وكيفاً .
لقد تعددت خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع من جهات :
الأولى : خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عرفة في التاسع من شهر ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة ، وهي سنة حجة الوداع .
الثانية : الخطبة في منى في أوسط أيام التشريق .
الثالثة : خطبة ثانية في منى .
ومن الإعجاز في السنة النبوية تعدد موضوع الأحكام في خطبة الوداع ، وتشمل بيان بديع صنع الله ، والعبادات ، والمعاملات والحياة الأسرية .
ليكون كل فرد منها دعوة للثبات في مقامات الإيمان ونهيها عن الإرهاب .
لقد كان النبي محمد يوصي أصحابه بنشر العدل والأمن ، والإمتناع عن الظلم بما فيه أدنى مراتبه ، لينقل هؤلاء الصحابة على كثرتهم منهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى التابعين ، ومن الآيات أن كثيراً من الصحابة انتقلوا إلى الأمصار المختلفة مثل العراق ، والشام ، وبلاد فارس وخراسان ، والأردن ، واليمن ، وتركيا ، وصاروا دعاة إلى السلام والسلم ، وآمرين بالمعروف وإجتناب الفساد ، وسفك الدماء .
قانون إعطاء المؤلفة قلوبهم دفع للإرهاب
من إعجاز القرآن تخصيص سهام إلى الذوات وأصحاب الشأن بين القبائل وعامة الناس ممن يتصف بأمور:
الأول : دخل الإسلام حديثاً وفي إسلامهم ضعف .
الثاني : من دخل الإسلام رجاء النفع والكسب الدنيوي .
الثالث: تقوية نية الداخل في الإسلام وتقريبهم لمنازل الإيمان .
الرابع : التألف للداخل حديثاً في الإسلام .
الخامس : إراد تقوية الصلة مع عشيرته .
لقد نزلت آية الصدقات ومن مصارفها مصرف للمؤلفة قلوبهم ، إذ قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
واختلف هل المؤلفة قلوبهم خصوص الذين دخلوا الإسلام حديثاً ولا زال الشك في قلوبهم أم أنه يشمل الكفار أيضاً ، واستشهد باعطاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعامر بن الطفيل من الصدقات وهو كافر لتآلفه وإجتناب إرهابه ، والمختار هو الأول.
وعن(رافع بن خديج، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم من سبى حنين مائة من الابل، لقد أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلاً من :
الأول : أبو سفيان بن حرب مائة من الإبل .
الثاني : أعطى صفوان بن أمية مائة من الإبل ، وكان أبوه أمية بن خلف قد قتل كافراً في معركة بدر .
الثالث : أعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل.
الرابع : أعطى الاقرع بن حابس مائة من الإبل .
الخامس : أعطى علقمة بن علاثة مائة من الإبل.
السادس : أعطى مالك بن عوف مائة( ) من الإبل.
السابع : أعطى العباس بن مرداس دون المائة من الإبل .
ولم يبلغ به أولئك فأنشأ يقول :
أتجعل نهبي ونهب العبي … د بين عيينة والأقرع
فما كان حصن ولا حابس … يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرىء منهما … ومن تضع اليوم لا يرفع
وقد كنت في القوم ذا تدرأ … فلم أعط شيئاً ولم أمنع
فصالاً أفاثل أعطيتها … عديد قوائمها الأربع
وكانت نهاباً تلافيتها … بكري على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا … إذا هجع الناس لم أهجع( ).
قال : فأتم له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مائة)( ).
الثامن : أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاوية بن أبي سفيان مائة من الإبل.
وأعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (المؤلفة قلوبهم أول الناس فأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الابل قال ابني يزيد قال اعطوه أربعين أوقية ومائة من الابل قال ابني معاوية قال اعطوه أربعين أوقية ومائة من الابل، واعطى حكيم بن حزام مائة من الابل ثم سأله مائة أخرى فأعطاه)( ).
والمشهور والمختار إنحصار العطاء بمائة من الإبل لكل منهم ، وليس مائتين.
التاسع : حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى .
العاشر : الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي .
الحادي عشر : سهيل بن عمرو .
الثاني عشر : حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس.
الثالث عشر : العلاء بن جارية الثقفي، حليف بن زهرة .
أعطى كل واحد من هؤلاء مائة بعير.
وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ خمسين من الإبل كلاً من :
الرابع عشر : عدي بن قيس بن حذافة السهمي خمسين من الإبل .
الخامس عشر : سعيد بن يربوع بن عنكثة بن عامر بن مخزوم خمسين من الإبل.
السادس عشر : مخرمة بن نوفل الزهري .
السابع عشر : عمرو بن وهب الجمحي .
الثامن عشر : هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب أخي بني عامر ابن لؤي بأقل من مائة لكل واحد منهم.
وممن أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدداً دون ذلك :
التاسع عشر : طليق بن سفيان بن أمية بن عبد شمس.
العشرون : خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس.
الحادي والعشرون : شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزى وكان يذكر عن نفسه أنه أراد الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فتغشاه أمر لا يقدر على وصفه، قال: فعلمت أنه ممنوع من عند الله.
الثاني والعشرون : أبو السنابل بن بعكك بن الحجاج بن الحارث بن السباق بن عبد الدار( ).
الثالث والعشرون : عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار .
الرابع والعشرون : زهير بن أبي أمية بن المغيرة، أخو أم سلمة أم المؤمنين .
الخامس والعشرون : خالد بن هشام بن المغيرة المخزومي .
السادس والعشرون : هشام بن الوليد ، أخو خالد بن الوليد .
السابع والعشرون : سفيان بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم .
الثامن والعشرون : السائب بن أبي السائب بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم .
التاسع والعشرون : مطيع بن الأسود بن حارثة بن نضلة ، أخو بني عديب بن كعب .
الثلاثون : ابو جهم بن حذيفة بن غانم العدوي .
الحادي والثلاثون : أحيحة بن أمية الجمحي .
الثاني والثلاثون : نوفل بن معاوية بن عروة بن صخر بن رزن بن يعمر بن نفاثة بن عدي بن الديل، من بني بكر بن عبد مناة بن كنانة .
الثالث والثلاثون : علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصة.
الرابع والثلاثون : يزيد بن أبي سفيان .
الخامس والثلاثون :خالد بن هوذة بن خالد الملقب بالحلس ابن ربيعة بن عمرو، فارس الضحياء ، بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصة.
السادس والثلاثون : أخوه : حرملة بن هوذة)( ).
السابع والثلاثون : عقبة بن زيد .
وقيل كان عددهم تسعة وثلاثين رجلاً.
ومن إعجاز القرآن أن منافع الإعطاء للمؤلفة قلوبهم لا تنحصر بهم بالذات ، إنما تشمل غيرهم ممن دخلوا الإسلام ، من أمثالهم أو الذين لم يدخلوا الإسلام بعد ، لكفاية أذاهم ، ودفع شرورهم عن المسلمين وعن الناس .
ويدل تخصيص مصرف للمؤلفة قلوبهم على قانون المال واقية للنفوس والعقيدة ، وتسخيره بالبذل والعطاء لعامة الناس وليس للإضرار والفتك بهم.
قانون دفع الملائكة الفساد
من معاني قول الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) الإستجارة بالله من هذه الأفعال ، ورجاء أمور :
الأول : عصمة الناس من الفساد ، لذا فمن علم الله في المقام وقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) تفضله ببعث الأنبياء ، وانزال الكتب السماوية وحضور لطفه تعالى عند كل فرد من الناس من جهات :
الأولى : صرف الإنسان عن الفساد والقتل ، وهذا الصرف من مصاديق ربوبية الله عز وجل المطلقة ، وكونها ربوبية مشيئة وتصرف لذا يتلو كل مسلم ومسلمة قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) ومن معانيه رجاء صرف الناس عن الفساد والإرهاب ، وفيه شهادة بأن القرآن سلاح ينازع الإرهاب ، ويزيحه عن المجتمعات .
الثانية : لطف الله عز وجل بحجب الفساد عن الفرد والجماعة ، وجعله لا يصل إليهم ، سواء بتوجه الأمر الإلهي إليه بالواسطة أو باعدامه أو بفضحه وجعل النفوس تنفر منه ، وتعرض عنه .
الثالثة : قانون نماء ملكة الإحتراز من الفساد عند الناس ، وبين هذه الملكة وبعثة الأنبياء والمرسلين في المقام عموم وخصوص مطلق.
الثاني : خلو الأرض من القتل وسفك الدماء ، وهل كان الملائكة يرجون وقف حكم القصاص ، الجواب نعم ، ولكن ليس على نحو تعطيل الحكم ، ولكن بسؤال إمتناع السبب ، وهو جناية القتل العمد ، فمع انتفاء الموضوع ينتفي الحكم .
وهل يشمل احتجاج وسؤال الملائكة القتل الخطأ والذي تجب فيه الدية ، وليس القصاص ، أم أن القدر المتيقن من الآية رجاء كف الناس عن القتل العمد.
الجواب هو الأول ، وتقدير قوله تعالى [وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) أي ويسفك الدماء عمداً أو خطأ .
وهل تشمل الآية الحروب والاقتتال ، الجواب نعم ، من باب الأولوية القطعية لما فيه من القتل المتعدد وإزهاق الإرواح .
الثالث : استدامة سلامة أهل السماء من دبيب الفساد والقتل ، فالملائكة معصومون ، وهم عقول بلا شهوة ، وهو لا يمنع من الدعاء لإستدامة هذه النعمة بعد رؤية الخلفاء في الأرض يقوم شطر منهم بالفساد والقتل .
الرابع : رجاء نزول الملائكة لمنع الناس من الفساد والإقتتال والقتل .
وهو الذي تحقق في معركة بدر وأحد والخندق ، إذ نزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وبخصوص معركة بدر ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
ومن الإعجاز في المقام ذكر الآية لعدد الملائكة وهم ألف بعدد أفراد جيش قريش الغزاة مع أن الملك الواحد يعادل في قوته أضعاف عدد المشركين هذا .
ولم يرتدع المشركون من هزيمتهم في معركة بدر ، ورؤية بعضهم للملائكة وهم يقاتلون إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فجهزوا الجيوش لمعركة أحد ، فوصل ثلاثة آلاف رجل من المشركين إلى مشارف المدينة المنورة .
وهل هذا من الإبتلاء بالخوف الذي ورد في قوله تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ] ( ) والتي جاء (قانون الإبتلاء إنصراف عن الإرهاب) بخصوصها ، أم أن هذه المعركة قبل نزول الآية الكريمة أعلاه ، والتي أخبرت عن نزول الإبتلاء على المسلمين من عند الله عز وجل .
الجواب هو الأول ، إذ تتضمن آية الإبتلاء عن وقوعه للمسلمين ، وأول من ذاق أذاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأظهر الصبر ، وكظم الغيظ ، ولم يأمر باغتيال كبار المشركين الذين كانوا يجهزون الجيوش لمعركة أحد أو الخندق مثل أبي سفيان وصفوان بن أمية بن خلف ، وعكرمة بن أبي جهل .
ليكون من معاني قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ) تأسي المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التنزه عن الإرهاب داخل البلاد الإسلامية وخارجها ،والإبتعاد عن الغدر والخيانة.
والنسبة بين الغدر والإرهاب هو العموم والخصوص المطلق ، فالغدر أعم ، نعم من الغدر ما يكون ضرره نفسياً ، ومنه ما يدفع شره ، أما الإرهاب فان ضرره نفسي ومادي ، وفي الأرواح والأموال .
لقد جعل الله عز وجل الملائكة مدداً للأنبياء في إصلاح الأرض ، وهداية الناس إلى الرشاد ، وفي دفع الفساد.
حرمة الإرهاب بين البرهان اللمي والإني(بحث منطقي)
البرهان اللمي اصطلاح يراد منه الإستدلال بالعلة على المعلول ، لترتبه على العلة على نحو الإنطباق .
فاذا تلبدت السماء بالغيوم أدركنا نزول الغيث والمطر ، فالغيوم دليل لنزوله .
وعندما ضرب موسى بعصاه الحجر ، انفلق فكان المعلول عبور بني إسرائيل البحر بسلام ، قال تعالى [فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ]( ).
نعم ضرب العصا وانفلاق البحر لم يتم إلا بمشيئة وأمر من عند الله عز وجل ، وكما في قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا]( )، إذ صار المعلول النسب والمصاهرة فهناك رحم ونسب ذكور ينتسب إليهم الإنسان ، وصهر أي أناث أزواج وبنات كسبب للمصاهرة والألفة والقرب ، لبيان سعة رحمة الله عز وجل بعدم إنحصار الإنتساب بطريق واحد ، وقد نجد من يفتخر بأهله أو أهل أمه أو أهل زوجته.
ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه تتصف بأمور :
الأول : الآية القرآنية نعمة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ففيها بيان وشهادة سماوية على نبوته ، وهي واقية له .
الثاني : إنها نعمة خاصة على المسلم والمسلمة .
الثالث : إنتفاع المسلمين كافة من الآية القرآنية فهي منهاج ودستور ، ومن خصائص الآية القرآنية أنها تمنع من الإرهاب ، وتتضمن الإنذار والتحذير منه .
الرابع : تغشي بركة الآية القرآنية لأهل الأرض جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
فان قلت وهل تشمل هذه الرحمة الذين يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم لأصالة الإطلاق ، ولأن الله عز وجل يهب بالأتم والأحسن والأوفى .
ولقد حاربت قريش وحلفاؤها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، وأيهما أكثر عدداً وشأناً أيام النبوة :
الأول : الذين ماتوا أو قتلوا على الكفر .
الثاني : الذين دخلوا الإسلام .
والصحيح هو الثاني ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) استجابة الناس للرسالة لأن قلوب العباد بين اصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها كيفي يشاء.
وقد دخل في الإسلام بين صلح الحديبية وفتح مكة مدة سنتين أكثر مما دخل فيه قبل صلح الحديبية وقبل الهجرة ، وأمنت الطرق ، وصار المسلمون يتنقلون بسلام ، ويضربون في الأرض للتجارة والكسب ، وكل واحد منهم داعية إلى الله ، يسافر وهو يشيع السلم ، ويمنع من الإرهاب ، ويبين الحاجة للنجاة في الآخرة بالعمل الصالح ، كما قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بارسال الكتب إلى ملوك وأمراء زمانه يدعوهم إلى الإسلام ، وكانت آيات السلم وآيات الأحكام وسنته رسولاً له .
أما بعد فتح مكة فقد صار الناس يأتون وفوداً للنطق بالشهادتين، والإخبار عن دخول قومهم من خلفهم في الإسلام حتى سمي العام التاسع للهجرة عام الوفود .
ومن هذه الوفود ما كانوا يقاتلون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ويصرون على الإقامة على الكفر مثل ثقيف وهم أهل مدينة الطائف ، إذ شرطوا شروطاً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دخولهم الإسلام ، فلم يغضب ولم يصدهم ، خاصة وأنهم جاءوا في أيام عز الإسلام ، وبعد كتيبة تبوك ، فقبل بعض تلك الشروط ، وبيّن لهم أن بعضها لا يصح لمنافاته لمبادئ الإسلام، فقبلوا قوله برضا .
وعن (ابن عباس في قوله (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا)( )، قال وفد ثقيف: نبايعك على ثلاث لا ننحني ، ولا نكسر إلها بأيدينا، وتمتعنا باللات سنة.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود، فأما كسر أصنامكم بأيديكم فذاك لكم ، وأما الطاغية اللات فإني غير ممتعكم بها، قالوا: أجلنا سنة حتى نقبض ما يهدى لآلهتنا، فإذا قبضناها كسرناها وأسلمنا، فهم بتأجيلهم فنزلت هذه الآية) ( ) ولم يثبت هذا الهّم، والأصل عدمه .
ومن الإعجاز في نعمة دخول الإسلام توارثها في الأجيال ، وتلقي الذراري لها بالقبول ، ليكون أجر إضافي للآباء في إيمان الأبناء وأدائهم الفرائض العبادية .
وهناك فرق بين الفاعل والعلة ، إذ أن العلة أعم وقد تكون غير مدركة أو ليست واعية .
والبرهان قياس مؤلف من يقينيات .
والبرهان الإني هو الإستدلال من المعلول على العلة ، فارتفاع البخار من الماء يدل على التسخين ، ووجود النهار يدل على أن الشمس طالعة .
والآيات الكونية تدل على خلقها بأمر ومشيئة من عند الله عز وجل ، قال تعالى [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ]( ).
وتدل ظاهرة الإرهاب على القصور في العقيدة ، وعلى الإمتناع عن الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهناك خطأ في الفهم عند الذي يقوم بالفعل الإرهابي لابد من تصحيحه بالرجوع إلى القرآن والسنة والعقل.
وكذا فان الفعل الإرهابي هو معلول للحمق والزائد من السخط ، وقد يستحضر ذات الإنسان بالفطرة البرهان اللّمي ، والبرهان الإني في أفعاله وأقواله ، إذ أن هذا التقسيم استقرائي بلحاظ الآيات الكونية وعالم الأفعال والجوارح ، فيرى الإنسان أنه ليس من علة عقلائية للإرهاب ، إنما يكون هو علة للضرر الفادح على الذات والغير ، في حالات :
الأولى : قبل الإقدام على الفعل الإرهابي ، فيكون العقل سبيلاً للكف والإمتناع عنه .
الثانية : عند الهمّ بالفعل الإرهابي ، وفيه فرصة للتدارك والإمتناع عن الإرهاب .
الثالثة : عند إتيان الفعل الإرهابي .
الرابعة : بعد حدوث الفعل الإرهابي.
ليكون العقل والتأديب زاجراً عن الفعل الإرهابي ، قال تعالى [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ]( ).
لماذا تقضي الحائض الصيام ولا تقضي الصلاة
قال تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( ).
ابتدأت الآية بحرف العطف ثم الجملة الفعلية (يسألونك) للدلالة على تكرار السؤال من المسلمين والمسلمات بخصوص الحيض وأحكامه ، وهو عنوان إرتقاء للمسلمين في المعارف الإلهية ، وشاهد على الحرص العام على التفقه في الدين ، وإحراز أداء الوظائف العبادية على الوجه الأكمل ، وفيه دعوة لأجيال المسلمين لتعاهد هذا الحرص ، وللتحلي بالصبر ، والإبتعاد عن الإرهاب .
وبعد أن كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى الأذى من قريش وهو في مكة وهو بين أهله وعشيرته ، صار الناس في المدينة يتوجهون إليه بالسؤال عن أحكام الشريعة ، ولم يتركه الله عز وجل يجيب وحده ، وان كانت إجابته هذه شعبة من الوحي ، إنما تفضل الله عز وجل بذكر السؤال والجواب في آية قرآنية ، وهل فيه شاهد على صيغة السلم في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، لما فيه من الأمارات على الإنقطاع إلى طاعة الله وإجتناب معصيته.
وفي الآية حذف وتقديره على وجوه :
الأول : ويٍسألونك عن وطئ الزوجة في المحيض فلا تجب على الحائض الصلاة مدة الحيض.
الثاني : ويسألونك عن أحكام الحيض ، لشرط الطهارة في الصلاة ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا يقبل الله تعالى صلاة بغير طهور)( ).
وتترك المرأة صلاتها أيام الحيض ولا يجب عليها قضاء ما فاتها من الصلاة أيام الحيض .
الثالث : ويسألونك عن أداء العبادات في المحيض ، فلا تصح الصلاة والصيام من الحائض ، وإذا كان لا يصح فهل يجب عليها القضاء .
الجواب نعم لعمومات قوله تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]( )، وللنص الوارد في العام .
الرابع : يسألونك عن جواز عقد النكاح أو ايقاع الطلاق في المحيض أو عدمه .
الخامس : يسألونك عن اليائس من المحيض ، وما يترتب عليها من الأحكام.
السادس : يسألونك عن المحيض عند الإحرام للحج أو العمرة وعند الطواف.
و(عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا صلاة لمن لا طهور له ، ولا دين لمن لا صلاة له ، إنما موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد)( ).
السابع : يسألونك عن علة الحيض .
والحائض فاقدة للطهور ، ومع أن الصلاة عمود الدين ، وهي أهم من الصيام إلا أن الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة ، فلو جاءها الحيض في شهر رمضان لمدة سبعة أيام فلا يجوز أن تصلي أو تصوم فيها وبعد أن تغتسل من الحيض تصوم ما بقي من أيام شهر رمضان إن لم يتفق انقطاعه مع خروج الشهر وإطلالة هلال شوال ، ثم تصوم سبعة أيام بدل أيام الحيض ، ولا يلزم صيامها بعد شهر رمضان والعيد مباشرة ، وهو حكم تعبدي الله عز وجل أعلم بعلته وفيه تخفيف عن النساء ، والمختار أن من علة التباين هي أن قضاء الصيام يستمر طيلة أيام السنة للآية أعلاه إذ تلحق الحائض بالمريض ، أما الصلاة فان وقتها ينقضي في ذات اليوم كما في صلاة الصبح مثلاً فان وقتها من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فاذا كانت المرأة حائضاً خلال هذا الوقت سقط الوجوب لأن القضاء تابع للأداء ، ولم يتوجه لها خطاب تكليفي.
والحيض دم يقذفه رحم المرأة ويسمى أيضاً الطمث وهو في اللغة السيلان ، ويسمى الدورة الشهرية ، ومتوسطه 28 يوماً وأقل الطهر عشرة أيام.
ويأتي الحيض للفتاة في عمر اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة سنة بحسب البيئة والوراثة .
ترى ما هي النسبة بين سن البلوغ شرعاً الذي يتوجه فيه الخطاب التكليفي للمرأة ، وبين الحيض ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، إذ تبلغ الفتاة شرعاً عند إكمال تسع سنوات هلالية فهو متقدم عن حال خصوبة الأنثى ، لتستقبلها الفتاة بالعفة .
وقد تكون النسبة هي التساوي بأن يتفق سن البلوغ مع نزول الحيض ، والحيض كاشف عن البلوغ ، والنساء في الحيض على أقسام أربعة .
كما في رسالتي العملية (الحجة) :
(مسـألة520) ينقسم الغسل إلى واجب ومندوب ، والواجب منه ستة :
الأول : غُسل الجنابة.
الثاني : مس الميت الآدمي.
الثالث : غُسل الأموات.
الرابع : غُسل الحيض.
الخامس : غُسل النفاس.
السادس : غُسل الإستحاضة التي تثقب الكرسف أي القطن ونحوه.
ويلاحظ في هذا التقسيم اختصاص المرأة بثلاثة أغسال ، واشتراكها مع الرجل بالثلاثة الباقية، فالجنابة مفاعلة بين الرجل والمرأة، ومس الميت يشترك فيه الاثنان، وأحكام المماثل في غسل الاموات تظهر التســاوي بين الرجل والمرأة فيه، مما يدل على تشريفها في أحكام الطهارة ، وعلم الله تعالى بأهليتها لتعاهدها كي يكون باباً للاعتزاز والوقار وللأجر والثواب.
(مسـألة570) ماء غسل المرأة من الجنابة والحيض والنفاس ومقدماته من تسخين ونحوه على الزوج وفق المتعارف والشأن والحال لالحاقه بنفقتها الواجبة عليه.
(مسـألة587) ( )صفة دم الحيض في الغالب مائل إلى السواد أو أحمر غليظ طري حار يخرج بقوة وحرقة، اما دم الاستحاضة فبخلافه أي لا يمتلك تلك الصفات.
(مسـألة588) يحصل بلوغ الفتاة عند اتمام تسع سنين هلالية، والسنة الهلالية هي القمرية ومجموع ايامها 354 او 355 يوماً، أي أقل من السنة الميلادية باحد عشر يوماً او نحوه، ولكن لا ملازمة بين البلوغ والحيض فغالباً ما يتأخر الحيض عن أوان البلوغ.
(مسـألة603) أقل الحيض ثلاثة ايام وأكثره عشرة وهو المشهور، فلو رأت الدم أقل من ثلاثة ايام كاملة ولو بقليل فلا يحكم بأنه حيض سواء كانت مبتدأة أم ذات عادة ام غير ذلك.
ابتدأت الآية بواو العطف ، وقيل إرادة عدة أسئلة في آن وزمان واحد، ولا دليل على الحصر في المقام .
لقد ورد هذا اللفظ [يَسْأَلُونَكَ] خمس عشرة مرة في القرآن ، وهذا اللفظ جملة مفيدة من فعل وفاعل ومفعول به ، وواو الجماعة فاعل ، وهل المراد منه خصوص الذكور خاصة ، مع الأمر [فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ].
الجواب لا ، إنما يصدر هذا السؤال من الرجال والنساء ، وهل هو خاص بالمسلمين والمسلمات ، الجواب لا .
وقد اختلط المسلمون بأهل المدينة من اليهود والمشركين ، وورد قوله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ]( ) وقوله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ]( ) وقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ] ( ) وقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ]( )وقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ]( ) وقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ]( ).
ترى لماذا لم تقل الآية فاعتزلوا الأزواج أو الزوجات ، الجواب النسبة بين النساء والزوجات عموم وخصوص مطلق ، إذ تدخل في النساء الإماء ، ولو قال الله عز وجل فاعتزلوا الزوجات لربما قال بعضهم لا تشمل الآية الإماء .
وهل تشمل الآية الزنا والعياذ بالله ، ويكون التقدير فاعتزلوا الزنا أو الزانية في المحيض ، الجواب جاء النهي عن الزنا من الأصل بآيات منها ذكره على نحو الخصوص [وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً] ( ) ومنه [وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ..]( ).
ولعل المشركين لم يحترزوا من وطئ الحائض ، أما بالنسبة للتوراة فقد أخبرت عن نجاسة الموضع الذي تضطجع فيه ، ومن مسها يكون نجساً .
وفي موسوعة الكتاب المقدس :
15: 19 واذا كانت امرأة لها سيل و كان سيلها دما في لحمها فسبعة ايام تكون في طمثها وكل من مسها يكون نجسا الى المساء .
15: 20 وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجسا وكل ما تجلس عليه يكون نجسا .
15: 21 وكل من مس فراشها يغسل ثيابه و يستحم بماء ويكون نجسا الى المساء .
15: 22 و كل من مس متاعا تجلس عليه يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا الى المساء .
15: 23 وان كان على الفراش او على المتاع الذي هي جالسة عليه عندما يمسه يكون نجسا الى المساء
15: 24 وان اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام وكل فراش يضطجع عليه يكون نجسا
15: 25 و اذا كانت امرأة يسيل سيل دمها اياما كثيرة في غير وقت طمثها او اذا سال بعد طمثها فتكون كل ايام سيلان نجاستها كما في ايام طمثها انها نجسة
15: 26 كل فراش تضطجع عليه كل ايام سيلها يكون لها كفراش طمثها وكل الامتعة التي تجلس عليها تكون نجسة كنجاسة طمثها
15: 27 وكل من مسهن يكون نجسا فيغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا الى المساء
15: 28 واذا طهرت من سيلها تحسب لنفسها سبعة أيام ثم تطهر
15: 29 وفي اليوم الثامن تأخذ لنفسها يمامتين او فرخي حمام وتأتي بهما الى الكاهن الى باب خيمة الاجتماع
15: 30 فيعمل الكاهن الواحد ذبيحة خطية والاخر محرقة ويكفر عنها الكاهن امام الرب من سيل نجاستها ) ( ).
وتقدير كاف الخطاب في [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ]( )، على وجوه :
الأول : ويسألونك يا رسول الله .
الثاني : ويسألونك يا نبي الله .
الثالث : ويسألونك يا محمد .
وكل هذا التقدير صحيح ، ولكن الأصح والأرجح هو الأول لأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة ، فجاءهم الجواب من عند الله سبحانه.
وفيه دعوة لأجيال المسلمين للرجوع للقرآن والسنة في تعيين منهاج السلوك ، واختيار القول والفعل المناسب ، إذ تدل هذه الأسئلة على تنزه المسلمين عن الإرهاب بلحاظ أنه ضد لها وهي وإجاباتها نهي عنه .
قانون إمتناع التنزيل عن النسخ
القرآن قطعي الثبوت قطعي الدلالة ، وحتى على القول بأنه ظني الدلالة فالمقصود بهذا الظن آيات قليلة من القرآن ولا عبرة بالقليل النادر في العنوان العام ، خاصة مع إعجاز القرآن ، إذ جاءت آيات وعلوم في القرآن تدل على أنها قطعية الدلالة ، وتحتمل معنى واحداً بوضوح وجلاء ، ومنها الآيات المحكمة ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ) :
الأولى : آيات التوحيد والربوبية لله عز وجل ، ومنها قوله تعالى [وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ]( ).
الثانية : آيات أسماء الله الحسنى وصفاته ، وقد ورد ذكر اثنين وعشرين من الإسماء الحسنى لله في ثلاث آيات متتالية من سورة الحشر وهي الآيات [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( )، بلحاظ أن لا إله الا الله اسم من أسماء الله ، وأن عالم الغيب والشهاد اسمان بتقدير : عالم الغيب ، عالم الشهادة، وفيه دعوة للمسلمين للجوء لتلاوة هذه الآيات لقضاء الحاجات ، وللسلامة من الإرهاب والتعدي والظلم .
كما جمعت آية الكرسي أسماء عديدة لله عز وجل منها الظاهر ومنها بالضمير والمعنى .
لقد جعل الله عز وجل أسماءه الحسنى أماناً لأهل الأرض لذا تجد فيها معاني الإطلاق والعموم.
الثالثة : آيات الخلق والإيجاد ،وفي التنزيل [إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] ( ).
الرابعة : آيات النبوة والتنزيل ، قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ]( )، وقد جاء الكتاب بالنهي عن الظلم والإرهاب ، وهل الإرهاب مناف للحكمة ، الجواب نعم.
الخامسة : قصص القرآن وأخبار القرآن عن الوقائع والأحداث في الأحقاب السابقة، إذ أنها لا تحتمل إلا الصدق والحق ، لذا قال تعالى [إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
الخامسة : آيات الأحكام وهي أكثر من خمسمائة آية .
السادسة : الصلة بين آيتين أو أكثر من القرآن ، وإقتباس المواعظ منها .
السابعة : آيات الأخلاق الحميدة .
الثامنة : آيات التوبة والإنابة فهي أيضاًً قطعية الدلالة ، لما فيها من الرحمة والبشارة ، قال تعالى [وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا]( ).
التاسعة : آيات الشفاعة ، ومنها شفاعة القرآن (عن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يقول :
[ اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة ]) ( ).
العاشرة : آيات الأجر والثواب .
الحادية عشرة : آيات الميعاد والآخرة .
ومن القطعي الدلالة قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
أما ظني الدلالة فهو الذي يحتمل أكثر من معنى ، وذكر منه لفظ الـ[قُرُوء] في قوله تعالى [وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ) ولكن الرجوع إلى السنة والنصوص يبين أن المراد من القرء هو الطهر ، و(عد قوم كلمات القرآن سبعة وسبعين ألف كلمة وتسعمائة وأربعاً وثلاثين كلمة)( ).
وورود الإختلاف في كلمة واحدة أو بضع كلمات منها لا يعني تغيير العنوان ، وتحويل القرآن من معنى قطعي الدلالة إلى ظني الدلالة ، وحتى الآيات المتشابهة فانها قطعية الدلالة من وجوه :
الأول : رد المتشابه إلى المحكم في القرآن .
الثاني : الجمع بين آيات القرآن ، فمن خصائص القرآن تفسير آياته بعضها لبعض .
الثالث : بيان السنة النبوية لآيات القرآن ، وقد ترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثروة في علم التفسير ( )، كما أن سنته القولية والفعلية مرآة لآيات القرآن .
وكل آية من القرآن قطعية الثبوت والصدور ، وهي نازلة من عند الله ، ولو أجريت إحصائية للآيات التي هي قطعية الدلالة والتي ظنية الدلالة لتبين أن مجموع الكلمات التي هي ظنية الدلالة قليل جداً ، وهي كلمات من آيات معدودات ، ثم يقع الخلاف في كونها ظنية أو قطعية الدلالة .
أي ليس الآية ظنية الدلالة إنما ذات الكلمة ظنية.
لبيان قانون وهو أن القرآن يدافع عن نفسه من جهات :
الأولى : القرآن قطعي الثبوت، وهو نازل من عند الله عز وجل .
الثانية : القرآن قطعي الدلالة .
الثالثة : عصمة القرآن من نسخ غيره له .
قانون السنة لا تنسخ القرآن
القرآن هو كلام الله الذي أنزله على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون [لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] ( ) وعدد آيات القرآن (6236)آية ، وهو المجموع بين دفتي المصحف ، أما السنة النبوية فهي قول وفعل وتقرير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقدر المتيقن في باب النسخ في المقام هو السنة القولية ، وأختلف هل تنسخ السنة القرآن أو لا .
وهناك مسألتان :
الأولى : لم يرد موضوع هذا النسخ في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا في ألسنة الصحابة بسند معتبر، إنما هو أمر مستحدث من أيام التابعين ، وعدم كونه مذكوراً أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة للتسالم على أن القرآن لا تنسخه السنة .
الثانية : كان مفهوم ومعنى النسخ عند القدماء من الفقهاء الأصوليين هو تخصيص العام ، وتقييد المطلق ونسخ السنة بهذا المعنى صحيح مع الدليل .
والمختار أن السنة لا تنسخ القرآن ، ونطرح مسألة وهي إذا كانت هناك أحاديث نسخت آيات القرآن فلابد من إحصاء هذه الأحاديث والآيات ثم التحقيق فيها .
فتكون قضية محصورة ، وليس فيها إطلاق ، وقد يكون هذا الحصر نافعاً في المستقبل ، وواقية من التأويل غير الصحيح ومن العنف والإرهاب بالتستر بهذا النسخ .
ولقد ورد إمكان النسخ الذاتي في القرآن بقوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) ، لبيان قانون وهو أن كل شئ في الوجود يطرأ عليه التغير والتبديل إلا الله عز وجل ، وقد نسخت شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الشرائع السابقة ، نعم من التغيير ما يكون ذاتياً ، إذ أخبر الله عز وجل عن كون تبديل الآية القرآنية بمثلها تخفيفاً عن المسلمين، وبياناً لبديع صنع الله .
وهل تحقق مصداق النسخ في القرآن ، الجواب نعم ، فان الله عز وجل إذا أمر بأمر أو نهى عن شئ فلابد من تحقق المصاديق لكل من هذا الأمر والنهي ، والنسخ في القرآن قليل .
وهناك آية يدل على وقوع النسخ فيها إجماع المسلمين ، وهو قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) .
ولم يعمل بهذه الآية إلا الإمام علي عليه السلام ثم نسخت بقوله تعالى [أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
لذا ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال (إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة }( ) كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدمت بين يدي درهماً ، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات }( ) الآية) ( ).
وكثير من الآيات التي ذكر أنها منسوخة لم يثبت نسخها ، ولم يرد القول بنسخها إلا في أيام التابعين أو تابعي التابعين ، وقيل أن آية السيف وهو قوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) نسخت مائة وأربعا وعشرين آية ، ولم يثبت هذا النسخ ، فآيات السلم والصلح والموادعة محكمة ، وقد صدرت عدة أجزاء من هذا التفسير بهذا المعنى ، إذ أن آيات السلم والصلح باقية إلى يوم القيامة .
ومن أسماء الله عز وجل [السلام] وورد هذا الاسم لله عز وجل في القرآن في آية معجزة ذكرت عشرة من الأسماء الحسنى ، وهو قوله تعالى [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( ) .
والله سبحانه يدعو إلى السلم ويأمر به ، وصارت التحية في الإسلام (السلام عليكم) قانوناً للمودة عند التلاقي .
ومن الإعجاز في المقام تسمية شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام ، وهذا الاسم موجود قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( ).
وفي إبراهيم عليه السلام ورد قوله تعالى [مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ) ومع عصمة يوسف عليه السلام ونيله مرتبة النبوة والوحي ، فانه تضرع إلى الله عز وجل أن يتوفاه على الإسلام ، ولم يسأل هذا السؤال والدعاء إلا بعد أن قدم الشكر والثناء لله عز وجل بالقول [رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ] ( ) .
ومن الشواهد على عدم نسخ آيات الصلح تفضل الله عز وجل بجعل صلح الحديبية فتحاً عظيماً ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
ونستحدث مسألة هنا وهي من معاني صفة المبين لصلح الحديبية في المقام تجدد منافع هذا الصلح في كل زمان ، ويدرك كل جيل فوائد هذا الصلح على كل من :
الأول : الناس أيام النبوة .
الثاني : أيام الصحابة بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى إذ أن أيام الصحابة على شعبتين :
الأولى : أيام كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني الصحابة يسمعون قوله ويأتمرون بامره ، ويجتنبون ما نهى عنه ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) ومن الصحابة من مات أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصلى عليه أو ترحم عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية :أيام الصحابة بعد مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ليأتيهم الموت أو القتل تباعاً .
الثالث : أيام التابعين والذين رأوا الصحابة وسمعوا منهم أخبار السنة النبوية.
الرابع : أيام تابعي التابعين وأجيال المسلمين إلى يومنا هذا .
الخامس : أيام المسلمين والحياة الدنيا بعد هذا اليوم وإلى يوم القيامة .
ويمكن استقراء مصاديق لمنافع هذا الصلح في كل زمان . ومن منافع صلح الحديبية في هذا الزمان أنه زاجر عن الإرهاب ، ومن معاني كونه فتحاً [مُبِينًا] بيانه مسائل :
الأولى : يبين رضا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشروط كفار قريش ورؤساء وفودهم إلى الحديبية، وفيه موعظة للصبر على الشروط والتقيد بالأنظمة والقوانين الوضعية ، وأن كان بعض المسلمين يظن أنها تضييق عليه.
الثانية : صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن أداء العمرة مع صيرورتهم على مقربة من المسجد الحرام ، فليس بينهم وبينه إلا نحو (22) كم ، وهم أحق به .
الثالثة : بأمكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الإغارة على مكة وقت السحر والإستيلاء عليها ، وقتل بعض رؤساء الكفر الذين آذوا المسلمين ، ويقومون بالمقاومة ، فان قلت ليس عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يومئذ أسلحة إلا سلاح الراكب والسيوف في أغمادها .
والجواب لقد جلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه معهم أسلحتهم ، ولكن كانت بعيدة عنهم ،وجعلوا عليها حراساً منهم .
الرابعة : الهدنة والصلح مناسبة لتجلي معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن أنس بن مالك، قال: “لما رجعنا من غزوة الحديبية، وقد حيل بيننا وبين نسكنا، قال: فنحن بين الحزن والكآبة، قال: فأنزل الله عزّ وجلّ:( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ) ( )، أو كما شاء الله.
فقال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم: لَقَدْ أُنزلَتْ عَليَّ آيَةٌ أحَبُّ إلي مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعا”)( ).
وأختلف في نسخ السنة للقرآن أو عدمه على وجوه :
الوجه الأول : نسخ القرآن بالسنة المتواترة ، وإليه ذهب الإمام مالك والحنفية ، وطائفة من المتكلمين ، ولم يرجعوا إلى دليل من القرآن والسنة النبوية يتضمن بالنص والمنطوق هذا النسخ ، خاصة وأنها مسألة ذات شأن عظيم ، ومن الأدلة التي ذكرت بخصوصه أن كلاً من القرآن والسنة وحي من عند الله عز وجل ، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) ( ).
الوجه الثاني : نسخ القرآن بالسنة المتواترة وسنة الآحاد ، واسند إلى أهل الظاهر ، وهذا القول ضعيف لأن خبر الآحاد يفيد الظن ، وأستدل عليه بقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ] ( ) وأنها منسوخة على قول طائفة من العلماء بحديث (لا وصية لوارث) .
الوجه الثالث : عدم نسخ السنة للقرآن ،وهو المختار ، ولعله لم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة ما يدل على خلافه ، وبعدم النسخ هذا قال الشافعي
ومن الإستدلال على هذا الوجه أمور :
الأول : قوله تعالى [وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ) وذكرت الآية أعلاه تبديل الآية والحكم ، وقيدته بالتنزيل لإرادة نزول القرآن والسنة من الأمور التي بينها وذكرها القرآن ، وهذا النزول قانون سالم من التحريف أو التبديل ، ليكون نزول كل منهما ضياء ينير سبل الهدى للناس ، ويكشف سواء وقبح الإرهاب .
الثاني : قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثالث : قوله تعالى [وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ]( ) .
وتضمنت الآية أعلاه ذم الذين لا يرجون لقاء الله ، لتدل بالمفهوم على الأجر والثواب على التصديق بيوم الحساب ، ومن يرجو لقاء الله يبتعد عن الإرهاب ، ويمتنع عن تمويله والإعانة فيه ، وفي مقدماته ، قال تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ] ( ).
الرابع : قوله تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ]( ).
ومن السنة النبوية وجوه :
الأول : لم يرد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على نسخ السنة للقرآن ، فعدم الورود هذا أمر وجودي وليس عدمياً .
الثاني : مبادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للعمل بأحكام آيات القرآن ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ).
الثالث : ورود أحاديث نبوية تدل في منطوقها ومفهومها على عدم نسخ السنة للقرآن .
الرابع : أحاديث العرض والتي لا تختص بكتب طائفة من المسلمين دون أخرى ، منها ما ورد عن (عن ثوبان : أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قال : ( ألا إن رحى الاسلام دائرة ) .
قال : فكيف نصنع يا رسول الله ؟
قال : ( أعرضوا حديثي على الكتاب فما وافقه فهو مني وأنا قلته) ( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال (كل شئ مردود إلى كتاب الله والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف) ( ).
ولابد من الإشارة إلى الإختلاف في معنى النسخ والمراد منه ، إذ يسمي العلماء القدامى تخصيص العام ، وتقييد المطلق بالنسخ .
والملاك أن السنة النبوية تبين الحكم الشرعي بما فيه الإصلاح ولا تنسخ القرآن .
وفي كتاب معالم الدين ذكر المؤلف (يجوز نسخ كل من الكتاب والسنة المتواترة والآحاد بمثله ، ولاريب فيه .
و نسخ الكتاب بالسنة المتواترة وهي به ، ولا نعرف فيه من الاصحاب مخالفا ، وجمهور أهل الخلاف وافقونا فيه، وأنكره شذوذ منهم ، وهو ضعيف جدا لايلتف إليه) ( )( ).
ولكن الظاهر أن مشهور العلماء يقول بعدم نسخ القرآن بالسنة بلحاظ أن كثيراً من الفقهاء والأصوليين لم يذكروا هذا المسألة للتسالم على عدم نسخ القرآن بالسنة .
وقال الشيخ المفيد بأن السنة لا تنسخ القرآن.
ولأن في القديم كان معنى النسخ هو التخصيص والتقييد ، والظاهر أن صاحب معالم الدين يريد هذا المعنى من النسخ .
لقد جعل الله عز وجل القرآن دستوراً ووثيقة سماوية تشع بالأنوار ، وتنبع منه الأحكام بما يلائم كل زمان ، وما يمنع من التعارض فيما بينها ، ومن الإختلاف بين الفقهاء ، ومن الإجتهاد في مقابل النص .
ومن أسرار القرآن أنه ينهى عن الإرهاب ، ويدعو المسلمين للألفة والتراحم ، وجعل الناس في مأمن منه ، وكذا السنة النبوية القولية والفعلية ، فانها تمنع من الأرهاب .
لذا ذكرت أن آية السيف لم تنسخ آيات الصلح والموادعة والسلم ، إنما تختص هذه الآية بأهل مكة المكرمة وما حولها ، وبخصوص آخر السنة التاسعة وبداية السنة العاشرة في لزوم إقلاعهم عن الكفر ومحاربة الإسلام ، إذ يعلم الله عز وجل أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أشرف على الرحيل عن الدنيا ، وأن ردة تحصل من بعض القبائل بعد وفاته ، فاراد الله عز وجل دخول أهل مكة الإسلام ، وسلامة أهلها والمدينة من الردة ، لتكون مادة ونواة القضاء على الردة وإلى يوم القيامة .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ] ( ) ، الجواب نعم .
وأدعو القائلين بنسخ السنة للقرآن إلى ذكر مصاديق هذا النسخ بذكر الحديث والآية التي يقال أنها منسوخة ، مع تعددها ليناقش كل نسخ من الكتاب والسنة وبيان مسألة وهي هل هذا النسخ له أصل أم لا أصل له ، لينتقل من العمومات إلى التفصيل والبيان والدقة والله ولي بتوفيق.
ويلتقي القرآن والسنة بحرمة الإرهاب لشدة ضرره على الملة والفرائض والمجتمع ، ومن حب الله عز وجل للناس تهيئة مقدمة وأسباب التعايش السلمي ، وجعل الإنسان كائناً محتاجاً لغيره ، في المعاملات واستدامة الحياة ، وليس من ملازمة بين العقيدة وهذه الحاجة ليكون التعايش المجتمعي وسيلة ومناسبة لنبذ العنف وطرد الكراهية وحرمة الإرهاب .
التقييد في آية السرقة
حينما يقال السنة تنسخ القرآن بمعنى تخصصه وتقيده ، فهذا المعنى صحيح ، ولكنه محدود بآيات قليلة ، والأولى القول السنة تقيد إطلاق القرآن إذ صار للنسخ في هذا الزمان معنى التبديل ، ومن هذا التقييد قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاًمِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ) إذ جاءت الآية مطلقة من جهات :
الأولى : تحقق مسمى السرقة .
الثانية : الإطلاق في معنى اليد التي تقطع .
الثالثة : معنى القطع ، وهل المراد منه البتر أو المنع .
وقد جاءت السنة النبوية بتعيين المقدار الذي يكون فيه القطع ، إذ ورد عن عائشة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً) ( ) والمراد ربع مثقال ذهب عيار 18 حبة.
وعن عبد الله بن مسعود قال (إني لأذكر أول رجل قطعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي بسارق فأمر بقطعه فكأنما أسف وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : يا رسول الله كأنك كرهت قطعه .
قال : وما يمنعني ، لا تكونوا أعوانا للشيطان على أخيكم إنه لا ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد إلا أن يقيمه ، إن الله عفو يحب العفو وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) ( ).
أما موضع قطع اليد فهو على وجوه :
الأول : القطع من مفصل الكف ، وهو الرسغ ، وهي ثمانية عظام صغيرة تتيح للكف التحرك والدوران ، كما يسمى مفصل اليد ، ويسمى الكرسوع .
الثاني : القطع من المرفق .
الثالث : طرف رأس الزند أعلى الخصر .
الرابع : القطع من مفصل أصل الأصابع فقط ، ويترك الكف لا يقطع ، وهو المختار لوجوه :
الأول : لقوله تعالى [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ] ( ) والمراد الأعضاء السبعة في السجود وهي :
أولاً : الجبهة .
ثانياً وثالثاً : الكفان .
رابعاً وخامساً : الركبتان .
سادساً وسابعاً : إبهاما القدمين .
الثاني : قوله تعالى [لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ] ( ) فانما يكتبون بالأصابع .
الثالث : ورود نص في المقام ، عن الإمام محمد الجواد عليه السلام .
الرابع : تحقق مصداق القطع بالأصابع ، وصيرورة الإنسان عاجزاً عن السرقة بذات اليد اليمين مرة أخرى .
مع ورود الآية التالية لآية السرقة بالبعث على التوبة مطلقاً ، ليس من السرقة وحدها ، قال تعالى [فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وفي تفسيري لسورة يوسف المسجل صدوره في دار الكتب والوثائق في بغداد برقم 272 لسنة 1991 ، ذكرت مسألة وهي هل المراد من القطع جواز الخدش لقوله تعالى [وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ]( ).
وفي هذا الزمان ورد قول بأن المراد من القطع في الآية هو المنع واللبس كما في قوله تعالى [فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ]( ) وقوله تعالى [الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ]( ).
ولكن الكلام العربي يحمل على الحقيقة إلا مع القرينة الدالة على المجاز ، فالقطع حقيقة ، وقد جعل الله عز وجل السنة النبوية بياناً وتفسيراً للقرآن ، وقد قطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء والأئمة والأمراء من بعده ، ولا يعلم منافع قطع يد السارق في استتباب الأمن وحفظ الأموال إلا الله عز وجل ، لبيان أن السنة النبوية تفسير للقرآن .
وإن صارت في هذا الزمان صارت الغلبة في الأحكام للقوانين الوضعية ، ورفع حكم القطع ، وجعل حكم السرقة السجن ونحوه بمدد مختلفة ، ولا مانع منه فقد يكون في الإسلام العفو عن السارق خاصة في سني المجاعة مع الضمان على السارق ، وقد حقق القطع في أحقاب متعددة أسباب الأمن للناس ، وهي مقدمة للإخلاص في طاعة الله ، مع بقاء حكم القطع وإن تم تعليقه ، وهناك فرق بين النهب من مكان مكشوف فلا سرقة فيه ، وبين السرقة من حرز وبخفاء ، وإذا لم يطالب صاحب المال المسروق بماله فلا حد على السارق ، ولا سرقة بين الأب وابنه أو بنته ، والأم وابنها أو بنتها ، أو سرقة العبد من مال السيد .
ويدل نزول القرآن بأحكام الجنايات على لزوم النظام العام ، والسلم المجتمعي ، وفيه زجر عن الإرهاب والجنايات التي تترشح عنه ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ]( ) .
وفي كل من العبادة وحسن التوكل على الله غنى عن الإرهاب ، وحجة على الذي يرتكبه.
قانون تلاوة القرآن سلم مجتمعي
التلاوة لغة التتابع ، يقال تلاه إذا تبعه ، وتأتي بمعنى القراءة ، يقال (تلا يَتْلُو تلاوَةً: أي قَرأ. والمُتَلّى: المُرَدِّدُ للتِّلاوَةِ. وتلاه: أي رَوَاه. وتَلا الشيْءُ يَتْلُو تُلُوّاً: تَبعَ، فهو تال،: تابع.) ( ) قال تعالى [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ] ( ).
أما الترتيل فهو القراءة بتأن وعلى مكث ، وتجويد مخارج الحروف .
ولما سئل الإمام علي عليه السلام عن قوله تعالى [وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً] ( ) قال (الترتيل : تجويد الحروف ومعرفة الوقف) ( ).
والنسبة بين التلاوة والترتيل العموم والخصوص المطلق ، فالتلاوة أعم .
وقد تفيد التلاوة معنى العمل بأحكام آيات القرآن ، وهو من مصاديق حق التلاوة في قوله تعالى [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ] ( ).
أما التجويد فهو تلاوة القرآن بالإعتناء بكل حرف من حروفه وإخراجه من مخارجه وطبقته ، ومراعاة الهمس أو الجهر أو الرخاوة أو الشدة .
لقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً بنزول القرآن ، وتفضل مرة أخرى وجعل تلاوته واجباً عينياً على كل مسلم ومسلمة ، سواء بلحاظ الآيات التي تأمر بالتلاوة ، وقراءة القرآن ، ومنها أول آية نزلت من القرآن ، قال تعالى [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( ) وقوله تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ] ( ).
وقال تعالى بخصوص الإنصات لقراءة الإمام في الصلاة ومطلق قراءة القرآن [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
لقد قسمت التلاوة إلى أقسام :
الأول : التحقيق ، وهو بيان كل حرف وضبط وإظهار الحركات والتشديد وتفكيك الحروف ، وإجتناب الفصل والوقوف بين حروف الكلمة الواحدة ، وذكر أن ( قراءة أبي بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التحقيق) ( ) .
ومن منافع التحقيق في التلاوة التدبر والتفكر والإستقراء .
الثاني : الحَدر والإدراج وهو(لغة لف الشئ في الشئ ) ( ) ولكنه في الإصطلاح ضد الوقف .
والإدراج أسرع في نطق الكلمات والحروف من الإرسال ، مثلاً يظهر الإدراج والوصل في الإقامة في مقابل الإرسال في الأذان .
ثم تمكين الحروف في الإدراج ، وإظهار حركات الأعراب .
وذكر أن الإدراج مذهب ابن كثير( )، وأبي جعفر المدني ، وهو زيد بن القعقاع مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي وهو تابعي أحد القراء العشرة ، وروى عن ابن عباس وجابر وغيرهم قيل دخل على أم سلمة وهو صغير فمسحت على رأسه .
الثالث : التدوير ، وهو الوسط والبرزخ بين التحقيق والحدر ، ومنه المد المنفصل من غير أن تصل النوبة إلى الإشباع ، وهو مشهور القراءة ويسمى المد المنفصل مدّ البسط في مقابل المد المتصل ، والمراد من المد هو إطالة نطق حرف المد ، وهي ثلاثة : الألف المفتوح ما قبلها ، الياء المكسورة ما قبلها ، الواو المضموم ما قبلها .
إذ تمد هذه الحروف إذا وقع بعدها حرف الهمزة ، فاذا كانت الهمزة في كلمة أخرى سمّي مداً منفصلاً ، وإذا كان في ذات الكلمة سمى مداً متصلاً سواء كان الهمز في وسط أو آخر الكلمة .
وقيل يكون المد بمقدار أربع حركات أو خمس .
والمراد من الحركة بلحاظ مدتها هي الوقت الذي يستغرقه بسط الإصبع أو قبضه أو حركة ودقة الذراع الطويل للساعة الجدارية ومقدار هذا المدّ من المستحبات والمحسنات اللفظية ، وفي رسالتي العملية الحجة ذكرت مسائل :
(مسـألة365) (المد الذي يتوقف أداء الكلمة مادة أو هيئة عليه مثل الضالين واجب بالمقدار الذي يصدق معه صحة اللفظ وافادة المعنى، اما المد الذي يكون بعد أحد حروف المد، وهي الواو المضموم ما قبلها، والياء المكسور ما قبلها، والألف المفتوح ما قبلها فهي من المحسنات في الجملة وبحسب المتعارف تكون من المستحبات كما لو كان المد بمقدار حرف الألف مرتين وقيل اربع مرات والمدار على عدم خروج الكلمة عن معناها.
(مسـألة366) يجوز الإئتمام بمن لا يتقيد تماماً باحكام المد ونحوها من المحسنات، الا اذا كانت قراءته مخالفة للوجه العربي الصحيح او الحركات الإعرابية والسكون ونحوه، ولا يظهر الحركات ويبينها بياناً شافياً.
(مسـألة367) اذا حصل فصل بين حروف كلمة واحدة اختياراً او اضطراراً بحيث خرجت عن الصدق بطلت الكلمة ووجب اعادة قراءتها.
(مسـألة368) اذا اعرب آخر الكلمة بقصد الوصل بما بعدها فانقطع نفسه، فحصل الوقف بالحركة صحت قراءته ولا يستلزم الإعادة.) ( ) .
ومن المد المنفصل [قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا] ( ).
ومن المد المتصل والهمزة في وسط الكلمة [السرائر ] ومنه الهمزة في آخر الكلمة [السماء][الدعاء] و[أهواء ]في قوله تعالى [وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ] ( ) .
وهل الإرهاب من إتباع الهوى ، الجواب نعم ، إذ أنه خلاف العقل والحكمة ، لتكون أحكام التلاوة والتجويد من سنن القرآن الزاجرة عن الإرهاب ، وأسباب الإنصراف عنه ، وفيها الأجر والثواب بالذات والأثر ، وإشاعة أحكام التقوى وبعث الطمأنينة في نفوس الناس من المسلم وعبادته .
ومن خصائص تلاوة القرآن أنها إرتقاء حضاري ، وسمو ثقافي وباعث على السلم المجتمعي ، وهي من أسباب جعل الحياة الدنيا دار سلم وسلام وأمن ، وكان من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ] ( ) أن تلاوة كلام الله طريق الأمن والسلم في الدنيا والآخرة ، ويلتقي في التلاوة المسلمون على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ، وحالتهم الإجتماعية والشأن والمنصب ، ويلتقي في الإستماع للتلاوة الناس جميعاً ، لذا ذكر القرآن هذا الإستماع بقوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) لبيان أنه ينشر شآبيب الرحمة بين الناس ، ويبعث على الوئام في المجتمعات ، وفيه سلامة للنفوس ، وحفظ للحقوق ، ووقاية من الأخلاق المذمومة ، ويكون مادة للإحتجاج لمنع الإرهاب .
قانون في السلم والأمن إزدهار إقتصادي
من معاني الإقتصاد لغة الوسط بين الإسراف والتقتير
والقصد : الإستقامة .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الإقتصاد في النفقة نصف المعيشة) ( ).
(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : التدبير نصف المعيشة ، والتودّد نصف العقل ، والهم نصف الهرم ، وقلة العيال أحد اليسارين) ( ) .
وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قانوناً وهو التودد للغير حكمة وتوظيف للعقل ، وباب لقضاء الحوائج ، ودفع للفتنة ، وبين التودد والإرهاب تضاد .
والإقتصاد في الإصطلاح علم يتعلق بالتجارة والإنتفاع من الموارد ومفردات الإستهلاك ، وتنظيم الكسب والإنفاق والنشاط الإجتماعي .
والإقتصاد قديم في الأرض تجلى في قوله تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ] ( ) في قصة ولدي آدم وما تقربا به من قربان ، إذ قرّب أحدهما وهو هابيل شاة من أحسن كباش عنده ، بينما قرّب أخوه وهو قابيل أرذل زرعه .
فنزلت نار من السماء فاحتملت قربان هابيل ، وهو الكبش ، ولم تأت النار على قربان قابيل ، فتوعد أخاه بالقتل .
ثم ضربه بحجر فقتله ، وهل في الآية تحذير من المنافسة في الإقتصاد ونحوه التي تؤدي إلى الضرر ، الجواب نعم ، فلا يعني هذا خطأ فعل هابيل ، إنما كان فعله صحيح وحق ، لقوله تعالى [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ] ( ) وذكر هذه الواقعة في القرآن موعظة وعبرة للمسلمين والمسلمات وباعث للنفرة من الإرهاب ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
وفيه مسائل في باب الإقتصاد :
الأولى :الزجر عن الحسد في المكاسب .
الثانية : قانون قبول الأعمال بيد الله عز وجل .
الثالثة : من الشكر لله عز وجل على النعم إخراج الزكاة والحقوق الشرعية .
الرابعة : قانون في التقوى نماء في المال ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا]( ).
الخامسة : في السلم حفظ للأموال ، ومناسبة للإدخار فمن اضرار الإرهاب تلف الأموال .
السادسة : حال السلم مناسبة للتنقل والضرب في الأرض للتجارة والكسب .
ويعلم الناس بالفطرة أن الأرض كلها لله عز وجل ، وأن الله عز وجل هو الرزاق والوهاب ، والسلم بلغة للحصول على الرزق والكسب والسعي ، وكم من عامل توقف عن عمله بسبب الإرهاب ، مما يؤدي إلى الحنق والسخط.
قانون كلمة التوحيد زاجر عن الإرهاب
الحمد لله الذي جعل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرباً على الشرك ، واستئصالاً لعبادة الأوثان في الجزيرة ، وبين الشرك وهذه العبادة عموم وخصوص مطلق .
فقد أزيحت برسالته ونزول القرآن عبادة الأوثان في الجزيرة ، ولم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا حتى قام بكسر الأصنام التي كانت حول الكعبة وداخلها ، وكسرت الأصنام التي في القرى والبيوت والطرقات.
وأرسل السرايا لكسر الأوثان التي تعبد في مدن الجزيرة ، وعند القبائل ، ومنها صنم اللات ، عند ثقيف الذين سألوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يرجئ كسرها ثلاث سنين فأبى عليهم.
وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى سواع وهو صنم هذيل على بعد نحو (50) كم من مكة ، فهدم وأسلم السادن ، وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشرين فارساً إلى مناة في قديد بناحية المشلّل على ساحل البحر الأحمر ، وهي أقرب إلى المدينة ، وكانت للأوس والخزرج وغسان وغيرهم .
وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى العزى وهي على سمرات ثلاث فهدمت وقطعت السمرات ، وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند فتح مكة خالد بن الوليد في ثلاثمائة وخمسين من المهاجرين والأنصار وبني سليم إلى بني جذيمة للدعوة الى الإسلام وليس للقتال أو الغزو ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً.
فدعاهم إلى الإسلام ، فلم يحسنوا النطق إنما صاروا يقولون صبأنا ، صبأنا ، فاغتاظ خالد ، وجعل يقتل فيهم ، ودفع إلى كل رجل معه أسيراً منهم ، وطلب قتلهم فاستجاب له بنو سليم ، وامتنع المهاجرون والأنصار عن قتلهم ، ووقع كلام وشجار بين عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد حينئذ ، إذ قال له عبد الرحمن (عملت بأمر الجاهلية في الاسلام فقال إنما ثأرت بأبيك فقال عبدالرحمن كذبت قد قتلت قاتل أبى وإنما ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة، حتى كان بينهما شر)( ).
حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخالد بخصوص الشجار أعلاه (مَهْلًا يَا خَالِدُ دَعْ عَنْكَ أَصْحَابِي فَوَاَللّهِ لَوْ كَانَ لَكَ أُحُدٌ ذَهَبًا ثُمّ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللّهِ مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلَا رَوْحَتَهُ)( ).
ومما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ (أما كان فيكم رجل رحيم) ( ).
ودعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علياً عليه السلام فقال له : ياعلي أخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك.
أي موضوع الخصومة بين قريش وبني حذيمة ، وبعث معه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأموال .
فخرج الإمام علي عليه السلام ، وودى إليهم ديات الذين قتلوا ، وعوّض أموالهم التي تلفت والأنعام التي اصيبت ، ودفع لهم دية ميلغة الكلب ، أي الإناء من الخشب الذي يلغ فيه الكلب عند أصحاب الغنم .
(حتى إذا لم يبق شيء من دم و لا مال إلا وداه بقيت معه بقية من المال فقال لهم علي حين فرغ منهم : هل بقي لكم دم أو مال لم يود لكم .
قالوا : لا .
قال : فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما لا يعلم و لا تعلمون .
ففعل ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره الخبر فقال : أصبت و أحسنت ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه يقول : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد) ثلاث مرات)( ).
وقال ابن هشام فرفع(يَدَيْهِ إلَى السّمَاءِ ثُمّ قَالَ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيد)( ).
وهو الذي رواه ابن إسحاق عن الإمام الباقر عليه السلام.
وهذا من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التبرأ من سفك الدماء بغير حق وإن كان صادراً من قادة السرايا.
وقد أرجأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاء التبرأ من فعل خالد لحين أداء الحقوق والديات كاملة وسماع الحقيقة ، وفيه مواساة نبوية كريمة وبعث للطمأنينة في النفوس ونهي للقادة وعموم المسلمين من البطش وسفك الدماء ، ولبيان قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يغدر ، وقانون الإسلام منزه عن البطش والمكر السئ في حال السلم والحرب .
ومن خصائص الأنبياء حمل لواء الإيمان ، وتثبيت عقيدة التوحيد ، وأصول الدين وأحكام الشريعة ، ومحاربة الشرك وعبادة الأصنام ، فتحملوا وأصحابهم أشد صنوف الأذى ، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الأنبياء ،فجاهد ثلاثاً وعشرين سنة لتقرير سنن التوحيد ، ثلاث عشرة سنة في مكة ، وعشر سنوات في المدينة .
ومن وجوه تفضيله على الأنبياء نزول القرآن كله على صدره وتثبيت آياته وجعلها تركة سالمة من التحريف والتبديل والتغيير ، ولا تختص هذه السلامة بجيل وطبقة دون أخرى .
وليس في دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتور أو فترة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ *وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ] ( ) وليس في هذه السورة سيف وقتال.
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يرهب الناس ، ولم يغزهم في قراهم ومدنهم ، إنما كان يقف على مدخل القرية ، ويؤدون الصلاة جماعة ، ويتلون القرآن ، ويعودون إلى المدينة ، فلم تطق قريش هذا الأمر ، وقامت بشن الغزوة تلو الغزوة على المدينة .
مما يدل على حرمة الإرهاب والتفجيرات ، وعدم الحاجة إليها ، وخلوها من النفع للخاص والعام .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن سلاحه هو [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ] ( ) وينادي به في ميادين الدفاع ، فيجذب القلوب طوعاً وقهراً ، وينمي ملكة الإيمان في النفوس ، بينما يؤدي الإرهاب إلى النفرة ، ويبعث الخوف والحزن والكدورة عند الكبار والصغار .
قانون ميثاق عالم الذر حصن من الإرهاب
لقد ابتدأ قول لا إله إلا الله من جنس البشر من عالم الذر ، وفيه روايات عديدة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة .
وموضوع عالم الذر قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ] ( ) وورد عن عمر بن الخطاب أنه قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عنها فقال : أن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون .
فقال الرجل : يا رسول الله ففيم العمل؟
فقال : إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الله الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار.
وأخرج أحمد والنسائي وابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة ، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه كالذر ، ثم كلمهم قبلاً ، قال [أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا]( )،إلى قوله [الْمُبْطِلُونَ]( ).
وأخرج ابن جرير وابن منده في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم } قال : أخذ من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس . فقال لهم [أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى]( )، قالت الملائكة شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ( ).
و (عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به .
فيقول : نعم . فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا أن تشرك بي) ( ).
وليس في هذه لفظ الميثاق أو العهد كما في آيات الميثاق الأخرى ، ولكنها تدل على الميثاق بالدلالة التضمينة وبالنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
منها ما ورد عن عبد الله بن عمرو قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: “أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس، فقال لهم( ألست بربكم قالوا بلى ) قالت الملائكة: شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) ( ).
و(عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟
فيقول : نعم .
فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا أن تشرك بي .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن علي بن حسين . أنه كان يعزل ويتأوّل هذه الآية { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم }( ) .) ( ).
وورد النص بما يدل على أن أخذه الله من الناس في عالم الذر أنه الميثاق ، إذ ورد عن أبي أمامه (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : خلق الله الخلق وقضى القضية ، وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء ، فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى – وكلتا يدي الرحمن يمين – فقال : يا أصحاب اليمين . فاستجابوا له ، فقالوا : لبيك ربنا وسعديك
قال { ألست بربكم قالوا بلى } قال : يا أصحاب الشمال . فاستجابوا له ، فقالوا : لبيك ربنا وسعديك .
قال { ألست بربكم قالوا بلى } فخلط بعضهم ببعض فقال قائل منهم : رب لم خلطت بيننا؟!
قال { ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون }( ) . { أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } ثم ردهم في صلب آدم ، فأهل الجنة أهلها ، وأهل النار أهلها ، فقال قائل : يا رسول الله فما الأعمال؟
قال : يعمل كل قوم لمنازلهم) ( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم استدلال واستشهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخلق في عالم الذر بجواز العزل ، والعزل في الإصطلاح منع وصول ماء الرجل (المني ) إلى رحم المرأة لمنع الحمل .
وبين اعتزال النساء والعزل عموم وخصوص مطلق ، فالاعتزال أعم .
وهذا الميثاق من الفطرة أي المعرفة بأن الله عز وجل هو الخالق الرازق ، وعن الإمام الباقر عليه السلام في آية الذر أعلاه قال (أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذر فعرفهم وأراهم صنعه و لولا ذلك لم يعرف أحد ربه.
وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كل مولود يولد على الفطرة، يعني على المعرفة بأن الله عز وجل خالقه، فذلك قوله: ” ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله) ( ).
و قوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا( ) “قيل للإمام جعفر الصادق عليه السلام : معاينة كان هذا ؟
قال: نعم، فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه، ولولا ذلك لم
يدر أحد من خالقه ورازقه، فمنهم من أقر بلسانه في الذر ولم يؤمن بقلبه، فقال الله: ” فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) ( ).
موضع أخذ الميثاق من ظهر آدم على وجوه :
الأول : في وادي نعمان إلى جنب عرفه( )( ).
الثاني : في (رهبا ) أرض بالهند وهو محل هبوط آدم عليه السلام.
الثالث : بين مكة والطائف .
الرابع : في السماء بعد أن أخرج الله آدم من الجنة وقبل أن يهبط إلى الأرض ، قاله السدي ( ).
وذكرت الآية ظهور بني آدم بصيغة الجمع في الطرفين ، ولم ينحصر الأمر بظهر آدم عليه السلام وحده لبيان تجدد الميثاق مع كل جيل من الناس والتكافل في مسؤولية تعاهد الميثاق ، ومنه وجوه :
الأول : قانون حفظ كلمة التوحيد .
الثاني : قانون الإقرار بالربوبية المطلقة .
الثالث : قانون التصديق بالنبوة والتنزيل .
الرابع : قانون توارث أداء الفرائض.
وميثاق الذر حصن ومانع من الإرهاب ، وهو دعوة للناس لنشر ألوية السلم والموادعة والإمتناع عن الخصومة ، باجتناب التعدي ، وعند التعارض في الحقوق والملكية والعقائد ويكون الرجوع إلى العدل والإنصاف ، وإلى صيغ التفاهم والإحتجاج وبيان الدليل .
وعندما راودت امرأة العزيز يوسف عليه السلام امتنع عن إجابتها وعندما همّت به ، لجأ إلى الهروب منها ولما سأله العزيز زكّا نفسه ، إذ [قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي]( )، لقد اختار يوسف عليه السلام منهاج الهروب من الإثم والفاحشة .
ولم يقم بضرب أو دفع وتأديب امرأة العزيز ، لبيان تحمل المسلم الأذى ، وعدم اللجوء إلى صيغ الإرهاب .
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى أذى قريش بصبر فيمده الله عز وجل بالآيات والمعجزات ، أما في سوح القتال فكان المشركون هم الذين يجمعون الجيوش لغزو المدينة وأطرافها ، ويبدأون القتال ، ولكن حينما يرون سير المعركة إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والملائكة والصحابة ، وفي نفس اليوم الذين يبدأون فيه القتال ، يلجأون إلى الفرار كما في معركة بدر أو إلى الإنسحاب كما في معركة أحد ، فلا يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باللحاق بهم وملاحقتهم.
وهل آية الميثاق زاجر للمشركين عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم ، لأن الله عز وجل أخذ عليهم العهد بتعاهد كلمة التوحيد ، ولكنهم جحدوا وعبدوا الأصنام ، فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بميثاق عالم الذر.
لبيان قانون وهو تجدد ميثاق عالم الذر ببعثة كل نبي من الأنبياء ، وكان أبهى مصاديق هذا التجديد ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ليكون معاني قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، وفق آية الميثاق وجوه :
الأول : اللهم اهدنا الى التصديق بالميثاق .
الثاني : اللهم اهدنا للشكر لك على نعمة الميثاق .
الثالث : إهدنا للتصديق بآية الميثاق والنصوص التي وردت في كل من :
الأولى : تأكيد آية الميثاق .
الثانية : تفسير آية الميثاق .
الثالثة : بيان موضوعية آية الميثاق في الدنيا.
ورآى آدم الأنبياء ونورهم ، ووقف عند نور ساطع (من هذا .
فقال : هذا داود نبي من ذريتك قال : كم عمره.
قال : ستّون سنة قال : رب زده قال : جرى القلم بآجال بني آدم،
قال : رب زده من عمري أربعين سنة ، فأثبت لداود)( ).
الرابعة : حضور ميثاق عالم الذر في الآخرة ، ليكون حجة على الناس.
لقد أراد الله عز وجل للناس ومن عالم الذر عمارة الأرض بالسلم والأمن ، وهو من رشحات ومفهوم قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) لما يتفرع عن العبادة من الخشية الله عز وجل والإمتناع عن الإضرار بالآخرين ، كما أن التقوى عبادة ، ومنها إجتناب الظلم ، وفي التنزيل [وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ( ) .
لقد جعل الله عز وجل وقائع عالم الذر حجة على الإنسان في الدنيا ، وهذه الوقائع وعمله في الدنيا حجة عليه في الآخرة ، لذا فان الإمتناع عن الإرهاب والتفجيرات وبث الخوف العام وفاء للعهد والميثاق في عالم الذر ، وسبيل نجاة يوم القيامة .
قانون قضاء القرآن على الأمية حصن من الإرهاب
الأمية : الجهل بالكتابة والقراءة وعدم معرفة رسم الحروف في أي لغة من لغات العالم التي يتم التفاهم بها ، وقد شرّف الله عز وجل اللغة العربية وجعلها لغة القرآن ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
والقراءة هي وسيلة اكتساب المعارف وسبيل لنماء الفكر ، وكل من التصور الذهني والوجود الذهني ، وهي كقاعدة بيانات للمعارف .
وقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً بأن جعل أول آية نزلت من القرآن هي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ]( )، لبيان قانون مصاحب للحياة الدنيا ، وهو أن الإسلام دين العلم والمعرفة .
ومن مصاديق كون السنة النبوية مرآة وتفسيراً للقرآن قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالطلب ممن يعرف القراءة والكتابة من أسرى بدر بتعليم عشرة صبيان من أبناء الأنصار القراءة والكتابة ويكون هذا التعليم عوضاً للفكاك من الأسر ، وهو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يحدث مثله في التأريخ القديم والحديث .
فالأصل ضعف طلب العلم والتحصيل في حال الحروب للإنشغال بالقتال ومقدماته وبالمرابطة والتمرين ، وإذا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على التعليم ، ويهيئ الفصول والصفوف للدراسة التي تشمل الكبار والصغار بتعليم وتلاوة القرآن ، والتفقه في الدين وهو تفسير عملي عام لأول آية نزلت من القرآن ، وهي [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] ( ) .
ويكون من معاني وتقدير الآية أعلاه وجوه :
الأول : اقرأ آيات القرآن .
الثاني : علّم الأمة القراءة والكتابة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
الثالث : يا أيها الذين آمنوا اقرأوا باسم ربكم .
والنسبة بين القراءة هذه وبين الإرهاب التضاد .
وجعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسرى بدر يعلمون صبيان المدينة القراءة والكتابة رسالة إلى قريش بظهور الإسلام ، وإلى الناس جميعاً بصدق التنزيل ، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الناس للتلاوة والتفقه في الدين ، وإستقراء المسائل من خزائن التنزيل ، لتأسيس علم التنزه عن الظلم والإرهاب وللوقاية من الشرك والردة والجحود.
وكان من الأسرى من لا مال له فيقبل منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أَنْ يُعَلّمَ عَشَرَةً مِنْ الْغِلْمَانِ الْكِتَابَةَ وَيُخَلّيَ سَبِيلَهُ فَيَوْمَئِذٍ تَعَلّمَ الْكِتَابَةَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ غِلْمَةِ الْأَنْصَارِ)( ).
قال تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ]( )، لبيان قانون وهو أمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة له وللقرآن ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب ، وقد قال عن ابن عمر أنه قال ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، وان الشهر كذا وكذا ، وضرب بيده ست مرات وقبض واحدة) ( ).
نسبة إلى الأم أي حال الإنسان كما ولدته أمه ، لبيان موضوعية الفطرة في الهداية والتدبر في المعجزات وهو من أسرار وجود تلاوة القرآن في الصلاة اليومية لتكون مناسبة للتدبر والتفكر في إعجازها ، ومضامينها القدسية.
وحينما قال جبرئيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم [اقْرَأْ]( )، قال (ما أنا بقارئ) أي ليس ممتنعاً ولكني أمي لا اقرأ الكتاب ، وبعد أن كرر جبرئيل هذا القول ثلاث مرات ، قال له [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( )، أي إنما تقرأ بفضل الله والمدد من عنده تعالى ، وليس بمعرفتك ، وسيكون اسم الله مصاحباً وعوناً لك ولأمتك في القراءة .
وعن (عمرو بن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان بحراء إذا أتاه ملك بنمط من ديباج فيه مكتوب {اقرأ باسم ربك الذي خلق}( ) إلى {ما لم يعلم}( ))( ).
وهل يمكن القول بأن الآية أعلاه دليل على أن التسمية جزء من كل سورة من سور القرآن ، الجواب نعم .
لقد أكرم الله عز وجل أهل الكتاب بتسميتهم نسبة إلى الكتاب السماوي ، وللبيان أن المسلمين ورثوا الكتاب ، وإرتقوا في العلوم بنزول القرآن ، لقد أراد الله عز وجل استئصال الكفر والجحود والظلم والإرهاب بنزول القرآن.
ولتكون رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأسيساً للعصمة من الإرهاب لقانون التضاد بين العلم والإرهاب ، فالذي يجد في طلب العلم ، ويتفقه في الدين يدرك قبح الإرهاب والتعدي للضرر والأذى للذات والغير .
لقد أحب الله عز وجل النبي محمداً وجعل أمته تسمو في العلم بالقرآن ، وما يترشح عنه من العلوم والفقاهة ، وبالسنة النبوية التي هي مدرسة مستقلة ، ويتضاءل ويزول أثر الأمية عن المسلم والمسلمة بتعلم آيات القرآن وتلاوته ، والإجتهاد في العمل بسننه ، وإتيان ما أمر الله عز وجل به ، وإجتناب ما نهى عنه ، لتكون القراءة والكتابة عوناً للمسلم في التعلم والفقاهة والعصمة من الإضرار بالنفس والغير ، والقراءة والكتابة نوع وسيلة لتوثيق وحفظ القرآن في الورق والعسب أي جريد النخل ، واللخاف أي القطعة من الحجارة ، والأقتاب جمع قتب ، وهو الخشبة التي توضع على ظهر البعير لركوبه ، والرقاع جمع رقعة وهي القطعة من الجلد .
مع وجود قراء لهذه الكتابة ، وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عظيم منزلة طالب العلم ، والأجر والثواب فيه ،و(عن زر بن حبيش قال : جاء رجل من مراد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقال له صفوان بن عسال و هو في المسجد فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما جاء بك ، قال : ابتغاء العلم قال : فإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع)( ).
وهناك تضاد بين طلب العلم وبين الإنشغال بالإرهاب ومقدماته فأراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صرف المسلمين لما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة ، ولتثبيت أحكام الشريعة ، قال تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
والنسبة بين الجهل والأمية عموم وخصوص من وجه ، فليس من ملازمة بينهما ، وأنزل الله القرآن ليقضي عليهما مجتمعين ومتفرقين ، ويكون المسلم متفقهاً في الدين بتلاوة آيات القرآن كل يوم عدة مرات على نحو الوجوب العيني ، ومن مصاديق هذا القضاء الحصانة من الإرهاب .
قانون نهي أحاديث الفتن عن الإرهاب
لا تنحصر أحاديث الفتن بطريق أو اسناد واحد ، إنما تعددت طرقها واسانيدها لبيان موضوعيتها والإلتفات إليها ، والحذر من الفتنة وركوبها ، وليس من حصر لضروب الفتنة ، ومنها الإرهاب وترهيب الناس في بيوتهم ، وفي المساجد ودور العبادة والمنتديات ، مما يلزم إجتناب هذا الإرهاب .
وقد أولى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي [َمَا ينطق عن الْهَوَى]( )، الإنذار من الفتنة ومقدماتها عناية خاصة ، فكان يذكرها على المنبر أو في حديثه مع أصحابه ، أو عند سؤالهم له أو عند تفسيره لآيات القرآن ، والإستشهاد بها .
ليكون هذا الإخبار والإنذار معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتجلى مصاديقها في الأزمنة اللاحقة والمتعاقبة وقد وردت أحاديث نبوية متعددة في الفتن والنجاة والمخرج منها ، ومن هذه الأحاديث :
الأول : ما ورد عن (سعد بن أبي وقاص : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنها ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي .
قال : أفرأيت إن دخل علي بيتي فبسط إليّ يده ليقتلني .
قال : كن كابن آدم ، وتلا { لئن بسطت إلىّ يدك لتقتلني }( ) الآية ) ( ).
الثاني : (وأخرج أحمد ومسلم والحاكم عن أبي ذر قال : ركب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حماراً وأردفني خلفه فقال : يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس جوع لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك ، كيف تصنع .
قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : تعفف يا أبا ذر ، أرأيت إن أصاب الناس موت شديد يكون البيت فيه بالعبد يعني القبر .
قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : اصبر يا أبا ذر .
قال : أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء ، كيف تصنع .
قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : اقعد في بيتك واغلق بابك .
قلت : فإن لم أترك؟
قال : فائت من أنق منهم فكن فيهم .
قلت : فآخذ سلاحي؟
قال : إذن تشاركهم فيما هم فيه ، ولكن إن خشيت أن يروّعك شعاع السيف فالق طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك فيكون من أصحاب النار ) ( ).
الثالث : ( أخرج البيهقي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : اكسروا سيفكم يعني في الفتنة ، واقطعوا أوتاركم ، والزموا أجواف البيوت ، وكونوا فيها كالخير من ابني آدم)( ).
الرابع : (عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا إنها ستكون فتن ، ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي إليها ، فإذا نزلت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه .
فقيل : أرأيت يا رسول الله إن لم يكن له ذلك .
قال : فليأخذ حجراً فليدق به على حد سيفه ، ثم لينج إن استطاع النجاة ، اللهم هل بلغت ثلاثاً .
فقال رجل : يا رسول الله ، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين ، فيرميني رجل بسهم أو يضربني بسيف فيقتلني؟
قال يبوء بإثمه وإثمك فيكون من أصحاب النار .
قالها ثلاثاً) ( ).
الخامس : (أخرج الحاكم وصححه عن حذيفة أنه قيل له : ما تأمرنا إذا قتل المصلون؟
قال : آمرك أن تنظر أقصى بيت في دارك فتلج فيه ، فإن دخل عليك فتقول له : بُؤْ بإثمي وإثمك فتكون كابن آدم ) ( ).
السادس : (عن خالد بن عرفطة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا خالد إنه سيكون بعدي أحداث وفتن واختلاف ، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول لا القاتل فافعل) ( ).
وسكن خالد بن عرفطة الكوفة واختلف في سنة وفاته هل هي سنة ستين للهجرة أو سنة إحدى وستين التي قتل فيها الحسين عليه السلام ، وقيل أنه خرج لقتاله( ).
السابع : (أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول : يكون فتنة النائم فيها خير من المضطجع ، والمضطجع خير من القاعد ، والقاعد خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي ، قتلاها كلها في النار .
قال : يا رسول الله ، فيم تأمرني إن أدركت ذلك؟
قال : ادخل بيتك .
قلت : أفرأيت إن دخل عليَّ.
قال : قل بؤ بإثمي وإثمك ، وكن عبد الله المقتول ) ( ).
الثامن : (عن خباب بن الأرت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنه ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل ) ( ).
التاسع : (أخرج ابن أبي شيبة عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يعجز أحدكم أتاه الرجل أن يقتله أن يقول هكذا ، وقال بإحدى يديه على الأخرى ، فيكون كالخير من ابني آدم ، وإذا هو في الجنة وإذا هو في الجنة وإذا قاتله في النار ) ( ).
العاشر : (أخرج الحاكم وصححه عن معيقيب ونعيم بن حماد عن حذيفة : مرفوعاً لن تفنى أمتي حتى يظهر فيهم التمايز والتمايل والمقامع .
قلت يا رسول الله : ما التمايز .
قال : عصبية يظهرها الناس بعدي في الإِسلام .
قلت : فما التمايل؟
قال : تميل القبيلة على القبيلة فتستحل حرمتها .
قلت : فما المقامع.
قال:تسير الأحبار بعضها إلى بعض تختلف أعناقها في الحرب)( ).
الحادي عشر : (عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: ستكون فتنة تحصل الناس منها كما يحصل الذهب في المعدن فلا تسبوا أهل الشام وسبوا ظَلَمَتَهُمْ ، فإن فيهم الأبدال.
وسيرسل الله سيباً من السماء فيغرقهم حتى لو قاتلهم الثعالب غلبتهم.
ثم يبعث الله عند ذلك رجلاً من عترة الرسول عليه الصلاة والسلام في إثني عشر ألفاً إن قلوا أو خمسة عشر ألفاً إن كثروا أمارتهم أن علامتهم أمت أمت على ثلاث رايات يقاتلهم أهل سبع رايات ليس من صاحب راية إلا وهو يطمع في الملك ، فيقتلون ويهزمون ثم يظهر الهاشمي فيردّ الله على الناس إلفتهم ونعمتهم فيكونون على ذلك حتى يخرج الدجال ) ( ).
الثاني عشر : (عن أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا وقعت الملاحم خرج بعث من الموالي من دمشق هم أكرم العرب فرساً وأجودهم سلاحاً يؤيد الله بهم هذا الدين ) ( ).
الثالث عشر : (عن جبير بن نفير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لتستصعبن الأرض بأهلها حتى لا يكون على ظهرها أهل بيت مَدَر ولا وبر وليبتلين آخر هذه الأمة بالرجف فإن تابوا تاب عليهم ، وإن عادوا عاد الله عليهم بالرجف والقذف والمسخ والصواعق)( ).
الرابع عشر : (أخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أبشركم بالمهدي يبعثه الله في أمتي على اختلاف من الزمان وزلازل.
فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ويرضى عنه ساكنوا السماء وساكنوا الأرض ، يقسم الأرض ضحاحاً .
فقال له رجل : ما ضحاحا.
قال : بالسوية بين الناس ، ويملأ قلوب أمة محمد غنى ، ويسعهم عدله حتى يأمر مناد ينادي يقول : من كانت له في مال حاجة فما يقوم من المسلمين إلا رجلٌ واحد .
فيقول : ائت السادن يعني الخازن فقل له : إن المهديّ يأمرك أن تعطيني مالاً فيقول له : أحث حتى إذا جعله في حجره وأبرزه ندم.
فيقول : كنت أجشع أمة محمد نفساً إذ عجز عني ما وسعهم قال : فيرد ، فلا يقبل منه ، فيقال له : إنا لا نأخذ شيئاً أعطيناه.
فيكون كذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين ثم لا خير في العيش بعده قال: ثم لا خير في الحياة بعده ) ( ).
الخامس عشر : (عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقوم الساعة حتى يملك الأرض رجل من أهل بيتي أجلي أقنى ولفظ أبي داود : المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت قبله ظلماً وجوراً يكون سبع سنين)( ).
السادس عشر : (عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يخرج المهدي في أمتي خمساً أو سبعاً – شك أبو الجوري – قلنا : أي شيء قال : سنين ، ثم ترسل السماء عليهم مدراراً ولا تدخر الأرض من نباتها شيئاً ، ويكون المال كردساً يجيء الرجل إليه فيقول يا مهدي أعطني أعطني فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمل ) ( ).
السابع عشر : (أخرج أحمد ومسلم : يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده ) ( ).
الثامن عشر : (أخرج ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يخرج في آخر الزمان خليفة يعطي الحق بغير عدد) ( )، والمراد الإمام المهدي عليه السلام.
التاسع عشر : (عن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع من الزمان وظهور من الفتن يكون عطاؤه حثياً)( ).
وروي عن الحارث أنه قال (دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث، فأتيت علياً عليه السلام فقلت : ألا ترى أن الناس قد وقعوا في الأحاديث .
فقال : وقد فعلوا .
فقلت : نعم .
فقال : أما أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنها ستكون فتنة قال : قلت : فما الخروج منها يا رسول الله؟
قال : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم تنته الجن إذا سمعته إلاّ أن قالوا {سَمِعْنَا قُرْءَانًَا عَجَبًا} من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور) ( ).
قانون أسباب النزول ضد للإرهاب
أسباب النزول كلمة مركبة من كلمتين ، فالأسباب جمع سبب ، وهو الأمر والمادة التي يتوصل بها إلى معرفة غيرها ، أما النزول فهو الهبوط من الأعلى إلى الأسفل .
وفي الإصطلاح هو علم من علوم القرآن وتفسيره لبيان سبب نزول الآية أو السورة والواقعة التي صاحبتها .
وهناك مسائل في المقام :
الأولى : عدم الملازمة بين نزول الآيات والأسباب ، فمن آيات القرآن ما ليس لها سبب نزول ، وأيهما أكثر الآيات التي لها سبب نزول حادثة وواقعة أم الآيات التي ليس لها سبب نزول ، المختار هو الثاني ، إذ يمكن تقسيم آيات القرآن في علة وسبب النزول إلى قسمين :
الأول : النزول الإبتدائي من غير واقعة تكون سبباً للنزول .
الثاني : النزول السببي أي نزول الآية لسبب معين ، ومن الأسباب ما كان ظاهراً كالوقائع وآيات [يَسْأَلُونَكَ] ومنها ما تعرف بلحاظ القرائن والقسم الأول هو الأكثر .
الثانية : كثير من أسباب النزول ذكرها التابعون وتابعو التابعين ، وحتى التي رويت عن الصحابة فان عدد الصحابة الذين ذكروا هذه الأسباب معدود .
وأكثر الصحابة الذين رويت عنهم أسباب لنزول الآيات هو عبد الله بن عباس على فرض صحة السند ونسبة الحديث إليه ، وقد تجد رؤيتان عن ابن عباس بخصوص أسباب نزول آية مخصوصة ، كل سبب مختلف عن الآخر ، وهو أمر جائز في علوم القرآن على فرض صحة السند في كل منهما .
الثالثة : قد تجد عبد الله بن عباس يروي سبب النزول لآية تخص ما قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو لم يولد بعد مثل ما ورد عن الضحاك (عن ابن عباس أنه قال: أول ما نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” يا محمد استعد ثم قل بسم الله الرحمن الرحيم) ( ).
(عن أبي صالح عن ابن عباس قال: ” قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فقال: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، فقالت قريش: رض الله فاك) ( ).
وعن (أبي صالح عن ابن عباس قال : قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فقال : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ}( ) .
فقالت قريش : دقّ الله فاك) ( ).
أو يروي أسباباً بخصوص آيات نزلت في معركة بدر أو معركة أحد ، وكان آنذاك صبياً في مكة مع أبيه العباس بن عبد المطلب الذي وقع أسيراً بيد المسلمين في معركة بدر هو وعقيل بن أبي طالب ، مما يدل على سماعه من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو من أهل البيت أو الصحابة .
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم افتتان الصحابة والناس بصدود العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعقيل ابن عمه عن الدعوة والتنزيل .
ومن الإعجاز وأسباب منع الإفتتان بروز الإمام علي عليه السلام ، وحمزة عم النبي وعبيدة بن الحارث ابن عم النبي لرؤساء قريش الذين طلبوا المبارزة يوم بدر .
ومما يرويه ابن عباس من أسباب نزول آيات مكية ففي قوله تعالى [أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ] ( ) .
(قال: نزلت في عبد الله بن أُميّة المخزومي ورهط من قريش قالوا: يا محمّد أجعل لنا الصّفا ذهباً ووسّع لنّا أرض مكّة، وفجر الأنهار خلالها تفجيرا نؤمن بك. فأنزل الله عزّ وجلّ {أَمْ تُرِيدُونَ})( ).
وفي قوله تعالى [أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) قال ابن عباس (نزلت في أبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو،
وعكرمة بن أبي جهل،وسائر رؤساء قريش يومئذ الذين نقضوا العهد، وهم الذين همّوا بإخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال مجاهد : هم أهل فارس والروم وهو بعيد ، وخلاف موضوع النزول والوقائع التي صاحبته وزمانها ومكانها .
إذ تبين هذه الآية أن المشركين هم الذين ابتدأوا بالحرب والقتال ، مع الإضرار اليومي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وفيه دعوة للمسلمين لتعاهد الأيمان والمواثيق العامة والخاصة ، وهل يدخل فيها الدستور والقوانين الوضعية في الأمن وحقوق وواجبات المواطنة ، الجواب نعم ، لتكون أسباب النزول موعظة ورشاداً في قابل الأيام واختلاط الشعوب وتنوع الأنظمة ، ومن خشية الله التي أختتمت بها الآية أعلاه إجتناب سفك الدماء والتفجيرات .
وقال حذيفة بن اليمان : ما قُوتل أهل هذه الآية ، ولم يأت أهلها بعد {إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ}( ) عهودهم، جمع يمين أي وفاء باليمين.
قال قطرب : لا وفاء لهم بالعهد وأنشد :
وإن حَلَفَتْ لاينقض النّأيّ عهدَها
فليس لمخضوب البنان يمين
الحسين وعطاء وابن عامر : لا إيمان لهم بكسر الهمزة،
ولها وجهان : أحدهما لاتصديق لهم،
يدل عليه تأويل عطية العوفي قال : لا دين لهم ولا ذمّة،
فلا تؤمنوا بهم فاقتلوهم،
حيث وجدتموهم فيكون مصدراً من الإيمان الذي هو ضد الاخافة قال الله عز وجل : {وَءَامَنَهُم مِّنْ خوْف} {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم .
وقيل : عن الكفر.
ثم قال حاضّاً المسلمين على جهاد المشركين {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} نقضوا عهودهم {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ}) ( ).
ومعنى هذا القتال هو الدفاع ، ولكن سورة التوبة من آخر ما نزل من القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي قوله تعالى [مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ) (قال ابن عبّاس : نزلت هذه الآية في عمار وذلك، أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأُمه سمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً فعذبوهم،
فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قلبها بحربة) ( ).
وقد ولد ابن عباس قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث سنوات ، ولا ينقص هذا الأمر من وثاقة ما يرويه ابن عباس لأنه أخذه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة ، إلا أنه لم يحضر أسباب النزول .
وذكر ان عبد الله بن عباس أسلم قبل فتح مكة بوقت قليل ولم يهاجر قبل الفتح .
وفي قوله تعالى [وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا]( ) ورد عن ابن عباس أنه (قال : المستضعفون . أناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا منها .
وأخرج البخاري عن ابن عباس قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين .) ( ) وكان صغيراً بين أبويه ، والمراد من القرية في الآية أعلاه مكة، وهو المروي عن عائشة ( ) وعن ابن عباس وغيره ، وفي النكت والعيون : هي مكة في قول جميع المفسرين ( ).
وورد لفظ [الظالم] في القرآن مرتين إحداهما في الآية أعلاه ، والأخرى تتعلق بعالم الآخرة ، بقوله تعالى [وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً] ( ) .
لبيان قبح الظلم وسوء عاقبته في الآخرة ، وحال الندم الشديد الذي يصيب الظالم في الآخرة ، لتكون الآية إنذاراً من الإرهاب لأنه ظلم ، وهل منه إخافة عامة الناس بوقائع وتفجيرات ترعبهم وتجعلهم يدركون الفعل والضرر النفسي والمادي الذي يقع على المظلوم ، الجواب هو الأول ، لبيان حقيقة وهي أن الظلم والإثم في الفعل الإرهابي لا ينحصر بذات الفعل بل يشمل ما يترشح عنه من الضرر العام والخاص ، وإرهاق بيت المال وخزينة الدولة العامة من الإنفاق الزائد بسببه .
آيات ذم الأصنام حرب على الإرهاب( )
لقد كان العرب يعبدون الأصنام ، ولا يقيمون الصلاة ، ولا يتورعون عن المعاصي ، ومن إعجاز القرآن بخصوص ذكر الأصنام وقبح عبادتها والتوسل إليها وجوه :
الأول : لم يذكر لفظ الأصنام معرفاً بالألف واللام ، إلا مرة واحدة وبدعاء إبراهيم رجاء عصمته وأبنائه وذريته من عبادة الأصنام إلى جانب دعائه بالأمن لمكة ، قال تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ]( ).
الثاني : ورد لفظ (الأوثان) ثلاث مرات في القرآن ، واحدة في الإنذار العام من الشرك واثنتين بخصوص إبراهيم عليه السلام وقومه ، وهذه الآيات هي:
الأولى : قوله تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ]( ).
الثانية : قوله تعالى [إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( ).
ومن إعجاز القرآن بيانه لقيام إبراهيم عليه السلام بكسر الأصنام بعد إقامة الحجة على قومه ، وفي التنزيل [فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ] ( ) ومن قول الزور الكذب والإفتراء وشهادة الزور .
وعن خريم بن فاتك الأسدي قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح ، فلما انصرف قائماً قال : عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ثلاثاً ، ثم تلا هذه الآية وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ* حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ.
الثالثة : قوله تعالى [وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ]( ).
الثالث : ورد لفظ (أصنام) على نحو التنكير في القرآن ثلاث مرات ، اثنتين بخصوص إبراهيم ، قال تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
الرابع : ذم عبادة طائفة من قوم موسى عليه السلام العجل عند غياب موسى عنهم ، قال تعالى [وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ]( ).
الخامس : آيات إتخاذ الكفار شركاء لله عز وجل ، وتحديهم والإخبار عن عجزهم عن الإتيان بحجة أو برهان على هذا الشرك ، وهي كثيرة منها قوله تعالى [أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ]( )، وقوله تعالى [أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ]( )، مع بيان جهاد الأنبياء وأصحابهم والصالحين في بيان قبح الشرك وبذلهم الوسع لصرف الناس عن الشرك والضلالة ، وفي قوله تعالى [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ]( ).
هذا الرجل هو حبيب النجار لما بلغه مجئ رسل عيسى عليه السلام أتاهم وأظهر أنه على دين التوحيد خلافاً لقومه فاستشاط قومه غضباً كيف يكون على عبادة إله هؤلاء الرسل وهو الله عز وجل .
فاجابهم بالإحتجاج عليهم وبيان سوء إختيارهم الشرك وأنه لا ينفعهم في الدنيا ، ولا في الآخرة ، وقال [أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ]( )، فوثبوا عليه وثبة رجل واحد ، فقتلوه ولم ينصره أحد (وقبره في سوق أنطاكية) ( ).
السادس : الآيات التي تبين قيام طائفة من الناس وأقوام بعبادة الأصنام والعكوف عليها ، وعدم ذكر الله كما في جدال قوم إبراهيم [قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ]( ).
ومنها ما ورد في عبادة بعض الكواكب والأفلاك كما في قوم بلقيس وخبر الهدهد لسليمان النبي عنهم ، كما ورد في التنزيل [وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ]( )، ليكون هذا الإخبار مقدمة لدخولهم الإسلام.
السابع : آيات تبرء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عبادة المشركين للأوثان ، ومن الإعجاز مجئ شطر من هذه الآيات بالأمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باعلان البراءة منها ، قال تعالى [قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الثامن : آيات تحذير وإنذار الناس جميعاً من الشرك ، مع بيان الدليل على تخلف الشركاء عن نفع الناس ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ]( ).
وهذا العموم في الإنذار من الشواهد على أن رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً ، وأنها رحمة ورأفة ، بهم وسبيل نجاة في الآخرة ، وفي لغة الإنذار من الشرك شاهد على حرمة الإرهاب، لكفاية لغة الإنذار الإلهية بصرف الناس عن الشرك .
ويتوجه الإرهاب بالضرر إلى المسلم والكتابي وعامة الناس بدون حق .
التاسع : ذكر القرآن للأصنام التي كان يعبدها العرب أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، من جهات :
الأولى : تأكيد عبادة العرب للأصنام وحاجتهم للبعثة النبوية .
الثانية : ذكر القرآن لأسماء عدد من هذه الأصنام ،وفضل الله في هدمها ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من إعجاز القرآن ، قال تعالى [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( ) .
وكان العرب يتفاخرون بأصنامهم والأوثان التي يعبدون ففي معركة أحد ، وعندما أراد المشركون الإنسحاب أطل أبو سفيان على المسلمين في ميدان المعركة ، ونادى بأعلى صوته (أعل هبل فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قولوا الله أعلى وأجل . فقالوا : الله أعلى وأجل .
فقال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قولوا الله مولانا والكافرون لا مولى لهم.
فلم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا مولى لكم بل نفى المولى عن عموم الكافرين لبيان قبح الكفر .
ثم قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ، يوم لنا ويوم علينا ، ويوم نساء ويوم نسر ، حنظلة بحنظلة وفلان بفلان( ) .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا سواء . أما قتلانا فأحياء يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون .
قال أبو سفيان : قد كان في القوم مثلة ، وإن كانت على غير توجيه منا ، ما أمرت ولا نهيت ، ولا أحببت ولا كرهت ، ولا ساءني ولا سرني .
قال : فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه ، وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أكَلتَ شيئاً؟
قالوا : لا .
قال : ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة النار .
فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمزة فصلى عليه ، وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه فرفع الأنصاري وترك حمزة ، ثم جيء بآخر فوضعه إلى جنب حمزة فصلى عليه ، ثم رفع وترك حمزة حتى صلى عليه يومئذ سبعون صلاة)( ).
كما ذكر القرآن الأصنام التي كان قوم نوح يعبدونها ، وهي تماثيل لرجال صالحين قد ماتوا [وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا]( ).
الثالثة : عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من صغره من التقرب أو التزلف إلى الأصنام ، وكانت هذه العصمة مقدمة وبشارة البعثة النبوية الشريفة .
ورد (عن ابن عباس قال: حدثتني أم أيمن قالت: كان بِبُوانة صنمٌ تحضره قريش وتعظمه، وتنسك له النسَائكَ، ويحلقون رؤوسهم عنده، ويعكفون عنده يوماً إلى الليل، وذلك يوماً في السنة.
فكان أبو طالب يحضره مع قومه وكان يكلم رسول الله أن يحضر ذلك العيد مع قومه، فيأبى رسول الله ذلك، حتى رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عماته غضبن عليه يومئذ أشد الغضب ، وجعلن يقلن: إنًا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا، وجعلن يقلن: ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا، ولا تكثر لهم جمعا. فلم يزالوا به حتى ذهب عنهم، فغاب ما شاء الله، ثم رجع إلينا مرعويأ فقالت له عماته : ما دهاك ؟
قال: إني أخْشَى أنْ يَكونَ بي لَمم.
فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك فما الذى رأيت ؟
قال: إني كلما دَنَوْتُ صَنَم مِنْهَا تَمَثل لي رجُلٌ أبْيَضُ طَويلٌ يصيح بي: وَرَاءَكَ يا مُحَمد، لاتَمسهُ قالت فما عاد إلى عيدٍ لهم حتى تنبأ صلي الله عليه وآله وسلم)( ).
لقد تحلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر ، ولم يتعارض هذا الصبر مع تقوى الله بل هو فرع التقوى ، واكتفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإعراض عن الأصنام وعبادتها حتى أظهر الله عز وجل دينه ، فقام وعشرة آلاف من أصحابه يوم فتح مكة بكسر الأصنام ، ولم يعتد على أحد ، ولم ينتقم من سدنة الأصنام ، والذين كانوا يتعاهدون بيوتها ، ويجمعون النذور والهدايا التي تهدى لها ، مع أن هؤلاء من أهم أسباب شيوع الباطل والمنكر لما فيه من المتاع الزائل لهم .
لقد اكتفى النبي بكسر وتهشيم الأصنام ، وهدم بيوتها ، وليس من أصنام في هذا الزمان ، ولا يجوز توجيه الإتهام لطائفة أو أكثر من المسلمين بعبادة الأصنام والحجارة ، فهذا الإتهام لا أصل له وهو باطل موضوعاً وحكماً ، وقد يكون مقدمة وتحريضاً على الإرهاب .
مقدمات صلح الحديبية غنى عن الإرهاب
الصلح عقد وخاتمة لنزاع ووقف لخصومة ، ومنع من تصعيدها والصلح سلم وموادعة ، وقد يكون إنهاء لحرب واقتتال ، وقد يتم لمنع حدوث القتال ، وهو الأكثر.
ولقد حاربت قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من غير علة أو سبب عقلائي لهذه المحاربة ، ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد على أنه الإمام في السلم والذي يدفع مقدمات الإرهاب ، أنه هاجر من المدينة بنفسه ونبوته والقرآن ، ولم ينتظر حتى يبيع أملاكه أو يجمع أمواله.
فبين تبليغ جبرئيل له بالهجرة وبين ساعة الصفر في تنفيذ قريش لقتله بضع ساعات فقط حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أداء الأمانات التي عنده لأهلها ، فأوكل هذا الأمر إلى الإمام علي عليه السلام بعد أن أمره بالمبيت في فراشه ليوهم قريش أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغادر المدينة ، مع أن خطتهم كانت الإجهاز عليه وهو نائم ، لبيان فداء الإمام علي نفسه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل في وصية أداء الأمانات بشارة سلامة الإمام علي عليه السلام من القتل ليلتئذ ، الجواب نعم .
و(قال الثعلبي : ورأيت في الكتب إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة خَلف علي بن أبي طالب بمكة لقضاء ديونه ورد الودايع التي كانت عنده فأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال له : إتشح ببردي الحضرمي الأخضر ، ونم على فراشي ، فإنّه لا يخلص إليك منهم مكروه إنشاء الله ، ففعل ذلك عليٌ .
فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالبقاء والحياة .
فإختار كلاهما الحياة فأوحى الله تعالى إليهما : أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب عليه السلام آخيت بينه وبين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فبات على فراشه (يفديه) نفسه ويؤثره بالحياة ، إهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه.
فنزلا فكان جبرئيل عند رأس علي وميكائيل عند رجليه ، وجبرئيل ينادي : بخ بخ من مثلك يابن أبي طالب ، فنادى الله عزّ وجلّ الملائكة وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ( ).
فاتجهت قريش بعد هجرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تجهيز الجيوش والهجوم على المدينة لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقتل عدد من أصحابه وأسر آخرين خصوصاً المهاجرين.
كما أرسلوا الأفراد لإغتياله ، ولكن الله يدفع كيدهم في كل مرة ، ويبعث الحسرة والخوف في نفوسهم ليكون باعثاً للتوبة والإنابة.
وفي معركة أحد وبعد أن حضر ثلاثة آلاف من المشركين لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسبعمائة من أصحابه ، نزل قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
وهل كان هذا القطع وإصابة قريش بالوهن والكبت سبباً لرضاهم بصلح الحديبية ، الجواب نعم ، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن مقدمات صلح الحديبية كانت على قسمين :
القسم الأول : ما كان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهو على جهات :
الأولى : إزدياد ومضاعفة عدد المسلمين مع تقادم الأيام والسنين ، فقد خرج النبي إلى معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ومعه (313) من أصحابه بينما خرج لمعركة أحد في شوال من السنة الثالثة ومعه ألف من أصحابه ، وإنخزل من وسط الطريق ثلاثمائة منهم بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
الثانية : لم يقصد الحرب والقتال ولا الإستيلاء على قافلة أبي سفيان .
وبين التعرض للقافلة وبين الإستيلاء عليها عموم وخصوص مطلق ، فقد يكون هناك تعرض ولكن من دون أن يتحقق استيلاء ، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج للتعرض للقافلة ، كما أن قوله تعالى [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( )، بيان لكيفية نفسانية ورغبة ، وليس قصد التعرض أو الإستيلاء على القالفة .
ولو كان هناك تعرض من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقافلة أبي سفيان لذكرته قريش في أشعارها للتوثيق وتحريض القبائل عليه، وتحشيدها لمحاربته.
الثالثة : توالي نزول آيات القرآن ، وفيها تعليم وتأديب للمسلمين ، وهذا التوالي مناسبة للتفقه في الدين وتقوية قلوب المسلمين ، وتثبيت لأقدامهم في مقامات الإيمان.
الرابعة : اجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الله ، وبيان أحكام الشريعة .
الخامسة : تنمية ملكة التقوى عند المسلمين ، وصار المسلمون يؤدون الصيام والزكاة والخمس ، بينما حجب عنهم المشركون فريضة الحج ، وعمارة المسجد الحرام ليأتي صلح الحديبية رحمة بهم وهو من مصاديق المنّ في قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن كل يوم يمر عليه يزداد فيه أصحابه إيماناً إلى جانب الكثرة في العدد حتى ضاقت أزقة المدينة بالمهاجرين فأنشأ لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الصفّة) بجوار المسجد النبوي للإقامة فيها ، وقد يصل عددهم إلى مائتين وثلاثمائة فيها قبل أن تتهيأ لهم أسباب الإنتقال في السكن ، وتفتح أمامهم أبواب العمل.
السادسة : حال الغبطة والسعادة عند المسلمين لنعمة الهداية والإيمان ، وفي التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
السابعة : تجلي معاني الأخوة بين المهاجرين والأنصار والتنزه عن الحقد والخبث .
القسم الثاني : ما كان عند قريش وحلفائهم من المشركين من مقدمات صلح الحديبية ، وهو من جهات :
الأولى : إصابة أموال قريش بالنقص ، وظهور عجزهم عن أداء الديون لتباطئ البيع والشراء ، وإنشغالهم عن قوافل التجارة.
الثانية : النقص في الرجال ، فكلما دخل فرد الإسلام فانه نقص وضعف في جانب المشركين .
الثالثة : هجوم الخوف والهلع على قلوب الذين كفروا ، من قريش ومن تابعهم في الحرب على النبوة والتنزيل ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ) .
وتبين الآية أعلاه أن نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم ينحصر بميدان المعركة بل هو متصل حتى في حال السلم ، وبعد رجوع المشركين إلى مكة ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق نصر الله عز وجل له بالرعب .
و(عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أعطيتُ خمساً ولا أقول فخراً : بُعثت إلى الأحمر والأسود ، وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، وأُحل لي المغنم ولم يحل لأحد كان قبلي ، ونُصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر وأُعطيت الشفاعة فادّخرتها لأُمتي يوم القيامة)( ).
ترى ما هي الصلة بين هذا الرعب وبين الرعب الذي يسببه الإرهاب ، الجواب هو أن الرعب الذي ينفذ إلى نفوس مشركي قريش فيه تخفيف عن المؤمنين ، وهو من عند الله بسبب أمور :
الأول : إقامة المشركين على الكفر والجحود مع توالي معجزات النبوة بين ظهرانيهم كما تبين الآية بقوله تعالى [بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ].
الثاني : استخفاف واستهزاء المشركين بآيات التنزيل .
الثالث : محاربة كفار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسيوف والرماح والنبال ، وإرادة قتله وأصحابه .
الرابع : نصب المشركين الأصنام في البيت الحرام ، وترغيب الناس بعبادتها والتزلف إليها .
الخامس : تجهيز المشركين الجيوش تلو الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وللإغارة على المدينة وأطرافها ، فلم تنزل آية القاء الرعب أعلاه إلا بعد معركة أحد التي أظهرت بجلاء أن المشركين هم الغزاة إذ أطل ثلاثة آلاف مقاتل منهم على المدينة للقتال والقتل والسلب والنهب.
السادس : ظلم الكفار لأنفسهم بالجمع بين الكفر والظلم والتعدي ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( )، فالقى الله الرعب في قلوبهم لصرف شرورهم وترغيبهم بالتوبة والإنابة ، أما الرعب الذي يسببه الإرهاب فهو ظلم للذات والغير وفي الحادثة الواحدة منه أذى لعموم المؤمنين ، وليس له مسوغ شرعي أو عقلائي أو قانوني ، وهو من عند الإنسان وليس من عند الله عز وجل .
لقد نصر الله عز وجل النبي محمداً بالرعب مدة حرب وغزو قريش له ثم تم صلح الحديبية ، وفتح مكة ، فانقطع هذا الرعب ، ليكون هذا الرعب ثم إنقطاعه من لطف الله عز وجل ونوع طريق لاستتباب الأمن.
قانون [ لاَ تَعْتَدُوا]حصن من الإرهاب
من معاني [لاَ تَعْتَدُوا] في قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) وجوه :
الأول : لا تعتدوا لحرمة التعدي .
الثاني : لا تعتدوا فيعتدى عليكم .
الثالث : لا تعتدوا فتظلموا أنفسكم وغيركم .
الرابع : لا تعتدوا فتشيع لغة العدوان .
الخامس : لا تعتدوا وتكرروا الاعتداء .
السادس : لا تعتدوا للتضاد بين الإيمان والإعتداء .
السابع : لا تعتدوا فيأتي مع الإعتداء الإبتلاء .
الثامن : لا تعتدوا فيعتدى على أبنائكم من بعدكم إلا أن يشاء الله .
التاسع : ادعوا إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة ولا تعتدوا .
العاشر : لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً للناس جميعاً فلا تعتدوا .
الحادي عشر : لا تعتدوا إن الله يحب الذين لا يعتدون ، وهو مفهوم آية البحث [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) .
الثاني عشر : لا تعتدوا بالإرهاب .
الثالث عشر : إنقطعوا إلى الذكر والعبادة ولا تعتدوا .
الرابع عشر : لقد عصم الله الأنبياء من التعدي وأنتم ورثة الأنبياء فلا تعتدوا .
الخامس عشر : لا تعتدوا لحرمة الإعتداء .
السادس عشر : لا تعتدوا فان العافية في النشأتين في عدم الإعتداء .
السابع عشر : لا تعتدوا بالإرهاب فتصدوا الناس عن الإيمان .
الثامن عشر : لا تعتدوا فان تكرار الإعتداء سبب للنفرة من الدين .
التاسع عشر : لا تعتدوا للملازمة بين الإيمان وعدم التعدي .
العشرون : تعاونوا في الصالحات ولا تعتدوا .
الحادي والعشرون : ولا تعتدوا مجتمعين ومتفرقين ، فمن وجوه تقدير هذه الآية توجه الخطاب لكل مسلم ومسلمة لا تعتد .
الثاني والعشرون : يا أيها الذين آمنوا تسابقوا في الخيرات ولا تعتدوا .
الثالث والعشرون : ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ولا تعتدوا .
سفارة مصعب بذرة للسلم الدائم
لقد إختار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصعب بن عمير سفيراً إلى أهل المدينة لدعوتهم للتوحيد ، ودخولهم الإسلام ، وهل كان هذا الإختيار باجتهاد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم هو من الوحي .
الجواب هو الثاني ، لذا أدى مصعب مسؤوليات السفارة بتفان واجتهاد وصبر وحكمة ، ومع تزايد عدد المسلمين في المدينة كان مصعب حينما يتلقى الأذى يتلقاه بصبر ولا يغضب لبيان قانون وهو بناء الإسلام على الصبر والتنزه عن العنف والإرهاب.
ليكون منهاج مصعب بن عمير فرع سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقوله تعالى [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ]( ) ومنهاجاً للمسلمين للإمتناع عن الإضرار بالناس .
ولم يبلغ عمر مصعب بن عمير يوم توجه إلى المدينة أربعين سنة ، وكان في نعيم ، ويظهر في لباس الحرير ، ليتعطر بالطيب وسيم الهيئة ليس بالطويل ولا بالقصير ، ودخل الإسلام سراً في دار الأرقم خشية من والدته التي كانت تغدق عليه وتحرص على دلاله .
وقومه بنو عبد الدار حملة لواء المشركين ، وقد حملوا اللواء في معركة بدر وأحد ، وأخزاهم الله بكثرة القتلى فيهم بعد أن أصروا على المبارزة والقتال واتفق أن كان مصعب بن عمير يصلي فأبصره عثمان بن طلحة ، وهو زوج أخت مصعب ، فوشى به إلى قومه فحبسوه ، ولكن حبسه لم يطل لأن أمه أم خناس بنت مالك القرشية العامرية .
وهي أم أبي هاشم وأبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة خالي معاوية ، فهما أخوا مصعب بن عمير لأمه( ).
كانت تحبه وتدفع عنه ، لذا كان في إرساله سفيراً إلى المدينة نجاة له من بطش قريش خصوصاً ذوي قرباه وعشيرته.
ولقد أبلى مصعب بن عمير في السفارة بلاء حسناً بتوفيق من عند الله عز وجل إذ تدل آيات القرآن على الوعد من الله عز وجل بهذا التوفيق كمقدمة لهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة.
لقد كان عدد الأنصار الذين بايعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في بيعة العقبة الأولى والذين ذهب معهم مصعب إلى المدينة أول مرة اثنا عشر رجلاً ، بلحاظ أن مجموع بيعة العقبة اثنتان الأولى والثانية.
ومنهم من يجعل وقوع البيعة في العقبة ثلاث مرات ، كل مرة في سنة وهي :
بيعة العقبة الأولى : وكان عدد الذين بايعوا فيها ستة نفر( ).
بيعة العقبة الثانية : وعدد الذين بايعوا فيها اثنا عشر رجلاً.
بيعة العقبة الثالثة : والتي بايع فيها سبعون رجلاً وامرأتان.
وكان عدد النقباء فيها اثنا عشر رجلاً وهم :
الأول : سعد بن عبادة .
الثاني : أسعد بن زرارة .
الثالث : سعد بن الربيع .
الرابع : سعد بن خيثمة .
الخامس : المنذر بن عمرو.
السادس : عبد الله بن رواحة .
السابع : البراء بن معرور .
الثامن : أبو الهيثم بن التيهان .
التاسع : أسيد بن حضير .
العاشر : عبد الله بن عمرو بن حرام .
الحادي عشر : عبادة بن الصامت .
الثاني عشر : رافع بن مالك)( ).
والمشهور لا يعد لقاء الستة الأوائل من الأوس والخزرج بالنبي محمد بيعة ، وهو المختار وإن كانوا قد دخلوا الإسلام بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم يومئذ ، وهم الذين بدأوا بنشر الإسلام في المدينة وكلهم من الخزرج فحينما عرض عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبوته ، وتلا عليهم آيات القرآن ، أدركوا أنه نبي آخر الزمان الذي كان يهود المدينة يتوعدونهم بهم .
وقال بعضهم لبعض وهم في منى في موسم الحج (فلا يسبقونا إليه. فآمنوا وأسلموا، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا وبينهم حروب فننصرف إليهم وندعوهم إلى ما دعوتنا إليه، فعسى الله يا يجمع كلمتهم بك، فإن اتبعوك فلا أحد أعز منك.
فانصرفوا إلى المدينة، فدعوا إلى الإسلام، حتى فشا فيهم، ولم يبق دار من دور اسلأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
وهؤلاء النفر الستة كلهم من الخزرج وهم :
الأول : أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ .
الثاني : َعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ .
الثالث : َرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ .
الرابع : َقُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ .
الخامس : َعُقْبَةُ بْنُ عَامِر .
السادس : جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رِئَابٍ)( ).
وفي العام التالي قدم اثنا عشر رجلاً من الأنصار وتمت بيعة العقبة الأولى ، وسميت بيعة النساء فليس فيها ما يخص الدفاع ، وكان فيهم خمسة من السنة الأولى ، إذ تخلف عن الحضور جابر بن عبد الله.
وعندما تمت مناسك الحج ، وأراد وفد الأوس والخزرج الرجوع إلى المدينة يثرب بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصعب بن عمير معهم ، وهذا البعث من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور :
الأول : قانون تهيئة مقدمات هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : قانون إصغاء الناس لسفير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : حفظ مصعب بن عمير للقرآن ، وقيامه بالإحتجاج به ، وتعليم الناس آيات وسور القرآن ولقّب مصعب في المدينة (المقرئ) كما تقدم .
الرابع : زيارة مصعب بن عمير لمجالس ومنتديات الأنصار ، وذهابه إلى بيوتهم وعرض الإسلام عليهم .
الخامس : أداء مصعب بن عمير صلاة الجماعة في المدينة ، وهو من أشرف أعمال السفارة .
السادس : وساطة مصعب بن عمير بين الأوس والخزرج في حلّ ما بينهم من الخصومات .
السابع : الإعداد لخروج وفد كبير من المسلمين للقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة في موسم الحج ، وهو في شهر حرام ، فكانت بيعة العقبة الثانية التي تعقبتها الهجرة النبوية.
وقد كان مصعب بن عمير حامل لواء أبيض اللون يوم معركة بدر ، إلى جانب اللواء الذي يحمله الإمام علي عليه السلام ، وكان لواء الأنصار عند سعد بن معاذ .
وعن عبد الله بن عمر قال (نظر النبي صلى الله عليه و سلم إلى مصعب بن عمير مقبلا عليه إهاب كبش قد تنطق به فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم انظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه ، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب .
ولقد رأيت عليه حلة شراؤها بمائتي درهم فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون)( ).
قانون قهر الإرهاب غاية للصلح
الصلح عقد هدنة ليتم بين طرفين أو أكثر ويكون لوجوه :
الأول : إرادة السلم ،للتدارك والمنع من وقوع القتال .
الثاني : قطع الخصومة والحيلولة دون استمرارها ، و(عن أبي أيوب قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا أيوب ألا أخبرك بما يعظم الله به الأجر ويمحو به الذنوب؟
تمشي في إصلاح الناس إذا تباغضوا وتفاسدوا ، فإنها صدقة يحب الله موضعها)( ) .
وجاء الحديث في المنع من التباغض بين الناس عامة وليس خصوص المسلمين ، مما يدل على حرمة الإرهاب مع أي طائفة أو أفراد من الناس من باب الأولوية القطعية ، وعلى وجوب منع مقدماته .
الثالث : حل المنازعات ، قال تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الرابع : إعادة أسباب الصلة والمودة .
الخامس : الصلح للخشية من وقوع ضرر أو فتنة ، قال تعالى [فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
السادس : الصلح لجلب المنفعة وتحقيق المصلحة ودفع المفسدة .
السابع : منع الظلم وتوالي البغي .
الثامن : الصلح للإصلاح ، وتعطيل ووقف الإرهاب مناسبة ووعاء للأعمار والبناء والنشاط الإقتصادي الذي تتغشى فوائده الناس جميعاً .
التاسع : الصلح لإصلاح ذات البين ، ونبذ الفرقة والكراهية سواء العامة أو الخاصة ، و(عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أخبركم بأفضل من درجات الصيام والصلاة والصدقة .
قالوا : بلى .
قال : إصلاح ذات البين .
قال : وفساد ذات البين هي الحالقة)( ).
العاشر : الصلح لإستدامة الود والألفة وحسن العشرة ، ومنه قوله تعالى في الزوجين [وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا]( ).
لقد جعل الله عز وجل الطريق الى الصلح سهلاً ويسيراً ، وهو موافق للفطرة الإنسانية ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
بخلاف الطريق إلى الإرهاب والقتال فانه شاق وفيه تردد وهو خلاف الفطرة ، لذا تجد اللوم يصاحبه ويتعقبه ، ونزل القرآن بالوفاء بالعقود ، ومنها الصلح ، ولزوم عدم نقضه قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]( )، وقال تعالى [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً]( )، لحفظ شروط وبنود الصلح ، والمعاملات والبيوع والإجارات ، والإمتناع عن الغدر والخيانة .
وهل التقيد بالقوانين العامة وإجتناب الإرهاب والإضرار بالمصالح العامة من العهد الذي تذكره الآية أعلاه ، الجواب نعم .
لقد أمر الله عز وجل المسلمين والمسلمات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو واجب شرعي وأخلاقي ، قال تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
ولقد ذمّ الله عز وجل قوماً لم ينه بعضهم بعضاً عن المنكر والفعل القبيح ، قال تعالى [كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ]( ).
مما يدل على وجوب التعاون والتعاضد لدفع الظلم ، ومنع التعدي والإرهاب ، وفيه دعوة لإتخاذ آيات القرآن والحجة والبرهان وحكم الشريعة وضوابط العقل ، وبيان عواقب الأمور والظلم المجتمعي سبل الرشاد ، وسلاح وقاية ذاتي .
والنسبة بين النهي عن المنكر والنهي عن الإرهاب هو العموم والخصوص المطلق.
قانون النفع العام من أسباب النزول
علم أسباب النزول علم شريف له منافع عديدة منها :
الأول : الإعانة في تلاوة القرآن بتدبر .
الثاني : الإطلاع على الوقائع والأحداث التي صاحبت البعثة النبوية وكأنها حاضرة .
الثالث : تفقه المسلمين في الدين وإدراك قانون ، وهو المدار على عموم المعنى وليس سبب النزول .
الرابع : الحاجة إلى التشريع والحكمة منه .
الخامس : تسهيل حفظ آيات القرآن ، وإستذكارها .
السادس : استحضار الآية القرآنية عند الوقائع والأحداث إلى يوم القيامة .
السابع : معرفة أوان الوقائع وضبط التواريخ ، وتعاقب الأحداث .
الثامن : قانون إستقراء معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بواسطة أسباب النزول ، لبيان قانون وهو في كل علم من علوم القرآن معجزات خاصة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسع : إتخاذ أسباب النزول وسيلة لتخصيص العام ، وتقييد المطلق ، ولكن ليس على نحو الإطلاق ، فيلزم دليل خاص لهذا التخصيص والتقييد ، ولو دار الأمر بين إطلاق الآية وسبب النزول الوارد عن التابعي الذي يذكره من غير سند فلابد من الرجوع إلى آيات القرآن الأخرى والسنة النبوية ، وما يرد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام .
العاشر : علة أسباب النزول ضد للإرهاب ، ودعوة متعددة لإجتنابه والنفرة منه ، إذ تبين هذه الأسباب صبغة السلم في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتحليه بالصبر في تلقي اعتداء المشركين وشدة ظلمهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في مكة ، وإرادتهم قتله ، وبقاء عبادة الأوثان والوأد والغزو وهو من أسباب استئصال العرب في الجزيرة لولا فضل الله برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومحاولة المشركين وقف نزول آيات القرآن بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) لتكون نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكر وكيد قريش زاجراً عن الإرهاب.
الحادي عشر : قانون علة أسباب النزول مانع من التفسير الخاطئ ، والتأويل غير الصحيح للآيات ، ومن مصاديق هذا القانون منع إتخاذ أسباب النزول ذريعة للظلم والإرهاب والتفجيرات العشوائية .
الثاني عشر : أسباب نزول الآيات دعوة للسلم والأمن ونشر شآبيب الرحمة بين الناس .
الثالث عشر : تبين أسباب النزول قانوناً وهو حب الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، فحالما تكون الواقعة يأتي كلام الله عز وجل ليكون هادياً ومانعاً ، هادياً للصلاح والرشاد ، ومانعاً من الزلل .
الرابع عشر : أسباب نزول الآيات مدرسة في الصبر وتحمل الأذى ، فلم يرد في أسباب النزول صدور الأذى من المسلمين ، لذا يجب أن تقتدي أجيال المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن في التنزه عن إيذاء الغير ، وعن نشر الخوف والرعب بين الناس .
الخامس عشر : تفقه المسلمين في المعارف الإلهية ، وإدراك قانون عموم معاني ألفاظ الآية وعدم إنحصارها بأسباب النزول .
السادس عشر : رحمة الله عز وجل بالناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع عشر : عدم وجود فترة بين الواقعة ونزول الآية القرآنية التي تبين الحكم وما يجب فعله .
الثامن عشر : منع الحرج في الدين .
التاسع عشر : وأد الفتنة .
العشرون : حفظ المصالح العامة .
الحادي والعشرون : النهي عن الغلو والظلم والإرهاب .
الثاني والعشرون : تأديب المسلمين وبلوغ الكمالات ، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) ( ) .
الثالث والعشرون : أسباب النزول عون في التفسير ، ومانع من التأويل غير الصحيح .
الرابع والعشرون : استقراء حرمة الظلم والإرهاب من أسباب نزول آيات القرآن .
الخامس والعشرون : (قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها) ( ).
ولكن تفسير الآية القرآنية لا يتوقف على سبب نزولها ، وهو من إعجاز القرآن لكفاية الآية في بيان مضامينها القدسية وتعضيد آيات القرآن لها ، ونبين هنا امراً ومسألة ربما تكون مستحدثة ، وهو قانون عرض أسباب النزول على آيات القرآن ، فما خالف القرآن من هذه الأسباب لا يؤخذ به ، سواء لأنه أجنبي عن موضوع الآية أو لضعف وإنقطاع السند في الخبر أو في ذكر ذات أسباب النزول ، فقد يرد ذكر حادثة للتابعي بخلاف الواقع ، فيتخذها سبباً لنزول آية قرآنية .
السادس والعشرون :يدل علم أسباب النزول وتعدد مسائله على كثرة علوم القرآن .
وقيل : وبدون معرفة السبب تصير الآية معطلة خالية من الفائدة( ) ، ولا أصل لهذا القول ، إذ تفسر الآية ذاتها ، وتفسرها آيات القرآن الأخرى والسنة النبوية .
قانون تسمية الصلح فتحاً محاصرة للإرهاب
عندما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنّ الأربعين جاءته النبوة من عند الله وتوالى عليه نزول آيات القرآن ، ومعها ابتدأ إيذاء المشركين له ، فلاقى وأهل بيته وأصحابه أشد الأذى فاقترح على طائفة من أصحابه الهجرة إلى الحبشة ليهاجر اليها اثنان وثمانون رجلاً بلحاظ أن عمار بن ياسر لم يهاجر معهم (ومن النساء تسع عشرة امرأة) ( ) ليشكر المسلم الله عز وجل على نعمة الأمن والسلامة في وطنه وبلدته ، ومن مصاديق الشكر في المقام التنزه عن الإرهاب ومقدماته .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرض نفسه على القبائل وأهل الأمصار في كل موسم حج يسألهم أيواءه وحمايته من بطش قريش ، ليبلغ رسالته دون جدوى ، وفيه شاهد على أن الإسلام قام على الصبر وتحمل الأذى من المشركين ليكون من باب الأولوية الصبر على عامة الناس ، والتقيد بقواعد المواطنة ، وأحكام القوانين بما ينشر الأمن.
التقى بوفد الأوس والخزرج من أهل يثرب (المدينة) ثم كانت بيعة العقبة الأولى ، فبعث معهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصعب بن عمير سفيراً للإسلام ليقوم بالوظائف التالية :
الأول : تعليم المسلمين قراءة القرآن ، فقد كانت هناك سور مكية عديدة نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يسع وقت موسم الحج لتعليم الأنصار القرآن ، كما أن البيعة تمت بالخفاء من قريش إنما صارالتعليم في يثرب بيسر وعلانية ، وكان مصعب يسمى بالمدينة (المقرئ).
الثاني : تفسير آيات القرآن والتدبر في معانيها ، وذكر أسباب النزول .
الثالث : تعليم الأنصار الصلاة وأركانها ، وأحكام الحلال والحرام.
الرابع : دعوة أهل المدينة إلى الإسلام ، وكان مصعب يقصد مجالس الأوس والخزرج ، ويذهب إلى بيوت الوجهاء والرؤساء منهم ، ويبين لهم معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ويتلو عليهم القرآن ويبشرهم بظهور الإسلام ، وفيه شاهد بأن الإسلام دين الإحتجاج والأمن وليس فيه عنف أو إرهاب .
وأسلم على يد مصعب بن عمير جمع كثير من أهل المدينة ، ومنهم سعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير في يوم واحد ، وهما من الرؤساء مما ساعد في دخول الناس في الإسلام ، خاصة وأن المدينة فيها طوائف من اليهود وهم بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع أي أن الكتاب السماوي والتنزيل والبشارة بنبي آخر الزمان أمور حاضرة في الواقع اليومي لأهل المدينة ، لقد كان ارسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمصعب بن عمير إلى المدينة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الإعجاز في نبوة محمد انتهاجه لسنن الأنبياء من قبله لبيان وحدة الموضوع في تنقيح المناط في إصرار الكفار من قوم الأنبياء على الإعراض عن النبوة والعزوف عن دعوة النبي ، وقد يلاقي النبي الأذى فيهاجر من بلدته .
وقد هاجر النبي إبراهيم عليه السلام ،ثم هجرة يوسف القهرية إلى مصر ، ثم هجرة يعقوب وأولاده إلى مصر ، ثم هجرة موسى من مصر إلى مدين من غير أن تكون مدين هي الغاية والقصد ، إنما كانت هجرته هروباً من فرعون وجنوده كما ورد في التنزيل [فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( ).
وقد أنعم الله عليه بأن اتصل بنبي الله شعيب في مدين التي هي خارج سلطان فرعون ، فزوّجه شعيب ابنته ليعود موسى إلى مصر ومعه زوجته وابنه.
لبيان قانون وهو لم يكن هناك نبي آخر في زمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يهاجر إليه أو يستنجد به .
وليس من نبي يعضده كما في إرتقاء هارون إلى مرتبة النبوة بدعاء موسى كما ورد في التنزيل [وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي]( ).
وكان أذى قريش شديداً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو وأهل بيته وأصحابه لم يقتلوا واحداً من قريش ، فرزقه الله عز وجل نصرة أمة من الصحابة من الأوس والخزرج ليسميهم الله عز وجل نفسه (الأنصار) فيبقى هذا الاسم عنوان عز وفخر لهم ولذراريهم وللمسلمين إلى يوم القيامة ، كما جعلهم الله عز وجل شركاء مع المهاجرين الأوائل في التسمية [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ]( )، ليشتركوا في الثواب الأخروي ، كما في قوله تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ).
وسيأتي قانون (السابقون الأولون) .
لبيان أن الهجرة وإعانة وايواء النبي محمد في المدينة شواهد على تنزه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من العنف والإرهاب ، ولزوم إقتداء أجيال المسلمين بهم ، وهو من أسرار تسمية السابقين وهذا المعنى لا يتعارض مع اضطرارهم للدفاع في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين ، وغيرها.
ثم كانت هجرة عيسى عليه السلام والتي تسمى هجرة العائلة المقدسة إذ هربت به أمه مريم إلى مصر ، أما هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد كانت مقدمة للصلح مع المشركين بعد عدد من المعارك وغزوات المشركين على المدينة ، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام وجوه :
الأول : هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي.
الثاني : نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ليلة الهجرة .
الثالث : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة مع بذل قريش الأموال من أجل إعادته حياً أو ميتاً .
إذ جعلت مائة ناقة للذي يأتي به ويرده عليهم ( )، وفي رواية مائة أخرى للذي يأتي بصاحبه لبيان معرفة قريش ، بمنافع الهجرة للنبوة والرسالة .
الرابع : تعدد معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة وعند الوصول إلى المدينة ، قد تقدم البيان بخصوصها.
لقد كانت أيام إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزات يومية مستقلة وإرتباطية ، تتصل بعضها ببعض في تبليغ الرسالة ، وتثبيت سنن الإيمان ، وجذب الأفواج من الناس إلى الإسلام ، والإقرار من كثير ممن لم يدخلوا الإسلام بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولو على نحو الموجبة الجزئية ، وبما يصرف أذاهم ، ويجعل قريشاً عاجزين عن تحشيدهم ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم :
الأولى : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال السلم .
الثانية : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان الدفاع ومقدماته ، وهي شعبة من السنة الدفاعية .
الثالثة : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجامعة لحال السلم والدفاع.
لقد مرّت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعد الهجرة نحو ست سنوات وهم في عناء وشظف العيش ، ومرابطة خشية من مباغتة الكفار ومعارك وقتال وسقوط شهداء مع جراحات كثيرة طالت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لتكون معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بذاتها ، وكونها شاهداً على سلامته من القتل بالمعجزة.
إلى أن تم صلح الحديبية بقصد وسعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه له بمقدمة من الله عز وجل برؤيا وحي تتضمن البشارة بطواف النبي وأصحابه في المسجد الحرام .
فكان الصلح ونزل قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا]( ).
وكانت ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة في سنة (571)م وقبل الهجرة بـ(53) سنة ، وبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنة (610)م ، أما تأريخ الهجرة فيوافق سنة 622م، وهي السنة الأولى في الحساب الهجري القمري .
أما معركة بدر التي وقعت في يوم 17 رمضان من السنة الثانية للهجرة فكانت في 12/3/624م.
وأما معركة أحد فقد وقعت في 15 شوال من السنة الثالثة للهجرة والموافق ليوم 30/3/625م.
وأما صلح الحديبية فقد تم في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، ويوافق سنة 628م.
قانون التنافي بين التجارة والإرهاب
لقد تخلف مشركو قريش عن الإتعاض من قصص التأريخ مع معرفتهم بها فقد كانوا أهل تجارة عامة ، يسافرون بأنفسهم ، ويعرضون تجارتهم ويتسوقون من دمشق ، وبيت المقدس وإيليا وتدمر وبلاد الروم واليمن ويثرب (المدينة ) والطائف ، وبلاد فارس ، وعمان والبحرين والعراق ومصر والحبشة والهند .
ويشترون الحنطة والشعير والذهب والفضة والخيل ،والقماش والسيوف ، والدروع ، والأواني المنزلية ، ولا يعني هذا ذهاب رجال قريش إلى هذه البلدان على نحو متصل ، إنما تأتي السفن محملة بالتجارة من الهند ، والحبشة مثلاً فترسو في ميناء عدن ، فتأتي إبل وقوافل قريش لتحمل البضائع ، خاصة عند قيام الحرب والإقتتال بين الدولة الفارسية والرومانية ، وقطع طريق العراق والشام ، وهو من فضل الله على العرب بأن ينتفعوا من الحالة الطارئة بالتجارة.
وهو من مصاديق قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
لتدل هذه الآية على أن قريشاً ليسوا أهل حرب وقتال ، إنما هم تجار ، وأرباب أسواق .
لقد كان هناك طريقان للتجارة بين الشرق والغرب :
الأول : الطريق الشرقي يربط عمان بالعراق ، فتنقل تجارة الهند وفارس إلى العراق براً ، ثم في البادية إلى الشام، ويعرض التجار بضائعهم في كل بلدة ومصر ، ويشترون منها ما هو مناسب للبيع والربح .
الثاني : الطريق الغربي الذي يربط بين اليمن والشام عبر الحجاز وجزيرة العرب ، حيث يربط هذا الطريق إلى جانب الهند الحبشة بالشام وبالعراق وفارس .
وتتولى قريش في قوافلها الريادة في هذا الطريق لإكرام القبائل التي تقع على الطريق لهم لولايتهم للبيت الحرام ، وعند اشتداد المعارك ينفرد هذا الطريق بالتجارة مما زاد من شأن قريش عند الدول ، ونمت أموالهم .
ولكن عندما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم سخروا هذه الأموال في محاربته ، وهذا التسخير من الإرهاب ، لتكون هزيمتهم سبباً لبعث النفرة من الإرهاب في النفوس إلى يوم القيامة .